نعيم خوري بقلم نعيم خوري
الاسم: نعيم الياس خوري.
زمان ومكان الولادة: 8 تموز 1920، بطرّام، الكورة، لبنان.
الوالد: الخوري الياس الخوري، كاهن رعيّة بطرّام.
الوالدة: سليمة مالك.
أولى سنوات الحضانة في بطرّام، وكان المعلّم موريس سرحان، وكنّا نسمّيه (حليحل) نظراً لعبوسته الدائمة واسترساله في الطلب. كان آخر السنة الدراسيّة، وكان يعدّنا لحفلة، نصيبي منها أن ألقي قصيدة مطلعها:
يا أرزة ملأ الزمان جلالها
سدت الزمان عُلىً وساد ذووكِ
أنهيت دوري في الاستعداد، وتتالت قرعات جرس الكنيسة حزناً في البلدة، تنبىء بوفاة والدي في مستشفى الجامعة الأميركيّة في بيروت. منذ ذلك الحين بدأ ينشأ في داخلي، بيني وبين الشعر، (كار) المساجلة والصراع، وكأنه حبّ (لدود) انزرع في الدم، أو كره (محبّب) يغمر النفس.
بعد وفاة والدي المبكّرة جداً، تعّهدني مدير المدرسة العلمانيّة في عابا الكورة، المرحوم الأستاذ جورج إبراهيم عبد اللـه. تابعت دراستي الإبتدائيّة والتكميليّة، ولأسباب خارجة عن إرادتي لـم ألتحق بأيّة جامعة، فتابعت تحصيلي العلمي على نفسي.
بدأت مهنة التدريس في المدرسة العلمانيّة عام 1945، وبعد ثلاث سنوات التحقت بوزارة التربيّة الوطنيّة والفنون الجميلة.
كنت عضواً دائماً في لجنة الامتحانات، وكلّفت بمهمّة التفتيش في المدارس الخاصّة من عام 1956 حتى تاريخ استقالتي سنة 1963.
عام 1948 انتميت إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي، وتحمّلت فيه عدّة مسؤوليّات. عام 1968 توقّفت عن كل نشاط حزبي.
كتبت في كثير من الصحف والمجلاّت في بيروت منها: النهار، صدى لبنان، البناء، العاصفة، كل شيء، الأحد، الناس، صوت المرأة، الأجيال، النبراس وغيرها.
كنت من الأوائل الذين طالبوا بإعطاء المرأة حقوقها السياسية، وكتبت في هذا السبيل حلقات متسلسلة موقّعة مرّة باسم نهاد، وأخرى باسم نعيم.
بسبب المراقبة والحظر، كثيراً ما كنت أستعين بأسماء مستعارة أوقّع بها أشعاري وكتاباتي.
نشرت: أمّتي 1949 ـ 1950، البطولة المؤمنة 1952، جراح مضيئة 1956، إباء 1958، ملح في جراحي 470 صفحة (استولى عليها المكتب الثاني عند آخر ملزمة) 1961، قال صنّين 1986.
الناشر: لقد سقط إسم كتاب (جراح مضيئة ـ1956) الذي ذكره نعيم هنا، من فهرس آخر ديوان صدر له بعد وفاته: صور في مرايا المطر. كما وردت أسماء بعض الكتب التي لـم يأتِ على ذكرها، مثل: الصهيونية خميرة العنصريّة 1953، بحيرة الياسمين ـ 1955.
وبما أن المرحوم نعيم خوري قد كتب هذه المعلومات قبل العام 1990، وجب علينا ذكر أسماء الكتب التي صدرت له بعد ذلك التاريخ:
بحيرة الضوء (1) ـ 1990، فكتوريا نعيم خوري ـ 1992، صمت على شاطىء العاصفة ـ 1993، سفر الوجع الحزين ـ 1993، وكيف يزعل القمر ـ 1995، بحيرة الضوء (2) ـ 1995، الفكر الوطني في مواجهة المشكلة الطائفيّة ـ 1996، صوت من الضفة الأخرى ـ 1996، من كل أفق نجمة ـ 1997، Seeds of Harvest، (ترجمة الدكتور آميل الشدياق) ـ 1997، شاطىء النار ـ 1998، هناك كان وطني ـ 1998، صور في مرايا المطر ـ 2001.
في أواخر الثمانينات أقامت رابطة إحياء التراث العربي ندوة أدبية حول ديوان (قال صنين)، شارك فيها العديد من شعراء وأدباء المهجر، وقد جمع نعيم الكلمات في كتاب أسماه: نعيم خوري في ندوة رابطة إحياء التراث العربي.
عندي ما يربو على الثلاثين مؤلفاً، شعراً وأبحاثاً أدبيّة واجتماعيّة وثقافيّة وسياسيّة، تنتظر دورها للنشر.
عام 1961، على أثر المحاولة الإنقلابيّة، جرى توقيفي من قبل الجيش، ثـم أحرقت مكتبتي بكليتها، وكذلك إنتاجي الفكري من عام 1946 حتى 1961.
أول قصيدة كتبتها وألقيتها في النادي الأدبي للمدرسة العلمانيّة عام 1944، ومطلعها:
أنادينا.. استمع ماذا يقالُ
أتُبْعَثُ والجمادُ فيك جلالُ؟
فتحيا، بعدما دفنت أيادٍ
أمانا للشباب كما يخالُ
إذا أنت لعازر فوق لحدٍ
ومَن أحياك: عيسى.. لا محالُ
قال لي صديقي سمعان سالـم بعدها: بدَّك 100 سنة حتى تصير شاعر.
عام 1946 كلّفتني إدارة المدرسة العلمانيّة لأتحدّث باسمها في حفلة التخريج، وكان في عداد الخطباء الشيخ عبد اللـه العلايلي، والمحامي الشاعر صلاح لبكي، وألقيت قصيدتي التي مطلعها:
يا كورتي الخضراء حان الوقت فانتصبي
وحطّمي الصنـم الموبوء والتهبي
على يديك تربّى المجد وانتفضت
طلائع الحقّ والإيمان والأدبِ
وفي عيونك فاض الفجر فاشتعلت
منائر العزّ شلاّلاً من الشهبِ
غمرني الشيخ عبد اللـه العلايلي وقال: هذا شاعر جديد من مشاتل الكورة التي تجدّد الشباب وتعطي الحياة. والتفت صلاح لبكي إلى وداد مالك وقال: كيف تدعوني المدرسة وعندكم شاعر من هذا الطراز؟
عام 1950، دعتني كلّية طرابلس إلى حفلتها السنويّة، وكانت برعاية رياض الصلح، الذي ما أن وصله البرنامج حتى قال: ما بقى تلاقوا غير هالقرد؟.. ثـم تمنّع عن الحضور، وكلّف محافظ طرابلس نور الدين الرفاعي بتمثيله، وهذا بدوره انسحب وأنا ألقي قصيدتي التي مطلعها:
يا كون أنشدني ويا دنيا اشهدي
بلداً يئنّ وأمّة لا تهتدي
الظلم يحكي والشقاء نخيّم
والقهر فينا كالطبيعة سرمدي
أوقفت وسجنت عدّة مرّات بسبب نشاطي الفكري، وفي عام 1962 أثناء توقيفي الإحتياطي، تكسّرت أضراسي من جرّاء الضرب بأعقاب البنادق لقصيدة كتبتها أثناء التوقيف. وعندما عدت إلى القاووش رقم عشرة، استعنت بعيدان الكبريت ونسرات الخشب، وكتبت بالدم المتفوّر من فمي على (ضبان صبّاطي) قصيدة مطلعها:
أقوى من الموت إيماني ومعتقدي
يا زارع الكرباج في الأقدام والجسدِ
أقوى من الموت فاسفح يا ظنين دمي
وانكأ جراحي فتدمي لجّة الأبدِ
إضرب، تغطرس وضجّ اليوم منتقماً
واذبح بحقدك حبّي واحتقر جلَدي
وبلغ الخبر ميشال ربابي، فاستدعيت إلى جولة ثانية للتأديب، وطارت القصيدة والضبان معاً. هل تراهم يسمعون صدى صوتي اليوم في قاعات التحقيق وأقبية التعذيب والإرهاب؟
في نيسان 1957، وفي ندوة شعر، عرّفني يوسف الخال بقوله: شعر نعيم خوري بصّات نار وهزّات زلزال. وقبله في 1956 في جراح مضيئة، قال عبد اللـه قبرصي: شعر نعيم خوري شعر بركاني تحرق حممه كل ما خلّفته مستنقعات الذل والإنحطاط. وقال أدونيس: شعر نعيم خوري طلّة جديدة لتاريخ جديد.
عام 1963، عاد مسلسل استدعائي من قبل المكتب الثاني، وعادت المهزلة ـ المأساة للتوقيف الاحتياطي، وتكرّرت عمليّة إحصاء الأنفاس، فعقدت زواجي في الثاني والعشرين من كانون الأول من ذلك العام، وتركت بيروت إلى أستراليا في التاسع والعشرين منه. في ذلك الحين صدر قرار بتوقيفي وإحالتي إلى المحاكمة، فختم منزلي بالشمع الأحمر، وعلّق على بابه: مطلوب للعدالة.
في سيدني أوستراليا، كتبت شعراً ونثراً في سائر الصحف تقريباً: صوت المغترب، التلغراف، النهار، صدى لبنان، الوطن، البيرق، وفاق، وغيرها.
لـم أذكر شيئاً عن المحاضرات الأدبيّة والسياسيّة والإجتماعيّة التي ألقيتها بدءاً بالمؤسسات والنوادي الإجتماعية، وانتهاء ببيت الطلبة في الجامعة الأميركيّة في بيروت. إنها تكاد لا تحصى.
عزيزي شربل:
هذا ملخّص ما طلبته مني من معلومات، أرجو أن أكون دقيقاً في سردها ما أمكن.
**
مجانين
صوت المغترب ـ العدد 890 ـ 16 حزيران 1986
ـ1ـ
يَا مَحْلَى الْعَوافِي
بِرْمُوش الْهَنَا
مْرُوج الْهَوى الصَّافِي
تْغَنِّي مِيجَانَا
وِنْجُوم الْعَوَالِي
بْتِحْكِي بِالْوَمَا
لْهَالْوَطَن الْغَالِي
الِمْعَمْشَقْ بِالسَّمَا
ـ2ـ
تَايِه.. وْشِعْلِةْ نَارْ بِعْيُونِي
فَتِّشْ عَ كَمْشِةْ شِعْرْ
تْشِيلْ الصِّدِي عَنِّي وْعَنِ جْنُونِي
وْعَنْ مُعْطَيَات الْفِكْرْ
طِلِعْ بِـ وِجِّي ضَوّ عَمْ بِيجِنّْ
حِمَمْ بُرْكَانْ كِلُّو فَنّْ
مَازَاتْ جَوْهَرْ لِلْهَوَى.. لِلْكَيْفْ
للأرزْ.. لِلصّفصَافْ.. لِلشّرْبِينْ
تِخْمِينْ شَقْفِه مْنِ الْقَمَرْ تِخْمِينْ
مْعَلَّقْ عَ بَابَا زمْرِة شْيَاطِينْ
مْشِيتْ.. الشَّمسْ شَلاّل.. السَّمَا مْصَافِي
وِالأَرْض عَنِّتْ أَلْف جُرْح وْأَلْف وَعْد مْدَمّرُو التِّنّينْ
وَقْعِت مْوَاج الْبَحْر عَ كْتَافِي
وْصَارِت شْفَافِي تْبَوِّس شْفَافِي
مَدَّيْت إِيدِي تْفَلْفِش الْكِلْمَاتْ
وْتِضْوِي عَ بَاب الْفَجْرْ كَمْ شَمْعَه
حَسَّيْت إِنّو كلّ كِلْمِه سَيْف
بْيِلْمَع اللَّمْعَه بْضَهِرْهَا لَمْعَه
مْخَبَّا بْعِبَّا أَلْف مَعْنَى جْدِيدْ
يِنْسُجْ بِضَوّ الْفِكْر شَمْسِيِّه
وْيِسْكُبْ عَ تِـمّ الشِّعْرْ غِنّيِّه
تْوَعِّي الدِّنِي مْنِ اللَّيْلْ
وِبْلادْنَا مْنِ الْوَيْلْ
حْرَام الشِّعْر يلْبس تْيَابْ الْعِيدْ
وْيِكْرُج عَ جِرْحُو مْنِ الأَسَى تِنْهِيدْ
ـ3ـ
بَعد مَا تَخّ الْوَفَا وْتَكَّى أَرْزنَا
صْراصيرْ لَيْل النَّحْس سَرْقت عِزّنا
حصْن الْبُطُولِه اهْتَزّ وِأْسَاسُو ارْتَخَى
وِتْخَلْخَل الإِيمَانْ.. وِالْوَعْد انْكَفَا
وْلُبْنانْ يَللِّي كَانْ عُمْرَان وْسَخَا
انْكَسْرِت صْفُوفُو.. انْهَدّ مِنْ كِتْر الْجَفَا
مِحْتَارْ لَيْش النَّاس صَارِتْ خَايْفِه
مْجَانِينْ؟!.. كِيفْ بِتْقُولْ؟ تِهْمِه بَاطْلِه!
زَرْعِت الْعَقْل بْألْف مِلِّه جَاهْلِه
الْمَجْنُون عِنْدُو حِكْمتُو.. وْسَاعِةْ صَفَا
وِسْيَاج رَاسُو انْ غَابْ.. وِسْرَاجُو انْطَفَا
بِيضَلّ أَفْضَلْ مِنْ عُقُول مْجَوّفِه
ـ4ـ
لِمْت الرّسُول.. وْلِمْت يَسُوع الْمَسِيحْ
وِعْتَبِتْ عَ شَعْب بِالإِيمانْ صَلَّى
ضِيَّعِتْ حَالَكْ.. وِانْتَمَيْت لْحِزِبْ أَللَّـه
بَعد ما الأَحْزَابْ وِالجَبْهَاتْ كِلاَّ
أَللّـه نَكَرْهَا.. بَعد مِنُّو الشَّعْب حَلاَّ
كأن أللّـه عَاوِزْ هَمْشَرِيِّه
تْبَرِّرْ حَالْتُو.. وْتعْطي هَوِيِّه
بَاب السَّمَا مَسْدُود.. شُو نَفْع الْعِتَابْ
لَو كَان صَبْر الأَنْبِيَا مْنِ الرَّب وَلَّى
وْعَ كِلّ مَفْرَق دَرْب عَلَّقْ مَشْنَقَه
وْمَطْرَح الصَّارُوخ فَرَّخْ زَنْبَقَه
وْلَمْلَم جْرَاحو وْغَسَّل شْفَاف التّرَابْ
وْمِن قَلبْ مَدْبُوحْ بِالْعَصَّاتْ.. دَلاَّ
عَلَى تجَّار خانُوا بِالشَّرِيعَه وِالكتَابْ
كانْ النَّبِي.. وْكَانْ يَسُوع الْمَسِيحْ
الْتَقْيُوا سَوَا.. زِلْزَالْ قَام مْن الضَّرِيحْ
وْنِسْيُوا لْمدِّةْ يَوْم مِفْتَاح النَّعِيمْ
وْكَبُّوا جَحَافِلْ ضَالِّه بْنَارْ الْجَحِيمْ
ـ5ـ
عَاتِبْ عَ أَللَّـه وْعَ مْحَمَّدْ وِالْمَسِيحْ
وْعَ الْـ أَشْرَكُوا بِالدِّينْ وِالْمَبْدَا الصَّحِيحْ
وْسَاوَيْتْ مَا بَيْن خَايِنْ وِالصّحَابْ
وْمَا بَيْن كَافِرْ وْطَيِّبْ الرّؤيَا صَريحْ
وْما بَيْن مِتْسَكِّعْ وْواقِفْ عَ الِبْوَابْ
وْما بَيْن فَادِي عَمَّرْ الْكَوْن الْفَسِيحْ
لَوْ كانْ مَعْنَى الدّر لايِق بِالدّيَابْ
مَا فَتَّح الْعمْيَان أَوْ مَشَّى الْكَسِيحْ!!
ـ6ـ
تْكَسَّرتْ سَاعاتْ هَـ الْغُرْبِه
وْوِقْفِتْ عَقَارِبْهَا
وْيِبْسِتْ أَمَانِي زْرَعْتها بْقَلْبِي
وْجَفِّتْ أَطَايِبْهَا
وْصَفَّى النّدي بِعْيُونْها لِهْبِه
حَرْقِتْ حَبَايِبْهَا
وْصَابِيع عَمْ بِتْدُوبْ بِـ دَرْبِي
بْلَهْفِةْ مَوَاهِبْهَا
شَاب الْوَقْت.. طوَّلْت هَـ الْغَيْبِه
وْظِلِّي تِعِبْ مِنِّي
انْبَحّ الْوَتَرْ.. حَسْبِي أَنَا حَسْبِي
هْمُوم الْوَطَنْ غَنِّي
لَوْ قَطّعُونِي.. وْشَيّعُوا نَحْبِي
بِالأَرْز كَفِّنِّي
تَا تْزَلْغِط التّرْبِه
وْيِضْوِي شِعْر شَعْبِي
لِلشَّاعِر بْعَيْنِي!!
**
رسالة
سيدني في 13 آب 1986
عزيزي كلارك:
تحيّة عاطرة. أشكر لك هديّتك الثـمينة، وهذه الالتفاتة الكريمة، فيما يختص برسالة الكلمة في هذا المقلب من الدنيا، وأقدّر لك هذا الجهد الكبير الذي قمت به لشاعر أحبّ وأتوسّم فيه كل الخير لوطن يجتاز أصعب وأدقّ المراحل في تاريخه الطويل، ولميدنة النهضة الأدبيّة فتلتحم التحاماً أميناً وصادقاً بمصير الوطن والإنسان فيه.
لا شكّ في أن ما قيل في شربل بعيني وشعره، في أستراليا، لـم يكن من قبيل التشجيع فحسب، بل من قبيل التقدير على حدّ سواء. ولا شكّ أيضاً أن شعر شربل سيزداد مع الأيّام نضوجاً وقوّة، وسيصبح أشمل بعداً وعمقاً ووعياً ومتانة، وخاصّة فيما يتعلّق بالفصيح منه.
شربل يطلّ مع الفجر ولا يغدر به الليل فينام، بل يتوهّج ويتدفّق، فتأتي حروفه سيوفاً من نار، والذين يكتبون بالنار لا يمكن لأعصابهم أن تتقزّز في الجليد.
إنّ مهمّة الشاعر دقيقة جداً، لأنها، وإن لـم تكن تتوقّف عند الحواجز والحدود، فهي ملتزمة بقضيّة الإنسان، ومسؤولة عن تأسيس مفهوم جديد يتخطّى الزمان والمكان ليشمل العالـم بأسره، ويستوعب التاريخ الحضاري كلّه. لـم يعد الشاعر مرآة عصره، إنه صانع العصر، وهو وحده يعطي عصره هديّة مميّزة، يستشرف الأحداث، ويخلق تياراً هادراً يتجاوز القضاء والقدر، ومن يتحدَّ هذا التيار يصرعه التيّار.
