مقدمة
بقلم شربل بعيني
ـ1ـ
عندما التقيت الأب يوسف جزراوي لأول مرة، تساءلت في سرّي: هل من المعقول أن يلتحق بسلك الكهنوت شاب بهذه الوسامة؟
هل من المعقول أن يترك ملذات الدنيا التي يتهافت عليها الجميع لو لم تكن دعوته صحيحة ومتينة؟
ومرت الأيام، وبدأت أكتشف سرّ تمسكه بكهنوته، وتسخير أدبه ومعرفته وجاذبيته وعمره من أجل التبشير بكلام الانجيل المقدس.
وعندما طلب مني أن أتكلّم في حفل توقيع كتابه "المبدعون غرباء عن هذا العالم" 11/11/2011، وافقت دون تردد، إذ كيف لي أن أرفض، وأنا أمام كاهن قدّس نفسه، ليقدس كلمته، عله يرضى عليّ ويساعدني بمجابهة الخطايا التي تقرع بابي كل لحظة.
ولكي أنصف نفسي قبل أن أنصفه، رحت أطالع مؤلفاته بنهم شديد، كي أبني على سفوحها كلمة لا تزيد عن خمس دقائق فقط، حسب رغبته، وإليكم ما قلت:
أصحابَ السيادة، كهنتي الأجلاء، سيداتي.. سادتي
عندما طلب مني أبونا يوسف الجزراوي إلقاءَ كلمةٍ في هذه المناسبةِ الأدبيةِ الغارقةِ بالإيمانِ والتقوى، والمفعمةِ بالعلمِ والمعرفة، وافقت دون تردّد، وكيف لا أوافق وكتابُ (المبدعونَ.. غرباءٌ عن هذا العالم) لم يتركْ عالماً أو فيلسوفاً أو أديباً أو شاعراً عانى ما عاناه نبيُّنا أيّوب إلا وسلّط الأضواءَ عليه، كي تَكْشِفَ لنا تلك الأضواءُ سيّئاتِ حياتِنا اليومية. فلقد أرادنا أن نتخّذَ من قصصِ الكبارِ عِبراً تُخلّصُ أنفسَنا من شَوائبِها، وتُعِدُّنا للفرحِ الآتي.
أجل، أيها السيداتُ والسادة، فلقد سارَ أبونا يوسف على خطى المعلّمِ الأكبر، ذاك الذي استعانَ في إنجيلِه المقدّس بالأمثالِ والقِصّصِ لتَصلَ كلماتُه إلى آذانِنا مفهُومةً، كما يصلُ الهواءُ المنعشُ إلى رئَتَيْنا دون استئذانٍ كي يمنَحَنا الحياة.
ذكرتُ معاناةَ نبيِّنا أيّوب، ولم أذكرْ معاناةَ (شهيدِ الحب) سيّدِنا ومخلّصِنا يَسوعَ المسيح، لأن معاناةَ النبي أيّوب كانت بشريّة، لم يطلُبْها بل فُرِضَت عليه، كما تُفْرَض علينا الأوجاعُ والمصائب. صحيح أن المسيحَ صُلِبَ ولكنّهُ إلهٌ اختارَ صلبَهُ ليُخَلِّصَنا، وإن طَلَبَ من أبيه السماوي أن يُبْعِدَ عنهُ هذه الكأس، فَهُوَ يعلَمُ أنه جاء دُنْيانا من أجلِ تلكَ الكأس.. ليسَ إلآّ. تماماً كما اختارَ أبونا يوسف كهنوتَه ليخلّص أنفسَ التائهين الضائعينَ في ملذاتٍ سَرابيةِ الوجود.. ما أن يتمسّكوا بها حتى يَخذلَهُم العمرُ.. ويواجِهوا الدينونة.. وصدقوني أن الأبانا يوسف يعلَم أن الكأسَ التي اختارَها، تفيضُ مرارةً، إذ ليس أصعبَ من أن يرَى الراعي الصالحُ قطيعَه تتناتَشُهُ الذئابُ وهو عاجزٌ عن إنقاذِه.
قِصَصُ الكتاب، كما قلت، زاخرةٌ بالعِبَر، فأبونا يوسف ينْبُشُ ما فَوْقَ الأرض وما تَحْتَها مِنْ أَجْلِ موعظةٍ يقدّمها لنا مُبَسَّطَةً كرغيف خبزٍ، ما أن يراهُ الجائعُ حتَّى يلتهمَهُ بصمتٍ وسعادة. فالجوعُ السماويُّ لا يشعرُ بهِ الإنسانُ إلاّ عَن طَريقِ كاهِنٍ طبّاخٍ، يعرفُ كيف يُعِدُّ وليمةً سماويةً تجذُبُ الجائعينَ إليها.. وَتُثَبِّتُ أَقدامَهم على طريق الخلاص.
الملفتُ حقاً في الكتاب هو وفاءُ الكاهنِ يوسُف لِمَن ساعدَهُ من بعيدٍ أو قريبٍ، وهذا ما لم نَعُدْ نَجِدْهُ في هذا الزمنِ التعيسِ، زمنِ الوصوليّةِ والغدر، وهذا أيضاً ما يُرَجِّحُ كَفَّةَ موعِظَتِه، ويجعَلُ المُتَلَقِّي يَرْضَخُ لها دون إدراكٍ منه.
أشكرك يا أبانا يوسف مرتين، مرّة حين ائتمنتَني على مراجعة كتابِك لُغوياً، وأعتذر إذا فاتتني بعضُ الأخطاء، لأن جُلَّ مَنْ لا يخطِىء، ومرّة ثانية لأنّك طلبت منّي أن ألقِيَ هذه الكلمةَ، شرطَ أن لا تزيد عن خمْسِ دقائِق، ويا لًيْتَنِي لم أتقيّد بالوقتِ، لأن كتابَك ما زال يشدُّني إلى كلامٍ كثير.. وألف شكر لإصغائكم.
وما هي إلا سنوات مرت كأحلام سرابية، وتقاذفتها الأشجان والأحزان، لتتلاعب بنا تلاعب العاصفة بأوراق الشجر أيام الخريف، فإذا بالأب الجليل يتصل بي ليخبرني أنه بصدد اصدار كتاب جديد بعنوان "نخيلٌ في بستان الذّاكرة"، وطلب مني كلمة لغلافه الخلفي، فكتبت:
عندما يكتب مبدع كالأب يوسف جزراوي عن مبدعين اخرين تعرّف عليهم من خلال رحلته مع الكهنوت والقلم، تأكدوا من أنّ الكتاب سيكون غاية في الروعة. وهذا ما لمسته وأنا أتصفح أكثر من 280 صفحة تحتوي على معلومات وانطباعات مهمة عن ادباء ورجال دين وكتّاب وفنانين مقيمين ومغتربين، غمرهم الأب جزراوي بمحبته، وسلط عليهم الأضواء بتجرد وشفافية. هكذا عرفهم وهكذا عرّف بهم.
الملفت حقاً هو أسلوبه السهل الممتنع، الذي ينقلك على أجنحة الكلمات دون أن تشعر بأي تأفف أو ضجر، تسعفه في ذلك ثقافته العالية التي عرف كيف يسخّرها لنجاح هذا العمل النادر، خاصة فيما يتعلق بتسليط الأضواء على أقلام كادت أن تكسرها الغربة، وأن تحجب أصحابها، وتبعدهم عن محيطهم العربي أدبياً واجتماعياً.
الكتاب يحتوي على أسرار لم تكشف بعد، وعلى حالات نفسية للعديد من المبدعين قد لا يعرفها أحد، ولكن الجزراوي تمكن من كشفها دون أن يسيء لأصحابها، وكيف يسيء وهو يكرّمهم الواحد تلو الآخر. حتى أنا لم أسلم من شفرات يراعه، وكيف أسلم وقد رافقني لسنوات طويلة كظلي، وعرف عني أكثر مما أعرف عن نفسي، وعندما أطلعني على الكتاب قبل نشره، كي أكتب كلمة الغلاف، ضحكت وقلت: طوبى لأنقياء القلوب فإنهم أبناء الله يدعون. وصدقوني أنني لم أجد أنقى من قلب الأب يوسف جزراوي، الذي وهب نقاءه للناس ولهذا الكتاب الهام الرائع، وما عليكم إلا أن تطالعوه لتعرفوا ماذا اقصد.
فيا طبّاخ الكلمة، كما يحلو لي أن أناديك، بورك البطن الذي أنجبك، فمن يكرّم سيكرّم لا محالة. وأنت مكرّم بثوبك الكهنوتي وبقلمك الشامخ، فألف شكر لك.
خرّيجُ كلّيّةِ بابلَ الحبريّةِ للفلسفة واللاهوت/ بغداد 2005. حاصل على ديبلوم في الفلسفةِ وعلميّ الإجتماعي والانثروبولجي وبكلوريوس في اللاهوت.
خدم في بغداد والشام وهولندا وسيدني.
حطّ الرحال في أستراليا بتاريخ 26/12/2010
كاهن كنيسة المشرق الآشوريّة في سيدني.
نَشَرَ مقالات متفرقة في المجلاتِ التالية: نجم المشرق، بين النهرين التراثيّة، الفكر المسيحي، الحكمة، ربانوثا، قيثارة الروح، نجم بيث نهرين، رديا كلدايا، مجلة الطائفة الكلدانيّة في حلب.
ـ أحدُ كُتّاب صحيفة العراقيّةِ الأستراليّة، له عمود أسبوعي فيها منذ سنوات. حبّرَ مقالات في الصحف اللبنانية الصادرة في أستراليا (المستقبل، التلغراف، الأنوار).
له العديدُ من المقالاتِ والكتاباتِ في مواقع الانترنيت. ينفرد في نشر مقالاته في موقع الغربة الالكتروني.
- عضو اتحاد الكتّاب والأدباء السريان في العراق.
- رئيس رابطة البيّاتي للشعر والثقافة والأدب في أستراليا.
كرّمته مؤسسة العراقيّة للثقافة والإعلام والفنون ضمن 20 شخصيّة ثقافيّة مبدعة (عراقيّة وعربيّة) في أستراليا عام 2012 ، وكذلك مؤسسة سواقي للثقافة والفنون عام 2014.
صدرَت له المؤلفات التالية:
ـ لا للهجرةِ 2000 إشراف المرحوم الأب يوسف حَبّي.
ـ ومضاتٌ من الحياة، بغداد 2000
ـ ومن الخلجات بعضُها، بغداد 2002
ـ على خطى يسوع (نُبذة تاريخيّة عن مراحل تأسيس الدير الكهنوتي في الموصلِ وانتقالِه إلى بغداد، بغداد 2003). مُراجعة الأب بُطرس حدّاد.
ـ البطريرك الخالد (البطريرك مار يوسف السادس أودو)، بغداد 2004
ـ سقراط ويسوع، بالتعاون مع الأب مازن حازم. إشراف الأب جوزيف الكبوتشي، بغداد 2004.
ـ دارُ البطريركيّةِ في بغداد، بغداد 2004
ـ كلمات من حياةِ إنسان، بغداد 2005
ـ كنيسة الحكمة الإلهية بين الأمس واليوم، بغداد 2006
ـ البطريركُ المُستقيل مار نيقولاس زيّا. كوردستان العراق 2007.
ـ تأمُّلات من حياةِ كاهن (40) تأمّلاً - القاهرة 2008 ط1.
ـ جزيرةُ أبنِ عمر، جزيرةُ الشهداء والإيمان (مُراجعة وتقديم الأب يوسف توما) تم نشرُه في الأنترنيت سنة 2008، وصدرت طبعته الاولى في سيدني 2011.
ـ تأمُّلات من حياة كاهن طبعة ثانية (60) تأمّلاً. العراق - كركوك 2009.
ـ قصص روحيّة واجتماعيّة للتأمّل والصلاة وحوار الذات.(مُراجعة وتقديم غبطة البطريرك مار لويس ساكو). هولندا 2009.
ـ ملحمةُ البحثِ عن النصف الآخر (تأمُّلات في أبعاد سرّ الزواج)، هولندا 2010 ط1. الطبعة الثانية دهوك – العراق. الطبعة الثالثة سيدني 2011.
ـ خلجاتُ الذاتِ الجريحةِ (خواطر في الإنسان والحياة ج1)، القاهرة 2010.
ـ قصص ومواعظ (تسعون قصّة وموعظة) ط 3 سيدني 2011.
ـ خلجات الذات الجريحة ج 2 سيدني 2011
ـ قصّةُ الحُبّ المؤثرة في رِحلة الرِحالة ديلافاليه، سيدني 2011.
ـ صفحات ناصعة، ط (1) امريكا 2011، ط (2) سيدني2011
ـ حياتُنا قصّة وعِبّرة، سيدني 2011
ـ المبدعون غرباء عن هذا العالم، سيدني 2011
ـ أوراقٌ مُتناثرة من تاريخ الكنيسة الكلدانيّة، سيدني 2011
ـ رِحلة البحث عن مغزى الحياة ط1/ سيدني 2012
ـ كتابُ العمر: (أفكار وتأمُّلات من تُراب)، سيدني 2013
ـ أحاديث قلم في مرايا الذات والمجتمع، سيدني 2014.
ـ ملحمة كلكامش (قِراءةٌ جديدةٌ للمعاني الإنسانيّةِ في الملحمة)، طبعة ثانية، بغداد 2015.
ـ شربل بعيني رسام الكلمات، سيدني 2016
قيد الانجاز:
- يوميات الحرب العالمية الأوّلى للبطريرك يوسف عمّانوئيل الثاني. تحقيق الأب د. بُطرس حدّاد، تعلّيق ونشر: الأب يوسف جزراوي.
- (مواعظ) حسب السنة الطقسية لكنيسة المشرق الآشوريّة.
- بغداد عروس الشرق (مجموعة تأمّلات).
- النورس المُغترب (أدب الرحلات).
- صديق عمر أكاد أعدّ عليه انفاسه (أدب السّيرة الذاتيّة).
ـ لن يبزّني بنشر الكتب إلا أنت يا أبانا يوسف.. فعمرك يسمح لك بذلك، وما أنتجته من مؤلفات حتى الآن خير دليل على صحة ما أقول.
وهذا لا يعني أنه يكتب بكثرة حباً بالشهرة، لا والله، بل اراه يختار مواضيع كتبه بدقة متناهية، ويعيد صياغتها بشكل مستمر، وكأنه نبع ماء رقراق يسارع الزمن كي يلتحق بنهر العطاء والابداع.
وحين طلب مني أن أكتب مقدمة كتابه الجديد، أجبته وأنا أغني مع فريد الأطرش، أغنيته المشهورة:
ـ بتؤمر ع الراس وع العين.
دون أن أعلم أن الكتاب الذي سأقدّمه كناية عن دراسة مستفيضة لرحلتي مع القلم، وما أن وصلتني مخطوطة الكتاب حتى أصبت بدوار ورحت أتمتم:
ـ كيف لي أن أكتب مقدمة لدراسة عن أدبي، ويحك يا أبانا يوسف، ماذا فعلت بي؟
الكتاب الدراسة عنوانه "شربل بعيني أسطورة الأدب المهجري"، فما كان مني إلا أن اتصلت به وطلبت منه تغيير العنوان، وإلا فليكتب مقدمته أحد غيري.
وعندما رأيت تمسكه بالعنوان، شكرته على محبته الغامرة، وتشجيعه المفرح، ورحت أشرح له الأسباب التي تدعوني لاستبداله بعنوان آخر لا يثير حفيظة البعض، كما أنني كشاعر لا أؤمن بالأساطير، فما كان منه إلا أن زيّن الكتاب بعنوان لن يخطر على بال أحد: "شربل بعيني رسّام الكلمات"، فضحكت في سري وقلت:
ـ هل الأبونا يوسف كاهن أديب أم شاعرٌ كهنوتي؟ كون العبارات التي يأتي بها قد لا تمر بخلد أحد.
يحلو له أن يناديني بـ"يا أبي"، ويحلو لي أن أناديه بـ"يا أبانا"، لأن اللقب الذي حاز عليه، لن يناله إلا من امتلك شجاعة التضحية بالنفس، والابتعاد عن الدنيويات، بغية ارتقاء عرش الكهنوت، الذي هو أسمى عرش على وجه الآرض.
وكيف لا تتوطد علاقتي بمن اتخذني أباً أدبياً، واتخذته أباً روحياً، وها هو يفرح لفرحي، ويحزن لحزني، فعندما كرمّت، كتب:
إلى نهر المحبة وأرز الإبداع، حضرة الأديب الكبير شربل بعيني ذي القلب المفتوح حُبًّا، وصدقًا، وتعليمًا، وتواضعًا، وبراءةً. وهل هُناك من ضحكةِ محبة أكثر براءةً من تلك التي يطلقها البعيني.
إنّك قلم المطافىء ومركز الثقل في أدبنا المهجري الأُسترالي وحجر الزاوية في جلساتنا الثقافيّة وسقف الوعي في احاديثنا وندواتنا الأدبيّة.
مبارك التكريم المستحق، دمت نهر إبداع، ضفتيه القلم والمحبة. ألف مبروك. أطال الله بعمرك وامدك بصحةٍ لا تبلى. آمين.
تلميذك وإبنك الروحي دومًا.
وعندما حزنت على فقدان أخي الأصغر مرسال (ابو شربل)، رحمه الله، تألّم الأبونا معي نفسياً وروحياً وإنسانياً وأدبياً، فأبكى قلمه من أجلي، إذ قال:
بالعودة إلى خزانة الذّاكرة أجد إنّني قرأت اسمه لأوّل مرّة في موقع إيلاف، ثمَّ تناهى إلى سمعي صوته يوم عرّفني به الصحافي جوزاف أبو ملحم المحترم. وذلك يومٌ أعدّه من أسعد الأيّام وأكرمها لدي.
كان ذلك المساء مفتاحًا لحوارٍ جميل مع أديب أجمل، كان لقاءً اورق في النفس صحبة جميلة.
إنّ محبتي الكبيرة للشاعر المبدع شربل بعيني بدأت لحظة قرأت له "كتابات على حائط المنفى"، وكيف توسد الغربة سنوات طويلة، توسعت وازداد حجمها حين عرفته شخصيًا؛ إنسانيًا وأدبيًا.
إنسانيًا؛ لم أجد قلبًا طاهرًا مثل الذي يحمله، لسانه دائمًا عفيف مع ضمير مستقيم، إنكفأ على نفسه وترجل عن الكثيرين، لا يظهر إلّا في المناسبات التي يُريد، وحين يظهر تجد بيده عصا يمسك بها من المنتصف بمحبة واسعة وشاملة. وتلك لعمري خاصية لم نجد من يحملها إلّا القلة.
أما أدبيًا: تلقاه ابتعد عن الأسفاف والترهل في الكتابة، مسك على الدوام إبرة بارعة لنظم قصائده وحياكة كتاباته الإنسانيّة المفعمة بالرجاء.
اليوم عميدنا في الأدب المهجري شربل بعيني، يبكي رحيل أخيه الأصغر مرسال إلى دار البقاء عن عمرٍ يناهز الستين.
تترنّح الدموع في عينيه، وتغزو الحسرات قلبه الأبيض، حتّى أنّه بات يحدث المعزين ببحة صوت مخنوقة بدموعٍ عزيزة وغزيرة.
إلى شربل بعيني أقول: أيها الشاعر المؤمن تذكر إنّ الله إله احياء، أوَليس هو من قال في إنجيله المُقدّس: "أتيت لتكن لهم الحياة وتكون بوفرة". يوحنّا 10:10. اسمح لرجاء القيامة أن يشرق في اعماقك.
رحم الله الفقيد وأسكنه في ملكوته البهي وامدك بصحة لا تُبلى.
أبونا يوسف جزراوي، كاهن، أديب، فيلسوف، علامة وصديق بامتياز، وشرف كبير لجائزة شربل بعيني لعام 2016 أن تعلّق على صدره، باسم مؤسسها الدكتور المرحوم عصام حداد، وأسرة معهد الأبجدية في مدينة جبيل اللبنانية، ومؤسسة الغربة الاعلامية في سيدني أستراليا، وألف مبروك.
وشرف أعظم لي أن تنضم الى مكتبتي الأدبية دراسة رائعة من كاهن أروع، قد لا أفيه حقّه إلا بالصلاة كي يسدد الله خطاه، ويحميه على طريق الكهنوت والأدب.
شكراً يا أبتي!
أهتمّ لحديثه واستمتع في الجلوس معه منذ أن عرفته إلى يومنا هذا، فقد ادركته على خلقٍ كبير، ثاقب الرّأي، مستنير الرؤية، ضليع اللغة، لبق الحديث، صحيح اللسان، لا ينطق إلّا في خير الناس.
عاش ما مضى من حياته بضمير مستقيم، فكان ولم يزل نظيف اليد، عفيف الكلمة، رافضًا بيع كلمته أو تأجير قلمه، ولم يكن يومًا متواجدًا في سوق بائعي الضمائر ومزوري الحقائق.
يقرأ في كلّ الاتجهات من يسارها إلى يمينها، عميق الإيمان، يدب على الأرض ليوزّع إيثارًا من ثقافته وروحانيّته على الوجوه الناظرة. ومَن منّا لا ينشرح صدره حين يُلاقي حكيمًا شيّبَه الكبر وبيّضَ شَعرَه بهذه الخصال الحميدة؟. أوَليس الكثير منّا يخلع عنه عبء الحياة حينما يكون أمام هكذا نموذج ترتاح إليه النفس وتهدأ باحاديثه.
هو طرازٌ فريدٌ من الناس، له وفرة مذهلة في العطاء، ضحكته تتّسع للجميع، محبته تحتضن الجميع أيضًا، يقرن الأقوال بالاعمال. يجزلُ العطاء في تخفٍ واتضاع، فيما هو يحضّ الناس على شكر الله، أب الجميع ومصدر كلّ عطاء وبركة. كما عهدتُ فيه يدًا بيضاء ممدودة لمصافحة الصغير والكبير، ومساعدة الغريب والقريب. مؤمنًا بالإنسان على تنوعه. يحب الناس ويعشق الخير لهم.
شربل بعيني الذي عرفته محاورًا معتزًا بمعطياتِه دون أن يفرض رأيه على الآخر، يبتعد عن الجدالات والسجالات العقيمة والأحاديث الجوفاء.
هو مستمع دقيق، شديد الإصغاء، وعندما يتكلم يصغي له الخصوم والمؤيدون؛ ففي حديثه دُررّ الكلام. يوجه إنتقاداته في اللقاءات الرسميّة واعماله المسرحيّة والأدبيّة بنفس القدر الذي يقول به في المناسبات والأحاديث العامة، ولا يملك المستمع إلّا أنْ يحترمه وأنْ يجلّه على صراحته البنّاءة وصدقه المعهود. فهو رجلٌ مواجه، يقول ما يشعر به، ويُعبّر عمّا في قلبهِ مباشرة وينطق بمّا في عقلهِ دون مواربة. قادر على الإفصاح عمّا يريد، بل هو يرمي بالآراء الإجتماعيّة والأفكار الثقافيّة ووجهات النظر الشخصيّة دون تحفظات ذاتيّة. يوجه انتقادات مفيدة بلسانٍ صريح عندما يرى خطأ متعمدًا واضحًا أو خللاً مستمرًا، غير عابىء إلّا بالحق.
يترفع على الصغائر والضغائن، يصغي الى صوت الضمير قبل صوت الناس، لا أحد يملي عليه أمرًا ما، لا يحاكم الآخر بمحكمة الـ أنا، بل بميزان المحبة وعدالة الضمير، انطلاقًا من تعاليم السيّد المسيح له كلّ المجد.
إنّ ذلك الأديب الإنساني علمني: ما من دارٍ ملئت حبرًا إلا وملئت عبرًا.
كما تلمست في حياة ذلك "الكاهن" [1] العلمانيّ حكمة مفادها: ما من قلب مُلىء من يسوع ألا وملىء من البركة. وجدت في حياته قدرًا كبيرًا من الروحانيّة، قلبه مفعمًا بحبّ حبيبه يسوع، والسيّدة العذراء والدة المسيح الاله لها حيز كبير من صلاته واحاديثه.
هو أديب مؤمن في مطلع الستينيات من العمر، أحنَى الزمن ظهره وأمال المرض رقبته، دون أن يقوس إيمانه.
شاءت الصدفة أو نعمة الرب أنْ يكون منزله على مقربة مسافة قصيرة سيرًا بالسيارة عن محل سكني في سيدني. فكنتُ ألقاه في زمن محنتي وأتسامر معه كلّ يوم تقريبًا، ما خلا يومي السبت والأحد. وذات مساء جلسنا في بيته على مقعدين مُتواجهين وبيننا مائدة للشاي من الطراز القديم (الانتيكات)، كانت الجلسة مُريحة، والأحاديث مُتنوعة، مُسلية ومفيدة، وتحدثنا عن أنَّ ذلك الاخلاص المُتجرد بات نادرًا في العلاقات بين البشر، لا سيّما في الوسطين الأدبي والكنسي؛ حيث كثرت المنافسات الرخيصة وشاع الضرب تحت الحزام وتفشت الغيرة وكثر التسقيط!.
قال لي:
ـ لا بأس يا أبانا...، ولكن الكلمة صدى لأعماق كاتبها وناطقها، فلا تتوقف عن إعلان اعماقكَ، فهي مرآة للكثيرين.
علقتُ قائلاً:
ـ وما جدوى الكتابة؟ فكلّما هممنا بإضاءة شمعة أمل في درب الإنسانيّة المُعتم تهب رياح عاتية تزيد الدروب وحشة وظلمة وترمي بنا إلى نقطة البداية.
رمقني بنظرة حائرة وتوقف عن الكلام. صمتَ لبرهة!. وبعد أن نظر إلى الأرض مُتنهدًا عاود الحديث بنبرةٍ واطئةٍ على غير المعتاد قائلاً:
ـ لقد قرأت جانبًا من كتابك "خلجات الذات الجريحة"، وسمعت من أحد أصدقائنا إنّك كاتب ولك العديد من الكتابات المُفيدة والشيقة، لذا أوّد أن أُسدي لك بنصيحة مجانية: صدّر أفكارك للذي يُقدرها فقط.
تطلعتُ إليه بدهشة لا تخلو من استفهام، وكان صمتي أبلغ جواب.
ثمَّ عرجنا على مواضيعَ شتى، والتمست فيه ميلاً أو رغبةً للحديث بشغفٍ عن حياته الماضية. فتحَ ملفات الذّاكرة المجروحة واسترسل بالكلام.
كنتُ كلّي آذان صاغية له. وبعد أن طال الحديث، وتبددت تحفظاته رويدًا رويدًا، شرعَ بالغوص في محيط الذات، فاتحًا الصندوق الأسود ليبوح عن خفايا قلبه ورحلة العمر الحياتيّة والأدبيّة المُتعبة، وأستذكر مواقف عصيبة ومشاهد أليمة ووجوه غادرة، فتعكرت صفوته، وبدا لي بعد أنْ راودني الإحساس بأنّ الرّجل فضل الانعزال والابتعاد، بعد أنْ لعبت به الأيام وقست عليه الظروف وغدرته بعض أقلام الزملاء!.
وما زلت حتّى اليوم أذكر أيّ غصةٍ كانت تنتابه حين تصفحَ ذاكرة الأمس المليئة بالذكريات الموجعة!؛ حيث كنتُ ألحظ كَم كان وقعها ثقيلاً وقاسيًا عليه، ولقد ظللت أستمع إليه حتّى تجلى الغموض، بيد أنّني أدركت من خلال معرفتي به أنه لا يريد الغوص أكثر من هذا الحد في خزينة أسراره المغلقة.
سكتَ صاحبي لبرهة وسادت حالة من الصمت المُطبق، ثمَّ خرجَ من صمته ولكن سرعان ما عاوده الحذر من الافصاح عمّا تبقى مكنونًا في قلبه، واكتفى بالنظر إلى مرآة الغربة، حاول بعدها الحديث، لكن حصارًا ممدودًا داخل النفس جعله يتلعثم ويتوقف. وسرعان ما تفوهَ قائلاً:
ـ لقد فضلت يا أبانا أنْ أُكمل ما تبقى من حياتي بعيدًا عن تلك الأجواء المُرهقة التي أضرت بي!. إنّها عزلة اختياريّة رسخت إيماني وعمقت علاقتي مع الله.
أما أنا فلم أشأ أنْ أُعلّق بكلمةٍ!. وبدا لي أنه لن يقول أكثر ممّا قال بعد أنْ ضاق ذرعًا بتذكر تلك الأحداث المريرة المؤلمة، حينئذٍ عرفت أنَّ لكلّ أديب كبير صليبًا، يثقل كاهله، لكنه في الوقت ذاته هو عكازٌ لطريق الآخرين، فالمؤمن مُبتلى!.
واصارحكم القول: إنّني أفاجأ على الدوام عندما التقي أديبًا ذائع الصيت في مهجرنا كشربل بعيني ببساطة مظهره وحسن سلوكه وروحانيّته العميقة وتواضع ذاته ومحاولة التواري عن أنظار الآخرين، وهي سمات قلما تنتاب الشخصيات الكبيرة في العادة. وسبب المفاجأة هو أننا اعتدنا في محيطنا الشرقي في بلداننا أو مهجرنا الأوزي على نمط من سلوك الشخصيات المشهورة يدفع بها التعالي بعيدًا عن حياة التواضع ويجعلها أسيرة عظمة الشهرة والترفع على الناس وعدم الإلفة معهم ووهم الأعجاب بمرض الـ (أنا). أفلستُ محقًا بالقول: إنّ الاعجاب بالنفس هو وليد الجهل والسطحية.
وقد لا أفشي سرًا بقولي: إنَّ الرّجل إلى يومنا هذا يرجع إلي في بعض المواقف، يتبادل الآراء ويستعرض الرؤى، يطرح المتاعب والهموم، مفكرًا بصوتٍ عالٍ، أو مناقشًا معي الطموحات والنشاطات. أما أنا شخصيًا لم ادخر يومًا الوقت للذهاب إليه لأشرع أبواب القلب أمامه والحديث معه بقلبٍ مفتوح عن محن الحياة والخدمة من دون حرج أو حواجز. استشيره واستأنس برأيه، وهو كذلك. وهذه ثقة متبادلة أعتز بها.
لقد ربطتني بعد وفاة والدي رحمه الله علاقة أبوة روحيّة أنا الكاهن أب الجميع مع قلة قليلة من البشر الانقياء على مدار العمر، يقع في طليعتهم الآب بطرس حدّاد رحمه الله، وشربل بعيني ويحيى السماوي. آمد الله بعمرهما.
واعترف هنا على الصعيد الشخصي أنني وجدت في شربل الأديب الزاهد الذي ترك مجد العالم باحثًا عن مجد يسوع، وكاهنًا قرب الكثيرين من يسوع، فعندما يتذوق المرء المسيح في حياته سوف يختبر ويُخبّر الآخرين عنه فيكون من صيادي البشر. إنّه "أبونا شربل بعيني" أو "مار شربل" كما يحلو لي أن أناديه في الجلسات وأمام بعض الأصدقاء.
لشربل عالمه الأدبي والروحي الخاص، يشيع في روحه الارتياح، راحته تبدو بين مسبحة الكلمة وورديّة الصلاة، ولكن وحدته أحيانًا تؤجج فيه الآلام والأوجاع، حين يفلت من باطنه شيء الى فكره، فإن ذلك يسبب له الأحزان والأزمات الصحية.
أسمع من كثيرين ممن ألقاهم، أنّ شربل لم يعدّ متواجدًا كما في السابق!.
فيأتي جوابي:
إنّ هذا البعد جعلنا نلتمس لمس اليد أنَّ مكانته وقيمته تتزايدان، كلّما افتقدنا التواضع والكلمة النزيهة والعبارة الصادقة والمواقف الشريفة والسلوك المُحبّ. فضلاً عن أن موهبة شربل تتجلى في صومعة الوحدة، وإن كان إنكفاؤه قد خلق فجوة في الوسط الأدبي بدأت تتسع وتتعمق، لكنه وحده القادر على ردمها أو تضييقها على الأقل. ورغم أنه أخـفى جراحات الوطن وعذابات الغربة وراءَ ستار وحدته، إلّا أن شربل يظهر ويشارك في الاماسي الأدبيّة ومناسبات الناس ويلتقي الأصدقاء كلّما اراد ذلك.
ختامًا:
كما أنّ أدب البعيني يكتنفه شيء من الغموض الجذاب، إذ يملك عنصر المفاجأة في وقفات مقاطعه الشّعريّة أو بقفلات قصائدة، كذلك هي حياته، فقد يبقي شربل بعض الجوانب معتمة من حياته ذات التضاريس المتعرجة، فيها حكايات لم تحكَ بعد.
آمل أن ينشرها في سيرة ذاتيّة، سيّما ونحن جميعًا في قارب واحد نبحث عن مخرج من مأزق المنفى.
ومن لا يعرف فأنّ شربل كتب الأدب باجناسه المتعددة، ما خلا أدب السّيرة الذاتيّة، وإنّني هنا لست أريد أن اقحم ذاتي في إسداء النصيحة لأستاذي الجليل وأبي الروحي، لأن الإنسان بطبيعته يكره النصائح، ومَن أنا مِن ذلك الآتي من ينابيعِ الحرف المعبّقة برائحة الأرز، ولأنني لا أستطيب توجيه النصائح ولا استسهلها، تراني إسدي الرأي قائلاً:
ـ يا ليت يقدم الأستاذ شربل على كتابة سيرته الذاتيّة، وحبذا لو لا يمرّ على الإنقلاب الإيماني الذي حدث في حياته عقب وفاة والدته - رحمها الله - مرور الكرام، مستذكرًا مقولة بولس الرسول: "الويل لي إن لم أبشر" (1قور 9/16).
اللهم إني قد بلغت!.
محبتي وجلّ تقديري وسؤالي الصلاة.
ـــــــــــ
[1] هناك كهنوت تمنحه الكنيسة لمن تصطفيهم من المدعوين، وهناك كهنوت يشترك فيه المؤمنون عامة بكهنوت المسيح الشامل، فرسالة المسيح ليست حصرًا على الأكليروس، فكلّ علماني مؤمن يعيش رسالة المسيح بحبّ وأمانة هو كاهن، وكلّ علمانيّة تحيا تعاليم الإنجيل هي راهبة.
أديب بديع التصوير، بليغ التعبير. ساهمَ قلمه في نشر الثقافة ورفع سقف الوعي لدى القارئ، مقتحمًا بكلمته الكثير من الأبواب الموصدة، مُعالجًا بحنكته العديد من المواضيع الشائكة .
أدبه جَمّ، مُستمد من نزعةٍ صوفيّة ونبالةٍ أخلاقيّة. منحه الناس تقديرًا عاليًا لحظة توهج شعره وتألق موهبته إلى زماننا هذا. نبراسٌ للمحبة عنوانه في زمنٍ شحت فيه المبادئ وقحطت المحبة، فأصبحتا غيضًا من فيض.
موهبته بدأت في مجدليا، واينعت في بيروت، حتّى غدت شجرة باسقة عابرة للقارات. أخذَ بريقه باللمعان منذ مطلع ثمانينيات القرن الماضي حين حوّل المنفى البعيد إلى ظاهرة أدبيّة بين المغتربين.
تغلبَ على قرف الغربة بالكتابة، امتشق القلم مسبحة، شكلتها خرز الكلمات، كبَخور المعابد رائحة كلماته. في كتاباته تلقاه ابتعد عن الأسفاف والترهل، أمسك على الدوام إبرة بارعة في نظم قصائده وحياكة كتاباته الإنسانيّة. بادل الطعنات بالقبلات، وهذا أعجب العجائب. أمّ منزله ـ متحفه - في مدينة ميريلاندز بسيدني عدد كبير من أهل الفكر والقلم ورجال الدين والإعلام ورؤساء الروابط والجمعيّات ومحبي الكلمة، حتّى أمسى بيته قبلةً للشعراء وخبزًا لجياع الكلمة.
أفردُ هذه الصفحات لشخصٍ قريب إلى القلب مُحبب للنفس، مُحترم من العقل. جمعتني به علاقة صداقة عميقة وطيبة، تغلفها علاقة التلميذ باستاذه والأبن بابيه الروحي، بل قلّ علاقة كاهن براهبٍ حكيم، كان دائمًا مثار اعجاب وتقدير. كما أسعى في هذا الكتاب للتعريف بنموذجٍ لبناني تخطى أدبه حدود العالم العربي ليُحلق إلى العالمية. مانحًا ثمار الإبداع، ناشرًا عصارة الفكر وخلاصة الاحساس بأسلوبٍ سلسٍ شيقٍ، يخلو من التعقيد، يبتسم أحيانًا بروح الفكاهة. كتبَ بحبر القلب، أشعاره كالبلسم على الجرح النازف، مقالاته تلتصق بالعقول، أما دواوينه فتنعش القلوب.
كنتُ التهمُ صفحات كُتبه قبل سنوات خلت مع غيرها من روائع الأدب العربي والعالمي وتراث الفكر الإنساني مثل الكثيرين من أبناء جيلي الذين استهوتهم المطالعة الورقيّة على خلافِ الجيل الحديث والمعاصر، الذي يميل بشدة إلى القراءةِ الالكترونيّة.
خلال مطالعتي لمؤلفاته كان يشدني إليه استغراقه الشديد في التغني بلبنان والعراق الذي يعد من البلدان العربية التي نال منها انتشاره العربي عَبرَ المربد الشعري. وما أدراكم ما المربد [1]؟.
شاعرٌ ناصعٌ من طينِة الكبار، ربّما اختلف بعض النقاد حول آرائه وكتاباته، بيد أنّ الأغلبية اتفقوا على قيمته الفكريّة وقامته الأدبيّة، مُثنين على هامته الانسانيّة.
يشيد به الخصم قبل الصديق، تسامى عن الصغائر، لم يُعادِ أحدًا، ولم ينافس شخصًا، لم يلهث يومًا وراء الجوائز والمناصب، ولم يتكالب على الأضواء. لا يضع العصي في طرقات الاخرين، بل كان سلمًا يرتقي الاخرون من خلاله إلى المجد. إذ ليس المهم أن يمتلكَ الأديب الموهبة وحدها، بل الأهم أن يُضيف إليها الشخصيّة الرصينة والجاذبيّة الإنسانيّة والخلُق القويم، يمزج الكلمات بالسلوكيات، فنحن في زمن بُتنا نصرخ فيه: يا أيها الأديب كُن أديبًا خلوقًا!.
نموذجنا اليوم هو الأستاذ شربل بعيني الذي أرى فيه عصرًا كاملاً يسير على قدمين، لم تؤثر فيه سنوات الغربة الطويلة، ولا خطوب الزمان، ولم تنل منه ندوب الأحداث وطعنات المنافسين. الغريب حقًا في أدبه وملامح شخصيته امساكه لميزان الكلمة بعدالة وحيادية قلّ نظيرهما في زمننا هذا!.
سنوات مضت من التألق والشهرة، حصد خلالها الالقاب والجوائز، لكنه ظلّ يتحسس في قرارة نفسه أنَ حاجةً واحدة تنقصه، وهي التقرب من الله، وها هو منذ سنوات يعشق الإختلاء، باحثًا متعمقًا، مُكرسًا نفسه كراهبٍ في صومعة الكلمة الأزليّة [2].
شربل كاهنٌ علماني، قربَ الكثيرين من الربّ. ترك أضواء العالم ساعيًا لنيل مجد السيّد المسيح ورضى الله، فهو "أبونا شربل بعيني" كما يحلو لي أن أُناديه أحيانًا، لا يُفاخر بقامته الأدبيّة ولا بخزائنه الشعريّة، بل يزهو بتقربه من الله الذي قاده إلى إنصاف من جعلوا من اعماقهم فرنًا للكلمة البنّاءة، لهذا سيظلّ المهجر الأسترالي يذكر له مواقف روحيّة وطلات إنسانيّة وانجازات أدبيّة لا تُنسى. هذه شهادة عادلة في زمن كثر فيه المزورون والأدعياء والمزيفون.
قرأت له وقرأت عنه، إلى أن بادرني صديق مشترك في ايار 2011 وهو الصحافي المعروف جوزاف بو ملحم - أبو أمين- برغبة صديقه الشاعر العربي الكبير شربل بعيني بالتعرف عليّ شخصيًا واجراء مقابلة تلفزيونية في مجلته (الغربة) الغرّاء إثر مطالعته لكتابي الموسوم (خلجات الذات الجريحة ج2). فقلتُ له:
ـ يا فرحة ما بعدها فرحة؛ فمنذ سنوات وأنا أقرأ وأسمع عن "رسّام الكلمات" شربل بعيني، شربل الذي رسم أجمل الصور الشعريّة واللقطات الإنسانيّة في كتاباته المُعبرة عن موهبته الفطريّة ونضجه الحياتي. شربل الذي امتدحه الشعراء الكبار: نزار قباني، عبد الوهاب البيّاتي والأب يوسف السعيد رحمهم الله.
ولمن لا يعرف، فإنّ شربل كان من أشد المتأثرين بأبيه الروحي وملهمه الأدبي نزار قباني، سيّما بعد أن التقاه في بيروت عام 1968 واهداه باكورته الشعريّة ديوان "مراهقة"، فنصحه شاعر العرب الأكبر بالإبتعاد عن العامية والكتابة بالفصحى. وربّما لا أكون مُخطئًا بالقول: إنَّ البعيني استمد من الشخصيّة العراقيّة جزءًا كبيرًا من الذكاء الأدبي والقدرة على تصوير المواقف الشعريّة من خلال تجربته في المراسلة مع الشعراء: الجواهري، الأب يوسف السعيد، عبد الوهاب البيّاتي، نزار حنّا الديراني. ولا غرابة في الأمر فعلى مرّ التاريخ شهدنا أزمنة عانقت فيها النخلة العراقيّة الباسقة الأرز اللبناني الشامخ.
رأيته للمرّة الأوّلى بجسده الضخم وصوته الجهورَيّ حين نهض من مقعده وانتصب قائلا:
ـ يا هلا بالأبونا المفكر..
يوم التقينا معًا في غداء محبة وتعارف بأحد مطاعم مدينة ميريلاندز بسيدني في شهر تموز 2011، رفقة الشيخ د. مصطفى راشد والصحافيّ جوزاف بو ملحم[3] ، الذي كنا في ضيافته المعهودة، فقلتُ له:
ـ يا محاسن الصدف!
وأخيرًا التقيت أنا الكاهن البغدادي بالشاعر اللبناني الذي كرمه بلدي العراق، حين صدح صوته وتغنى بأرض العراق في المربد الشعري سنة 1987؛ ذلك الشاعر الذي له جائزة عالمية تحمل اسمه، تصدر من معهد الابجدية في لبنان. وذلك يومٌ أعدّه من أسعد الأيّام وأكرمها لدي.
وجدتُ نفسي أمام شاعر لا يشوب شاعريته غبار، وبجوار صرح أدبي عملاق!. أملتُ سمعي إلى أحاديثه، أمعنتُ النظر فيه، تفرست في وجهه جيدًا وقرأت في عينيِه ما يختبىء في قلبِه من محبة وطيبة، إن لم أقل أحزاناً.
إنقضت ساعة واثنتان، الإستماع إليه شيّق ومُفيد، يُنسيك وجبة الطعام التي أمامك؛ لبق الكلام، أحاديثه غذاء للفكر، واسع الثقافة. له القدرة على توليد النكتة والدعابة، يبث النكات بين الحين والآخر، كأنها معزوفات موسيقيّة، أضفت على جو الجلسة رونقًا وجمالاً.
غادرنا المطعم، ولبيت دعوته لزيارة مقر مؤسسته العامرة (مؤسسة الغربة الإعلاميّة)، وما أن وطأت قدمي عتبتها حتّى بانت أمامي في الحال أوسمة وجوائز وميداليات أدبيّة وهدايا لا تحصى، من شخصيات أدبيّة، سياسيّة، علميّة ومؤسّسات ثقافيّة عديدة، ناهيك عن ما يزيد عن 60 كتابًا حصيلة 45 عامًا في رحلة الأدب الممتعة والشاقة.
وأذكر أنّنا حين غادرنا مكتبه نظر كلّ منّا إلى الآخر وقلت لهم:
ـ إنّه قيمة وقامة عالية، إذ ما رأيت في حياتي قدرة على موضوعيّة السرد مثل تلك التي تمتع بها هذا الرّجل، فهو يرد الأمور إلى أصولها ويتعقب الظواهر إلى أسبابها.
ولعلَّ أهم الامور التي ينفرد بها عن الاخرين أنّه يصغي بتمعنٍ ومحبة، يستوعب الموضوع المطروح عليه بدقة، يرتب أفكاره قبل التفوه بكلمةٍ، يمتلك ناصية التأثير في الآخرين، من خلال قفشات مُسلية في غير أوقات الجد، شديدة الجدية أثناءه. كان لقاء أورق في النفس حضورًا وصداقةً.
إنّ محبتي الكبيرة للشاعر المبدع شربل بدأت لحظة قرأت له "كتابات على حائط المنفى" وكيف توسد الغربة سنوات طويلة، توسعت وازداد حجمها حين عرفته شخصيًا؛ إنسانيًا وأدبيًا.
صديق رافقته ورافقني لسنواتٍ في السرّاء والضرّاء، أدركته خلالها: عزيز النفس، لطيف المعشر؛ الجلوس إليه صنعة، والحديث معه متعة، يجمع بين رقي الشخصيّة وعلو كعب موهبته الربانيّة. له حضورٌ طاغٍ، اهله لاختراق العقول والقلوب في وقت واحدٍ. الاقتراب منه يمنحكَ اعترافًا بمكانتِه وتأكيدًا لقيمته وحفاوةً بعطائه المتجدد وتألقه المتواصل.
وقد لحظت أيضًا أنَّ أتعاب الحياة طالته، راحته تبدو في وحدته. تظهر على وجهه ندبات الزمن وعلى شعره المنكوش دلالات العبقرية التي لا تخلو من مسحة كبرياء شخصي، إلّا أنه قريب من البسطاء والعامة في أوقاتٍ ومناسبات. له نوادر يعرفها أصدقاؤه المقربون فقط.
حلت به أهوال حياتيّة وأزمات أدبيّة، لكنه يبدو سعيدًا مرحًا، قريبًا من القلوب في المناسبات التي يظهر فيها، وجيهًا في الأحاديث الخاصّة والجلسات العامة. غير أنّي لمست فيه غصة دفينة وحزنًا خفيًا يتجليان ساعة يُقلب سجل الذكريات في صندوق الذاكرة، بيد أنّه لم يكن يومًا من أيام معرفتي به من ناشري مناخ الأحباط واليأس، بل على العكس من ذلك.
تميز عن الآخرين بالصدق والطيبة والرغبة في المساعدة على نحوٍ اكتسب احترام كلّ من حوله، فلا أنسى تلك السهرة الأدبيّة المُصغرة التي جمعتني به في حديقة منزله العامر عام 2012 بمناسبة ذكرى ميلاده الحادي والستين، بصحبة الصديقين الكابتن سعدي توما والاستاذ موفق ساوا، بعد تركي كنيسة مار توما التي كنت أخدم فيها بكلّ جوارحي، فرأيتُ أنْ أطرحَ عليه بعض همومي، في جلسةٍ لم تخلُ من تبادل الهموم واستعراض المشقات التي تعرض لها الحاضرون، فإذا به يعبر عن تقديره لشخصي ويزيد على ذلك رغبته في المساعدة، وهو أمر لا أنساه له ما حييت.
فرحت بمولده بلدة مجدليا بقضاء زغرتا، شمال لبنان عام 1951. كان مولعًا بالقراءة منذ الطفولة، فاكتشف في سنّ صغيرة إنَّ علاقته مع الكلمة كانت كعلاقة الأرض بالماء. دبجت أنامله الذهبية أوّلى قصائده (قصيدة حرّة) نشرها بعمر 13 ربيعًا في إحدى المطبوعات بطرابلس، يقول مطلعها:
"عربي..
ما دمت أنت عربي
فأخي أنت إبن أمي وأبي"
أصدرَ ديوانه الشعري الأوّل وله من العمرِ 17 عامًا، وقد انبهر أستاذه الراحل "جليل بحليس" بذلك المراهق، فأطلق عليه لقب "فرخ فيلسوف".
يعدّ ديوان (فافي) الذي نشره عام 2013 آخر مؤلفاته المطبوعة [4]، تغنى عبر صفحاته بالشاعرة والاديبّة المصريّة المعروفة فاطمة ناعوت.
إنَّ شاعرية الشاعر قد تكون سيفًا مُسلطًا على رقبته منذ ولادته الشعريّة، هذا ما حصل لشربل في زمن المراهقة، فهو لم يكن يعلم أنَّ ديوان "قصائد مبعثرة عن لبنان والثورة، لبنان 1970"، سينغص عليه الحياة، ويحرمه من لبنان ومن حضن الوالدة[5] ، التي كان لها الأثر الكبير في نجاحات ولدها الإنسانيّة والأدبيّة؛ ففي ليلةٍ من ليالي مجدليا الحالكة الظلام، قصدَ خوري الضيعة بيت العائلة وأبلغ والدة شربل أنَّ ديوان "قصائد مبعثرة..." لم يرق لبعض أشباح المكتب الثاني اللبناني، وعلى شربل أنْ يرحل وإلّا سوف يرمونه في البئر!.
هرعت والدته تتوسله مُغادرة لبنان، لكنَّ شربل أبى الرحيل في بادئ الامر، لأنه لم يخلق ليكون شتاتًا في الأرض. ونزولاً لتوسلاتها قرر الهرب إلى ضيعةٍ بعيدةٍ عن يد البطش. وهناك حصل ما لم يكن في الحسبان، فذات مساء دُعي لالقاء قصيدة في مناسبةٍ حزبية أو وطنية وفق ما ذكرت الدكتورة سمر العطّار في مقدمة ديوانه "كيف أينعت السنابل"، نالت المديح والإشادة، ومن شدة الأعجاب قام بعض الحضور باطلاق العيارات النارية احتفاءً وانطرابًا بقصيدته التي ألبت عليه المزيد من الاعداء، وحتمت عليه الهجرة من لبنان قسرًا.
هاجر من لبنان عام 1971 قادمًا إلى أستراليا، بعد أن حزم أمنياته في حقائب الغربة، وفي منفاه وجدَ مساحات من الحرية في الرأي لم يألفها في باريس العرب - لبنان، فلبنان كان باريسًا للعرب بجمالِ أراضيه وناسه وليس بساسته.
في القارة النائية امتهن شربل مهنة الحياكة أوّل الأمر، إلى أنْ عملَ في التجارة؛ فادرك كيف يجمع بين الأدب والتجارة؛ إذ مكنته التجارة من نشر نتاجاته الأدبيّة في المهجر الاسترالي، وقد أَلفَ المغتربون العرب اسمه كما أّلفوا الشهيق والزفير.
كتبت عنه الصحف العربية وأُجريت معه شتى أنواع المقابلات الصحفية واللقاءات الإعلاميّة، بعد أن كتبَ الزجل والشعر الحرّ والعامودي والنثر والمسرح بتفوق. مُمارسًا فيما بعد رسالة التعليم في معهد سيّدة لبنان، بعد مضي عقدٍ من الزمن على دخوله سيدني، ألّفَ خلالها عشرات الكتب المدرسيّة، التي تُدرس في مُعظم المدارس الحكوميّة والخاصّة، وأنشأ على مدى ثلاثة وثلاثين عامًا كأستاذٍ للغة العربية أجيالاً من التلامِذة في معهد سيّدة لبنان- هاريس بارك، مُقيمًا العديد من المسرحيات المدرسيّة، حتّى أنَّ فنان العرب دريد لحام أطلق شهقة تعجب يوم حضرَ مسرحيته "ضيعة الأشباح". والحال، يبدو أنه عندما يوصد في وجهنا باب الوطن، تفتح الغربة أمامنا بابًا آخر، لكن يبقى على المرء أن يعترف ويهتدي إلى ذلك الباب الذي يُبشر بحياة جديدة، أقول هذا لكي يتخذ أيّ مُهاجر من شربل أنموذجًا للتماهي.
أغدقت عليه ألقاب كثيرة منها: أمير الأدباء والشعراء اللبنانيين في عالم الإنتشار، الأديب العبقري، شاعر المهجر الأوّل، سيف الأدب المهجري، ملاح يبحث عن الله، رسّام الكلمات، شاعر الغربة الطويلة، أسطورة الأدب العربي المهجري، شربل بقلوبنا، مدرسة أدبيّة فريدة، شمس الأدب العربي المهجري، ولا غرابة في الأمر، فبين أنامله وريشة قلمه همس كثير وشعر اصفى من غلّة الربيع.
وتصديقاً لما ذكرت وجدت أن من الأفضل الاستشهاد بما كتبه الاستاذ أيوب محمد أيّوب سكرتير رابطة إحياء التراث العربي يومذاك في جريدة "صوت المغترب"، العدد 851، 19 ايلول 1985:
"يحق للعربي في هذه الديار أن يفخر بشربل بعيني، الشاعر اللبناني الأصيل، ليس لأن أشعاره تأتي سلسة عذبة، يسكب من خلالها معاناته في إناء أنيق فحسب، بل لأنه يعصر فيها قلبه، ويحبك من وهج شرايينه قصائد يفرغها في قلب القارىء، ليعطيه طاقة روحيّة، ويترجم له أحاسيسه ومعاناته، مقدّماً له كأساً من الشعر فيها نجواه وشكواه، فشعره ليس نجوى، وليس صدى لمعاناة "الأنا"، بل هو صوت القارىء ولسانه أيضاً، وبذلك يثبت شربل، عن جدارة، أنه شاعر المهجر الأوّل في أوستراليا".
وكتب الاعلامي في مدينة ملبورن طوني شربل مقالا في جريدة صدى لبنان ـ العدد 301 ـ 15/6/1982، أعلن فيه أن شربل بعيني هو سيف الأدب المهجري:
"أمام هذا الواقع، حرّك يا ربّ، عقول رجال المسؤوليّة، كي يعوا حقيقة الوجود، ويضمّوا شربل بعيني وأمثاله بكلتا الذراعين، وليجعلوا منهم مفخرة للأرض ومشعل نور.
نجدد القول: الشكر لك يا رب.. الشكر لك. ونصرخ "عالمكشوف" إلى الأمام يا شربل، فأنت سيف الأدب المهجري".
حصدَ شربل منذ شبابه إلى يومنا هذا أنفس الجوائز التقديريّة من رؤساء دول وشخصيّات علميّة ودبلوماسيّة، كما نال تكريمات لا تحصى، فضلاً عن شيوع أدبه وانتشاره في الكثير من أرجاء المعمورة بعد أن تُرجم إلى لغات عدة، فأدبه وِجدَ لكي ينتشر ويدوم.
من أبرز جوائزه: جائزة جبران خليل جبران العالمية، جائزة الارز للأدب العربي، جائزة أمير الادباء اللبنانيين، جائزة الإبداع من مؤسسة العراقيّة للثقافة والإعلام 2012 /سيدني، درع الإبداع عام 2014 من وزارة الثقافة اللبنانية، وهذه هي المرّة الأوّلى التي تكرمه بلاده. درع وقلادة البيّاتي 2015. حصل أيضًا على جائزة القصيدة العامودية مناصفة مع الشاعر العملاق يحيى السماوي في أمسية رابطة البيّاتي الثانية يوم الثلاثاء الواقع 22/9/2015.
ادرج اسمه مع نبذة عن حياته ومقتطفات من شعره في معاجم عالمية وعربية أهمها: معجم البابطين للشعراء العرب المعاصرين/ الكويت، موسوعة الشعر العامي اللبناني/ بيروت- لبنان. إضافة الى الموسوعة الانكليزية/ جامعة ديكن في ملبورن عن الأدباء الإثنيين في أستراليا.