عام 1951، في أحد مهرجانات الشعر في الكورة، قلت:
ليس للشعر أن تقول القوافي
أو يقول الإلهام والإيحاءُ
أكذب الشعر لا عذوبة فيه
فَلْيَكُ الصدقُ بأيدي ما نشاءُ
وقامت عليّ ضجّة حسمت دور مفتعليها بالآتي: "إذا أمكن للشاعر أن يكذب على العواطف ويثيرها، فإنه لا يمكنه أن يكذب على حقيقة الرسالة التي تصنع التاريخ، لأن التاريخ لا يقوم على العواطف بل على الحقائق التي تتجسّد فيها قيم الحق والخير والجمال.
وأزيد على ذلك اليوم، يا عزيزي كلارك، أن الذين ينتظرون منّا، نحن أهل الشعر، أن يكون إنتاجنا مجرّد مخدّرات لتخفيف الآلام والأوجاع، فإن انتظارهم سيطول لأن مسؤوليّتنا أن نهزّ مطارح الجمود، وأن نخضّ مستنقع الفكر الآسن، نقضي فيه على التنين، ليشرق الفجر وتكون النهضة في خدمة الأجيال الطالعة والتي لـم تولد بعد.
هذا إرثنا، وهذه أمانتنا، وهذا هو خطّنا. مرة ثانية أشكرك، ولك مني تمنيّاتي الطيّبة.
**
شربل بعيني وكيف أينعت السنابل؟
صدى لبنان ـ العدد 547 ـ 26 أيار 1987
مجموعة شربل بعيني (كيف أينعت السنابل؟)، الصادرة عن دار الثقافة للطباعة والنشر في سيدني عام 1987، سمعت بعض قصائدها، وقرأت بعضها الآخر في الصحف والمجلاّت المحليّة، فما الذي يدفعني إلى الكتابة عنها؟
من حقّ القارىء أن يسأل وأن يملّ، ومن حق شربل نفسه أن يتساءل: ألـم يحن الوقت ليحل نعيم خوري عن ظهري؟
إلاّ أنه من حقّي أنا أيضاً أن أعترف بأن قراءة متتابعة لقصائد مجموعة بين دفتي كتاب تعطي نكهة تختلف لوناً وتذوقاً عن قراءتها متفرّقة ومتباعدة في مدار الزمن. صحيح أنها هي ذاتها لـم تتغيّر، ولـم تتبدّل، ولـم ترتد ثوباً جديداً، إنما في تواصليتها تزيد الرغبة في القراءة من هـم القارىء، وتركّز على اهتمامه، فيزداد في العمق اكتشافها للمكنونات النفسيّة، ومصادر احتقانها وتفلّتها، هذه هي الحقيقة، فإذا تجاوزناها، تترك في ذاكرتنا نقصاً لا يعوّض.
ولذلك عمدت إلى قراءة (كيف أينعت السنابل؟) بدءاً بمقدّمة الدكتورة سمر العطّار. إن من يتناول هذه المقدّمة من الناحية الظاهرية للمضمون، يحار ويتساءل: هل هذه مقدّمة لمجموعة شعرية أم سيرة حياة الشاعر؟. هل هي موجة عواطف في زمن يابس الأحاسيس والشفاه؟ أم هي نافورة نور تتسلّط على الأيّام التي دحرجتها العتمة؟ أما من جهتي فإنني اعتبرها انقلاباً أبيض ناجحاً على الرتابة المتبعة في تقديم المؤلفات الأدبيّة والشعرية، وأتصوّر الدكتورة العطّار قد جلست تستمع إلى قصّة حياة شربل، وتسجّلها على شريط ضوئي حتّى إذا ما فرغ هو من سردها، عادت هي إلى التركيز على أهميّة ما تركته الأحداث في نفسه ليتفجّر شعراً، وسكبته في قالب لغوي سلس شيّق صحيح، لا ينتهي القارىء فيه من موسم ألـم حتى تتتابع عنده مواسم الرجاء، وتتفتّح له آفاق لـم يصفق عليها جناح خيال. وتزيد سمر على ذلك (فضولها العطّاري) المستحب على عذوبته ورقّته وإخلاصه، فتحاول أن تدخل إلى ذات شربل لتتكشّف البعد الإنساني الذي يبني عليه، وينهل من مواهبه الشعرية. هذا (التحرّش) البريء، على إحراجه، يسقط القشور، فيبدو الزمان، غياباً وحضوراً، بلا ضفاف ولا حدود.
أنا لا أعرف سمر العطّار، ولـم ألتقِ بها إلاّ من خلال ما كتبته، ويتبيّن لي أنها تنطلق من وجدانها، وهذه الميزة أتاحت لها أن تستوعب الحقيقة، التي من أجلها كانت مجموعة (كيف أينعت السنابل؟)، لأن مجمل قصائدها تنطلق من الأرضيّة التي صهرت بآلامها شربل بعيني، ففجّر غضبه ناراً تحرق فتأكل الزمن الرديء، ونوراً يشعّ فيستجلي جمالات المصير.
وفي رأيي أن شربل بعيني يتمتّع بشاعريّة فجّة، ولكنّها خصبة مطعّمة باللهب الإنساني، فكأن ـ عنده ـ كل الكون حلم دائـم، لا مذهبي ولا صوفي، يرشق الإنسان ويزوّده بخمير الكينونة، ويتميّز بما فيه من الإيمان والمحبّة والفداء، ومن العقليّة الأخلاقيّة الجديدة التي تصنع التاريخ، أو هو الشعر ذاته جفن مشتعل يغلّ في الأشياء المرئيّة واللامرئيّة، وينهب أسرارها ليقدّمها معرفة يتموّن منها العالـم. أو هو قلق لاهب مستعصٍ يمشي على شفير الشكّ، ويتأرجح بين اليقين والحسبان، يغمر الإنسان والوطن والأرض بالجراح التي تزهر إيماناً بالحياة. ولذلك أراه يعاني مشكلات فكريّة ليست مجرّدة أو معزولة عن الزمان والمكان، بل منبثقة من صميم الواقع الحي، وقيمته فيها أنه عبّر عن هذه المشكلات بوجهة نظر جديدة، وبالتالي ابتكر لها أساليب وأشكالاً جديدة مختلفة، قد نوافقه عليها وقد لا نوافق. الأهـمّ من الموافقة أو عدمها، أنه ما زال مكبّاً على العطاء، والمستقبل كفيل إمّا بغربلتنا نحن أو بنخله هو.
غير أنه، وهو يعالج هذه المشكلات في تركيبته الشعريّة، قد خلق لنفسه مشكلات أخرى، يصطدم بعضها بالبعض الآخر. من هذه المشكلات عجقة الكلمات والصور واللوحات، وتناقضها، وكركرتها، وتوثّبها، وتوترها على غير قاعدة وانتظام، وبدون ضابط أو مصاهرة بين الحالة النفسيّة وعواملها من جهة، وبين الرهان الجدير بالشاعر الحقيقي على استخراج ماهيته من اللهيب من جهة ثانية. وهذه الظاهرة مرضية في الشعر، ترفض من أجل الرفض، وتهدم في سبيل الهدم، وكأن الحالة السلبيّة لا يكون علاجها إلاّ بحالة سلبيّة أخرى أكثر خطورة وأشد خطراً، وهذا محظور حاول شربل أن ينقلب عليه، فوقع في شراكه.
ثـم إن التكرار المجاني، والخلط بين الفرار والمجابهة وبين الأنقياء الأحرار والأذلاّء المستصغرين قد حرم المجموعة الكثير من لمعانها الشعري، وأفرغها من بطانيتها الفكريّة، وخلخل بنيتها، حتى لتحسبنّها لقيطاً من رذاذٍ تركته غيوم عابرة على أكتاف الريف.
ولا بدّ من أن نلاحظ أننا، نحن وشربل، من هذا الزمن.. فأي منّا نصف غبيّ، أو غبيّ كامل؟ ولماذا يطرح درره على الخنازير؟ أم أننا لسنا، لا نحن ولا شربل، من الكتّاب والشعراء، بل دخلاء على رسالة الأدب والشعر الصانعة التاريخ؟!!
وشربل نفسه يعاني أيضاً من عقدة التجربة، وهذه المعاناة جعلته يطلّ على انفتاح أفق جديد، وحالة تهزّ الأعماق، وتشدّ الإنسان بلهفة إلى الغد، فيعبّر عن انهيار الحدود بين الإنسان والكون والقلب والعالـم. أمّا الشكل، وأمّا الصيغة الشعريّة، فليست لهما أيّة قيمة عنده. لقد انعتق من الأنماط التقليديّة، ليعطي لنفسه أنماطاً جديدة تتوافق مع نظرته الجديدة وتوقه إلى التحرّر من كل ما ورد من أشكال، لكنّه لـم يستطع أن يتحرّر كليّاً من الأوزان والقوافي، بل اختلطت لديه، وتشابكت وتنافرت حتّى بدت وكأنها سوق للمزاد العلني.
في يقيني أنه ما زال في بداية الطريق، وعليه أن تنتهي إلى زيادة في الانطلاق نحو إيقاع جديد وموسيقى داخلية صحيحة منسجمة أخّاذة، تنبعث من التحام الوحدة الفنيّة في القصيدة بمجموعها وبمختلف أجزائها.
إنه، بلا شك، يمتلك مدّاً وافراً من ناحية اللغة، لكنّه لا يمتلك ناصية العروض، وحجّته في ذلك أن الحياة في الحريّة، على ما فيها من علاّت، أفضل مما تقدّمه الأقفاص ولو ذهبيّة. غير أن الحريّة ذاتها لا تكون مطلقة وغيبيّة، بل هي ذات نظام يعترف بحريّة الآخرين، وذات مفهوم يعين مضامينها ومعاييرها ومقاييسها، وإلاّ أصبحت تشويشاً وفوضى ومدعاة للرعونة والتسيّب. وهذا ما لا يريده، أو يرضى به، أو يقصد إليه شربل بعيني.
إن أوزان الشعر تخدمه ولا تحدّ من حرّيته بحيث هي تعبيريّة، بمعنى أنها تتكيّف حسب المعنى الذي هو الأصل، ولا تتهدّم في سبيله مهما كانت الغاية. وتكيّفها هذا لا يجعلها تتنعّم بأيّة قداسة. فإذا أردنا ابتكار أشكال جديدة فعلى هذه الأشكال أن تلتزم بتفعيلة خاصّة، لا أن تكون لها، في القصيدة الواحدة أو في المقطع الواحد على الأقل، تفعيلات مختلفة تخنق الرنّة الموسيقيّة وتعطّل الفنّ الشعري.
قد يعجب البعض: لماذا أحاسب شربل على هذه الأشياء الدقيقة جداً، وقد تخطتها عوامل ومحاولات التبسيط للغة ولما يتفرّع عنها من فنون؟ ولذلك أبادر إلى القول: إني أحاسبه لأن له في نفسي منزلة خاصّة، ولأني، مع رعيل الذين تقدّموه، أنتظر منه أشياء كثيرة، وأتوسّم فيه الأحب والأفضل والأكمل.
انطلاقاً من هذا كلّه، أعتبر شربل بعيني شاعراً من شعراء الفجر. إنه من شعراء النخبة المشتعلة بوهج المرض الطليعي، لا نخبة الذين يدّعون الثقافة يوم لـم يعد لهؤلاء المثقّفين فجر يحرق عتمة.
**
من نعيم خوري إلى شربل بعيني
صدى لبنان ـ العدد 572 ـ 17 تشرين الثاني 1987
ـ1ـ
يا شربل..
في طريقك إلى المربد، تذكّر:
أنّك شاعرٌ
بساط الريح طوع جناحيك،
وقباب السماء قناطر لقدميك.
لعينيك تتراقص النجيمات،
وفي حناياك تتغلغل الشمس.
على كفّيك تنبسط الأبعاد،
وفوق كتفيك ينشلح تاريخ طويل.
كما في طيرانك،
كذلك في شعرك،
أنت أبداً تحلّق،
تطلّ من دنيا ليست كدنيانا،
وتنسكب شلاّلات لـم تخطر ببال،
وتسرح في أخيلتنا كما لـم يسرح خيال،
تشيع فيها الحبّ والثقة والتمرّد.
ـ2ـ
يا شربل..
في طريقك إلى المربد، تذكّر:
أنّك من هذه الجالية في مطارح الشمس البعيدة،
في المقلب الآخر من الأرض،
في المنافي التي صنعتها الأنظمة والمخابرات.
أردأ من الزمن الرديء،
كنّا ولا نزال،
لأننا له طواعيّة ومستسلمون،
ولأننا في عيوننا
زرعنا المخارز التي من آلامها نعاني،
وفي وجداننا
غضبة العار،
الذي من ويلاته نتوزّع على مزابل التاريخ.
ـ3ـ
يا شربل..
في طريقك إلى المربد، تذكّر:
أنّك أحلى خرافات هذه الحياة،
وأجمل قراءاتها،
وأصدق عناوينها،
والقصائد "الـ كتبتها"
أو أنشدتها،
أو أهملتها،
لـم تكن حماقات،
ولـم تكن حمّامات دخان،
إنّها أضواء الخرافات
في عالـم يكره نفسه،
لأنه يكره الحقّ،
ويكره الحبّ،
لتكرهه الحياة ويكرهه الموت.
ـ4ـ
يا شربل..
في طريقك إلى المربد، تذكّر:
أنّك لست من النخبة المصابة بمرض الطليعة،
أو ظاهرة الريادة،
ولوثة الانحراف،
بل أنّك صوت يدوي كما الرعد،
ويقظة تتوثّب كما البرق،
وإنّك أنت
ضمير هذه الجالية المتوهّج
وقلبها الذي يحبّ الحياة
لأنه الأقوى من الموت.
**
عواصف
صدى لبنان ـ العدد 587 ـ 15 آذار 1988
دانيال النبي يتوشّح بالرؤيا. ينفض غبار الأزمنة، يجلي صدأ الوثنيّة المدمّرة، وصوت الربّ يصرخ في البريّة، فيتحرّر الملكوت من قرصنة البرابرة ولوثة الفريسيين.
يوحنا فـم الذهب كان ـ منذ البدء الذي كان الكلمة ـ يتوهج بالحكمة، يحمل بشارة الخلاص، ورسالة المعلم إلى الكون، ينشر نور المعرفة في العالـم، يحوّل امتثال القطيع إلى إدراك فاقتناع فإيمان مطلق بإله واحد خالق السماء والأرض، وكل ما يرى وما لا يرى.
الخضر على صهوة. تشتعل الأرض من تحته. تتهيّب الشمس ظلاله. يسحق التنّين. يهدّىء اضطراب الأعصاب. يزرع الثقة في النفس. يقول للناس أنتم من أمة كم من تنين سحقت.
في طريقه إلى روما، ساور بطرس الشكّ فقرّر العودة، وإذا بصوت السيّد يصرخ: بطرس، يا بطرس، لا تصلبني مرّتين. أنت الصخرة، وعلى هذه الصخرة أبني كنيستي. وكانت الطريق، وقامت كنيسة اللـه بيتاً وملاذاً وهدى للخليقة.
وتطول المسالك وتتشعّب، ترتفع في التاريخ منائر، أو تنطرح على أرصفة الأزمنة أوكاراً للصوص. بين الفجر الذي أحرق العتمة وأول مدماك من عمارة الحضارة محطّات ليست من شغل القدر، بقدر ما هي من صناعة البشر. بعضها يدخل في مدار الرؤيا، وبعضها في نطاق التكهّن. أسهمت إلى حدّ بعيد في مواسـم الأمل والرجاء والحلم الإنساني، كما كانت سبباً في تقويض الناموس الذي منه وفيه ينشأ هيكل الألوهة. إنه من شأن اللـه أن يغفر للمسيئين إليه، وأن يسامح الأشرار، ويطلق سراح برابسة العصر. ولكنّه ليس من شأني أن أشارك في الصلاة مع العابثين بروح الغفران واستغلال هذه الروحيّة لزرع بذور النفور والشقاق، واستثمارها في ميادين الصغائر لباساً مزيّفاً للمؤمنين.
في هذه المرحلة الدقيقة من التاريخ، مرحلة يراهن فيها الكثيرون على الهوس والتزمت والضلال وهستيريا الغرائز، حتى حدود الزندقة، ويدخل معها الوعي في دوّامة الصراع مع الفراغ، حتّى ليبدو أن الطوفان لـم يعد بعيداً، وأن تدمير بابل الجديدة بات وشيكاً، في هذه المرحلة يطلّ علينا رجل دين ـ ولا كل الرجال ـ هو سيادة المطران عبده خليفة رئيس أساقفة أستراليا ونيوزيلندا للموارنة، من خلال ما قدّم مجموعة "أللـه ونقطة زيت" للشاعر شربل بعيني، وكأنه تجدّد الإيمان مع موعد القيامة المجيدة.
هذه ليست فقط توطئة ولا مقدّمة ولا دراسة لأربع وعشرين قصيدة. إنها سلوك رائد في الإيمان، ونهج في العبادة، ودستور حياة للذين يطلبون الحياة الراقية، يعبّر فيه سيادته عن انفتاح شامل على دقائق هذا الوجود، حتى إذا ما وعينا هذه الدقائق وعياً كليّاً واضحاً وصادقاً استطعنا اجتياز الأحداث، وتجاوزنا قطوع التجربة وما تجلبه من ويلات ومحن. هذا السلوك في الذاكرة سيلمع وينوّر، كما اللآلىء والآيات. وسيبقى له صدى، كما المزامير والتراتيل.
لنسمع:
"أن ينحرف الإنسان عن هدف اختطه لنفسه فهذه حريته"، احترام الحريّة الشخصيّة في الإنسان احتراماً ينذر: "لكن هذا الانحراف هو دينونته"، تقاليد الدين وشعائره هي في الممارسة العمليّة الصحيحة الأمينة في دلالاتها على رسالة الدين: "تقاليد الدين وشعائره هي بما تدل عليه التوجّه إلى عل، ولكن الدجّالين يضعون هذه الشعائر مقام اللـه خدعة للبسطاء في جمع المال الحرام”.
"هذا المسيح الذي هو الكل لا يستحقّ أن يتنكّر له الناس"، نداء صارخ في البريّة. المسيح الذي هو الكل، هو في الكلّ ومن الكلّ وللكلّ، لا يجوز ادعاء الاستئثار به واحتكاره والمتاجرة باسمه.