تميز شربل بالمزاج المُتقلب والغضب السريع والنبرة الصوتية المرتفعة، لكنُّه سرعان ما يعود ويهدأ ويُلطّف الأجواء خلال دقائق معدوة، ولا يغمض له جفنٌ إذا كان يعي أنَّ أحدًا قد انزعج من كلمةٍ قد تفوه بها، أو من سلوكٍ أقدمَ عليه بغير قصدٍ، ليُعيد المياه إلى مجاريها بلطفٍ إنساني وكياسة عُهد بها. وخلال مرافقتي الشخصيّة له ومطالعتي لنسبة كبيرة من نتاجاته، وجدتُه يولي المرأة الواعية المبدعة اهتمامًا خاصًا واحترامًا كبيرًا في حياته، وإنْ كانت احباطاته العاطفية نغصت عليه مُتعة الحياة ومشواره الأدبي، فهو لا يزال يكنُ للمرأة نفس القدر من الاحترام والتقدير. وتلك على ما يبدو سمة تُصيب بعض المفكرين والأدباء، الذين يجدون في تقدير المرأة ملاذًا من ضغوط الحياة ووطأة الفكر!. كما أنه يُخفي وراء سطور كتاباته آراءً سياسيّة حبيسة ومواقف خفية ممّن يديرون المشهد السياسي في لبنان الجريح.
وفي زمنٍ بات فيه الكثيرون ضيقّي الأفق في محبتهم للإنسان كإنسان، وجدتُ شربلاً تميزه البراءة، منسجمًا مع نفسه صادقًا مع الجميع، وفيًا للغير، مُلتزمًا بمحبة الناس. لا ينزعج من نجاحاتهم، ياخذ بيدهم إلى طريق المجد والإنتشار.
يقول ما يريد قوله دون مراوغة وتمويه أو غش أو تملق. وقد علمني ونحن في هذا الزمن الرديء الذي يتوجب على المرء فيه أنْ يقول دائمًا ما يحب الآخرون أنْ يسمعوه، أنْ أقولَ كلمتي وأنْ أكونَ حُرّ الكلمة والمواقف حتّى لو وجهت لي سهام الغيرة والنقد، فعلى الأديب ألا يخشى لومة لائم، ولا يهاب النقد الجارح غير الموضوعي.
ولا أنسى تلك الكلمة التي شرفني بها في أمسية توقيع كتابي "المبدعون غرباء عن هذا العالم" بتاريخ 12/11/2011: "الملفتُ حقاً هو وفاءُ الكاهنِ يوسُف لِمَن ساعدَهُ من بعيدٍ أو قريبٍ، وهذا ما لم نَعُدْ نَجِدْهُ في هذا الزمنِ التعيسِ، زمنِ الوصوليّةِ والغدر، وهذا ما يُرَجِّحُ كَفَّةَ موعِظَتِه، ويجعَلُ المُتَلَقِّي يَرْضَخُ لها دون إدراكٍ منه".
في مطلع حياتي الأدبيّة وتحديدًا عام 2000 أسدى لي أستاذي الباحث الراحل الأب بطرس حدّاد، نصيحة مجانية مفادها: "أنت الآن دخلت وسطًا لا تفقه خفاياه ولا تدرك محنه جيدًا، لأنك في مقتبل العمر، ولكن أعلم يا بُني أنَّ الدخول في رحاب هذا الوسط اشبه بتسلق الجبل، كلّما تقدمت خطوة نحو القمة كلّما أتتكَ ركلّة تعيدك إلى الوراء عدة خطوات". ولقد وجدتُ صدى لتلك النصيحة في حياة الكبير شربل بعيني، فكما أنَّ ذكاءَ المرء محسوب عليه، فإنَّ تألق الأديب أو أيّ مبدع في شتى المجالات يكون خصمًا له. وفي تاريخنا العربي على مرّ العصور أيقنا دائمًا: ويل لمن تطول قامته أكثر من اللازم!، كما اختبرنا في محيطنا الشرقي كلّما كثرت الأضواء على شخص ما، كلّما كثرت حاجته لسيارات الأسعاف!.
وقد أصابتني دهشة وصلت إلى حدِ الذهول، حين قرأت كيف تناولت سهام النقد الموضوعي وغير الموضوعي أدبه وشخصه، رغم أنه لم يتردد أو يخشَ من نشرها إيمانًا منه بحرية الرأي الآخر، مقتنعًا بعدالة الزمن الذي يُعده الحكم النهائي والرقيب المطلق على نتاج الأديب، فللأسف إنَّ لغة التكفير والتنابذ وتناكف الحوار غدت من مقومات النقد لدى البعض منّا. وكما أنَّ الشيء بالشيء يذكر، فإنَّ البعض من منتقديه عاد وانصفه وأثنى على نتاجاته، أما البعض الآخر فلم يعدل عن رأيه إلى الآن. هذا هو حال شربل دائمًا، كالشجر يرميه الناس بالحجر فيرميهم بالثمر، ولا عجب، لأن المعادن الطيبة لا تصدأ أبدًا، وإنَّ شموخ الرّجال العظام يجعلهم كالأشجار الطيبة الثمار، واقفين باسقين حتّى نهاية رحلة العمر.
حقق شربل أمورًا كثيرة، وأخفق في أمورٍ أُخرى شأنه شأن سائر البشر، لأن الشاعر إنسان في أخر المحصلة؛ فالرّجل كان يطمح إلى الأبوة ولم يحظَ بها، وذات يوم أسرّ إليَّ بأمنيةٍ لا تزال تؤرقه ومفادها: "لو مَنّ الله عليّ بالأبوة لتمثلت بأبي". لكنه عاد وهمس لي بنبرة الإتكال على المشيئة الربانيّة: "لتكن مشيئتك يا ربّ".
اغتنمت الفرصة وسألته في إحدى الجلسات:
ـ لو عاد الزمن بك إلى الوراء هل ستمتشق قلمك مرّة أُخرى وتجعله يعانق الورق؟
أجابني بسرعة وانفعال:
ـ نعم، وسوف أكتب أكثر ممّا كتبت، لان الله كلمة، والكلمة لا تموت ابدًا".
من مقولاته البليغة والخالدة:
(العقل دائمًا يغلب البندقية شرط ألا يستسلمَ). (البخيل إنسان يموت مرتين ليعيش ورثته من بعده).
(الأديب الذي يستعطي الناسَ من أجل نشرِ أدبهِ سينشر الناس أدبه على السطوح)،
(الغرور داءٌ قاتلٌ لا يفتك إلّا بصغارِ العقول).
(معظم الذين يحبون الجلوس على طاولات الشرف بلِا شرف).
برعَ شربل في موهبة الخطابة متميزًا على أقرانه، حتّى أطلق عليه البعض (ملك المنبر) (المايكرفون)، وفي هذا الصدد أنقل شهادة الشاعر العربي نزار قبّاني بمقدرة شربل الخطابية بإحدى رسائله المؤرخة في 31 كانون الثاني 1994:
"أما أنت، فقد قرأت كلمتي أحسن منّي، وكنت (بشبوبيتك) وأناقتك، ووسامتك.. نجم الحفلة".
وليس هذا فحسب بل أن الشاعر العراقي عبد الوهاب البيّاتي اعترف بذلك أيضاً، برسالة مؤرخة في 24/10/1988:
"..وبخاصة إلى قصيدتك الرائعة بعد أن كنت قد قرأتها مرّات عديدة، ولقد ازداد إعجابي بعد أن استطعت من خلال إلقائك الخلاّب المثير المؤثر العميق الوصول إلى الضفاف الشعريّة الإنسانية التي تكتنز بها القصيدة، والتي تنطوي على ألم ثوري عاصف إنك شاعر حقيقي، وصوتك جزء لا يتجزّأ من شاعريتك الفذّة أكرّر شكري وتقديري ومحبتي".
أما شهادة المطران المثلث الرحمات عبده خليفة، مؤسس الابرشية المارونية في أستراليا، فلقد أثبتها المهندس رفيق غنّوم في كتابه "أجمل ما قيل بأدب شربل بعيني":
"الويل لمن يتكلّم قبل شربل بعيني، والويل لمن يتكلّم بعده، فالأول ينساه المستمع، والثاني يتجاهله تماماً".
ولا شك أنَّ براعة الخطيب والشاعر أو أيّ متحدّث مهما علا قدره تتحدد في قدرته على الإيجاز وصياغة الفكرة العميقة في كلماتٍ قليلة وباسلوبٍ سلس والقاءٍ يشدّ الآخرين إليه. وقد تعلمت منه كيف أقف أمام المرآة وأتلو كلمتي الأدبيّة خلال فترة زمنية لا تتجاوز الخمس دقائق قبل أنْ أعتلي خشبة المنبر!. ولا تزال نصيحته تصول وتجول في ذاكرتي: "يا أبانا تذكر أنَّ المتحدث الذي يكثر الكلام على المنبر، يضجر من حاله قبل أنْ يضجر منه الآخرون". فهو والحق يقال ليس مُصابًا بمرض الاسهال الخطابي، كالذين يعتلون المنصة دون أن يتقيدوا بالوقت المحدد لهم.
أما عن وصيتهِ فقد كتب: "وصيتي قبل أنْ أموت ألا يقال أنني مُت".
وكيف يموت شربل بعيني الشاعر والإنسان في ذاكرة الاجيال وهو القمر المُضيء الذي لا يعرف الكسوف.
عَبرَ رحلة الثلاثين من العمر أدركت بوضوحٍ تام من كلّ المرموقين الذين التقيتهم في مجالات الحياة أنَّ الإنسانَ هو الإنسان مهما علا شأنه أو تواضع قدره، وأنَّ توزيع الأدوار في الحياة وتحقيق المنجزات قد جاء في الكثير من الأحيان عبثيًا وغير عادل، أما عن شربل، فلا يسعني إلّا أن أقول: "إنّه يمضي والتوفيق مع خطاه. يحالفه الحظ، تخدمه الظروف دائمًا، يمشي النجاح في ركابه أينما حلّ، وهذه نعمة ربانيّة من جهة، ومهارة ذاتيّة من جهة أخرى".
لم يكتفِ شربلنا بالشعر والزجل والادب والنثر وكتابة النصوص المسرحية، بل كتبَ القصيدة المغناة للعديد من المطربين، نذكر منهم: هند جبران، ريما الياس، وفاء صدقي، إسماعيل فاضل الذي غنى روائعه يا مصر، بغداد أنتِ حبيبتي [6]، فافي.
عاصر زمنًا جميلاً احتفظت فيه الكلمة بجلالها والفكرة بعمقها والنظرة بموضوعيتها، ولا غرو إنْ قلت: إنّه من زمن الشوامخ كجبران، ميخائيل نعيمة، سعيد عقل، الجواهري، عبد الوهاب البيّاتي و يحيى السماوي، الذي أطلق عليه لقب "عميد الأدب المهجري" في كلمة منشورة بموسوعة شربل بعيني بأقلامهم الالكترونيّة.
يُردد المرء في سرّه كلّما تقدم بالسنّ: آه لو كنتُ أعلم كيف يعيدُ الإنسانُ ماضـــيــــِه، لفعلت في الحال. أما هو وعلى مدار السنين لم تنقص قيمته، ولم يهوِ جبل موهبته، ولم يجف نهر إبداعه، بل ارتفع مقامه وكبر شأنه، فما زال في قمة القمم وأعلى الهرم؛ كلّما زاد عمره علت هامته.
سيظلّ شربل كبحرٍ لا يمكن سبر أغواره، نكتشف فيه كلّ يوم اللآلىء والأسرار الخفيّة، ونظلّ بحاجة إلى مزيد من الغوص والتبحر لاكتشاف كنوزه الدفينة. ونظلّ بحاجة للنظر في فضاء أدبه الخالد للتحليق عاليًا، علنا نبلغ بعض أجوائه، ونستنشق قسطًا من أنسام عبير سُموّه.
شهادة أقولها للقرّاء هنا: "سيبقى شربل بعيني في ضمير القارئ العربي قمرًا مضيئًا ونجمًا لامعًا، بل شمساً ساطعة، لا ينساه رواد الكتب وكلّ من عرفوه عن قرب، ولا يغيب ابدًا عن ذاكرة لبنان باعتباره البلد الذي جُبل من ترابه، ولا عن ذاكرة أستراليا؛ المهجر الذي قضى فيه ثلثي حياته، وشهد له أغزر نتاج أدبي جاد؛ حيث ارتبط المشهد الثقافي العربي باسمه، واقترنت صوره الحديثة بإنجازاته الغنية؛ فالكثيرون يحملون شعلته المضيئة ويكنون المحبة والولاء لاسمه الكبير. أما أنا فأحني الرأس احترامًا لاسمه العريق وإجلالاً لشخصه البريء ولعطائه المتصل بالثقافة ودوره المرموق في تاريخ الأدب المهجري الحديث".
قُبلة محبة عراقيّة أطبعها على جبين ذلك الارز اللبناني الشامخ الذي يبدو لي ولغيري دائمًا "كالصائغ" ينتقي الفصوص النادرة والمعادن الاصيلة والاحجار النفيسة ثم يصوغها للقارئ في حلةٍ قشيبة.
أَختم بالعودة إلى ما بدأتُ به: إنَّ من حق كلّ بلد وملة وجالية أن تزهو بعباقرتها وتتباهى بأدبائها وتفاخر بمبدعيها، "ويحق لنا أيضًا ملة أدباء المهجرالأُسترالي، أنْ نضعَ الأستاذ شربل بعيني على رأس مفاخرنا الأدبيّة في هذا العصر".
هذا قليل من كثير عن قديس الكلمة شربل بعيني، الذي يقف منذ عقودٍ على قمة هرم الثقافة العربية في أستراليا. سائلاً الله أن ينسج له بيد لطفه ثوب حياة لا يُبلى . الّلهمّ آمين.
ــــــــ
[1] صدح صوته عام 1987 في مهرجان المربد الشعري الثامن في بغداد، فقال عنه الأب الشاعر الدكتور المرحوم يوسف السعيد: "لقد هزّ شربل بعيني المربد الشعري". إذ وصل الحال أن يختم التلفاز العراقي على مدار اسبوع بطوله نشرة الأخبار بقصيدته التي طبقت شهرتها الأفق: "أرض العراق.. أتيتكِ". وأذكر للتاريخ،: إنّه أوّل شاعر مُعاصر ينشد قصائده في المربد بمزيج من اللهجة العامية اللبنانية والعربية الفصحى!!، وهذا كان مُخالفًا لتقاليد المربد، ومع ذلك وقف الحضور اجلالاً له؛ هتفوا وطبقوا الاكف مرارًا اعجابًا بقصيدته.
[2] كان لكاتب هذه السطور اليد الطولى في اعادة البعيني إلى الحراك الادبي والمشهد الثقافي من جديد بعد انقطاع طوعي معروف.
[3] بالعودة إلى خزانة الذّاكرة أجد إنّني قرأت أسمه لأوّل مرّة في موقع إيلاف، ثمَّ تناهى إلى سمعي صوته يوم عرّفني به الصحافي جوزاف ابو ملحم.
[4] صدرَ له في الاسبوع الأوّل من عام 2016 ديوان "اوزان" بالفصحى.
[5] لا أنسى إنطباعات أصدقاء شربل عن تلك المرأة؛ فقد سمعت منهم خلال الجلسات (الله يرحم أمك القديسة يا شربل). ولا أعلم أيّ صمت كان يراوده يوم باح لي عمّا يختلج في الاعماق: "ما اشتقتُ إلى شيءٍ في حياتي قدر اشتياقي إلى حضن أمي". لقد طبعت والدته اثرها في حياته أكثر من أيّ إنسان آخر. وإنْ كانت الحكمة تنص: وراء كلّ رّجل عظيم امرأة، فأنّ شربل كان وراءه أمّ قديسة، رحلت عن عالمنا الفاني منذ سنوات خلت. عليها رحمة الله.
[6] القى شربل بعيني قصيدته "بغداد أنت حبيبتي" في مهرجان رابطة البياتي بتاريخ 17/6/2015 بسيدني، فنالت اعجاب الجمهور بعد أن حبس بالقائه أنفاسهم، ثمّ جوبهت بالتصفيق الحار، وهتف له بعض الحضور أنت عراقي. ومن ثَمَّ غناها الفنان العراقي إسماعيل فاضل.
كانت الفكرة السائدة لدى الباحثين والعامة من الناس أنّ نهضة الأدب العربي المهجري بدأت في أمريكا الشماليّة والجنوبيّة وانحصرت هناك وهي ذات طابع لبناني بارز، ومن روادها الأوائل جبران خليل جبران، ميخائيل نُعيمة، إيليا أبو ماضي، الشاعر الشاكي رشيد أيوب، الأديب المُقل في نشره إلياس عطا الله، أحمد زكي الشاعر المصري، الشاعر والناقد السوري عبد المسيح حدّاد،؛ حيث اصدروا الصحف وأَسَّسوا الرابطة الأدبيّة هناك.
إنّ أدب المنفى بات مقرونًا بالرابطة القلميّة، التي تعود نشأتها إلى عام 1920 في نيويورك. أو بالعصبة الأندلسيّة في ساون باولو البرازيلية المقامة في مطلع ثلاثينيات القرن المنصرم، وبذكر العصبة يتوافد إلى الذهن ميشيل نعمان معلوف، والشاعر القروي رشيد سليم الخوري الذي ترأسها عام 1958. من دون الالتفات إلى الأدب المهجري في أستراليا.
من المؤكد أنّ أدبًا مهجريًا وكتابات عربية ظهرت في المنفى الأمريكي، حيث يذكر لطفي حدّاد في مقاله "خواطر في الأدب المهجري المعاصر"، إنّ "أول صحيفة عربية ظهرت في المهجر الأمريكي كانت "كوكب أمريكا" عام 1892، أصدرها إبراهيم ونجيب عربيلي". ولكنني مع الرأي السائد والقائل بأنّ الأدب العربي في أمريكا تبلور وعُرف مع نشوء الرابطة القلمية.
وإذا عرجنا نحو الأدب المهجري في بلاد الاقيانوس، فلا بُدّ لنا من العودة إلى ما ذهب إليه د. بول طبر في كتابه المطبوع عن الجاليات العربية في أستراليا، وذلك لمعرفة الاعداد المهاجرة من البلدان الشرق أوسطية....، فنقرأ: "تشير الإحصائيات المتوفرة للباحثين إلى أنه مع نهاية القرن التاسع عشر، بلغ عدد اللبنانيين المولودين في لبنان 1750 شخصًا، كانوا موزعين على الولايات الاسترالية..." (ص54). ويضيف في ص (56) من الكتاب: "ومع حلول عام 1947، وصل عدد المهاجرين اللبنانيين، ومن ضمنهم الجيل الثاني والجيل الثالث إلى ما يقرب الـ7000 شخص". "وتشير الإحصائيات الرسمية إلى إن المعدل السنوي بين عامي 1947 و1961 كان 400 شخص، وارتفع المعدل إلى 800 شخص خلال عامي 1961 و1966، ليعود ويرتفع بشكل ملحوظ ما بين عامي 1966 و1971 ويصبح 3000 شخص" (ص60).
"وبالمقارنة باللبنانيين، احتل المصريون المرتبة الثانية بالنسبة إلى عدد المهاجرين العرب إلى أستراليا" (ص61).
ولا نعلم متى بدأت الهجرة العراقيّة إلى هذه البلاد العزيزة، لكن الدكتور بول طبر يفيدنا في كتابه المذكور آنفًا أنّ عددهم في عام 1976 لم يتجاوز 2273 شخصًا" (ص 67). ومن المؤكد أنّ العدد ارتفع بصورة واضحة بعد عامي 1991 و2003.
وأنقل هنا للقرّاء نص ما كتبته الكاتبة نجاة فخري مرسي في دراستها الموسومة: "حول نشأة الأدب العربي المهجري في أستراليا" والمنشورة في موقعها الالكتروني:
"يعود تاريخ الهجرة العربية إلى عام 1860م، إلا أن الصحافة العربية قد بدأت بوادرها في الظهور عام 1957م، وهو تاريخ صدور أول نشرة نصف شهرية اسمها "الوطن العربي" ولم تستمر أكثر من عام. وفي العام 1965م صدرت جريدة “القمر” النصف شهرية ثم جريدة ”الهدف” الأسبوعية. وفي أواخر الستينات صدرت صحيفة “صوت المغترب” ثم غابت ثم عادت، وكانت عودتها بداية انتظام الصحف اللبنانية والعربية، تبعتها جريدة “التلغراف” كل خميس. وفي عام 1975م، أصبحت التلغراف ملكاً لأربعة شركاء هم: بطرس عنداري، إدوارد عبيد، جورج جبور، وجوزيف خوري” وما زالت تصدر حتى الآن ثلاث مرات في الأسبوع[1]. وفي العام 1977م، تم تأسيس جريدة “النهار” التي ما زالت تصدر حتى الآن مرتين في الأسبوع. وفي العام 1986م، صدرت جريدة “البيرق[2]” التي تصدر حالياً ثلاث مرات في الأسبوع. وصحفنا المهجرية اليوم تصدر جميعها بانتظام، وبدأت تستعمل التكنولوجيا الحديثة التي تُمكنها من نسخ نصف موادها عن الصحف العربية، حتى أنها تستعمل نفس أسماء الصحف العربية في الوطن الأم.
يقول تقرير سليم الزبال في مركزه للمعلومات، إن مائة جريدة ومجلة عربية صدرت في أستراليا منذ عام 1957م، حتى صدور مركزه للمعلومات عام 1989م، “منها حوالي 36 مجلة”. واختصاراً للوقت، سأكتفي بإدراج أسماء أوائل المجلات العربية التي صدرت في أستراليا.
أوائل المجلات العربية في أستراليا:
يقول هذا التقرير المعلوماتي إن أول مجلة صدرت في مدينة ملبورن عام 1963م كانت مجلة “النور” واستمرت تصدر حتى عام 1867م، شهرية وأحياناً نصف شهرية. وإن مجلة “ المنارة” كانت أول مجلة دينية صدرت عن اتحاد المجالس الاسلامية في أستراليا عام 1964م، وكانت تصدر أربع مرات في السنة، ثم أصبحت تصدر مرتين سنوياً، وتحتوي على مقالات بالعربية والانكليزية. وإن مجلة “الرسالة“ كانت أول مجلة سياسية اجتماعية، صدرت في ملبورن عام 1975م، شهرية استمرت لمدة عامين. وإن مجلة “الثقافة” كانت أول مجلة حزبية شهرية تصدر في أستراليا عام 1975م، استمرت لعدة سنوات. وإن مجلة “الاقباط” كانت أول مجلة دينية تصدر عن الهيئة القبطية الأسترالية عام 1977م، وتوقفت بعد إصدار عددها الثاني.
وهكذا استمرت المجلات العربية بالصدور، منها من يستمر، ومنها من يتوقف بسرعة تدل على أن الأعباء المادية، وضآلة التوزيع هما السبب في هذه المعاناة. ومع ذلك ما زلنا نقرأ مجلات التسعينيات، حتى صدور مجلة “الجذور” في ملبورن التي نتمنى لها قوة الاستمرار.
هكذا، وبعد هذا العرض المختصر، نجد بل ونستنتج أن الصحافة العربية كانت وما زالت تصر على تأكيد وجودها، ولو بشق الأنفس، بل وما زالت الدليل الصارخ على رغبة المهاجر اللبناني خاصة، والعربي عامة، في التمسك بلغته وتراثه،“ وكما نعلم أن أكثر مشاريع الصحف كانت تجارية وثقافية معاً”.
رابطة إحياء التراث العربي:
ننتقل الآن للحديث عن هذا الحدث الثقافي العربي في المغترب الأسترالي.
تأسست رابطة إحياء التراث العربي في سدني عام 1981م ”في سنة جبران العالمية”، وبدأت نشاطها تحت اسم ”تجمع أصدقاء جبران” وفي الحفل الذي أحياه التجمع للمشاركة بتكريم جبران، أعلن عن إنشاء جائزة وقدرها “500 دولار” تُمنح لأفضل بحث أو دراسة تتنأول سيرة جبران وأدبه، وأن تحمل هذه الجائزة اسم ”جبران خليل جبران” وكما قرر التجمع أن يتخذ اسم ”رابطة إحياء التراث العربي في أستراليا” وحدد أهدافه في دستور، وكان من بين أهدافه إحياء التراث العربي في أستراليا. وفي عام 1984م، احتفلت الرابطة بأول جائزة تحمل اسم “جبران خليل جبران” وكان الحفل حافلا بالمؤيدين والخطباء، حيث فازت السيدّة وداد الياس بالجائزة الأولى، وفاز السيّد إيلي ناصيف بالجائزة الثانية، وهكذا استمرت الرابطة باقامة الندوات وتقديم الدعوات ومنح جائزتها الجبرانية لمن تقرر لجنتها أنه يستحقها، إلى أن سجلت نجاحها بعد أن فردت أجنحتها إلى الأوطان العربية، وإلى المغتربات والمهاجر العربية الاخرى".
وجبّ عليَّ هنا أن أذكر شهادة للتاريخ، الذي يعلم المشتغلون به انه ليس لعبة نلهو بها، أو نكتبه وفقًا لاهوائنا ومصالحنا، فالتاريخ احداث لا يجب العبث بها أو تطويع سياق وقعائعه لخدمة دراسة ما أو فئة معينة من الناس، أقول هذا لكي أوضح إنّ تلك المسابقة الجبرانية اليتيمة لم تكمل سيرها، بل توقفت لأكثر من ثلاث سنوات، إلى أن التقى شاعرنا البعيني عام 1985 برئيس الرابطة آنذاك الاستاذ كامل المر وأقنعه بإيجاد جائزة عالمية ثابتة باسم الفيلسوف اللبناني جبران، وبعد الموافقة قام شربل بتصميم براءة الجائزة، كما صمم الميدالية الاستاذ صبري رمضان. وكان من جميل الصدف، أنّ أوّل من فاز بها عام 1987 هو الأستاذ شربل بعيني.
وإليكم بعض ما جاء في كتاب "أجمل ما قيل بأدب شربل بعيني" في فصل "جوائز تقديرية"، لمؤلفه المهندس السوري المرحوم رفيق غنّوم عن الجائزة:
"عام 1987، منحت رابطة إحياء التراث العربي جائزة جبران العالميّة للشاعر شربل بعيني، وكان من أوائل الذين فازوا بها.. وها أنا أنقل من أرشيفه قصّة فوزه بالجائزة، كما دوّنها بقلمه:"سنة 1985، كنت أطبع ديوان الغربة الطويلة في مطبعة الثقافة التي يملكها كامل المر،
فدار بيني وبينه حديث غلّفه بخيبة أمله بمعظم الذين تعامل معهم في الرابطة، وأنهم لا يصلحون لشيء، وأن الرابطة تراوح مكانها، فقلت له:
ـ لماذا، يا كامل، لا تنشىء الرابطة جائزة أدبيّة تحمل اسمها إلى كافّة أقطار العالـم؟
فأجاب:
ـ قديماً أجرينا مباراة باسم "جبران"، كانت جائزتها من نصيب السيّدة وداد الياس والأستاذ إيلي ناصيف.
فقلت:
ـ عظيم.. فليكن اسم الجائزة "جائزة جبران".
قال:
ـ وكيف سيتمّ هذا؟
قلت:
ـ أنا أصمّم البراءة وأنت تطبعها.. ويقوم صبري رمضان بتصميم الميداليّة.
وهكذا صار، ولكن المفاجأة الكبرى كانت عندما منحتني الرابطة الجائزة، ولـم أكن قد انتسبت إليها بعد. فقلت لكامل، واللـه يشهد على ذلك:
ـ يا كامل.. أنا لـم أصمّم الجائزة، ولـم أطلب منك إنشاءها كي أحصل عليها.
فقال:
ـ لا أحد غيرك يستأهلها.. أرجوك أن لا تفتعل خضّات في بداية توزيع جائزة أنت تعبت وسهرت من أجلها.
وبعد عودتي من المربد الشعري في بغداد، علّقت الرابطة أوّل جائزة جبرانيّة على صدري.."
وعن نفس الموضوع يفيدنا الإعلامي المخضرم أكرم برجس المغوش في مقاله الموسوم "الشاعر شربل بعيني مؤسس ومصمم جائزة جبران للأدب العربي" المنشور في موسوعة "شربل بعيني بأقلامهم":
"عندما أسسنا رابطة احياء التراث العربي انتخبت سكرتيراً لها فاقترح علينا الشاعر والاديب المعروف شربل بعيني توزيع جائزة كل عام باسم الاديب العالمي جبران خليل جبران فأخذنا بالاقتراح وكان المصمم والمؤسس والممول لهذه الجائزة المعنوية الشاعر الاديب شربل بعيني.
وفي عام (1987) جرى أول احتفال لتوزيع الجائزة التي قدمها سفير لبنان لدى استراليا ونيوزلندا الدكتور الاديب لطيف ابو الحسن، نالها الشاعر شربل بعيني والدكتورة الاديبة سمر العطار والاديب فؤاد نمور عن الاديبة انجال عون وسكرتير رابطة احياء التراث العربي الاعلامي اكرم برجس المغّوش عن الاديب الكبير نعمان حرب صاحب المؤلفات العديدة عن ادباء المهجر وابطال التاريخ العربي النزيه والمشرف وخاصة في محافظة السويداء جبل القائد العظيم سلطان باشا الاطرش .
وامانة للتاريخ يهمنا ان نذكر ان جسر التواصل الذي بنيته مع راعي الادب المهجري الاستاذ نعمان حرب وجريدة الثقافة السورية وادباء المهجر كان خير من ادى الرسالة وعمق المحبة الشاعر بعيني لان المحبة رسالة والله محبة. .
وامانة للتاريخ يهمنا ايضاً ان نؤكد ان المؤسس لهذه الجائزة هو المبدع شربل بعيني صاحب المؤلفات العديدة في الشعر والنثر والقصة والمسرح والادب واكثر المؤلفات التي كتبت عنه والاهم انه قدم منزله في مسقط رأسه هدية لبلديتها حيث سيحولونه متحف الشاعر شربل بعيني مثل دارته التي كانت وما زالت مشرعة الابواب حسب وصية والديه رحمهما الله بعيداً عن السياسة الهدامة....."
ما أرمي الوصول إليه من هذه الاستشهادات إنّ أدبًا مهجريًا كان لا بُدّ وأن تأسس قبل وصول "البعيني" إلى هذه القارة المترامية الاطراف، من خلال هجرة رعيل من المهاجرين العرب إليها، فمن المؤكد أنّ هناك من سبق شربل بعيني من الأدباء والشّعراء اللبنانيين والعرب إلى هنا، فلا يختلف إثنان على أنّ هناك من أسس صحافة عربية وجمعيات أدبيّة مهجريّة، وهناك من طبع كتبه في لبنان أو مصر أو سورية....ووزعها في أستراليا كالشاعرين اللبنانيين عصام ملكي "عذاب الحب 1973" وسمعان زعيتر "لبنان 1974"، ولكن شربل كان السبّاق في طبع أوّل كتاب عربي في المغترب الأسترالي وهو "مجانين" عام 1976[3]، ووزعه في أستراليا ولبنان وسائر الدول العربية. ويخبرنا شربل: إنّ عمال المطبعة لم يفهموا أرقام الكتاب العربية، فجاء جمع صفحاته سيئًا للغاية، فاختلط حابل القصائد بنابلها، فما كان منه إلّا أن أطلع صاحب المطبعة على "الكارثة"، فتفهّم الأمر وأعاد طباعة الكتاب من جديد، بعد أن سمح لشربل بالبقاء في المطبعة طوال مدة طبع وجمع الكتاب.
حمل شربل حقائب هجرته إلى أستراليا عام 1971 قادمًا من تاج الشرق لبنان، ولحظة وصوله لم تكن الأرض معبدة أمامه ولم تكن مفروشة لا بالورد ولا بالارز، بل كانت مليئة بالصعاب الحياتيّة، ولكن اصراره على صنع الذات، جعله يتغلب على قساوة الحياة والكثير من المعوقات، ورويدًا رويدًا استطاع الوصول إلى ما وصل.
كان شربل يحمل موهبة أدبيّة واعدة في بلده، ولأن الموهبة لا بُدّ من أن تكشف عن ذاتها، تراه أشرق شعرًا ونثرًا وصحافةً وخلقًا. ازهرت موهبته في مجدليا، لكنها اينعت وتدلت قطوفها الناضجة في سيدني؛ إذ صدر له في لبنان ديوانان شعريان: "مراهقة" 1968، والذي ستحتفل الجالية بيوبيله الذهبي عام 2018 بإذن الله، بعد أن احتفلت بيوبيله الفضي عام 1993. و "قصائد مبعثرة عن لبنان والثورة" عام 1970. لتكرّ بعدها مسبحة الكتب، فنَشَرَ حتّى الآن أكثر 43 مجموعة شعريّة ما عدا أعماله الكاملة، وكتبه المدرسيّة التي لم تزل تُدرّس حتّى الآن في معظم المدارس العربيّة والأستراليّة التي دخلها برنامج تعليم اللغة العربيّة.
ولأن أستراليا وطن للمنفيين والمهاجرين، نلقى حكومتها تشجع الكتابة مهما كانت لغتها، وتدعم تأسيس الروابط والجمعيات والمنتديات الثقافيّة بلغة اعضائها، إثراءً للثقافة الأستراليّة المتنوعة والمتعددة، لهذا عقب استقراره، وجدَ شربل الظروف مهيأة أمامه في المجتمع الجديد للانخراط في الحراك الأدبي بعد أن بسط جناحيه في فضاء التجارة كتاجرٍ، فساهم على نحوٍ فعّال مع من سبقوه في تبلور حركة أدبيّة مهجريّة، لعبت دورًا في عدم جرف المهاجرين الشرق أوسطين إلى امواج وتيارات الهجرة، كما جرفت غيرهم من قوافل المهاجرين من بلدانٍ شتى، من خلال نشر اللغة العربية بشقيها الفصيح والعاميّ، علاوة على الإتشاح بالروح الوطنيّة والتمسك بثقافة البلد الأم. ويظهر جليًا في أدب شربل الأغترابي تلك النزعة الوطنيّة التي لم يستطع منشار الغربة أن يشطرها، فأصبحت كلمته بمساحة الوطن.
صحيح ان الوطن لفظه كما لفظ غيره لأسباب ليست كلها سواء، لكنه رفض أن يمحو سجل لبنانيته بمنشفة مبللة بخطإ أو خطأين أو حتّى ثلاثة من ساسة العصر في لبنان الموجوع!، وامتنع عن البكاء على الأطلال والجلوس في جبال الماضي، فرسم بالكلمة لبنانًا جديدًا فاتنًا على بياضات الورق، أكثر جمالاً وسلامًا من لبنان الذي يشاهده في التلفاز أو الذي يقرأ عنه في الصحف خلف قضبان الغربة.
ولكي أكون موضوعيًا ودقيقًا في طرحي، اذكر هنا: إنّ اللبنانيين لهم اليد الطولى في تبلور وبروز حركة أدبيّة واضحة المعالم على سطح الاغتراب الأسترالي [4]، كان لشربل بعيني بصمات ناصعة في توضيحها، وجهودًا حثيثة في الرفع من لغة الضاد، ودور كبير في هذه الحركة وجعلها أدبًا مهجريًا واسع الانتشار، خاصّة في عقدي الثمانينيات والتسعينيات من القرن المنصرم، من خلال رابطة احياء التراث العربي، وعَبرَ كم هائل من منشورات أدبيّة وصحفيّة، فضلاً عن دعوته نخبة من الأدباء العرب من خارج أستراليا للمشاركة في مهرجانات الأدب المحليّة، للتعرف بقدرٍ أكبر على الأدب المهجري في بلاد الأوز. كما شكلت مراسلاته مع نزار قباني والأب يوسف السعيد، وعبد الوهاب البيّاتي، والمرحومين عصام حدّاد ومحمد الشرفي، وايضاً مع محمد زهير الباشا وفاطمة ناعوت والدكتور رفعت السعيد وصبري يوسف وغيرهم دائرة الضوء المسلط والكاشف على الحركة الثقافيّة في أستراليا.
ولأن التاريخ يصنعه الشجعان المبدعون، وما شربل، سوى أديب لبناني مبدع، استطاع بنور قصيدته أن يضيء ليل المنفى ليسجل تاريخًا، فشيد مع غيره عمارة الأدب العربي المهجري على تراب الجزيرة الأستراليّة العالقة في كعب الدنيا. وهأنذا اسوق نص الرسالة التي ارسلها الشاعر العراقي الراحل عبد الوهاب البيّاتي إلى شربل عام 1988 فهي تؤكد تلك الحقيقة:
"... وقد ذكرت لك في رسالتي أن أحد الأصدقاء قد كتب مقالة عن هذه الندوة، وقد كتبها فعلاً ونشرت في الطبعة الدولية لجريدة (القبس) الكويتية، وهي من أهم الصحف العربية، وتوزع يومياً في كافة أرجاء الوطن العربي والولايات الأمريكية وكندا وكافة الأقطار الأوروبية. في طي رسالتي هذه أرسل إليك نسختين أو صورتين من مقالة الصديق هذه وعن طريق نشر هذه المقالة يكون القارئ العربي في كل مكان من العالم قد اطلع ولو بشكل مختصر على نشاطكم الجمّ وعلى ما تقومون به من خدمة جلّى للثقافة العربية مع خالص الود والاحترام..." [5]
لقد قرأه الناس في السبعينيات بلبنان، وفي أستراليا أدهشتهم همته وحرصه على الأدب والأدباء، أضف على ذلك غزارة قلمه السّيال في الثمانينيات والتسعينيات على صفحات الصحف والمجلات والكتب والدواوين، أما صوته فقد رنمَ الشعر في محافل يطيل الحديث عنها، كما أن كلماته ازدادت ضياءً في الألف الثالث.
اقام في بيته عدد كبير من الأدباء والشّعراء والصحفيين من خارج أستراليا، وفي هذا البيت أيضًا اقيمت اماسي شّعريّة كثيرة. ولا ننسى مساعدته الماديّة أو الطباعيّة وتشجيعه المعنوي وتحفيزه الأدبي لغيره من كُتّاب الحرف في طبع نتاجاتهم الأدبيّة في أستراليا.
فلا أجد غرابة في الأمر حين أطلق نخبة من حمَلة القلم لقب عميد الأدب العربي في أستراليا على الشاعر شربل بعيني، ومن هؤلاءِ:
الصحافي جوزيف أبو ملحم، الكاتب موسى مرعي، الكاتب سركيس كرم، الكاتب أنطوني ولسن، الشاعر سايد مخايل، شاعر المهجر الأكبر يحيى السماوي، الأب يوسف جزراوي، الشاعر حيدر كريم، الشاعر أحمد الياسري في أمسية العراقيّة 2015، الشاعر المندائي بنان في أمسية العراقية 8 اذار 2012، الفنان منير العبيدي حين طلب من الأستاذ شربل تقديم الجائزة التي منحتها مؤسّسة آفاق للدكتور خلف المالكي، الإعلاميّة إلهام حافظ لحظة أثنت عليه عقب نبذة الشاعر الياسري في أمسية العراقيّة عام 2015.
وبالعودة إلى اضابير الذّاكرة، فإنّني أجد أنّ الأستاذ شربل سبق وأن رفض هذا اللقب في مقالٍ كان قد كتبه على صفحته في موقع الغربة، وفي أمسيّةٍ ثقافيّةٍ زاملته فيها، ودعوني أبدا من الثانية: حدث في إحدى الأماسي الثقافيّة التي اقامتها رابطة البيّاتي الشّعريّة أنّ عريف الحفل وهو الشّاعر العراقي حيدر كريم قدّم الشّاعر اللبناني شربل بعيني كالاتي: الآن كلمة شّاعر الغربة الطويلة، الكبير شربل بعيني، عميد الأدب العربي المهجري في استراليا. وأذكر أن الأستاذ شربل همس في اذني قائلاً: "أنا لست عميدًا، يا أبانا هناك من هم أجدر مني بهذا اللقب". ولكَم كبرَ الكبير شربل يومذاك في عيني كثيرًا لتواضعه الجمّ، فالكبار يبقون كبارًا وإن كمّوا افواههم تواضعًا عن البوح بمنجزاتهم، بل إنّ تواضعهم يزيدهم كبرًا واجلالاً ورقيًا، والصغار يبقون صغارًا مهما ثرثروا في ادعاء ما ليس لهم، بل إنّ ثرثرتهم ونفخ ذاتهم المتورمة الكاذبة تزيدهم صغرًا، حتّى يختفوا عن انظار الإبداع ويمحوا من سجلات الخلود.
وفي مقالٍ كتبه شربل بعيني في صفحته بمجلة "الغربة" بعنوان "أنا لست عميداً للأدب المهجري"، بعد أن لقبّه بعض الادباء والشّعراء بذلك، والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل شربل بعيني جدير بحمل هذا اللقب، بعد أكثر من ثمانية وأربعين سنة من العطاء الأدبي في الوطن والمهجر؟. وقبل أن أجيب على هذا السؤال إليكم ما كتب:
"منذ عدة أيام اتصل بي أخي وصديقي ورفيق غربتي الاستاذ جوزاف بو ملحم، ليطمئن على صحتي، وهل تغلبت على "الانفلونزا" أم لا؟ وكم كانت دهشتي عظيمة عندما غيّر مجرى الحديث وقال:
ـ أتعرف يا شربل.. لقد آن الأوان كي نعلنك عميداً للأدب المهجري.
فأجبته وأنا أضحك:
ـ وهل أنا طه حسين؟
فقال:
ـ ولكنك أكثر من ضحوا في سبيل أدبنا المهجري، وتشجيع أقلامه.
وجوزاف بو ملحم، لمن لا يعرفه، هو خريج الجامعة اللبنانية ـ كلية الاعلام، ومجاز بالصحافة ومراسلة الوكالات الاجنبية. والناشر لجريدة "صدى لبنان" التي حضنت الأدب المهجري وأعطته سنوات ذهبية، كما أنه صاحب كتاب "الثورة في شعر شربل بعيني"، وحائز على جائزة جبران العالمية.
أحببت أن أسجل هذه الحادثة، بعد أن تفضّل علي الأستاذ موسى مرعي بمقال رائع، جاء رداً على ما كتبه الاستاذ سركيس كرم حول "خواطري"، ومن غريب الصدف أنه كتب في نهايته: "لقد تجرأت ووهبته من نفسي لقب "عميدنا" دون ان استأذن احدا".
هنا لعب الفأر في عبّي، وقلت في سرّي:
ـ لا بدّ من أن يكون قد حصل اتصال بين جوزاف بو ملحم وموسى مرعي، وإلا كيف أعلنني موسى عميداً للأدب المهجري بعد يومين من مداعبة جوزاف لي.
لم أنم تلك الليلة، ورحت أترقب الصباح بعيون جامدة، كي اتصل بجوزاف وأسأله إن كان يعرف شخصاً اسمه موسى مرعي، ولكم كانت دهشتي عظيمة حين أنكر معرفته به، فصحت بأعلى صوتي:
ولكنه أعلنني عميداً للأدب المهجري بعد يومين من إعلانك أنت، فكيف حصل هذا؟.
ضحك وقال:
- إنها صدفة غريبة حقاً.. والآن بإمكانك أن تقول أنني السبّاق شفهياً، وموسى مرعي السبّاق كتابياً بإعلانك عميداً للأدب المهجري.
والأغرب من ذلك أن شخصاً ثالثاً دخل على خط "العمدة" هو الاستاذ سركيس كرم، فلقد كتب تعليقاً على مقال موسى يقول فيه: "شكرا استاذ موسى مرعي على كلمتك عن الاديب شربل بعيني، وأضم صوتي الى صوتك وصوت كل من يثمّن الأدب الراقي. اما بالنسبة الى اطلاقك لقب "عميدنا" على الاستاذ شربل فهي مبادرة في محلها. هنيئا لنا بوجود حاملي راية الفكر في عالم الأنتشار والعاملين على إبراز صورتنا الحضارية وفي مقدمتهم شربل بعيني.. وهنيئاً لنا ب"غربة" حولها الى واحة من العطاء الثقافي المتجدد ومحطة لقاء لذوي الحيوية الانسانية البناءة والساعية دوماً الى الأفضل"..
وبدلاً من أن يرحم ضعفي، ويشد أزري، انضم الكاتب المصري أنطوني ولسن الى الشلة الثلاثية، فكتب يقول: "إلى عميد الأدب العربي في أستراليا الأستاذ شربل بعيني نقول: انه لشرف عظيم أن يختارك أدباء ومفكرون وأصحاب قلم وفكر متطور لتكون عميدا للأدب العربي في المهجر أستراليا. من رشحوك بالكلمة الشفهية أو بالكلمة المكتوبة، ما هم إلا عقلاء الأدب والفكر ولهم بصيرة أعمق من غيرهم، ورؤية أبعد منا جميعا. فقد رأوا ببصيرتهم ورؤيتهم أنه قد حان الوقت ليكون للأدب والأدباء عميد يثبت للعالم أن الأدب في المهجر أستراليا يفوق الأدب في بلادنا الأم. لأنه لم يتدنس بالمحسوبية أو بالتملق لرئيس أو حاكم. إنما نبع من فكر أدباء ومفكرين لهم قاماتهم ويعرفون حق المعرفة معنى أن يلقب أحدهم "شربل" بعميد الأدب. هنيئا لنا ولكل أديب أو مفكر بوجود من يمكننا أن نقول عنه عميد الأدب العربي".
ولكي يصبح عدد الأصدقاء مطابقاً لعدد أصابع اليد الواحدة، وصلتني من الشاعر العراقي الكبير يحيى السماوي هذه الكلمات الرائعة: "لو لم يجداك جديرا بذلك لما توافق رأياهما على اصطفائك عميدا ـ وها أنا أضم صوتي الى صوتيهما يا صديقي ليس لأنك شاعر كبير وذائد كبير عن الكرامة المتأصّلة في الإنسان فحسب، إنما ولأنك كنت أسبق منا جميعا في رفع راية المحبة العربية والأدب العربي في القارة الأسترالية".
والظاهر أن أصابع اليد الواحدة لم تعد تكفي لإحصاء المحبين، فلقد وصلني من الشاعر والاعلامي الاستاذ سايد مخايل هذا التعليق المشجع:
"العزيز شربل مهما عظمت الألقاب على أهميتها لا ترتقي الى روعة قصيدة واحدة من جرح قلبك أو الى مقالة واحدة من صدق قلمك.
ومهما عظمت القصيدة والمقالة لا قيمة لها من دون قلبك الأبيض الذي لا يضمر إلا المحبة للآخر. لذلك انت العميد للأدب العربي المهجري والقصيدة الرائعة والمقالة الصادقة والاهم عميد للقلوب الصافية الناصعة البياض".
كلمات أصدقائي الستة جوزاف وموسى وسركيس وانطوني ويحيى وسايد المفعمة بالمحبة، بدلاً من أن تفرحني، بدأت تخيفني حقاً، فكيف لي أنا المصلوب في غربتي، الغارق في وحدتي، أن أكون عميداً للأدب المهجري، وهناك من سبقني الى خدمة هذا الأدب، فحين وصلت الى أستراليا عام 1971، حاملاً خيبتي من وطني، وجدت طريق الأدب المهجري معبداً، فمشيت عليه دون خوف، وكيف أخاف، وقد التقيت به بأجمل الوجوه الأدبية، التي غمرتني بحبها وتشجيعها، وسخرت أقلامها للكتابة عني. لذلك اسمحوا لي أن أعلن، وبكل شفافية: أنا لست عميداً للأدب المهجري، بل جندياً للدفاع عنه وحاملاً لرايته، إلى أن يحين يوم رحيلي".
يقول الأستاذ سعيد تركي الشهراني من جامعة ديكن ـ ملبورن عن شربل بعيني في مقال بعنوان "كيف حافظ العرب الأستراليون على الثقافة والأدب العربي في بلد المهجر؟" ما يلي:
"ومن أبرز الشعراء في الأدب العربي الشاعر اللبناني الأصل شربل بعيني والذي أسهم بعدة مؤلفات شعرية ونثرية ومسرحيات باللغة العربية وأخرى باللغة الإنجليزية".
وراح يشرح معاني قصيدة اختارهها له بطريقة مدهشة:
"يقول شربل بعيني واصفاً الأديب الغريب:
تَغْفو.. وَفِي الْعَيْنَيْنِ طَيْرٌ أَزْرَقُ
بِرِياشِهِ الْمَلْساءِ بَدْرٌ مُشْرِقُ
يَخْتالُ في نَبَضاتِهِ فَرَحُ الدُّجَى
وَعَلَى مَسامِعِهِ الْمَدائِحُ تُهْرَقُ
بِجَمالِهِ، ما صاغَ رَبُّكَ طائِراً
وَبِحُبِّهِ بَوْحُ الزَّمانِ مُعَلَّقُ
هَذا الْغَريبُ الْمُستَنيرُ بِفِكْرِهِ
شِعْرٌ يُضَمِّخُهُ الشَّذا والزَّنْبَقُ
أَحْبابُهُ، عُدَّ الدَّقائِقَ وَاسْتَرِحْ
فَتَرَى الْمَطارِحَ بِالْغَريبِ تُحَدِّقُ
لا تَحْسَبَنَّ الْهَجْرَ يَرْفَعُ قَدْرَهُ
فالأَرْضُ وَقْعَ حُروفِهِ تَتَعَشَّقُ
قَبْلَ ارْتِحالٍ كَمْ تَمَنَّتْهُ الرُّبَى
مَطَراً.. وَحُلْماً أَخْضَراً يَتَفَتَّقُ...
إلى أن قال:
يا ابْنَ العُروبَةِ لا تَسَلْ فَعُيونُهُمْ
تَزْدادُ سِحْراً عِنْدَما تَتَأَرَّقُ
فَاكْتُبْ، أَديبـي، لا تَخَفْ أُرْجوزَةً
سَئِمَ الْمَغيبُ سَماعَها والْمَشْرِقُ
أَنْشِدْ، أَعانَكَ خالِقي، في غُرْبَةٍ
فَلَعَلَّكَ الإنسانَ فيها تُعْتِقُ.
عندما ننظر إلى قصيدة الشاعر نلمس مدى إحساسه كأديب بنظرة العالم من حوله عندما يتغنى بشعره بعيداً عن أرضه لبنان، حتى مع مرور السنين التي قضاها الشاعر في بلد المهجر تجد أن القلب يحنّ إلى أراضيه مهما كانت وعورتها. ومع وجود الحياه الساحرة في البلدان الأخرى إلا أن الشاعر العربي يجد نفسه لا إرادياً يتغنى بجبال ضيعته أو جمال أوديتها ويستمر في غنائها وأشعاره حتى مع علمه بوجود أعين الفضوليين من حوله".
اما الشاعر العراقي احمد الياسري، مدير تحرير جريدة العراقية، فقد كتب عنه رؤية نقدية وجدانية بمقالة نشرت في عموده الاسبوعي بجريدة العراقية، مرتبطة بموجة الحزن التي اجتاحت شربل بعيني بعد وفاة أخيه "مرسال"، فكانت شهادة الياسري في وقت وموقف غاية في الصعوبة ولكنه استطاع ان يدفع موجات الحزن عن صديقه بذكائه النقدي حين بوّب المقالة ووجها للقراء العراقيين الذين يعرفون شربل بعيني، ولم يطلعوا على امنيته الشعرية، وخصوصاً مناجاته الشعرية لشخصية الفيلسوف الاسلامي الكبير الامام علي بن ابي طالب حيث قال الشاعر والصحفي احمد الياسري في مقالته (صبراً يا صاحب المناجاة العلوية .. ان موعدك السكينة):
"لمن لا يعرف الشاعر اللبناني الكبير شربل بعيني في العراق أقول: ان هذا الشاعر المجدد هو احد اصدقاء الامام علي المسيحيين، فديوانه (مناجاة علي) الذي اعتبره الاديب العربي جورج جورداق تجربة ادبية شعرية متفردة و متميزة في قراءة شخصية المصلح والفيلسوف الانساني الكبير علي ابن ابي طالب.. تجاوز بها شربل حدود الشاعرية ليدخل بها آفاق السمو الانساني والانحياز للعاطفة البشرية التي ليس لها هوية ولا تعترف بحدود العقل، إشارتي الى هذه التجربة من تجارب الشاعر الموسوعي شربل بعيني لها دلالات وابعاد إنسانية واضحة، اممية هذا الشاعر وانسنته لكتاباته التي يخرجها من دوائر المألوف العقلي الى اللامألوف الروحي تجعله سلماً يتسلقه الموغلون في العشق، الذين يجمعون شتات حروفهم وافكارهم في الوطن الشعري المنفي شربل بعيني.
عام 2012 حين أقمنا حفل مولد جريدة العراقية التي يكتب بها الشاعر بعيني لم تكن علاقتي بشربل قوية لكنه فاجئني على المنصة بتلك الليلة بمقطوعة نثر اشاد بها بجهدي الشعري والصحفي بالجريدة جعلتني اشعر بخجل كبير، لم يكن شربل صديقي لكنه كان صديقاً لأفكاري، لم يرَ أي حرج بامتداحي وحين شكرته رفض الشكر وقال لي: "يا احمد اذا أردت ان تكون شاعراً متميزا فعليك ان تكون إنساناً متميزاً يقدر الإبداع ويحترمه مهما كان لونه او لغته..".
شربل بعيني هو خلطة إنسانية تتداخل بها كثافة المعنى مع الانحياز للمعطى الإبداعي مع التواضع والتواصل والتجدد متجرد من لغة الأطواق يدفع نفسه الى السمو بكل ما اوتي من قوة ادبية، كتب لبيروت وبغداد وعلي والمسيح، حين يعتلي منصات الشعر تجد ميخائيل نعيمة ينتفض من بين عروقه وحين يبحر بين امواج الهمس يذكرك بهمس البياتي واستصراخه لأزقة بغداد وشناشيل البصرة.
انه عميد أدبنا المهجري الاسترالي ليس بمنتجه الإبداعي فحسب بل بعطائه الانساني ورغبته المتمردة على كسر المألوف وخلق الجدل الذهني المتواصل بمختلف الأفكار الشعرية التي يحرص على طرحها بانتقائية وانحياز واضح لجمالية الفكرة وسمو المفهوم الأدبي، نتاجات شربل اللبنانية كانت عربية بامتياز ونتاجاته الفصيحة كانت لبنانية بتفرد، يُدخِلُ أبا نؤاس في ضواحي الشمال اللبناني وأروقة بيروت البحرية، ويخرج سعيد عقل وميخائيل نعيمة من ليال الف ليلة وليلة وسحر بغداد وغنجها العباسي الفريد..
ان الشعر في تجربة شربل بعيني وجع انساني غير منقطعٍ يتجاوز غلاف الازمنة ولا يقف عند سواتر الامكنة ، انه الضوء بكل ما يحمل من طاقة وإشعاع جمالي، والصوت بكل ما يحمل من هوسٍ على احتضان الصدى والانتشار في الفراغ.. انه الشاعر العربي اللبناني الاسترالي الكبير شربل بعيني.
اهدي هذه المقطوعة العراقية الصغيرة لهذه القامة الشعرية الفارعة تداعيات اغترابية:
دروبنا تقتلُ
وخطونا القاتلُ
نمشي على صخرةٍ
كأننا معولُ
نبدأ من فاصلٍ
لينتهي فاصلُ
نحملُ آمالنا
فيُرهقُ المحْمَلُ
نعيش في وحشةٍ
يغلي بِنَا مرجلُ
تسحقنا ارجلٌ
تتبعها ارجلُ
لا شيء إلا أنا
وانت يا شربلُ
وغربةٌ مرّةٌ
سكـُرها حنظلُ
إياك ان تنحني
فينحني السنبلُ
فَلَو هوت حبةُ
سيفرحُ المنجلُ
ولم يكتَفِ الياسري بذلكْ بل خصّه على صفحته بالفايس بوك بهذه العبارة التي تعتبر بحد ذاتها دراسة:
"شربل بعيني محطة من محطات الشعر العربي المهجري نفخر نحن الشعراء في استراليا اننا عاصرناه فهو امتداد منطقي لرواد الرابطة القلمية.