في الصحبة والإيمان والتسامح والغفران والتعالي على الجراح نتعرّف إلى المسيح. في الضغينة والحقد والكفر والتعصّب والاستغلال نتنكّر له وننكره ولو صاح الديك ثلاثين مرّة ثلاث مرّات.
"نميّز بين ما هو خرافة وما هو تعبير عن حقائق روحيّة". الغيبيّة لا قاعدة لها، إذن هي خرافة. والدين ليس بالاجتهادات الخرافيّة مهما زيَّنَّا لهذه الاجتهادات وروّجنا لها، لأن حياة الإنسان ليست في الغيب.
والحقائق الروحيّة في الدين، هي النور الهادي، درب الخلاص في التوجّه الأسمى المجرّد عن الأنانيّة والتسلّط والأثرة، والذي يستأصل الفضائل والقيم العليا.
"إذا كنت مؤمناً أعيش ديني وأتأمّل في كتبي، وأعمل جادّاً للوصول إلى كمال يشرحه ديني ويطلبه منّي، إذ ذاك أحترم دين الآخرين، وأتوصّل إلى محبّة الديانات الأخرى وأحترم وأقدّس مبادئها". هذا هو الطريق السليم القويم الأفضل فهم الخصائص الدينيّة وترجمتها على الأرض ـ نعيم الإنسان ـ ، وكل تأمل آخر في الدين هو عمليّة تشويه وتزييف لهذه الخصائص، تعطّل طاقة الإنسان، وتدمّر كيانه. وهذا الطريق وحده يقطع كل الطرق التي تؤدي إلى التنابذ والتناحر والاقتتال على السماء، والدعوة إلى اقتسام مملكة اللـه في عقليّة وثنيّة جامدة، لا تفقه معنى الدين، ولا تأتي على ذكر اللـه إلاّ باطلاً.
فاقرعي، اقرعي يا أجراس أورشليم، يا أجراس العودة إلى اللـه، إلى وجدان الإنسان وقلبه.
**
عواصف
صدى لبنان ـ العدد 611 ـ 30 آب 1988
لقد هاجم نعيم خوري صديقه شربل بعيني مرّة واحدة طوال رحلته الأدبيّة، ولكنه عاد واعتذر منه بعد عدّة أيّام في عواصف لاحقة، بعد أن اتضح له أن شربل بعيني لـم يكن يقصده فيما كتب عن كامل المر، لأن المقال نُشر قبل سنوات في مجلّة الوفاق.
ستوب.. ستوب.. ستوب.. ثلاثاً.
لقد كتبت مراراً عن شربل بعيني وإليه، وكنت في كلّ مرّة صريحاً وواضحاً ومخلصاً وأميناً على مضمون الكلمة وحرّيتها. فأنا في تربيتي وطبيعتي لا أتلوّن، ولا أحابي، ولا أرائي. وقلت فيه إنه يعطي من محبّته ومن عفويّته، لا يرجو منّة ولا يطلب شكوراً. هكذا عرفته، وهكذا فهمته منذ أن تعارفنا في ظلال هذا المغترب. ليس هنا مجال المحاسبة الذاتيّة فيما إذا كنت قد أخطأت التقدير أو أصبت. أهم من الخطأ والصواب أنني، كعادتي، انطلقت من وجداني فسجّلت موقفي.
أنا ما تغيّرت ولا تبدّلت، وما زلت أنا نفسي، أختار أصدقائي وألتزم بأخلاقيّة الصداقة وعمقها حتّى يغيّروا هم ما في نفوسهم، أو ما في بنيتها. ما غدرت. ما طعنت بالظهر، ولا دخلت الخساسة نفسي، والتفاهة أقوالي أو تصرّفاتي. ما اغتبت أحداً، ولا ألصقت به تهمة، أو أطلقت عليه وشاية. ما تجنّيت ولا تسبّبت بتعاسة. من النور تطلع كلماتي، وفي النور أزرع مشاعري. من اللهب الإنساني تنبع معاملتي، وفي القيم والمثل العليا مصبّها. وفائي يضجّ في الشرايين، ووعيي يمارس سطوته على أعصابي، لتخرج الذاكرة من مرحلة الانفعال إلى المحبّة، التي ترفض أن تتحصّن في شرنقة الاختناق، فتسعى أبداً ودائماً إلى نضارة الوعد وبهجة الصباح.
ولذلك قرأت مرّتين، وتساءلت ثلاثاً: هل يعقل أن يكون شربل بعيني قد كتب ذلك؟ لماذا تتخطّى "خصوصيّاته" الحدود، وتتجاوز العرف، وتنتقم من الحريّة بإلصاق أبشع التهم وأحطّها بشرفها وكرامتها؟ لماذا أطلق سهام توجّعاته على الجميع ـ الأصدقاء والخصوم والأعداء ـ فلـم ينجُ منها أحد، باستثناء صديقنا المشترك كامل المر؟ وهذا ما لا أحسد كامل المر عليه، أن يكون شاذّاً على الشذوذ!! وطالما أن الأمر على غموض تام، والعلّة وحدها في نفس يعقوب المجهول الهويّة والغاية والقصد!!.
لنقرأ معاً ما يقول شربل: "عكس هذه الدنيا التافهة الوسخة التي لـم يعد بمقدورك أن تصاحب إنساناً آخر فيها، مخافة أن يطعنك بظهرك متى سنحت له الفرصة، ولا أن تغرم بمخلوق من مخلوقاتها نظراً لخساسة نفسه وشيمة الغدر التي يتّصف بها. كامل المرّ، الرجل الطيّب الذي ينعتونه بالمرارة ظلماً وعدواناً ـ من ينعته؟ـ بينما هو يكاد يذوب لشدّة حلاوته..".
لا أدري، ولا أريد أن أدري، ما الّذي أغاظ شربل فأغضبه؟! هذا من شأنه وحده، من خزانته، ومن شيئيّاته التي تختصّ به دون سواه.
ولكن هل أذكّر شربل الّذي يدعو إلى المحبّة، ويبشّر بالأمل، بقول إيليّا أبي ماضي:
أيّها المشتكي وما بك داء
كيف تشكو إذا غدوت عليلا
إن شرّ النفوس نفس بؤوس
تتمنى قبل الرحيل الرحيلا
.. والذي نفسه بغير جمالٍ
لا يرى في الوجود شيئاً جميلا
أو هل أقول له: إن الدنيا ترد إلى يسراك ما أعطتها يمناك؟ وإن أصدقائك، من اختيارك أنت ـ أقرب إليك من صلة الدم؟
أو هل أدرك شربل أن أصدقاءه هم قرّاؤه، وقرّاء "صدى لبنان" التي فتحت له قلبها، فراح يطعنهم ويطعنها معاً؟
وهل تطرّق إلى ذهن شربل أن من يعامل السَّيِّىء بسوئه، والشرير بشرّه هو أشدّ منهما سوءاً وشرّاً. وأن الأديب ليس مرآة زمانه، بل هو الذي يخلق الزمن الجديد، وأن الشاعر لا يصوّر عصره، بل يصنعه فيدخل التاريخ؟
مرّة ثانية، لا أدري إذا كان شربل قد أساء في اختيار الأصدقاء؟ أم أنه قد أساء في اختيار مواضيعه وكلماته فخبط خبط عشواء، امتهنته الكلمة، أم أذلّها واغتالها.
إني لا أزال على محبّتي لشربل، ولذلك أخشى عليه أن يقع ضحيّة نفسه، أو فريسة سويداء الظنون.
ما تراءى لي أن يكون شربل صورة عن الإنسان الغابر، بل توسّمت فيه الرمز المضيء للإنسان الآتي.
النكرات وحدها لا يتعاطى الناس بشأنها، لا ذمّاً ولا مدحاً.
**
عواصف
صدى لبنان ـ العدد 612 ـ 6 أيلول 1988
في هذه العواصف يعتذر نعيم من شربل بعيني بإباء ملفت، وبأسلوب نادر لا يماشيه أسلوب. إنه، عكس بعض المستأدبين، يعرف أن قيمة الأديب تكمن في مصداقيّته الشامخة، التي بها يعلو، وبمعونتها يمتشق سيف الكتابة.
احمل السلّم بالطول أو بالعرض، ما همّ، المطلوب أن تبقى سلّمك تتحرّك. واحمل صليبك وامشِ، أو توقّف على الرصيف، فإن صليبك لن يسقط عن كتفيك ما لـم تسقط كل خطاياك.
اكتب على ورق الورد، أو على ورق التين، أو على بساط الريح، كل الأوراق تتهاوى وتهرّ، إلاّ أوراق التاريخ، فهي، إلى الأبد، باقية.
قل الشعر الفصيح أو الدارج، المحكي أو المكتوب، المستحدث أو التقليدي، النازل من أزياء الواجهة، أو النازف من لهيب الجراح. إن كنت بائع فلافل أو ترمس أو بصل، أو كانت تلفّك اليزرة وأنت تعمل في الشورما بتراً وتقطيعاً. المهم أن يكون الشعر شعراً يضجّ فيه نبض الحياة، لا شعراً ينتظره الموت عند كلّ بوّابات الأرض.
قد يكون من يبيع البسطرما على قدر كبير من العفّة ولنظافة والألق الفكري، أمّا سعدان المواقف فليس له موقف. إقرأ الصفحة من اليمين إلى اليسار، أو من اليسار إلى اليمين، من فوق إلى تحت، أو من تحت إلى فوق، ليس من الضرورة أن يكون لك نهج محدّد، أبعد من النهج المعيّن تعيين الغاية من المكتوب، وفهم المضمون ووعيه على حقيقته، لا مسخه على الطريقة التي تتصوّرها أنت، أو صبغه باللون الذي تتوهّم.
تنطنط فوق كلّ كلمة تقرأ. أمحُ سطراً. أشطب صفحة. كل معلّبات الزمن لا تساوي نقطة على السطر، وكل ثرثرات المجالس لا توازي حرفاً يخرج كالسكين من القلب، وكل ذبذبات الأعصاب لا تستطيع أن تقطع أوتار قصيدة. أنت هو أنت. الشعر حياة الشاعر. الباقي التفاتات هامشيّة على الطريق.
القليل من الحريّة أفضل من الحرمان. الكثير من الدهشة يرطب الهواء بالعفونة والتراب بعار الانكسار، ولعل في ذلك كل انبهار بهلويّاتنا.
إن الذين، منذ أسبوع، توقّفوا عند هذه الزاوية، وخرجوا بانطباع مغبّش عن صداقتي لشربل بعيني، قد أساءوا إلى نفوسهم، وإلى قراءة التاريخ.
والذين اعتقدوا أن هناك فتوراً، أو خلافاً، أو مناخاً متوتراً بيني وبين شربل، قد أخطأوا مرّتين: الأولى، أن صداقتنا ليست بهذا الزهد، وليست جاذبيّة مصالح، فتشتد أو تتمطّى، أو تتراخى وفقاً لتيّارات الغرض وأهوائه الرخيصة. والثانية، أننا لا نلتصق بخلاف ـ إذا وجد ـ فنصبغ فكرنا وأدبنا. وشربل الذي كتب "ستوبه" قبل أن يكون فيما بيننا تعارف، ونشره في مجلّة "الوفاق"، على أثر صدمة نفسيّة انتابته من الذين يجيدون فن الاستدراج والانتهاز والاستثمار، عاد إلى عتيقه، يجدّد شبابه، نتيجة لصدمة مماثلة، فرأيت كصديق وفيّ له كنت ولا أزال وسأبقى، أن أكون كل أصدقائه مجتمعين، فأنتشله من امتعاضه النفسي، إلى حيث يجب أن يكون ويستمرّ الوجدان المضيء للإنسان الآتي.
وإذا كان الردّ شديداً وقاسياً وحادّاً، فذلك لأن إخلاصي لا يعرف الإلتواء، أو السلبيّة، أو المداهنة.
وطعن تعني ضرب ووخز وقدح وعاب، ولا تعني مطلقاً الغدر أو الخيانة، فأين ما يثير الاستياء ويفرض التجريح؟ وهل لي أن أتّهم شربل بما ليس فيه، بل ما هو بعيد عنه وغريب؟
تجاوز كل النتوءات يا شربل، وتخطَّ كل المقالب والمطبّات، فليس بعض الذين تفتح لهم قلبك، لهم قلوب فتنفتح.
قد نقرأ وعيوننا مغمّضة، أما نفوسنا فلا تعرف الانطفاء، وأما الفكر فسيكتب كل يوم مجداً جديداً لزمن لا يعرفه إلا الرجال.. زمن لـم يولد ببال.
**
يوبيل شربل بعيني الفضّي
العالـم العربي ـ العدد 82 ـ 24 كانون الأول 1993
الكلمة:
بعض الناس يتحوّل ربيعهم العاشر إلى خريف، فيتوقّف نموّهم في ظلّ مزموم الأبعاد والطاقات.
وبعض الناس يبدأ ربيعهم ولا ينتهي أبداً، يشيب الزمن على أكتافهم، ولا تنحني رؤوسهم والقامات.
الصديق الشاعر شربل بعيني، الذي نحتفل الآن بيوبيله الفضّي، هو واحد من هذا البعض، امتشق الكلمة، واعتنق الشعر. فإذا الكلمة سيف، وإذا الشعر بركان، والموهبة شلال، يتميّز بالخصوبة، وصفاء الوجدان الأدبي.
بطريقة الصدفة تعرّفت إليه، والصدفة كاللحظة، تفلت وتمضي ليأتي غيرها. اللحظة تغيب، ولا يكتبها الزوال، لأن الغائب الحقيقي هو جسد اللحظة، وأما روحها فتبقى، وتنزرع في الذاكرة، والذي يتولّد منها يصنع طريقه إلى الحياة.
تدخل عالمه الشعري، فتراه يصوّر بلا مناقشة، ويناقش بلا مشاغبة، ويشاغب على غير مشاكسة، ويشاكس بلا فوضى أو غوغائيّة، وكعشب البحيرات يتماوج بلا رعونة. تطول بك الإقامة أو تختصر النزهة، إلاّ أنّك تنسلخ ولا تغادر، في كفّيك قوس قزح، وفي مخيلتك سحبة ضوء مترامية الآفاق.
دائـم الحضور، كلاماً وحركة وفعلاً. الكلمة رسالته وسلاحه، يغطّ قلمه في الدم أو في النار، ويبرمه في مكامن الوجع، ليغسل صدأ الأيّام عن أشجار الجراح، وهريان الموت عن جفون الريح.
في بهاء اللغة يتجاوز شربل بعيني الوهم العدمي، ولا ينبهر فتأخذه الدهشة، بل يتخطّاها إلى لحظات حليفة للشمس تتوالد وتتكاثر، ويعرف أن الشعر عمارة لا يبنيها إلاّ الشعراء الحقيقيّون، ولا يزيد من عمارها من لا سلّم عنده ولو حمل حجراً، وكذلك من بلغ أعلى السّلم ولا حجارة جديدة لديه. فالثقافة هي الحجارة، والموهبة هي السلّم، وكلتاهما ضروريّة في عمليّة البناء.
ليكن شربل بعيني حلم مجدليّا.. أو عقل مجدليّا.. ما همّ!! الصحيح أنه شاعر يجيد ألأشياء، ويتقن ترجمة موهبته، ولا يرسب إلاّ في البهلوانيّة والزحلقة وانحناءة الكرامة.
سلّمه من ضلوع مجدليّا الطالعة صوب الشمس تحت جناحي أرزة، وثقافته مادة قراءات واهتمامات وتجارب قائمة بانخراطه في ورشة الحضور الإنساني.
القصيدة:
لمحٌ على الريح، أم شالٌ من الشّهُبِ
يشتاقُ فوحُ دمي سيفاً من اللَّهبِ
يمضي به زمنُ الأحلامِ، يزرعُهُ
شيئاً من الصّوتِ، أو وهماً على السّحُبِ
حسبي من الشّعرِ أني حين يصلبُني
على الزمانِ، يطوف الحبُّ في هُدُبِي
فترقُصُ الأرضُ من حولي، كأنّ بها
رهجاً من الرّعدِ، أو وهجاً من الطَّرَبِ
فيستحيلُ صليبي في الهوى قمراً،
وجرحي المزرقُّ منديلاً من العُشُبِ
وفي اغتسالِ الصّدى شفتانِ، أيّهما
تغامزُ المنتهى، يا شعرُ فاستجبِ
مرّت على الشّمسِ أجيالٌ مزرزرةٌ
وخاطرُ الشّمس شلاّلٌ من الذّهبِ
تمشي العواصفُ بركاناً إذا نزفتْ
فيها الجراحُ، وتحكي النّارُ في الكُتُبِ
الرّائدون هنا، والمبدعون هنا
وما تبقّى عناوينٌ بلا أدبِ
عصافيرها في دجى البلورِ زاحلةٌ
هاضت جناحاتها بالرّيش والزّغبِ
تموج في شجر الضوضاء صورتُها
كصورةِ المسخِ، لـم يرحلْ ولـم يَؤبِ
دَرْزُ الحروف كأوهامِ الأُولى دخلوا
مستنقَعَ الموتِ في شعرٍ من الخشَبِ
الرّيحُ تُقلِقُهُ والشمسُ تُحرِقُهُ
كتافِهٍ، في لهاثِ الغيمِ منسرِبِ
ثوبُ الحرير على ألأفعى، تدنّسُهُ
وبالحريرِ اهترار الذّئبِ لـم يَثِبِ
مرّوا على الأرضِ أشباحاً مزيّفةً
في صفحةِ الضّوءِ، لـم تكبر، ولـم تذُبِ
يستفظعون صدى الماضي ويبهرهم
من الوجوهِ، فقاقيعٌ من الشّغَبِ
كأنهم من لهيب الفكرِ ما اكتنزوا
إلاّ الدّخان، وقالوا: خارِقٌ ونبي
وصدّرونا إلى المجهولِ واخترعوا
للانتشارِ شجيراتٍ من الكَذِبِ
ويصرخ الوعد، كم وشوشتني، وأنا
يا ليلُ صومعتي نهر من الخطبِ
يا أنت.. يا وطني.. ساعي البريد هنا
سئمَتْ أصابعُهُ من رنّةِ التّعَبِ
مرحى طلائعكِ.. استفتي طلائعنا
يا شعلةَ الشّرقِ.. هذا شربلٌ عربي
صبّاً أتى الكونَ، غنّاهُ وأسكرَهُ
وشمخةُ الشّعرِ زلزالٌ من الغضبِ
ليغسل الكون عن كفّيه ثرثرةً
من الدّوارِ، وأفواجاً من الصّخَبِ
جنّيةُ الشّعرِ ربّته على يدِها
وليسَ كالشّعرِ مدعاةً إلى العجبِ
غادٍ إلى قلمٍ، من قلبه، أبداً،
يستلُّهُ وجعاً في حومةِ النّوَبِ
يغطّه في نزيف الضّوء منتشياً
والرّعدُ مرتجفٌ، والليلُ في هرَبِ
كلّ السيوفِ نَبَتْ.. إلاّ قصائِدُهُ
فليمتطِ الحقدَ فرسانٌ من القصَبِ
ومجدليّا التي ما زال يحفظها
صوتاً يضيء على أوتار مغتربِ
غداً يعودُ قناديلاً مشرّعةً
ميناؤهُ الحلم، يا لبنان فالتهِبِ
هذا البعيني، حداثته، وطلّتها
من مطرحِ الشّمسِ، ما انهارت ولـم تغبِ
يوبيلُه الفضيّ بالعينين نكتبهُ
حتى يشعَّ غداً يوبيلُهُ الذّهبي
يا ساكن القمر الفضيّ، مدَّ يداً
للأرضِ، وازرع صدى الأحرار، وانكتِبِ
وعداً، يطوف على الدنيال، فإن سألتْ
تجسّد الوعدُ عملاقاً على الهضبِ
نهراً من النارِ، نخب الشعر يشربه
دم الفداء.. فيحيّا ميّت العربِ
**
رسالة
عزيزي شربل:
تحيّة أدبيّة..
اطّلعت فيما سبق على أحد كتبك المدرسيّة، وأبديت لك إعجابي في ذلك الوقت. واليوم، أتيحت لي الفرصة للإطلاع على كتابك الأخير (دروب القراءة)، فوجدت فيه قفزة نوعيّة موفّقة، وتطوّراً إيجابياً في التصميم تبويباً وأسلوباً ومادة، ومجهوداً علمياً اشتركت فيه الموسيقى اللفظيّة، ورهافة الحسّ، وشفافيّة العاطفة، لتسهم جميعها في إنعاش اللغة وجعلها أكثر دفئاً وتشويقاً للراغبين في استيعابها.
ورأيت أن هذا الانتعاش يتمثّل الغزو العاطفي في شكل يحرّض على حبّ القراءة والاستزادة منها، على نمط يسهّل تدريجيّاً الرسوخ في القاعدة الصحيحة صوتاً وقراءة وكتابة.
ولا بدّ أيضاً من الإشارة إلى الأسلوب بالذوق الذي يستحدث طريقة (تلميع) الكلمات، لتدخل القلب والعقل والفكر دفعة واحدة، فتنمو اللهفة، ويزيد الإقبال على حب المعرفة.
فقرب الألفاظ من لغة التداول، وتطعيم بعض الجمل بالكلمات العاميّة السهلة على السمع والفهم والحفظ، قد أسبغا على الكتاب نكهة لذيذة تفتقر إليها الغالبيّة من الكتب المعدّة خصيصاً لتدريس اللغة العربيّة.
وبصورة إجماليّة أجد أن كتاب (دروب القراءة) على سلاسة لغته وبساطتها، غنيّ بتنوّع مفرداته وصوره والقواعد، متين السبك، أنيق الطباعة، سليم العافيّة، مشوّق وغزير المواد. لك تهنئتي وتمنيّاتي القلبية.
**
شكراً لك يا كلارك
صدى لبنان ـ العدد 643 ـ 25 نيسان 1989
ليكن للتاريخ هذا الحلم الأبيض، وليكن للحياة ذلك الحسّ الإنساني النقي.
أنا هنا واحد من جنود القلـم، وخادم في رسالة الكلمة، أسجّل لك ذاك الحلم، وأشهد بنقاوة هذا الحسّ:
شهادة تدين الظروف التي اقتلعتنا من أرض الوطن، لترشّنا في منافي الأرض.
وشهادة تتحدّى الذين ساعدوا هذه الظروف على الإستقواء، لتشتد أخطارها وتتفاقم، فتجرّ الويل والدمار على شعبنا.
وسجلاً يعلن ويؤكّد أن لا قوّة في الأرض، مهما طغت واستبدّت لا تستطيع أن تجرّد الشعر من الطاقة الإنسانيّة، أو تقتلع الشاعر من وجدانه القومي.
في مصهر الألـم يعتمد الشاعر، ويطلع الشعر لهباً إنسانيّاً، من مسؤوليّته أن لا يصوّر العالـم، أو يكون مرآة الزمن، بل أن يخلق عالماً جديداً أفضل، ويبني زماناً أرقى لا يولد إلاّ ببال العباقرة.
والذين يرون في الشعر صورة الحال، لا يرون في الشاعر إلاّ عدسة تدور على أرصفة الزمن، تلتقط الرسوم والأشكال والألوان، وتزوزق بها واجهة الأيّام.
هكذا شعر لا يصلح إلاّ لسلال النفايات. وهكذا شعراء يسقطون في حساب الحياة.
فالشعر، وإن موهبة في كثير من وجوهه، هو معاناة أشبه بمعاناة النبوّة، مهمّتها الخلق والإبداع. وهو فنّ في تخمير الطاقة الإنسانيّة لتتفجّر وتنطلق أملاً ورجاء وفعل حياة.
والشاعر ليس إزميلاً، أو مظهّراً، أو آلة تسجيل. إنه غليان هذه الطاقة الإنسانيّة، وبعثها إلى الوجود، ناراً تأكل الهذيان، ونوراً يسحق عتمة الليل.
ومجد الكلمة أن تدخل ذاكرة التاريخ، غير أن هذه الذاكرة قد تصبح عرضة للصدأ والانحلال إذا ما بقيت مجرّد مرور على خيوط الريح.
وكأنّي بك، يا كلارك، قد أدركت هذه الحقيقة، فعمدت، بتجرّد وإخلاص، إلى لملمة ونقل هذا المرور من خيوط الريح إلى خزانة الفكر، فكانت سلسلة "شربل بعيني بأقلامهم"، وقد صدرت منها مؤخّراً الحلقة الرابعة.
لا أتوخّى في هذه العجالة تشريح وتحليل ما كتب في شربل وعنه، فإذا كانت المحبّة تغمر الجراح بالظلال، فإن هذه المحبّة عينها مسؤولة، ضميريّاً، عن تكوين فكرة صادقة، ورسم صورة حقيقيّة عن طبيعتها وحجمها وقيمتها. وهذه، في شربل، لـم تكن يوماً ملكاً له، خاصّاً به، مجرداً عن كونه شاعراً يتلذذ بفوح جراحه النازفة ليضمّد جراح الوطن، ويعالج نزيف الإنسان، بل كانت، ولا تزال فيه وله، لأنه بأسلوبه وطبيعته، بعفويّته ونسيجه، شاعر تخطّى الحواجز والقوالب الجامدة، وتجاوز الطقوس والتقاليد، وتحرّر من فزلكات البيان، ليغزل من أحاسيسه، وملامح نفسه، وغليان طاقته، لباساً خاصّاً، لا يعترف بمدرسة إلا مدرسة الشعر.. لأنه الشعر.
أن تحب شربل أو تكرهه، هذا لا يهم، المحبّة لا تشترط، والكره لا يدّخر إلا الباطل.
أهم من كل ذلك أن شربل بعيني موجود، وله دوره وآفاقه، وله رسالته. ولقد فرض وجوده في خطّ النار، في غليان الطاقة الإنسانية الغنيّة بالعطاءات التي طلع منها الشعر والشاعر شربل بعيني.
أنت واحد تقوم مقام مؤسسة، عملك رسولي، شكراً لك يا كلارك.
**
أرى وجهاً آخر.. وجهاً آخر للحياة
إلى كلارك بعيني
البيرق ـ 29 تشرين الثاني 1990
كأنّما أنت، والكلمة، من ميرون واحد في معموديّة واحدة. أنت تقترب من الربيع، تنصهر فيه، وهي تذوب في الضوء، تتوزّع على الكون، منارات ومشاعل.
أنت من حريق القلب، تتفجّر لهباً إنسانيّاً يعيد إلى التراب طبيعته الخالدة، وهي من ولوع النفس إشعاع يغمر وجه اللـه.
بعضنا يا كلارك، يرسم الكلمة بالحبر، وبعضنا يكتبها بعرق الجبين، وهناك من يلوّنها بالدم، وآخر يزركها في المعاناة.
أما أنت فتقطفها من النار، تترهّب لمسؤوليتها كما النسّاك في عصمة الهيكل، وتتحد في رسالتها كُلاًّ واحداً لا ينفصل عنها، كما رسوليّة بالمجد السماوي، وتستحمّ في شلاّلات ضيائها، كما العمالقة في روحانيّة الصباح، ثـم تجهد في تنسيقها وبلورتها وإنضاجها لتبقى حيّة متوهّجة، على غير انفعال، كما المؤسسة في فرد.
عَنْوِنْ هذه الصفحة. روح النشوة تتجسّد في أغاني الرياح للشجر، تنتزع من نفسها بداية الكون، وتخلص إلى فرح الأشياء التي يتجدّد وجودها فوق الوجع والجوع والعذاب، إلى الوجد الإلهي في البديهة الخلاّقة المبدعة.
لا تتوسّل الغطاء الفضّي، فالورود كالنجوم ترفض أن تستر عريها اللاذع، وضدّ كل الأمواج وكل الضباب، تربح الزمان والمكان في ذاكرة التاريخ حيث يكبر الجميع، ما عدا الذين تخلّوا عن روح الحقيقة في صناعة التاريخ.
انفض صدأ الأيّام عن أشجار الأدغال لتتوهّج فيها حروق الأجيال، ويتعالى الموت حتّى تمام الحياة. البرق الذي يتصاعد من جراح العمر يبقى أفضل من الغيمة التي تغتال وجه الأرض. والضوضاء التي تتحرّك في الأعماق خير من سكوت المومياء والقبور.
الصاعقة تزنّر القمم وتلتفّ على نفسها، فلا تخنق من النوافذ إلاّ ذهول العميان، ولا تطفىء من القباب إلاّ ظلال الشرود وتلاشي الضياع. وكلّما ارتمت مسافة الانغلاق، اتسعت مساحة التفتّح، تتحدّى مساكن الوحشة والظلام المخبّأة تحت عتبة الضلال.
غريبة كل المظاهر المكلّسة بتوابيت العار، تنقرها العصافير فلا يطلع منها إلاّ سعال العاصفة، وبكاء الهاوية المفرط في الهذيان. أوَ ليس الجنوح المهووس إلى الطليعة تذكاراً أبدياً إلى افتراس العقل واستنساخ الفكر في بال النسيان؟
ليست روح النخوة التي فيك هي التي تضيء لك الدروب، بل روح المسؤوليّة التي تشيلك وتحطّك في خطّ النار. الرغبة رافعة تاريخيّة، والاهتمام ناموس طبيعي يرمز إلى ماهية الخلق في الإنسان.
هناك يا كلارك، فئة تكتب وتقرأ بالحركات، وأخرى بالصور أو بالأصوات أو بالألوان. وهنالك فئة تتكثّف كتاباتها وقراءاتها بالتجاوبات الإرجاعية فيما بين الفكر والكلمة، بين الرؤيا الواضحة والوهم المتآكل، بين الإنسان ـ القيمة النوعيّة، والكمّ الهارب إلى الفراغ، إلى نعيم الإفراط بالذات.
هذه الفئات ليست كلّها كميّات مهملة، ليست مجرّد قطعة من الحياة تهرب من الحياة، بل هي مولد أوّلي لمنطق الوجدان يتنامى، شكلاً وإيقاعاً وأسلوباً، لما تنطوي عليه الرؤيا الأكثر توتّراً للعطاء. الكميّة المهملة العاطلة هي نقطة الصفر، لأنها مساحة الجمود الأشدّ خطراً على المخزونات النفسيّة وتطوّرها وارتقائها.
في سلسلة "شربل بعيني بأقلامهم"، وقد وصلني منها حديثاً الجزآن السادس والسابع، أرى وجهاً آخر، وجهاً أحلى للحياة، وجهاً متوغّلاً في غابات القلـم الأخضر، يرتعش مع الندى، يتخاطفه إلى سكرات الزهر وأحضان الشمس، يتجذّر فيها أبعد من ضباب العالـم، وأبهى سطوعاً على كل مشارف الزمان.
هذه السلسلة وإن تكن، على المدى الضيّق، من خصوصيّات شربل، فهي على المدى الواسع في آخر الصمت وآخر البوح، لكلّ حبّة قلم تنخفق في أقصى حدود الحياة بشوق العبور من غياهب الليل إلى وضوح النهار. إنها قضيّة الأدب وقضيّة المختصّين والمهتمّين بقضايا الأدب.
عندنا يا صديقي من يحاول أن يخطف، ومن يحاول أن يقتل، ليعيش بعد الخطف مخطوفاً، وبعد القتل قتيلاً.
أما الشاعر شربل بعيني فلا ينافس، لأنه بلغ مستوى فرض المنافسة على الآخرين. ولا يتشاوف لأنه ليس فارغاً. خزانته تضجّ بالثروة، ويداه أبداً مفتوحة، لتعطي لا لتأخذ. إنه كالسنابل الملأى التي تنحني بتواضع، بينما السنابل الفارغات رؤوسهنّ شوامخ.
يلغي ذاته أولاً من يحاول إلغاء الغير، "كالنار تأكل بعضها إن لـم تجد ما تأكله”.
كل نكرات الأرض لا يمكنها أن تتجاوز المعرفة، وكلّ آلات الزمن الساقط لا تستطيع أن تشكّل حيزاً واحداً في مساحة الحياة الممتدة على مدى الألق الفكري.
ومن الآن إلى نهاية النهايات سيبقى الشعر صوت الحبّ، وسيبقى الأدب ضمير الكون، وليس كثيراً على شربل بعيني أن يبقى صلة الوصل بين الحبّ والكون.
سلمت يداك يا كلارك، ولك منّي أطيب التمنيّات.
**
شربل بعيني:
يطلّ علينا، وكأنه عائد بعد غياب طويل.
البيرق ـ العدد 212 ـ 5 حزيران 1990
يا كلمِةْ الْـ ما يَوْم قرْيِتْها الْعُيُونْ
لفّي عينيْهُنْ بِالعجَبْ
كتابة الشعر أداة معرفة، وسلاح قتال. فإذا كان لا يجوز وضع النور تحت المكيال، فإنه أيضاً لا يجوز اختزان المعرفة في الضباب. وإذا كانت الكلمة هي السلاح، فإن القتال لا يمكن أن يكون في الصمت.
وقد تنقّلت المعرفة، أحياناً، من عالـم الحواس لتدخل مرحلة تأمليّة في وجدان الإنسان، تشاطره معاناته وتطلعاته، وتكثّف فيه الضوء، تعطيه رؤية جديدة، وتفتح له آفاقاً أوسع، ليستردّ وعيه ووضوحه، ويستعيد معناه، فتخرج الكلمة، في تعدّد اتجاهاتها، وكأنها حتميّة تاريخيّة في الخلق والممارسة، تضمن استمرار الحقوق والحريّات.
هكذا تصير الحريّة مداخلة حقوقيّة، ويصير الحقّ سلاح الحريّة الأمضى والأشدّ، وتكون الكلمة شعلة الحتميّة التاريخيّة التي تكون فيها الأرض والإنسان والتقاليد أبداً حاضرة، وأبداً متجدّدة.
إذن، الكلمة هي نحن، شكلاً ومضموناً. الشكل هو المظهر الحضاري للكون، والمضمون هو المحور الأهم للإنسان.
وشربل بعيني، الذي لا يعرف أن يسكت في مناسباته، إلاّ إذا كان السكوت أفضل من الكلام الصامت، في ديوانه الأخير "أحباب"، يطلّ علينا، وكأنّه يعود بعد غياب طويل، يفجّر مخزونه النفسي بصدق ووضوح، حتّى ليبدو، وكأنه والكلمة، قد خرجا من معموديّة واحدة:
عَيْب نِبْقَى هَيْك بِالْعَتْمِه
والنُّور عَمْ بِيئِنّ بِالْقِنْدِيلْ
أعداءنا الإنسان وِالكلْمِه
وأصحابنا التزوير والتّدجيل
.. عيبْ نطفي تْشِرْقُط النّجْمِه
وْعَيْب نترُك هَـ الْوَطَنْ طابِه
بْمَلْعب سْيَاسَات قَال وْقِيلْ
"أحباب" تقرأه من العنوان، من الاسم، يغني المحبّة الجامعة التي تستحقّ الكلمة، فتتوفر لها حلوة أنيقة، وتتألّق بلا مواربة ولا تصنّع أو تعهّر:
بْحِبّك.. بْحِبّك لَيْش تَا خَبِّي
لَوْلاكْ قَصّتْ جانْحِي الْغُرْبِه
.. باعوا الوطَن بالدَّيْنْ
شو ذنبنا نِحْنَا؟..
.. وصار الشّعب شعبَيْنْ
صَار الْحكم حِكْمَيْنْ
وْصَفّى غْراب الْبَيْنْ
يْشَقْلِب مَطَارِحْنَا
وإذا كان الشعر العامي ينمو ويتكاثر في وسط تفتقر فيه الفصحى إلى التطوّر اللغوي، وإلى وفرة في الثقافة، وإلمام شامل في القواعد والمبادىء العامة، يخاطب الشاعر الناس بلغتهم اليوميّة، فيحلو لهم شعره، ويفهمونه، فإن شعر شربل بعيني، على عاميّته، مزيج من اليوميّة، ومن التطوّر اللغوي الزاخر بالصور والألوان والمعاني، الملتزم معطيات الثقافة وخصائصها:
دِنْيِة مَصَالِحْ ما مْنَعْرِف مِينْهَا
عَم تِلْعَب بْإِنْسَانْهَا شْيَاطِينْهَا
بْتِبْرُمْ.. بْتَبْرُمْ.. تَا تْلاقِي صَاحْبَكْ
تارِي الصّحْبِه الْيَوم نَكْرِت دِينْهَا
.. خَيّك رْفِيقَك، ما ضْرُورِي يِقْرَبَكْ
.. الإخْوِه صَدَاقَه مْشَبْشَبِه بِسْنِينْهَا
لوحاته يسكنها الزمن، ويفوح منها عبق المناسبة إلى أزمنة لـم تولد ببال. تحمل البعد التاريخي، بجمالاته وإبداعاته، وتستنبط فيه رموزاً مشعّة لأجيال في طريق التكوين:
زِرْتُو أَنا بِمشْوَارْ
وْحِوّشْت حُرِّيِه
يَا مْجَدِّد الأَشْعَارْ
بِحْرُوف مِضْوِيِّه
كِل ما يْطِلّ نْهَارْ
بْتِكْبَرْ بِـ عِينَيِّي
بعض الشعر العامي يشبه رقصة الأفعى، أو سكرة الموت. في شعر "أحباب" أصالة نفسيّة تتوسّل الإنسان بعقليته الأخلاقيّة الجديدة، وبوعي أفضل للحياة والكون:
تْعَلَّمْ وَجَعْنا الْحَرْف بِصْفُوفُو
تا صارْ يِحْكِي وْيِشْتِكي لْحَالُو
وْلِمِّن عِرِفْ مِتّحَسّنِه ظْرُوفُو
قَلّو بُو طُونِي: يا وَجَع رَنْدِحْ
صَار الْوَجَعْ يِتْمايَل قْبَالُو
...