كما وصفه: "بالبحر الذي لا يمكن ان يهدأ فهو اكثر المبدعين قلقا وحركة حتى بين اسطر مقالاته".
ويسرني أن أختم بما بما قاله الأب الدكتور يوسف سعيد بكتاب "رسائل الأب يوسف سعيد الى شربل بعيني" المربد ـ بغداد 17-11-1987:
"شربل بعيني، يحبك كلماته كزنار مقتطع من قوس قزح. وحده يعرف كيف يصنع من ماء السواقي نسج السلسبيل والخرير. في المربد الثامن، أطلق عقيرته يناجي دماً، ويبارك شعراً. القصيدة التي قدمها بكل ما تملك في بواطنها من حمم أوقدت ناراً في صف الشعراء. بعيني.. أنت درّة نادرة الثمن، جاءتنا من لبنان وأستراليا".
من المعلوم عزيزي القارئ، أنّ أيّ مشهدٍ ثقافي بحاجة إلى وتدٍ يتوسط خيمته، أفليس لنا الحق نحن معشر كتّاب الكلمة وناشريها أو المشتغلين في الجمعيات والروابط الأدبيّة والحراك الثقافي في المنفى الأوزي (البعض أو الأغلبية)، أنّ ننتخب شربل وتدًا لخيمة الثقافة العربية وعميدًا لنا؟. سيّما وأنّ كبار الكتّاب والشعراء والأدباء العرب في مهجرنا وجدوا في منح شربل بعيني لقب عميد الأدب المهجري مطلبًا مُلحًا ومستحقًا.
ولئن نظرنا إلى الأسباب التي دفعتهم إلى هذا المطلب فأنني هنا أدفع إلى القارئ الأسباب الوجيهة، لأعلق كلمتي أيقونات واوسمة على سواري منجزه، بعد أن ايقظني الضمير على ضم صوتي إلى الآخرين في تفويضِ أديبٍ كبير رفيع الكلمة والخلق عميدًا لكلمتنا الاغترابيّة، اخفى قيمته في عباءة التواضع، سيّما وأننا نحيا في زمن بُتنا نصرخ فيه: يا أيها الأديب كن متواضعًا وخلوقًا".
- أصدر نحو 60 مؤلفًا من الكتب والدواوين في أستراليا [6].
- ساهمَ في التعريف عن الأدب المهجري الاسترالي في لبنان، العراق، سورية، مصر، اليمن، الكويت، الجزائر، أمريكا، السويد، لندن... من خلال ما كُتب عنه وعن أدبه ونشاطات رابطة احياء التراث العربي وعن مجلة ليلى وموقع الغربة في تلك البلدان.
- أَلَّفَ شربل وأخرج أكثر من 14 مسرحية للأطفال، أسموه بعدها برائد المسرح الطفولي العربي في أستراليا. وتجدر الإشارة أنَّ فنان العرب دريد لحام اشاد بجهوده يوم حضرَ إحدى مسرحياته في سيدني.
- يُزيّن أسمه مع نبذة عن حياته ومقتطفات من شعره معاجم عالميّة وعربيّة أهمها: معجم البابطين للشّعراء العرب المعاصرين/ الكويت، موسوعة الشّعر العامي اللبناني/ بيروت- لبنان.
إضافة الى الموسوعة الإنكليزيّة/ جامعة ديكن في ملبورن عن الأدباء الإثنيين في أستراليا.
- كتبه ترجمت الى عدة لغات عالميّة منها: الإنكليزيّة، الفرنسيّة، الإسبانيّة، الأورديّة، السريانيّة والفارسيّة، وهذا ما لم يحصل بهذا الكم لأيّ من أدبائنا وشّعرائنا العرب في مهجرنا هذا، وإن كان البعض منهم قد ترجمت نتاجاتهم إلى لغات غير العربيّة.
- توزع باسمه جائزة عالميّة [7] أوجدها الدكتور المرحوم عصام حدّاد وإدارة معهد الأبجديّة في مدينة جبيل اللبنانيّة.
- تبنّت وزارة التربية في ولاية NSW الأستراليّة مؤلفاته المدرسيّة، وعملت على طبعها، لا يزال العمل فيها إلى يومنا هذا في معظم المدارس العربيّة والأستراليّة.
- كُرّم كثيرًا، وحصل على جوائز أكثر، ولقب بألقاب لا حصر لها، آخرها اللقب الفخري الذي نحن بصدده الآن.
- كتبَ القصيدة المغناة للعديد من المطربين، نذكر منهم: هند جبران، ريما اليأس، وفاء صدقي، إسماعيل فاضل الذي غنى روائعه يا مصر، بغداد أنتِ حبيبتي، فافي.
- إن كانت نسبة غير قليلة تعزو المبادرة في إنفتاح المشهد الثقافي العراقي على المشهد اللبناني والعربي في سيدني والعكس بالعكس إلى الأب يوسف جزراوي، فأنّ كاتب هذه السطور لا ينكر بأنّ اليد الطولى في هذا الانفتاح تعود إلى شربل بعيني، عقب أن عرّفه على الكثير من الأدباء والشّعراء والمثقفين اللبنانيين والعرب، ليكونا "البعيني والجزراوي" الرئة التي تنفس منها الحراك الأدبي والثقافي بين الجاليتين بالوقت الراهن في هذا البلد العزيز، فلم يغب الشّعراء والأدباء اللبنانين والعرب عن كلّ الاحتفالات التي اقامتها مؤسسة العراقيّة وآفاق ورابطة البيّاتي وغيرهم، وكذلك كانت الحال مع المثقفين العراقيين.
- أصدرَ صحيفة ورقيّة "صوت الأرز" وأسس مجلة ورقيّة والكترونيّة عرفت بمجلة "ليلى"، ضرب انتشارها الآفاق؛ حتّى أنّ نسخها الورقيّة وقعت بأيدي الشعرّاء نزار القباني ويوسف السعيد، ولعلّ أجمل ما اصدرته هو العدد الخاص عن وفاة نزار قباني.
- وليس خفيًا على أحد، أنّ شربل هاجر من لبنان في سنّ المراهقة بسبب ديوان مراهقة، ولما عاد إلى لبنان عقب غربة قسريّة دامت ما يقرب من العشرين عامًا، راح يستقصي بعين الشاعر أحوال البلاد وناسها، مقارنًا بين الماضي والحاضر، ومستذكرًا أمكنة وأصدقاء وأقارب وأيامًا سوّداء وبيّضاء وحكايات الضيعة. عاد فوجدَ شهرته قد سبقته إلى هناك، إذ وصلت الحال إنه تفاجأ بجائزة عالميّة تحمل اسمه، تصدر عن معهد الابجديّة في لبنان. وأذكر أنه روى لي هذه الواقعة، اسجلها هنا فلكلِّ فرشٍ عرشٍ:
لما وقعت على مسامعه أحاديث عن شحة وصول نشاطات وفعاليات الجالية إلى لبنان، وانتبه إلى أنّ ثمّة أمرًا ضروريًا في حياته كان قد تغافل عنه، فطوى النفس على أمرٍ ما. ولما دارت السنوات بفصولها وشهورها، قرر افتتاح مؤسسة الغربة الإعلاميّة (موقع، تلفاز، راديو) اجرى خلالها العديد من المقابلات التلفزيونيّة لمعظم الشخصيات الأدبيّة المغتربة. البعض ساهم في تعريفهم، والبعض الآخر ليسوا بحاجة إلى تعريف، لأنهم أشهر من ان يتم التعريف بهم، لكن مع "الغربة" ازدادت شهرتهم بشكلٍ أوسع. مساهمًا في نقل فعاليات الجالية إلى لبنان وغيرها من البلدان، حتّى وصل الأمر بمؤسّسة الغربة الإعلاميّة أنّ تكون حاضرة في المغرب والنمسا.
- كما كان له الجهود الحثيثة في تأسيس رابطة أحياء التراث العربي مع غيره، وليس سرًا أن شربل كان له الثقل الأكبر في الرابطة في بداياتها، إذ ساهم مع الرابطة في استقطاب شخصيات أدبيّة وثقافية للقدوم إلى سيدني والمشاركة في فعاليات الأدب المهجري، كان اخرهم الشاعرة والأديبة المصريّة فاطمة ناعوت.
- وقد يكون هو أوّل شاعر عربي مناصفة مع الشاعر يحيى السماوي قد شاركا في المربد الشّعري العراقي في العراق، قادمين من أستراليا.
- تناول العديد من الأدباء على اختلاف مللهم ونحلهم وجنسياتهم رحلته مع اليراع، فنشروا عنه أكثر من 20 كتابًا، ما خلا 11 جزءًا من موسوعة شربل بعيني بأقلامهم.
عام 1993 نشر الأديب السوري الراحل نعمان حرب، صاحب سلسلة "قبسات من الأدب المهجري" مقالاً في جريدة الثقافة السورية وعلى صفحتها الأولى، نأخذ منه ما يلي:
"إنّني على صلة دائمة بأدباء وشعراء المهجر في كافّة أنحاء المعمورة، وأرى أن الشاعر شربل بعيني هو شاعر العصر في المغتربات، لا يوازيه أي أديب مهجري بغزارة الإنتاج الأدبي، ووضع مجهوده، وعبقريته، وماله، رهناً لإعلاء الأدب والفكر، وغرس الكلمة العربيّة في القلوب والنفوس، وبذل الذّات للحفاظ على ألق الحضارة العربيّة، وشدّ العلاقات والأواصر بين أبناء المغتربين وإخوتهم المقيمي".
الشاعر السوري مفيد نبزو فيقول في قصيدة كتبها عام 1988 ونشرها في ديوانه "شاعر أمتي شربل بعيني 2014":
"عرفتُهُ شاعراً.. غنَّى فأغنى
وهزَّ الأرضَ في شعرٍ متينِ
فَيَا أَمْواجُ هاتيهِ إِلَيْنا
وإلاَّ أَسرِعي ولَهُ خذيني
عروس الكرم قد تاقت إليهِ
تسائلني، أجاوبُها: دَعيني
أخافُ الشعر يُخجلُني فَهَيّا
أَعيني الشاعرَ المضنى أعيني
ولا تنسَيْ غداً، إِنْ عادَ، غَنِّي
فشاعرُ أُمَّتِي شربل بُعَيْني"
ومن سوريا أيضاً، أستشهد بعبارة للأديب محمد زهير الباشا صاحب كتاب "شربل بعيني ملاّح يبحث عن الله"، وجدتها في إحدى رسائله الى شربل، المنشورة في "الغربة":
".. فشعرك طاقة فنيّة ملهمة لا تلين أمام جبروت التسلّط، لأنك عشت وتعيش على درب الصفاء الثوري. فسيفك الشعري يخيف المتآمرين والمتخاذلين، وبريشة قصائدك تفضح المتحكمين برقاب الشعب".
وهل أجمل من التفاتة الشاعر السوري الدكتور اياد قحوش الى شربل في ديوانه الالكتروني "شربل بعيني شاعر الشعراء"، فلنقرأ ما كتب:
"وأنت يا شربل شاعر، ولكنك للأسف ذكي، فلا نقدر أن نجد هفوة لك مهما بحثنا. صلاتك الى أمنا فيروز مستجابة في سماء الشعراء لأنها شاعرة الغناء، ولأنك شاعر الشعراء".
ومن مصر أنتقي أبياتاً شعرية للمفتي الشيخ تاج الدين الهلالي، ألقاها في يوبيل شربل بعيني الفضي عام 1993:
"إنّ ذا يومٌ سعيد
هلا يا أحبّةَ عيني
إن ذا يومُ الوفاء
لك يا شربل بعيني
إن هنّأك الجمعُ مرّة
لأهنّأنَّكَ مرّتينِ".
بعده أنتقل الى الدكتور رفعت السعيد لأختار من بستانه هذه العبارة، التي يعلّق بها على منح المجلس القاري للجامعة اللبنانية الثقافية ـ فرع أميركا الشمالية لقب "امير الشعر في بلاد الانتشار" لشربل بعيني عام 2000 :
"لـم يضف المجلس القاري للجامعة الثقافيّة في العالـم أكثـر من أنّه اعترف بواقع واقعيّ، معترف به من جميع من يعرفون فضلك وإبداعك وشموخك".
ومن كتاب "حذار أن تصادق شربل بعيني 2014" للشاعرة فاطمة ناعوت، أختار:
"شربل بعيني شاعر وكفى! مبروك للمنصات عودتك، مبروك للعراقية والعراقيين كلماتك في آذانهم. فرحت بك الميكروفونات. وتعلّم منك الناس الشعر والكلم والحب. عش ألف عام".
أما الاعلامي اليمني أحمد الأشول فلقد كتب عام 1987 خلال وجوده في المربد العراقي هذه العبارة المنشورة في موسوعة "شربل بعيني بأقلامهم":
"شربل بعيني.. أثبت حقاً أن لونه الشعري يختلف ويتفرّد بميزة ما هنا في المربد".
ولكي ينفرد شاعر اليمن الأكبر محمد الشرفي بكلماته عن شربل بعيني نجده يجعل للقصائد أرجلاً كي تمشي، وعينين كي ترى، وأذنين كي تسمع، وهذه العبارات منشورة في كتاب "رسائل محمد الشرفي الى شربل بعيني":
"هل أقول إنك واحد ممن كنت أبحث عنهم في شعري، وأفتّش عنهم في زوايا الخيبة، وجفاف الأرض؟..
مثلك أيها الإنسان عملة نادرة، فأنت مبدع سلوكاً، ومبدع شعراً، ومبدع عملاً، وعلاقات مع الآخرين. لقد رأيت، وسمعت، وقرأت، فما أخطأت فيك عين، ولا خابت أذن، ولا كذبت قراءة.
وما كنت أحسب أن للقصائد قدمين تمشي بهما، وعينين ترى بهما، وأذنين تسمع بهما، حتى لقيتك".
عام 1988 أرسل الاستاذ المحاضر في جامعة تطوان ـ المغرب أحمد الطريبق أحمد رسالة أختار منها:
"إن الكتاب المرسل إليّ عن تجربتك، سيكون الجسر الروحي الذي سيربطني مع تجربة كل عربي في المهجر هنالك، هنالك في البعيد.
أما عن شخصك المرح، فقد افتقدناك في المربد التاسع، وهو مربد اللقاءات العربيّة على أيّ حال.. فيه من الشعر القليل، وفيه من الفوائد الكثير، وأهمها اللقاء الصادق الذي يربط بين الأدباء من أقصى الأرض إلى أدناها، ولا أدل على ذلك هذه الصداقة التي ربطتني وإياك، في صدفة من صدف الزمان".
ومن رسالة ابن السودان الدكتور تاج السر الحسن التي ارسلها إلى شربل عام 1987، أقتطف ما يلي:
"لـم أكن أصدّق عيني وأنا أتحدّث إلى واحد من أحفاد أساتذتي شعراء المهجر الكبار، حتى أتيح لي اللقاء بالشاعر الصديق شربل بعيني، فرأيت في وجهه البشوش طيبة أهل لبنان. وما أن قرأت قصيدته المربديّة، حتى أحسست فيها بصدق الشاعر، وأصالة التجربة".
أما البروفسور اليوغسلافي المستشرق رايد بوزوفيتش فلقد أدلى في المربد الشعري عام 1987 بهذه الشهادة: "شربل بعيني هو الشاعر الصارخ والمصارع من أجل الحقّ".
ومن تونس أستشهد بعبارة رائعة للأديب كمال العيادي المنشورة في كتاب "شربل بعيني الملك الأبيض" 2010:
"شكرا أيّها الملك الأبيض، وحارس حدود لبنان من نزق لبنان، أيّها الكاهن البديل، الذي يتربّع على عرش استراليا منذ عرفناه".
أحبتي القرّاء، من المؤكد أنّ كلمتي هذه عن الأستاذ شربل بعيني، ستقاس بمسطرة الإنحياز أو بمقياس المغالاة، على اعتبار أنّ كلّ تلميذ منحاز لأستاذه وكلّ صاحب يساند منجز صاحبه، لكنني حين أكتب، فإني أفعل هذا عن ضمير واتحدث عن اختبار وتجرد وموضوعيّة، إنطلاقًا من استحقاق شربل الذي كرس قلمه وأفنى عمره من أجل الأدب الأغترابي الأسترالي. وإن كنا نحيا في زمن كثر فيه المزورون والمدعون، لكنني على قناعة مطلقة أنّ الكثيرين يشيدون بجهوده ويقيمون خدماته ويثنون على أدبه ويحترمون قلعته الشّعريّة وهامته الإنسانيّة، خاصّة وأنّ البعض نشأ بين اسوارها. لهذا عكفت هنا على توثيق عادل ومنصف لوثيقة أدبيّة ثقافيّة تدعى شربل بعيني. ربّما هذا الطرح لا يهم القارئ، ولا يعود عليه بالنفع، فلن يلتفت إليه، لكني على قناعة أنّ الأيام ستمر ويصبح مادة تاريخيّة مهمة تستحق الإنتباه لها.
إنّ الجانب الشخصي للشّاعر شربل بعيني غاية في الجمال والرقي الإنساني، وعبقريّة أدبه فذة، فقد كان سّباقًا في نحت الإبداع الأدبي على صخرة المنفى. لذا فان الأدب العربي الأسترالي مدين لهذا الأديب الرائد المجدد، لأنه وضعه على الطرق الصحيحة دون أن يدعي ذلك، لأنه من طينة الزاهدين الذين لم يغرهم لمعان الذهب والدولار ولم يُبتلَ بمرض تكديسهما، ولم يعمِ بصيرته بريق الاضواء، ولم يقع في مطب العظمة أو الذاتيّة التي تجعل من صاحبها شخصية طاووسيّة لا ترى سواها، بل ظلَّ متواضعًا يحيا في صومعته البسيطة، يزهو بأدبه، زاهدًا ومتزهدًا عن متاع الدنيا. كريمًا يدرك كيف يُكرم الجميع، خاصّة الأصدقاء.
لم يمد يده لهذا وذاك مستجديًا المال والمجد والجوائز أو قراءة مقالاته أو كتبه كما يفعل أشباه الكُتّاب، بل بقي محتفظًا بقيمته التي أطلَّ بها بهالة لبنانيّة وموهبة أدبيّة ونزعة إنسانيّة واضحة.
إنّه شخص مُتأمل، له رؤية بعيدة ونظرة طويلة، يغلفهما دهاء أدبي. لا يتسرع في النقد، ولا يستسهل توجيه النصائح، غير أنه تسرع في نشر بعض مؤلفاته دون ان تختمر بشكلٍ جيد في فرن الزمن. ولعلّ جريمته الوحيدة هي رفضه دعوات للمشاركة في أكثر من مهرجان شّعري أكان في العراق [8] أو اليمن أو مصر أو تونس أو دبي أو الأردن.
لسانه لا يُصدّر إلّا كلمات المحبة والثناء، أما قلمه لا يعرف سوى التشجيع. لا ينظر إلى النقطة السوداء في اللوحة البيضاء، بل يحدق في النقطة البيضاء في اللوحة السوداء. لا يستهويه التهوين ولا التهويل، واقعي حتّى النخاع، منصف وموضوعي إلى حدٍ كبير.
وجَدَ في القول المأثور "اتقِ شرّ من أحسنت إليه" صدى بنسبة كبيرة في الوجوه التي عرفها، فمعظم من مدّ لهم يد العون وانتشلهم من واقعٍ مرير وعلمهم ما لا يعلمون وشرع لهم أبواب النجاح والإنتشار، تسلقوا على اكتافه بل قلّ على راسه كاللبلاب، ثمَّ انقلبوا عليه مفضلين مصالحهم في زمن الغدر والوصوليّة، زمن افتقدنا فيه النقاء ومبدأ الوفاء، البعض منهم عاد إلى جادة الوفاء والبعض الآخر لا يزال يجافي الحقيقة، لهذا لم ولن يتصور يومًا أنَّ السعادة تُبنى والخير يأتي على حساب الغير. فآثر الانعزال وقلة الاختلاط في السنوات الأخيرة، وأصبح فطنًا جدًا في إنتقاء الأصدقاء.
ونستشهد هنا بمقطع شّعري له، يؤكد صحة قولنا هذا، كان قد اثنى عليه (المقطع) المرحوم الشاعر عبد الوهاب البياتي في رسالته إلى شربل المؤرخة: مدريد 14/4/1988:
"سكران وحدي بغربتي سكران
ومسكّر بْوابي بوجّ الناس
بْحاكي كْراسي البيت والحيطان
وبْصير إتخانق أنا والكأس".
يقرف شربل التضليل، ويحارب النمطيّة والعبثيّة. يمقت الإزدواجيّة والمنافسات اللئيمة، يبغض البخل في كلّ شيء، تفرحه نجاحات الناس. ليس له ذات متضخمة، لا يُحدّث الناس بترفع ولا ينظر إلى زملائه من برج الـ أنا، لم ولن يدعي يومًا أنه أفضل من الآخرين.
آمن منذ مطلع شبابه أنَّ بناء الذات لا يأتي على انقاض الآخر، وأنَّ النجاحات لا تتحقق بالدهس على الآخرين أو بالتقليل من شأن منجزاتهم أو من خلال وخز خنجر الغدر في خاصرتهم، بل تتحقق معهم.
ولأننا شعوبٌ (باستثناء البعض) تمتدح الآخر في الوجه وفي الظهر تنتف ريشه، اعتادت أن تُصفق للمبدع بيدٍ واحدة، تجيد اجهاض الموهبة في احشاء اصحابها أو قتل الإبداع وهو في مهده!. إلّا أنّ الحياة عند إبن مجدليا رغم كلّ المتاعب والجلطات النفسية التي تعرض لها في رحلة الأدب التي ناهزت النصف قرن، لم تزل شجرة مثمرة طيبة، تهب ثمارها للناس، يرميه الناس بالحجر فيرميهم بيانع الثمر.
ولقد تبين لي من إحتكاكي ومتابعتي لسلوكه، أنّه ظل ثابتًا وصادقًا مع الذات والآخر في زمن سقط فيه الكثيرون، حتّى أنّ البعض غيّر مواقفه أكثر من مرّة، بعد أنّ سار في كلّ الطرق الملتوية ليقابل القبلات بالطعنات، والبعض الآخر فضل شهرة سهلة صنعها لنفسه، وفرتها له مواقف ذليلة، وسلوكيات مريضة، ينفر منها القريب والبعيد.
وليس من قبيل المغالاة إن قلت: إنّ المكتبة العربية لا سيّما في أستراليا كانت ستفتقد جزءًا من عشاقها لو لم يجذبهم إليها صاحبنا بمؤلفاته التي يقع في شباكها كلّ من يودّ تأمّل الحياة بواقعية ونظرة إنسانيّة ورؤيّة جماليّة.
خاتمة مطافي:
بعد كلّ هذا ألا يحق لشربل بعيني أن يحمل لقب "عميد الأدب المهجري في أستراليا"؟. وأعود إلى نقطة البداية: لكلّ خيمة وتد، ولكلّ أدب عميد.
فلِمَ لا يا شربل؟!.
إذ ان المسألة ليست في جوهرها لقبًا شرفيًا، لا يغني ولا يسمن أحدًا، بقدر ما هي تكريس لتلك الخبرة الأدبيّة الطويلة في توحيد كلمة ونشاط الأدب الإغترابي تحت مرجعية أدبيّة، فما المانع من أن تكون انت يا شربل قبطانًا لسفينة الأدب المهجري الأسترالي؟. فأنتَ كالفنار تهتدي به البواخر وهي تمخر عُباب البحار في خضمِّها.
عني أنا شخصيًا أجد شربل بعيني جديرًا بهذه (الرسالة - المسؤولية) ويستحقها قلبًا وقالبًا. وأنتم ما رأيكم؟. أترك الجواب لكم.
ليحفظه الرب القدير شّاعرًا إنسانيًا أوْلمَ على شرف الكلمة الحرّة البنّاءة موائدَ أدبيّة لا تحصى. وليستمر قلمه شجرة تتهدل منها الثمار الوافرة في بستان الكلمة وحقل الشّعر[9] .
ـــــــ
[1] تعود الآن صحيفة التلغراف إلى السيّد والي وهبة، ويرأس تحريرها الزميل الأستاذ أنطوان القزّي، وتصدر حسب علمي 5 ايام في الاسبوع، ما عدا يومي السبت والأحد.
[2] تغير أسمها إلى صحيفة " المستقبل"، وهي تعود إلى الزميل الإعلامي جوزيف خوري، وتصدر كلّ يوم اربعاء وسبت.
[3] حدثني أحدهم عن أنّ الروائي الأسترالي الكبير، صاحب الأصول اللبنانية ديفيد معلوف سبق شربل بهذا المضمار، وحين بحثت وتحققت وجدت أنه طبع أوّل رواياته المعنونة "جونو" في استراليا باللغة الإنكليزيّة عام 1975. إنّ إشارتي اعلاه عن كتابٍ كُتب وطبع باللغة العربية.
[4] قد لا يختلف المتابعون والمنصفون بأنّ حركة أدبيّة ثقافيّة عراقيّة توهجت في السنوات الأخيرة، أنعشت المشهد الثقافي الأغترابي في سيدني.
[5] رسالة مؤرخة من مدريد بتاريخ 29/9/1988.
[6] ربّما يعترض البعض ويقول: إنّ شربل بعيني شاعر كمي، عددي، ما كاد القارئ ينتهي من مطالعة كتاب له، حتّى أطلّ عليه بكتابٍ آخر. اوافقهم الرأي وأعطيهم شيئًا من الحق، ولكن من يتعرف إلى شربل ويواكب نتاجه، سيكتشف إنّه شاعر نوعي من طراز فريد، موهبته فياضة، تتولد القصيدة عنده بشكلٍ يومي، يمطر من سمائه الشعريّة دُرر الكلام. فكيف لا يكون غزير الانتاج؟!.
[7] يراد من مفهوم العالميّة، شيوعها ومنحها للمستحقين في أكثر من دولة وعلى شخصياتٍ متنوعة من جنسيات متعددة.
[8] في مهرجان المربد التاسع
[9] معظم المراجع اليوم تكون إلكترونية، وما على الباحث سوى وضع العنوان في محرك البحث "غوغل" ليصل الى المرجع، وهذا ما حصل في العديد من الاستشهادات في هذه الدراسة.
ابتسم "عنداري" ابتسامة من لا يدري وسكتنا. ثمَّ دار الحديث عن مواضيعَ أخرى. وحين هممت بالانصراف والعودة إلى ادارجي، حيث كنتُ أجلس مع مجموعة من أبناء بلدي في تلك الأمسية، لاحت منه التفاتة إليّ، وحدثني والابتسامة تعلو محياه قائلاً: "شربل من أعز الأصدقاء، قرأت مقالك عنه، أشعر أنَ شربل يستذكر همته وشبابه وغربته بك. جرب يا أبانا أن تكتب عن غربته، وكيف بدد وحشتها بالكلمة البيضاء".
وأردف قائلاً: "حاول فهذه اضافة ستحسب لك وله".
قلت له: لماذا؟.
أجاب: "كي لا ننسى".
حقيقةً لم أعر للأمر اهتمامًا يُذكر على مدار السنوات الماضية، إلى أن وقعت يدي قبل بضعة أيام وأنا اتنقل بين خزانة كتبي المبعثرة على دفترٍ للملاحظات، كنتُ قد دوّنت فيه محطاتٍ واحداثًا من حياتي في سيدني، وقد عثرت على هذه الذكرى مع الراحل بطرس عنداري!. فقلت في سري لِمَ لا، واستسلمت لرأيه، خاصّة وأنّ الكتابة تتزامن مع إصدار كتابي "شربل بعيني رسّام الكلمات". وكي لا ننسى، هأنذا اسطر بالكلمات حصيلة تسامري مع كتابات شربل.
قد لا أذيع جديدًا بقولي، إنّ الكلمة الشفويّة والمدونة كانت ولم تزل أداة تواصل وخلق بين الكاتب ومحيطه من جهة، وبين عالمه الداخلي والخارجي من جهة أخرى، وهي أيضًا جسرٌ بين المنفى والوطن، بل ترجمة لما يشاع في الاعماق من أفكار ومشاعر وخلجات. هكذا هي الحال مع شربل، فحين هاجر "إبن مجدليا[1]" إلى أستراليا واستوطن فيها، لم يحزم أمانيه في حقائب الهجرة وحسب، بل احضر معه موهبته وأدبه وشعره الزجلي[2] والعمودي. وكأي مغترب، نشأ لديه منذ أن حطَّ الرحال في أستراليا شعورٌ من الاغتراب عن هذه الأرض الجديدة، ربّما تناقص هذا الشعور مع مرّ السنين بواسطة الكلمة، لا سيّما بقدوم اهله إلى سيدني واشتغاله في المشهد الثقافي اللبناني والعربي.
عام 1971 هاجر شربل من لبنان حاملاً خيبته من وطنه. جاء الى سيدني تاركًا خلفه وطنًا اَلفَ الصراعات السياسيّة وشهد خليطًا مروعًا من الدماء والدموع. إنّها مأساة لبنان ويا لها من مأساة!.
في سيدني قدّم أوراق اعتماده إنسانيًا وأدبيًا بالشكل المطلوب، فلموهبته الشّعريّة اجنحة لا تحدها دواوين. وما بين لوعة الفراق عن الوطن الأمّ ودهشة الإكتشاف في المجتمع الجديد، شعر شربلنا بأنَّ لديه أفكارًا كثيرة يريد أن يراها على صفحات الصحف والكتب؛ في داخله ابداع، وأنّ القادم من عمره يحمل انجازات، فتفجر كالبركان، حتّى بات صوتًا شجيًا وكلمةً مؤثرة في الشعر المهجري لا يمكن القفز فوقهما. مع السنين بدأت رحلته مع النجوميّة والشهرة والإبداع، تاجرًا وأديبًا وشاعرًا ومحررًا في الصحف ومعلمًا للغة العربيّة. ولكن لهذه الرحلة قصّة.
إنّ الأديب السائح يختلف جذريًا عن الأديب المغترب، فالثاني يكتب بقلمٍ مغترب ممتلئ بالمشاعر السلبيّة كالعزلة والغربة والحنين إلى مسقط رأسه، أما الأوّل فيسطر قلمه مشاهدات بيضاء بعين السائح المكتشف، لينقل إلى أبناء وطنه ما لم يتسنَ لهم رؤيته. ولكن قصّة الأدب البعيني هي قصّة صراع شّاعر هاجر من بلده قسرًا بسبب الشّعر، أتخذ من الشّعر أحيانًا سلاحًا يهدف به تحرير بلاده من سطوة الساسة الجائرين، إذ قاد مقاومة شرسة أو حملة توعية إنْ صح القول ضد الحرب الأهلية في لبنان بواسطة اشعاره، فلا أجد غرابة في القول أنّ شربل كان شّاعر الصحوة الوطنيّة من سجن الاغتراب الأسترالي. وأحيانًا أخرى استشف من كتاباته كفاحه ضد تيارات الغربة وامواجها، يطفو فوقها بالتمرن على تقبّلها أو بمحاولة الاستعلاء عليها في قارب الشعر.
أفلستم معي إذا قلت: إنّ الكلمة حقل ألغام، ينجو كاتبها من حفرةٍ ليقع في غيرها، وما أن يستبشر انقشاع ظلام رقيب متملق لحاكم الوطن الأرعن، حتّى يغرق في مستنقع الرقيب الاجتماعي المتحفظ، سواءً في الوطن أو المهجر، الذي هو أشد حلكة، إلى أن تبعث كتاباته فينا مثل سوداويّة تُترجم وتؤرخ معاناته، على اعتبار أنّ الكلمة انعكاس لصاحبها، بل هي صدى لاعماقه أو وصفٌ للمشاعر الذاتيّة أو الجروح الشخصيّة، إن لم أقل رسالة توعية ونداء استغاثة؛ كاستغاثات السفن قبل الغرق!، فلغة الوعي هي أكثر اللغات بلاغة، وانين المنفى هو أشدّ الأصوات دويًا. لكن أدب شربل له ميزة أخرى هي لا محدوديته، أيّ انفلاته من قيود الزمان والمكان، فلم ينشر كتابات تُشيع مناخ الاحباط إلّا ما ندر، بل على العكس، وكأنه كالشمس المشرقة على القارئ بحرارتها اللسعة وضيائها البهي. كان ولم يزل شّاعرًا ذا قدرة بارعة على تقصي مشاهد الغربة اليوميّة والتقاط تفاصيلها ودقائقها بعدسة الكلمة، طارحًا الحلول للإفلات من شرنقتها.
كان حلم شربل في الوطن أن يكونَ محاميًا إلى جانب الشعر، وها هو بعد غربةٍ طويلة يعيش عَبرَ اشعاره المحاماة، من قارة تعلي من قيمة الإنسان؛ ففي رأيه أنّ الشّعر والمحاماة كلاهما يدافعان عن حقوق الإنسان ويهاجمان الظلم ويحققان العدالة. ولأن الشّعرّاء الكبار، لا يسعون إلى الكلمات فيستعينون بها، بل هي تتولد من قاموس المخيلة جلية واضحة، نراه استفرد في بعض قصائده وكتاباته ألفاظًا معدودة في وصف مساوىء الحالة في لبنان، والدفاع عن الإنسان الكوني في محكمة الشعر، وكأني به سار على خطى أبي النوّاس والاخطل الصغير ومظفر النواب ونزار قباني، لأنه نبَذَ سياسة تكميم الافواه، وقرَفَ لغة السلاح ورعونة الحُكّام وانهار الدم في لبنان والوطن العربي، فجاءت قصائده: "قرف" و "لعنة الله علينا" و"طفل البحر" كجرس انذار للحكومات، بمفردات يراها البعض من القرّاء والنقاد نابية، لعلّها تكون عاكسة لقساوة الحالة التي وصلت إليها الحياة في بلداننا المنكوبة بحكامها!.
بقلمٍ يرعد ويبرق من سماء سيدني على أرض لبنان كتب قصيدته مش رح صدق:
مش رح صدق
إنو بلادي صارت غابة،
وأنو شعبي تحول طابه.
وفي قصيدة "يمين ويسار"، يرسل رسالة إستغاثة مفادها:
أنا ما بفهم يمين
أنا ما بفهم يسار
أنا بفهم ان النار
لازم تتوقف مهما صار.
هكذا أجتهد شربل على مدار معرفتي به إن لم أقل على مدار سنوات عمره الأدبي الذي يقارب النصف قرن على التأكيد بأنّ رفض الآخر هو أصل كلّ المصائب، والحل يكمن في الحبّ، الذي يعرف كلّ النقائص ومع ذلك لا يزال يملك القدرة والشجاعة على العطاء دون مقابل. فنقرأ له بقلم الواعظ في أحد دواوينه العامية الصادر في سيدني ما يُرجح رأينا السابق:
خلينا بهالدنيي إخوه
نعيش ونحن متفقين
من محبتنا بتخلق قوّه.
إنّه الحُبّ، تلك الفضيلة التي أطلَّ بها شربل على الآخرين إنسانيًّا وأدبيًّا، من غربةٍ حمل ثقل ايامها الترحة والمرحة على كتفيه، دون أن تحني رأسه وقامته.
من المعروف إنّ معظم حملة الأقلام من الشعرّاء والكتّاب والأدباء والصحفيين وغيرهم من العرب والسريان في الشرق، قد ابتلوا بوَبَاء الفقر، واصابتهم معضلة أزليّة قد تبدو أبديّة وهي اضطهادهم من قبل حُكّام بلدانهم الأصليّة والموالين لهم في أجهزة الرقابة، ناهيك عن مقصّ المجتمع الحاد ومِنشَار العادات وسِكّين التقاليد، لأننا شعوب (ليس الجميع) تعارض الجديد والتجديد، تبني أحكامها على السمع والقيل والقال، يطيب لها التهويل والتأويل، دون اللجوء إلى تقصي الحقائق من كُتّابها أو عن طريق مبدأ التجربة والاستفسار، لهذا ترانا دائمًا نقع في فخّ الإنطباعات المسبقة ونقنع بالأحكَام السريعة التي تأتينا من هذا وذاك، فنشنق كُتّاب الكلمة وناطقيها على مقاصل الإنتقاد أو نصلبهم على جلجلة التقبيح، من دون التعكز على عامل الزمن، لأننا لا نُجيد اللعب بعنصري التّأنّي والاستيضاح، اللذان أصبحا في حدّ ذاتهما بُعدًا فاعلًا في غربلة ما يشاع وازالة الالتباس. لهذا أنّ لحمَّلة الأقلام غير التقليدين مُعاناة، إمّا بسبب طروحاتهم التقدميّة التي تجاوزت الخطوط الحمراء، أو جرّاء اقلامهم الباسقة كاشجارٍ مثمرةٍ بالكلمة الحرّة البنّاءة، ورغم كلّ ما ينتابهم من متاعب، نجدهم يصهلون كالفرسان في ميدان الكلمة.
وشربل على شاكلة ذلك الطراز، ففي وطنه والغربة عصفت به رياح تلك المعضلة، بسبب الشعر، لكنها لم تثنه منسحبًا.
وهنا أَوّد ان الفت النظر إلى حقيقة مؤداها، حين توسدتُ المنفى الأسترالي وعرفت شربل عن قربٍ في أسعد أوقات حياته وعاصرته في أقسى لحظات عمره أيضًا، رأيته واحدًا من أكثر من عرفت في حياتي تماسكًا في دوامة الوجود والقدرة على الشفاء من الانتكاسات وتخطي الصعاب وتجاوز الاحباطات وتعدي العقبات والتغلب على العراقيل ومقارعة أزمات الحياة القاسيّة، يملك رغبة صلبة في استمرار العطاء بِلا توقف، رغم شيوع المنافسات غير الشريفة ومؤامرات أعداء النجاح وغدر الغادرين في خندق الأدب وميدان الأيام!.
قوي الحجة واسع البرهان، يعرف كيف يرد على هجاء المنتقدين بتهكمات لاذعة ومنطقية، تصبح حديثًا للجالية في ليلةٍ وضحاها!.
وهنا وجب عليَّ الإستشهاد بقصيدته: "لا لم تمت"، لأدعم ما ذهبت إليه اعلاه:
فحّت بقربكَ ألسُنٌ مسمومةٌ
فلَجَمْتَ بالخُلُقِ الرفيعِ الألسُنا
وأذاقَك الحسّاد ظلماً موجعاً
فهَزَمْتَهم... وكشفتَ وجهَ المَلعنه
مرضى.. ولكن مَنْ يُداوي خبثَهُمْ؟
كفرتْ بهم شمسُ العقولِ المؤمنه
يتسابقُ المغرورُ نحو مناصبٍ
من كثرةِ الأطماعِ صارتْ مُنتنه
يعطيكَ سِناً..إنْ رفعتَ لِواءهُ
وإذا رفضتَ.. فمنه تأتي الشيطنه"[3].
لم يجنِ شربل من الأدب سوى المتاعب ومشقات الشهرة وهجاء بعض الزملاء، ولم يسعفه الشعر في تكديس خزانته بالأموال، بل استنزفه الأدب ماديًا وصحيًا ما فتح ورزق، جلّ ما فعله أَنفَقَ الأموال على طباعة أدبه، مع وضع "فلس الأرملة" في جيب هذا الشاعر وذلك الأديب لأجل نشر أدب مهجري مرموق.
كان يمكنه ان يعيش حياة أكثر هدوءًا وسلامًا، ولكن ذلك الجهبذ من جهابذة الشعر العربي الحديث، اختار دائمًا أنْ يكونَ صوتًا لمن لا صوت له، وأنْ يُعبِّر عن قناعاته حول موضوعات شائكة وشاقة بضميرٍ حي، مهما كان الثمن غاليًا والتكلفة باهظة. في قلمه مرآة نرى فيها زوايانا المظلمة وحماقات الوجود، يدافع عن الحقيقة والغايات النبيلة مهما كانت التضحيات. وفي ظني هنا تكمن رسالة الأديب والشاعر والصحفي الحقيقي، لأن الكلمة الصادقة ليست رداءً نرتديه حين نريد، ثمَّ نتخلى عنه حين نشاء، إنّما هي قضية حياة ومصل دم يجري في عروقنا.
وقد لا يغيب عن العارفين أنّ شربل بعيني منذ قدومه إلى بلاد الكنغر لم يتقاضَ دولارًا واحدًا من إِعانات الحكومة المُخصصة للاجئين الأجانب، سوى عندما بلغ سنّ التقاعد القانونيّة مؤخرًا[4]، فمنذ سنوات غربته الأوّلى طاله الثراء، ولكن ليس من الشعر!، بل من التجارة الحُرّة، فغربة شربل بعيني حسب ما دَوّنَ قلمه هي غربة التهميش وتسفيه الخيارات وقحط الإهتمام، فنقرأ له:
حياة الشعراء، وإن لبسوا الفرو الثمين، تظل محفوفة بالمخاطر، ومشبعة بالألم، فكم بالحري إذا لم يجدوا عملاً في مسقط رأسهم، ولم يتمكنوا من الهرب إلى وطن آخر يأويهم، مع العلم انهم يعيشون الغربة في وطنهم، فلسوف يلجأون إلى بيع كلّ ما يملكون، وهل يملك الفقير غير جسده، ليبيعه عضواً عضواً ... كي لا يبيع أطفاله"[5].
على ما يبدو أنّ الغربةَ في كتابات شربل لم تكن مجرد مشكلة عويصة يجب التعامل معها، بل تحدٍ لصنع الذات ورسم ملامحها بشكلٍ يبهر النظر ويرضي الضمير ويشرف البلاد التي لفظته على يد أشباح المكتب الثاني، فقد عبّرت كتاباته عن حقبةٍ مهمةٍ في تاريخ المجتمع الأسترالي الأغترابي، رافضًا أن تقفَ كلمته عارية لا هدف يحدوها، فكان الصوت الهادي في برية الجالِيَة وادغال الاغتراب. كما كتاباته فيها الحنين والتغني بوطنه، بعضها يوحي برفض الانسلاخ عن أرضه وبيئته، وبعضها الاخر يروي احساسه بالغربة الطويلة وادانة حمام الدم في لبنان.
كان شربل رمزًا بارزًا من رموز ثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين في المنفى الأوزي ولا يزال إلى أيامنا هذه بثقله الأدبي، وإن اصبح مُقلاً في النّشر بالصحف وفي حضور الأماسي الأدبيّة.
في تلك الأزمنة وهي الفترة التي بدأ فيها تبلور أدب مهجري اغترابي، كانت الجالية العربيّة الأستراليّة قد تحسست هويتها الثقافيّة الاغترابيّة بفضل الكثيرين، يُعدّ شربل من ابرزهم[6] ، وكأن ملامح الرابطة القلميّة أو العصبة الأندلسيّة في أمريكا بدأت تشق طريقها إلى أستراليا.
وقد يختلف أو يتفق معي القرّاء حول صحة الرأي الآتي، ولكني على يقين لا يتاخم الشك أنّ الأدباء والكتّاب والشعرّاء الأصلاء سيقفون معي على أرضيّةِ التوافق بما أقول: لقد اختلفت مهمة مُصدري الكلمة البنّاءة في هذه السنوات عمّا كانت عليه في العقود السابقة، أيام كانت الكلمة أكثر فعاليّةً وتأثيرًا في نشر القيم والأفكار ورفع سقف الوعي لدى الناس، ولعلّ هنا الاستطراد يسحبني إلى شاطئه لئلا تبقى الفكرة مبهمة غير واضحة فأقول: إنّ الكلمة أو الشّعر في جوهره لم يكن أداة تثقيف ولا مادة دراسيّة وحسب، وإنّ رسالة الشّاعر لا تنجلي فقط بمدحه فلانًا أو فلانًا أو تكريس مادته الشّعريّة لانتقاد هذا الحاكم وذاك، بل في خلقٍ ذاتي تسوده الشّاعريّة، قائم بذاته ولذاته. وصدى تدفق الشّاعر الشّعري بعفويته، مجسِّدًا بذلك خصوبة الخيال المتناثر على مساحات الرُؤى، لا هدف للشّاعر من وراء كتاباته ولا علاقة له بالقضايا الإجتماعيّة والشؤون السياسيّة، سوى ترجمة ما يختلج في الاعماق من مَشاعِر ولواعِج.
لقد سارَ من نحن بصدد الحديث عنه في ذلك المسار، بعد أن رنمَ الشّعر، دون أن انفي عنه تكريس تجربته الشّعريّة في مرحلةٍ ما للبوح عن وطنيته ولبنانيته من قارة تقع في اخر العالم، وكأنه يوّد القول: لا لم أنسَ لبنان، لبنان في الفكر والقلب وفي الاشعار والأحلام.
إنّ الوطنيّة عند شربل لا تقوم على تبني اعتبارات سياسيّة أو قوميّة أو انتماءات حزبيّة أو مذهبيّة، إنّما على علاقة الإنسان بارضه، حتّى وأن كان مُغتربًا أو مُغربًا عنها، فهو يؤمن أنّ من الضروري على الإنسان أن يعيشَ في وطنه أو خارجه متمسكًا بجذوره، منتميًا إلى تلك الأرض التي جُبل منها. ولعلَّ تمسكه بالجذور وبهويته اللبنانيّة يتجلى للقارئ باستخدامه مفردات عاميّة، "كالزعتر، كأس العرق، طق حنك، يا عيب الشوم"، فضلاً عن كتابة الشّعر باللهجة العاميّة (الزجل).
في ليلٍ أهيم وجدتُ شربلاً يلفه الحنين بعباءته المخمليّة مُلقيًا به إلى الأيام الخوالي، وباحاسيسٍ غريبةٍ يتصفح الأمس ويصافحه. عصيّ الدمع حين تتسكع به الذّاكرة في مجدليا وبيروت لحظة يروي أمام الاخرين ذكريات المراهقة، بيد أنّ دموعه العصيّة تفيض من مآقيه في لحظة خلوة، مع هذا أستشعر إنّ له في القلب دمعة تأبى أن تسيل!، لأن احلامه في الوطن كانت كسدٍ بُنيَّ على الرمل، وفي الغربة ابتدأ من جديد، صانعًا تاريخًا لنفسه ولأدبه وللجالية، وها هو اليوم عن الاضواء مبتعدًا لا يريد.
من هذا المنطلق امضي للقول أنَّ ذلك الشَاعر المغوار تسامى على الغربة من داخلها لا من خارجها، كعظام الفارس التي اختلطت بعظام حصانه، فقد ظلَّ لبنان حاضرًا لا يغيب، منقوشًا في ذاكرته، يُعايش الهمّ اللبناني من وراء البحار، يترقب أخبار بلاده النازفة تحت مخالب الحرب الاهليّة وصراع الاحزاب، المصلوبة على خشبة الساسة الفرقاء، لكنه لم يقف موقف المتفرج ولم يعتصم بحبل الصمت، بل امتشق قلمه، تارة يبلله بجراح المنفى، وتارة أخرى بنزيف الوطن المنحور على مذابح الأحزاب. الشاهد من الكلام: لقد نجح ساسة لبنان في طرد شربل من بلده، لكنهم فشلوا في اخراج لبنان من قلبه: فهو القائل:
بيروت يا بيروت يا مدينه
مزينه.... ومش ناقصه زينه
تنعشر سنة عم بحلمك بالليل
قولك أنا مكتوب ع جبيني
عيش عمري بالهجر والويل
اشرب دموعي وآكل سنيني
(من قصيدة قلبي وطن).
بعد أن قذفت به أمواج الشّعر إلى شواطئ المهجر، محاولةً أن تلفظه من مركب الحياة، نلقاه طوق النجاة للكثير من الغارقين في لجّة بحار الغربة!. وها هو اليوم لا يزال يأسر القلوب ويسبي الألباب، ويطرب الناس، يُذكي فيهم المحبة والجمال وأجمل صور الإنسان في الحياة والوطنيّة.
حين نظمت انامله أوّلى قصائده ونشرها في لبنان وهو بعمر الثالثة عشر:
زرعنا المجد
حد الارز اللبناني
صار الورد
بمرج السعد
يغني للحب غنائي.
لم يدر بخلد المتابعين له إنّ الغربة لم تمحُ حبّ ذلك المراهق للبنان، فها هو شّاعر الغربة الطويلة، بعد أن صافح العقد السابع من عمرٍ ارهقه الشّعر ولوعه الاغتراب، يناشد بيروت الحبيبة، قائلاً في ديوانه اوزان [7]:
بيروت يا بيروت لا تترددي
قولي أحُبّكَ كي يعانقني غدي
أمضيتُ عمري كالرياح مُشرداً
لكن وجهكِ كان دوماً مقصدي
منذ أحترفتُ النطق أنتِ قصيدتي
هيا أنشدي .... ما الشعر إن لم تنشدي؟
إنّي أحُبّكِ ... منذ أشرقَ مبسمي
كنتِ الغرام وكان حُبّكِ سيّدي.
قد تكون الغربة اعتقلته وابعدته عن مخالب الساسة في لبنان، لكنها لم تقوَ على كسر قلمه أو طَيَّ موهبته أو تضليل إبداعه، ولم تعقه عن عيش لبنانيته في أستراليا. فالاغتراب في حياة وكتابات شربل بعيني من وجهة نظري الشخصيّة كان لها الصدى الإيجابي عليه، بل هي أمر صحي، وأمر ضار في نفس الوقت.
صحي: لأنها فجرت طاقاته الإبداعيّة، سيّما بعد أن رفض أن يكونَ رقمًا عابرًا في معادلتها. إمتطى جواد الكلمة واستل القلم ليحارب قرفها.
ضار: لو كان شربل بقيمته وقامته الادبيّة العالية في لبنان، لكانت شهرته أوسع ومكانته أرفع، وذلك لسرعة الإنتشار وكثرة عدد القرّاء. وهذا ما كان قد أكّده له شاعر العرب الأكبر نزار قباني- عليه رحمة الله.
في الغربة الحالكة رافق شربل الكثير وساعد كلّ من طرق بابه، لكنه اختار أن يكونَ وحيدًا، مُحجمًا علاقاته الإجتماعيّة، غريبًا بين الغرباء. حياته تتقلب مثل سمكة ألقوا بها خارج المياه. في مطاوي سنواتها كَم مرّة ومرّة ناءَت عليه الأيام بوزرها وجثمت على كاهله كأنّها الجبال، ولما أشتدّت الحياة أمام ناظريَّه ودبَّ الخمول في ذهنهِ والكسل في همته وغُرست خناجر الغدر في جسدهِ حتّى انتفى فيه الحماس، طلبتُ إلى الرسول بولس أن يهمس في أذنيه آيته الرائعة البلاغة التي كتبها إلى أهل روما: "أرى أنّ آلام الزمن الحاضر لا تُعادل المجدَ الذي سيتجلّى فينا (8: 18). كما أنّي تضرعت إلى يسوع الحبيب حتّى يشرق في اعماقه ما وعَدَ به تلاميذه: "ستفرح قلوبكم وما من أحد يسلبكم هذا الفرح" (يوحنّا 16: 22). كانت حاله في مرحلةٍ ما عكس ما اراه اليوم، ولا سبيل إلى الإفصاح عنها.
ولا أعلم لماذا تتعكر صفوتي كلّما تذكرت شربل بعيني، ألانه يذكرني بمأساة المبدع في بلداننا الشرق أوسطيّة ومقارنته مع المبدعين في بلدان الغرب؟!. أم لأنه يوحي إليّ بقصّةِ شاعرٍ حبّرتها حروف غربته الطويلة؟، أم لأنه كسائر الأدباء، يقضّ مضجعه شعور عدم الإنتماء إلى هذا العالم؟.
فيا أيها السادة، يا ساسة العراق ولبنان وحكّام الشرق الأوسط المنكوب بمهازلكم، والمنكود باضحوكة الربيع الدموي، لقد تغربنا طويلاً وجاء وقت الالتفاف والاهتمام بالمثقفين من الشعرّاء والعلماء والأدباء والرياضيين والفنانين... وهم أحياء، لأنهم كفاءات لا تعوض. تلك نصيحة مجانيّة من كاهنٍ عراقي مخلص مُغترب، عاصر الكثير من المبدعين في منافيهم، بعد أن لفظتهم اوطانهم، يعرف جيدًا محنة الغربة، ويدرك حجم التهميش، وقدر المعاناة، وسيطرة المحسوبيات، وغياب الانصاف، وفقر الاهتمام بالمبدع سواءً في الوطن أو المهجر.
فيا ليتكم تتعظون وتميلون انظاركم إلى بلدان الغرب، لتشاهدوا كيف يُعامل المُبدع الغربي وهو حي، وكيف يُخلَّد عقب انتقاله إلى دار البقاء، فسرعان ما تقوم حكومته وبلده يتحويل منزله من دار إلى مزار!، لأن البلدان الغربيّة تفقه كيف تُقيّم مُبدعيها وهم على قيد الحياة، وتدرك كيف تُخلّد رموزها في كافة المجالات. فأين أنتم من كلّ هذا؟.
لقد أظهرت الغربة جليًا أنّ إبن مجدليا ينتمي إلى ذلك النمط العصامي من البشر، له طموح يعانق السماء، يبحث عن الجديد والتجديد دومًا، يقبل التحدي ويحفر في الصخر إذا اضطرته الأمور.
وعلى مدار سنوات تواجدي في سيدني اكتشفت أنَّ شربل له مريدوه من اللبنانيين والعراقيين والعرب والأستراليين وهم كُثُر والحمد لله ومن جميع المستويات الثقافيّة والاجتماعيّة. يشعر الجميع بتفرده الأدبي والأخلاقي وعمق كتاباته الخلاّقة.
ولأنّ العدل والتقييم ليسا من خصائص بلداننا الأصليّة ولا من مظاهر الوجود فيها. ولأننا وللأسف الشديد نتباكى على العقول المهاجرة والمواهب الضائعة بعد فوات الآوان، بُتنا لا ندرك قيمة ما اهملناه إلّا عندما نكتوي بنيران الخسارة والفقدان، أقول هذا وعيني موجهة صوب شربل، حيث لم ينل إلى الآن كلّ ما يستحق من بلده - لبنان، لكنني أظن وليس كلّ الظن إثم أنّ غربته أهلته للمضيء قدمًا برحلةٍ أدبيّة ثريّة وفريدة يصعب تكرارها، ففي يومٍ ما سيقال ويكتب في سجلات لبنان: إنّ شاعرًا لبنانيًا يدعى شربل بعيني عاش في بلاد الاقيانوس. وصدقوني أنّ أسمه ومنجزه لن يمران مرور الكرام، كما حصل مع جبران.
إنّني سعيت من الكتابة عن الشّاعر العربي المهجري شربل بعيني ومن استعراض عينات من شّعره، إلى أن ألفت الأنظار إلى شّاعرٍ رسم بالكلمة خارطة لبنان على وسادة المنفى. والإشارة إلى نوعيةٍ من اللبنانيين، يمثلون خير تمثيل وطنهم الأم في تكوينه الثقافي وتنوعه الحضاري وتعدده الديني وتاريخه العريق في المهجر الأسترالي، ولا عجب فغابات الارز وسهول مجدلّيا يقذفان بين حين وآخر ابداعات فريدة وشخصيّات متميزة.
ونحن ملّة الأدباء في المهجر الأسترالي من لبنان والعراق وسورية ومصر وفلسطين...سعداء وفخورين بمعاصرتنا شاعرًا لبنانيًا بقيمة شربل بعيني.
فألف شكر للمهجر الأسترالي لأنه جمعنا به.
تبقى في الختام نقطة لا أتحرج أن اثيرها: إنَّ بلدًا كلبنان ينتمي إليه أمثال الشّاعر الكبير شربل بعيني وغيره من الشخصيات الأدبيّة المرموقة، يجب أن يكونَ فخورًا متميزًا مرفوع الرأس لا ينكّس هامته أبدًا!.
وأزيد: إذا كان لا يجوز وضع النور تحت المكيال، فإنّه لا يجوز أن لا يلتفت لبنان إلى شربل وغيره من شّعراء المهجر، لأنه خرجَ من رحم تلك الأرض المباركة، شعره معمد بحبِّ لبنان، وقلمه مفعم بلهبات مجدليا، يشتعل ليضيء عتمات الدروب في الوطن والمهجر. ولأن لبنان بلدٌ معروف بأصالته وتاريخه وحضارته، لبنان الفضائل والقيم والمثل العليا والتعايش المشترك، لبنان الارز والفنّ والجمال والأدباء، فيا ليته لا ينسى المبدعين والمحبين من ابنائه المغتربين.
ولا غرو إنْ عممت حدسًا مفاده:
كما أقترن أسم لبنان بفيروز وصباح وماجدة الرومي ووديع الصافي والرحباني وجبران ونُعيمة وسعيد عقل، سيأتي يوم ويقترن لبنان باسم شاعر لبناني مغترب يدعى شربل بعيني، عزف ببراءة الطفل وجمال الزهرة ورقة النسيم على قيثارة الغربة الحان الأرز اللبنانيّة، مُرتلاً في صومعة الشّعر مزامير قصائده الأبديّة.
ويقيني أنّ عصافير الحُبّ الارجوانيّة ستشدو في الدّروب بين سيدني ومجدليا قصص ومضامين أشّعاره للإنسانيّة، مستعيرة فيه قول عمرو بن أبي ربيعة "وهل يخفى القمر"، لأنه تلك العلامة المضيئة في تاريخ أدبنا المهجري في أستراليا. وإنّ غدًا لناظره قريب.
أمد الله في عمره وعمرنا حتّى نعوض في صحبته ما ضاع منّا في بغداد وفي سنوات الغربة في الخارج وراء خدمة العباد على مذبح الكنيسة وهيكل الكلمة. متمنيًا له مواصلة العطاء وديمومة الإبداع.
ـــــــ
[1] لا أعلم لماذا يحلو لقلمي نعت الأستاذ شربل بهذا اللقب؟!.
[2] لا أخفي على القارئ بأنني لا أستسيغ كثيرًا شعر شربل الزجلي، ليس لأنني أفضّل الفصحى على العاميّة، بقدر ما يطربني شعره في الفصحى، إذ فيها تتجلى شاعريته وبراعته اللغوية بوضوح تام، فاللغة الفصحى لها نكهة خاصّة، تخاطب القارئ أو المستمع بشكلٍ صريح، تلامس وجدانه، وتصور حياته، وتعزف على أحاسيسه بنحوٍ دقيق.
[3] القيت هذه القصيدة تكريما لروح الشاعر العراقي عبد الوهاب البيّاتي في أمسية رابطة البيّاتي الثانية بتاريخ 22/9/2015، ثمَّ نشرها الشاعر في ديوانه "أوزان" 2016. ويتاخمني يقين لا يقبل الشك أنّ شاعرنا وجدَ في معاناة صديقه البيّاتي صورة طبق الأصل من معاناته.
[4] في الطائرة التي أقلتَهُ من بيروت إلى سيدني، قال له أحد الركاب:"يا بختك، سوف تجلس في البيت والحكومة الأستراليّة تتولّى شَأنَ معيشتك". ومنذ تلك اللحظة قطع شربل العهد على نفسه ألا يتقاضى راتبًا من الحكومة، سوى في حالة المرض أو التقاعد. وهكذا كانت الحال لما بلغ سنّ الـ 65.
[5] شربل بعيني: عندما يموت الشعراء، سيدني 2010، ص 16.
[6] كتبَ الراحل بطرس عنداري في صحيفة النهار، العدد 592، 26 ايار 1988 ما يدعم رأينا هذا:" يبقى أن نعود إلى الجد، ونقدّر تضحيات شربل الأدبية والمادية، واهتمامه بدفع الأدب إلى الامام، حتى ولو كان ذلك على حسابه الخاص".
[7] صدرَ هذا الديوان مطلع عام 2016 في سيدني، والاقتباسات هنا مقتطفة من الصفحات 6-8.
منذ عصور سحيقة والأدب السرياني هو النافذة الضوئيّة في ليل المعرفة الإنسانيّة، وقد لا يخفى عن أحد أنّ الأدب السرياني وحركات الترجمة لدى السريان قديمة كقدم التاريخ، لكنها نشطت في أزمنة كثيرة ولنا أسماء لامعة في هذا المجال نذكر منها على سبيل الذكر: مار افرام السرياني الملقب بـ (كنارة الروح)، حنين بن إسحق الطبيب والأديب السرياني، يعقوب السروجي، أبو الفرج عبد الله بن الطيب الكاهن والمترجم العلاّمة.
ومن المعاصرين: يونان هوزايا، بنيامين حدّاد عادل دنو، نزاز ديراني، أديب كوكا، نمرود صليوا، شاكر سيفو، زهير بهنام بردى...، وقد لا يختلف القرّاء على قولي: إنّ بغدادَ في عهد خلفاء بني العباس كانت ملتقى لمحبي الثقافة والعلم والحكمة، ومن يتتبع تاريخ تلك المرحلة سيرى أنّ كلّ شيء كان يبدو مهيّأ لافتتاح عهد حضاري جديد، فانفتحت الأبواب على مصراعيها أمام أصحاب الفكر والعلم والأدب وتمكنوا من الكشف عن مواهبهم وتطوير علومهم بفضل احتضان بعض خلفاء بني العباس لهم.
ويشهد التاريخ أيضًا بأنّ العالم اجمع مدين لبغداد التي اصبحت إبّان تلك الفترة أمّ الدنيا ومحط الانظار، فقد كانت جسر الصلة بين ثقافات عدة منها: اليونانيّة والسريانيّة والعربيّة، ولا عجب أنْ قلت إنّ الفضل في ترجمة الكتب الفلسفيّة والتاريخيّة والأدبيّة والطبيّة من اليونانيّة إلى السريانيّة ومن ثَمَّ إلى شقيقتها العربيّة يعود إلى الفلاسفة والأدباء والأطباء السريان.
وهنا نود تعميم حقيقة جليلة مفادها: إنَّ كلّ تقدم وازدهار حصل في تلك الفترة لهو بفضل الجهود الجبارة التي بذلت من قبل أبناء بغداد من علماء على اختلاف مللهم ونحلهم ومذاهبهم، وبشكلٍ خاص السريان منهم، وذلك خلال حُقبتين مرّت بهما بغداد في العهد العباسي، أكملت احداهما الأخرى:
الحقبة الأوّلى اشتهرت بعصر الغرس وبذر البذور.
أما الحقبة الثانية، فكانت للحصاد وجني الثمار. أقول هذا وعيني موجهة صوب الديراني في محاولته المعاصرة الخلاّقة ولكن بشكلٍ معكوس!، إذ من المعهود والمألوف أن تتم الترجمة من اليونانيّة أو السريانيّة إلى العربيّة، وليس من العربيّة إلى السريانيّة، وكأني وجدته يُجسّد شعريًا ترجمة مأساة لبنان التي سبقت كوارث بلد الرشيد ومنارة المجد التليد.
لقد بهرني الأمر وأدهشني حين علمت من صديقنا وأستاذنا الشاعر شربل بعيني عن مساعي صديقنا المشترك الأديب العراقي السرياني نزار حنّا الديراني، بترجمة بعض أشعاره من العربيّة إلى السريانيّة.
في عمرٍ مبكر عرف الديراني كيف يغرس جذور قصيدته في تربة الوطن، ويسقيها من الحياة. قصيدة بشَّرت بشاعرٍ قد وِلد وبرزت ملامح شاعر قد تمكن من ادواته.
ونزار الديراني لمَن لا يعرفه، هو أديب سرياني مرموق، عراقي الهوية، إنساني الجنسيّة. اسمه وصورته رافقا اسمي وصورتي في بعض المجلات والنشرات الصادرة في العراق إبّان دراستي اللاهوتيّة ومطلع رسالتي الكهنوتيّة.
ولا زلتُ أذكر أنّني ذات يوم استلمت هوية إنتماء إلى اتحاد الكتّاب والأدباء السريان في العراق برقم عضوية 41 مؤرخة في 15/8/2004 الصفة كاتب، تحمل توقيع نزار الديراني رئيس الإتحاد.
مضت سنوات طويلة على مغادرتي العراق وانقطاع وسائل الاتصال بيننا. مطلع عام 2015 عادت المراسلات بيننا بواسطة صديق مشترك وهو الشاعر اللبناني شربل بعيني، عسى أن تكون بداية عهد جديد لصداقتنا الأدبيّة والشخصيّة. ويطيب لي أنْ أدرج هنا مقتطفات من رسالة صغيرة أرسلها لي في الاونة الاخيرة، جاء فيها:
"الأب يوسف الجزيل الاحترام..
حين كنت في بغداد وقبولك عضوا في اتحادنا انقطعت اخبارك عني، في حينها سالت بعض الاباء ممن كانوا في دورتك، فعلمت انك مسافر، ولكن لم أدر ألى أين. أرجو أن تكون هذه فاتحة الاتصال بيننا . تحياتي واشواقي".
ولا اخفيكم سرًا في هذه العجالة: حين جاءني صوت الديراني عبر الهاتف شعرت أن صوتًا من عصر الثقافة وزمن الحلم الجميل قد دغدغ مسامعي، سيّما حين حدثني عن فاعلية عضويتي في الاتحاد المذكور وتكليفي بالتشاور مع الاديب العراقي السرياني عادل دنو لمناقشة السبل الانجع لفتح فرعٍ للاتحاد في أستراليا.
عرفتُ نزاراً عن طريق رسالة الأدب وميادين الكلمة، وتوطدت المعرفة بيننا بواسطة الأب سامر صوريشو الراهب، ومع كرّ الأيام وفرّها لمست في جعبته كلمة مرموقة كلّما كتبَ عن أدب أو عن أديب، لا يمشي في تبعية أحد، ولا يُفرض عليه موضوع. عرفتُه حرًا في اختيار الموضوعات التي يؤمن بها، يحلق بعفوية وقناعة وجرأة في سماء الشعر والأدب.
إنّه العراقي المتألم، يؤرقه حُبّ العراق، الكتابة متعته ووسيلته في اسعاد القارئ، يكتب عن الحياة، لأن الحياة تضج فيه وتدله على كتاباته.
أبصر الديراني النور في منطقة دير ابون- زاخو 1956، حاصل على بكلوريوس إدارة واقتصاد- الجامعة المستنصريّة / بغداد. عضو اتحاد الادباء والكتّاب السريان، عضو اتحاد ادباء العرب منذ عام 1985.
عضو جمعيات أدبيّة وثقافيّة عديدة، منها: عضو مكتب الثقافة السريانيّة في الاتحاد العام للادباء والكتّاب العراقيين، جمعية آشور بانيبال، رئيس اتحاد الأدباء والكتّاب السريان منذ عام 2003- 2010 وعلى مدى ثلاث دورات متتالية. نائب الأمين العام لاتحاد الأدباء والكتّاب في العراق منذ عام 2004- 2010.
كما عمل عضوًا في تحرير مجلة (قالا سوريايا، الأديب السرياني ومديرًا للتحرير، ربانوثا، الأديب العراقي). القى العديد من المحاضرات والندوات، واشترك في العديد من الاماسي الشعريّة داخل العراق وخارجه.
له عشرون مطبوعًا، يعدّ كتاب (شهيد من ديرابون) باكورة أعماله 1984، كما يعدّ كتاب (شربل بعيني ومعاناة الهجرة) اخر مطبوعاته الحالية 2015.
يهرب الديراني بشكلٍ متواتر إلى عزلته، بين جوانحه تتراقص كلماته، يمتشق القلم حين يجد دموعه تجري مع مداده، لتخط فوق القرطاس حكاية وطن يدعى العراق. ينسج في مهجره وغربته الاليمة داخل الوطن قصيدة الدهر على جبين الاتقياء، فهو يخشى أن يدخل الوطن في متاهات الذّاكرة ليصبح مجرد ذكرى.
لقد كتبتُ هُنا كلّ ما اعرفه عن الأستاذ نزار حنّا يوسف الديراني، الكاتب العراقي والشاعر السرياني والأديب الإنساني، إذ أنّني أحتار من أين آتيه وكيف أجازيه، لأنه وبِلا مغالاة أحد أشهر الأقلام السريانية في العالم.
أما الشاعر الكبير شربل بعيني فهو غني عن التعريف، إنه لبناني المولد، عراقي الدم، أسترالي الجنسية، ألتقى بالديراني في عروس الشرق بغداد عام 1987، التقيا وجهًا لوجه في المربد الشعري فابتدأ الودّ بينهما. ذلك هو الشاعر الإنسان الذي امتدحه كبار الشعراء بدءًا من نزار قباني، مرورًا بالبياتي والجواهري، وصولاً إلى الكبير يحيى السماوي الذي اطلق عليه لقب عميد الأدب المهجري في استراليا.
انقطع ودّ الإتصال بين الشاعرين منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي إلى قبل سنوات خلت، تجددت الصداقة بواسطة صديق ثالث وهو: د. موفق ساوا. وإذا بالديراني يفاجئ البعيني بكتابٍ جمع بين دفتيه إنتقاءات شعريّة، حيث انتقى الديراني جميع مراحل حياة الشاعر اللبناني شربل بعيني وقصته مع الوطن وقرفه من الغربة. وكأن قصائد البعيني كانت لسان حال الديراني في غربته عن بغداد. لقد كتبَ شربل ما بقي من ذكرياته مع المعاناة في ذاكرة الجسد ، أما نزار فقد برع في ترجمة تلك الذكريات، كيف لا. وهي ذكريات عمر اكلته الغربة، غربة بسبب ساسة بلداننا الذين يبدون كالملائكة وفي حقيقتهم ابالسة بهيئة بشر، يتغنون بالوطنية وهم عملاء، لا يملون من استعراض حرصهم على دمائنا وهم يتاجرون به في سوق الحروب!. والحال، إنّ ساسة الاوطان العربية يريدون لنا مزيدًا من الوجع والحزن، وكمًا أكبر من الخنوع والدما، أجل يودون جعلنا أرقامًا في معادلة الوطن، تستشهد رقمًا بعد رقمٍ، لنكون خبرًا عاجلاً على قنواتهم الإخبارية ليس إلّا!.
والآن أدفع للقارئ الكريم الأسباب التي حفزت الديراني للقيام بمحاولته الخلاّقة:
يقول الديراني :
"منذ مطلع السبعينات وحين استهوتني الساحة الثقافية وبالاخص الشعر، اطلعت على الكثير من الشعر العربي بدءا" من المعلقات فتلمست في حينها ان غالبية الشعراء المتميزين هم اللذين اطلعوا على الشعر العالمي اعني قصائد الشعوب الاخرى ، فبدأت اقرأ الكثير مما يترجم الى العربية وعلمت في حينها كم نحن بأمس الحاجة الى ان ترجمة ذلك الى لغتنا السريانية التي كانت يوما الجسر الذي يربط الشرق بالشرق والشرق بالغرب.. والتاريخ يشهد على المساحة التي احتلها السريان في علم الترجمة فكان هذا الشعور ينمو في داخلي، ولان بدايتي كانت كتابة الشعر العربي فسهل علي تذوق هذا الشعر وترجمته.
في الثمانينات حالفني الحظ ان التقي واصادق شاعرا لبنانيا قادما من استراليا في مهرجان المربد الذي كان ما يميزه وما يشجعنا المشاركة فيه هو التقاء شعراء من خارج العراق لنتعرف على تجربتهم الشعرية وخصوصا كنا نحن اغلبية شعراء العراق نعيش في قفص كبير ، ولم اكن ادري في حينها لماذا تميزت صداقتي مع الشاعر شربل بعيني اكثر من الاخرين علما انني كنت احاور واتعرف على العديد من الشعراء الاخرين من امريكا وكندا ومصر وتونس و...
وحين تناولنا اول كأس من مشروب العرق تمازجت عناصر الكتابة لدينا وتحول الشعور والدافع للكتابة الى جسر يربطنا وحتى بعد ان عاد الى وطنه الجديد استراليا، فتبادلنا مطبوعاتنا وكانت اول بادرة منه حين كتب في صحيفة استرالية بالعربية عن كتابي (الكيل الذهبي في الشعر السرياني) وحين قرأت قصائده عرفت السر الذي دفعني باتجاهه اكثر من غيره، وكيف لا يتمازج شعورنا ان كنا معاً نرى مصيرنا ومصير الانسانية في الشرق الاوسط واحد، وكلانا يتحدر من جذر عميق لالاف السنين لشجرة عملاقة تنتشر جذورها ما بين العراق ولبنان وسوريا وجزء من تركيا وبلاد فارس و... وكنت اعرف ما الذي يعني ان يحضر الشاعر جزءا من تراثه الى عصرنته فكان زميلي ينقل جزءا من هذا التراث من خلال لغة شعبية بسيطة كنت اتلمس فيها العديد من مفردات لغتي فاحسست برسالته التي يريد ان يلفت انظارنا بها الى جذورنا وهذا كان من بين العناصر التي جمعت معاناتنا رغم الاف الكيلومترات التي تفصلنا ...
وبسبب المأسي التي حلت بالعراق بعد مطلع التسعينات انقطعت اخبارنا ومراسلاتنا .... فبعد طبع ترجمتي الاولى (من الادب العربي الحديث) التي كانت تجمع بين دفتيها اسماء كبار الشعراء العرب من جيل السياب بادرت لترجمة قصائد لجيل ما بعدهم وكانت قصائد زميلي شربل تدغدغني ولكن بسبب الظروف التعيسة التي حلت بالعراق بعد الاحتلال الامريكي جعلتني اترك بيتي ومكتبتي ومسوداتي في بغداد واعيش الفصل الثاني من معاناة الغربة في قرية تقع في اقصى الشمال (المثلث الحدودي تركيا سوريا العراق ــ وهي مسقط راسي حيث كانت قبل ان تسلبها منا الحكومة بسبب التعريب اية من الجمال)، بعد ان عشت الفصل الاول من هذه المعاناة في بغداد وهذا ما كان يجمعني وزميلي شربل . لذا التجأت الى الانترنت لاستل بعض قصائده وخصوصا الجديدة منها فتلذذتها اكثر من السابق لاني وجدت في غربته الثانية (المهجر) جبلا من المعاناة فكان لي بمثابة مرآة كبيرة اجد فيها معاناتي الحالية والمستقبلية فترجمت بعضها في كتابي (من الشعر العربي الحديث)
ولكن طالما كان يعيش احدنا في الاخر ويتذوق مأساة الغربة حالفنا الحظ ان نلتقي من جديد ولكن في هذه الحالة من خلال الانترنت، فطلبت منه ان يرسل لي بعض قصائده لاترجمها بديوان مستقل، فمثلما اجد نفسي فيها هكذا سيجد القارئ من بني قومي نفسه فيها...
عندما كنت اقرأ قصيدته (ارزتنا) كنت اجدها وكأن شاعرنا يريد ان يقول عوضا عني ها هي رموزنا (الثور المجنح، اسد بابل، الجنائن المعلقة...) تئن وتختلج وتتنفس انفاسها الاخيرة وهذا ما حصل بفعل داعش وبسبب الهجرة والانقسام ففقدت ما كان يربطها بصلابة جذورها وارضها لذا ارتجفت امام الريح وكأن الشاعر قد رأى وتنبأ بمستقبل حضارتنا وتراثنا العريق.
وحين كنت اترجم قصيدته (رسالة الى فخامة الرئيس) كنت احس وكاني انا الذي يكتب الرسالة لا مترجم لها، فكل واحد منا يحتاج ان يكتب رسالة كهذه الى فخامة الرئيس على شرط ان لا يكون من بين الذين يصفهم الشاعر بانهم يَتَقَاذَفُونَ الشَّتائِمَ ، يَتَلَفَّظُونَ دَائِما بِحُرُوفِ الْكُرْهِ وَالتَّحْقِيرِ ، وكيف لي ان لا اجد نفسي في شعره وهو يقول ما يقوله ابناء شعبي وهم يتظاهرون ( بِلادُنا، فَخامَةَ الرَّئيسْ..بِحاجَةٍ إِلى قِدِّيسْ) وهذه رؤية ثانية . وكم نحن اليوم نتشوق لنقول لوطننا وحكومننا ما قاله الشاعر في قصيدته حب في لندن (قولي: أُحبُّكَ..) وهكذا حين كنت اترجم قصيدته دراجات امستردام تيقنت فعلا ما الذي جمعني واجتذبني الى الشاعر شربل بعيني في منتصف الثمانينات، حيث نتقاسم كلانا نفس الشعور فهو يكتب في المهجر قصيدته (دراجات امستردام) وانا اكتب في بلدي الذي اصبح هو الاخر مهجرا لي قصيدتي (مهدي) سوى انه استخدم مفردة الدراجة والدولاب كويسلة لحفظ ونقل حُبَيْباتِ الْعَرَقِ الْمُتَصَبّبَةِ من عرق جبين اجداده وهم يصنعون التاريخ في لبنان ،لِتُنْعِشَ بِها أَزْهارَ الْعاشِقيَن ساعاتِ الْجَفاف. اما انا فقد استخدمت المهد وعقرب الساعة لاعكس صور حبيبات الدم وصور السيف الذي كان يقطع رؤوس اجدادي ... وهكذا في بقية قصائده لذا حين كنت اترجم قصائده لم اجد نفسي غريبا عن شعره ولم احتاج الى قاموسٍ لانه لم يكن يصنع الكلمة بل ينحتها .."
- ما سطرته أنامل الزميل الديراني لم تشفِ غليلي ولم تروِ ظمإي، فعاودت الإستفسار بهذه الرسالة:
عزيزي استاذ نزار المحترم
لقد ايقنتُ من أجوبتك السابقة بأنَّ المعاناة المشتركة كانت سببًا دفعك للترجمة، أو بمعنى آخر انَّ معاناة شربلنا وهمه الوطني وهو يعيش لبنانيته من قارة تقبع في آخر العالم،، قاداه للحنين والتغني بوطنٍ هرب من ساسته وحكّامه إلى غربةٍ جعلته يتعلق بمرابع صباه أكثر من أيّ وقتٍ مضى، ولعلّه سبقكَ في ترجمة تلك المعاناة والمشاعر إلى صورٍ شعريّة وزجليّة. وكأني بك وجدته يُجسد شعريًا مأساة بلد الرشيد ومنارة المجد التليد. ولكن الّا يوجد بعد أدبي أو بلاغة صوريّة حفزتك لتخطو مثل هذه الخطوة؟ فربّما الكثير من الشعراء الشرق اوسطيين المغتربين كتبوا عن هول الازمات في بلدانهم ومعاناة غربتهم؟. فلماذا قصائد شربل بعيني تحديدًا؟. ما الذي وجدته في أدبه؟، فمثلا شاعر العرب الاكبر نزار القباني سبق تجربة عميد ادباء مهجرنا الاسترالي شربل بعيني بهذا المجال بقصيدته عنترة.
ودعني أكون اكثر وضوحًا: ما الذي عثرت عليه في أدبه ليكون مغايرًا ومتميزًا عن شعراء كتبوا عن التجربة ذاتها؟
فجاءني الجواب كالاتي:
عزيزي الأب يوسف الجزيل الاحترام
"أنا لم ادخل في التفاصيل، فما قلته يحمل بين طياته حداثة بمعنى الكلمة، فعندما قلت انه استخدم تعابير شعبية في قصائده هذا يعني انه مازج البعد الواقعي مع الرؤية المستقبلية، وهذه احدى معالم الحداثة في الشعر، فهي تشبه عملية استخدام القناع والاسطورة، وعندما اقول انسجامه مع معاناة الانسان فهذا يعني انه ارتقى لمرحلة اعلى من المدرسة الغنائية من ذوات الانا. وهكذا.. ترجمتي هذه لم تكن دراسة نقدية بل هي بداية الانجذاب، فعندما تجد لوحة تستهويك الصورة أولا لتقف ومن ثم تتأمل ...ما قصدته كان يشمل البعد الحداثوي في اللغة التي خلصها من كلاسيكيتها الممقوتة والشكل الذي اعطاه فضاءً واسعا ومضمونا جديدا واقعيا".
والحال بين العربية والسريانية كان تلاقح للروئ وتنقيح للأفكار بين شاعرين من العراق ولبنان، كلاهما لخص المأساة بطريقته الخاصة. إنّها محاولة رائعة آمل أن تلحق بها وتتبعها محاولات أخرى في المستقبل إن قيض لك الله الأمر.
في الختام أمضي للقول:
حقًا غريبة هي الغربة، تجعلنا نحّن لوطنٍ هربنا من جحيمه إلى قرفها؛ غربة تجعلك مزروعًا في كلّ فضاءات العالم؛ ولكن ماذا ينفع المرء لو انتشر في كلّ الأوطان وخسر وطنه! فيقيني أيها العزيزان الديراني والبعيني، أننا لم نخلق لنكون شتاتًا في الأرض ولم تلدنا أمهاتنا لنوقد شمعة عن روح الوطن في صومعة التشرد.
طوبى للعراق وللبنان اللذين انجباكما وهنيئًا للكلمة بكما. وشكرًا لمحبوبتي بغداد التي جمعتكما.
منذ نعومة اظافره وعنفوان مراهقته راحت عصافير الشّعر تنقر على زجاج شبّابيكه، لتهمس في أذنه:
ـ غرّد يا شربل فمساحة الحرية بِلا حدود.
بيد أنه أكتشف من دون سابق انذار أنّ الحدود قائمة، وأنّ المشتغلين في حقل الأدب أنهكتهم الحدود، فقد قطعوا اصابعهم وقالوا لهم أكتبوا كما تشاؤون. وشربل عاشق الحرية في بلدٍ لا حرية فيه، الشمس غاربة في نهاره والقمر متوارٍ في لياليه.
وكلّنا يعلم ما عاناه شربل، ومع ذلك أصبح منارةً سمقت في دنيا الأدب الأغترابي، لم يتوقف ليرد على عواء الذئاب الجائعة التي ارادت ايقاف مسيرته في مجال نهضة الأغتراب الأدبيّة، بل استمر كالانهار التي لا تلتفت للوراء، واعد لهم موائد عامرة وغنية من ثمار الكلمة.
سؤالٌ تطرحه الالسن كما تطرح الأرض الاتربة في الرياح: لماذا لم يتوقف شربل ويتراجع منسحبًا، رغم الطرق الوعرة ومخاطر الرحلة؟.
فأجيب: كثيرون يراوغون فيصلون إلى أهدافهم بطرق ملتوية كثيرة، وحدها البراءة تقول ما تعنيه، وتعني ما تُريد، وتريد ما تريد. لهذا ظلّ شربل "يتمخطر" في فضاءات الصمود، لأنه خبّاز الكلمة الحُرّة، عجن الحرف وخبز الكلمة وقدمهما خبزًا تأكله الناس على طبق الحرية، إيمانًا منه أنه لا بُدّ من يومٍ سيستنشق فيه إنسام القمم العالية. وعميدنا خلال رحلة أدبيّة قوامها نصف قرن أراد أن يبث لنا قناعة صريحة واضحة لا لُبس فيها: الحرية لا تُمنج بل تُخلق ونحن من نساهم في خلقها أو توسيعها، لأنها قرارٌ نتخذه بأن نكون أحرارًا وأن نحرر الغير، وهذا القرار يتشكل في النهاية من مساحات فرديّة، تشكل كلّ مساحة منها فُسحة تنويريّة للفرد لأن يمارس فاعليته وليعبر عن تمايزه وفرادته، وهذا ما صنعه صاحبنا. فهو مدمن على الشّعر، لم ولن تقوى جميع المصحات العالمية من علاجه، وكأنه يقول للشّعر: أنتَ موطني الذي هجرت كلّ العالم لأسكنه.
إنّ المتأمّل في أدب شربل بعيني يلحظ إنه بدا كشاعرٍ بكتاباتٍ فرديّة، لكن مع الزمن أدرك أنّه كلٌّ للكل بفضل الشّعر، لهذا فتحه الشّعر على الجميع، فلم يقتصر شّعره على لبنان، بل تغنى بالكثير من العواصم العربية، تقبع في طليعتهم بيروت وبغداد، وتصدى لموضوعات، كأمراض الجالية، الثرثرة في الندوات الأدبيّة، مظلومية المرأة الشرقيّة، المصلوبين على جلجلة الحياة، محنة الفكر الشرقي، الخيانة، العائلة، الحبّ، والأنكى من ذلك تجد ظاهرة إنسانيّة عالية في كتاباته تتمثل بوقوفه دائمًا إلى جانب الذين لا يجارون الموضة ولا يسيرون في ركابها العالية.
عاش شربل في حياته دوريْ الضحية والجلاد، فهو ضحية الساسة في بلده الأم وضحية منافسيه، وضحية طيبته، وضحية الشهرة، غير أنه ظلَّ ملتزماً برسالته لا يحيد عنها، لم تمنعه قلاع ولا سواتر ولم تصده موانع ولم تردعه روادع أو مخاوف، ولم تتراجع عزيمته أو يفرط في قضيته.
لكنه جلاد!. ستقولون كيف؟. فأجيبكم: في كلّ مجتمع ضحايا، وكلّ مجتمع له معذبوه، جلد شربل بكلمته ممارسات خاطئة بحق الإنسان، سواء صدرت من المجتمع أو الحكومات، أو كلّ من تسول له نفسه العبث في قيمة الآخرين.
سعى خبّاز الكلمة إلى رفع منسوب المحبة والمصالحة بين الأطراف المتقاطعة ثقافيًا وبالتالي خدمة الوحدة اللبنانية وتعميق جذور التآخي بين أبناء وطنه في مهجره. وهنا لستُ بحاجةٍ إلى مثالٍ لأنني أسوق للقارئ حقائقَ لا تحتاج إلى شرحٍ أو إيضاح.
وإذا كان شربل صوت الجالية نرى أن ربيعه يمتد ليكون مرآتها، فقد اتخذ قرارًا ليؤرخ الحياة الأدبيّة في أستراليا عَبرَ بوابة الغربة، فلا تفوته شاردة أو واردة إلا ونشرها، ينشر نشاطات الجميع، حتّى لو لم يكن حاضرًا أو مدعوًا في تلك النشاطات، فاستحق أن يكون صوتًا نافذًا في أدب المنفى الأوزي أو حارسًا لذاكرة الأدب الأغترابي إن صح القول، بيد أنّ الأمر لم يشغله عن "أسطرة أدبه"، أي جعله أسطورة، ذات القيمة الإبداعيّة، وتوثيق كلّ ما كتب وقيل عنه.
يسيل لعابي إزاء أيّ عملٍ فيه إبداع، لكن دموعي تسيل في الخفاء ويتفطر قلبي حينما أعرف شيئًا عن حياة المبدع وما تكبده من سهر وتفكير لكي ينتج لنا منجزه الإبداعي الذي أمتعني واستمتع به الكثيرون. ولكن، أتعلمون أنّ المبدع لم يستمتع غالبًا بحياته ولا بأوقاته. وصدقوني وحده المبدع غريب عن هذا العالم، لأنه يشعر بعدم الإنتماء له، فمن يعرف ويدرك أكثر تلقاه يحزن ويعاني أكثر، فللمعرفة والوعي ضريبتهما. هذا هو حال المبدعين والمفكرين والأدباء والشّعراء والمصلحين الخلاّقين الذين اضفوا شيئًا مميزًا على الوجود وبصموا بصمتهم في جبين الحياة وصنعوا التاريخ. وشربل دون أيّة مغالاة واحدٌ من هؤلاءِ، بعد أن أشعل شمعة حياته من طرفيها وأكتوى بنار الإبداع والعطاء، فاحترقت حياته بالمعاناة والإحساس بعدم الرضا عمّا ينتج، والترقب المستمر والتفكير المتواصل.
ختامًا:
ما أجمل أن يكون للإنسان قضيةَ حياة يحيا في سبيلها، لا يساوم أو يجامل على حسابها، قضية يصوغ منها قصّة حياته في رحلة الوجود الأرضي القصيرة.
لهذا أؤمن بشيء: إنّ قيمة المرء تكمن في أمورٍ عدة، أهمها: أن يكون ذا قضية ومبدأ ورسالة، ومتى كان فيه كلّ هذا سيغدو مُميزًا ومتميزًا، وبقدر ما يكون المرء صادقًا وأمينًا في عيش رسالته وقضيته بقدر ذلك سيحقق مشروعه ويحقق ذاته ويطبع أثره في النفوس وينقش أسمه في لوح الخلود: وما الخلود، سِوى إنّكَ تعيش في الوجودِ وتمرُّ في حياةِ الآخرين في زمانِ ومكانِ وواقعِ حياة، فتترك أثرًا فعّالاً وإيجابيًا، وبقدر ما يكون حجمُ وعمقُ وكثافةُ أثركِ الايجابي، بقدَرِ ذلك سيكون حجمُ خلودِكَ، أثرًا يجعلك حيًا فيه. وبذلك ستكون قد بلغتَ أوجَ عظمةِ حياةٍ مُتساميةٍ تجعلكَ في خلودٍ أبدي[1].
وشربل كانت ولم تزل قضيته الشّعر والأدب، لم يتخلَ عنها، بل حققها بنجاحٍ يشهد له الجميع. فالحياة في مفهومه رسالة تتضمن مرحلةُ إبداعٍ، خدمةٍ، وجودٍ فعّال، عسى ألّا نجعلَها مرحلةً عابِرة، بل كشفاً واكتشافاً وتعمّقاً وهدفاً وقيمةٌ كبرى، تكون بدايةَ خلودٍ أبدي، كُلّنا مدعوون لها.
عزيزي القارئ، ربّما سيقول لك الكثيرون، ويحاولون غسل دماغك، بإنّك ستدفع ثمنًا باهظًا، وستجعل من حياتك صراعًا مستمرًا، بل سيحثونك على التمتع بالحياة، مطبقين عليك المثل العراقي المعروف: "ألبس الكبع وألحق الربع".
فأجيب:
من الصعب جدًا، بل متعبة حياة على هذه الشاكلة، ومغامرة شاقة لمن يريد السباحة عكس التيار لئلا يكون رقمًا عابرًا في معادلة الوجود، ومرهقة هي الأيام لمن يبغي الإصلاح والتنوير. والأصعب لمن يعرض ذاته لرياح شديدة تهب عليه من كلّ الجهات لتصده وتوقف فيه مسيرة الكلمة ومبادئ الحبّ ورسالة التنوير ونحر كلمته الوضاءة في زمن الحرية. وما الكلمة سوى الإنسان بعينه وانعكاس له، بل هي صدى أعماق، يقولها لذاته وللآخرين، مُجسّدًا في كلمته المنطوقة والمكتوبة حبًّا وإيمانًا وقناعة ووضوحًا وخدمة وخلودًا، يقولها أو يكتبها سعيًا وراء هدف نبيل، سيّما إذا كان الإنسان، المُجتمع، الوطن، الثقافة، لأن الصمت شنق للذات ونحر للآخر.
إنسان على هذه الشاكلة حتمًا سيكون طعامًا للكثيرين، ولكن طوبى بل هنيئًا لمن يطعم الجياع. وشربل اطعم الكثيرين من موائد أدبه، فألف شكر لك يا خبّاز الكلمة في فرن الأدب الأغترابي.
وليس أجمل من أن أنهي كتابي هذا بمقطفات من مقالات كثيرة كتبتها، كان اسم شربل بعيني يمر فيها كنور الشمس من نافذة منزلي البغدادي، لتدركوا مدى إعجابي برسّام الكلمات صديقاً وأديباً.
وإليكم ما حصدت من أرشيفي:
في تلك اللقاءات وجدتُ صاحبًا لا يحتكر الحقيقة والصواب، لا يقلل من شأن أحد، لا يتحلى بشخصيّةٍ طاوسيّة، ولا يتكلم عن نفسه أو عن موهبته الراقيّة، لانه الرقي بعينه. ليست له ذات متورمة متضخمة لا ترى سواها، بل على العكس، فهو يحاكم نفسه في محكمة الضمير. يتحاور مع الاخرين بصوتٍ مُنخفضٍ وبلغة تواضع الكبار. والحال أنّ الاستاذ شربل بعيني كان كالعادة صادقًا في تقييمه.
ذات يوم كان الأستاذ شربل بعيني مُنهمكًا بتنقيح كتابي" المبدعون غرباء عن هذا العالم"، فطلبت منه طامعًا بسخائه أنْ يتفضّل عليَّ وينقح كتابي الاخر، لكنه أعتذر بلطفٍ وشفافيةٍ لضعف بصره وعدم قدرته على القراءة الطويلة، وأسدى لي النصيحة بالإتصال بالأستاذ أنطوان قزي رئيس تحرير صحيفة التلغراف الأستراليّة، لأنه أديب قدير ولغوي ضليع. وقد اخذت بتلك النصيحة واتصلت به وعرّفته بنفسي وعرضت الأمر عليه، فأبدى الرّجل موافقته وتحمسه. ولكن يا فرحة ما تمت!، فالمدة الزمنية التي حددتها لمراجعة الكتاب لم تسعف أبا ناجي يومها.
مضت الشهور، وإذ بصديقنا الأستاذ موفق ساوا رئيس تحرير صحيفة العراقيّة الأستراليّة يبادرني بفكرة زيارة الأستاذ قزي في مقرّ صحيفة التلغراف لغرض منحه دعوة التكريم في مهرجانٍ رعته مؤسّسة العراقيّة للثقافة والإعلام والفنون، كنتُ أنا والقزي من ضمن المُكرمين.
استقبلنا السيّد أنطوني والحق يقال بحفاوةٍ بالغةٍ وترحابٍ كبير، وقد التقط لي يومها بعض الصور الشخصيّة في مكتبه، ومن ثمَّ نَشَرَها في صحيفته المذكورة، مرفقة بغلاف كتاب "المبدعون غرباء..."، فكنتُ له ولكرمه شاكرًا.
مع الأيام ربطتني به صلة إنسانيّة طيبة، وجمعتني وإياه صداقة أدبيّة على مرّ السنوات الماضية، وايقنت فيما بعد، يوم اشرف على التنقيح اللغوي لكتابيّ (أفكار وتأمّلات من تُراب) و(أحاديث قلمٍ في مرايا الذات والمجتمع) أنّه انسان مجتهد، المّ باطراف اللغة العربية وبرع فيها بجدارة، وأدركت أنَّ الاستاذ شربل بعيني وجهني كالعادة نحو الشخص المناسب والمُنقح الأمين.
تلوح في ذّاكرتي نبُل مواقفه التي لا أنساها، فيوم أقيم حفلٌ كبيرٌ لتكريم ذلك الشيخ الجليل بتاريخ 29/1/2012 بمناسبة اطلاق كتابيه:" الحُبّ هو الدواء" و" ذكريات العمر اللي فات"، شرفني الرّجل لكي أكونَ مُتحدثًا فيه وسط حشدٍ رفيع من المثقفين والأدباء المصريين والعرب، فوجدتها مناسبة مؤاتية لكي أتحدث عن دوره البارز في الثقافة المصرية والمشهد الصحافي العربي في سيدني بدقائق معدودة لاقت استحسان الحضور، واذكر يومها كيف نهض العملاق الكبير بطرس عنداري رحمه الله من مقعده؛ حيث كان يُجالسني رفقة الدكتور موفق ساوا والأستاذ شربل بعيني وشقيقه جوزيف، ليهنئني على كلمتي وسلاسة المفردات وسلامة اللغة، فشكرته، وابلغته بأنّ الفضل يعود إلى أستاذي الجليل شربل بعيني الذي يُصحح اخطائي اللغوية. ولعلّي لا أكون واهمًا إنْ قلت: يُخالجني شعور بأنّ ذلك التشريف الذي مَنّ به عليّ الأستاذ أنطوني جاء بالتشاور مع صديق غربته شربل بعيني.
نَشَرَ "العم ولسن" أوّل مؤلفاته عام 1993، بتشجيع من والدة صديق غربته الطويلة الشاعر شربل بعيني؛ فتلك المرأة التي توفاها الله برائحة القداسة على ما يبدو لم يكن لها اليد الطولى في نجاحات ولدها التي تصلي له من السماء وحسب، بل كان لأبن ولسن من فضائلها نصيب، إذ أصرت يومذاك وألحت عليه وشجعته على النشر، ونزولاً لطلبها انجز العم ولسن مع مرور الشهور "ميثاق الشيطان"، وهو كتاب قصصي، صدر عن دار عصام حدّاد في بيروت، الذي يعتبر أوّل كتاب قصصي يصدر لمصري خارج مصر. الكتاب في الأصل نص مسرحي كُتب في القاهرة في زمن تزامن مع اصدار الرئيس الأسبق لمصر السيّد جمال عبد الناصر ميثاق الجمهورية.
وأحفظ له جميلاً اخر لن انساه أبدًا يوم سطر تعليقًا حول مقابلتي في تلفزيون الغربة الاسترالي؛ فكتب في 2 ابريل 2012 : "أبونا الأديب يوسف جزراوي السامي الإحترام .. تحية ومحبة المسيح لكم. كم سعدت بهذا اللقاء الروحي، الأدبي، والإنساني .
أبونا يوسف إنه لشرف عظيم لأبناء الجاليات العربية عامة والعراقية خاصة بوجودكم معنا في أستراليا .الرب يبارك أعمالكم. والكلمة هو الباقي (والكلمة صار جسدا وحل بيننا). ونحن من يؤمن بخلود الكلمة في كتاب نتركه لمن يأتي بعدنا وليكون الكتاب كاتم سر تاريخ أحداث وأفكار الحقبة التي عاشها وتعايشها صاحب الكتاب ومؤلفه وكاتبه. يقولون لقد طغى الإنترنت على قراءة الكتب.. وأقول لا ما زال الكاتب والكتاب وسيظلان إلى الأبد الشعاع الذي ينير البشرية ويأخذها إلى الإرتقاء والتقدم . وما نقرأه على الإنترنت ما هو إلا نتاج كاتب ووضع في كتاب عيبه الوحيد أنه غير متكامل للكاتب الواحد. لكنه "الإنترنت" حافظ لما نكتب وينشر على صفحاته ويمكن للكاتب أن يعود إليه لجمع ما سبق ونشره ويصدر به كتابا . أبونا يوسف جزراوي شكرا لكم على إصداركم الجديد ونحن في إنتظار توقيعه .شربل بعيني شكرا لكم على هذا اللقاء الأدبي المميز".
على اوجاع لبنان
أخيرًا.... أتعلم يا سركيس أنّني أقرأ للكثيرين من اللبنانيين في المهجر الأسترالي بدءًا من كبيرهم شربل بعيني وصولاً إلى إبن زغرتا البار سركيس كرم.
تحية إليك وإلى كلّ الشرفاء في لبنان والعراق وأستراليا، تلك البلدان المعطاءة. فأنتَ الكاتب الإنسان، الذي له في قلبي منزلة كبيرة.
زينت لوحاتها ورسوماتها أغلفة العديد من الكتب منها للأديب المصري أنطوني ولسن، الصحافيّ والكاتب الفلسطيني هاني الترك، الأديب اللبناني شربل بعيني، وكاتب هذه السطور وغيرهم.
**
كلمة ألقيت في تكريم الشاعر مروان كسّاب بمناسبة توقيع ديوانه "دموع الخريف"/ سيدني 2015
"مُنذُ أسرجَ الليلُ نجومهُ، ايقظتهُ الغربةُ على اوجاعِ لبنان.
في دموعِ الخريف، مأساةُ وطنٍ في قلبِ إنسان، رسمَها قلمُ قاضٍ كالفنان.
جعلَ للربيعِ ابتسامةً، بانيًا للخوف مذوذًا، مُشيدًا للكلمةِ الحرة الجميلةِ قلاعًا.
لأجلِ صباحاتٍ مُشرقة. علّق الحبرُ أقلامهُ في سَقفِ الليل، فكانت ومضاتُ قلمهِ قناديلَ، تنثرُ اضواءَ النجومْ، في ليلٍ دامس.
إمتطى جوادَ الشعرِ، واستلَ سيفَ القانونِ، تاركًا ابجديته تبوحُ بدموعِ شاعرٍ، غدا صوتًا صارخًا في بريةِ الشعر ِالمهجري.
من سيدني إلى لبنان، انسابت دموعُ شاعرٍ كسّاب. وهأنذا ورابطةُ البيّاتي للشعرِ والثقافةِ والأدبِ، أتيناكَ من أرضِ العراق، من حضرةِ أبي نؤاس والسياب والمتنبي والبياتي، نكففُ الدموع، ونُكرمُ شاعرًا من حضارةِ لبنان، من طينةِ نُعيمة والخوري والقزي والبعيني (2) وجبران.
أتيتُكَ اليومَ يا كسّاب كنهرٍ مُنسّاب. حتّى نلتقي لأشبك يدي في يديكَ، لا هنا بل في بغداد الشعرِ والصورِ والمعلقات، وأُزين صدركَ ثانيةً بقلادةِ إبداعٍ على ضفافِ فُراتْ الحضارات. ألف مبروك التكريم".
الدكتور موفق ساوا تسكنه فضاءات المسرح
ولقد توطدت علاقتي به بشكلٍ كبير إلى حدٍ كنا نلتقي كلّ اسبوع تقريبًا أثناء التحضيرات الأوّليّة لمهرجان العراقيّة ومعنا مجموعة من الأصدقاء، اذكر منهم الأديب شربل بعيني، الكابتن سعدي توما، الاستاذة هيفاء متي والشاعر احمد الياسري.
وعندما منحته رابطة البيّاتي جائزة القصيدة العاموديّة مناصفة مع الشاعر شربل بعيني لعام 2015 في مهرجانها الثاني، طلب البعيني من نائب قنصل جمهورية مصر السابق أن يستلمها السماوي عضوًا عنه، قائلاً: "لا أستحقها بوجود السماوي". فما كان من شاعرنا يحيى السماوي إلّا أن طبع قبّلة على جبينه، فنال شربل بذلك جائزتين في وقتٍ واحد: جائزة البيّاتي وقبلة السماوي.
ذات صباح وبينما أنا جالس اتناول قهوتي ومندمج بمراجعة مخطوطة كتابي "ملحمة كلكامش ط1" رنّ هاتفي الشخصي - الموبايل - وكان المتحدث هو الرسّام المعروف حيدر العبادي، مستفسرًا عن مضمون اللوحة التي كنتُ قد كلفته برسمها منذ زمن لتزين غلاف الكتاب المذكور. حينها حبست الالم في صدري، ومضيت للقول بنبرة الخجل: انني اود لوحة لكتابي "أفكار وتأمّلات من تُراب" وليس للذي ذكرته، لأن الرسام العراقي المتألق د. وسام مرقس انجز لي العمل. ويجب أن أعترف هنا بإنَّ الرجلَ كان مرنًا متفهمًا ومهنئًا، وابدى استعدادًا وتحمسًا، فجرى الاتفاق على لقاءٍ قريب تتم خلاله تلاقي الرؤى حول مضمون الكتاب ورموز الغلاف التعبيرية.
وفي مطلع شتاء عام 2012 تلقيتُ دعوة من قنصل لبنان السابق السيّد ماهر الخير لحضور امسيته الشعرية التي اقامها في "الاوبرا هاوس" بسيدني، فذهبت صحبة عميد الادباء المهجريين الأستاذ شربل بعيني، وهنالك رأيت الاستاذ حيدر الذي كان له معرض فني واسهام ملحوظ بتصميم ديكورات العرض المسرحي الذي رافق الأمسية الشعرية. تطلعت إليه ونظرت إلى جبينه فوجدت تاريخ العراق، امعنت النظر بوجهه ذي البشرة السمراء، فتذكرت بلدي. حدقت النظر في عينيه السوداوين وعرفت تلك الأوقات القاتمة التي قضاها في بلده. تفرست به مُجددًا، وإذا بمتاعب رّجلٍ أنفق شبابه للفن ترتسم على محياه، كأنك تقرأ فيه تفاصيل اليمة وهمومًا دفينة. رّجل يبحث عن تفاصيل فنية تخرجه من قعر تلك الأيام المظلمة التي يصعب على الذاكرة نسيانها!
صافحته وتعرفنا على بعض، ثم إنتحى بي جانبًا نحو جدارياته وبدأ يتكلم وأنا أتأمله بهدوء وأركز عليه، واستمع لحديثه العذب وهو يشرح لي ولغيري الرموز الظاهرة في لوحاته، حتّى إنني كنتُ لا أريد للوقت أن يمرّ وأتمنى على الساعة أن تتوقف، خصوصًا أنني مغرم منذ سنوات بمتابعة الفن والركض وراء جمال الالوان. وحين انتهى العرض في ليلة تألق فيها رسامنا أبن الفرات الاوسط، سرنا معًا إلى رواق مفتوح لنتناول المعجنات والعصائر، فشاطرته الخبز والملح، أو "الملح والزاد"، كما نقول في لهجتنا العراقية الدارجة، وادركت أسرار ريشته وطريقة عمله، ورحت أُشيد به كرسام رائع، وكمفكّر يحمل رؤية فنية جميلة، وكعزيز نفس لا يعطي لأحد سوى المحبة والانسانية والسمعة الحسنة. وهذا ما حفزني أكثر لكي يجمعنا عمل مشترك. ثم تجمع حولنا نخبة من رموز المشهد الثقافي العربي في سيدني وكانت هموم العراق وشجونه هي محور حديثنا، وكان طبيعيًا أن تستأثر بغداد منبع الثقافات بالنصيب الأكبر من اهتمام الحاضرين.
بين لعنة الله علينا وعنترة وسياسة البسطال
نحتاج الى جهد جهيد، لتحطيم هذه السياسات التي نشأنا عليها عقوداً من الزمن واصبحت بمثابة قناعة خاطئة مُتجسدة في سلوك يُعقد حياة الإنسان العربي ويملأه بالعقد والمخاوف....
قال الشاعر السوري العربي الأكبر نزار قباني:
"الشعب مثل الطفل الصغير يرضى بقطعة حلوى"، ونشر الحقائق في قصيدته (عنترة) وحذا حذوه الشاعر اللبناني العربي الكبير شربل بعيني في رائعته: قصيدة (لعنة الله علينا).
نعم نحن كشعوب قبلنا بسياسة الصمت امام عنترة بلدنا وسياسة (البوت – البسطال العسكري)، وكان الكثيرون منا يهتفون امام (عنترة) القائد المفدى (يعيش.. يعيش) وفي اعماقهم يهمسون (لعنة الله عليه)! وبسبب سياسة معظم حكامنا العرب (سياسة فرق تسد... ناهيك عن سياسة التمييز الطائفي والعشائري...) بتنا في وضع لا يتقبل الآخر بسهولة، فصار لدينا مخاوف من الإنفتاح على الآخرين خوفًا من وشايتهم علينا، فاغتيلت فينا قناعة النطق بكلمة حق.
2013
اهداء كتاب نخيلٌ في بستان الذّاكرة... الصادر عن دار سطور- العراق- بغداد/ شارع المتنبي 2016.
- إلى المدفعيّة الثقافيّة الثقيلة وترسانة الإنسانيّة الأدبيّة، ابائي الروحيين وقرّة عيني:
ـ البحّاثة د. بطرس حدّاد الذي رحل عن عالمنا دون استئذان؛ بموته غارت الينابيع في الأرض ويبست عروقها. لقد أشعل الموت عود ثقاب في قلبي الذي يتلظى بنيران رحيله. لينفعنا الله بصلاته من علياء سمائه. آمين.
ـ الشاعر الكبير شربل بعيني ذي القلب المفتوح حُبًّا وصدقًا وتعليمًا وتواضعًا وبراءةً، وهل هُناك من ضحكة محبة أكثر براءةً من تلك التي يطلقها البعيني. إنّه قلم المطافئ ومركز الثقل في أدبنا المهجري الأُسترالي وحجر الزاوية في جلساتنا الثقافيّة وسقف الوعي في احاديثنا وندواتنا الأدبيّة. أطال الله بعمره. آمين.
ـ العملاق المتواضع الشاعر يحيى السماوي، الذي لم ولن يتعملق على حساب الآخرين، مُتقنًا لغة المحبة الكونيّة، عارفًا فنّ مواصلة الموَدّة والتمسك بحبال الوفاء وأخلاقيات الإنسانيّة. لا يعرف التزمت ولا يقبل التعصب ولا يميل إلى التشدد، بل هو صورةٌ مشرقة لسماحة العراق وطيبة العراقيين وتنوعهم الحضاري.
بمولده انبلج على الأدب العربي فجرٌ جديد. قلمُه سيال كحقل من القمح تحت المطر، لسانُه يَقطر عسلاً من بليغ الكلام، أما هو، علم خفاق فوق الساريات.
رعاه الله بصحةٍ لا تبلى. آمين.
لقد وجدتُ في شخصيّة هؤلاء الفرسان الثلاثة (فرسان الكلمة) مزايا مُقاربة لشخصيّة والدي المثقف المرحوم نبيل جزراوي، فبعد رحيله المفاجئ إلى الأخدار السماويّة عوضني الله بحدّاد والبعيني والسماوي.
الأب حدّاد كان يشرق أبوته من تاج الشرق بغداد، أمّا في أستراليا من وراء البحار النائية: شربل يشمِّس من سيدني، ويحيى يغمرني باشعة الرافدين من اديلايد، وأنا تحت شوامس محبتهم أسير بعكازة الصداقة، فوجودهم لم يشعرني أني فقدت أبي.
وعدًا وعهدًا كلّ ما حييت ألا أنفض يدي من صداقتنا النبيلة ولن أتنازل عن تلك الأبوة الروحيّة، مواظبا في مدارس تعليميّة وأدبيّة، اساتذتها قمم في الإنسانيّة.
الثرثرة في ندواتنا الأدبية
أستاذنا الكبير شربل بعيني
مقالٌ جميلٌ ونبيلٌ، دائمًا يسيل لعابي وأنا أطالع كتاباتك المرموقة، ولكن في هذا المقال اللامع الرائع أختصرت عليّ عناء كتابة مقال بهذا الصدد.
مقالك أشبه بمنارة تكتسح ظلام الثرثارين؛ فالثرثرة أصبحت وللأسف آفة تفتك بندواتنا الأدبية، فالبعض حين يعتلون ناصية المنبر يتوقون إلى إصغاء الآخرين لكلماتهم، بينما هم يعيثون الضوضاء ويطلقون إبتسامة السخرية والإنتقاص حين يعتلي غيرهم المنصة.
دمت جرس انذار وصوت حق وحقيقة، وقلم توعية يرفع سقف الوعي في أدبنا المهجري.
تقبل شكري ومحبتي وسؤالي الدعاء.
[1] أنظر كتاب الأب يوسف جزراوي: ملحمة كلكامش، ط2، ص 120، بغداد 2015.
[2]ـ شربل بعيني
هل من المعقول أن يترك ملذات الدنيا التي يتهافت عليها الجميع لو لم تكن دعوته صحيحة ومتينة؟
ومرت الأيام، وبدأت أكتشف سرّ تمسكه بكهنوته، وتسخير أدبه ومعرفته وجاذبيته وعمره من أجل التبشير بكلام الانجيل المقدس.
وعندما طلب مني أن أتكلّم في حفل توقيع كتابه "المبدعون غرباء عن هذا العالم" 11/11/2011، وافقت دون تردد، إذ كيف لي أن أرفض، وأنا أمام كاهن قدّس نفسه، ليقدس كلمته، عله يرضى عليّ ويساعدني بمجابهة الخطايا التي تقرع بابي كل لحظة.