صَفَّى الْعَالَـم كلُّو مَنْفَى
وْصَفَّى الْخَوْف..
وْصَفَّى وْصَفَّى
لُعْبِه بْإِيدَيْن الشَّيْطَانْ
بهذه النفسيّة يتحوّل الموت إلى فعل حياة، وتصير الحياة عطاء دائـم العافية. الضروري فيها قليل من النسيان، والأساسي ترويض الخلايا على الاستمتاع باستمرارية التذكّر:
لِعْبُوا فِينَا..
تْصَاوِيرْ افْتَكْرُونَا وْصَارُوا
يِمْحُوا الْعِينَيْنْ الْـ عَمْ تِقْشَعْ
يِلْغُوا شْفَافْ الْـ بَدَّا تِحْكِي
يْقِصُّوا الإيدَيْن الْمَرْفُوعَه
بْوِجّ الطّغْيَانْ الْـ عَمْ يِكْبَرْ
.. لكنْ نِسْيُوا إِنّو نِحْنا
من هَـ الدَّمّ الْـ عَم يِتْفَجَّرْ
مْنِقْدرْ نِخْلَقْ جِيل جْدِيدْ
وكم راق لي ألاّ يكون في "أحباب" مكافأة على موقف، أو تزامن في ردّ جميل، ولا هو قصائد فارغة من المضمون والفحوى، بل فيه (خطيئة) شاذّة محيية، في زمن يطفح بالخطايا المميتة، إذ التصق بالإنسان في قيمه ووجوده، شاطره العرق والدم والخبز، كما شاطره الكلمة، مرادفاً للنضال من أجل البقاء:
خايِف مِنْ إِيدَيْهُنْ تِطْوَلْ
.. من ناس بْتِخْلَق بِاللَّيْل
عْيُونُن مَفْتُوحَه وْمَسْطُولِه
وْعَ شْفَافُن صَرْخات الْوَيْل
...
صَابِيعَا تْفَرْفِطْ نَظْرَاتُنْ
.. شُو بدّنا فِيها لا تْرِدُّوا
فسْتانَا مْرَقَّع بِالْوَحْلْ
وْعَمْ يِعْرَقْ جِسْمَا مْطَالِيبْ
...
مْعلّم إِنِتْ.. شو صايْبَكْ زعلانْ؟
وِهموم كلّ الناّاس عَ كْتافَكْ
يللّي زْرَعِت بِقْلُوبْنا الإيمانْ
لازم يزهِّر ورد عَ شْفافَكْ
يا حاضِن الإنجيلْ وِالقرآنْ
بالحُبّ بدّنا نْزَوْزِق غلافَكْ
مِنْشان حَتَّى يِهْتِدي إِنْسَانْ
مِتْعَصّبْ.. بْقَلْبُو الْحِقدْ بُرْكَانْ
تا يْشُوفْ حالُو.. كلّ ما شافَكْ
إن أتعس الشعراء من لا يستطيع مشاطرة الآخرين.
وفي شعر "أحباب" تحدٍّ لزمن يسير القرفصاء، ويدّعي أنه في مواجهة تيّار المألوف والاعتيادي، ومعه تفاجئك، بين الحين والآخر، في بنية القصيدة، هزهزة خفيّة، لا تنمّ عن خلل، بل تكتنفها شفافيّة شعريّة، أشبه ببطاقة فضيّة مفتوحة على نوافذ الشمس، تدعوك إلى ربيع دائـم الروعة والجمال، ليس فيه مسحة كآبة أو مجافاة أو سلبيّ:
الْفَنّ.. تِخْلُطْ حُبّ بِشْوَيِّةْ عَذَابْ
وِتْرِشّ فَوْقُنْ كِلّ ضِحْكَاتْ الْهَوا
وِتْقِصّ مِنْ دُون خَوْف مَشْنِقِةْ الْعَذَابْ
وْتِعْزُمْ شَمِسْ عَ الأَرْض تا يْعِيشُوا سَوَا
أفما قيل: الكلام صفة المتكلّم؟
وإذا كان "أحباب"، في بعض خواصه، يفتقر إلى القلق والتوتّر والغموض الشعري المتأجّج، الذي يستدعي الكثير من التأمّل والتعمّق للكشف عن خصوصيّته ومزاياه، فإن الذي يشفع بهذا النقص هو هذه المرونة الطبيعيّة البريئة التي تعطيه نكهة مميّزة، والتي تجعل من المناسبة امتداداً أبعد من القول، وأوسع من مساحة الذكرى:
وَقْت اللِّي صَرْخِتْ "أُوف" مُوَّالَكْ
صَارِت بِبَعْضَا تْكَبِّش الأَعْلامْ
يَا مَوْطني.. تَا يْحَيّكُوا شَالَكْ
يا شربل، لتكن لبعض الشعر فساتين تتطاير مع رياح الزواريب، وليبقَ شعرك معمّداً باللهب الإنساني، فيشتعل ويحرق عتمات الدروب.
**
شكراً.. ولك محبّتي
البيرق ـ العدد 283 ـ 18 كانون الأول 1990
.. ويصير قلبي، في جحيم الصمت،
ينبض بالنّضارَه
وكأنّ، في حلقي،
يعيش الفكر أسئلة النظارَه
وكأنّ أوردتي
من اللهب المرفرف في شرارَه
وكأنّ لحمي صار مأدبةً..
وصار اللـه جارَه
فلمحت وجهَكَ، في صباح الوعد،
تنزف من أصابعه الحجارَه.
أنت تفتح نفسك نافذة على الشمس، وباباً على كلّ نفس. من هذه النافذة تشرف على الأرض، ومن الباب تملأ الدنيا، تشقّ لذاتك دروباً مضيئة على الكون، تعتمد، عبرها الوصول إلى الذات الإنسانيّة الكليّة الوجود، التي تكرّس المحبّة مذهباً فوق كل مذهب، وعقيدة تطغى على عقائد العالـم كلّها.
أدركت أنني، بحكم ظروف عملي، في حبس شبه دائـم، فكانت طلّتك صباح كلّ سبت جولة تتناول اهتمامات وهموم الفكر، ومحاولة للخروج بقضيّة الأدب من النفق الضيّق المظلم إلى بشارة الفجر، ليبلغ وجدان الإنسان ووعيه ورغبته في العطاء والإبداع.
ترسم في الخاطر صوراً تعبيريّة لوحشة الغربة ومأساتها، يغلب فيها الشعور بالانتصار على وجع الذاكرة، وتتكسّر معها أيدي الضجر والهذيان، وتختنق رياح الدهشة والانبهار. وأبداً على شفتيك وفي قلبك موضوع كفاح أسطوري وقصيدة يترجمها النضال بالتفاؤل والابتكار.
كم مرّة، من الطريق، صرخت: يا ختيار.. وفي قرارة نفسك تدرك أن الشمس تختير، وهذا الختيار يتجدّد شبابه كلّ يوم.
ثـمّ لا أذكر، منذ وقت طويل، أنني سمعتك تتأفّف، أو تتذمّر، أو تتشاءم، بل غالباً ما رأيتك تقابل الجحود والتجريح وتحامل الهوى والغرض، بنكران الذات حيناً، وبالانفتاح والتسامح والتسامي أحياناً، رغبة منك في تحاشي الخلاف، وفي شدّ أواصر الإلفة والتفاهم والاحترام في قيامة أدب حيّ واعد، فيكون العمل، جماعياً، أجدى وأرقى وأطيب ثـماراً.
كنت فقط تخاف على الذين ينتابهم شيء من الإحباط، أو يصيبهم اليأس، وتشفق على من يلازمهم شعور بالضعف أو بالصعلكة، فتفتح جناحيك، تطيّب خاطرهم، وتحوّل القلق إلى طمأنينة، والضعة إلى عملقة.
مفاجآتك، يا شربل، كانت أبداً ودائماً ملء القلب والعين، تبعث على الانشراح، وتستشرف في النفس طابعاً من الصدق والأمانة والوفاء، يتفوّق على كلّ ما يطبع الإنسان أو يحيط به من ضبابيّة وظلال. تندمج كليّاً بما تؤمن، وبما تأمل، وبما تطمح إليه، فيلازمك اهتمام بآلية التنفيذ لتصير ترجمة الحلم على أنقى وأكمل وجه. وكأني بك، وأنت تصطدم بالمشكلات والعقبات والتحديّات، تكرّس غليان النفس لما هو أفضل وأكمل وأبقى في خدمة المجتمع.
أما أن تأخذ قصيدة (بحيرة الضوء)، "لتصوّرها وتحتفظ بنسخة منها بخطّ يدي"، وتعود بها إليّ بعد أسبوع، منشورة على نفقتك الخاصّة في كتيّب أنيق الطباعة، بديع الإخراج، فهذا منتهى المفاجآت.
كنت أفهمك خبيراً في التصوّر والتصوير، سريعاً في التخيّل، بديهي الخيال، قابلاً للإيحاء، غزيراً بإمكاناته، ووافراً في الإنتاج. فإذا بي أجدك تفكّر ناراً، وتكتب ناراً، وتخرج ناراً في مجال خدمة الأدب، ليبقى وهجه مستمراً في أجيالنا الحاضرة، وفي الأجيال التي لـم تولد بعد، تقدح لها من عقلك، ومن شرايينك، لهباً دائـم الحياة. شكراً.. ولك محبّتي.
**
كي يتحرّر الضوء
النهار ـ العدد 724 ـ 24 تشرين الأول 1991
تحبّ كما لا يحبّ العاديّون، وتكره كما ليس للكره وجود.
متواصلٌ في العلاقة الفكرية، لأن الفكر نتاج العقل، والعقل قياديّ في كلّ الحالات.
شاذّ على التقاليد، والشّاذّ على التقاليد قاعدة للثورة عليها. ومن الشذوذ ما يمتحن الصبر، حتّى إذا أعيته الحيلة انتفض الصبر، لئلاّ يصير الشذوذ فعل ارتداد لتخريب العقل.
في درب القمر أنت، وكل شيء حولك يضحك مع مطالع الضوء. خميرة التراب ذات نكهة سحريّة تلفّ الكون، وبينك وبين المدى تتأبّط الريح خطوات الآتي من الأرض إلى السماء، على أجنحة الشعر، تقطر لهباً إنسانيّاً في زمن ينبش خطوط النار. التراب هنا هو الأصل، هو الحركة والسكون، الولادة والموت. هو كل مدلولات الحياة، المطمئنّة والقلقة، الآمنة والموجوعة، المحترقة والمنبعثة من رمادها فينيقاً جديداً يتحدّى الموت.
الذي يفتعل الضجّة يدهشه الصدى، فيعلن عصياناً مدنيّاً، وتقوم الضجّة المضادة، فيتحوّل العصيان إلى انتفاضة تقتلع السوس والعفن وتهزّ العصر. أوَ ليس الحريق دائماً من عود كبريت؟.
وإذا لـم يكن مسموحاً أن تشعر، أو تحكي، أو تثور، أوَ ليس مسموحاً أن تبكي، أو تتأمّل، أو تتمنّى؟ أم أنّ المسموح فيه، في زمن النظام المتسلّط، أن تحني رأسك وتتبع بلا إحساس وبلا كرامة، أو أن تنفجر أنت وكرامتك، فتخلع صاحبك، وأنا أخلع مَنْ خلعت وأثبّت صاحبي؟
بعض التساؤل سخافة، وبعض السخافة حيرة تسعى إلى الحقيقة، فتتجذّر في التاريخ نبوءة، إن أحيت تقتل، وإن قتلت تحيي. شرّ ما في صيرورتها أن تتلبّس الطهارة الماديّة، وتمارس التعهّر الروحي.
هنا في درب القمر، ينعس القمر أحياناً، فينام غطّة على حافّة الطريق، يتوسّد شيئاً من ذاته، وتخاف عليه غيمة عابرة فتعطيه، بشكل الإعارة، بعض دفئها وبعض بِلالها. وإذا كان الخوف قيداً، فكيف الخوف من الخوف تراه يكون؟
النسوة الحاملات الطيب، أو الشرّ الذي لا بدّ منه، كالعين العاشقة تشلح على كلّ مفرق سلّة ورد، وتقطف من كل نسمة شمّة عطر.
والرجال ـ ولو تعذّروا ـ يسلقون الانتصار بيض عيد في قفّة الشرق، الذي تحوّل كلّه إلى قصور من قشّ خلف عاصفة الصحراء.
والأطفال ـ على براءتهم ـ يتسابقون إلى قالب الحلوى، الذي كثيراً ما يكون قنبلة عنقوديّة في قرص الشمس، للوصول إليها، يتسلّقون شعراً صاغته الجنّ مشكاك زهر، تسحر رائحته، وتؤذي أشواكه.
ما هـم أن تدور الأرض حول الشمس، أو أن تتكمّش الشمس بحدود اللـه. تنتهي دورة وتبدأ دورة أخرى. تبدأ كلّ الأشياء وتنتهي جميعها، وتتحوّل المناجاة إلى مزامير، فلا يعود باقياً إلاّ اللـه والشمس.. والإمام عليّ، حضوراً شعرياً مميّزاً يغسل وجع العقل، ويترجم في الأحداق حلماً دائـم الحياة.
ويتقدّم الحلم على الحقيقة في تعابير وترانيم ترتّب المُثُل والقِيَم الإنسانيّة في منزلة الألوهة، وتبدو معها، ببساطة، الشفافيّة الشعريّة مؤطّرة بإطار العصبيّة التي ترى في الإنسان أسمى الموجودات على الإطلاق.
وتطول رحلة الحلم في لغة عاتية أنيقة، تتقن فنّ الكلمة وفنّ الصورة، فتنجلي الحقيقة في رفاهة شعريّة، ارتفعت من الحدّ الأدنى للصناعة والتكلّف إلى الحدّ الأقصى من العفويّة والإبداع، تتكيّف مع السليقة بما تعايشه وتعانيه صحوة العقل الطالع من العاصفة، عفويّة فيها دلالة واضحة لإرضاء الوجدان الأدبي، لا لصبّ الزيت على النار وإذكاء شهوة التنين المتربّص بشواطىء الأيام.
أما لماذا كانت مناجاة علي، وهل تقرأ فيها حسّاً طاغياً لمحمد عبدو ومحسن الأمين والأمدي والعقّاد وعمر فرّوخ وجورج جرداق، أم أنها مجرّد رجاء لا يزال نائماً في بال الزمان؟
في رأيي إن شرايين الضوء المنسدّة منذ الفخّ الذي أطبق على آدم وحوّاء، ومنذ سفينة نوح وأسطورة أرارات، ومنذ الفتح حتى اليوم، تبقى هذه المناجاة للشاعر شربل بعيني دعوة للتصالح مع النفس ومع اللـه، لتتفجّر الشرايين ويتحرّر الضوء.
**
معزوفة حب شربل بعيني
صدى لبنان ـ العدد 672 ـ 14 تشرين الثاني 1989
“إلى صديقي نعيم، أهدي (معزوفة حبّي) التي ضجر من سماعها صباح كلّ يوم سبت”.
هكذا أطلّ عليّ الصديق شربل بعيني هذا الأسبوع بمولوده الجديد، وهو كناية عن مجموعة شعريّة أنيقة الطباعة والإخراج. وعلى الرغم من أنه طالعني بتهمة التعب، باطلاً، فقد خلوت إلى نفسي، وعكفت على قراءتها، يقيناً منّي أن قراءة الشعر واستشراف أبعاده، قد تختلف، نسبياً، عن سماعه واستيعاب أصدائه.
وإذا في يدي لهيب مخملي تقطفه العين من ملامح عالـم ممزّق الإطار، طلعت منه أعمدة تعانق السماء، تعمّدت هي والشعر بميرون الحبّ، فكانت الخلاصة شربل في معزوفته.
في هذه المعزوفة تخلع حقيقة شربل كلّ الأقنعة، وكلّ الوجوه المستعارة، ليبدو وجهه الأصيل ببساطة كليّة، وعفويّة صادقة، تعبّر عن خلفيّة أخلاقيّة متميزة بالصفاء، ترفض الهرب من الإضاعة الدائمة للذات، وتواجه التوتر الحاد للزمن الذي يرتهن الإنسان، فتحول الذات إلى بركان، وتحرّر الرهينة من الأغلال.
وهكذا بدا لي شربل:
وجهاً يطوف خارج الأرصفة ضد الريح، على أجنحة للشعر لا تزال قادرة على التحليق.
وقلباً يشرق خارج الزمان، في خفقاته التماع الأـم الزاخر بالإيمان، يدحرج الليل عن الأرض، ويتجاوز الموت ليكون له حضور الأسطورة.
وفكراً يغني خارج التجربة، بأحلى ما تكون أغاني القلق والضوء والحريق الساكن في النفس سؤالاً أبديّاً، في محاولة لخلق عالـم إنساني جديد.
ولوناً يتحرّك خارج المكان، يرشق الكون بالأمل واليقين والمحبّة، ليصبح فيه شيئاً مستمراً دائم الحياة والانسجام والخلق.
وأنيناً يتصاعد من الأرض ومن الروح، يتطلّع إلى التحوّل، وفي ارتفاف الرؤيا، يعانق الدنيا فيختصر الأبعاد.
إذا أزال القافية نبض في الكلمة شعاع جديد حي، وإذا أطفأ التفعيلة توهّج في الشعر نغم يعكس الإحساس في خفقة موسيقيّة لا تنفصل عن الفكرة، ولا تعرف الابتذال. فإذا الصوت انسجام لوحدة وفنيّة القصيدة، وإذا الصدى إيقاع يغني المشكلة الفكريّة بالتجارب الشعريّة:
الشعر عندي.. وْيِسْمحوا النقّادْ
أهداف تتفاعلْ بلا تفعيلْ
...