ولكي أنصف نفسي قبل أن أنصفه، رحت أطالع مؤلفاته بنهم شديد، كي أبني على سفوحها كلمة لا تزيد عن خمس دقائق فقط، حسب رغبته، وإليكم ما قلت:
أصحابَ السيادة، كهنتي الأجلاء، سيداتي.. سادتي
عندما طلب مني أبونا يوسف الجزراوي إلقاءَ كلمةٍ في هذه المناسبةِ الأدبيةِ الغارقةِ بالإيمانِ والتقوى، والمفعمةِ بالعلمِ والمعرفة، وافقت دون تردّد، وكيف لا أوافق وكتابُ (المبدعونَ.. غرباءٌ عن هذا العالم) لم يتركْ عالماً أو فيلسوفاً أو أديباً أو شاعراً عانى ما عاناه نبيُّنا أيّوب إلا وسلّط الأضواءَ عليه، كي تَكْشِفَ لنا تلك الأضواءُ سيّئاتِ حياتِنا اليومية. فلقد أرادنا أن نتخّذَ من قصصِ الكبارِ عِبراً تُخلّصُ أنفسَنا من شَوائبِها، وتُعِدُّنا للفرحِ الآتي.
أجل، أيها السيداتُ والسادة، فلقد سارَ أبونا يوسف على خطى المعلّمِ الأكبر، ذاك الذي استعانَ في إنجيلِه المقدّس بالأمثالِ والقِصّصِ لتَصلَ كلماتُه إلى آذانِنا مفهُومةً، كما يصلُ الهواءُ المنعشُ إلى رئَتَيْنا دون استئذانٍ كي يمنَحَنا الحياة.
ذكرتُ معاناةَ نبيِّنا أيّوب، ولم أذكرْ معاناةَ (شهيدِ الحب) سيّدِنا ومخلّصِنا يَسوعَ المسيح، لأن معاناةَ النبي أيّوب كانت بشريّة، لم يطلُبْها بل فُرِضَت عليه، كما تُفْرَض علينا الأوجاعُ والمصائب. صحيح أن المسيحَ صُلِبَ ولكنّهُ إلهٌ اختارَ صلبَهُ ليُخَلِّصَنا، وإن طَلَبَ من أبيه السماوي أن يُبْعِدَ عنهُ هذه الكأس، فَهُوَ يعلَمُ أنه جاء دُنْيانا من أجلِ تلكَ الكأس.. ليسَ إلآّ. تماماً كما اختارَ أبونا يوسف كهنوتَه ليخلّص أنفسَ التائهين الضائعينَ في ملذاتٍ سَرابيةِ الوجود.. ما أن يتمسّكوا بها حتى يَخذلَهُم العمرُ.. ويواجِهوا الدينونة.. وصدقوني أن الأبانا يوسف يعلَم أن الكأسَ التي اختارَها، تفيضُ مرارةً، إذ ليس أصعبَ من أن يرَى الراعي الصالحُ قطيعَه تتناتَشُهُ الذئابُ وهو عاجزٌ عن إنقاذِه.
قِصَصُ الكتاب، كما قلت، زاخرةٌ بالعِبَر، فأبونا يوسف ينْبُشُ ما فَوْقَ الأرض وما تَحْتَها مِنْ أَجْلِ موعظةٍ يقدّمها لنا مُبَسَّطَةً كرغيف خبزٍ، ما أن يراهُ الجائعُ حتَّى يلتهمَهُ بصمتٍ وسعادة. فالجوعُ السماويُّ لا يشعرُ بهِ الإنسانُ إلاّ عَن طَريقِ كاهِنٍ طبّاخٍ، يعرفُ كيف يُعِدُّ وليمةً سماويةً تجذُبُ الجائعينَ إليها.. وَتُثَبِّتُ أَقدامَهم على طريق الخلاص.
الملفتُ حقاً في الكتاب هو وفاءُ الكاهنِ يوسُف لِمَن ساعدَهُ من بعيدٍ أو قريبٍ، وهذا ما لم نَعُدْ نَجِدْهُ في هذا الزمنِ التعيسِ، زمنِ الوصوليّةِ والغدر، وهذا أيضاً ما يُرَجِّحُ كَفَّةَ موعِظَتِه، ويجعَلُ المُتَلَقِّي يَرْضَخُ لها دون إدراكٍ منه.
أشكرك يا أبانا يوسف مرتين، مرّة حين ائتمنتَني على مراجعة كتابِك لُغوياً، وأعتذر إذا فاتتني بعضُ الأخطاء، لأن جُلَّ مَنْ لا يخطِىء، ومرّة ثانية لأنّك طلبت منّي أن ألقِيَ هذه الكلمةَ، شرطَ أن لا تزيد عن خمْسِ دقائِق، ويا لًيْتَنِي لم أتقيّد بالوقتِ، لأن كتابَك ما زال يشدُّني إلى كلامٍ كثير.. وألف شكر لإصغائكم.
وما هي إلا سنوات مرت كأحلام سرابية، وتقاذفتها الأشجان والأحزان، لتتلاعب بنا تلاعب العاصفة بأوراق الشجر أيام الخريف، فإذا بالأب الجليل يتصل بي ليخبرني أنه بصدد اصدار كتاب جديد بعنوان "نخيلٌ في بستان الذّاكرة"، وطلب مني كلمة لغلافه الخلفي، فكتبت:
عندما يكتب مبدع كالأب يوسف جزراوي عن مبدعين اخرين تعرّف عليهم من خلال رحلته مع الكهنوت والقلم، تأكدوا من أنّ الكتاب سيكون غاية في الروعة. وهذا ما لمسته وأنا أتصفح أكثر من 280 صفحة تحتوي على معلومات وانطباعات مهمة عن ادباء ورجال دين وكتّاب وفنانين مقيمين ومغتربين، غمرهم الأب جزراوي بمحبته، وسلط عليهم الأضواء بتجرد وشفافية. هكذا عرفهم وهكذا عرّف بهم.
الملفت حقاً هو أسلوبه السهل الممتنع، الذي ينقلك على أجنحة الكلمات دون أن تشعر بأي تأفف أو ضجر، تسعفه في ذلك ثقافته العالية التي عرف كيف يسخّرها لنجاح هذا العمل النادر، خاصة فيما يتعلق بتسليط الأضواء على أقلام كادت أن تكسرها الغربة، وأن تحجب أصحابها، وتبعدهم عن محيطهم العربي أدبياً واجتماعياً.
الكتاب يحتوي على أسرار لم تكشف بعد، وعلى حالات نفسية للعديد من المبدعين قد لا يعرفها أحد، ولكن الجزراوي تمكن من كشفها دون أن يسيء لأصحابها، وكيف يسيء وهو يكرّمهم الواحد تلو الآخر. حتى أنا لم أسلم من شفرات يراعه، وكيف أسلم وقد رافقني لسنوات طويلة كظلي، وعرف عني أكثر مما أعرف عن نفسي، وعندما أطلعني على الكتاب قبل نشره، كي أكتب كلمة الغلاف، ضحكت وقلت: طوبى لأنقياء القلوب فإنهم أبناء الله يدعون. وصدقوني أنني لم أجد أنقى من قلب الأب يوسف جزراوي، الذي وهب نقاءه للناس ولهذا الكتاب الهام الرائع، وما عليكم إلا أن تطالعوه لتعرفوا ماذا اقصد.
فيا طبّاخ الكلمة، كما يحلو لي أن أناديك، بورك البطن الذي أنجبك، فمن يكرّم سيكرّم لا محالة. وأنت مكرّم بثوبك الكهنوتي وبقلمك الشامخ، فألف شكر لك.
ـ2ـ
فمن هو هذا الأب الأديب العلامة يوسف جزراوي؟
كاتبٌ وأديبٌ عراقي مغترب في أستراليا، مواليد بغداد 19/3/1978 .خرّيجُ كلّيّةِ بابلَ الحبريّةِ للفلسفة واللاهوت/ بغداد 2005. حاصل على ديبلوم في الفلسفةِ وعلميّ الإجتماعي والانثروبولجي وبكلوريوس في اللاهوت.
خدم في بغداد والشام وهولندا وسيدني.
حطّ الرحال في أستراليا بتاريخ 26/12/2010
كاهن كنيسة المشرق الآشوريّة في سيدني.
نَشَرَ مقالات متفرقة في المجلاتِ التالية: نجم المشرق، بين النهرين التراثيّة، الفكر المسيحي، الحكمة، ربانوثا، قيثارة الروح، نجم بيث نهرين، رديا كلدايا، مجلة الطائفة الكلدانيّة في حلب.
ـ أحدُ كُتّاب صحيفة العراقيّةِ الأستراليّة، له عمود أسبوعي فيها منذ سنوات. حبّرَ مقالات في الصحف اللبنانية الصادرة في أستراليا (المستقبل، التلغراف، الأنوار).
له العديدُ من المقالاتِ والكتاباتِ في مواقع الانترنيت. ينفرد في نشر مقالاته في موقع الغربة الالكتروني.
- عضو اتحاد الكتّاب والأدباء السريان في العراق.
- رئيس رابطة البيّاتي للشعر والثقافة والأدب في أستراليا.
كرّمته مؤسسة العراقيّة للثقافة والإعلام والفنون ضمن 20 شخصيّة ثقافيّة مبدعة (عراقيّة وعربيّة) في أستراليا عام 2012 ، وكذلك مؤسسة سواقي للثقافة والفنون عام 2014.
صدرَت له المؤلفات التالية:
ـ لا للهجرةِ 2000 إشراف المرحوم الأب يوسف حَبّي.
ـ ومضاتٌ من الحياة، بغداد 2000
ـ ومن الخلجات بعضُها، بغداد 2002
ـ على خطى يسوع (نُبذة تاريخيّة عن مراحل تأسيس الدير الكهنوتي في الموصلِ وانتقالِه إلى بغداد، بغداد 2003). مُراجعة الأب بُطرس حدّاد.
ـ البطريرك الخالد (البطريرك مار يوسف السادس أودو)، بغداد 2004
ـ سقراط ويسوع، بالتعاون مع الأب مازن حازم. إشراف الأب جوزيف الكبوتشي، بغداد 2004.
ـ دارُ البطريركيّةِ في بغداد، بغداد 2004
ـ كلمات من حياةِ إنسان، بغداد 2005
ـ كنيسة الحكمة الإلهية بين الأمس واليوم، بغداد 2006
ـ البطريركُ المُستقيل مار نيقولاس زيّا. كوردستان العراق 2007.
ـ تأمُّلات من حياةِ كاهن (40) تأمّلاً - القاهرة 2008 ط1.
ـ جزيرةُ أبنِ عمر، جزيرةُ الشهداء والإيمان (مُراجعة وتقديم الأب يوسف توما) تم نشرُه في الأنترنيت سنة 2008، وصدرت طبعته الاولى في سيدني 2011.
ـ تأمُّلات من حياة كاهن طبعة ثانية (60) تأمّلاً. العراق - كركوك 2009.
ـ قصص روحيّة واجتماعيّة للتأمّل والصلاة وحوار الذات.(مُراجعة وتقديم غبطة البطريرك مار لويس ساكو). هولندا 2009.
ـ ملحمةُ البحثِ عن النصف الآخر (تأمُّلات في أبعاد سرّ الزواج)، هولندا 2010 ط1. الطبعة الثانية دهوك – العراق. الطبعة الثالثة سيدني 2011.
ـ خلجاتُ الذاتِ الجريحةِ (خواطر في الإنسان والحياة ج1)، القاهرة 2010.
ـ قصص ومواعظ (تسعون قصّة وموعظة) ط 3 سيدني 2011.
ـ خلجات الذات الجريحة ج 2 سيدني 2011
ـ قصّةُ الحُبّ المؤثرة في رِحلة الرِحالة ديلافاليه، سيدني 2011.
ـ صفحات ناصعة، ط (1) امريكا 2011، ط (2) سيدني2011
ـ حياتُنا قصّة وعِبّرة، سيدني 2011
ـ المبدعون غرباء عن هذا العالم، سيدني 2011
ـ أوراقٌ مُتناثرة من تاريخ الكنيسة الكلدانيّة، سيدني 2011
ـ رِحلة البحث عن مغزى الحياة ط1/ سيدني 2012
ـ كتابُ العمر: (أفكار وتأمُّلات من تُراب)، سيدني 2013
ـ أحاديث قلم في مرايا الذات والمجتمع، سيدني 2014.
ـ ملحمة كلكامش (قِراءةٌ جديدةٌ للمعاني الإنسانيّةِ في الملحمة)، طبعة ثانية، بغداد 2015.
ـ شربل بعيني رسام الكلمات، سيدني 2016
قيد الانجاز:
- يوميات الحرب العالمية الأوّلى للبطريرك يوسف عمّانوئيل الثاني. تحقيق الأب د. بُطرس حدّاد، تعلّيق ونشر: الأب يوسف جزراوي.
- (مواعظ) حسب السنة الطقسية لكنيسة المشرق الآشوريّة.
- بغداد عروس الشرق (مجموعة تأمّلات).
- النورس المُغترب (أدب الرحلات).
- صديق عمر أكاد أعدّ عليه انفاسه (أدب السّيرة الذاتيّة).
ـ3ـ
قلت له مداعباً يوم زارني برفقة الدكتور موفق ساوا صاحب جريدة العراقية: ـ لن يبزّني بنشر الكتب إلا أنت يا أبانا يوسف.. فعمرك يسمح لك بذلك، وما أنتجته من مؤلفات حتى الآن خير دليل على صحة ما أقول.
وهذا لا يعني أنه يكتب بكثرة حباً بالشهرة، لا والله، بل اراه يختار مواضيع كتبه بدقة متناهية، ويعيد صياغتها بشكل مستمر، وكأنه نبع ماء رقراق يسارع الزمن كي يلتحق بنهر العطاء والابداع.
وحين طلب مني أن أكتب مقدمة كتابه الجديد، أجبته وأنا أغني مع فريد الأطرش، أغنيته المشهورة:
ـ بتؤمر ع الراس وع العين.
دون أن أعلم أن الكتاب الذي سأقدّمه كناية عن دراسة مستفيضة لرحلتي مع القلم، وما أن وصلتني مخطوطة الكتاب حتى أصبت بدوار ورحت أتمتم:
ـ كيف لي أن أكتب مقدمة لدراسة عن أدبي، ويحك يا أبانا يوسف، ماذا فعلت بي؟
الكتاب الدراسة عنوانه "شربل بعيني أسطورة الأدب المهجري"، فما كان مني إلا أن اتصلت به وطلبت منه تغيير العنوان، وإلا فليكتب مقدمته أحد غيري.
وعندما رأيت تمسكه بالعنوان، شكرته على محبته الغامرة، وتشجيعه المفرح، ورحت أشرح له الأسباب التي تدعوني لاستبداله بعنوان آخر لا يثير حفيظة البعض، كما أنني كشاعر لا أؤمن بالأساطير، فما كان منه إلا أن زيّن الكتاب بعنوان لن يخطر على بال أحد: "شربل بعيني رسّام الكلمات"، فضحكت في سري وقلت:
ـ هل الأبونا يوسف كاهن أديب أم شاعرٌ كهنوتي؟ كون العبارات التي يأتي بها قد لا تمر بخلد أحد.
يحلو له أن يناديني بـ"يا أبي"، ويحلو لي أن أناديه بـ"يا أبانا"، لأن اللقب الذي حاز عليه، لن يناله إلا من امتلك شجاعة التضحية بالنفس، والابتعاد عن الدنيويات، بغية ارتقاء عرش الكهنوت، الذي هو أسمى عرش على وجه الآرض.
وكيف لا تتوطد علاقتي بمن اتخذني أباً أدبياً، واتخذته أباً روحياً، وها هو يفرح لفرحي، ويحزن لحزني، فعندما كرمّت، كتب:
إلى نهر المحبة وأرز الإبداع، حضرة الأديب الكبير شربل بعيني ذي القلب المفتوح حُبًّا، وصدقًا، وتعليمًا، وتواضعًا، وبراءةً. وهل هُناك من ضحكةِ محبة أكثر براءةً من تلك التي يطلقها البعيني.
إنّك قلم المطافىء ومركز الثقل في أدبنا المهجري الأُسترالي وحجر الزاوية في جلساتنا الثقافيّة وسقف الوعي في احاديثنا وندواتنا الأدبيّة.
مبارك التكريم المستحق، دمت نهر إبداع، ضفتيه القلم والمحبة. ألف مبروك. أطال الله بعمرك وامدك بصحةٍ لا تبلى. آمين.
تلميذك وإبنك الروحي دومًا.
وعندما حزنت على فقدان أخي الأصغر مرسال (ابو شربل)، رحمه الله، تألّم الأبونا معي نفسياً وروحياً وإنسانياً وأدبياً، فأبكى قلمه من أجلي، إذ قال:
بالعودة إلى خزانة الذّاكرة أجد إنّني قرأت اسمه لأوّل مرّة في موقع إيلاف، ثمَّ تناهى إلى سمعي صوته يوم عرّفني به الصحافي جوزاف أبو ملحم المحترم. وذلك يومٌ أعدّه من أسعد الأيّام وأكرمها لدي.
كان ذلك المساء مفتاحًا لحوارٍ جميل مع أديب أجمل، كان لقاءً اورق في النفس صحبة جميلة.
إنّ محبتي الكبيرة للشاعر المبدع شربل بعيني بدأت لحظة قرأت له "كتابات على حائط المنفى"، وكيف توسد الغربة سنوات طويلة، توسعت وازداد حجمها حين عرفته شخصيًا؛ إنسانيًا وأدبيًا.
إنسانيًا؛ لم أجد قلبًا طاهرًا مثل الذي يحمله، لسانه دائمًا عفيف مع ضمير مستقيم، إنكفأ على نفسه وترجل عن الكثيرين، لا يظهر إلّا في المناسبات التي يُريد، وحين يظهر تجد بيده عصا يمسك بها من المنتصف بمحبة واسعة وشاملة. وتلك لعمري خاصية لم نجد من يحملها إلّا القلة.
أما أدبيًا: تلقاه ابتعد عن الأسفاف والترهل في الكتابة، مسك على الدوام إبرة بارعة لنظم قصائده وحياكة كتاباته الإنسانيّة المفعمة بالرجاء.
اليوم عميدنا في الأدب المهجري شربل بعيني، يبكي رحيل أخيه الأصغر مرسال إلى دار البقاء عن عمرٍ يناهز الستين.
تترنّح الدموع في عينيه، وتغزو الحسرات قلبه الأبيض، حتّى أنّه بات يحدث المعزين ببحة صوت مخنوقة بدموعٍ عزيزة وغزيرة.
إلى شربل بعيني أقول: أيها الشاعر المؤمن تذكر إنّ الله إله احياء، أوَليس هو من قال في إنجيله المُقدّس: "أتيت لتكن لهم الحياة وتكون بوفرة". يوحنّا 10:10. اسمح لرجاء القيامة أن يشرق في اعماقك.
رحم الله الفقيد وأسكنه في ملكوته البهي وامدك بصحة لا تُبلى.
أبونا يوسف جزراوي، كاهن، أديب، فيلسوف، علامة وصديق بامتياز، وشرف كبير لجائزة شربل بعيني لعام 2016 أن تعلّق على صدره، باسم مؤسسها الدكتور المرحوم عصام حداد، وأسرة معهد الأبجدية في مدينة جبيل اللبنانية، ومؤسسة الغربة الاعلامية في سيدني أستراليا، وألف مبروك.
وشرف أعظم لي أن تنضم الى مكتبتي الأدبية دراسة رائعة من كاهن أروع، قد لا أفيه حقّه إلا بالصلاة كي يسدد الله خطاه، ويحميه على طريق الكهنوت والأدب.
شكراً يا أبتي!
**
شربل بعيني أديب إنسانيّ
وكاهن علمانيّ
ـ1ـ
أهتمّ لحديثه واستمتع في الجلوس معه منذ أن عرفته إلى يومنا هذا، فقد ادركته على خلقٍ كبير، ثاقب الرّأي، مستنير الرؤية، ضليع اللغة، لبق الحديث، صحيح اللسان، لا ينطق إلّا في خير الناس.
عاش ما مضى من حياته بضمير مستقيم، فكان ولم يزل نظيف اليد، عفيف الكلمة، رافضًا بيع كلمته أو تأجير قلمه، ولم يكن يومًا متواجدًا في سوق بائعي الضمائر ومزوري الحقائق.
يقرأ في كلّ الاتجهات من يسارها إلى يمينها، عميق الإيمان، يدب على الأرض ليوزّع إيثارًا من ثقافته وروحانيّته على الوجوه الناظرة. ومَن منّا لا ينشرح صدره حين يُلاقي حكيمًا شيّبَه الكبر وبيّضَ شَعرَه بهذه الخصال الحميدة؟. أوَليس الكثير منّا يخلع عنه عبء الحياة حينما يكون أمام هكذا نموذج ترتاح إليه النفس وتهدأ باحاديثه.
هو طرازٌ فريدٌ من الناس، له وفرة مذهلة في العطاء، ضحكته تتّسع للجميع، محبته تحتضن الجميع أيضًا، يقرن الأقوال بالاعمال. يجزلُ العطاء في تخفٍ واتضاع، فيما هو يحضّ الناس على شكر الله، أب الجميع ومصدر كلّ عطاء وبركة. كما عهدتُ فيه يدًا بيضاء ممدودة لمصافحة الصغير والكبير، ومساعدة الغريب والقريب. مؤمنًا بالإنسان على تنوعه. يحب الناس ويعشق الخير لهم.
شربل بعيني الذي عرفته محاورًا معتزًا بمعطياتِه دون أن يفرض رأيه على الآخر، يبتعد عن الجدالات والسجالات العقيمة والأحاديث الجوفاء.
هو مستمع دقيق، شديد الإصغاء، وعندما يتكلم يصغي له الخصوم والمؤيدون؛ ففي حديثه دُررّ الكلام. يوجه إنتقاداته في اللقاءات الرسميّة واعماله المسرحيّة والأدبيّة بنفس القدر الذي يقول به في المناسبات والأحاديث العامة، ولا يملك المستمع إلّا أنْ يحترمه وأنْ يجلّه على صراحته البنّاءة وصدقه المعهود. فهو رجلٌ مواجه، يقول ما يشعر به، ويُعبّر عمّا في قلبهِ مباشرة وينطق بمّا في عقلهِ دون مواربة. قادر على الإفصاح عمّا يريد، بل هو يرمي بالآراء الإجتماعيّة والأفكار الثقافيّة ووجهات النظر الشخصيّة دون تحفظات ذاتيّة. يوجه انتقادات مفيدة بلسانٍ صريح عندما يرى خطأ متعمدًا واضحًا أو خللاً مستمرًا، غير عابىء إلّا بالحق.
يترفع على الصغائر والضغائن، يصغي الى صوت الضمير قبل صوت الناس، لا أحد يملي عليه أمرًا ما، لا يحاكم الآخر بمحكمة الـ أنا، بل بميزان المحبة وعدالة الضمير، انطلاقًا من تعاليم السيّد المسيح له كلّ المجد.
إنّ ذلك الأديب الإنساني علمني: ما من دارٍ ملئت حبرًا إلا وملئت عبرًا.
كما تلمست في حياة ذلك "الكاهن" [1] العلمانيّ حكمة مفادها: ما من قلب مُلىء من يسوع ألا وملىء من البركة. وجدت في حياته قدرًا كبيرًا من الروحانيّة، قلبه مفعمًا بحبّ حبيبه يسوع، والسيّدة العذراء والدة المسيح الاله لها حيز كبير من صلاته واحاديثه.
هو أديب مؤمن في مطلع الستينيات من العمر، أحنَى الزمن ظهره وأمال المرض رقبته، دون أن يقوس إيمانه.
شاءت الصدفة أو نعمة الرب أنْ يكون منزله على مقربة مسافة قصيرة سيرًا بالسيارة عن محل سكني في سيدني. فكنتُ ألقاه في زمن محنتي وأتسامر معه كلّ يوم تقريبًا، ما خلا يومي السبت والأحد. وذات مساء جلسنا في بيته على مقعدين مُتواجهين وبيننا مائدة للشاي من الطراز القديم (الانتيكات)، كانت الجلسة مُريحة، والأحاديث مُتنوعة، مُسلية ومفيدة، وتحدثنا عن أنَّ ذلك الاخلاص المُتجرد بات نادرًا في العلاقات بين البشر، لا سيّما في الوسطين الأدبي والكنسي؛ حيث كثرت المنافسات الرخيصة وشاع الضرب تحت الحزام وتفشت الغيرة وكثر التسقيط!.
قال لي:
ـ لا بأس يا أبانا...، ولكن الكلمة صدى لأعماق كاتبها وناطقها، فلا تتوقف عن إعلان اعماقكَ، فهي مرآة للكثيرين.
علقتُ قائلاً:
ـ وما جدوى الكتابة؟ فكلّما هممنا بإضاءة شمعة أمل في درب الإنسانيّة المُعتم تهب رياح عاتية تزيد الدروب وحشة وظلمة وترمي بنا إلى نقطة البداية.
رمقني بنظرة حائرة وتوقف عن الكلام. صمتَ لبرهة!. وبعد أن نظر إلى الأرض مُتنهدًا عاود الحديث بنبرةٍ واطئةٍ على غير المعتاد قائلاً:
ـ لقد قرأت جانبًا من كتابك "خلجات الذات الجريحة"، وسمعت من أحد أصدقائنا إنّك كاتب ولك العديد من الكتابات المُفيدة والشيقة، لذا أوّد أن أُسدي لك بنصيحة مجانية: صدّر أفكارك للذي يُقدرها فقط.
تطلعتُ إليه بدهشة لا تخلو من استفهام، وكان صمتي أبلغ جواب.
ثمَّ عرجنا على مواضيعَ شتى، والتمست فيه ميلاً أو رغبةً للحديث بشغفٍ عن حياته الماضية. فتحَ ملفات الذّاكرة المجروحة واسترسل بالكلام.
كنتُ كلّي آذان صاغية له. وبعد أن طال الحديث، وتبددت تحفظاته رويدًا رويدًا، شرعَ بالغوص في محيط الذات، فاتحًا الصندوق الأسود ليبوح عن خفايا قلبه ورحلة العمر الحياتيّة والأدبيّة المُتعبة، وأستذكر مواقف عصيبة ومشاهد أليمة ووجوه غادرة، فتعكرت صفوته، وبدا لي بعد أنْ راودني الإحساس بأنّ الرّجل فضل الانعزال والابتعاد، بعد أنْ لعبت به الأيام وقست عليه الظروف وغدرته بعض أقلام الزملاء!.
وما زلت حتّى اليوم أذكر أيّ غصةٍ كانت تنتابه حين تصفحَ ذاكرة الأمس المليئة بالذكريات الموجعة!؛ حيث كنتُ ألحظ كَم كان وقعها ثقيلاً وقاسيًا عليه، ولقد ظللت أستمع إليه حتّى تجلى الغموض، بيد أنّني أدركت من خلال معرفتي به أنه لا يريد الغوص أكثر من هذا الحد في خزينة أسراره المغلقة.
سكتَ صاحبي لبرهة وسادت حالة من الصمت المُطبق، ثمَّ خرجَ من صمته ولكن سرعان ما عاوده الحذر من الافصاح عمّا تبقى مكنونًا في قلبه، واكتفى بالنظر إلى مرآة الغربة، حاول بعدها الحديث، لكن حصارًا ممدودًا داخل النفس جعله يتلعثم ويتوقف. وسرعان ما تفوهَ قائلاً:
ـ لقد فضلت يا أبانا أنْ أُكمل ما تبقى من حياتي بعيدًا عن تلك الأجواء المُرهقة التي أضرت بي!. إنّها عزلة اختياريّة رسخت إيماني وعمقت علاقتي مع الله.
أما أنا فلم أشأ أنْ أُعلّق بكلمةٍ!. وبدا لي أنه لن يقول أكثر ممّا قال بعد أنْ ضاق ذرعًا بتذكر تلك الأحداث المريرة المؤلمة، حينئذٍ عرفت أنَّ لكلّ أديب كبير صليبًا، يثقل كاهله، لكنه في الوقت ذاته هو عكازٌ لطريق الآخرين، فالمؤمن مُبتلى!.
واصارحكم القول: إنّني أفاجأ على الدوام عندما التقي أديبًا ذائع الصيت في مهجرنا كشربل بعيني ببساطة مظهره وحسن سلوكه وروحانيّته العميقة وتواضع ذاته ومحاولة التواري عن أنظار الآخرين، وهي سمات قلما تنتاب الشخصيات الكبيرة في العادة. وسبب المفاجأة هو أننا اعتدنا في محيطنا الشرقي في بلداننا أو مهجرنا الأوزي على نمط من سلوك الشخصيات المشهورة يدفع بها التعالي بعيدًا عن حياة التواضع ويجعلها أسيرة عظمة الشهرة والترفع على الناس وعدم الإلفة معهم ووهم الأعجاب بمرض الـ (أنا). أفلستُ محقًا بالقول: إنّ الاعجاب بالنفس هو وليد الجهل والسطحية.
وقد لا أفشي سرًا بقولي: إنَّ الرّجل إلى يومنا هذا يرجع إلي في بعض المواقف، يتبادل الآراء ويستعرض الرؤى، يطرح المتاعب والهموم، مفكرًا بصوتٍ عالٍ، أو مناقشًا معي الطموحات والنشاطات. أما أنا شخصيًا لم ادخر يومًا الوقت للذهاب إليه لأشرع أبواب القلب أمامه والحديث معه بقلبٍ مفتوح عن محن الحياة والخدمة من دون حرج أو حواجز. استشيره واستأنس برأيه، وهو كذلك. وهذه ثقة متبادلة أعتز بها.
لقد ربطتني بعد وفاة والدي رحمه الله علاقة أبوة روحيّة أنا الكاهن أب الجميع مع قلة قليلة من البشر الانقياء على مدار العمر، يقع في طليعتهم الآب بطرس حدّاد رحمه الله، وشربل بعيني ويحيى السماوي. آمد الله بعمرهما.
واعترف هنا على الصعيد الشخصي أنني وجدت في شربل الأديب الزاهد الذي ترك مجد العالم باحثًا عن مجد يسوع، وكاهنًا قرب الكثيرين من يسوع، فعندما يتذوق المرء المسيح في حياته سوف يختبر ويُخبّر الآخرين عنه فيكون من صيادي البشر. إنّه "أبونا شربل بعيني" أو "مار شربل" كما يحلو لي أن أناديه في الجلسات وأمام بعض الأصدقاء.
لشربل عالمه الأدبي والروحي الخاص، يشيع في روحه الارتياح، راحته تبدو بين مسبحة الكلمة وورديّة الصلاة، ولكن وحدته أحيانًا تؤجج فيه الآلام والأوجاع، حين يفلت من باطنه شيء الى فكره، فإن ذلك يسبب له الأحزان والأزمات الصحية.
أسمع من كثيرين ممن ألقاهم، أنّ شربل لم يعدّ متواجدًا كما في السابق!.
فيأتي جوابي:
إنّ هذا البعد جعلنا نلتمس لمس اليد أنَّ مكانته وقيمته تتزايدان، كلّما افتقدنا التواضع والكلمة النزيهة والعبارة الصادقة والمواقف الشريفة والسلوك المُحبّ. فضلاً عن أن موهبة شربل تتجلى في صومعة الوحدة، وإن كان إنكفاؤه قد خلق فجوة في الوسط الأدبي بدأت تتسع وتتعمق، لكنه وحده القادر على ردمها أو تضييقها على الأقل. ورغم أنه أخـفى جراحات الوطن وعذابات الغربة وراءَ ستار وحدته، إلّا أن شربل يظهر ويشارك في الاماسي الأدبيّة ومناسبات الناس ويلتقي الأصدقاء كلّما اراد ذلك.
ختامًا:
كما أنّ أدب البعيني يكتنفه شيء من الغموض الجذاب، إذ يملك عنصر المفاجأة في وقفات مقاطعه الشّعريّة أو بقفلات قصائدة، كذلك هي حياته، فقد يبقي شربل بعض الجوانب معتمة من حياته ذات التضاريس المتعرجة، فيها حكايات لم تحكَ بعد.
آمل أن ينشرها في سيرة ذاتيّة، سيّما ونحن جميعًا في قارب واحد نبحث عن مخرج من مأزق المنفى.
ومن لا يعرف فأنّ شربل كتب الأدب باجناسه المتعددة، ما خلا أدب السّيرة الذاتيّة، وإنّني هنا لست أريد أن اقحم ذاتي في إسداء النصيحة لأستاذي الجليل وأبي الروحي، لأن الإنسان بطبيعته يكره النصائح، ومَن أنا مِن ذلك الآتي من ينابيعِ الحرف المعبّقة برائحة الأرز، ولأنني لا أستطيب توجيه النصائح ولا استسهلها، تراني إسدي الرأي قائلاً:
ـ يا ليت يقدم الأستاذ شربل على كتابة سيرته الذاتيّة، وحبذا لو لا يمرّ على الإنقلاب الإيماني الذي حدث في حياته عقب وفاة والدته - رحمها الله - مرور الكرام، مستذكرًا مقولة بولس الرسول: "الويل لي إن لم أبشر" (1قور 9/16).
اللهم إني قد بلغت!.
محبتي وجلّ تقديري وسؤالي الصلاة.
ـــــــــــ
[1] هناك كهنوت تمنحه الكنيسة لمن تصطفيهم من المدعوين، وهناك كهنوت يشترك فيه المؤمنون عامة بكهنوت المسيح الشامل، فرسالة المسيح ليست حصرًا على الأكليروس، فكلّ علماني مؤمن يعيش رسالة المسيح بحبّ وأمانة هو كاهن، وكلّ علمانيّة تحيا تعاليم الإنجيل هي راهبة.
**
شربل بعيني رسّام الكلمات
ـ2ـ
أديب بديع التصوير، بليغ التعبير. ساهمَ قلمه في نشر الثقافة ورفع سقف الوعي لدى القارئ، مقتحمًا بكلمته الكثير من الأبواب الموصدة، مُعالجًا بحنكته العديد من المواضيع الشائكة .
أدبه جَمّ، مُستمد من نزعةٍ صوفيّة ونبالةٍ أخلاقيّة. منحه الناس تقديرًا عاليًا لحظة توهج شعره وتألق موهبته إلى زماننا هذا. نبراسٌ للمحبة عنوانه في زمنٍ شحت فيه المبادئ وقحطت المحبة، فأصبحتا غيضًا من فيض.
موهبته بدأت في مجدليا، واينعت في بيروت، حتّى غدت شجرة باسقة عابرة للقارات. أخذَ بريقه باللمعان منذ مطلع ثمانينيات القرن الماضي حين حوّل المنفى البعيد إلى ظاهرة أدبيّة بين المغتربين.
تغلبَ على قرف الغربة بالكتابة، امتشق القلم مسبحة، شكلتها خرز الكلمات، كبَخور المعابد رائحة كلماته. في كتاباته تلقاه ابتعد عن الأسفاف والترهل، أمسك على الدوام إبرة بارعة في نظم قصائده وحياكة كتاباته الإنسانيّة. بادل الطعنات بالقبلات، وهذا أعجب العجائب. أمّ منزله ـ متحفه - في مدينة ميريلاندز بسيدني عدد كبير من أهل الفكر والقلم ورجال الدين والإعلام ورؤساء الروابط والجمعيّات ومحبي الكلمة، حتّى أمسى بيته قبلةً للشعراء وخبزًا لجياع الكلمة.
أفردُ هذه الصفحات لشخصٍ قريب إلى القلب مُحبب للنفس، مُحترم من العقل. جمعتني به علاقة صداقة عميقة وطيبة، تغلفها علاقة التلميذ باستاذه والأبن بابيه الروحي، بل قلّ علاقة كاهن براهبٍ حكيم، كان دائمًا مثار اعجاب وتقدير. كما أسعى في هذا الكتاب للتعريف بنموذجٍ لبناني تخطى أدبه حدود العالم العربي ليُحلق إلى العالمية. مانحًا ثمار الإبداع، ناشرًا عصارة الفكر وخلاصة الاحساس بأسلوبٍ سلسٍ شيقٍ، يخلو من التعقيد، يبتسم أحيانًا بروح الفكاهة. كتبَ بحبر القلب، أشعاره كالبلسم على الجرح النازف، مقالاته تلتصق بالعقول، أما دواوينه فتنعش القلوب.
كنتُ التهمُ صفحات كُتبه قبل سنوات خلت مع غيرها من روائع الأدب العربي والعالمي وتراث الفكر الإنساني مثل الكثيرين من أبناء جيلي الذين استهوتهم المطالعة الورقيّة على خلافِ الجيل الحديث والمعاصر، الذي يميل بشدة إلى القراءةِ الالكترونيّة.
خلال مطالعتي لمؤلفاته كان يشدني إليه استغراقه الشديد في التغني بلبنان والعراق الذي يعد من البلدان العربية التي نال منها انتشاره العربي عَبرَ المربد الشعري. وما أدراكم ما المربد [1]؟.
شاعرٌ ناصعٌ من طينِة الكبار، ربّما اختلف بعض النقاد حول آرائه وكتاباته، بيد أنّ الأغلبية اتفقوا على قيمته الفكريّة وقامته الأدبيّة، مُثنين على هامته الانسانيّة.
يشيد به الخصم قبل الصديق، تسامى عن الصغائر، لم يُعادِ أحدًا، ولم ينافس شخصًا، لم يلهث يومًا وراء الجوائز والمناصب، ولم يتكالب على الأضواء. لا يضع العصي في طرقات الاخرين، بل كان سلمًا يرتقي الاخرون من خلاله إلى المجد. إذ ليس المهم أن يمتلكَ الأديب الموهبة وحدها، بل الأهم أن يُضيف إليها الشخصيّة الرصينة والجاذبيّة الإنسانيّة والخلُق القويم، يمزج الكلمات بالسلوكيات، فنحن في زمن بُتنا نصرخ فيه: يا أيها الأديب كُن أديبًا خلوقًا!.
نموذجنا اليوم هو الأستاذ شربل بعيني الذي أرى فيه عصرًا كاملاً يسير على قدمين، لم تؤثر فيه سنوات الغربة الطويلة، ولا خطوب الزمان، ولم تنل منه ندوب الأحداث وطعنات المنافسين. الغريب حقًا في أدبه وملامح شخصيته امساكه لميزان الكلمة بعدالة وحيادية قلّ نظيرهما في زمننا هذا!.
سنوات مضت من التألق والشهرة، حصد خلالها الالقاب والجوائز، لكنه ظلّ يتحسس في قرارة نفسه أنَ حاجةً واحدة تنقصه، وهي التقرب من الله، وها هو منذ سنوات يعشق الإختلاء، باحثًا متعمقًا، مُكرسًا نفسه كراهبٍ في صومعة الكلمة الأزليّة [2].
شربل كاهنٌ علماني، قربَ الكثيرين من الربّ. ترك أضواء العالم ساعيًا لنيل مجد السيّد المسيح ورضى الله، فهو "أبونا شربل بعيني" كما يحلو لي أن أُناديه أحيانًا، لا يُفاخر بقامته الأدبيّة ولا بخزائنه الشعريّة، بل يزهو بتقربه من الله الذي قاده إلى إنصاف من جعلوا من اعماقهم فرنًا للكلمة البنّاءة، لهذا سيظلّ المهجر الأسترالي يذكر له مواقف روحيّة وطلات إنسانيّة وانجازات أدبيّة لا تُنسى. هذه شهادة عادلة في زمن كثر فيه المزورون والأدعياء والمزيفون.
قرأت له وقرأت عنه، إلى أن بادرني صديق مشترك في ايار 2011 وهو الصحافي المعروف جوزاف بو ملحم - أبو أمين- برغبة صديقه الشاعر العربي الكبير شربل بعيني بالتعرف عليّ شخصيًا واجراء مقابلة تلفزيونية في مجلته (الغربة) الغرّاء إثر مطالعته لكتابي الموسوم (خلجات الذات الجريحة ج2). فقلتُ له:
ـ يا فرحة ما بعدها فرحة؛ فمنذ سنوات وأنا أقرأ وأسمع عن "رسّام الكلمات" شربل بعيني، شربل الذي رسم أجمل الصور الشعريّة واللقطات الإنسانيّة في كتاباته المُعبرة عن موهبته الفطريّة ونضجه الحياتي. شربل الذي امتدحه الشعراء الكبار: نزار قباني، عبد الوهاب البيّاتي والأب يوسف السعيد رحمهم الله.
ولمن لا يعرف، فإنّ شربل كان من أشد المتأثرين بأبيه الروحي وملهمه الأدبي نزار قباني، سيّما بعد أن التقاه في بيروت عام 1968 واهداه باكورته الشعريّة ديوان "مراهقة"، فنصحه شاعر العرب الأكبر بالإبتعاد عن العامية والكتابة بالفصحى. وربّما لا أكون مُخطئًا بالقول: إنَّ البعيني استمد من الشخصيّة العراقيّة جزءًا كبيرًا من الذكاء الأدبي والقدرة على تصوير المواقف الشعريّة من خلال تجربته في المراسلة مع الشعراء: الجواهري، الأب يوسف السعيد، عبد الوهاب البيّاتي، نزار حنّا الديراني. ولا غرابة في الأمر فعلى مرّ التاريخ شهدنا أزمنة عانقت فيها النخلة العراقيّة الباسقة الأرز اللبناني الشامخ.
رأيته للمرّة الأوّلى بجسده الضخم وصوته الجهورَيّ حين نهض من مقعده وانتصب قائلا:
ـ يا هلا بالأبونا المفكر..
يوم التقينا معًا في غداء محبة وتعارف بأحد مطاعم مدينة ميريلاندز بسيدني في شهر تموز 2011، رفقة الشيخ د. مصطفى راشد والصحافيّ جوزاف بو ملحم[3] ، الذي كنا في ضيافته المعهودة، فقلتُ له:
ـ يا محاسن الصدف!
وأخيرًا التقيت أنا الكاهن البغدادي بالشاعر اللبناني الذي كرمه بلدي العراق، حين صدح صوته وتغنى بأرض العراق في المربد الشعري سنة 1987؛ ذلك الشاعر الذي له جائزة عالمية تحمل اسمه، تصدر من معهد الابجدية في لبنان. وذلك يومٌ أعدّه من أسعد الأيّام وأكرمها لدي.
وجدتُ نفسي أمام شاعر لا يشوب شاعريته غبار، وبجوار صرح أدبي عملاق!. أملتُ سمعي إلى أحاديثه، أمعنتُ النظر فيه، تفرست في وجهه جيدًا وقرأت في عينيِه ما يختبىء في قلبِه من محبة وطيبة، إن لم أقل أحزاناً.
إنقضت ساعة واثنتان، الإستماع إليه شيّق ومُفيد، يُنسيك وجبة الطعام التي أمامك؛ لبق الكلام، أحاديثه غذاء للفكر، واسع الثقافة. له القدرة على توليد النكتة والدعابة، يبث النكات بين الحين والآخر، كأنها معزوفات موسيقيّة، أضفت على جو الجلسة رونقًا وجمالاً.
غادرنا المطعم، ولبيت دعوته لزيارة مقر مؤسسته العامرة (مؤسسة الغربة الإعلاميّة)، وما أن وطأت قدمي عتبتها حتّى بانت أمامي في الحال أوسمة وجوائز وميداليات أدبيّة وهدايا لا تحصى، من شخصيات أدبيّة، سياسيّة، علميّة ومؤسّسات ثقافيّة عديدة، ناهيك عن ما يزيد عن 60 كتابًا حصيلة 45 عامًا في رحلة الأدب الممتعة والشاقة.
وأذكر أنّنا حين غادرنا مكتبه نظر كلّ منّا إلى الآخر وقلت لهم:
ـ إنّه قيمة وقامة عالية، إذ ما رأيت في حياتي قدرة على موضوعيّة السرد مثل تلك التي تمتع بها هذا الرّجل، فهو يرد الأمور إلى أصولها ويتعقب الظواهر إلى أسبابها.
ولعلَّ أهم الامور التي ينفرد بها عن الاخرين أنّه يصغي بتمعنٍ ومحبة، يستوعب الموضوع المطروح عليه بدقة، يرتب أفكاره قبل التفوه بكلمةٍ، يمتلك ناصية التأثير في الآخرين، من خلال قفشات مُسلية في غير أوقات الجد، شديدة الجدية أثناءه. كان لقاء أورق في النفس حضورًا وصداقةً.
إنّ محبتي الكبيرة للشاعر المبدع شربل بدأت لحظة قرأت له "كتابات على حائط المنفى" وكيف توسد الغربة سنوات طويلة، توسعت وازداد حجمها حين عرفته شخصيًا؛ إنسانيًا وأدبيًا.
صديق رافقته ورافقني لسنواتٍ في السرّاء والضرّاء، أدركته خلالها: عزيز النفس، لطيف المعشر؛ الجلوس إليه صنعة، والحديث معه متعة، يجمع بين رقي الشخصيّة وعلو كعب موهبته الربانيّة. له حضورٌ طاغٍ، اهله لاختراق العقول والقلوب في وقت واحدٍ. الاقتراب منه يمنحكَ اعترافًا بمكانتِه وتأكيدًا لقيمته وحفاوةً بعطائه المتجدد وتألقه المتواصل.
وقد لحظت أيضًا أنَّ أتعاب الحياة طالته، راحته تبدو في وحدته. تظهر على وجهه ندبات الزمن وعلى شعره المنكوش دلالات العبقرية التي لا تخلو من مسحة كبرياء شخصي، إلّا أنه قريب من البسطاء والعامة في أوقاتٍ ومناسبات. له نوادر يعرفها أصدقاؤه المقربون فقط.
حلت به أهوال حياتيّة وأزمات أدبيّة، لكنه يبدو سعيدًا مرحًا، قريبًا من القلوب في المناسبات التي يظهر فيها، وجيهًا في الأحاديث الخاصّة والجلسات العامة. غير أنّي لمست فيه غصة دفينة وحزنًا خفيًا يتجليان ساعة يُقلب سجل الذكريات في صندوق الذاكرة، بيد أنّه لم يكن يومًا من أيام معرفتي به من ناشري مناخ الأحباط واليأس، بل على العكس من ذلك.
تميز عن الآخرين بالصدق والطيبة والرغبة في المساعدة على نحوٍ اكتسب احترام كلّ من حوله، فلا أنسى تلك السهرة الأدبيّة المُصغرة التي جمعتني به في حديقة منزله العامر عام 2012 بمناسبة ذكرى ميلاده الحادي والستين، بصحبة الصديقين الكابتن سعدي توما والاستاذ موفق ساوا، بعد تركي كنيسة مار توما التي كنت أخدم فيها بكلّ جوارحي، فرأيتُ أنْ أطرحَ عليه بعض همومي، في جلسةٍ لم تخلُ من تبادل الهموم واستعراض المشقات التي تعرض لها الحاضرون، فإذا به يعبر عن تقديره لشخصي ويزيد على ذلك رغبته في المساعدة، وهو أمر لا أنساه له ما حييت.
فرحت بمولده بلدة مجدليا بقضاء زغرتا، شمال لبنان عام 1951. كان مولعًا بالقراءة منذ الطفولة، فاكتشف في سنّ صغيرة إنَّ علاقته مع الكلمة كانت كعلاقة الأرض بالماء. دبجت أنامله الذهبية أوّلى قصائده (قصيدة حرّة) نشرها بعمر 13 ربيعًا في إحدى المطبوعات بطرابلس، يقول مطلعها:
"عربي..
ما دمت أنت عربي
فأخي أنت إبن أمي وأبي"
أصدرَ ديوانه الشعري الأوّل وله من العمرِ 17 عامًا، وقد انبهر أستاذه الراحل "جليل بحليس" بذلك المراهق، فأطلق عليه لقب "فرخ فيلسوف".
يعدّ ديوان (فافي) الذي نشره عام 2013 آخر مؤلفاته المطبوعة [4]، تغنى عبر صفحاته بالشاعرة والاديبّة المصريّة المعروفة فاطمة ناعوت.
إنَّ شاعرية الشاعر قد تكون سيفًا مُسلطًا على رقبته منذ ولادته الشعريّة، هذا ما حصل لشربل في زمن المراهقة، فهو لم يكن يعلم أنَّ ديوان "قصائد مبعثرة عن لبنان والثورة، لبنان 1970"، سينغص عليه الحياة، ويحرمه من لبنان ومن حضن الوالدة[5] ، التي كان لها الأثر الكبير في نجاحات ولدها الإنسانيّة والأدبيّة؛ ففي ليلةٍ من ليالي مجدليا الحالكة الظلام، قصدَ خوري الضيعة بيت العائلة وأبلغ والدة شربل أنَّ ديوان "قصائد مبعثرة..." لم يرق لبعض أشباح المكتب الثاني اللبناني، وعلى شربل أنْ يرحل وإلّا سوف يرمونه في البئر!.
هرعت والدته تتوسله مُغادرة لبنان، لكنَّ شربل أبى الرحيل في بادئ الامر، لأنه لم يخلق ليكون شتاتًا في الأرض. ونزولاً لتوسلاتها قرر الهرب إلى ضيعةٍ بعيدةٍ عن يد البطش. وهناك حصل ما لم يكن في الحسبان، فذات مساء دُعي لالقاء قصيدة في مناسبةٍ حزبية أو وطنية وفق ما ذكرت الدكتورة سمر العطّار في مقدمة ديوانه "كيف أينعت السنابل"، نالت المديح والإشادة، ومن شدة الأعجاب قام بعض الحضور باطلاق العيارات النارية احتفاءً وانطرابًا بقصيدته التي ألبت عليه المزيد من الاعداء، وحتمت عليه الهجرة من لبنان قسرًا.
هاجر من لبنان عام 1971 قادمًا إلى أستراليا، بعد أن حزم أمنياته في حقائب الغربة، وفي منفاه وجدَ مساحات من الحرية في الرأي لم يألفها في باريس العرب - لبنان، فلبنان كان باريسًا للعرب بجمالِ أراضيه وناسه وليس بساسته.
في القارة النائية امتهن شربل مهنة الحياكة أوّل الأمر، إلى أنْ عملَ في التجارة؛ فادرك كيف يجمع بين الأدب والتجارة؛ إذ مكنته التجارة من نشر نتاجاته الأدبيّة في المهجر الاسترالي، وقد أَلفَ المغتربون العرب اسمه كما أّلفوا الشهيق والزفير.
كتبت عنه الصحف العربية وأُجريت معه شتى أنواع المقابلات الصحفية واللقاءات الإعلاميّة، بعد أن كتبَ الزجل والشعر الحرّ والعامودي والنثر والمسرح بتفوق. مُمارسًا فيما بعد رسالة التعليم في معهد سيّدة لبنان، بعد مضي عقدٍ من الزمن على دخوله سيدني، ألّفَ خلالها عشرات الكتب المدرسيّة، التي تُدرس في مُعظم المدارس الحكوميّة والخاصّة، وأنشأ على مدى ثلاثة وثلاثين عامًا كأستاذٍ للغة العربية أجيالاً من التلامِذة في معهد سيّدة لبنان- هاريس بارك، مُقيمًا العديد من المسرحيات المدرسيّة، حتّى أنَّ فنان العرب دريد لحام أطلق شهقة تعجب يوم حضرَ مسرحيته "ضيعة الأشباح". والحال، يبدو أنه عندما يوصد في وجهنا باب الوطن، تفتح الغربة أمامنا بابًا آخر، لكن يبقى على المرء أن يعترف ويهتدي إلى ذلك الباب الذي يُبشر بحياة جديدة، أقول هذا لكي يتخذ أيّ مُهاجر من شربل أنموذجًا للتماهي.
أغدقت عليه ألقاب كثيرة منها: أمير الأدباء والشعراء اللبنانيين في عالم الإنتشار، الأديب العبقري، شاعر المهجر الأوّل، سيف الأدب المهجري، ملاح يبحث عن الله، رسّام الكلمات، شاعر الغربة الطويلة، أسطورة الأدب العربي المهجري، شربل بقلوبنا، مدرسة أدبيّة فريدة، شمس الأدب العربي المهجري، ولا غرابة في الأمر، فبين أنامله وريشة قلمه همس كثير وشعر اصفى من غلّة الربيع.
وتصديقاً لما ذكرت وجدت أن من الأفضل الاستشهاد بما كتبه الاستاذ أيوب محمد أيّوب سكرتير رابطة إحياء التراث العربي يومذاك في جريدة "صوت المغترب"، العدد 851، 19 ايلول 1985:
"يحق للعربي في هذه الديار أن يفخر بشربل بعيني، الشاعر اللبناني الأصيل، ليس لأن أشعاره تأتي سلسة عذبة، يسكب من خلالها معاناته في إناء أنيق فحسب، بل لأنه يعصر فيها قلبه، ويحبك من وهج شرايينه قصائد يفرغها في قلب القارىء، ليعطيه طاقة روحيّة، ويترجم له أحاسيسه ومعاناته، مقدّماً له كأساً من الشعر فيها نجواه وشكواه، فشعره ليس نجوى، وليس صدى لمعاناة "الأنا"، بل هو صوت القارىء ولسانه أيضاً، وبذلك يثبت شربل، عن جدارة، أنه شاعر المهجر الأوّل في أوستراليا".
وكتب الاعلامي في مدينة ملبورن طوني شربل مقالا في جريدة صدى لبنان ـ العدد 301 ـ 15/6/1982، أعلن فيه أن شربل بعيني هو سيف الأدب المهجري:
"أمام هذا الواقع، حرّك يا ربّ، عقول رجال المسؤوليّة، كي يعوا حقيقة الوجود، ويضمّوا شربل بعيني وأمثاله بكلتا الذراعين، وليجعلوا منهم مفخرة للأرض ومشعل نور.
نجدد القول: الشكر لك يا رب.. الشكر لك. ونصرخ "عالمكشوف" إلى الأمام يا شربل، فأنت سيف الأدب المهجري".
حصدَ شربل منذ شبابه إلى يومنا هذا أنفس الجوائز التقديريّة من رؤساء دول وشخصيّات علميّة ودبلوماسيّة، كما نال تكريمات لا تحصى، فضلاً عن شيوع أدبه وانتشاره في الكثير من أرجاء المعمورة بعد أن تُرجم إلى لغات عدة، فأدبه وِجدَ لكي ينتشر ويدوم.
من أبرز جوائزه: جائزة جبران خليل جبران العالمية، جائزة الارز للأدب العربي، جائزة أمير الادباء اللبنانيين، جائزة الإبداع من مؤسسة العراقيّة للثقافة والإعلام 2012 /سيدني، درع الإبداع عام 2014 من وزارة الثقافة اللبنانية، وهذه هي المرّة الأوّلى التي تكرمه بلاده. درع وقلادة البيّاتي 2015. حصل أيضًا على جائزة القصيدة العامودية مناصفة مع الشاعر العملاق يحيى السماوي في أمسية رابطة البيّاتي الثانية يوم الثلاثاء الواقع 22/9/2015.
ادرج اسمه مع نبذة عن حياته ومقتطفات من شعره في معاجم عالمية وعربية أهمها: معجم البابطين للشعراء العرب المعاصرين/ الكويت، موسوعة الشعر العامي اللبناني/ بيروت- لبنان. إضافة الى الموسوعة الانكليزية/ جامعة ديكن في ملبورن عن الأدباء الإثنيين في أستراليا.
تميز شربل بالمزاج المُتقلب والغضب السريع والنبرة الصوتية المرتفعة، لكنُّه سرعان ما يعود ويهدأ ويُلطّف الأجواء خلال دقائق معدوة، ولا يغمض له جفنٌ إذا كان يعي أنَّ أحدًا قد انزعج من كلمةٍ قد تفوه بها، أو من سلوكٍ أقدمَ عليه بغير قصدٍ، ليُعيد المياه إلى مجاريها بلطفٍ إنساني وكياسة عُهد بها. وخلال مرافقتي الشخصيّة له ومطالعتي لنسبة كبيرة من نتاجاته، وجدتُه يولي المرأة الواعية المبدعة اهتمامًا خاصًا واحترامًا كبيرًا في حياته، وإنْ كانت احباطاته العاطفية نغصت عليه مُتعة الحياة ومشواره الأدبي، فهو لا يزال يكنُ للمرأة نفس القدر من الاحترام والتقدير. وتلك على ما يبدو سمة تُصيب بعض المفكرين والأدباء، الذين يجدون في تقدير المرأة ملاذًا من ضغوط الحياة ووطأة الفكر!. كما أنه يُخفي وراء سطور كتاباته آراءً سياسيّة حبيسة ومواقف خفية ممّن يديرون المشهد السياسي في لبنان الجريح.