وشفاف تكتب ع الهوا مواعيد
وأحباب تحت جوانحو تلتمّ
وما اصطلحوا على تسميته موسيقى داخلية تبعث على الإنسجام مع الإيقاع الخارجي، أسمّيه أنا في (معزوفة حب) وهجاً في أرض القصيدة، يسابقك في الصورة إلى ملامسة الكلمة، ويشدّك في المعنى إلى عمق التجربة:
كنتي اللّقا لمّا الشّراع يميلْ
صرتي السّفر وبحورِك الغربِه
وصارت شْفافِك تنزف مْواويلْ
وتتجمّع مواويلها بقلبي
كثيراً ما سمعت شربل يقلق ويغتاظ من تصرّفات الحبيبة، فينقم عليها، إلاّ أن نقمته لا تدوم، ويدعوها هو نفسه إلى السير في هواياتها:
قومي ارقصي وتدلّعي عليهُنْ
برقصاتِك الحلوينْ
لْيالي الفرح ربيِت عَ إيديهُنْ
وإيديهُنْ بْساتين
وغبرة رقص علقِت بِإجريهُنْ
ومعتّقَه من سنينْ
ثـم لا يلبث أن يحار من تلاعبها، ومن هجرها، فيصرخ:
كيف فيكي عايشِه بدوني
وضحكتِك لبعيد مسموعَه
نسيتي السّهر ع مرفأ عْيوني
مطرَح ما كان صْباحنا يُوعَى
إلاّ أنه يأبى أن يفتضح أمره:
والمطعم الـ ما راح من بالي
ع كتر ما رندح أسامينا
ما عدت زورو.. خفت يحلالي
قلّو الحقيقَه وبغّضُو فينا
وفاء شربل، طيبة قلبه، صفاؤه وإخلاصه في حبّه، اللهب الإنساني الذي تتموّن منه نفسيته، يتفجّر:
يا عمري.. عمري من دونِكْ
ضايع فوق دْروب دْروبْ
مصلوبْ.. وصرخات عْيونِك
ما بْتَعرف إنّي مصلُوبْ
..
وْشو همّني
بِقْشُر جلد جسمي
وبغزلو شرشف ع لون العتم
وبشلحو عليكي
..
تْركيني بشعرِك إتدرّى
إتحبّى من ريح ظنوني
إتكي عَ كتفِكْ
إتقلّد
هاك النجمات الغنّوجِه
المتكيّه عَ كْتاف جْبالي
بعد هذه الرحلة الطويلة، رغم القلق والاضطراب، رغم الأشواك والجراح، رغم العتمات التي تراكضت في طريقه، يختصر شربل بعيني شخصيّته في قمّة إنسانيّة آمن بها:
نحنا بْداية هـ الدني
ونحنا النّهايِه
وكأنه يقول: ما قيمة الدنيا بدون الإنسان، وما قيمة الإنسان بدون الحبّ. وإذا لـم يكن بدّ في كل عمل متكامل، من سقطة فكرية، فقد استوقفتني طويلاً هذه السقطة في قصيدة: (بدّي بوسِك):
في هذه القصيدة يزوّر الشاعر نفسه، يتنكّر لقيمه الإنسانيّة ومسلكيّته، إنها قصيدة مراهقة، لا تعرف الحبّ، وتستعبدها حيوانيّة فحولة الشهوة، فلا تجد لها مخرجاً إلاّ في الغرائزيّة التي تلتذّ بترك بصماتها على مظاهر الكون. أنا أعتبرها نتيجة صدمة عاطفيّة، بل أرى فيها (موضة من الموض) التي تتحلى بها صرعات العصر.
وهذه التقليعة التي تنتف ريش الطهارة، وتمزّق بمخالبها ضياء العصافير، كنت أتمنى لشربل أن يتبرّأ منها ويئدها قبل أن تولد، ليبقى صوته صوت السيف الذي:
يبقى بهالدني مسموع
ولا تبقى حبيبته:
يا الـ إنتي حكاية أوطاني
وسفر الأوجاع الـ خلّتني
إكره حالي.
فتطلّ علينا، كلما اشتقنا إلى الضوء والدفء والجمال، (معزوفة حب) لا يغني فيها شربل وحده، بل يغنّي معه قلب الإنسان، وقلب العالـم، وقلب اللـه.
**
شربل بعيني في "إلهي جديد عليكم"
يخرج على المألوف ويتمرّد على الرتابة
صدى لبنان ـ العدد 533 ـ 17 شباط 1987
شربل بعيني شاعر، والحديث عن الشاعر هو قول في الشعر، والشعر هو الحياة في المعاناة والتحدّي والخلق والإبداع. إنه لا يسعى إلى ترميم الجسور لمواصلة السير وربط المركبّات، بعضها بالبغض الآخر، فيكمل مهمة المخلوق، إنما يزيد في ضرب وتهديم الجسور المتصدّعة، ليبني جسوراً جديدة تتقاطر عليها الأزمنة بعد أن يغنيها بالألق، ويزوّدها باللهب الإنساني، فيقوم برسالة الخالق.
وإذا كان صحيحاً أن الشعر موهبة تزداد نضوجاً وعطاء وتوهّجاً في التجربة والممارسة الأمنيّة، فالأصحّ أن الألـم والمرارة هما أغنى خصائص هذه الموهبة وأكثرها انغرازاً في الأعماق وتوجهاً إلى الأبعاد التي لـم يصل إليها بال.
لتكن القصيدة ما تكون، فأوجاع المخاض التي تسبق ظهورها لا يوازيها إلاّ الفرح الداخلي الذي يتولّد بعدها، فيحسّ الشاعر أن حروفه قطرات ندى ترشها يد خفيّة على لهيب جراحه، ويشعر بلذّة غريبة تتخمّر هنيهات مرهفة، وتمتشق من ضلوعه سيفاً من نار يسلّمه إلى فارس مجهول. هذا الفارس المجهول هو التاريخ، والتاريخ وحده ينصف الشاعر بقدر ما يشترك ويساهم في صناعته.
في "إلهي جديد عليكم"، شربل شاعر من هذا الطراز، لا يتعكّز على المرايا والقناديل، ولا يغتسل بالدمع والعرق، أو يشرب ماويّة الليل ليدخل صباح الشعر فيفرح بعالمه. إنه يفهم الشعر نوراً يسحق عتمة، ويعرف أن رسالة الشعراء لا تتعمّد إلاّ باللهيب.
وإذا كنت لا أقتطع فأذكر شيئاً خاصاً من "إلهي جديد عليم"، فذلك لأن كل شيء فيه يستحقّ الذكر فيطول الحديث، ولأني أترك للقارىء حريّة أن يكتشف مكنونات النفس في شعر شربل بعيني. إن النشوة التي تساور الإنسان في اكتشاف الكنز تفوق النشوة التي تراوده في كيفيّة تصريفه.
أما إذا أردنا أن ندخل في عمليّة معادلة في شعر شربل بعيني، فإنه يتأتّى علينا أن نتجاوز أمرين: وحدة القصيدة والوزن، لأن هم شربل أن يصل إلى المعنى، وأن يصل معه القارىء إلى الغاية، ولذلك تتشقّع عنده الكلمات تلقائياً، وتتطاير أجنحتها بصورة عفويّة، فتضرب الريح لتغالب العاصفة. وإذا سعى إلى تهذيبها وضبطها فإنها تحتك وتتوتّر وتتمزّق فتنزل بجوها في كل صوب، ثـم أليس هو القائل:
قالوا: انتبه في بحور في أوزان
منشان يبقى الشعر بقصورو
قلتلّهن: شعري أنا إيمان
وسع المحيط البالع بحورو
هل نذكّر شربل أن المحيط لا يبتلع البحار بل يبصقها إلى الأطراف المترامية لتغازل الرمل والحصى.. والفراغ. ولذلك لا نجد بحراً في وسط المحيط أو في عمقه، وإنما في الجوانب التي تتدلّل على السماء والأرض.
فيما عدا ذلك، فإن لغته سهلة ممتعة ونقيّة واضحة، ألغازها رموز ثورة نفسيّة، تغلغل في المشاعر، وتداعب العقل، فتخلق بينهما مناخاً من الإلفة والفرح، وتحقّق في الوجدان نشوة الحلم المتمرّد.
هذا الشعر وهذه اللغة، هما خروج على المألوف، وتمرّد على الرتابة، وثورة على الجمود. هما زخّ جديد تتعجّق فيه الأضواء والرياح وألسنة اللهيب، فيأتي الحرف معجوناً بالانصهار، وتصير القصيدة شلاّل حياة تسبّح باسم الرب إلهاً جديداً.
فإذا قرأنا شربل بعيني توجّب علينا أن نقرأ اليرى واللايرى، وأن نتحسس همسات جفوننا، ورفّات خواطرنا، وخلجات قلوبنا، قبل أن تمتدّ إليها يد هذا الإنسان، وتسرق منّا شيئاً، فتردّنا إلى القبل والبعد في محاولة يائسة لاستعادة المسروق.
**
رسالة
سيدني في 28 تشرين الأول 1986
عزيزي شربل..
يا رفيق الكلمة، تحيّة عاطرة..
بعد ظهر أمس تلقّيت الكتاب الّذي أرسلته لي مع إحدى تلميذاتك. أشكر لك هذا التقدير وهذا الاهتمام. وإذا كانت شهادة الصديق في محلّها، فإن شهادة الوفيّ أكثر وفاء ممّا تختزنه المشاعر، أو تصوّره الكلمات. وإذا كنت من الشاكرين لأن في هذه الجالية مَن يكتب، فإنّي أكثر شكوراً لأن في هذه الجالية نفسها مَن يقرأ ويفهم، فيفرح أو يتشكّى.
الكلمة عندي يا شربل نافذتي على الحياة، وهي اللهب الطالع من الوجدان حرفاً بركانيّاً يقيم الوجود، ويبطل العدم. وكل قول لا يستصرخ المثاليّة في الإنسان هو كميّة ظرفيّة تتلبّس الفراغ لتزيد الباطل تفشياً في الأرض، وتعطي الغيبيّة الوهميّة مساحة في النفس لا تستحقّها.
هذه الكلمة مسؤولة عن رسالة الفكر، تتوهّج من غير أن تتوتّر، وتنفتح من دون أن تتعهّر أو تستبيح، لا تخبط في عتمة الدهاليز، بل تستشرف قباب العالـم وقناطر التاريخ، لأنها تلتزم بالشأن المصيري للرسالات الخالدة. إذا انتظمت فعلى قاعدة المعرفة، وإذا أشعّت فعلى حسّ في النفس ينبض بالديمومة، ويتألّق في مطارح الشمس.
مصيبتنا يا شربل ليست في الكلمة، مظهراً وبطانيّة، متموّجة كسحر الألوهة، أو هادرة كالإعصار. مصيبتنا في أولئك الذين يسيئون إلى الكلمة، جهلاً أم عمداً، تصوّراً أم ممارسة، في أولئك الذين إذا أمسكوا بها صار سيف النّار عموداً من ملح، وصارت لوحة الحياة الرائعة فسيفساء كاذبة في إطار من كرتون. إنهم ليسوا عالة فقط، أو متطفلين على النهضة الأدبيّة، إنهم خنجر في خاصرة، وفقاقيع صابون في عافيتها وفي مناخها. نحن لا نستوطي لنا حيطاً، ولا ننكر، على إمكانيّة في كوادرها الطبيعيّة، محاولاتها الخيّرة، نحن نسعى إلى التنشيط والتركيز والمصالحة مع الذات، لئلاّ ننقل الكفر إلى أجيال طالعة لا تستأهل فعل الكفر والكفرة.
يقولون لنا "جماعة الشعر". ما أضلّ هذا القول يا شربل. الشعر لا يقتصر على جماعة، ولا يخصّ فئة معيّنة من الناس. الشعر ملك العالـم، ملك الامتلاء الكوني الذي لا يعرف الانكفاء، ولا يكتفي بحدود يرسمها له الحكم العرفي، أو يتوقّف عند حدود جامدة تقولب المواهب بدل أن تتميّزها وتطلقها طليعيّة في الرحاب، تزرع الحق والخير والجمال، وتموّن بالعافية رموز البقاء والخلود. فلماذا نخصّص للشعر والشعراء زاوية من الأرض نحصر فيها، فلا يطاول الأبعاد المترامية، أو نقزّم الشعراء على قياسها، لتيبس فيهم الماويّة فيجاوروا القبر؟.
هذا النوع من "جماعة الشعر"، أو شعر الجماعة يفتّش لنفسه عن تابوت، فتضيق عنده المجالات، وينطفىء ضوء سنابله على البيادر المزيّفة. فليحلم غيرنا بالمدارس والمناحي والاتجاهات والألوان والأشكال، وليقيموا للفكر مصانع أو صالونات أو منابر. لهذا الغير نقول: إن الشعر ملء النفس، ومن تمتلىء نفسه فله كل الكون، ولا يرضى بفتات الفكر ساقطاً عن موائد الانتحال والطلاسـم. فهل بعد ذلك تريد أن تسأل "إذا كنت مقتنعاً بما جاء في تلك المقالة؟. لك أطيب تمنيّاتي.
**
قرأت لك
مجلّة الوفاق ـ العدد الرابع ـ شباط 1986
التقيت شربل بعيني مرتين، الأولى في دار الثقافة للطباعة والنشر، وكان لقاء سريعاً يصحّ فيه القول: وكان سلامي عليه وداعاً.
وأما في الثانية، فكان لقاء مطوّلاً في "الغربة الطويلة"، فيه كثير من الفرح الداخلي، لأنه انطوى على كثير من التأملات، تصوّرها نفسيّة شاعر مرهف الحسّ، صادق الأداء، وتطلقها إلى المدى البعيد أهازيج فيها مزيج من الحب، والأمل، والحيرة، والتوتر، والغرور، والعاطفة، والفجوجيّة، والنعومة، والقسوة، والميوعة، والسخط، والألـم، والمزاجيّة، تكتمل فيه مدارج النفس لتبلغ شأواً من مرامي الطموح الإنساني.
فإذا كان الشعر خطيئة، فإن شربل بعيني مدروز بالخطايا من قمّة رأسه إلى أخامص قدميه، وحتى آخر نقطة من دمه، وأترك لغيري أن يقول إذا كان هذا شرفاً أو عاراً في الشاعر.
ويبدو لي أن جريمة شربل تكمن في أنه لا يعيد ويكرّر قراءة ما يكتب ما فيه الكفاية، بل يرسل قصيدته على سليقتها وبالسرعة التي آتته فيها، وكأنه يخاف عليها أن تهرب من بين يديه، أو أن تلتصق عفويّتها بهويّة أخرى، فلو فعل لكانت هوية القصيدة عمارة قائمة بذاتها، ولما عاودته الصورة عينها في وهلات تلي. وأما التماهي فهو موضوع آخر يتعلّق بالزاوية التي يخرج منها القارىء المطلع برأي حول الشعر وأبعاده، وما ترمي إليه هذه الأبعاد في إغناء التراث الإنساني، وتلبية مضامين قيم الحياة الراقية.
يقولون "الشعر موهبة"، ويقف النّاس عند هذا التعريف مكتوفي الأيدي، وكأن الانبهار قد أخذ منهم كلّ مأخذ. أنا لا أقر هذا التعريف، وأعتبره منحرفاً وخاطئاً، فيه من التحديد ما يجعل الشعر مقتصراً على عينة واحدة من الناس. أنا أعتبر الشعر من خصائص النفس، كل نفس، لا من مواهبها. إنه حاجة نفسيّة تختصّ بكل ذات حيّة، ولا يأتي دور الموهبة إلاّ في القدرة على صقل هذه الحاجة، وفي التعبير عن هذه الخصائص. والمواجهة الشعرية تأتي وتتمّ في عملية ترجمة هذه الخصائص خيالاً وفناً، إلهاماً وفكراً وصوراً يتعشّقها الحسّ، وتتذوّقها النفس، وفيها يكتنز العطاء ويتميّز ويسلك ميادين شتّى، وفي هذه الميدنة تتنوّع وتتكاثر التسميات: من القديم إلى الحديث، فالمطلق والملتزم، والفصيح والعامي، وهلمّ جرّاً.
ومن هذه النظرة أرى أن شربل بعيني قد عرف خصائص نفسه ، وعرف أيضاً كيف يصقل مواهبه وينمّيها للتعبير عن هذه الخصائص، فجاءت باللغة المحكيّة غنيّة بالصور والمواقف الشعريّة.
وسواء وافقت على بطانيّة الشعر في "الغربة الطويلة" أم أخذت عليها سقطات لا تستحبّ، يكفي شربل بعيني أنه يستوحي الوعي القومي، فيكتب باللهيب وبالدم، فالكتابة بالدموع لا يجيدها إلاّ الأقزام والجبناء، وأما الكتابة باللهيب وبالدم فهي صناعة الأحرار والعمالقة.
**
"قرف" شربل بعيني استحقاق يصلح ولا يؤذي
النهار ـ 22 تموز 1993
"ماذا يقول الحرف في الشفتين إن قال الدم؟."
لغة الدم هي أكثر اللغات بلاغة، وصوت الجرح هو أشدّ الأصوات دويّاً، ويبقى الاستنكاف عن الكلام، حيال ما يهدّد وجودنا ويدمّر حياتنا، تآمراً على الدم الذي ليس ملكاً لنا، بل وديعة الأمة فينا، ودعوة تلحّ على نكء الجرح واستمرار النزف حتى تتعطّل فينا كل مقومات الحياة. فالسكوت عن الجريمة، وإن من فضّة، جريمة، والتصدّي للعلّة بالمداهنة أو بالمراهم والمسكّنات، يزيد من الأوجاع والمصائب والنكبات التي لا ينفع معها الصبر الأسطوري. وإذا كان آخر العلاج الكيّ، فإن أفضل الكي سيف النار.
وأن تقوم ضجّة ما حول عمل أدبي، هو دليل عافية ووعي في جاليتنا، التي كثيراً ما تتهم بالتلطي حيناً، وبالتكاسل وإهمال القضايا الفكريّة أحياناً. وأعتقد أن أمر هذه الضجّة يعود إلى سببين اثنين: الأول أهميّة هذا العمل الأدبي، والثاني، اهتمام ويقظة المتلقي، الذي هو في هذه الحال الجالية.
إما أن تتحوّل الضجّة عن ماهية العمل إلى قشوره تارة، وإلى صاحب العمل طوراً، شكلاً ولوناً ولباساً، لا الزبدة التي فيه، ولا النكهة التي يوفّرها، فهذا في غاية السخافة، وفي منتهى الاستهتار بالمكتنزات الفكريّة.
وأما الشعر، فكل واحد منّا يقرأه ويفهمه على طريقته الخاصّة، انطلاقاً من مستواه الثقافي، ويتذوّقه وفقاً لمناخه النفسي. وإذا كانت عين الحبّ عمياء، فإن عين الحقد جامدة كالمومياء، يبقى أن في الحبّ فضائل لا تعدّ ولا تحصى، وفي الحقد فضيلة واحدة "إذ يبدأ بصاحبه فيقتله أوّلاً". وفي هذا الصدد يقول م. ل. كينغ:
Hate distorts the personality and scars the soul, it is more injurious to hater than the hated
وقصيدة "قرف" للشاعر شربل بعيني نالت نصيباً وافراً من الأخذ والردّ، كما نال صاحبها نصيبه من الاغتياب والتجريح. ولو أن شاعراً غير شربل قد كتب ونشر هذا الـ "قرف"، لما حدثت هذه البلبلة، ولما كان لصاحبه أن يتلقّى كل هذه السهام مرّة تحت ستار المحبّة، ومراراً تحت ستار الغيرة على التربية والأخلاق. فإذا كان المقصود شخص شربل بعيني، فهذه قضيّة تخصّه دون سواه، ولا أظنّه في حاجة إلى من يقف في جانبه ويدافع عنه. وإذا كانت قصيدة "قرف" هي المقصودة، فإني مع القصيدة، وأتبنّاها في كلّ مفرداتها وصورها، وفي كلّ معانيها ومدلولاتها، ذلك لأنها قيلت ونشرت وصارت ملكاً لي ولكل قارىء سواي، ولا أرى مخالفاً للمنطق، ولمفهوم الحريّة، أن يقف غيري موقفاً سلبياً منها، فينفتح باب الحوار على مصراعيه.