وفي زمنٍ بات فيه الكثيرون ضيقّي الأفق في محبتهم للإنسان كإنسان، وجدتُ شربلاً تميزه البراءة، منسجمًا مع نفسه صادقًا مع الجميع، وفيًا للغير، مُلتزمًا بمحبة الناس. لا ينزعج من نجاحاتهم، ياخذ بيدهم إلى طريق المجد والإنتشار.
يقول ما يريد قوله دون مراوغة وتمويه أو غش أو تملق. وقد علمني ونحن في هذا الزمن الرديء الذي يتوجب على المرء فيه أنْ يقول دائمًا ما يحب الآخرون أنْ يسمعوه، أنْ أقولَ كلمتي وأنْ أكونَ حُرّ الكلمة والمواقف حتّى لو وجهت لي سهام الغيرة والنقد، فعلى الأديب ألا يخشى لومة لائم، ولا يهاب النقد الجارح غير الموضوعي.
ولا أنسى تلك الكلمة التي شرفني بها في أمسية توقيع كتابي "المبدعون غرباء عن هذا العالم" بتاريخ 12/11/2011: "الملفتُ حقاً هو وفاءُ الكاهنِ يوسُف لِمَن ساعدَهُ من بعيدٍ أو قريبٍ، وهذا ما لم نَعُدْ نَجِدْهُ في هذا الزمنِ التعيسِ، زمنِ الوصوليّةِ والغدر، وهذا ما يُرَجِّحُ كَفَّةَ موعِظَتِه، ويجعَلُ المُتَلَقِّي يَرْضَخُ لها دون إدراكٍ منه".
في مطلع حياتي الأدبيّة وتحديدًا عام 2000 أسدى لي أستاذي الباحث الراحل الأب بطرس حدّاد، نصيحة مجانية مفادها: "أنت الآن دخلت وسطًا لا تفقه خفاياه ولا تدرك محنه جيدًا، لأنك في مقتبل العمر، ولكن أعلم يا بُني أنَّ الدخول في رحاب هذا الوسط اشبه بتسلق الجبل، كلّما تقدمت خطوة نحو القمة كلّما أتتكَ ركلّة تعيدك إلى الوراء عدة خطوات". ولقد وجدتُ صدى لتلك النصيحة في حياة الكبير شربل بعيني، فكما أنَّ ذكاءَ المرء محسوب عليه، فإنَّ تألق الأديب أو أيّ مبدع في شتى المجالات يكون خصمًا له. وفي تاريخنا العربي على مرّ العصور أيقنا دائمًا: ويل لمن تطول قامته أكثر من اللازم!، كما اختبرنا في محيطنا الشرقي كلّما كثرت الأضواء على شخص ما، كلّما كثرت حاجته لسيارات الأسعاف!.
وقد أصابتني دهشة وصلت إلى حدِ الذهول، حين قرأت كيف تناولت سهام النقد الموضوعي وغير الموضوعي أدبه وشخصه، رغم أنه لم يتردد أو يخشَ من نشرها إيمانًا منه بحرية الرأي الآخر، مقتنعًا بعدالة الزمن الذي يُعده الحكم النهائي والرقيب المطلق على نتاج الأديب، فللأسف إنَّ لغة التكفير والتنابذ وتناكف الحوار غدت من مقومات النقد لدى البعض منّا. وكما أنَّ الشيء بالشيء يذكر، فإنَّ البعض من منتقديه عاد وانصفه وأثنى على نتاجاته، أما البعض الآخر فلم يعدل عن رأيه إلى الآن. هذا هو حال شربل دائمًا، كالشجر يرميه الناس بالحجر فيرميهم بالثمر، ولا عجب، لأن المعادن الطيبة لا تصدأ أبدًا، وإنَّ شموخ الرّجال العظام يجعلهم كالأشجار الطيبة الثمار، واقفين باسقين حتّى نهاية رحلة العمر.
حقق شربل أمورًا كثيرة، وأخفق في أمورٍ أُخرى شأنه شأن سائر البشر، لأن الشاعر إنسان في أخر المحصلة؛ فالرّجل كان يطمح إلى الأبوة ولم يحظَ بها، وذات يوم أسرّ إليَّ بأمنيةٍ لا تزال تؤرقه ومفادها: "لو مَنّ الله عليّ بالأبوة لتمثلت بأبي". لكنه عاد وهمس لي بنبرة الإتكال على المشيئة الربانيّة: "لتكن مشيئتك يا ربّ".
اغتنمت الفرصة وسألته في إحدى الجلسات:
ـ لو عاد الزمن بك إلى الوراء هل ستمتشق قلمك مرّة أُخرى وتجعله يعانق الورق؟
أجابني بسرعة وانفعال:
ـ نعم، وسوف أكتب أكثر ممّا كتبت، لان الله كلمة، والكلمة لا تموت ابدًا".
من مقولاته البليغة والخالدة:
(العقل دائمًا يغلب البندقية شرط ألا يستسلمَ). (البخيل إنسان يموت مرتين ليعيش ورثته من بعده).
(الأديب الذي يستعطي الناسَ من أجل نشرِ أدبهِ سينشر الناس أدبه على السطوح)،
(الغرور داءٌ قاتلٌ لا يفتك إلّا بصغارِ العقول).
(معظم الذين يحبون الجلوس على طاولات الشرف بلِا شرف).
برعَ شربل في موهبة الخطابة متميزًا على أقرانه، حتّى أطلق عليه البعض (ملك المنبر) (المايكرفون)، وفي هذا الصدد أنقل شهادة الشاعر العربي نزار قبّاني بمقدرة شربل الخطابية بإحدى رسائله المؤرخة في 31 كانون الثاني 1994:
"أما أنت، فقد قرأت كلمتي أحسن منّي، وكنت (بشبوبيتك) وأناقتك، ووسامتك.. نجم الحفلة".
وليس هذا فحسب بل أن الشاعر العراقي عبد الوهاب البيّاتي اعترف بذلك أيضاً، برسالة مؤرخة في 24/10/1988:
"..وبخاصة إلى قصيدتك الرائعة بعد أن كنت قد قرأتها مرّات عديدة، ولقد ازداد إعجابي بعد أن استطعت من خلال إلقائك الخلاّب المثير المؤثر العميق الوصول إلى الضفاف الشعريّة الإنسانية التي تكتنز بها القصيدة، والتي تنطوي على ألم ثوري عاصف إنك شاعر حقيقي، وصوتك جزء لا يتجزّأ من شاعريتك الفذّة أكرّر شكري وتقديري ومحبتي".
أما شهادة المطران المثلث الرحمات عبده خليفة، مؤسس الابرشية المارونية في أستراليا، فلقد أثبتها المهندس رفيق غنّوم في كتابه "أجمل ما قيل بأدب شربل بعيني":
"الويل لمن يتكلّم قبل شربل بعيني، والويل لمن يتكلّم بعده، فالأول ينساه المستمع، والثاني يتجاهله تماماً".
ولا شك أنَّ براعة الخطيب والشاعر أو أيّ متحدّث مهما علا قدره تتحدد في قدرته على الإيجاز وصياغة الفكرة العميقة في كلماتٍ قليلة وباسلوبٍ سلس والقاءٍ يشدّ الآخرين إليه. وقد تعلمت منه كيف أقف أمام المرآة وأتلو كلمتي الأدبيّة خلال فترة زمنية لا تتجاوز الخمس دقائق قبل أنْ أعتلي خشبة المنبر!. ولا تزال نصيحته تصول وتجول في ذاكرتي: "يا أبانا تذكر أنَّ المتحدث الذي يكثر الكلام على المنبر، يضجر من حاله قبل أنْ يضجر منه الآخرون". فهو والحق يقال ليس مُصابًا بمرض الاسهال الخطابي، كالذين يعتلون المنصة دون أن يتقيدوا بالوقت المحدد لهم.
أما عن وصيتهِ فقد كتب: "وصيتي قبل أنْ أموت ألا يقال أنني مُت".
وكيف يموت شربل بعيني الشاعر والإنسان في ذاكرة الاجيال وهو القمر المُضيء الذي لا يعرف الكسوف.
عَبرَ رحلة الثلاثين من العمر أدركت بوضوحٍ تام من كلّ المرموقين الذين التقيتهم في مجالات الحياة أنَّ الإنسانَ هو الإنسان مهما علا شأنه أو تواضع قدره، وأنَّ توزيع الأدوار في الحياة وتحقيق المنجزات قد جاء في الكثير من الأحيان عبثيًا وغير عادل، أما عن شربل، فلا يسعني إلّا أن أقول: "إنّه يمضي والتوفيق مع خطاه. يحالفه الحظ، تخدمه الظروف دائمًا، يمشي النجاح في ركابه أينما حلّ، وهذه نعمة ربانيّة من جهة، ومهارة ذاتيّة من جهة أخرى".
لم يكتفِ شربلنا بالشعر والزجل والادب والنثر وكتابة النصوص المسرحية، بل كتبَ القصيدة المغناة للعديد من المطربين، نذكر منهم: هند جبران، ريما الياس، وفاء صدقي، إسماعيل فاضل الذي غنى روائعه يا مصر، بغداد أنتِ حبيبتي [6]، فافي.
عاصر زمنًا جميلاً احتفظت فيه الكلمة بجلالها والفكرة بعمقها والنظرة بموضوعيتها، ولا غرو إنْ قلت: إنّه من زمن الشوامخ كجبران، ميخائيل نعيمة، سعيد عقل، الجواهري، عبد الوهاب البيّاتي و يحيى السماوي، الذي أطلق عليه لقب "عميد الأدب المهجري" في كلمة منشورة بموسوعة شربل بعيني بأقلامهم الالكترونيّة.
يُردد المرء في سرّه كلّما تقدم بالسنّ: آه لو كنتُ أعلم كيف يعيدُ الإنسانُ ماضـــيــــِه، لفعلت في الحال. أما هو وعلى مدار السنين لم تنقص قيمته، ولم يهوِ جبل موهبته، ولم يجف نهر إبداعه، بل ارتفع مقامه وكبر شأنه، فما زال في قمة القمم وأعلى الهرم؛ كلّما زاد عمره علت هامته.
سيظلّ شربل كبحرٍ لا يمكن سبر أغواره، نكتشف فيه كلّ يوم اللآلىء والأسرار الخفيّة، ونظلّ بحاجة إلى مزيد من الغوص والتبحر لاكتشاف كنوزه الدفينة. ونظلّ بحاجة للنظر في فضاء أدبه الخالد للتحليق عاليًا، علنا نبلغ بعض أجوائه، ونستنشق قسطًا من أنسام عبير سُموّه.
شهادة أقولها للقرّاء هنا: "سيبقى شربل بعيني في ضمير القارئ العربي قمرًا مضيئًا ونجمًا لامعًا، بل شمساً ساطعة، لا ينساه رواد الكتب وكلّ من عرفوه عن قرب، ولا يغيب ابدًا عن ذاكرة لبنان باعتباره البلد الذي جُبل من ترابه، ولا عن ذاكرة أستراليا؛ المهجر الذي قضى فيه ثلثي حياته، وشهد له أغزر نتاج أدبي جاد؛ حيث ارتبط المشهد الثقافي العربي باسمه، واقترنت صوره الحديثة بإنجازاته الغنية؛ فالكثيرون يحملون شعلته المضيئة ويكنون المحبة والولاء لاسمه الكبير. أما أنا فأحني الرأس احترامًا لاسمه العريق وإجلالاً لشخصه البريء ولعطائه المتصل بالثقافة ودوره المرموق في تاريخ الأدب المهجري الحديث".
قُبلة محبة عراقيّة أطبعها على جبين ذلك الارز اللبناني الشامخ الذي يبدو لي ولغيري دائمًا "كالصائغ" ينتقي الفصوص النادرة والمعادن الاصيلة والاحجار النفيسة ثم يصوغها للقارئ في حلةٍ قشيبة.
أَختم بالعودة إلى ما بدأتُ به: إنَّ من حق كلّ بلد وملة وجالية أن تزهو بعباقرتها وتتباهى بأدبائها وتفاخر بمبدعيها، "ويحق لنا أيضًا ملة أدباء المهجرالأُسترالي، أنْ نضعَ الأستاذ شربل بعيني على رأس مفاخرنا الأدبيّة في هذا العصر".
هذا قليل من كثير عن قديس الكلمة شربل بعيني، الذي يقف منذ عقودٍ على قمة هرم الثقافة العربية في أستراليا. سائلاً الله أن ينسج له بيد لطفه ثوب حياة لا يُبلى . الّلهمّ آمين.
ــــــــ
[1] صدح صوته عام 1987 في مهرجان المربد الشعري الثامن في بغداد، فقال عنه الأب الشاعر الدكتور المرحوم يوسف السعيد: "لقد هزّ شربل بعيني المربد الشعري". إذ وصل الحال أن يختم التلفاز العراقي على مدار اسبوع بطوله نشرة الأخبار بقصيدته التي طبقت شهرتها الأفق: "أرض العراق.. أتيتكِ". وأذكر للتاريخ،: إنّه أوّل شاعر مُعاصر ينشد قصائده في المربد بمزيج من اللهجة العامية اللبنانية والعربية الفصحى!!، وهذا كان مُخالفًا لتقاليد المربد، ومع ذلك وقف الحضور اجلالاً له؛ هتفوا وطبقوا الاكف مرارًا اعجابًا بقصيدته.
[2] كان لكاتب هذه السطور اليد الطولى في اعادة البعيني إلى الحراك الادبي والمشهد الثقافي من جديد بعد انقطاع طوعي معروف.
[3] بالعودة إلى خزانة الذّاكرة أجد إنّني قرأت أسمه لأوّل مرّة في موقع إيلاف، ثمَّ تناهى إلى سمعي صوته يوم عرّفني به الصحافي جوزاف ابو ملحم.
[4] صدرَ له في الاسبوع الأوّل من عام 2016 ديوان "اوزان" بالفصحى.
[5] لا أنسى إنطباعات أصدقاء شربل عن تلك المرأة؛ فقد سمعت منهم خلال الجلسات (الله يرحم أمك القديسة يا شربل). ولا أعلم أيّ صمت كان يراوده يوم باح لي عمّا يختلج في الاعماق: "ما اشتقتُ إلى شيءٍ في حياتي قدر اشتياقي إلى حضن أمي". لقد طبعت والدته اثرها في حياته أكثر من أيّ إنسان آخر. وإنْ كانت الحكمة تنص: وراء كلّ رّجل عظيم امرأة، فأنّ شربل كان وراءه أمّ قديسة، رحلت عن عالمنا الفاني منذ سنوات خلت. عليها رحمة الله.
[6] القى شربل بعيني قصيدته "بغداد أنت حبيبتي" في مهرجان رابطة البياتي بتاريخ 17/6/2015 بسيدني، فنالت اعجاب الجمهور بعد أن حبس بالقائه أنفاسهم، ثمّ جوبهت بالتصفيق الحار، وهتف له بعض الحضور أنت عراقي. ومن ثَمَّ غناها الفنان العراقي إسماعيل فاضل.
**
لكلّ خيمة وتد ولكلّ أدب عميد
ـ3ـ
كانت الفكرة السائدة لدى الباحثين والعامة من الناس أنّ نهضة الأدب العربي المهجري بدأت في أمريكا الشماليّة والجنوبيّة وانحصرت هناك وهي ذات طابع لبناني بارز، ومن روادها الأوائل جبران خليل جبران، ميخائيل نُعيمة، إيليا أبو ماضي، الشاعر الشاكي رشيد أيوب، الأديب المُقل في نشره إلياس عطا الله، أحمد زكي الشاعر المصري، الشاعر والناقد السوري عبد المسيح حدّاد،؛ حيث اصدروا الصحف وأَسَّسوا الرابطة الأدبيّة هناك.
إنّ أدب المنفى بات مقرونًا بالرابطة القلميّة، التي تعود نشأتها إلى عام 1920 في نيويورك. أو بالعصبة الأندلسيّة في ساون باولو البرازيلية المقامة في مطلع ثلاثينيات القرن المنصرم، وبذكر العصبة يتوافد إلى الذهن ميشيل نعمان معلوف، والشاعر القروي رشيد سليم الخوري الذي ترأسها عام 1958. من دون الالتفات إلى الأدب المهجري في أستراليا.
من المؤكد أنّ أدبًا مهجريًا وكتابات عربية ظهرت في المنفى الأمريكي، حيث يذكر لطفي حدّاد في مقاله "خواطر في الأدب المهجري المعاصر"، إنّ "أول صحيفة عربية ظهرت في المهجر الأمريكي كانت "كوكب أمريكا" عام 1892، أصدرها إبراهيم ونجيب عربيلي". ولكنني مع الرأي السائد والقائل بأنّ الأدب العربي في أمريكا تبلور وعُرف مع نشوء الرابطة القلمية.
وإذا عرجنا نحو الأدب المهجري في بلاد الاقيانوس، فلا بُدّ لنا من العودة إلى ما ذهب إليه د. بول طبر في كتابه المطبوع عن الجاليات العربية في أستراليا، وذلك لمعرفة الاعداد المهاجرة من البلدان الشرق أوسطية....، فنقرأ: "تشير الإحصائيات المتوفرة للباحثين إلى أنه مع نهاية القرن التاسع عشر، بلغ عدد اللبنانيين المولودين في لبنان 1750 شخصًا، كانوا موزعين على الولايات الاسترالية..." (ص54). ويضيف في ص (56) من الكتاب: "ومع حلول عام 1947، وصل عدد المهاجرين اللبنانيين، ومن ضمنهم الجيل الثاني والجيل الثالث إلى ما يقرب الـ7000 شخص". "وتشير الإحصائيات الرسمية إلى إن المعدل السنوي بين عامي 1947 و1961 كان 400 شخص، وارتفع المعدل إلى 800 شخص خلال عامي 1961 و1966، ليعود ويرتفع بشكل ملحوظ ما بين عامي 1966 و1971 ويصبح 3000 شخص" (ص60).
"وبالمقارنة باللبنانيين، احتل المصريون المرتبة الثانية بالنسبة إلى عدد المهاجرين العرب إلى أستراليا" (ص61).
ولا نعلم متى بدأت الهجرة العراقيّة إلى هذه البلاد العزيزة، لكن الدكتور بول طبر يفيدنا في كتابه المذكور آنفًا أنّ عددهم في عام 1976 لم يتجاوز 2273 شخصًا" (ص 67). ومن المؤكد أنّ العدد ارتفع بصورة واضحة بعد عامي 1991 و2003.
وأنقل هنا للقرّاء نص ما كتبته الكاتبة نجاة فخري مرسي في دراستها الموسومة: "حول نشأة الأدب العربي المهجري في أستراليا" والمنشورة في موقعها الالكتروني:
"يعود تاريخ الهجرة العربية إلى عام 1860م، إلا أن الصحافة العربية قد بدأت بوادرها في الظهور عام 1957م، وهو تاريخ صدور أول نشرة نصف شهرية اسمها "الوطن العربي" ولم تستمر أكثر من عام. وفي العام 1965م صدرت جريدة “القمر” النصف شهرية ثم جريدة ”الهدف” الأسبوعية. وفي أواخر الستينات صدرت صحيفة “صوت المغترب” ثم غابت ثم عادت، وكانت عودتها بداية انتظام الصحف اللبنانية والعربية، تبعتها جريدة “التلغراف” كل خميس. وفي عام 1975م، أصبحت التلغراف ملكاً لأربعة شركاء هم: بطرس عنداري، إدوارد عبيد، جورج جبور، وجوزيف خوري” وما زالت تصدر حتى الآن ثلاث مرات في الأسبوع[1]. وفي العام 1977م، تم تأسيس جريدة “النهار” التي ما زالت تصدر حتى الآن مرتين في الأسبوع. وفي العام 1986م، صدرت جريدة “البيرق[2]” التي تصدر حالياً ثلاث مرات في الأسبوع. وصحفنا المهجرية اليوم تصدر جميعها بانتظام، وبدأت تستعمل التكنولوجيا الحديثة التي تُمكنها من نسخ نصف موادها عن الصحف العربية، حتى أنها تستعمل نفس أسماء الصحف العربية في الوطن الأم.
يقول تقرير سليم الزبال في مركزه للمعلومات، إن مائة جريدة ومجلة عربية صدرت في أستراليا منذ عام 1957م، حتى صدور مركزه للمعلومات عام 1989م، “منها حوالي 36 مجلة”. واختصاراً للوقت، سأكتفي بإدراج أسماء أوائل المجلات العربية التي صدرت في أستراليا.
أوائل المجلات العربية في أستراليا:
يقول هذا التقرير المعلوماتي إن أول مجلة صدرت في مدينة ملبورن عام 1963م كانت مجلة “النور” واستمرت تصدر حتى عام 1867م، شهرية وأحياناً نصف شهرية. وإن مجلة “ المنارة” كانت أول مجلة دينية صدرت عن اتحاد المجالس الاسلامية في أستراليا عام 1964م، وكانت تصدر أربع مرات في السنة، ثم أصبحت تصدر مرتين سنوياً، وتحتوي على مقالات بالعربية والانكليزية. وإن مجلة “الرسالة“ كانت أول مجلة سياسية اجتماعية، صدرت في ملبورن عام 1975م، شهرية استمرت لمدة عامين. وإن مجلة “الثقافة” كانت أول مجلة حزبية شهرية تصدر في أستراليا عام 1975م، استمرت لعدة سنوات. وإن مجلة “الاقباط” كانت أول مجلة دينية تصدر عن الهيئة القبطية الأسترالية عام 1977م، وتوقفت بعد إصدار عددها الثاني.
وهكذا استمرت المجلات العربية بالصدور، منها من يستمر، ومنها من يتوقف بسرعة تدل على أن الأعباء المادية، وضآلة التوزيع هما السبب في هذه المعاناة. ومع ذلك ما زلنا نقرأ مجلات التسعينيات، حتى صدور مجلة “الجذور” في ملبورن التي نتمنى لها قوة الاستمرار.
هكذا، وبعد هذا العرض المختصر، نجد بل ونستنتج أن الصحافة العربية كانت وما زالت تصر على تأكيد وجودها، ولو بشق الأنفس، بل وما زالت الدليل الصارخ على رغبة المهاجر اللبناني خاصة، والعربي عامة، في التمسك بلغته وتراثه،“ وكما نعلم أن أكثر مشاريع الصحف كانت تجارية وثقافية معاً”.
رابطة إحياء التراث العربي:
ننتقل الآن للحديث عن هذا الحدث الثقافي العربي في المغترب الأسترالي.
تأسست رابطة إحياء التراث العربي في سدني عام 1981م ”في سنة جبران العالمية”، وبدأت نشاطها تحت اسم ”تجمع أصدقاء جبران” وفي الحفل الذي أحياه التجمع للمشاركة بتكريم جبران، أعلن عن إنشاء جائزة وقدرها “500 دولار” تُمنح لأفضل بحث أو دراسة تتنأول سيرة جبران وأدبه، وأن تحمل هذه الجائزة اسم ”جبران خليل جبران” وكما قرر التجمع أن يتخذ اسم ”رابطة إحياء التراث العربي في أستراليا” وحدد أهدافه في دستور، وكان من بين أهدافه إحياء التراث العربي في أستراليا. وفي عام 1984م، احتفلت الرابطة بأول جائزة تحمل اسم “جبران خليل جبران” وكان الحفل حافلا بالمؤيدين والخطباء، حيث فازت السيدّة وداد الياس بالجائزة الأولى، وفاز السيّد إيلي ناصيف بالجائزة الثانية، وهكذا استمرت الرابطة باقامة الندوات وتقديم الدعوات ومنح جائزتها الجبرانية لمن تقرر لجنتها أنه يستحقها، إلى أن سجلت نجاحها بعد أن فردت أجنحتها إلى الأوطان العربية، وإلى المغتربات والمهاجر العربية الاخرى".
وجبّ عليَّ هنا أن أذكر شهادة للتاريخ، الذي يعلم المشتغلون به انه ليس لعبة نلهو بها، أو نكتبه وفقًا لاهوائنا ومصالحنا، فالتاريخ احداث لا يجب العبث بها أو تطويع سياق وقعائعه لخدمة دراسة ما أو فئة معينة من الناس، أقول هذا لكي أوضح إنّ تلك المسابقة الجبرانية اليتيمة لم تكمل سيرها، بل توقفت لأكثر من ثلاث سنوات، إلى أن التقى شاعرنا البعيني عام 1985 برئيس الرابطة آنذاك الاستاذ كامل المر وأقنعه بإيجاد جائزة عالمية ثابتة باسم الفيلسوف اللبناني جبران، وبعد الموافقة قام شربل بتصميم براءة الجائزة، كما صمم الميدالية الاستاذ صبري رمضان. وكان من جميل الصدف، أنّ أوّل من فاز بها عام 1987 هو الأستاذ شربل بعيني.
وإليكم بعض ما جاء في كتاب "أجمل ما قيل بأدب شربل بعيني" في فصل "جوائز تقديرية"، لمؤلفه المهندس السوري المرحوم رفيق غنّوم عن الجائزة:
"عام 1987، منحت رابطة إحياء التراث العربي جائزة جبران العالميّة للشاعر شربل بعيني، وكان من أوائل الذين فازوا بها.. وها أنا أنقل من أرشيفه قصّة فوزه بالجائزة، كما دوّنها بقلمه:"سنة 1985، كنت أطبع ديوان الغربة الطويلة في مطبعة الثقافة التي يملكها كامل المر،
فدار بيني وبينه حديث غلّفه بخيبة أمله بمعظم الذين تعامل معهم في الرابطة، وأنهم لا يصلحون لشيء، وأن الرابطة تراوح مكانها، فقلت له:
ـ لماذا، يا كامل، لا تنشىء الرابطة جائزة أدبيّة تحمل اسمها إلى كافّة أقطار العالـم؟
فأجاب:
ـ قديماً أجرينا مباراة باسم "جبران"، كانت جائزتها من نصيب السيّدة وداد الياس والأستاذ إيلي ناصيف.
فقلت:
ـ عظيم.. فليكن اسم الجائزة "جائزة جبران".
قال:
ـ وكيف سيتمّ هذا؟
قلت:
ـ أنا أصمّم البراءة وأنت تطبعها.. ويقوم صبري رمضان بتصميم الميداليّة.
وهكذا صار، ولكن المفاجأة الكبرى كانت عندما منحتني الرابطة الجائزة، ولـم أكن قد انتسبت إليها بعد. فقلت لكامل، واللـه يشهد على ذلك:
ـ يا كامل.. أنا لـم أصمّم الجائزة، ولـم أطلب منك إنشاءها كي أحصل عليها.
فقال:
ـ لا أحد غيرك يستأهلها.. أرجوك أن لا تفتعل خضّات في بداية توزيع جائزة أنت تعبت وسهرت من أجلها.
وبعد عودتي من المربد الشعري في بغداد، علّقت الرابطة أوّل جائزة جبرانيّة على صدري.."
وعن نفس الموضوع يفيدنا الإعلامي المخضرم أكرم برجس المغوش في مقاله الموسوم "الشاعر شربل بعيني مؤسس ومصمم جائزة جبران للأدب العربي" المنشور في موسوعة "شربل بعيني بأقلامهم":
"عندما أسسنا رابطة احياء التراث العربي انتخبت سكرتيراً لها فاقترح علينا الشاعر والاديب المعروف شربل بعيني توزيع جائزة كل عام باسم الاديب العالمي جبران خليل جبران فأخذنا بالاقتراح وكان المصمم والمؤسس والممول لهذه الجائزة المعنوية الشاعر الاديب شربل بعيني.
وفي عام (1987) جرى أول احتفال لتوزيع الجائزة التي قدمها سفير لبنان لدى استراليا ونيوزلندا الدكتور الاديب لطيف ابو الحسن، نالها الشاعر شربل بعيني والدكتورة الاديبة سمر العطار والاديب فؤاد نمور عن الاديبة انجال عون وسكرتير رابطة احياء التراث العربي الاعلامي اكرم برجس المغّوش عن الاديب الكبير نعمان حرب صاحب المؤلفات العديدة عن ادباء المهجر وابطال التاريخ العربي النزيه والمشرف وخاصة في محافظة السويداء جبل القائد العظيم سلطان باشا الاطرش .
وامانة للتاريخ يهمنا ان نذكر ان جسر التواصل الذي بنيته مع راعي الادب المهجري الاستاذ نعمان حرب وجريدة الثقافة السورية وادباء المهجر كان خير من ادى الرسالة وعمق المحبة الشاعر بعيني لان المحبة رسالة والله محبة. .
وامانة للتاريخ يهمنا ايضاً ان نؤكد ان المؤسس لهذه الجائزة هو المبدع شربل بعيني صاحب المؤلفات العديدة في الشعر والنثر والقصة والمسرح والادب واكثر المؤلفات التي كتبت عنه والاهم انه قدم منزله في مسقط رأسه هدية لبلديتها حيث سيحولونه متحف الشاعر شربل بعيني مثل دارته التي كانت وما زالت مشرعة الابواب حسب وصية والديه رحمهما الله بعيداً عن السياسة الهدامة....."
ما أرمي الوصول إليه من هذه الاستشهادات إنّ أدبًا مهجريًا كان لا بُدّ وأن تأسس قبل وصول "البعيني" إلى هذه القارة المترامية الاطراف، من خلال هجرة رعيل من المهاجرين العرب إليها، فمن المؤكد أنّ هناك من سبق شربل بعيني من الأدباء والشّعراء اللبنانيين والعرب إلى هنا، فلا يختلف إثنان على أنّ هناك من أسس صحافة عربية وجمعيات أدبيّة مهجريّة، وهناك من طبع كتبه في لبنان أو مصر أو سورية....ووزعها في أستراليا كالشاعرين اللبنانيين عصام ملكي "عذاب الحب 1973" وسمعان زعيتر "لبنان 1974"، ولكن شربل كان السبّاق في طبع أوّل كتاب عربي في المغترب الأسترالي وهو "مجانين" عام 1976[3]، ووزعه في أستراليا ولبنان وسائر الدول العربية. ويخبرنا شربل: إنّ عمال المطبعة لم يفهموا أرقام الكتاب العربية، فجاء جمع صفحاته سيئًا للغاية، فاختلط حابل القصائد بنابلها، فما كان منه إلّا أن أطلع صاحب المطبعة على "الكارثة"، فتفهّم الأمر وأعاد طباعة الكتاب من جديد، بعد أن سمح لشربل بالبقاء في المطبعة طوال مدة طبع وجمع الكتاب.
حمل شربل حقائب هجرته إلى أستراليا عام 1971 قادمًا من تاج الشرق لبنان، ولحظة وصوله لم تكن الأرض معبدة أمامه ولم تكن مفروشة لا بالورد ولا بالارز، بل كانت مليئة بالصعاب الحياتيّة، ولكن اصراره على صنع الذات، جعله يتغلب على قساوة الحياة والكثير من المعوقات، ورويدًا رويدًا استطاع الوصول إلى ما وصل.
كان شربل يحمل موهبة أدبيّة واعدة في بلده، ولأن الموهبة لا بُدّ من أن تكشف عن ذاتها، تراه أشرق شعرًا ونثرًا وصحافةً وخلقًا. ازهرت موهبته في مجدليا، لكنها اينعت وتدلت قطوفها الناضجة في سيدني؛ إذ صدر له في لبنان ديوانان شعريان: "مراهقة" 1968، والذي ستحتفل الجالية بيوبيله الذهبي عام 2018 بإذن الله، بعد أن احتفلت بيوبيله الفضي عام 1993. و "قصائد مبعثرة عن لبنان والثورة" عام 1970. لتكرّ بعدها مسبحة الكتب، فنَشَرَ حتّى الآن أكثر 43 مجموعة شعريّة ما عدا أعماله الكاملة، وكتبه المدرسيّة التي لم تزل تُدرّس حتّى الآن في معظم المدارس العربيّة والأستراليّة التي دخلها برنامج تعليم اللغة العربيّة.
ولأن أستراليا وطن للمنفيين والمهاجرين، نلقى حكومتها تشجع الكتابة مهما كانت لغتها، وتدعم تأسيس الروابط والجمعيات والمنتديات الثقافيّة بلغة اعضائها، إثراءً للثقافة الأستراليّة المتنوعة والمتعددة، لهذا عقب استقراره، وجدَ شربل الظروف مهيأة أمامه في المجتمع الجديد للانخراط في الحراك الأدبي بعد أن بسط جناحيه في فضاء التجارة كتاجرٍ، فساهم على نحوٍ فعّال مع من سبقوه في تبلور حركة أدبيّة مهجريّة، لعبت دورًا في عدم جرف المهاجرين الشرق أوسطين إلى امواج وتيارات الهجرة، كما جرفت غيرهم من قوافل المهاجرين من بلدانٍ شتى، من خلال نشر اللغة العربية بشقيها الفصيح والعاميّ، علاوة على الإتشاح بالروح الوطنيّة والتمسك بثقافة البلد الأم. ويظهر جليًا في أدب شربل الأغترابي تلك النزعة الوطنيّة التي لم يستطع منشار الغربة أن يشطرها، فأصبحت كلمته بمساحة الوطن.
صحيح ان الوطن لفظه كما لفظ غيره لأسباب ليست كلها سواء، لكنه رفض أن يمحو سجل لبنانيته بمنشفة مبللة بخطإ أو خطأين أو حتّى ثلاثة من ساسة العصر في لبنان الموجوع!، وامتنع عن البكاء على الأطلال والجلوس في جبال الماضي، فرسم بالكلمة لبنانًا جديدًا فاتنًا على بياضات الورق، أكثر جمالاً وسلامًا من لبنان الذي يشاهده في التلفاز أو الذي يقرأ عنه في الصحف خلف قضبان الغربة.
ولكي أكون موضوعيًا ودقيقًا في طرحي، اذكر هنا: إنّ اللبنانيين لهم اليد الطولى في تبلور وبروز حركة أدبيّة واضحة المعالم على سطح الاغتراب الأسترالي [4]، كان لشربل بعيني بصمات ناصعة في توضيحها، وجهودًا حثيثة في الرفع من لغة الضاد، ودور كبير في هذه الحركة وجعلها أدبًا مهجريًا واسع الانتشار، خاصّة في عقدي الثمانينيات والتسعينيات من القرن المنصرم، من خلال رابطة احياء التراث العربي، وعَبرَ كم هائل من منشورات أدبيّة وصحفيّة، فضلاً عن دعوته نخبة من الأدباء العرب من خارج أستراليا للمشاركة في مهرجانات الأدب المحليّة، للتعرف بقدرٍ أكبر على الأدب المهجري في بلاد الأوز. كما شكلت مراسلاته مع نزار قباني والأب يوسف السعيد، وعبد الوهاب البيّاتي، والمرحومين عصام حدّاد ومحمد الشرفي، وايضاً مع محمد زهير الباشا وفاطمة ناعوت والدكتور رفعت السعيد وصبري يوسف وغيرهم دائرة الضوء المسلط والكاشف على الحركة الثقافيّة في أستراليا.
ولأن التاريخ يصنعه الشجعان المبدعون، وما شربل، سوى أديب لبناني مبدع، استطاع بنور قصيدته أن يضيء ليل المنفى ليسجل تاريخًا، فشيد مع غيره عمارة الأدب العربي المهجري على تراب الجزيرة الأستراليّة العالقة في كعب الدنيا. وهأنذا اسوق نص الرسالة التي ارسلها الشاعر العراقي الراحل عبد الوهاب البيّاتي إلى شربل عام 1988 فهي تؤكد تلك الحقيقة:
"... وقد ذكرت لك في رسالتي أن أحد الأصدقاء قد كتب مقالة عن هذه الندوة، وقد كتبها فعلاً ونشرت في الطبعة الدولية لجريدة (القبس) الكويتية، وهي من أهم الصحف العربية، وتوزع يومياً في كافة أرجاء الوطن العربي والولايات الأمريكية وكندا وكافة الأقطار الأوروبية. في طي رسالتي هذه أرسل إليك نسختين أو صورتين من مقالة الصديق هذه وعن طريق نشر هذه المقالة يكون القارئ العربي في كل مكان من العالم قد اطلع ولو بشكل مختصر على نشاطكم الجمّ وعلى ما تقومون به من خدمة جلّى للثقافة العربية مع خالص الود والاحترام..." [5]
لقد قرأه الناس في السبعينيات بلبنان، وفي أستراليا أدهشتهم همته وحرصه على الأدب والأدباء، أضف على ذلك غزارة قلمه السّيال في الثمانينيات والتسعينيات على صفحات الصحف والمجلات والكتب والدواوين، أما صوته فقد رنمَ الشعر في محافل يطيل الحديث عنها، كما أن كلماته ازدادت ضياءً في الألف الثالث.
اقام في بيته عدد كبير من الأدباء والشّعراء والصحفيين من خارج أستراليا، وفي هذا البيت أيضًا اقيمت اماسي شّعريّة كثيرة. ولا ننسى مساعدته الماديّة أو الطباعيّة وتشجيعه المعنوي وتحفيزه الأدبي لغيره من كُتّاب الحرف في طبع نتاجاتهم الأدبيّة في أستراليا.
فلا أجد غرابة في الأمر حين أطلق نخبة من حمَلة القلم لقب عميد الأدب العربي في أستراليا على الشاعر شربل بعيني، ومن هؤلاءِ:
الصحافي جوزيف أبو ملحم، الكاتب موسى مرعي، الكاتب سركيس كرم، الكاتب أنطوني ولسن، الشاعر سايد مخايل، شاعر المهجر الأكبر يحيى السماوي، الأب يوسف جزراوي، الشاعر حيدر كريم، الشاعر أحمد الياسري في أمسية العراقيّة 2015، الشاعر المندائي بنان في أمسية العراقية 8 اذار 2012، الفنان منير العبيدي حين طلب من الأستاذ شربل تقديم الجائزة التي منحتها مؤسّسة آفاق للدكتور خلف المالكي، الإعلاميّة إلهام حافظ لحظة أثنت عليه عقب نبذة الشاعر الياسري في أمسية العراقيّة عام 2015.
وبالعودة إلى اضابير الذّاكرة، فإنّني أجد أنّ الأستاذ شربل سبق وأن رفض هذا اللقب في مقالٍ كان قد كتبه على صفحته في موقع الغربة، وفي أمسيّةٍ ثقافيّةٍ زاملته فيها، ودعوني أبدا من الثانية: حدث في إحدى الأماسي الثقافيّة التي اقامتها رابطة البيّاتي الشّعريّة أنّ عريف الحفل وهو الشّاعر العراقي حيدر كريم قدّم الشّاعر اللبناني شربل بعيني كالاتي: الآن كلمة شّاعر الغربة الطويلة، الكبير شربل بعيني، عميد الأدب العربي المهجري في استراليا. وأذكر أن الأستاذ شربل همس في اذني قائلاً: "أنا لست عميدًا، يا أبانا هناك من هم أجدر مني بهذا اللقب". ولكَم كبرَ الكبير شربل يومذاك في عيني كثيرًا لتواضعه الجمّ، فالكبار يبقون كبارًا وإن كمّوا افواههم تواضعًا عن البوح بمنجزاتهم، بل إنّ تواضعهم يزيدهم كبرًا واجلالاً ورقيًا، والصغار يبقون صغارًا مهما ثرثروا في ادعاء ما ليس لهم، بل إنّ ثرثرتهم ونفخ ذاتهم المتورمة الكاذبة تزيدهم صغرًا، حتّى يختفوا عن انظار الإبداع ويمحوا من سجلات الخلود.
وفي مقالٍ كتبه شربل بعيني في صفحته بمجلة "الغربة" بعنوان "أنا لست عميداً للأدب المهجري"، بعد أن لقبّه بعض الادباء والشّعراء بذلك، والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل شربل بعيني جدير بحمل هذا اللقب، بعد أكثر من ثمانية وأربعين سنة من العطاء الأدبي في الوطن والمهجر؟. وقبل أن أجيب على هذا السؤال إليكم ما كتب:
"منذ عدة أيام اتصل بي أخي وصديقي ورفيق غربتي الاستاذ جوزاف بو ملحم، ليطمئن على صحتي، وهل تغلبت على "الانفلونزا" أم لا؟ وكم كانت دهشتي عظيمة عندما غيّر مجرى الحديث وقال:
ـ أتعرف يا شربل.. لقد آن الأوان كي نعلنك عميداً للأدب المهجري.
فأجبته وأنا أضحك:
ـ وهل أنا طه حسين؟
فقال:
ـ ولكنك أكثر من ضحوا في سبيل أدبنا المهجري، وتشجيع أقلامه.
وجوزاف بو ملحم، لمن لا يعرفه، هو خريج الجامعة اللبنانية ـ كلية الاعلام، ومجاز بالصحافة ومراسلة الوكالات الاجنبية. والناشر لجريدة "صدى لبنان" التي حضنت الأدب المهجري وأعطته سنوات ذهبية، كما أنه صاحب كتاب "الثورة في شعر شربل بعيني"، وحائز على جائزة جبران العالمية.
أحببت أن أسجل هذه الحادثة، بعد أن تفضّل علي الأستاذ موسى مرعي بمقال رائع، جاء رداً على ما كتبه الاستاذ سركيس كرم حول "خواطري"، ومن غريب الصدف أنه كتب في نهايته: "لقد تجرأت ووهبته من نفسي لقب "عميدنا" دون ان استأذن احدا".
هنا لعب الفأر في عبّي، وقلت في سرّي:
ـ لا بدّ من أن يكون قد حصل اتصال بين جوزاف بو ملحم وموسى مرعي، وإلا كيف أعلنني موسى عميداً للأدب المهجري بعد يومين من مداعبة جوزاف لي.
لم أنم تلك الليلة، ورحت أترقب الصباح بعيون جامدة، كي اتصل بجوزاف وأسأله إن كان يعرف شخصاً اسمه موسى مرعي، ولكم كانت دهشتي عظيمة حين أنكر معرفته به، فصحت بأعلى صوتي:
ولكنه أعلنني عميداً للأدب المهجري بعد يومين من إعلانك أنت، فكيف حصل هذا؟.
ضحك وقال:
- إنها صدفة غريبة حقاً.. والآن بإمكانك أن تقول أنني السبّاق شفهياً، وموسى مرعي السبّاق كتابياً بإعلانك عميداً للأدب المهجري.
والأغرب من ذلك أن شخصاً ثالثاً دخل على خط "العمدة" هو الاستاذ سركيس كرم، فلقد كتب تعليقاً على مقال موسى يقول فيه: "شكرا استاذ موسى مرعي على كلمتك عن الاديب شربل بعيني، وأضم صوتي الى صوتك وصوت كل من يثمّن الأدب الراقي. اما بالنسبة الى اطلاقك لقب "عميدنا" على الاستاذ شربل فهي مبادرة في محلها. هنيئا لنا بوجود حاملي راية الفكر في عالم الأنتشار والعاملين على إبراز صورتنا الحضارية وفي مقدمتهم شربل بعيني.. وهنيئاً لنا ب"غربة" حولها الى واحة من العطاء الثقافي المتجدد ومحطة لقاء لذوي الحيوية الانسانية البناءة والساعية دوماً الى الأفضل"..
وبدلاً من أن يرحم ضعفي، ويشد أزري، انضم الكاتب المصري أنطوني ولسن الى الشلة الثلاثية، فكتب يقول: "إلى عميد الأدب العربي في أستراليا الأستاذ شربل بعيني نقول: انه لشرف عظيم أن يختارك أدباء ومفكرون وأصحاب قلم وفكر متطور لتكون عميدا للأدب العربي في المهجر أستراليا. من رشحوك بالكلمة الشفهية أو بالكلمة المكتوبة، ما هم إلا عقلاء الأدب والفكر ولهم بصيرة أعمق من غيرهم، ورؤية أبعد منا جميعا. فقد رأوا ببصيرتهم ورؤيتهم أنه قد حان الوقت ليكون للأدب والأدباء عميد يثبت للعالم أن الأدب في المهجر أستراليا يفوق الأدب في بلادنا الأم. لأنه لم يتدنس بالمحسوبية أو بالتملق لرئيس أو حاكم. إنما نبع من فكر أدباء ومفكرين لهم قاماتهم ويعرفون حق المعرفة معنى أن يلقب أحدهم "شربل" بعميد الأدب. هنيئا لنا ولكل أديب أو مفكر بوجود من يمكننا أن نقول عنه عميد الأدب العربي".
ولكي يصبح عدد الأصدقاء مطابقاً لعدد أصابع اليد الواحدة، وصلتني من الشاعر العراقي الكبير يحيى السماوي هذه الكلمات الرائعة: "لو لم يجداك جديرا بذلك لما توافق رأياهما على اصطفائك عميدا ـ وها أنا أضم صوتي الى صوتيهما يا صديقي ليس لأنك شاعر كبير وذائد كبير عن الكرامة المتأصّلة في الإنسان فحسب، إنما ولأنك كنت أسبق منا جميعا في رفع راية المحبة العربية والأدب العربي في القارة الأسترالية".
والظاهر أن أصابع اليد الواحدة لم تعد تكفي لإحصاء المحبين، فلقد وصلني من الشاعر والاعلامي الاستاذ سايد مخايل هذا التعليق المشجع:
"العزيز شربل مهما عظمت الألقاب على أهميتها لا ترتقي الى روعة قصيدة واحدة من جرح قلبك أو الى مقالة واحدة من صدق قلمك.
ومهما عظمت القصيدة والمقالة لا قيمة لها من دون قلبك الأبيض الذي لا يضمر إلا المحبة للآخر. لذلك انت العميد للأدب العربي المهجري والقصيدة الرائعة والمقالة الصادقة والاهم عميد للقلوب الصافية الناصعة البياض".
كلمات أصدقائي الستة جوزاف وموسى وسركيس وانطوني ويحيى وسايد المفعمة بالمحبة، بدلاً من أن تفرحني، بدأت تخيفني حقاً، فكيف لي أنا المصلوب في غربتي، الغارق في وحدتي، أن أكون عميداً للأدب المهجري، وهناك من سبقني الى خدمة هذا الأدب، فحين وصلت الى أستراليا عام 1971، حاملاً خيبتي من وطني، وجدت طريق الأدب المهجري معبداً، فمشيت عليه دون خوف، وكيف أخاف، وقد التقيت به بأجمل الوجوه الأدبية، التي غمرتني بحبها وتشجيعها، وسخرت أقلامها للكتابة عني. لذلك اسمحوا لي أن أعلن، وبكل شفافية: أنا لست عميداً للأدب المهجري، بل جندياً للدفاع عنه وحاملاً لرايته، إلى أن يحين يوم رحيلي".
يقول الأستاذ سعيد تركي الشهراني من جامعة ديكن ـ ملبورن عن شربل بعيني في مقال بعنوان "كيف حافظ العرب الأستراليون على الثقافة والأدب العربي في بلد المهجر؟" ما يلي:
"ومن أبرز الشعراء في الأدب العربي الشاعر اللبناني الأصل شربل بعيني والذي أسهم بعدة مؤلفات شعرية ونثرية ومسرحيات باللغة العربية وأخرى باللغة الإنجليزية".
وراح يشرح معاني قصيدة اختارهها له بطريقة مدهشة:
"يقول شربل بعيني واصفاً الأديب الغريب:
تَغْفو.. وَفِي الْعَيْنَيْنِ طَيْرٌ أَزْرَقُ
بِرِياشِهِ الْمَلْساءِ بَدْرٌ مُشْرِقُ
يَخْتالُ في نَبَضاتِهِ فَرَحُ الدُّجَى
وَعَلَى مَسامِعِهِ الْمَدائِحُ تُهْرَقُ
بِجَمالِهِ، ما صاغَ رَبُّكَ طائِراً
وَبِحُبِّهِ بَوْحُ الزَّمانِ مُعَلَّقُ
هَذا الْغَريبُ الْمُستَنيرُ بِفِكْرِهِ
شِعْرٌ يُضَمِّخُهُ الشَّذا والزَّنْبَقُ
أَحْبابُهُ، عُدَّ الدَّقائِقَ وَاسْتَرِحْ
فَتَرَى الْمَطارِحَ بِالْغَريبِ تُحَدِّقُ
لا تَحْسَبَنَّ الْهَجْرَ يَرْفَعُ قَدْرَهُ
فالأَرْضُ وَقْعَ حُروفِهِ تَتَعَشَّقُ
قَبْلَ ارْتِحالٍ كَمْ تَمَنَّتْهُ الرُّبَى
مَطَراً.. وَحُلْماً أَخْضَراً يَتَفَتَّقُ...
إلى أن قال:
يا ابْنَ العُروبَةِ لا تَسَلْ فَعُيونُهُمْ
تَزْدادُ سِحْراً عِنْدَما تَتَأَرَّقُ
فَاكْتُبْ، أَديبـي، لا تَخَفْ أُرْجوزَةً
سَئِمَ الْمَغيبُ سَماعَها والْمَشْرِقُ
أَنْشِدْ، أَعانَكَ خالِقي، في غُرْبَةٍ
فَلَعَلَّكَ الإنسانَ فيها تُعْتِقُ.
عندما ننظر إلى قصيدة الشاعر نلمس مدى إحساسه كأديب بنظرة العالم من حوله عندما يتغنى بشعره بعيداً عن أرضه لبنان، حتى مع مرور السنين التي قضاها الشاعر في بلد المهجر تجد أن القلب يحنّ إلى أراضيه مهما كانت وعورتها. ومع وجود الحياه الساحرة في البلدان الأخرى إلا أن الشاعر العربي يجد نفسه لا إرادياً يتغنى بجبال ضيعته أو جمال أوديتها ويستمر في غنائها وأشعاره حتى مع علمه بوجود أعين الفضوليين من حوله".
اما الشاعر العراقي احمد الياسري، مدير تحرير جريدة العراقية، فقد كتب عنه رؤية نقدية وجدانية بمقالة نشرت في عموده الاسبوعي بجريدة العراقية، مرتبطة بموجة الحزن التي اجتاحت شربل بعيني بعد وفاة أخيه "مرسال"، فكانت شهادة الياسري في وقت وموقف غاية في الصعوبة ولكنه استطاع ان يدفع موجات الحزن عن صديقه بذكائه النقدي حين بوّب المقالة ووجها للقراء العراقيين الذين يعرفون شربل بعيني، ولم يطلعوا على امنيته الشعرية، وخصوصاً مناجاته الشعرية لشخصية الفيلسوف الاسلامي الكبير الامام علي بن ابي طالب حيث قال الشاعر والصحفي احمد الياسري في مقالته (صبراً يا صاحب المناجاة العلوية .. ان موعدك السكينة):
"لمن لا يعرف الشاعر اللبناني الكبير شربل بعيني في العراق أقول: ان هذا الشاعر المجدد هو احد اصدقاء الامام علي المسيحيين، فديوانه (مناجاة علي) الذي اعتبره الاديب العربي جورج جورداق تجربة ادبية شعرية متفردة و متميزة في قراءة شخصية المصلح والفيلسوف الانساني الكبير علي ابن ابي طالب.. تجاوز بها شربل حدود الشاعرية ليدخل بها آفاق السمو الانساني والانحياز للعاطفة البشرية التي ليس لها هوية ولا تعترف بحدود العقل، إشارتي الى هذه التجربة من تجارب الشاعر الموسوعي شربل بعيني لها دلالات وابعاد إنسانية واضحة، اممية هذا الشاعر وانسنته لكتاباته التي يخرجها من دوائر المألوف العقلي الى اللامألوف الروحي تجعله سلماً يتسلقه الموغلون في العشق، الذين يجمعون شتات حروفهم وافكارهم في الوطن الشعري المنفي شربل بعيني.
عام 2012 حين أقمنا حفل مولد جريدة العراقية التي يكتب بها الشاعر بعيني لم تكن علاقتي بشربل قوية لكنه فاجئني على المنصة بتلك الليلة بمقطوعة نثر اشاد بها بجهدي الشعري والصحفي بالجريدة جعلتني اشعر بخجل كبير، لم يكن شربل صديقي لكنه كان صديقاً لأفكاري، لم يرَ أي حرج بامتداحي وحين شكرته رفض الشكر وقال لي: "يا احمد اذا أردت ان تكون شاعراً متميزا فعليك ان تكون إنساناً متميزاً يقدر الإبداع ويحترمه مهما كان لونه او لغته..".
شربل بعيني هو خلطة إنسانية تتداخل بها كثافة المعنى مع الانحياز للمعطى الإبداعي مع التواضع والتواصل والتجدد متجرد من لغة الأطواق يدفع نفسه الى السمو بكل ما اوتي من قوة ادبية، كتب لبيروت وبغداد وعلي والمسيح، حين يعتلي منصات الشعر تجد ميخائيل نعيمة ينتفض من بين عروقه وحين يبحر بين امواج الهمس يذكرك بهمس البياتي واستصراخه لأزقة بغداد وشناشيل البصرة.
انه عميد أدبنا المهجري الاسترالي ليس بمنتجه الإبداعي فحسب بل بعطائه الانساني ورغبته المتمردة على كسر المألوف وخلق الجدل الذهني المتواصل بمختلف الأفكار الشعرية التي يحرص على طرحها بانتقائية وانحياز واضح لجمالية الفكرة وسمو المفهوم الأدبي، نتاجات شربل اللبنانية كانت عربية بامتياز ونتاجاته الفصيحة كانت لبنانية بتفرد، يُدخِلُ أبا نؤاس في ضواحي الشمال اللبناني وأروقة بيروت البحرية، ويخرج سعيد عقل وميخائيل نعيمة من ليال الف ليلة وليلة وسحر بغداد وغنجها العباسي الفريد..
ان الشعر في تجربة شربل بعيني وجع انساني غير منقطعٍ يتجاوز غلاف الازمنة ولا يقف عند سواتر الامكنة ، انه الضوء بكل ما يحمل من طاقة وإشعاع جمالي، والصوت بكل ما يحمل من هوسٍ على احتضان الصدى والانتشار في الفراغ.. انه الشاعر العربي اللبناني الاسترالي الكبير شربل بعيني.
اهدي هذه المقطوعة العراقية الصغيرة لهذه القامة الشعرية الفارعة تداعيات اغترابية:
دروبنا تقتلُ
وخطونا القاتلُ
نمشي على صخرةٍ
كأننا معولُ
نبدأ من فاصلٍ
لينتهي فاصلُ
نحملُ آمالنا
فيُرهقُ المحْمَلُ
نعيش في وحشةٍ
يغلي بِنَا مرجلُ
تسحقنا ارجلٌ
تتبعها ارجلُ
لا شيء إلا أنا
وانت يا شربلُ
وغربةٌ مرّةٌ
سكـُرها حنظلُ
إياك ان تنحني
فينحني السنبلُ
فَلَو هوت حبةُ
سيفرحُ المنجلُ
ولم يكتَفِ الياسري بذلكْ بل خصّه على صفحته بالفايس بوك بهذه العبارة التي تعتبر بحد ذاتها دراسة:
"شربل بعيني محطة من محطات الشعر العربي المهجري نفخر نحن الشعراء في استراليا اننا عاصرناه فهو امتداد منطقي لرواد الرابطة القلمية.
كما وصفه: "بالبحر الذي لا يمكن ان يهدأ فهو اكثر المبدعين قلقا وحركة حتى بين اسطر مقالاته".
ويسرني أن أختم بما بما قاله الأب الدكتور يوسف سعيد بكتاب "رسائل الأب يوسف سعيد الى شربل بعيني" المربد ـ بغداد 17-11-1987:
"شربل بعيني، يحبك كلماته كزنار مقتطع من قوس قزح. وحده يعرف كيف يصنع من ماء السواقي نسج السلسبيل والخرير. في المربد الثامن، أطلق عقيرته يناجي دماً، ويبارك شعراً. القصيدة التي قدمها بكل ما تملك في بواطنها من حمم أوقدت ناراً في صف الشعراء. بعيني.. أنت درّة نادرة الثمن، جاءتنا من لبنان وأستراليا".
من المعلوم عزيزي القارئ، أنّ أيّ مشهدٍ ثقافي بحاجة إلى وتدٍ يتوسط خيمته، أفليس لنا الحق نحن معشر كتّاب الكلمة وناشريها أو المشتغلين في الجمعيات والروابط الأدبيّة والحراك الثقافي في المنفى الأوزي (البعض أو الأغلبية)، أنّ ننتخب شربل وتدًا لخيمة الثقافة العربية وعميدًا لنا؟. سيّما وأنّ كبار الكتّاب والشعراء والأدباء العرب في مهجرنا وجدوا في منح شربل بعيني لقب عميد الأدب المهجري مطلبًا مُلحًا ومستحقًا.
ولئن نظرنا إلى الأسباب التي دفعتهم إلى هذا المطلب فأنني هنا أدفع إلى القارئ الأسباب الوجيهة، لأعلق كلمتي أيقونات واوسمة على سواري منجزه، بعد أن ايقظني الضمير على ضم صوتي إلى الآخرين في تفويضِ أديبٍ كبير رفيع الكلمة والخلق عميدًا لكلمتنا الاغترابيّة، اخفى قيمته في عباءة التواضع، سيّما وأننا نحيا في زمن بُتنا نصرخ فيه: يا أيها الأديب كن متواضعًا وخلوقًا".
- أصدر نحو 60 مؤلفًا من الكتب والدواوين في أستراليا [6].
- ساهمَ في التعريف عن الأدب المهجري الاسترالي في لبنان، العراق، سورية، مصر، اليمن، الكويت، الجزائر، أمريكا، السويد، لندن... من خلال ما كُتب عنه وعن أدبه ونشاطات رابطة احياء التراث العربي وعن مجلة ليلى وموقع الغربة في تلك البلدان.
- أَلَّفَ شربل وأخرج أكثر من 14 مسرحية للأطفال، أسموه بعدها برائد المسرح الطفولي العربي في أستراليا. وتجدر الإشارة أنَّ فنان العرب دريد لحام اشاد بجهوده يوم حضرَ إحدى مسرحياته في سيدني.
- يُزيّن أسمه مع نبذة عن حياته ومقتطفات من شعره معاجم عالميّة وعربيّة أهمها: معجم البابطين للشّعراء العرب المعاصرين/ الكويت، موسوعة الشّعر العامي اللبناني/ بيروت- لبنان.
إضافة الى الموسوعة الإنكليزيّة/ جامعة ديكن في ملبورن عن الأدباء الإثنيين في أستراليا.
- كتبه ترجمت الى عدة لغات عالميّة منها: الإنكليزيّة، الفرنسيّة، الإسبانيّة، الأورديّة، السريانيّة والفارسيّة، وهذا ما لم يحصل بهذا الكم لأيّ من أدبائنا وشّعرائنا العرب في مهجرنا هذا، وإن كان البعض منهم قد ترجمت نتاجاتهم إلى لغات غير العربيّة.
- توزع باسمه جائزة عالميّة [7] أوجدها الدكتور المرحوم عصام حدّاد وإدارة معهد الأبجديّة في مدينة جبيل اللبنانيّة.
- تبنّت وزارة التربية في ولاية NSW الأستراليّة مؤلفاته المدرسيّة، وعملت على طبعها، لا يزال العمل فيها إلى يومنا هذا في معظم المدارس العربيّة والأستراليّة.
- كُرّم كثيرًا، وحصل على جوائز أكثر، ولقب بألقاب لا حصر لها، آخرها اللقب الفخري الذي نحن بصدده الآن.
- كتبَ القصيدة المغناة للعديد من المطربين، نذكر منهم: هند جبران، ريما اليأس، وفاء صدقي، إسماعيل فاضل الذي غنى روائعه يا مصر، بغداد أنتِ حبيبتي، فافي.
- إن كانت نسبة غير قليلة تعزو المبادرة في إنفتاح المشهد الثقافي العراقي على المشهد اللبناني والعربي في سيدني والعكس بالعكس إلى الأب يوسف جزراوي، فأنّ كاتب هذه السطور لا ينكر بأنّ اليد الطولى في هذا الانفتاح تعود إلى شربل بعيني، عقب أن عرّفه على الكثير من الأدباء والشّعراء والمثقفين اللبنانيين والعرب، ليكونا "البعيني والجزراوي" الرئة التي تنفس منها الحراك الأدبي والثقافي بين الجاليتين بالوقت الراهن في هذا البلد العزيز، فلم يغب الشّعراء والأدباء اللبنانين والعرب عن كلّ الاحتفالات التي اقامتها مؤسسة العراقيّة وآفاق ورابطة البيّاتي وغيرهم، وكذلك كانت الحال مع المثقفين العراقيين.
- أصدرَ صحيفة ورقيّة "صوت الأرز" وأسس مجلة ورقيّة والكترونيّة عرفت بمجلة "ليلى"، ضرب انتشارها الآفاق؛ حتّى أنّ نسخها الورقيّة وقعت بأيدي الشعرّاء نزار القباني ويوسف السعيد، ولعلّ أجمل ما اصدرته هو العدد الخاص عن وفاة نزار قباني.
- وليس خفيًا على أحد، أنّ شربل هاجر من لبنان في سنّ المراهقة بسبب ديوان مراهقة، ولما عاد إلى لبنان عقب غربة قسريّة دامت ما يقرب من العشرين عامًا، راح يستقصي بعين الشاعر أحوال البلاد وناسها، مقارنًا بين الماضي والحاضر، ومستذكرًا أمكنة وأصدقاء وأقارب وأيامًا سوّداء وبيّضاء وحكايات الضيعة. عاد فوجدَ شهرته قد سبقته إلى هناك، إذ وصلت الحال إنه تفاجأ بجائزة عالميّة تحمل اسمه، تصدر عن معهد الابجديّة في لبنان. وأذكر أنه روى لي هذه الواقعة، اسجلها هنا فلكلِّ فرشٍ عرشٍ:
لما وقعت على مسامعه أحاديث عن شحة وصول نشاطات وفعاليات الجالية إلى لبنان، وانتبه إلى أنّ ثمّة أمرًا ضروريًا في حياته كان قد تغافل عنه، فطوى النفس على أمرٍ ما. ولما دارت السنوات بفصولها وشهورها، قرر افتتاح مؤسسة الغربة الإعلاميّة (موقع، تلفاز، راديو) اجرى خلالها العديد من المقابلات التلفزيونيّة لمعظم الشخصيات الأدبيّة المغتربة. البعض ساهم في تعريفهم، والبعض الآخر ليسوا بحاجة إلى تعريف، لأنهم أشهر من ان يتم التعريف بهم، لكن مع "الغربة" ازدادت شهرتهم بشكلٍ أوسع. مساهمًا في نقل فعاليات الجالية إلى لبنان وغيرها من البلدان، حتّى وصل الأمر بمؤسّسة الغربة الإعلاميّة أنّ تكون حاضرة في المغرب والنمسا.
- كما كان له الجهود الحثيثة في تأسيس رابطة أحياء التراث العربي مع غيره، وليس سرًا أن شربل كان له الثقل الأكبر في الرابطة في بداياتها، إذ ساهم مع الرابطة في استقطاب شخصيات أدبيّة وثقافية للقدوم إلى سيدني والمشاركة في فعاليات الأدب المهجري، كان اخرهم الشاعرة والأديبة المصريّة فاطمة ناعوت.
- وقد يكون هو أوّل شاعر عربي مناصفة مع الشاعر يحيى السماوي قد شاركا في المربد الشّعري العراقي في العراق، قادمين من أستراليا.
- تناول العديد من الأدباء على اختلاف مللهم ونحلهم وجنسياتهم رحلته مع اليراع، فنشروا عنه أكثر من 20 كتابًا، ما خلا 11 جزءًا من موسوعة شربل بعيني بأقلامهم.
عام 1993 نشر الأديب السوري الراحل نعمان حرب، صاحب سلسلة "قبسات من الأدب المهجري" مقالاً في جريدة الثقافة السورية وعلى صفحتها الأولى، نأخذ منه ما يلي:
"إنّني على صلة دائمة بأدباء وشعراء المهجر في كافّة أنحاء المعمورة، وأرى أن الشاعر شربل بعيني هو شاعر العصر في المغتربات، لا يوازيه أي أديب مهجري بغزارة الإنتاج الأدبي، ووضع مجهوده، وعبقريته، وماله، رهناً لإعلاء الأدب والفكر، وغرس الكلمة العربيّة في القلوب والنفوس، وبذل الذّات للحفاظ على ألق الحضارة العربيّة، وشدّ العلاقات والأواصر بين أبناء المغتربين وإخوتهم المقيمي".
الشاعر السوري مفيد نبزو فيقول في قصيدة كتبها عام 1988 ونشرها في ديوانه "شاعر أمتي شربل بعيني 2014":
"عرفتُهُ شاعراً.. غنَّى فأغنى
وهزَّ الأرضَ في شعرٍ متينِ
فَيَا أَمْواجُ هاتيهِ إِلَيْنا
وإلاَّ أَسرِعي ولَهُ خذيني
عروس الكرم قد تاقت إليهِ
تسائلني، أجاوبُها: دَعيني
أخافُ الشعر يُخجلُني فَهَيّا
أَعيني الشاعرَ المضنى أعيني
ولا تنسَيْ غداً، إِنْ عادَ، غَنِّي
فشاعرُ أُمَّتِي شربل بُعَيْني"
ومن سوريا أيضاً، أستشهد بعبارة للأديب محمد زهير الباشا صاحب كتاب "شربل بعيني ملاّح يبحث عن الله"، وجدتها في إحدى رسائله الى شربل، المنشورة في "الغربة":
".. فشعرك طاقة فنيّة ملهمة لا تلين أمام جبروت التسلّط، لأنك عشت وتعيش على درب الصفاء الثوري. فسيفك الشعري يخيف المتآمرين والمتخاذلين، وبريشة قصائدك تفضح المتحكمين برقاب الشعب".
وهل أجمل من التفاتة الشاعر السوري الدكتور اياد قحوش الى شربل في ديوانه الالكتروني "شربل بعيني شاعر الشعراء"، فلنقرأ ما كتب:
"وأنت يا شربل شاعر، ولكنك للأسف ذكي، فلا نقدر أن نجد هفوة لك مهما بحثنا. صلاتك الى أمنا فيروز مستجابة في سماء الشعراء لأنها شاعرة الغناء، ولأنك شاعر الشعراء".
ومن مصر أنتقي أبياتاً شعرية للمفتي الشيخ تاج الدين الهلالي، ألقاها في يوبيل شربل بعيني الفضي عام 1993:
"إنّ ذا يومٌ سعيد
هلا يا أحبّةَ عيني
إن ذا يومُ الوفاء
لك يا شربل بعيني
إن هنّأك الجمعُ مرّة
لأهنّأنَّكَ مرّتينِ".
بعده أنتقل الى الدكتور رفعت السعيد لأختار من بستانه هذه العبارة، التي يعلّق بها على منح المجلس القاري للجامعة اللبنانية الثقافية ـ فرع أميركا الشمالية لقب "امير الشعر في بلاد الانتشار" لشربل بعيني عام 2000 :
"لـم يضف المجلس القاري للجامعة الثقافيّة في العالـم أكثـر من أنّه اعترف بواقع واقعيّ، معترف به من جميع من يعرفون فضلك وإبداعك وشموخك".
ومن كتاب "حذار أن تصادق شربل بعيني 2014" للشاعرة فاطمة ناعوت، أختار:
"شربل بعيني شاعر وكفى! مبروك للمنصات عودتك، مبروك للعراقية والعراقيين كلماتك في آذانهم. فرحت بك الميكروفونات. وتعلّم منك الناس الشعر والكلم والحب. عش ألف عام".
أما الاعلامي اليمني أحمد الأشول فلقد كتب عام 1987 خلال وجوده في المربد العراقي هذه العبارة المنشورة في موسوعة "شربل بعيني بأقلامهم":
"شربل بعيني.. أثبت حقاً أن لونه الشعري يختلف ويتفرّد بميزة ما هنا في المربد".
ولكي ينفرد شاعر اليمن الأكبر محمد الشرفي بكلماته عن شربل بعيني نجده يجعل للقصائد أرجلاً كي تمشي، وعينين كي ترى، وأذنين كي تسمع، وهذه العبارات منشورة في كتاب "رسائل محمد الشرفي الى شربل بعيني":
"هل أقول إنك واحد ممن كنت أبحث عنهم في شعري، وأفتّش عنهم في زوايا الخيبة، وجفاف الأرض؟..
مثلك أيها الإنسان عملة نادرة، فأنت مبدع سلوكاً، ومبدع شعراً، ومبدع عملاً، وعلاقات مع الآخرين. لقد رأيت، وسمعت، وقرأت، فما أخطأت فيك عين، ولا خابت أذن، ولا كذبت قراءة.
وما كنت أحسب أن للقصائد قدمين تمشي بهما، وعينين ترى بهما، وأذنين تسمع بهما، حتى لقيتك".
عام 1988 أرسل الاستاذ المحاضر في جامعة تطوان ـ المغرب أحمد الطريبق أحمد رسالة أختار منها:
"إن الكتاب المرسل إليّ عن تجربتك، سيكون الجسر الروحي الذي سيربطني مع تجربة كل عربي في المهجر هنالك، هنالك في البعيد.
أما عن شخصك المرح، فقد افتقدناك في المربد التاسع، وهو مربد اللقاءات العربيّة على أيّ حال.. فيه من الشعر القليل، وفيه من الفوائد الكثير، وأهمها اللقاء الصادق الذي يربط بين الأدباء من أقصى الأرض إلى أدناها، ولا أدل على ذلك هذه الصداقة التي ربطتني وإياك، في صدفة من صدف الزمان".
ومن رسالة ابن السودان الدكتور تاج السر الحسن التي ارسلها إلى شربل عام 1987، أقتطف ما يلي:
"لـم أكن أصدّق عيني وأنا أتحدّث إلى واحد من أحفاد أساتذتي شعراء المهجر الكبار، حتى أتيح لي اللقاء بالشاعر الصديق شربل بعيني، فرأيت في وجهه البشوش طيبة أهل لبنان. وما أن قرأت قصيدته المربديّة، حتى أحسست فيها بصدق الشاعر، وأصالة التجربة".
أما البروفسور اليوغسلافي المستشرق رايد بوزوفيتش فلقد أدلى في المربد الشعري عام 1987 بهذه الشهادة: "شربل بعيني هو الشاعر الصارخ والمصارع من أجل الحقّ".
ومن تونس أستشهد بعبارة رائعة للأديب كمال العيادي المنشورة في كتاب "شربل بعيني الملك الأبيض" 2010:
"شكرا أيّها الملك الأبيض، وحارس حدود لبنان من نزق لبنان، أيّها الكاهن البديل، الذي يتربّع على عرش استراليا منذ عرفناه".
أحبتي القرّاء، من المؤكد أنّ كلمتي هذه عن الأستاذ شربل بعيني، ستقاس بمسطرة الإنحياز أو بمقياس المغالاة، على اعتبار أنّ كلّ تلميذ منحاز لأستاذه وكلّ صاحب يساند منجز صاحبه، لكنني حين أكتب، فإني أفعل هذا عن ضمير واتحدث عن اختبار وتجرد وموضوعيّة، إنطلاقًا من استحقاق شربل الذي كرس قلمه وأفنى عمره من أجل الأدب الأغترابي الأسترالي. وإن كنا نحيا في زمن كثر فيه المزورون والمدعون، لكنني على قناعة مطلقة أنّ الكثيرين يشيدون بجهوده ويقيمون خدماته ويثنون على أدبه ويحترمون قلعته الشّعريّة وهامته الإنسانيّة، خاصّة وأنّ البعض نشأ بين اسوارها. لهذا عكفت هنا على توثيق عادل ومنصف لوثيقة أدبيّة ثقافيّة تدعى شربل بعيني. ربّما هذا الطرح لا يهم القارئ، ولا يعود عليه بالنفع، فلن يلتفت إليه، لكني على قناعة أنّ الأيام ستمر ويصبح مادة تاريخيّة مهمة تستحق الإنتباه لها.
إنّ الجانب الشخصي للشّاعر شربل بعيني غاية في الجمال والرقي الإنساني، وعبقريّة أدبه فذة، فقد كان سّباقًا في نحت الإبداع الأدبي على صخرة المنفى. لذا فان الأدب العربي الأسترالي مدين لهذا الأديب الرائد المجدد، لأنه وضعه على الطرق الصحيحة دون أن يدعي ذلك، لأنه من طينة الزاهدين الذين لم يغرهم لمعان الذهب والدولار ولم يُبتلَ بمرض تكديسهما، ولم يعمِ بصيرته بريق الاضواء، ولم يقع في مطب العظمة أو الذاتيّة التي تجعل من صاحبها شخصية طاووسيّة لا ترى سواها، بل ظلَّ متواضعًا يحيا في صومعته البسيطة، يزهو بأدبه، زاهدًا ومتزهدًا عن متاع الدنيا. كريمًا يدرك كيف يُكرم الجميع، خاصّة الأصدقاء.
لم يمد يده لهذا وذاك مستجديًا المال والمجد والجوائز أو قراءة مقالاته أو كتبه كما يفعل أشباه الكُتّاب، بل بقي محتفظًا بقيمته التي أطلَّ بها بهالة لبنانيّة وموهبة أدبيّة ونزعة إنسانيّة واضحة.
إنّه شخص مُتأمل، له رؤية بعيدة ونظرة طويلة، يغلفهما دهاء أدبي. لا يتسرع في النقد، ولا يستسهل توجيه النصائح، غير أنه تسرع في نشر بعض مؤلفاته دون ان تختمر بشكلٍ جيد في فرن الزمن. ولعلّ جريمته الوحيدة هي رفضه دعوات للمشاركة في أكثر من مهرجان شّعري أكان في العراق [8] أو اليمن أو مصر أو تونس أو دبي أو الأردن.
لسانه لا يُصدّر إلّا كلمات المحبة والثناء، أما قلمه لا يعرف سوى التشجيع. لا ينظر إلى النقطة السوداء في اللوحة البيضاء، بل يحدق في النقطة البيضاء في اللوحة السوداء. لا يستهويه التهوين ولا التهويل، واقعي حتّى النخاع، منصف وموضوعي إلى حدٍ كبير.
وجَدَ في القول المأثور "اتقِ شرّ من أحسنت إليه" صدى بنسبة كبيرة في الوجوه التي عرفها، فمعظم من مدّ لهم يد العون وانتشلهم من واقعٍ مرير وعلمهم ما لا يعلمون وشرع لهم أبواب النجاح والإنتشار، تسلقوا على اكتافه بل قلّ على راسه كاللبلاب، ثمَّ انقلبوا عليه مفضلين مصالحهم في زمن الغدر والوصوليّة، زمن افتقدنا فيه النقاء ومبدأ الوفاء، البعض منهم عاد إلى جادة الوفاء والبعض الآخر لا يزال يجافي الحقيقة، لهذا لم ولن يتصور يومًا أنَّ السعادة تُبنى والخير يأتي على حساب الغير. فآثر الانعزال وقلة الاختلاط في السنوات الأخيرة، وأصبح فطنًا جدًا في إنتقاء الأصدقاء.
ونستشهد هنا بمقطع شّعري له، يؤكد صحة قولنا هذا، كان قد اثنى عليه (المقطع) المرحوم الشاعر عبد الوهاب البياتي في رسالته إلى شربل المؤرخة: مدريد 14/4/1988:
"سكران وحدي بغربتي سكران
ومسكّر بْوابي بوجّ الناس
بْحاكي كْراسي البيت والحيطان
وبْصير إتخانق أنا والكأس".
يقرف شربل التضليل، ويحارب النمطيّة والعبثيّة. يمقت الإزدواجيّة والمنافسات اللئيمة، يبغض البخل في كلّ شيء، تفرحه نجاحات الناس. ليس له ذات متضخمة، لا يُحدّث الناس بترفع ولا ينظر إلى زملائه من برج الـ أنا، لم ولن يدعي يومًا أنه أفضل من الآخرين.
آمن منذ مطلع شبابه أنَّ بناء الذات لا يأتي على انقاض الآخر، وأنَّ النجاحات لا تتحقق بالدهس على الآخرين أو بالتقليل من شأن منجزاتهم أو من خلال وخز خنجر الغدر في خاصرتهم، بل تتحقق معهم.
ولأننا شعوبٌ (باستثناء البعض) تمتدح الآخر في الوجه وفي الظهر تنتف ريشه، اعتادت أن تُصفق للمبدع بيدٍ واحدة، تجيد اجهاض الموهبة في احشاء اصحابها أو قتل الإبداع وهو في مهده!. إلّا أنّ الحياة عند إبن مجدليا رغم كلّ المتاعب والجلطات النفسية التي تعرض لها في رحلة الأدب التي ناهزت النصف قرن، لم تزل شجرة مثمرة طيبة، تهب ثمارها للناس، يرميه الناس بالحجر فيرميهم بيانع الثمر.
ولقد تبين لي من إحتكاكي ومتابعتي لسلوكه، أنّه ظل ثابتًا وصادقًا مع الذات والآخر في زمن سقط فيه الكثيرون، حتّى أنّ البعض غيّر مواقفه أكثر من مرّة، بعد أنّ سار في كلّ الطرق الملتوية ليقابل القبلات بالطعنات، والبعض الآخر فضل شهرة سهلة صنعها لنفسه، وفرتها له مواقف ذليلة، وسلوكيات مريضة، ينفر منها القريب والبعيد.
وليس من قبيل المغالاة إن قلت: إنّ المكتبة العربية لا سيّما في أستراليا كانت ستفتقد جزءًا من عشاقها لو لم يجذبهم إليها صاحبنا بمؤلفاته التي يقع في شباكها كلّ من يودّ تأمّل الحياة بواقعية ونظرة إنسانيّة ورؤيّة جماليّة.
خاتمة مطافي:
بعد كلّ هذا ألا يحق لشربل بعيني أن يحمل لقب "عميد الأدب المهجري في أستراليا"؟. وأعود إلى نقطة البداية: لكلّ خيمة وتد، ولكلّ أدب عميد.
فلِمَ لا يا شربل؟!.
إذ ان المسألة ليست في جوهرها لقبًا شرفيًا، لا يغني ولا يسمن أحدًا، بقدر ما هي تكريس لتلك الخبرة الأدبيّة الطويلة في توحيد كلمة ونشاط الأدب الإغترابي تحت مرجعية أدبيّة، فما المانع من أن تكون انت يا شربل قبطانًا لسفينة الأدب المهجري الأسترالي؟. فأنتَ كالفنار تهتدي به البواخر وهي تمخر عُباب البحار في خضمِّها.
عني أنا شخصيًا أجد شربل بعيني جديرًا بهذه (الرسالة - المسؤولية) ويستحقها قلبًا وقالبًا. وأنتم ما رأيكم؟. أترك الجواب لكم.
ليحفظه الرب القدير شّاعرًا إنسانيًا أوْلمَ على شرف الكلمة الحرّة البنّاءة موائدَ أدبيّة لا تحصى. وليستمر قلمه شجرة تتهدل منها الثمار الوافرة في بستان الكلمة وحقل الشّعر[9] .
ـــــــ
[1] تعود الآن صحيفة التلغراف إلى السيّد والي وهبة، ويرأس تحريرها الزميل الأستاذ أنطوان القزّي، وتصدر حسب علمي 5 ايام في الاسبوع، ما عدا يومي السبت والأحد.
[2] تغير أسمها إلى صحيفة " المستقبل"، وهي تعود إلى الزميل الإعلامي جوزيف خوري، وتصدر كلّ يوم اربعاء وسبت.
[3] حدثني أحدهم عن أنّ الروائي الأسترالي الكبير، صاحب الأصول اللبنانية ديفيد معلوف سبق شربل بهذا المضمار، وحين بحثت وتحققت وجدت أنه طبع أوّل رواياته المعنونة "جونو" في استراليا باللغة الإنكليزيّة عام 1975. إنّ إشارتي اعلاه عن كتابٍ كُتب وطبع باللغة العربية.
[4] قد لا يختلف المتابعون والمنصفون بأنّ حركة أدبيّة ثقافيّة عراقيّة توهجت في السنوات الأخيرة، أنعشت المشهد الثقافي الأغترابي في سيدني.
[5] رسالة مؤرخة من مدريد بتاريخ 29/9/1988.
[6] ربّما يعترض البعض ويقول: إنّ شربل بعيني شاعر كمي، عددي، ما كاد القارئ ينتهي من مطالعة كتاب له، حتّى أطلّ عليه بكتابٍ آخر. اوافقهم الرأي وأعطيهم شيئًا من الحق، ولكن من يتعرف إلى شربل ويواكب نتاجه، سيكتشف إنّه شاعر نوعي من طراز فريد، موهبته فياضة، تتولد القصيدة عنده بشكلٍ يومي، يمطر من سمائه الشعريّة دُرر الكلام. فكيف لا يكون غزير الانتاج؟!.
[7] يراد من مفهوم العالميّة، شيوعها ومنحها للمستحقين في أكثر من دولة وعلى شخصياتٍ متنوعة من جنسيات متعددة.
[8] في مهرجان المربد التاسع
[9] معظم المراجع اليوم تكون إلكترونية، وما على الباحث سوى وضع العنوان في محرك البحث "غوغل" ليصل الى المرجع، وهذا ما حصل في العديد من الاستشهادات في هذه الدراسة.
**
شربل بين مدّ الوطن
وجزر الغربة
ـ4ـ
كنتُ قد التقيتُ في سيدني للمرّة الأوّلى الأستاذ بطرس عنداري- رحمه الله- في حفلِ توقيع كتب الكاتب المصري أنطوني ولسن عام 2011، فكانت فرصة طيبة للتعارف وتبادل وجهات النظر، حيث تعرفنا على بعضنا البعض بشكلٍ مباشر. إذ لم أكن أعرفه من قبل إلّا عن طريق أحاديث الأستاذ شربل بعيني، وبواسطة كتاباته في موقع "الغربة" وبعض صحف الجالية. عقب أن دارت الايام دورتها، وإذا كنا في مطلع عام 2012، التقينا يومًا في مناسبةٍ ما قبيل وفاته المفاجئة بشهور معدودة، وعلى ما اذكر توجهت إليه بالقول مازحًا: اعانك الله على شربل، كنتَ تهرب منه نحو الشوارع العامة، وإذا به يستدرجك إلى الطرقات الفرعيّة خلال مقابلتك معه على تلفزيون الغربة.ابتسم "عنداري" ابتسامة من لا يدري وسكتنا. ثمَّ دار الحديث عن مواضيعَ أخرى. وحين هممت بالانصراف والعودة إلى ادارجي، حيث كنتُ أجلس مع مجموعة من أبناء بلدي في تلك الأمسية، لاحت منه التفاتة إليّ، وحدثني والابتسامة تعلو محياه قائلاً: "شربل من أعز الأصدقاء، قرأت مقالك عنه، أشعر أنَ شربل يستذكر همته وشبابه وغربته بك. جرب يا أبانا أن تكتب عن غربته، وكيف بدد وحشتها بالكلمة البيضاء".
وأردف قائلاً: "حاول فهذه اضافة ستحسب لك وله".
قلت له: لماذا؟.
أجاب: "كي لا ننسى".
حقيقةً لم أعر للأمر اهتمامًا يُذكر على مدار السنوات الماضية، إلى أن وقعت يدي قبل بضعة أيام وأنا اتنقل بين خزانة كتبي المبعثرة على دفترٍ للملاحظات، كنتُ قد دوّنت فيه محطاتٍ واحداثًا من حياتي في سيدني، وقد عثرت على هذه الذكرى مع الراحل بطرس عنداري!. فقلت في سري لِمَ لا، واستسلمت لرأيه، خاصّة وأنّ الكتابة تتزامن مع إصدار كتابي "شربل بعيني رسّام الكلمات". وكي لا ننسى، هأنذا اسطر بالكلمات حصيلة تسامري مع كتابات شربل.
قد لا أذيع جديدًا بقولي، إنّ الكلمة الشفويّة والمدونة كانت ولم تزل أداة تواصل وخلق بين الكاتب ومحيطه من جهة، وبين عالمه الداخلي والخارجي من جهة أخرى، وهي أيضًا جسرٌ بين المنفى والوطن، بل ترجمة لما يشاع في الاعماق من أفكار ومشاعر وخلجات. هكذا هي الحال مع شربل، فحين هاجر "إبن مجدليا[1]" إلى أستراليا واستوطن فيها، لم يحزم أمانيه في حقائب الهجرة وحسب، بل احضر معه موهبته وأدبه وشعره الزجلي[2] والعمودي. وكأي مغترب، نشأ لديه منذ أن حطَّ الرحال في أستراليا شعورٌ من الاغتراب عن هذه الأرض الجديدة، ربّما تناقص هذا الشعور مع مرّ السنين بواسطة الكلمة، لا سيّما بقدوم اهله إلى سيدني واشتغاله في المشهد الثقافي اللبناني والعربي.
عام 1971 هاجر شربل من لبنان حاملاً خيبته من وطنه. جاء الى سيدني تاركًا خلفه وطنًا اَلفَ الصراعات السياسيّة وشهد خليطًا مروعًا من الدماء والدموع. إنّها مأساة لبنان ويا لها من مأساة!.
في سيدني قدّم أوراق اعتماده إنسانيًا وأدبيًا بالشكل المطلوب، فلموهبته الشّعريّة اجنحة لا تحدها دواوين. وما بين لوعة الفراق عن الوطن الأمّ ودهشة الإكتشاف في المجتمع الجديد، شعر شربلنا بأنَّ لديه أفكارًا كثيرة يريد أن يراها على صفحات الصحف والكتب؛ في داخله ابداع، وأنّ القادم من عمره يحمل انجازات، فتفجر كالبركان، حتّى بات صوتًا شجيًا وكلمةً مؤثرة في الشعر المهجري لا يمكن القفز فوقهما. مع السنين بدأت رحلته مع النجوميّة والشهرة والإبداع، تاجرًا وأديبًا وشاعرًا ومحررًا في الصحف ومعلمًا للغة العربيّة. ولكن لهذه الرحلة قصّة.
إنّ الأديب السائح يختلف جذريًا عن الأديب المغترب، فالثاني يكتب بقلمٍ مغترب ممتلئ بالمشاعر السلبيّة كالعزلة والغربة والحنين إلى مسقط رأسه، أما الأوّل فيسطر قلمه مشاهدات بيضاء بعين السائح المكتشف، لينقل إلى أبناء وطنه ما لم يتسنَ لهم رؤيته. ولكن قصّة الأدب البعيني هي قصّة صراع شّاعر هاجر من بلده قسرًا بسبب الشّعر، أتخذ من الشّعر أحيانًا سلاحًا يهدف به تحرير بلاده من سطوة الساسة الجائرين، إذ قاد مقاومة شرسة أو حملة توعية إنْ صح القول ضد الحرب الأهلية في لبنان بواسطة اشعاره، فلا أجد غرابة في القول أنّ شربل كان شّاعر الصحوة الوطنيّة من سجن الاغتراب الأسترالي. وأحيانًا أخرى استشف من كتاباته كفاحه ضد تيارات الغربة وامواجها، يطفو فوقها بالتمرن على تقبّلها أو بمحاولة الاستعلاء عليها في قارب الشعر.
أفلستم معي إذا قلت: إنّ الكلمة حقل ألغام، ينجو كاتبها من حفرةٍ ليقع في غيرها، وما أن يستبشر انقشاع ظلام رقيب متملق لحاكم الوطن الأرعن، حتّى يغرق في مستنقع الرقيب الاجتماعي المتحفظ، سواءً في الوطن أو المهجر، الذي هو أشد حلكة، إلى أن تبعث كتاباته فينا مثل سوداويّة تُترجم وتؤرخ معاناته، على اعتبار أنّ الكلمة انعكاس لصاحبها، بل هي صدى لاعماقه أو وصفٌ للمشاعر الذاتيّة أو الجروح الشخصيّة، إن لم أقل رسالة توعية ونداء استغاثة؛ كاستغاثات السفن قبل الغرق!، فلغة الوعي هي أكثر اللغات بلاغة، وانين المنفى هو أشدّ الأصوات دويًا. لكن أدب شربل له ميزة أخرى هي لا محدوديته، أيّ انفلاته من قيود الزمان والمكان، فلم ينشر كتابات تُشيع مناخ الاحباط إلّا ما ندر، بل على العكس، وكأنه كالشمس المشرقة على القارئ بحرارتها اللسعة وضيائها البهي. كان ولم يزل شّاعرًا ذا قدرة بارعة على تقصي مشاهد الغربة اليوميّة والتقاط تفاصيلها ودقائقها بعدسة الكلمة، طارحًا الحلول للإفلات من شرنقتها.
كان حلم شربل في الوطن أن يكونَ محاميًا إلى جانب الشعر، وها هو بعد غربةٍ طويلة يعيش عَبرَ اشعاره المحاماة، من قارة تعلي من قيمة الإنسان؛ ففي رأيه أنّ الشّعر والمحاماة كلاهما يدافعان عن حقوق الإنسان ويهاجمان الظلم ويحققان العدالة. ولأن الشّعرّاء الكبار، لا يسعون إلى الكلمات فيستعينون بها، بل هي تتولد من قاموس المخيلة جلية واضحة، نراه استفرد في بعض قصائده وكتاباته ألفاظًا معدودة في وصف مساوىء الحالة في لبنان، والدفاع عن الإنسان الكوني في محكمة الشعر، وكأني به سار على خطى أبي النوّاس والاخطل الصغير ومظفر النواب ونزار قباني، لأنه نبَذَ سياسة تكميم الافواه، وقرَفَ لغة السلاح ورعونة الحُكّام وانهار الدم في لبنان والوطن العربي، فجاءت قصائده: "قرف" و "لعنة الله علينا" و"طفل البحر" كجرس انذار للحكومات، بمفردات يراها البعض من القرّاء والنقاد نابية، لعلّها تكون عاكسة لقساوة الحالة التي وصلت إليها الحياة في بلداننا المنكوبة بحكامها!.
بقلمٍ يرعد ويبرق من سماء سيدني على أرض لبنان كتب قصيدته مش رح صدق:
مش رح صدق
إنو بلادي صارت غابة،
وأنو شعبي تحول طابه.
وفي قصيدة "يمين ويسار"، يرسل رسالة إستغاثة مفادها:
أنا ما بفهم يمين
أنا ما بفهم يسار
أنا بفهم ان النار
لازم تتوقف مهما صار.
هكذا أجتهد شربل على مدار معرفتي به إن لم أقل على مدار سنوات عمره الأدبي الذي يقارب النصف قرن على التأكيد بأنّ رفض الآخر هو أصل كلّ المصائب، والحل يكمن في الحبّ، الذي يعرف كلّ النقائص ومع ذلك لا يزال يملك القدرة والشجاعة على العطاء دون مقابل. فنقرأ له بقلم الواعظ في أحد دواوينه العامية الصادر في سيدني ما يُرجح رأينا السابق:
خلينا بهالدنيي إخوه
نعيش ونحن متفقين
من محبتنا بتخلق قوّه.
إنّه الحُبّ، تلك الفضيلة التي أطلَّ بها شربل على الآخرين إنسانيًّا وأدبيًّا، من غربةٍ حمل ثقل ايامها الترحة والمرحة على كتفيه، دون أن تحني رأسه وقامته.
من المعروف إنّ معظم حملة الأقلام من الشعرّاء والكتّاب والأدباء والصحفيين وغيرهم من العرب والسريان في الشرق، قد ابتلوا بوَبَاء الفقر، واصابتهم معضلة أزليّة قد تبدو أبديّة وهي اضطهادهم من قبل حُكّام بلدانهم الأصليّة والموالين لهم في أجهزة الرقابة، ناهيك عن مقصّ المجتمع الحاد ومِنشَار العادات وسِكّين التقاليد، لأننا شعوب (ليس الجميع) تعارض الجديد والتجديد، تبني أحكامها على السمع والقيل والقال، يطيب لها التهويل والتأويل، دون اللجوء إلى تقصي الحقائق من كُتّابها أو عن طريق مبدأ التجربة والاستفسار، لهذا ترانا دائمًا نقع في فخّ الإنطباعات المسبقة ونقنع بالأحكَام السريعة التي تأتينا من هذا وذاك، فنشنق كُتّاب الكلمة وناطقيها على مقاصل الإنتقاد أو نصلبهم على جلجلة التقبيح، من دون التعكز على عامل الزمن، لأننا لا نُجيد اللعب بعنصري التّأنّي والاستيضاح، اللذان أصبحا في حدّ ذاتهما بُعدًا فاعلًا في غربلة ما يشاع وازالة الالتباس. لهذا أنّ لحمَّلة الأقلام غير التقليدين مُعاناة، إمّا بسبب طروحاتهم التقدميّة التي تجاوزت الخطوط الحمراء، أو جرّاء اقلامهم الباسقة كاشجارٍ مثمرةٍ بالكلمة الحرّة البنّاءة، ورغم كلّ ما ينتابهم من متاعب، نجدهم يصهلون كالفرسان في ميدان الكلمة.
وشربل على شاكلة ذلك الطراز، ففي وطنه والغربة عصفت به رياح تلك المعضلة، بسبب الشعر، لكنها لم تثنه منسحبًا.
وهنا أَوّد ان الفت النظر إلى حقيقة مؤداها، حين توسدتُ المنفى الأسترالي وعرفت شربل عن قربٍ في أسعد أوقات حياته وعاصرته في أقسى لحظات عمره أيضًا، رأيته واحدًا من أكثر من عرفت في حياتي تماسكًا في دوامة الوجود والقدرة على الشفاء من الانتكاسات وتخطي الصعاب وتجاوز الاحباطات وتعدي العقبات والتغلب على العراقيل ومقارعة أزمات الحياة القاسيّة، يملك رغبة صلبة في استمرار العطاء بِلا توقف، رغم شيوع المنافسات غير الشريفة ومؤامرات أعداء النجاح وغدر الغادرين في خندق الأدب وميدان الأيام!.
قوي الحجة واسع البرهان، يعرف كيف يرد على هجاء المنتقدين بتهكمات لاذعة ومنطقية، تصبح حديثًا للجالية في ليلةٍ وضحاها!.
وهنا وجب عليَّ الإستشهاد بقصيدته: "لا لم تمت"، لأدعم ما ذهبت إليه اعلاه:
فحّت بقربكَ ألسُنٌ مسمومةٌ
فلَجَمْتَ بالخُلُقِ الرفيعِ الألسُنا
وأذاقَك الحسّاد ظلماً موجعاً
فهَزَمْتَهم... وكشفتَ وجهَ المَلعنه
مرضى.. ولكن مَنْ يُداوي خبثَهُمْ؟
كفرتْ بهم شمسُ العقولِ المؤمنه
يتسابقُ المغرورُ نحو مناصبٍ
من كثرةِ الأطماعِ صارتْ مُنتنه
يعطيكَ سِناً..إنْ رفعتَ لِواءهُ
وإذا رفضتَ.. فمنه تأتي الشيطنه"[3].
لم يجنِ شربل من الأدب سوى المتاعب ومشقات الشهرة وهجاء بعض الزملاء، ولم يسعفه الشعر في تكديس خزانته بالأموال، بل استنزفه الأدب ماديًا وصحيًا ما فتح ورزق، جلّ ما فعله أَنفَقَ الأموال على طباعة أدبه، مع وضع "فلس الأرملة" في جيب هذا الشاعر وذلك الأديب لأجل نشر أدب مهجري مرموق.
كان يمكنه ان يعيش حياة أكثر هدوءًا وسلامًا، ولكن ذلك الجهبذ من جهابذة الشعر العربي الحديث، اختار دائمًا أنْ يكونَ صوتًا لمن لا صوت له، وأنْ يُعبِّر عن قناعاته حول موضوعات شائكة وشاقة بضميرٍ حي، مهما كان الثمن غاليًا والتكلفة باهظة. في قلمه مرآة نرى فيها زوايانا المظلمة وحماقات الوجود، يدافع عن الحقيقة والغايات النبيلة مهما كانت التضحيات. وفي ظني هنا تكمن رسالة الأديب والشاعر والصحفي الحقيقي، لأن الكلمة الصادقة ليست رداءً نرتديه حين نريد، ثمَّ نتخلى عنه حين نشاء، إنّما هي قضية حياة ومصل دم يجري في عروقنا.
وقد لا يغيب عن العارفين أنّ شربل بعيني منذ قدومه إلى بلاد الكنغر لم يتقاضَ دولارًا واحدًا من إِعانات الحكومة المُخصصة للاجئين الأجانب، سوى عندما بلغ سنّ التقاعد القانونيّة مؤخرًا[4]، فمنذ سنوات غربته الأوّلى طاله الثراء، ولكن ليس من الشعر!، بل من التجارة الحُرّة، فغربة شربل بعيني حسب ما دَوّنَ قلمه هي غربة التهميش وتسفيه الخيارات وقحط الإهتمام، فنقرأ له:
حياة الشعراء، وإن لبسوا الفرو الثمين، تظل محفوفة بالمخاطر، ومشبعة بالألم، فكم بالحري إذا لم يجدوا عملاً في مسقط رأسهم، ولم يتمكنوا من الهرب إلى وطن آخر يأويهم، مع العلم انهم يعيشون الغربة في وطنهم، فلسوف يلجأون إلى بيع كلّ ما يملكون، وهل يملك الفقير غير جسده، ليبيعه عضواً عضواً ... كي لا يبيع أطفاله"[5].
على ما يبدو أنّ الغربةَ في كتابات شربل لم تكن مجرد مشكلة عويصة يجب التعامل معها، بل تحدٍ لصنع الذات ورسم ملامحها بشكلٍ يبهر النظر ويرضي الضمير ويشرف البلاد التي لفظته على يد أشباح المكتب الثاني، فقد عبّرت كتاباته عن حقبةٍ مهمةٍ في تاريخ المجتمع الأسترالي الأغترابي، رافضًا أن تقفَ كلمته عارية لا هدف يحدوها، فكان الصوت الهادي في برية الجالِيَة وادغال الاغتراب. كما كتاباته فيها الحنين والتغني بوطنه، بعضها يوحي برفض الانسلاخ عن أرضه وبيئته، وبعضها الاخر يروي احساسه بالغربة الطويلة وادانة حمام الدم في لبنان.
كان شربل رمزًا بارزًا من رموز ثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين في المنفى الأوزي ولا يزال إلى أيامنا هذه بثقله الأدبي، وإن اصبح مُقلاً في النّشر بالصحف وفي حضور الأماسي الأدبيّة.
في تلك الأزمنة وهي الفترة التي بدأ فيها تبلور أدب مهجري اغترابي، كانت الجالية العربيّة الأستراليّة قد تحسست هويتها الثقافيّة الاغترابيّة بفضل الكثيرين، يُعدّ شربل من ابرزهم[6] ، وكأن ملامح الرابطة القلميّة أو العصبة الأندلسيّة في أمريكا بدأت تشق طريقها إلى أستراليا.
وقد يختلف أو يتفق معي القرّاء حول صحة الرأي الآتي، ولكني على يقين لا يتاخم الشك أنّ الأدباء والكتّاب والشعرّاء الأصلاء سيقفون معي على أرضيّةِ التوافق بما أقول: لقد اختلفت مهمة مُصدري الكلمة البنّاءة في هذه السنوات عمّا كانت عليه في العقود السابقة، أيام كانت الكلمة أكثر فعاليّةً وتأثيرًا في نشر القيم والأفكار ورفع سقف الوعي لدى الناس، ولعلّ هنا الاستطراد يسحبني إلى شاطئه لئلا تبقى الفكرة مبهمة غير واضحة فأقول: إنّ الكلمة أو الشّعر في جوهره لم يكن أداة تثقيف ولا مادة دراسيّة وحسب، وإنّ رسالة الشّاعر لا تنجلي فقط بمدحه فلانًا أو فلانًا أو تكريس مادته الشّعريّة لانتقاد هذا الحاكم وذاك، بل في خلقٍ ذاتي تسوده الشّاعريّة، قائم بذاته ولذاته. وصدى تدفق الشّاعر الشّعري بعفويته، مجسِّدًا بذلك خصوبة الخيال المتناثر على مساحات الرُؤى، لا هدف للشّاعر من وراء كتاباته ولا علاقة له بالقضايا الإجتماعيّة والشؤون السياسيّة، سوى ترجمة ما يختلج في الاعماق من مَشاعِر ولواعِج.
لقد سارَ من نحن بصدد الحديث عنه في ذلك المسار، بعد أن رنمَ الشّعر، دون أن انفي عنه تكريس تجربته الشّعريّة في مرحلةٍ ما للبوح عن وطنيته ولبنانيته من قارة تقع في اخر العالم، وكأنه يوّد القول: لا لم أنسَ لبنان، لبنان في الفكر والقلب وفي الاشعار والأحلام.
إنّ الوطنيّة عند شربل لا تقوم على تبني اعتبارات سياسيّة أو قوميّة أو انتماءات حزبيّة أو مذهبيّة، إنّما على علاقة الإنسان بارضه، حتّى وأن كان مُغتربًا أو مُغربًا عنها، فهو يؤمن أنّ من الضروري على الإنسان أن يعيشَ في وطنه أو خارجه متمسكًا بجذوره، منتميًا إلى تلك الأرض التي جُبل منها. ولعلَّ تمسكه بالجذور وبهويته اللبنانيّة يتجلى للقارئ باستخدامه مفردات عاميّة، "كالزعتر، كأس العرق، طق حنك، يا عيب الشوم"، فضلاً عن كتابة الشّعر باللهجة العاميّة (الزجل).
في ليلٍ أهيم وجدتُ شربلاً يلفه الحنين بعباءته المخمليّة مُلقيًا به إلى الأيام الخوالي، وباحاسيسٍ غريبةٍ يتصفح الأمس ويصافحه. عصيّ الدمع حين تتسكع به الذّاكرة في مجدليا وبيروت لحظة يروي أمام الاخرين ذكريات المراهقة، بيد أنّ دموعه العصيّة تفيض من مآقيه في لحظة خلوة، مع هذا أستشعر إنّ له في القلب دمعة تأبى أن تسيل!، لأن احلامه في الوطن كانت كسدٍ بُنيَّ على الرمل، وفي الغربة ابتدأ من جديد، صانعًا تاريخًا لنفسه ولأدبه وللجالية، وها هو اليوم عن الاضواء مبتعدًا لا يريد.
من هذا المنطلق امضي للقول أنَّ ذلك الشَاعر المغوار تسامى على الغربة من داخلها لا من خارجها، كعظام الفارس التي اختلطت بعظام حصانه، فقد ظلَّ لبنان حاضرًا لا يغيب، منقوشًا في ذاكرته، يُعايش الهمّ اللبناني من وراء البحار، يترقب أخبار بلاده النازفة تحت مخالب الحرب الاهليّة وصراع الاحزاب، المصلوبة على خشبة الساسة الفرقاء، لكنه لم يقف موقف المتفرج ولم يعتصم بحبل الصمت، بل امتشق قلمه، تارة يبلله بجراح المنفى، وتارة أخرى بنزيف الوطن المنحور على مذابح الأحزاب. الشاهد من الكلام: لقد نجح ساسة لبنان في طرد شربل من بلده، لكنهم فشلوا في اخراج لبنان من قلبه: فهو القائل:
بيروت يا بيروت يا مدينه
مزينه.... ومش ناقصه زينه
تنعشر سنة عم بحلمك بالليل
قولك أنا مكتوب ع جبيني
عيش عمري بالهجر والويل
اشرب دموعي وآكل سنيني
(من قصيدة قلبي وطن).
بعد أن قذفت به أمواج الشّعر إلى شواطئ المهجر، محاولةً أن تلفظه من مركب الحياة، نلقاه طوق النجاة للكثير من الغارقين في لجّة بحار الغربة!. وها هو اليوم لا يزال يأسر القلوب ويسبي الألباب، ويطرب الناس، يُذكي فيهم المحبة والجمال وأجمل صور الإنسان في الحياة والوطنيّة.
حين نظمت انامله أوّلى قصائده ونشرها في لبنان وهو بعمر الثالثة عشر:
زرعنا المجد
حد الارز اللبناني
صار الورد
بمرج السعد
يغني للحب غنائي.
لم يدر بخلد المتابعين له إنّ الغربة لم تمحُ حبّ ذلك المراهق للبنان، فها هو شّاعر الغربة الطويلة، بعد أن صافح العقد السابع من عمرٍ ارهقه الشّعر ولوعه الاغتراب، يناشد بيروت الحبيبة، قائلاً في ديوانه اوزان [7]:
بيروت يا بيروت لا تترددي
قولي أحُبّكَ كي يعانقني غدي
أمضيتُ عمري كالرياح مُشرداً
لكن وجهكِ كان دوماً مقصدي
منذ أحترفتُ النطق أنتِ قصيدتي
هيا أنشدي .... ما الشعر إن لم تنشدي؟
إنّي أحُبّكِ ... منذ أشرقَ مبسمي
كنتِ الغرام وكان حُبّكِ سيّدي.
قد تكون الغربة اعتقلته وابعدته عن مخالب الساسة في لبنان، لكنها لم تقوَ على كسر قلمه أو طَيَّ موهبته أو تضليل إبداعه، ولم تعقه عن عيش لبنانيته في أستراليا. فالاغتراب في حياة وكتابات شربل بعيني من وجهة نظري الشخصيّة كان لها الصدى الإيجابي عليه، بل هي أمر صحي، وأمر ضار في نفس الوقت.
صحي: لأنها فجرت طاقاته الإبداعيّة، سيّما بعد أن رفض أن يكونَ رقمًا عابرًا في معادلتها. إمتطى جواد الكلمة واستل القلم ليحارب قرفها.
ضار: لو كان شربل بقيمته وقامته الادبيّة العالية في لبنان، لكانت شهرته أوسع ومكانته أرفع، وذلك لسرعة الإنتشار وكثرة عدد القرّاء. وهذا ما كان قد أكّده له شاعر العرب الأكبر نزار قباني- عليه رحمة الله.
في الغربة الحالكة رافق شربل الكثير وساعد كلّ من طرق بابه، لكنه اختار أن يكونَ وحيدًا، مُحجمًا علاقاته الإجتماعيّة، غريبًا بين الغرباء. حياته تتقلب مثل سمكة ألقوا بها خارج المياه. في مطاوي سنواتها كَم مرّة ومرّة ناءَت عليه الأيام بوزرها وجثمت على كاهله كأنّها الجبال، ولما أشتدّت الحياة أمام ناظريَّه ودبَّ الخمول في ذهنهِ والكسل في همته وغُرست خناجر الغدر في جسدهِ حتّى انتفى فيه الحماس، طلبتُ إلى الرسول بولس أن يهمس في أذنيه آيته الرائعة البلاغة التي كتبها إلى أهل روما: "أرى أنّ آلام الزمن الحاضر لا تُعادل المجدَ الذي سيتجلّى فينا (8: 18). كما أنّي تضرعت إلى يسوع الحبيب حتّى يشرق في اعماقه ما وعَدَ به تلاميذه: "ستفرح قلوبكم وما من أحد يسلبكم هذا الفرح" (يوحنّا 16: 22). كانت حاله في مرحلةٍ ما عكس ما اراه اليوم، ولا سبيل إلى الإفصاح عنها.
ولا أعلم لماذا تتعكر صفوتي كلّما تذكرت شربل بعيني، ألانه يذكرني بمأساة المبدع في بلداننا الشرق أوسطيّة ومقارنته مع المبدعين في بلدان الغرب؟!. أم لأنه يوحي إليّ بقصّةِ شاعرٍ حبّرتها حروف غربته الطويلة؟، أم لأنه كسائر الأدباء، يقضّ مضجعه شعور عدم الإنتماء إلى هذا العالم؟.
فيا أيها السادة، يا ساسة العراق ولبنان وحكّام الشرق الأوسط المنكوب بمهازلكم، والمنكود باضحوكة الربيع الدموي، لقد تغربنا طويلاً وجاء وقت الالتفاف والاهتمام بالمثقفين من الشعرّاء والعلماء والأدباء والرياضيين والفنانين... وهم أحياء، لأنهم كفاءات لا تعوض. تلك نصيحة مجانيّة من كاهنٍ عراقي مخلص مُغترب، عاصر الكثير من المبدعين في منافيهم، بعد أن لفظتهم اوطانهم، يعرف جيدًا محنة الغربة، ويدرك حجم التهميش، وقدر المعاناة، وسيطرة المحسوبيات، وغياب الانصاف، وفقر الاهتمام بالمبدع سواءً في الوطن أو المهجر.
فيا ليتكم تتعظون وتميلون انظاركم إلى بلدان الغرب، لتشاهدوا كيف يُعامل المُبدع الغربي وهو حي، وكيف يُخلَّد عقب انتقاله إلى دار البقاء، فسرعان ما تقوم حكومته وبلده يتحويل منزله من دار إلى مزار!، لأن البلدان الغربيّة تفقه كيف تُقيّم مُبدعيها وهم على قيد الحياة، وتدرك كيف تُخلّد رموزها في كافة المجالات. فأين أنتم من كلّ هذا؟.
لقد أظهرت الغربة جليًا أنّ إبن مجدليا ينتمي إلى ذلك النمط العصامي من البشر، له طموح يعانق السماء، يبحث عن الجديد والتجديد دومًا، يقبل التحدي ويحفر في الصخر إذا اضطرته الأمور.
وعلى مدار سنوات تواجدي في سيدني اكتشفت أنَّ شربل له مريدوه من اللبنانيين والعراقيين والعرب والأستراليين وهم كُثُر والحمد لله ومن جميع المستويات الثقافيّة والاجتماعيّة. يشعر الجميع بتفرده الأدبي والأخلاقي وعمق كتاباته الخلاّقة.
ولأنّ العدل والتقييم ليسا من خصائص بلداننا الأصليّة ولا من مظاهر الوجود فيها. ولأننا وللأسف الشديد نتباكى على العقول المهاجرة والمواهب الضائعة بعد فوات الآوان، بُتنا لا ندرك قيمة ما اهملناه إلّا عندما نكتوي بنيران الخسارة والفقدان، أقول هذا وعيني موجهة صوب شربل، حيث لم ينل إلى الآن كلّ ما يستحق من بلده - لبنان، لكنني أظن وليس كلّ الظن إثم أنّ غربته أهلته للمضيء قدمًا برحلةٍ أدبيّة ثريّة وفريدة يصعب تكرارها، ففي يومٍ ما سيقال ويكتب في سجلات لبنان: إنّ شاعرًا لبنانيًا يدعى شربل بعيني عاش في بلاد الاقيانوس. وصدقوني أنّ أسمه ومنجزه لن يمران مرور الكرام، كما حصل مع جبران.
إنّني سعيت من الكتابة عن الشّاعر العربي المهجري شربل بعيني ومن استعراض عينات من شّعره، إلى أن ألفت الأنظار إلى شّاعرٍ رسم بالكلمة خارطة لبنان على وسادة المنفى. والإشارة إلى نوعيةٍ من اللبنانيين، يمثلون خير تمثيل وطنهم الأم في تكوينه الثقافي وتنوعه الحضاري وتعدده الديني وتاريخه العريق في المهجر الأسترالي، ولا عجب فغابات الارز وسهول مجدلّيا يقذفان بين حين وآخر ابداعات فريدة وشخصيّات متميزة.