"قرف" قصيدة واقعيّة معبّرة، ترفض الانحلال والانحطاط والانجرار والارتهان، تجسّد النقمة على المفاسد والمساوىء والمثالب، وتتجاوب مع شرائح واسعة من المجتمع في تذمّرها من "التدهور" الأخلاقي، وفي انتفاضها على الاستغلال والإستلشاء وثورتها على التعسّف والجور. ثـم إنها ليست خارجة عن المألوف من القول الذي غالباً ما نردّده جميعنا في أحاديثنا ومجالسنا، فكاهة لاذعة ونقداً إصلاحيّاً ينزل كحدّ السكين، على مكامن الوجع والأذية. السرّ في "قرف" أنها انتزعت برفير الشوك عن ساحتنا العامة وغمرت هامتها بإكليل الغار.
المؤسف المضحك أن يستفرد بعضنا في القصيدة ألفاظاً معدودة، ويعتبرها نابية ومعيبة وبذيئة، ولو عدل هذا البعض لتناول المقطع ككل لتنكشف معانيه ومغازيه وأبعاده، فيتدارك لسانه اللوم، ويدرك آنذاك أنها كلها ألفاظ وأمثلة شائعة في لغتنا وفي كل لغات الأرض، ولا يمكن نكرانها. فلماذا إذن نعيب على الشعر، أو على الشاعر، استعمالها، ونحن نلجأ إليها في مجالات الترفيه والتنكيت والامتعاض، وفي سياق التنفيس عن الضغوطات النفسيّة؟.
يبدو لي أننا لـم نقرأ ولـم ندرس، أو أننا نتجاهل ونتناسى، فهل أعيد إلى الذاكرة ما قاله عمر الزعني، وآميل مبارك، وآميل لحّود، أو ما كتبه ابن الرومي وجرير والفرزدق وأبو النوّاس والأخطل الصغير وغيرهم كثيرون؟ فلماذا لـم تقم القيامة على هؤلاء، أو أننا نقيسهم بغير القياس الذي نقيس به شربل بعيني؟ أم ترانا نبرّر أن ما كان يحقّ لهؤلاء وأولئك في الأمس، لا يحقّ لشربل اليوم؟.
وماذا نقول عن أدب الخلاعة والإباحيّة، ولغة اللواط والسحاق وأفلام الجنس، وكل ذلك معروض "على عينك يا تاجر" في المكتبات، وعلى الأرصفة وشرائط الفيديو، من غير أن يرفّ جفن أو يعلو صوت؟.
ترى هل صارت غيرتنا على التربية والأخلاق مزاجيّة، أو تعبيراً عن حقد معيّن في مساحة معيّنة وفي منحى "ما يروق لغيرنا لا يروق لنا"؟.
ثـم ماذا لو استعان شربل بعيني بكلمات فعص وبرّاز وبرّان، وهي فقط مغطّاة بأقلّ من ورقة التين، ولا تؤدّي المعنى المطلوب، أو ترسم بالضوء الصورة التي يكتنفها الظلام؟.
قليل من الحياء، ومن الذوق.. صحيح، ولكن هل في وظيفة الحياء التستير على ليل الفحشاء؟ وهل من طبيعة الذوق التعتيم على عمليّات الفجور والظلم والعبوديّة؟.
ومتى كان الحياء والذوق أن لا نكون أكثر صراحة ووضوحاً وواقعيّة مع الذات ومع الغير، من كل أدوات الفذلكة ومظاهر الأرستقراطيّة الفارغة من كل مضمون؟.
ثـم من منّا تسربل في السرّ وفي العلانية، في الليل وفي النهار، مع نفسه ومع الناس، بهذين الحياء والذوق، ولـم يردد كلاماً "أوطى من الزنّار”؟.
من منا بلا خطيئة فليرجم شربل بعيني بحجر.
وإذا كانت حجّتنا أننا لـم نكتب ولـم ننشر ما قلناه ونقوله على الملأ، فإن شربل قد كان أكثر صراحة وأكثر جرأة وأكثر صدقاً، فقال ونشر ليعبّر عن المأساة التي نعاني منها، وليصوّر لنا الحالة الزريّة التي نتخبّط فيها بفضل "حيائنا وذوقنا”.
القول بأن الحريّة هي حريّة الحلم والوهم هو قول خيالي لا قيمة له، لأن الحريّة هي أن نتجاوز الزمن الذي يقيّدنا، وأن نكسر السكّين الذي يذبحنا، ونلغي الفضيحة التي تلحق بنا اللعنة الأبديّة. والذي يحاول أن يغتصب هذه الحريّة كمن يحاول التستّر على الفضيحة ليجمدنا في الزمن، ويسلّط السكين على أعناقنا.
وفي الدفاع عن هذه الحريّة نحدّد اللياقة في الغاية ليستقيم الأسلوب، وتنتظم الوسيلة. والذي يدخل في لياقة الإنسان ليس قرب الكلمات من الكياسة، بل من الوضوح والوجدانيّة، لتؤدّي مهمّتها، وتجسّد دورها، وإلاّ صار كل حديث عن اللياقة مجرّد تمثيل وتهريج وتعهّر.
والشاعر لا يسعى إلى الكلمات فيستعين بها، بل هي تأتيه جلية مختارة، ولا يفتّش عن الصور ليزيّن واجهته، بل هي تغزو مخيّلته كالبرق، وترتسم بين يديه كالأسطورة، فإن تدمّرت هذه الحقيقة بطل الكبريت أن يكون سبباً للنار.
لنحمل على الشعر، وعلى مهمّته، فنحن لا نأتي كفراً في ذلك، شرط أن تكون حملتنا بعيدة عن التشنّج والغرض والهوى.
ولنكفر بكلّ الأفكار والمفاهيم، شرط أن يكون هذا الكفر رديفاً للإيمان الذي يقول لهذا الجبل انتقل من هنا إلى هنالك فينتقل.
ولنناور، إذا شئنا، بالذخيرة الحيّة، لا بفقاقيع الصابون، أو قنابل الدخان، عملاً بحريّة الرأي، شرط ألاّ نتمسّك بدور الحريّة فيما يختصّ بنا، ونلغي هذا الدور فيما يختصّ بغيرنا.
في هذه المبادىء وجدت "قرف" شربل بعيني استحقاقاً أدبيّاً يصلح ولا يؤذي، ويترجم صوت الدم لوقف النزف وتحرير المشاعر من عقدة النقص.
**
عواصف
صدى لبنان ـ العدد 586 ـ 8 آذار 1988
إطلالة الشاعر من إطلالة شعره. بقدر ما تكون هذه الإطلالة غنيّة، راقية، سامية، بقدر ما تكون أشبه ببصّة النار، تزتّها الشمس على قرص الأرض فتضيء وتلهب، وتفجّر من العدم ماويّة الحياة، وديناميكيّتها الخلاّقة المبدعة.
أمّا طقسيّة أن يكون الشاعر مرآة عصره، فمفهوم مات من زمان، وصارت مهمّة الشاعر أن يغني العصر باللهيب الإنساني، ويفتح له آفاقاً جديدة في صناعة التاريخ، وهكذا يكون قدر الشعر أن يكون هو ذاته الحدث التاريخي، لا أن يكون حديثاً أسطوانيّاً تفرزه المناسبات في حالات خاصّة، على أرصفة الأيّام، يتعكّز عليه العابرون أو تستلذّه شهوة الحشاشين، وتتلقّفه أيادي النشالين.
المعقول في الشعر هو الذي لا ينحصر في دائرة العقل بل يخرج ليطارد ما يشوّه العقل ويعطّله، إلى خارج دورة الحياة، فلا يبقى له أثر قادر أن يعرقل حركة الوجود وتطوّره. واللامعقول في الشعر أن يقولب، أو يترهّب في شرنقة العلم، أو الفلسفة، أو اللاهوت، فيصير لعبة السلفيّة التي تتعاطى مع الحاضر بقوننة بالغة الخطورة، في عمليّة إحالته إلى المستقبل محنّطاً بكل ما فيه من شرور ومفاسد وأباطيل. ولذا فالشعراء الذين يكتبون بدموعهم وبندى جبينهم وطول ألسنتهم ليسوا سوى أقزام يعتمرون أحذية الزمن، وينظرون إلى خيالهم، فتطير بهم المخيّلة إلى الانفعال والرجرجة والتفسّخ. أما الشعراء الذين يستوصون أوجاع الإنسان وآلامه وطموحاته، فيكتبونها باللهيب والدم، فيأتي شعرهم عالماً متجدّد القيم الحضاريّة، مستأنساً بالمستقبل، يبنيه حجراً حجراً، وإنساناً إنساناً، ليبلغ أبعاده النهضويّة فيقيم الوجود ويبطل العدم، إنهم العمالقة.
ولغة الشاعر ليست مجرّد حروف وكلمات وصور، أو بحور وتفاعيل وموازين. إنها مداميك العمارة الشعريّة، مداميك البناء الذي يسكنه الكون كلّه. هي البيادر ومواسم الغلال. هي الأرض والعطاءات التي لا تحدّ. هي البحر بأمواجه وأعاصيره، وهي الريح بهدوئها وجنونها. هي الأمل وهي خيبات الرجاء. هي العقل الذي يحاور العقل فوق المزاجيّة وفوق التسليم بالأمر الواقع. هي الليل والنهار والشمس والضباب والغيم والمطر والتراب وعيون التاريخ الذي يضجّ بالخلود. والويل للشاعر الذي يفرك دماغه بحثاً عن الكلمة، أو ينبش قبور الذاكرة سعياً وراء التعبير، لأن القصيدة ـ كل قصيدة ـ تفرض حالها، وتفرض الصورة التي تريد. وهي وحدها تختار كلماتها وتعابيرها، فتنصب على الورق أضواء لا أبهى ولا أنقى، وتنجلي المعاناة عن مناخ لا أحلى ولا أصفى، ما عدا ذلك يأتي الشعر تكلّفاً يغلب عليه التشويش والفوضى والضحالة، وتنقلب الموهبة إلى كابوس رهيب يسد الأبواب والنوافذ ومطالع الإبداع.
هذه اللغة الفريدة التي تختصّ بالشاعر ترفض عليه توسّل العطف، والسماح، والمغفرة، أو الرحمة. في التوسّل تسوّل وارتزاق وارتداد إلى المهانة. حتّى اللـه يرفض الذين يختارون العبوديّة والزندقة والفجور، ويأبى على الإنسان أن يركع إلاّ في الخشوع الإلهي. أللـه لا يتعظّم في انكسار الطرف، وفي ذلّة النفس. أللـه في الإنسان قلبه وضميره ووجدانه، الحيّ الحرّ أبداً، المتوثّب دائماً إلى الرسوليّة. إذن، هو النقاء والمجد والعزّ وتقبّل الجراح التي منها يشرق الفجر الخلاصي.
هكذا أفهم مجموعة "أللـه ونقطة زيت"، التي صدرت مؤخّراً للشاعر شربل بعيني. إنها مثل "أحد الشعانين"، فيه من دفء الإيمان وبراءة الطفولة ما يعبر عن دحرجة الصخرة وإشعاع القيامة. "أللـه ونقطة زيت" ليست اقتصاصاً من الإستغلال والابتزاز والتدجيل، بقدر ما هي ـ في شموليّتها ـ احتجاج على الصمت، على نظام التعتيم على الشرور والمثالب، وعلى تفاهة المسؤوليّة التي لا تحترم رسالتها. هذا الاحتجاج الصارخ يخضّ مستنقع اللامبالاة والذلّ ويهزّه، ليقوّضه على رؤوس المتلبّسين مظاهر الغيرة والعفّة.
شربل بعيني ـ الشعر والشّاعر ـ أحبّه كثيراً لأنه يخطىء كثيراً، ويخطىء كثيراً لأنه ينتج كثيراً، وينتج كثيراً لأنه يعمل كثيراً.
أوَليس الكثير من الخطايا أفضل بكثير من نعمة الصمت، الذي هو بحدّ ذاته رذيلة؟ وهل يسكت عن الباطل إلاّ عبيد الباطل؟
**
يا عيب الشوم
العالـم العربي ـ العدد 31 ـ 29 حزيران 1993
يا عصافير لبنان في مدرسة سيّدة لبنان.
إذا كان لكل عام شجرة، فشجرة عام 1993 كانت لكم بكلّ ما فيها من بهجة وجمال وروعة وأناقة.
وإذا كان لكلّ موعد ذاكرة تاريخيّة، فإن مساء الثامن عشر من حزيران من هذا العام هو ذاكرة أحلى المواعيد، وأغلاها على الإطلاق.
ففي ليلة واحدة حوّلتم زمن السقوط والانهيار إلى فلكلور فكاهي لاذع، يضحك إلى حد البكاء، ويبكي إلى حدّ الندامة. وعلى حد السكين طرحتم ميوعة الموقف لينزف حتى اللهيب، فتصير الهشاشة رماداً، وأصداء في الريح تمسي اللامبالاة.
وفي "يا عيب الشوم" من تأليف وإخراج الشاعر شربل بعيني وتمثيلكم، كنتم الصوت الهادر الهادي في بريّة الجالية وأدغال الاغتراب، والجرح المضيء الذي يغسل عار الأيام عن شجر الغابات. رائعة كانت أدواركم، ولقد أدّيتموها بأمانة وثقة وشجاعة وإتقان.
حركات اليدين، نبرات الصوت، الخطى، تضرب المسرح فتزلزل المكان. نظرات العينين المتفحّصة حيناً والساخرة أحياناً. ملامح الوجه في إشراقها وفي عبوسها. المظاهر والملابسات المعجونة بالحيرة والهمّ والحلم. لكنة اللهجة واهتزاز الأوتار الصوتيّة. كلّها كانت إشارات واضحة وجريئة في إعلان الموقف والتصدّي للتيّارات المدمّرة، والإرادات المستبدة، حتى لكأنها صارت عناوين بارزة لمأساتنا الاجتماعيّة، كل واحد منّا فيها قاتل: قاتل لأنه مسؤول، وقتيل لأنه ضحيّة.
الجو مشحون بالتناقضات والأنساق والمفاهيم الغريبة أو المغلوطة. والمد الحضاري يخلق مناخات ضاغطة على مناعات، بعضها ضعيف وبعضها مفقود تماماً. الهوة سحيقة ورهيبة بين جيل البناء وجيل الخراب.
الأمراض التي يأكل بعضها بعضاً في العائلة الواحدة، أو العائلات المتعدّدة، قضايا ومشاكل البيت الذي يخلط بين الحريّة والفوضى الأخلاقيّة، بين وجع العقل وتمرّد الفضيلة، وبين الانحلال المناقبي والتزحلق على قشور النزوات والرعونات التي تنتاب عمليّة التطوّر، أو بين المحافظة على التراث الحضاري وركوب حصان الدخان لمواكبة الفجور الغرائزي. هذه وغيرها تجسّدت في تمثيلية "يا عيب الشوم"، حتى إذا ما شعرت أنك تقفز من واحدة إلى أخرى، ومن دور إلى دور، فذلك لأن هذا المسلسل الشيطاني الذي أحدث انقلاباً تدميرياً في حياتنا قد ترك بصماته ولوثاته على وجودنا. هذا المسلسل يفرض هذه القفزات المتوترة مرة، والمتوثبة مراراً، تشدّك إليها وأنت تضحك وتهزأ، وتأسف وتتمزّق، حتى لتكاد تخرج من دائرة التمثيل إلى حركة الممارسة الواقعيّة.
ومن البوكرماشين إلى سباق الخيل وطاولات الميسر، إلى المثالب التي تدمّر حياة الأفراد والجماعات، ومن صبية الأزقّة إلى روّاد العلب الحمراء، إلى الأدوات والقنوات التي تتعاطى المخدرات وتروّج تجارتها، إلى الذين يركبهم الكسل والغشّ والطيش والاحتيال، فيصيرون عالة على الضمان الاجتماعي وعلى المجتمع. ومن عمليّات اللطش والتزوير والانتحال إلى تهميش الدور الإنساني المسؤول، وتكوين البؤر الفاسدة الساعية إلى الاستغلال والرطانة والفحش. هذه النقائص التي عرضتها التمثيليّة والتي نعاني منها، لا تشوّه سمعتنا فقط، بل تعطّل وتلغي دورنا الحضاري أيضاً.
ومن ازدواجية الشخصية إلى سياسة التعهّر والتباهي الفارغ، إلى الصحافة، فالأدب، فالشعر، فمجموعة الأنا.. نيّات الحقيرة التي تتعفّن فيها حداثتنا الاغترابيّة، وتتوشّح بالحقد الوثني، وبالنقمة والحسد والوهم الباطل، تحت ستار كثيف من الإدعاء الرخيص المتأقلم مع موجات انعدام الذات الإنسانيّة لزرع ذات غريبة الأطوار والمناخات في جسم اصطناعي ملتحم بالنزعات الفرديّة والعصبيّات الملتويّة والمزيّفة. إنه وجه من وجوه الغرابات المتسللة إلى ثقافتنا العريقة، نغسله بالخلّ ونغذّيه بالزؤان، ونحسب أن الخل خمر تفرح قلب الإنسان، وأن الزؤان سنابل غنيّة بالثروة والغلال.
ومن "مشاهير" البلابل والحساسين، والغربان والشحارير، التي تضجّ بها وتضيق القاعات والمطاعم والملاهي، إلى بنات وضحايا الهوى التي طالت بيوت الفقراء ومتوسطي الحال، كما طالت البيوتات المرموقة والكبيرة، حتّى تساوت جميعها في المأساة ليصير كلّ صاحب "هاو ماتش دارلينغ" والداً لكل "ريما" الفالتة التي تفاجئه صارخة: "أنت وأمي وصّلتوني لهون".
أجمل ما في "يا عيب الشوم" التي قام بتمثيلها ثلاثمائة طالبة وطالب من الصفوف الابتدائيّة في مدرسة سيّدة لبنان، لراهبات العائلة المقدّسة المارونيّات، أنها لـم تكتفِ بعرض شكلي لسلبيّاتنا، بل تجاوزتها إلى الردّ الإيجابي على كلّ خلل في تربيّتنا ونشأتنا، فتصبح العيوب والمساوىء والمفاسد مجرّد عاهات تصيب الأفراد، وهؤلاء الأفراد أنفسهم لا يمكنهم أن يصموا الانتشار اللبناني كلّه بما في نفوسهم من عار الصدأ والعفونة.