ونحن ملّة الأدباء في المهجر الأسترالي من لبنان والعراق وسورية ومصر وفلسطين...سعداء وفخورين بمعاصرتنا شاعرًا لبنانيًا بقيمة شربل بعيني.
فألف شكر للمهجر الأسترالي لأنه جمعنا به.
تبقى في الختام نقطة لا أتحرج أن اثيرها: إنَّ بلدًا كلبنان ينتمي إليه أمثال الشّاعر الكبير شربل بعيني وغيره من الشخصيات الأدبيّة المرموقة، يجب أن يكونَ فخورًا متميزًا مرفوع الرأس لا ينكّس هامته أبدًا!.
وأزيد: إذا كان لا يجوز وضع النور تحت المكيال، فإنّه لا يجوز أن لا يلتفت لبنان إلى شربل وغيره من شّعراء المهجر، لأنه خرجَ من رحم تلك الأرض المباركة، شعره معمد بحبِّ لبنان، وقلمه مفعم بلهبات مجدليا، يشتعل ليضيء عتمات الدروب في الوطن والمهجر. ولأن لبنان بلدٌ معروف بأصالته وتاريخه وحضارته، لبنان الفضائل والقيم والمثل العليا والتعايش المشترك، لبنان الارز والفنّ والجمال والأدباء، فيا ليته لا ينسى المبدعين والمحبين من ابنائه المغتربين.
ولا غرو إنْ عممت حدسًا مفاده:
كما أقترن أسم لبنان بفيروز وصباح وماجدة الرومي ووديع الصافي والرحباني وجبران ونُعيمة وسعيد عقل، سيأتي يوم ويقترن لبنان باسم شاعر لبناني مغترب يدعى شربل بعيني، عزف ببراءة الطفل وجمال الزهرة ورقة النسيم على قيثارة الغربة الحان الأرز اللبنانيّة، مُرتلاً في صومعة الشّعر مزامير قصائده الأبديّة.
ويقيني أنّ عصافير الحُبّ الارجوانيّة ستشدو في الدّروب بين سيدني ومجدليا قصص ومضامين أشّعاره للإنسانيّة، مستعيرة فيه قول عمرو بن أبي ربيعة "وهل يخفى القمر"، لأنه تلك العلامة المضيئة في تاريخ أدبنا المهجري في أستراليا. وإنّ غدًا لناظره قريب.
أمد الله في عمره وعمرنا حتّى نعوض في صحبته ما ضاع منّا في بغداد وفي سنوات الغربة في الخارج وراء خدمة العباد على مذبح الكنيسة وهيكل الكلمة. متمنيًا له مواصلة العطاء وديمومة الإبداع.
ـــــــ
[1] لا أعلم لماذا يحلو لقلمي نعت الأستاذ شربل بهذا اللقب؟!.
[2] لا أخفي على القارئ بأنني لا أستسيغ كثيرًا شعر شربل الزجلي، ليس لأنني أفضّل الفصحى على العاميّة، بقدر ما يطربني شعره في الفصحى، إذ فيها تتجلى شاعريته وبراعته اللغوية بوضوح تام، فاللغة الفصحى لها نكهة خاصّة، تخاطب القارئ أو المستمع بشكلٍ صريح، تلامس وجدانه، وتصور حياته، وتعزف على أحاسيسه بنحوٍ دقيق.
[3] القيت هذه القصيدة تكريما لروح الشاعر العراقي عبد الوهاب البيّاتي في أمسية رابطة البيّاتي الثانية بتاريخ 22/9/2015، ثمَّ نشرها الشاعر في ديوانه "أوزان" 2016. ويتاخمني يقين لا يقبل الشك أنّ شاعرنا وجدَ في معاناة صديقه البيّاتي صورة طبق الأصل من معاناته.
[4] في الطائرة التي أقلتَهُ من بيروت إلى سيدني، قال له أحد الركاب:"يا بختك، سوف تجلس في البيت والحكومة الأستراليّة تتولّى شَأنَ معيشتك". ومنذ تلك اللحظة قطع شربل العهد على نفسه ألا يتقاضى راتبًا من الحكومة، سوى في حالة المرض أو التقاعد. وهكذا كانت الحال لما بلغ سنّ الـ 65.
[5] شربل بعيني: عندما يموت الشعراء، سيدني 2010، ص 16.
[6] كتبَ الراحل بطرس عنداري في صحيفة النهار، العدد 592، 26 ايار 1988 ما يدعم رأينا هذا:" يبقى أن نعود إلى الجد، ونقدّر تضحيات شربل الأدبية والمادية، واهتمامه بدفع الأدب إلى الامام، حتى ولو كان ذلك على حسابه الخاص".
[7] صدرَ هذا الديوان مطلع عام 2016 في سيدني، والاقتباسات هنا مقتطفة من الصفحات 6-8.
**
لماذا ترجم الديراني قصائد شربل بعيني للسريانيّة؟
ـ5ـ
منذ عصور سحيقة والأدب السرياني هو النافذة الضوئيّة في ليل المعرفة الإنسانيّة، وقد لا يخفى عن أحد أنّ الأدب السرياني وحركات الترجمة لدى السريان قديمة كقدم التاريخ، لكنها نشطت في أزمنة كثيرة ولنا أسماء لامعة في هذا المجال نذكر منها على سبيل الذكر: مار افرام السرياني الملقب بـ (كنارة الروح)، حنين بن إسحق الطبيب والأديب السرياني، يعقوب السروجي، أبو الفرج عبد الله بن الطيب الكاهن والمترجم العلاّمة.
ومن المعاصرين: يونان هوزايا، بنيامين حدّاد عادل دنو، نزاز ديراني، أديب كوكا، نمرود صليوا، شاكر سيفو، زهير بهنام بردى...، وقد لا يختلف القرّاء على قولي: إنّ بغدادَ في عهد خلفاء بني العباس كانت ملتقى لمحبي الثقافة والعلم والحكمة، ومن يتتبع تاريخ تلك المرحلة سيرى أنّ كلّ شيء كان يبدو مهيّأ لافتتاح عهد حضاري جديد، فانفتحت الأبواب على مصراعيها أمام أصحاب الفكر والعلم والأدب وتمكنوا من الكشف عن مواهبهم وتطوير علومهم بفضل احتضان بعض خلفاء بني العباس لهم.
ويشهد التاريخ أيضًا بأنّ العالم اجمع مدين لبغداد التي اصبحت إبّان تلك الفترة أمّ الدنيا ومحط الانظار، فقد كانت جسر الصلة بين ثقافات عدة منها: اليونانيّة والسريانيّة والعربيّة، ولا عجب أنْ قلت إنّ الفضل في ترجمة الكتب الفلسفيّة والتاريخيّة والأدبيّة والطبيّة من اليونانيّة إلى السريانيّة ومن ثَمَّ إلى شقيقتها العربيّة يعود إلى الفلاسفة والأدباء والأطباء السريان.
وهنا نود تعميم حقيقة جليلة مفادها: إنَّ كلّ تقدم وازدهار حصل في تلك الفترة لهو بفضل الجهود الجبارة التي بذلت من قبل أبناء بغداد من علماء على اختلاف مللهم ونحلهم ومذاهبهم، وبشكلٍ خاص السريان منهم، وذلك خلال حُقبتين مرّت بهما بغداد في العهد العباسي، أكملت احداهما الأخرى:
الحقبة الأوّلى اشتهرت بعصر الغرس وبذر البذور.
أما الحقبة الثانية، فكانت للحصاد وجني الثمار. أقول هذا وعيني موجهة صوب الديراني في محاولته المعاصرة الخلاّقة ولكن بشكلٍ معكوس!، إذ من المعهود والمألوف أن تتم الترجمة من اليونانيّة أو السريانيّة إلى العربيّة، وليس من العربيّة إلى السريانيّة، وكأني وجدته يُجسّد شعريًا ترجمة مأساة لبنان التي سبقت كوارث بلد الرشيد ومنارة المجد التليد.
لقد بهرني الأمر وأدهشني حين علمت من صديقنا وأستاذنا الشاعر شربل بعيني عن مساعي صديقنا المشترك الأديب العراقي السرياني نزار حنّا الديراني، بترجمة بعض أشعاره من العربيّة إلى السريانيّة.
في عمرٍ مبكر عرف الديراني كيف يغرس جذور قصيدته في تربة الوطن، ويسقيها من الحياة. قصيدة بشَّرت بشاعرٍ قد وِلد وبرزت ملامح شاعر قد تمكن من ادواته.
ونزار الديراني لمَن لا يعرفه، هو أديب سرياني مرموق، عراقي الهوية، إنساني الجنسيّة. اسمه وصورته رافقا اسمي وصورتي في بعض المجلات والنشرات الصادرة في العراق إبّان دراستي اللاهوتيّة ومطلع رسالتي الكهنوتيّة.
ولا زلتُ أذكر أنّني ذات يوم استلمت هوية إنتماء إلى اتحاد الكتّاب والأدباء السريان في العراق برقم عضوية 41 مؤرخة في 15/8/2004 الصفة كاتب، تحمل توقيع نزار الديراني رئيس الإتحاد.
مضت سنوات طويلة على مغادرتي العراق وانقطاع وسائل الاتصال بيننا. مطلع عام 2015 عادت المراسلات بيننا بواسطة صديق مشترك وهو الشاعر اللبناني شربل بعيني، عسى أن تكون بداية عهد جديد لصداقتنا الأدبيّة والشخصيّة. ويطيب لي أنْ أدرج هنا مقتطفات من رسالة صغيرة أرسلها لي في الاونة الاخيرة، جاء فيها:
"الأب يوسف الجزيل الاحترام..
حين كنت في بغداد وقبولك عضوا في اتحادنا انقطعت اخبارك عني، في حينها سالت بعض الاباء ممن كانوا في دورتك، فعلمت انك مسافر، ولكن لم أدر ألى أين. أرجو أن تكون هذه فاتحة الاتصال بيننا . تحياتي واشواقي".
ولا اخفيكم سرًا في هذه العجالة: حين جاءني صوت الديراني عبر الهاتف شعرت أن صوتًا من عصر الثقافة وزمن الحلم الجميل قد دغدغ مسامعي، سيّما حين حدثني عن فاعلية عضويتي في الاتحاد المذكور وتكليفي بالتشاور مع الاديب العراقي السرياني عادل دنو لمناقشة السبل الانجع لفتح فرعٍ للاتحاد في أستراليا.
عرفتُ نزاراً عن طريق رسالة الأدب وميادين الكلمة، وتوطدت المعرفة بيننا بواسطة الأب سامر صوريشو الراهب، ومع كرّ الأيام وفرّها لمست في جعبته كلمة مرموقة كلّما كتبَ عن أدب أو عن أديب، لا يمشي في تبعية أحد، ولا يُفرض عليه موضوع. عرفتُه حرًا في اختيار الموضوعات التي يؤمن بها، يحلق بعفوية وقناعة وجرأة في سماء الشعر والأدب.
إنّه العراقي المتألم، يؤرقه حُبّ العراق، الكتابة متعته ووسيلته في اسعاد القارئ، يكتب عن الحياة، لأن الحياة تضج فيه وتدله على كتاباته.
أبصر الديراني النور في منطقة دير ابون- زاخو 1956، حاصل على بكلوريوس إدارة واقتصاد- الجامعة المستنصريّة / بغداد. عضو اتحاد الادباء والكتّاب السريان، عضو اتحاد ادباء العرب منذ عام 1985.
عضو جمعيات أدبيّة وثقافيّة عديدة، منها: عضو مكتب الثقافة السريانيّة في الاتحاد العام للادباء والكتّاب العراقيين، جمعية آشور بانيبال، رئيس اتحاد الأدباء والكتّاب السريان منذ عام 2003- 2010 وعلى مدى ثلاث دورات متتالية. نائب الأمين العام لاتحاد الأدباء والكتّاب في العراق منذ عام 2004- 2010.
كما عمل عضوًا في تحرير مجلة (قالا سوريايا، الأديب السرياني ومديرًا للتحرير، ربانوثا، الأديب العراقي). القى العديد من المحاضرات والندوات، واشترك في العديد من الاماسي الشعريّة داخل العراق وخارجه.
له عشرون مطبوعًا، يعدّ كتاب (شهيد من ديرابون) باكورة أعماله 1984، كما يعدّ كتاب (شربل بعيني ومعاناة الهجرة) اخر مطبوعاته الحالية 2015.
يهرب الديراني بشكلٍ متواتر إلى عزلته، بين جوانحه تتراقص كلماته، يمتشق القلم حين يجد دموعه تجري مع مداده، لتخط فوق القرطاس حكاية وطن يدعى العراق. ينسج في مهجره وغربته الاليمة داخل الوطن قصيدة الدهر على جبين الاتقياء، فهو يخشى أن يدخل الوطن في متاهات الذّاكرة ليصبح مجرد ذكرى.
لقد كتبتُ هُنا كلّ ما اعرفه عن الأستاذ نزار حنّا يوسف الديراني، الكاتب العراقي والشاعر السرياني والأديب الإنساني، إذ أنّني أحتار من أين آتيه وكيف أجازيه، لأنه وبِلا مغالاة أحد أشهر الأقلام السريانية في العالم.
أما الشاعر الكبير شربل بعيني فهو غني عن التعريف، إنه لبناني المولد، عراقي الدم، أسترالي الجنسية، ألتقى بالديراني في عروس الشرق بغداد عام 1987، التقيا وجهًا لوجه في المربد الشعري فابتدأ الودّ بينهما. ذلك هو الشاعر الإنسان الذي امتدحه كبار الشعراء بدءًا من نزار قباني، مرورًا بالبياتي والجواهري، وصولاً إلى الكبير يحيى السماوي الذي اطلق عليه لقب عميد الأدب المهجري في استراليا.
انقطع ودّ الإتصال بين الشاعرين منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي إلى قبل سنوات خلت، تجددت الصداقة بواسطة صديق ثالث وهو: د. موفق ساوا. وإذا بالديراني يفاجئ البعيني بكتابٍ جمع بين دفتيه إنتقاءات شعريّة، حيث انتقى الديراني جميع مراحل حياة الشاعر اللبناني شربل بعيني وقصته مع الوطن وقرفه من الغربة. وكأن قصائد البعيني كانت لسان حال الديراني في غربته عن بغداد. لقد كتبَ شربل ما بقي من ذكرياته مع المعاناة في ذاكرة الجسد ، أما نزار فقد برع في ترجمة تلك الذكريات، كيف لا. وهي ذكريات عمر اكلته الغربة، غربة بسبب ساسة بلداننا الذين يبدون كالملائكة وفي حقيقتهم ابالسة بهيئة بشر، يتغنون بالوطنية وهم عملاء، لا يملون من استعراض حرصهم على دمائنا وهم يتاجرون به في سوق الحروب!. والحال، إنّ ساسة الاوطان العربية يريدون لنا مزيدًا من الوجع والحزن، وكمًا أكبر من الخنوع والدما، أجل يودون جعلنا أرقامًا في معادلة الوطن، تستشهد رقمًا بعد رقمٍ، لنكون خبرًا عاجلاً على قنواتهم الإخبارية ليس إلّا!.
والآن أدفع للقارئ الكريم الأسباب التي حفزت الديراني للقيام بمحاولته الخلاّقة:
يقول الديراني :
"منذ مطلع السبعينات وحين استهوتني الساحة الثقافية وبالاخص الشعر، اطلعت على الكثير من الشعر العربي بدءا" من المعلقات فتلمست في حينها ان غالبية الشعراء المتميزين هم اللذين اطلعوا على الشعر العالمي اعني قصائد الشعوب الاخرى ، فبدأت اقرأ الكثير مما يترجم الى العربية وعلمت في حينها كم نحن بأمس الحاجة الى ان ترجمة ذلك الى لغتنا السريانية التي كانت يوما الجسر الذي يربط الشرق بالشرق والشرق بالغرب.. والتاريخ يشهد على المساحة التي احتلها السريان في علم الترجمة فكان هذا الشعور ينمو في داخلي، ولان بدايتي كانت كتابة الشعر العربي فسهل علي تذوق هذا الشعر وترجمته.
في الثمانينات حالفني الحظ ان التقي واصادق شاعرا لبنانيا قادما من استراليا في مهرجان المربد الذي كان ما يميزه وما يشجعنا المشاركة فيه هو التقاء شعراء من خارج العراق لنتعرف على تجربتهم الشعرية وخصوصا كنا نحن اغلبية شعراء العراق نعيش في قفص كبير ، ولم اكن ادري في حينها لماذا تميزت صداقتي مع الشاعر شربل بعيني اكثر من الاخرين علما انني كنت احاور واتعرف على العديد من الشعراء الاخرين من امريكا وكندا ومصر وتونس و...
وحين تناولنا اول كأس من مشروب العرق تمازجت عناصر الكتابة لدينا وتحول الشعور والدافع للكتابة الى جسر يربطنا وحتى بعد ان عاد الى وطنه الجديد استراليا، فتبادلنا مطبوعاتنا وكانت اول بادرة منه حين كتب في صحيفة استرالية بالعربية عن كتابي (الكيل الذهبي في الشعر السرياني) وحين قرأت قصائده عرفت السر الذي دفعني باتجاهه اكثر من غيره، وكيف لا يتمازج شعورنا ان كنا معاً نرى مصيرنا ومصير الانسانية في الشرق الاوسط واحد، وكلانا يتحدر من جذر عميق لالاف السنين لشجرة عملاقة تنتشر جذورها ما بين العراق ولبنان وسوريا وجزء من تركيا وبلاد فارس و... وكنت اعرف ما الذي يعني ان يحضر الشاعر جزءا من تراثه الى عصرنته فكان زميلي ينقل جزءا من هذا التراث من خلال لغة شعبية بسيطة كنت اتلمس فيها العديد من مفردات لغتي فاحسست برسالته التي يريد ان يلفت انظارنا بها الى جذورنا وهذا كان من بين العناصر التي جمعت معاناتنا رغم الاف الكيلومترات التي تفصلنا ...
وبسبب المأسي التي حلت بالعراق بعد مطلع التسعينات انقطعت اخبارنا ومراسلاتنا .... فبعد طبع ترجمتي الاولى (من الادب العربي الحديث) التي كانت تجمع بين دفتيها اسماء كبار الشعراء العرب من جيل السياب بادرت لترجمة قصائد لجيل ما بعدهم وكانت قصائد زميلي شربل تدغدغني ولكن بسبب الظروف التعيسة التي حلت بالعراق بعد الاحتلال الامريكي جعلتني اترك بيتي ومكتبتي ومسوداتي في بغداد واعيش الفصل الثاني من معاناة الغربة في قرية تقع في اقصى الشمال (المثلث الحدودي تركيا سوريا العراق ــ وهي مسقط راسي حيث كانت قبل ان تسلبها منا الحكومة بسبب التعريب اية من الجمال)، بعد ان عشت الفصل الاول من هذه المعاناة في بغداد وهذا ما كان يجمعني وزميلي شربل . لذا التجأت الى الانترنت لاستل بعض قصائده وخصوصا الجديدة منها فتلذذتها اكثر من السابق لاني وجدت في غربته الثانية (المهجر) جبلا من المعاناة فكان لي بمثابة مرآة كبيرة اجد فيها معاناتي الحالية والمستقبلية فترجمت بعضها في كتابي (من الشعر العربي الحديث)
ولكن طالما كان يعيش احدنا في الاخر ويتذوق مأساة الغربة حالفنا الحظ ان نلتقي من جديد ولكن في هذه الحالة من خلال الانترنت، فطلبت منه ان يرسل لي بعض قصائده لاترجمها بديوان مستقل، فمثلما اجد نفسي فيها هكذا سيجد القارئ من بني قومي نفسه فيها...
عندما كنت اقرأ قصيدته (ارزتنا) كنت اجدها وكأن شاعرنا يريد ان يقول عوضا عني ها هي رموزنا (الثور المجنح، اسد بابل، الجنائن المعلقة...) تئن وتختلج وتتنفس انفاسها الاخيرة وهذا ما حصل بفعل داعش وبسبب الهجرة والانقسام ففقدت ما كان يربطها بصلابة جذورها وارضها لذا ارتجفت امام الريح وكأن الشاعر قد رأى وتنبأ بمستقبل حضارتنا وتراثنا العريق.
وحين كنت اترجم قصيدته (رسالة الى فخامة الرئيس) كنت احس وكاني انا الذي يكتب الرسالة لا مترجم لها، فكل واحد منا يحتاج ان يكتب رسالة كهذه الى فخامة الرئيس على شرط ان لا يكون من بين الذين يصفهم الشاعر بانهم يَتَقَاذَفُونَ الشَّتائِمَ ، يَتَلَفَّظُونَ دَائِما بِحُرُوفِ الْكُرْهِ وَالتَّحْقِيرِ ، وكيف لي ان لا اجد نفسي في شعره وهو يقول ما يقوله ابناء شعبي وهم يتظاهرون ( بِلادُنا، فَخامَةَ الرَّئيسْ..بِحاجَةٍ إِلى قِدِّيسْ) وهذه رؤية ثانية . وكم نحن اليوم نتشوق لنقول لوطننا وحكومننا ما قاله الشاعر في قصيدته حب في لندن (قولي: أُحبُّكَ..) وهكذا حين كنت اترجم قصيدته دراجات امستردام تيقنت فعلا ما الذي جمعني واجتذبني الى الشاعر شربل بعيني في منتصف الثمانينات، حيث نتقاسم كلانا نفس الشعور فهو يكتب في المهجر قصيدته (دراجات امستردام) وانا اكتب في بلدي الذي اصبح هو الاخر مهجرا لي قصيدتي (مهدي) سوى انه استخدم مفردة الدراجة والدولاب كويسلة لحفظ ونقل حُبَيْباتِ الْعَرَقِ الْمُتَصَبّبَةِ من عرق جبين اجداده وهم يصنعون التاريخ في لبنان ،لِتُنْعِشَ بِها أَزْهارَ الْعاشِقيَن ساعاتِ الْجَفاف. اما انا فقد استخدمت المهد وعقرب الساعة لاعكس صور حبيبات الدم وصور السيف الذي كان يقطع رؤوس اجدادي ... وهكذا في بقية قصائده لذا حين كنت اترجم قصائده لم اجد نفسي غريبا عن شعره ولم احتاج الى قاموسٍ لانه لم يكن يصنع الكلمة بل ينحتها .."
- ما سطرته أنامل الزميل الديراني لم تشفِ غليلي ولم تروِ ظمإي، فعاودت الإستفسار بهذه الرسالة:
عزيزي استاذ نزار المحترم
لقد ايقنتُ من أجوبتك السابقة بأنَّ المعاناة المشتركة كانت سببًا دفعك للترجمة، أو بمعنى آخر انَّ معاناة شربلنا وهمه الوطني وهو يعيش لبنانيته من قارة تقبع في آخر العالم،، قاداه للحنين والتغني بوطنٍ هرب من ساسته وحكّامه إلى غربةٍ جعلته يتعلق بمرابع صباه أكثر من أيّ وقتٍ مضى، ولعلّه سبقكَ في ترجمة تلك المعاناة والمشاعر إلى صورٍ شعريّة وزجليّة. وكأني بك وجدته يُجسد شعريًا مأساة بلد الرشيد ومنارة المجد التليد. ولكن الّا يوجد بعد أدبي أو بلاغة صوريّة حفزتك لتخطو مثل هذه الخطوة؟ فربّما الكثير من الشعراء الشرق اوسطيين المغتربين كتبوا عن هول الازمات في بلدانهم ومعاناة غربتهم؟. فلماذا قصائد شربل بعيني تحديدًا؟. ما الذي وجدته في أدبه؟، فمثلا شاعر العرب الاكبر نزار القباني سبق تجربة عميد ادباء مهجرنا الاسترالي شربل بعيني بهذا المجال بقصيدته عنترة.
ودعني أكون اكثر وضوحًا: ما الذي عثرت عليه في أدبه ليكون مغايرًا ومتميزًا عن شعراء كتبوا عن التجربة ذاتها؟
فجاءني الجواب كالاتي:
عزيزي الأب يوسف الجزيل الاحترام
"أنا لم ادخل في التفاصيل، فما قلته يحمل بين طياته حداثة بمعنى الكلمة، فعندما قلت انه استخدم تعابير شعبية في قصائده هذا يعني انه مازج البعد الواقعي مع الرؤية المستقبلية، وهذه احدى معالم الحداثة في الشعر، فهي تشبه عملية استخدام القناع والاسطورة، وعندما اقول انسجامه مع معاناة الانسان فهذا يعني انه ارتقى لمرحلة اعلى من المدرسة الغنائية من ذوات الانا. وهكذا.. ترجمتي هذه لم تكن دراسة نقدية بل هي بداية الانجذاب، فعندما تجد لوحة تستهويك الصورة أولا لتقف ومن ثم تتأمل ...ما قصدته كان يشمل البعد الحداثوي في اللغة التي خلصها من كلاسيكيتها الممقوتة والشكل الذي اعطاه فضاءً واسعا ومضمونا جديدا واقعيا".
والحال بين العربية والسريانية كان تلاقح للروئ وتنقيح للأفكار بين شاعرين من العراق ولبنان، كلاهما لخص المأساة بطريقته الخاصة. إنّها محاولة رائعة آمل أن تلحق بها وتتبعها محاولات أخرى في المستقبل إن قيض لك الله الأمر.
في الختام أمضي للقول:
حقًا غريبة هي الغربة، تجعلنا نحّن لوطنٍ هربنا من جحيمه إلى قرفها؛ غربة تجعلك مزروعًا في كلّ فضاءات العالم؛ ولكن ماذا ينفع المرء لو انتشر في كلّ الأوطان وخسر وطنه! فيقيني أيها العزيزان الديراني والبعيني، أننا لم نخلق لنكون شتاتًا في الأرض ولم تلدنا أمهاتنا لنوقد شمعة عن روح الوطن في صومعة التشرد.
طوبى للعراق وللبنان اللذين انجباكما وهنيئًا للكلمة بكما. وشكرًا لمحبوبتي بغداد التي جمعتكما.
**
شربل خبّاز الكلمة وحارس الذّاكرة الأدبيّة المهجريّة
ـ6ـ
منذ نعومة اظافره وعنفوان مراهقته راحت عصافير الشّعر تنقر على زجاج شبّابيكه، لتهمس في أذنه:
ـ غرّد يا شربل فمساحة الحرية بِلا حدود.
بيد أنه أكتشف من دون سابق انذار أنّ الحدود قائمة، وأنّ المشتغلين في حقل الأدب أنهكتهم الحدود، فقد قطعوا اصابعهم وقالوا لهم أكتبوا كما تشاؤون. وشربل عاشق الحرية في بلدٍ لا حرية فيه، الشمس غاربة في نهاره والقمر متوارٍ في لياليه.
وكلّنا يعلم ما عاناه شربل، ومع ذلك أصبح منارةً سمقت في دنيا الأدب الأغترابي، لم يتوقف ليرد على عواء الذئاب الجائعة التي ارادت ايقاف مسيرته في مجال نهضة الأغتراب الأدبيّة، بل استمر كالانهار التي لا تلتفت للوراء، واعد لهم موائد عامرة وغنية من ثمار الكلمة.
سؤالٌ تطرحه الالسن كما تطرح الأرض الاتربة في الرياح: لماذا لم يتوقف شربل ويتراجع منسحبًا، رغم الطرق الوعرة ومخاطر الرحلة؟.
فأجيب: كثيرون يراوغون فيصلون إلى أهدافهم بطرق ملتوية كثيرة، وحدها البراءة تقول ما تعنيه، وتعني ما تُريد، وتريد ما تريد. لهذا ظلّ شربل "يتمخطر" في فضاءات الصمود، لأنه خبّاز الكلمة الحُرّة، عجن الحرف وخبز الكلمة وقدمهما خبزًا تأكله الناس على طبق الحرية، إيمانًا منه أنه لا بُدّ من يومٍ سيستنشق فيه إنسام القمم العالية. وعميدنا خلال رحلة أدبيّة قوامها نصف قرن أراد أن يبث لنا قناعة صريحة واضحة لا لُبس فيها: الحرية لا تُمنج بل تُخلق ونحن من نساهم في خلقها أو توسيعها، لأنها قرارٌ نتخذه بأن نكون أحرارًا وأن نحرر الغير، وهذا القرار يتشكل في النهاية من مساحات فرديّة، تشكل كلّ مساحة منها فُسحة تنويريّة للفرد لأن يمارس فاعليته وليعبر عن تمايزه وفرادته، وهذا ما صنعه صاحبنا. فهو مدمن على الشّعر، لم ولن تقوى جميع المصحات العالمية من علاجه، وكأنه يقول للشّعر: أنتَ موطني الذي هجرت كلّ العالم لأسكنه.
إنّ المتأمّل في أدب شربل بعيني يلحظ إنه بدا كشاعرٍ بكتاباتٍ فرديّة، لكن مع الزمن أدرك أنّه كلٌّ للكل بفضل الشّعر، لهذا فتحه الشّعر على الجميع، فلم يقتصر شّعره على لبنان، بل تغنى بالكثير من العواصم العربية، تقبع في طليعتهم بيروت وبغداد، وتصدى لموضوعات، كأمراض الجالية، الثرثرة في الندوات الأدبيّة، مظلومية المرأة الشرقيّة، المصلوبين على جلجلة الحياة، محنة الفكر الشرقي، الخيانة، العائلة، الحبّ، والأنكى من ذلك تجد ظاهرة إنسانيّة عالية في كتاباته تتمثل بوقوفه دائمًا إلى جانب الذين لا يجارون الموضة ولا يسيرون في ركابها العالية.
عاش شربل في حياته دوريْ الضحية والجلاد، فهو ضحية الساسة في بلده الأم وضحية منافسيه، وضحية طيبته، وضحية الشهرة، غير أنه ظلَّ ملتزماً برسالته لا يحيد عنها، لم تمنعه قلاع ولا سواتر ولم تصده موانع ولم تردعه روادع أو مخاوف، ولم تتراجع عزيمته أو يفرط في قضيته.
لكنه جلاد!. ستقولون كيف؟. فأجيبكم: في كلّ مجتمع ضحايا، وكلّ مجتمع له معذبوه، جلد شربل بكلمته ممارسات خاطئة بحق الإنسان، سواء صدرت من المجتمع أو الحكومات، أو كلّ من تسول له نفسه العبث في قيمة الآخرين.
سعى خبّاز الكلمة إلى رفع منسوب المحبة والمصالحة بين الأطراف المتقاطعة ثقافيًا وبالتالي خدمة الوحدة اللبنانية وتعميق جذور التآخي بين أبناء وطنه في مهجره. وهنا لستُ بحاجةٍ إلى مثالٍ لأنني أسوق للقارئ حقائقَ لا تحتاج إلى شرحٍ أو إيضاح.
وإذا كان شربل صوت الجالية نرى أن ربيعه يمتد ليكون مرآتها، فقد اتخذ قرارًا ليؤرخ الحياة الأدبيّة في أستراليا عَبرَ بوابة الغربة، فلا تفوته شاردة أو واردة إلا ونشرها، ينشر نشاطات الجميع، حتّى لو لم يكن حاضرًا أو مدعوًا في تلك النشاطات، فاستحق أن يكون صوتًا نافذًا في أدب المنفى الأوزي أو حارسًا لذاكرة الأدب الأغترابي إن صح القول، بيد أنّ الأمر لم يشغله عن "أسطرة أدبه"، أي جعله أسطورة، ذات القيمة الإبداعيّة، وتوثيق كلّ ما كتب وقيل عنه.
يسيل لعابي إزاء أيّ عملٍ فيه إبداع، لكن دموعي تسيل في الخفاء ويتفطر قلبي حينما أعرف شيئًا عن حياة المبدع وما تكبده من سهر وتفكير لكي ينتج لنا منجزه الإبداعي الذي أمتعني واستمتع به الكثيرون. ولكن، أتعلمون أنّ المبدع لم يستمتع غالبًا بحياته ولا بأوقاته. وصدقوني وحده المبدع غريب عن هذا العالم، لأنه يشعر بعدم الإنتماء له، فمن يعرف ويدرك أكثر تلقاه يحزن ويعاني أكثر، فللمعرفة والوعي ضريبتهما. هذا هو حال المبدعين والمفكرين والأدباء والشّعراء والمصلحين الخلاّقين الذين اضفوا شيئًا مميزًا على الوجود وبصموا بصمتهم في جبين الحياة وصنعوا التاريخ. وشربل دون أيّة مغالاة واحدٌ من هؤلاءِ، بعد أن أشعل شمعة حياته من طرفيها وأكتوى بنار الإبداع والعطاء، فاحترقت حياته بالمعاناة والإحساس بعدم الرضا عمّا ينتج، والترقب المستمر والتفكير المتواصل.
ختامًا:
ما أجمل أن يكون للإنسان قضيةَ حياة يحيا في سبيلها، لا يساوم أو يجامل على حسابها، قضية يصوغ منها قصّة حياته في رحلة الوجود الأرضي القصيرة.
لهذا أؤمن بشيء: إنّ قيمة المرء تكمن في أمورٍ عدة، أهمها: أن يكون ذا قضية ومبدأ ورسالة، ومتى كان فيه كلّ هذا سيغدو مُميزًا ومتميزًا، وبقدر ما يكون المرء صادقًا وأمينًا في عيش رسالته وقضيته بقدر ذلك سيحقق مشروعه ويحقق ذاته ويطبع أثره في النفوس وينقش أسمه في لوح الخلود: وما الخلود، سِوى إنّكَ تعيش في الوجودِ وتمرُّ في حياةِ الآخرين في زمانِ ومكانِ وواقعِ حياة، فتترك أثرًا فعّالاً وإيجابيًا، وبقدر ما يكون حجمُ وعمقُ وكثافةُ أثركِ الايجابي، بقدَرِ ذلك سيكون حجمُ خلودِكَ، أثرًا يجعلك حيًا فيه. وبذلك ستكون قد بلغتَ أوجَ عظمةِ حياةٍ مُتساميةٍ تجعلكَ في خلودٍ أبدي[1].
وشربل كانت ولم تزل قضيته الشّعر والأدب، لم يتخلَ عنها، بل حققها بنجاحٍ يشهد له الجميع. فالحياة في مفهومه رسالة تتضمن مرحلةُ إبداعٍ، خدمةٍ، وجودٍ فعّال، عسى ألّا نجعلَها مرحلةً عابِرة، بل كشفاً واكتشافاً وتعمّقاً وهدفاً وقيمةٌ كبرى، تكون بدايةَ خلودٍ أبدي، كُلّنا مدعوون لها.
عزيزي القارئ، ربّما سيقول لك الكثيرون، ويحاولون غسل دماغك، بإنّك ستدفع ثمنًا باهظًا، وستجعل من حياتك صراعًا مستمرًا، بل سيحثونك على التمتع بالحياة، مطبقين عليك المثل العراقي المعروف: "ألبس الكبع وألحق الربع".
فأجيب:
من الصعب جدًا، بل متعبة حياة على هذه الشاكلة، ومغامرة شاقة لمن يريد السباحة عكس التيار لئلا يكون رقمًا عابرًا في معادلة الوجود، ومرهقة هي الأيام لمن يبغي الإصلاح والتنوير. والأصعب لمن يعرض ذاته لرياح شديدة تهب عليه من كلّ الجهات لتصده وتوقف فيه مسيرة الكلمة ومبادئ الحبّ ورسالة التنوير ونحر كلمته الوضاءة في زمن الحرية. وما الكلمة سوى الإنسان بعينه وانعكاس له، بل هي صدى أعماق، يقولها لذاته وللآخرين، مُجسّدًا في كلمته المنطوقة والمكتوبة حبًّا وإيمانًا وقناعة ووضوحًا وخدمة وخلودًا، يقولها أو يكتبها سعيًا وراء هدف نبيل، سيّما إذا كان الإنسان، المُجتمع، الوطن، الثقافة، لأن الصمت شنق للذات ونحر للآخر.
إنسان على هذه الشاكلة حتمًا سيكون طعامًا للكثيرين، ولكن طوبى بل هنيئًا لمن يطعم الجياع. وشربل اطعم الكثيرين من موائد أدبه، فألف شكر لك يا خبّاز الكلمة في فرن الأدب الأغترابي.
وليس أجمل من أن أنهي كتابي هذا بمقطفات من مقالات كثيرة كتبتها، كان اسم شربل بعيني يمر فيها كنور الشمس من نافذة منزلي البغدادي، لتدركوا مدى إعجابي برسّام الكلمات صديقاً وأديباً.
وإليكم ما حصدت من أرشيفي:
فؤاد نعمان الخوري..
أنتَ في أَفئِدَتنا قصِيدَة
كان قد حدثني عنه الأستاذ شربل بعيني وعن براعته الشعريّة ومكارم اخلاقه، حتّى التقينا في مناسبةٍ سقطت من تضاعيف الذّاكرة، ثمَّ توالت اللقاءات والاماسي والمحادثات الهاتفيّة، كان اخرها في أمسية الشاعر الراحل رامز عبيد؛ حيث تَلألأ نجمه، وسطعت شمسه، ثمَّ جوبهت قصيدته العامية بالتصفيق الحار، حتّى أنّني هتفتُ له مع بعض الحضور:" الله يا كبير".في تلك اللقاءات وجدتُ صاحبًا لا يحتكر الحقيقة والصواب، لا يقلل من شأن أحد، لا يتحلى بشخصيّةٍ طاوسيّة، ولا يتكلم عن نفسه أو عن موهبته الراقيّة، لانه الرقي بعينه. ليست له ذات متورمة متضخمة لا ترى سواها، بل على العكس، فهو يحاكم نفسه في محكمة الضمير. يتحاور مع الاخرين بصوتٍ مُنخفضٍ وبلغة تواضع الكبار. والحال أنّ الاستاذ شربل بعيني كان كالعادة صادقًا في تقييمه.
**
أنطوان القزي الأرز الشامخ
مضت الشهور، وإذ بصديقنا الأستاذ موفق ساوا رئيس تحرير صحيفة العراقيّة الأستراليّة يبادرني بفكرة زيارة الأستاذ قزي في مقرّ صحيفة التلغراف لغرض منحه دعوة التكريم في مهرجانٍ رعته مؤسّسة العراقيّة للثقافة والإعلام والفنون، كنتُ أنا والقزي من ضمن المُكرمين.
استقبلنا السيّد أنطوني والحق يقال بحفاوةٍ بالغةٍ وترحابٍ كبير، وقد التقط لي يومها بعض الصور الشخصيّة في مكتبه، ومن ثمَّ نَشَرَها في صحيفته المذكورة، مرفقة بغلاف كتاب "المبدعون غرباء..."، فكنتُ له ولكرمه شاكرًا.
مع الأيام ربطتني به صلة إنسانيّة طيبة، وجمعتني وإياه صداقة أدبيّة على مرّ السنوات الماضية، وايقنت فيما بعد، يوم اشرف على التنقيح اللغوي لكتابيّ (أفكار وتأمّلات من تُراب) و(أحاديث قلمٍ في مرايا الذات والمجتمع) أنّه انسان مجتهد، المّ باطراف اللغة العربية وبرع فيها بجدارة، وأدركت أنَّ الاستاذ شربل بعيني وجهني كالعادة نحو الشخص المناسب والمُنقح الأمين.
**
أنطوني ولسن كبير من كبار أرض الكنانة
تلوح في ذّاكرتي نبُل مواقفه التي لا أنساها، فيوم أقيم حفلٌ كبيرٌ لتكريم ذلك الشيخ الجليل بتاريخ 29/1/2012 بمناسبة اطلاق كتابيه:" الحُبّ هو الدواء" و" ذكريات العمر اللي فات"، شرفني الرّجل لكي أكونَ مُتحدثًا فيه وسط حشدٍ رفيع من المثقفين والأدباء المصريين والعرب، فوجدتها مناسبة مؤاتية لكي أتحدث عن دوره البارز في الثقافة المصرية والمشهد الصحافي العربي في سيدني بدقائق معدودة لاقت استحسان الحضور، واذكر يومها كيف نهض العملاق الكبير بطرس عنداري رحمه الله من مقعده؛ حيث كان يُجالسني رفقة الدكتور موفق ساوا والأستاذ شربل بعيني وشقيقه جوزيف، ليهنئني على كلمتي وسلاسة المفردات وسلامة اللغة، فشكرته، وابلغته بأنّ الفضل يعود إلى أستاذي الجليل شربل بعيني الذي يُصحح اخطائي اللغوية. ولعلّي لا أكون واهمًا إنْ قلت: يُخالجني شعور بأنّ ذلك التشريف الذي مَنّ به عليّ الأستاذ أنطوني جاء بالتشاور مع صديق غربته شربل بعيني.
نَشَرَ "العم ولسن" أوّل مؤلفاته عام 1993، بتشجيع من والدة صديق غربته الطويلة الشاعر شربل بعيني؛ فتلك المرأة التي توفاها الله برائحة القداسة على ما يبدو لم يكن لها اليد الطولى في نجاحات ولدها التي تصلي له من السماء وحسب، بل كان لأبن ولسن من فضائلها نصيب، إذ أصرت يومذاك وألحت عليه وشجعته على النشر، ونزولاً لطلبها انجز العم ولسن مع مرور الشهور "ميثاق الشيطان"، وهو كتاب قصصي، صدر عن دار عصام حدّاد في بيروت، الذي يعتبر أوّل كتاب قصصي يصدر لمصري خارج مصر. الكتاب في الأصل نص مسرحي كُتب في القاهرة في زمن تزامن مع اصدار الرئيس الأسبق لمصر السيّد جمال عبد الناصر ميثاق الجمهورية.
وأحفظ له جميلاً اخر لن انساه أبدًا يوم سطر تعليقًا حول مقابلتي في تلفزيون الغربة الاسترالي؛ فكتب في 2 ابريل 2012 : "أبونا الأديب يوسف جزراوي السامي الإحترام .. تحية ومحبة المسيح لكم. كم سعدت بهذا اللقاء الروحي، الأدبي، والإنساني .
أبونا يوسف إنه لشرف عظيم لأبناء الجاليات العربية عامة والعراقية خاصة بوجودكم معنا في أستراليا .الرب يبارك أعمالكم. والكلمة هو الباقي (والكلمة صار جسدا وحل بيننا). ونحن من يؤمن بخلود الكلمة في كتاب نتركه لمن يأتي بعدنا وليكون الكتاب كاتم سر تاريخ أحداث وأفكار الحقبة التي عاشها وتعايشها صاحب الكتاب ومؤلفه وكاتبه. يقولون لقد طغى الإنترنت على قراءة الكتب.. وأقول لا ما زال الكاتب والكتاب وسيظلان إلى الأبد الشعاع الذي ينير البشرية ويأخذها إلى الإرتقاء والتقدم . وما نقرأه على الإنترنت ما هو إلا نتاج كاتب ووضع في كتاب عيبه الوحيد أنه غير متكامل للكاتب الواحد. لكنه "الإنترنت" حافظ لما نكتب وينشر على صفحاته ويمكن للكاتب أن يعود إليه لجمع ما سبق ونشره ويصدر به كتابا . أبونا يوسف جزراوي شكرا لكم على إصداركم الجديد ونحن في إنتظار توقيعه .شربل بعيني شكرا لكم على هذا اللقاء الأدبي المميز".
**
سركيس كرم الذي ايقظته الغربة على اوجاع لبنان
أخيرًا.... أتعلم يا سركيس أنّني أقرأ للكثيرين من اللبنانيين في المهجر الأسترالي بدءًا من كبيرهم شربل بعيني وصولاً إلى إبن زغرتا البار سركيس كرم.
تحية إليك وإلى كلّ الشرفاء في لبنان والعراق وأستراليا، تلك البلدان المعطاءة. فأنتَ الكاتب الإنسان، الذي له في قلبي منزلة كبيرة.
**
بين التغيير والتحرر
زينت لوحاتها ورسوماتها أغلفة العديد من الكتب منها للأديب المصري أنطوني ولسن، الصحافيّ والكاتب الفلسطيني هاني الترك، الأديب اللبناني شربل بعيني، وكاتب هذه السطور وغيرهم.
**
كلمة ألقيت في تكريم الشاعر مروان كسّاب بمناسبة توقيع ديوانه "دموع الخريف"/ سيدني 2015
"مُنذُ أسرجَ الليلُ نجومهُ، ايقظتهُ الغربةُ على اوجاعِ لبنان.
في دموعِ الخريف، مأساةُ وطنٍ في قلبِ إنسان، رسمَها قلمُ قاضٍ كالفنان.
جعلَ للربيعِ ابتسامةً، بانيًا للخوف مذوذًا، مُشيدًا للكلمةِ الحرة الجميلةِ قلاعًا.
لأجلِ صباحاتٍ مُشرقة. علّق الحبرُ أقلامهُ في سَقفِ الليل، فكانت ومضاتُ قلمهِ قناديلَ، تنثرُ اضواءَ النجومْ، في ليلٍ دامس.
إمتطى جوادَ الشعرِ، واستلَ سيفَ القانونِ، تاركًا ابجديته تبوحُ بدموعِ شاعرٍ، غدا صوتًا صارخًا في بريةِ الشعر ِالمهجري.
من سيدني إلى لبنان، انسابت دموعُ شاعرٍ كسّاب. وهأنذا ورابطةُ البيّاتي للشعرِ والثقافةِ والأدبِ، أتيناكَ من أرضِ العراق، من حضرةِ أبي نؤاس والسياب والمتنبي والبياتي، نكففُ الدموع، ونُكرمُ شاعرًا من حضارةِ لبنان، من طينةِ نُعيمة والخوري والقزي والبعيني (2) وجبران.
أتيتُكَ اليومَ يا كسّاب كنهرٍ مُنسّاب. حتّى نلتقي لأشبك يدي في يديكَ، لا هنا بل في بغداد الشعرِ والصورِ والمعلقات، وأُزين صدركَ ثانيةً بقلادةِ إبداعٍ على ضفافِ فُراتْ الحضارات. ألف مبروك التكريم".
**
الدكتور موفق ساوا تسكنه فضاءات المسرح
ولقد توطدت علاقتي به بشكلٍ كبير إلى حدٍ كنا نلتقي كلّ اسبوع تقريبًا أثناء التحضيرات الأوّليّة لمهرجان العراقيّة ومعنا مجموعة من الأصدقاء، اذكر منهم الأديب شربل بعيني، الكابتن سعدي توما، الاستاذة هيفاء متي والشاعر احمد الياسري.
**
العملاق يحيى السماوي كالحجر الذي رفضه البناؤون وصار رأسًا للزاويةوعندما منحته رابطة البيّاتي جائزة القصيدة العاموديّة مناصفة مع الشاعر شربل بعيني لعام 2015 في مهرجانها الثاني، طلب البعيني من نائب قنصل جمهورية مصر السابق أن يستلمها السماوي عضوًا عنه، قائلاً: "لا أستحقها بوجود السماوي". فما كان من شاعرنا يحيى السماوي إلّا أن طبع قبّلة على جبينه، فنال شربل بذلك جائزتين في وقتٍ واحد: جائزة البيّاتي وقبلة السماوي.
**
مقتطفات من مقال عن الفنان حيدر عباس العبادي
ذات صباح وبينما أنا جالس اتناول قهوتي ومندمج بمراجعة مخطوطة كتابي "ملحمة كلكامش ط1" رنّ هاتفي الشخصي - الموبايل - وكان المتحدث هو الرسّام المعروف حيدر العبادي، مستفسرًا عن مضمون اللوحة التي كنتُ قد كلفته برسمها منذ زمن لتزين غلاف الكتاب المذكور. حينها حبست الالم في صدري، ومضيت للقول بنبرة الخجل: انني اود لوحة لكتابي "أفكار وتأمّلات من تُراب" وليس للذي ذكرته، لأن الرسام العراقي المتألق د. وسام مرقس انجز لي العمل. ويجب أن أعترف هنا بإنَّ الرجلَ كان مرنًا متفهمًا ومهنئًا، وابدى استعدادًا وتحمسًا، فجرى الاتفاق على لقاءٍ قريب تتم خلاله تلاقي الرؤى حول مضمون الكتاب ورموز الغلاف التعبيرية.
وفي مطلع شتاء عام 2012 تلقيتُ دعوة من قنصل لبنان السابق السيّد ماهر الخير لحضور امسيته الشعرية التي اقامها في "الاوبرا هاوس" بسيدني، فذهبت صحبة عميد الادباء المهجريين الأستاذ شربل بعيني، وهنالك رأيت الاستاذ حيدر الذي كان له معرض فني واسهام ملحوظ بتصميم ديكورات العرض المسرحي الذي رافق الأمسية الشعرية. تطلعت إليه ونظرت إلى جبينه فوجدت تاريخ العراق، امعنت النظر بوجهه ذي البشرة السمراء، فتذكرت بلدي. حدقت النظر في عينيه السوداوين وعرفت تلك الأوقات القاتمة التي قضاها في بلده. تفرست به مُجددًا، وإذا بمتاعب رّجلٍ أنفق شبابه للفن ترتسم على محياه، كأنك تقرأ فيه تفاصيل اليمة وهمومًا دفينة. رّجل يبحث عن تفاصيل فنية تخرجه من قعر تلك الأيام المظلمة التي يصعب على الذاكرة نسيانها!
صافحته وتعرفنا على بعض، ثم إنتحى بي جانبًا نحو جدارياته وبدأ يتكلم وأنا أتأمله بهدوء وأركز عليه، واستمع لحديثه العذب وهو يشرح لي ولغيري الرموز الظاهرة في لوحاته، حتّى إنني كنتُ لا أريد للوقت أن يمرّ وأتمنى على الساعة أن تتوقف، خصوصًا أنني مغرم منذ سنوات بمتابعة الفن والركض وراء جمال الالوان. وحين انتهى العرض في ليلة تألق فيها رسامنا أبن الفرات الاوسط، سرنا معًا إلى رواق مفتوح لنتناول المعجنات والعصائر، فشاطرته الخبز والملح، أو "الملح والزاد"، كما نقول في لهجتنا العراقية الدارجة، وادركت أسرار ريشته وطريقة عمله، ورحت أُشيد به كرسام رائع، وكمفكّر يحمل رؤية فنية جميلة، وكعزيز نفس لا يعطي لأحد سوى المحبة والانسانية والسمعة الحسنة. وهذا ما حفزني أكثر لكي يجمعنا عمل مشترك. ثم تجمع حولنا نخبة من رموز المشهد الثقافي العربي في سيدني وكانت هموم العراق وشجونه هي محور حديثنا، وكان طبيعيًا أن تستأثر بغداد منبع الثقافات بالنصيب الأكبر من اهتمام الحاضرين.
**
مقتطفات من مقال:
بين لعنة الله علينا وعنترة وسياسة البسطال
نحتاج الى جهد جهيد، لتحطيم هذه السياسات التي نشأنا عليها عقوداً من الزمن واصبحت بمثابة قناعة خاطئة مُتجسدة في سلوك يُعقد حياة الإنسان العربي ويملأه بالعقد والمخاوف....
قال الشاعر السوري العربي الأكبر نزار قباني:
"الشعب مثل الطفل الصغير يرضى بقطعة حلوى"، ونشر الحقائق في قصيدته (عنترة) وحذا حذوه الشاعر اللبناني العربي الكبير شربل بعيني في رائعته: قصيدة (لعنة الله علينا).
نعم نحن كشعوب قبلنا بسياسة الصمت امام عنترة بلدنا وسياسة (البوت – البسطال العسكري)، وكان الكثيرون منا يهتفون امام (عنترة) القائد المفدى (يعيش.. يعيش) وفي اعماقهم يهمسون (لعنة الله عليه)! وبسبب سياسة معظم حكامنا العرب (سياسة فرق تسد... ناهيك عن سياسة التمييز الطائفي والعشائري...) بتنا في وضع لا يتقبل الآخر بسهولة، فصار لدينا مخاوف من الإنفتاح على الآخرين خوفًا من وشايتهم علينا، فاغتيلت فينا قناعة النطق بكلمة حق.
2013
**
إهداء
اهداء كتاب نخيلٌ في بستان الذّاكرة... الصادر عن دار سطور- العراق- بغداد/ شارع المتنبي 2016.
- إلى المدفعيّة الثقافيّة الثقيلة وترسانة الإنسانيّة الأدبيّة، ابائي الروحيين وقرّة عيني:
ـ البحّاثة د. بطرس حدّاد الذي رحل عن عالمنا دون استئذان؛ بموته غارت الينابيع في الأرض ويبست عروقها. لقد أشعل الموت عود ثقاب في قلبي الذي يتلظى بنيران رحيله. لينفعنا الله بصلاته من علياء سمائه. آمين.
ـ الشاعر الكبير شربل بعيني ذي القلب المفتوح حُبًّا وصدقًا وتعليمًا وتواضعًا وبراءةً، وهل هُناك من ضحكة محبة أكثر براءةً من تلك التي يطلقها البعيني. إنّه قلم المطافئ ومركز الثقل في أدبنا المهجري الأُسترالي وحجر الزاوية في جلساتنا الثقافيّة وسقف الوعي في احاديثنا وندواتنا الأدبيّة. أطال الله بعمره. آمين.
ـ العملاق المتواضع الشاعر يحيى السماوي، الذي لم ولن يتعملق على حساب الآخرين، مُتقنًا لغة المحبة الكونيّة، عارفًا فنّ مواصلة الموَدّة والتمسك بحبال الوفاء وأخلاقيات الإنسانيّة. لا يعرف التزمت ولا يقبل التعصب ولا يميل إلى التشدد، بل هو صورةٌ مشرقة لسماحة العراق وطيبة العراقيين وتنوعهم الحضاري.
بمولده انبلج على الأدب العربي فجرٌ جديد. قلمُه سيال كحقل من القمح تحت المطر، لسانُه يَقطر عسلاً من بليغ الكلام، أما هو، علم خفاق فوق الساريات.
رعاه الله بصحةٍ لا تبلى. آمين.
لقد وجدتُ في شخصيّة هؤلاء الفرسان الثلاثة (فرسان الكلمة) مزايا مُقاربة لشخصيّة والدي المثقف المرحوم نبيل جزراوي، فبعد رحيله المفاجئ إلى الأخدار السماويّة عوضني الله بحدّاد والبعيني والسماوي.
الأب حدّاد كان يشرق أبوته من تاج الشرق بغداد، أمّا في أستراليا من وراء البحار النائية: شربل يشمِّس من سيدني، ويحيى يغمرني باشعة الرافدين من اديلايد، وأنا تحت شوامس محبتهم أسير بعكازة الصداقة، فوجودهم لم يشعرني أني فقدت أبي.
وعدًا وعهدًا كلّ ما حييت ألا أنفض يدي من صداقتنا النبيلة ولن أتنازل عن تلك الأبوة الروحيّة، مواظبا في مدارس تعليميّة وأدبيّة، اساتذتها قمم في الإنسانيّة.
**
تعليق على مقال:
الثرثرة في ندواتنا الأدبية
أستاذنا الكبير شربل بعيني
مقالٌ جميلٌ ونبيلٌ، دائمًا يسيل لعابي وأنا أطالع كتاباتك المرموقة، ولكن في هذا المقال اللامع الرائع أختصرت عليّ عناء كتابة مقال بهذا الصدد.
مقالك أشبه بمنارة تكتسح ظلام الثرثارين؛ فالثرثرة أصبحت وللأسف آفة تفتك بندواتنا الأدبية، فالبعض حين يعتلون ناصية المنبر يتوقون إلى إصغاء الآخرين لكلماتهم، بينما هم يعيثون الضوضاء ويطلقون إبتسامة السخرية والإنتقاص حين يعتلي غيرهم المنصة.
دمت جرس انذار وصوت حق وحقيقة، وقلم توعية يرفع سقف الوعي في أدبنا المهجري.
تقبل شكري ومحبتي وسؤالي الدعاء.
[1] أنظر كتاب الأب يوسف جزراوي: ملحمة كلكامش، ط2، ص 120، بغداد 2015.
[2]ـ شربل بعيني
**