فإذا كان لكل عائلة قياس، فإن راهبات العائلة المقدّسة المارونيّات في مدرسة سيّدة لبنان في هاريس بارك هنّ عائلة لبنان المثاليّة التي لا قياس لها، والتي تغطي مساحة الكون.
أكاد أشكر الشاعر شربل بعيني وأهنّئه.. لا.. أوسع من الشكر وأكبر من التهنئة شربل. فأكتفي بتوجيه تحيّة أدبيّة.
**
جبيل.. جئتك
"يوم تسليم الآنسة ريتا بواري جائزة شربل بعيني في مدينة جبيل اللبنانية."
آنسة ريتا..
يطيب لي أن أقدّم لك باسم شربل بعيني، صاحب هذه الجائزة، جائزة الشاعر شربل بعيني، وأن أشكر المعهد، معهد الأبجديّة في جبيل، الذي رعاك وتعهّدك، فتفوقت وبرهنت بالاجتهاد المميّز، وبالعقليّة الأخلاقيّة الجديدة، شعار هذا العصر، وبالنتائج الباهرة التي أحرزت، أنك أهل لهذه الجائزة، وجديرة بها.
إنّ صديقي وأخي الشاعر شربل بعيني معروف بأنه شاعر الغربة الطويلة، وأنا أطلق عليه المحبّة والآلام، المحبّة التي تشترط ولا تتباهى، والآلام العظيمة التي تنتظر كلّ ذي نفس كبيرة.
أنتم في الوطن المقيم تمارسون على مستوى الإنسان فعل هذه المحبّة، وتدفعون ضريبة الآلام العظيمة في سبيل الحياة والحريّة والكرامة. ونحن في منفانا الاختياري رسل محبّة، وشهداء آلام، نعاني مما تعانون، ولكننا نسير طريقنا الطويل، يعزّز مسيرتنا الإيمان، ويهزّنا شوق حيّ لننشق فوح دمنا في تراب الوطن المبارك.
آمنوا بوجود هذا الوطن. حافظوا عليه، واحفظوا رسالته. اعملوا لديمومته في نطاق الحريّة والسيادة والاستقلال. عمّروه إنساناً إنساناً، وحجراً حجراً، ودرباً درباً، لتلتقي مجهوداتكم في دروب بقائه. إنه أحلى أوطان الأرض وأغلاها.
وأنت يا عزيزتي ريتا، أكرّر لك تهنئتي وتمنيّاتي القلبيّة الطيّبة، راجياً لك اضطراد النجاح، ومزيداً من التفوّق والإبداع. ولا تنسي، أنت ورفيقاتك، أن تستمرّي في العمل بتوجيه الدكتور عصام حدّاد، فهو صورة مصغّرة عن الوطن الكبير بالمحبّة والتفاني والعصاميّة، التي لا تعرف الحواجز والحدود.
ولكم جميعاً من الشاعر شربل بعيني، ومن رابطة إحياء التراث العربي في سيدني، ومني شخصياً أطيب التمنيّات، لتحقّقوا تطلّعاتكم الكبيرة ثقة بالنفس، وإيماناً بالحياة الحرّة الراقية، فتكونوا أهلاً بالرسالة، رسالة المعرفة التي حملتها جبيل إلى العالـم، منذ فجر التاريخ وصباح الدنيا.
جبيل جئتك في عينيّ عاصفةٌ
من اللّهيبِ، وشوقٌ عانقَ الشّهُبَا
مدّي يديك بساط الضوء وامتشقي
سيفَ الرياح، وخلّي اللومَ والعتَبَا
ما زلتِ ملعبَ أحلامي، وأجنحتي
يضفي عليها الهوى الأمجادَ والحقُبَا
أنا الذبيحُ، يمرّ الحبّ من فرحي
ومن صدى وجعي الأضواءَ والسّحُبَا
زرعت في وهجها صوتي وفوحَ دمي
وفي شذاها السّنا والعطرَ والذهَبَا
أطوف فيها وجرحي لا يفارقني
كأنما الجرح تحكي نارُه الغضَبَا
وما تعبت.. ولكن كاد يقتلني
فيها انسجامي، وحبّي يتعبُ التّعَبَا
مرّي يديك على رئتيَّ واشتعلي
لا يحصد النّارَ مَن لا يزرع اللَّهَبَا
يا لهفة المجد أين المجد في وطنٍ
يطلِّق اللـهَ والإنسانَ والكُتُبَا
وأين أين العلى والشعب منسحقٌ
يطأطىء الرأس حتّى يلحسَ الذّنَبَا
وأين أين تراث الفكر ملحمة
من النضال تهزّ الوعيَ والأُدُبَا
لا يعرف العزَّ مَن في الذّلّ موقعه
أو يعرف اللـهَ مَن لا يعرفُ الأَدَبَا
جبيل، يا شغفاً في القلب أزرعه
ويا ارتياداً على الآفاق مُلتَهِبَا
العار فينا.. وطعم العار في دمنا
فهل نلوم السِّوى عنّا أو الغُرَبَا
مرّي على دمنا يوماً بعاصفةٍ
تزوبع الفكرَ حتّى يبدعَ العجَبَا
وزلزلي الأرض فالزلزال أجمله
أن يخلق الوعي لا أن يتركَ الخِرَبَا
أنا الغريب صداه لا يزال هنا
وفي هنالك صوت الرعد مصطخِبَا
أنا الغريب وفي المنفى صدى وجعي
وفي دروبك أطوي الموت مرتعِبَا
طلّي على أفقي المفترّ وانتصبي
وجهاً يضيء فيطفي الليل والشَّغَبَا
وسمّريني على أرضي وفي وطني
كما المسيح رسول الحبّ قد صُلِبَا
يا مصدر الحرف حيّي الشعرَ وانتفضي
ففي ترابِك أحلى الشعر قد طربا
بنت الشواطي على قدميك قد ركعت
كلّ العصور، وفاض النورُ وانسكبَا
أتيتك اليوم من سيدني وفي عدمي
شوق يهزهز منّي القلب والهُدُبَا
ومن تراثك في كفيَّ بدء غدٍ
"بالأبجديّة" سوّى المجد والتهَبَا
يقوم لبنان إن قمّت، وإن نضبت
فيك المعاني، فكلّ الكون قد نضَبَا
**
رسالة
سيدني في 7 تشرين الثاني 1988
عزيزي شربل:
صديقي أنت.. ارتضيت ذلك أم بعته للشيطان. انقطع عنّي أسبوعاً، شهراً، سنة أو ما يزيد، فلن يقلّل ذلك من محبّتي لك. خصوصياتك أحترمها، وأترك لها المدى الأوسع، فهي بلا شكّ مرتبطة بالفجر، وإلى الفجر ستعود.
بعد مخابرة هاتفيّة من صديق مشترك، وبعد تلميح بسيط من صديق آخر لنا، مشترك أيضاً، استطعت أن أضع إصبعي على الجرح، جرح اصطنعته أنت وليس لي فيه منّة.
أنا ملزم أدبياً في التصدّي إلى تجّار الهيكل، إلى الذين ينتحلون الشعر والأدب، ليكونوا عالة على الشعر والشعراء، والأدب والأدباء.
أسألك صراحة: كيف أجزت لنفسك أن تصطفّ ـ نعم أنت ـ في طابور تعلن عليه الحرب؟ متى يا صاحبي تفهم، تفهم أنني حين أتوجّه إليك أذكرك بالاسم، بلا مداورة؟.. لأنه، بالنسبة لي، لا يعني تقليلاً أو إعلاءً من شأنك، فنحن، كلانا، في خندق واحد، في الدرب إلى مجد الكلمة، إلى الحفاظ على شرفها وقدسيّتها.
كفى ولدنة، كفى أن تنسب إلى نفسك التباساً ليس فيك. صديقك وسأبقى..
**
عرسُ المواسم
أحلى من الحلمِ البديعِ وأفضَـلُ
يا حُبُّ صوت القلبِ ضوءٌ مُذْهِلُ
حملَ الهوى وجع الصَّدى فَكَأَنَّما
قَمَرٌ يزركِشُه الصَّفاء.. ويغزلُ
عصفورة شغل الربيع جناحهـا
ورياشُها وجـهُ الربيع الأجملُ
وأساورُ الفيروز لون قَصيدَةٍ
طارت بأجنِحة السَّما تتشكّلُ
وأصابعُ الكبريتِ تختصِرُ الشّذا
شعراً يطيبُ به الشَّذا ويرتِّلُ
عصفورة شالُ الضّياء نسيجها
ونسيمه ليلى.. وريحٌ شربلُ
سكرت بحبِّهما الدروب فللهوى
عرس بما ابتدع الهوى يتكحَّلُُ
عرس المواسم، والهلال بَنَفسَجٌ
والظلُّ وردٌ، والصليبُ المشعلُ
حبكت له لغة القلوب غلالةً
بيضاءَ تحلم بالصباح وترفلُ
ومعي كهزهزة الشّعاع تهانئي
قلب يلملم دفئه ويترغلُ
يا مَن حفرت من الرؤى شعر الصبا
قمراً يفرّ من الشّفاه وينهلُ
"ليلاكَ".. عطر قصيدة سَجَّلتها
أحلى القصائد في القلوب تُسجَّلُ
**
موعد الدُّنيا
" أُلقيتْ هذه القصيدة في 11 - 12- 1994، بمناسبة الذكرى المئوية لوفاة الشاعر جرجي سليم أبي إسبر، ومنح الشاعر شربل بعيني جائزة التقدير الأولى في الأدب المهجري"
ـ1ـ
نَحنُ، مَنْ نَحْنُ، انْتِشَارٌ سرمدي
تَنتهي الدُّنْيا وَفينا تَبْتَدي
تَسْقطُ الأمجادُ إلاّ مجدنا،
يَزدهي حيناً، وحيناً يَحتَدي
كَمْ نَبِيٍّ قبلَ تاريخِ السَّما
قدْ خَلَقْناهُ بِحرفٍ أَبجَدي
منذ كانَ البدءُ، كنّا قبلهُ
في ثريّات الزّمانِ الأَبعدِ
وَإِذا الجُرْحُ عَلى السّيف انْثَنى
أَشْرقتْ في الجُرحِ دُنْيا السؤدَدِ
لا تقل لي قد مضت أيّامُنا،
رُبَّ يومٍ بعدَنا لَمْ يُولَدِ
إنْ يَكُنْ في الكَوْنِ شيءٌ خالدٌ:
نَحْنُ، والشّمسُ، وصوتُ الفرقدِ.
ـ2ـ
يا صَديقي، هذهِ دَوْحاتُنا،
دوحة تهدي، وأُخرى تهتدي
كلُّ جيلٍ، قبلها، كان لَها
منبرَ الأمسِ، ونبراسَ الغَدِ
ههنا، نحن على راحاتنا،
ينبني مجدُ النّسور الرُوَّدِ
كلَّما هبَّ علينا صاعقٌ
نتلقّاهُ بصدرٍ أَمردِ
أيّ نجمٍ لـم يدغدغ صوتَهُ
خلف أحلامِ صدانا المرعدِ؟
أيّ مجدٍ لـم يكنْ منعطفاً
ومحطّاً لِسَنانا الجيّدِ؟
وإذا اعْلَولى على أفق الصّدى
نتلقّاهُ بعطفٍ أَوحدِ
تارةً بالقلبِ حتّى يَحْتمي
من خطاياهُ، وطَوراً باليدِ
كَمْ غَدٍ يَغْتَرُّ فِي غُلْوائِهِ،
وَغَدٍ يَرْتابُ مِنْ غُصْنٍ نَدِي؟
كلّ عصرٍ حُلْمُهُ مُستَنزَفٌ
يَتَلَوَّى كَالضَّمِيرِ المُقعَدِ
كَمْ مَعْهَدٍ في الأرض لـم ينسجْ على
شرف الرؤيا، ونبلِ المقصِدِ
كسَّرَ الأقلامَ في دربِ الهوى،
واقْتَنَى "الكوندونَ" والخُلْقَ الرَّدِي.
ـ3ـ
أنتَ يا جرجي، إذا الوحيُ انطفَى،
أَدَبٌ يفدى، وفِكرٌ يفتدي
يا صديقي، موعد الدُّنيا هنا،
يتصبَّاكَ، فَهلْ مِن موعدِ؟
هاتِ من شِعْرِكَ صوتاً داوِياً
فِي انتفاضِ الزّمن المُستعبَدِ
وتَكَسَّرْ فَوقَ أَجْفانِ الهُدى
ثورةَ الشِّعرِ، ووحيَ المعبَدِ
أَنْتَ ما زلتَ انبعاثاً مشرقاً
لـم ينلْ منه الزَّمانُ المعتدي
علماً للحرفِ، خفّاقَ المَدى،
فَوقَ طُغْيانِ الضّلالِ الأسودِ
أَنْتَ ما مُتَّ، وفوقَ المُنتهى،
شاعرٌ يبني خُلودَ المَعْهدِ
يا صديقي، سلمتْ كفّاكَ، وفي
السنديان المشرئبِّ الأَخلدِ
من كفرحاتا، سليماً، عابقاً
في ثنايا العنفوان الأمجدِ
سقط التنينُ في مينائنا،
وتشظَّى كانفجارِ الجُلمُدِ
قُلْ لقدموسٍ، وَكَمْ مِنْ ماردٍ
قد صنعناه.. وَكَم مِن مِرْوَدِ
ولِعشتارَ، إذا السَّيفُ نَبا،
دمُنا النّارُ، فَهُبّي واشْهدي
شعرُنا موسوعةٌ مِنْ شُهُبٍ،
وسوانا للقبورِ الهُمَّدِ
كلّما ضجَّ صباحٌ ومضى،
في حنايانا صباحٌ يغتدي
وعلى الشَّمسِ حفرنا مقعداً
في زواياه فتونُ العسجدِ
فاسْتظلَّ الغيمُ في شُبّاكنا،
فوقَ عَيْنَيْهِ بُكاءُ الموقدِ
وإذا الشمسُ على الشعر انحنتْ،
صرختْ بالأرضِ: يا أرضُ اصعدي
وانقشيهِ لوحةً فضِّيَّةً
“شينُها" الشَّوقُ، وفي "الباءِ" ابْتَدي
“ شربلٌ " غَنَّى ، فَغَنَّى بلبلٌ،
و"بعيني" دمعةَ الحبِّ اعْبَدِي
شاعرٌ كالأرزِ، في خلجاتهِ،
تسكنُ العليا، ومنه تجتدي
روَّضَ الإعصارَ، في طلاّتهِ،
فرحُ الوعدِ، وحلمُ الموعدِ
إِنْ يَكُنْ تكريمُهُ، عَنْ خُلُقٍ،
فَلَهُ في الشِّعرِ خلقُ السَّيِّدِ.
**
مرحبا
"ألقيت بمناسبة زيارة سعادة سفير لبنان الدكتور لطيف أبو الحسن والسيدة عقيلته لمنزل شربل بعيني>
داعبِ الرّيحَ حولَنا يا مساءُ
ههنا الشّمسُ والظَّلامُ السّواءُ
ولدتْ عندنا النّجومُ وطافتْ
قبل أنْ كانتِ السَّما وكانَ الفضاءُ
سائلِ الدَّهْرَ بيننا من زمانٍ
شهقَ الوعدُ واستجابَ الوفاءُ
واسْألِ الحُلْمَ خلفَ كلّ شُعاعٍ
زغردَ الحبّ واشرأَبَّ الرَّجاءُ
يتسلّى في كفِّنا الغَيْمُ لَمّا
يسرق الصّيفُ لونَهُ والشِّتاءُ
كلّ أحبابنا ربيعٌ مضيءٌ
سكر العطرُ عندهم والهواءُ
مرْحَبا يا سفير، يا طَوْدُ، يا مَجْدُ،
يومَ صارتْ لمجدنا كبرياءُ
مرحبا الأصدقاءُ يومَ تنادوا
وتخلّى عن عصرنا الأصدقاءُ
بعض أمجادنا ابْتَناها رجالٌ
زنَّرَ الوعيُ فكرهم والبَهاءُ
وتُطِلُّ النساءُ نوراً علينا
أيّ مجدٍ ما عمَّرتهُ النِّساءُ
فالشِّفاهُ المطيَّباتُ العذارى
في هواها تبارَكَ الأنبِياءُ
كانَ قَبْلاً نداؤنا عاطفياً
ههوَ اليومَ يا سميرةُ اسْتِثْناءُ
هذه سهرةٌ من العمرِ عندي
وستبقى ما يستمرُّ البقاءُ
كأْسها الحبُّ ، والشِّفاهُ نَبيذٌ
فوقَ عَيْنَيْهِ يَسْتَحِمُّ الضِّياءُ
والعريسُ الحبيبُ مَشْقَةُ شِعرٍ
تَتَزَيَّا بحبِّهِ الأسْماءُ
إنْ تكنْ عندَهُ القصيدةُ زَهْواً
فالحكايا أميرةٌ حسناءُ
كلُّ شِعرٍ لا يعرفُ الحبَّ مسخٌ
وثنِيٌّ يضجُّ فيهِ الغباءُ
والَّذي شِعرُهُ كشَرْبِلَ يَحكي
حبَّ لَيْلَى ، تُضيءُ فيهِ السَّماءُ
**
سيوف النّار
يوم محمد زهير الباشا ـ 1989
ـ1ـ
قبضُ الريحِ
وبعض غبار
ويتلاشى الصّوت
وإذا الصدى يلفّ أبعادَ الأرض
وذاكرة التاريخ في كلّ مطرح للشمس.
لا تلوموا المضى
فالملامة لا تحرق أظافرَ الليل
ولا تضيء دروبَ المستقبل.
الحضور الإنساني الكليّ القيم والمبادىء
يعتق من الخطيئة،
ويحرّر الناس من الذلّ والعبوديّة،
فتقوم مداميك الحضارة،
ويشعّ التراث الوطني.
لقد كان شربل دائـم الحضور،
وله ديمومة الصدى،
وفي ذلك الحضور وهذا الصدى
ارتفع صوت محمد زهير الباشا
في الملاّح الباحث عن إلـه،
فإذا هذا اللقاء،
وإذا الشعر سيوف نار
ـ2ـ
قيلَ لي مرحبا، فقلتُ تُرى
في مرحبا اليوم، ضاع الشعر والأدبُ
غَزلتُ للحبِّ أيّامي.. فذاكَ دمي،
على صباحِ الهوى والحلمِ، ملتهبُ
يلامسُ الضّوءُ عينيها فتخنقُهُ
غريزةُ العتـمِ، والضوضاءُ، والشّغبُ
تعمّدت بالندى الفضيّ أغنية
لهيبُها الجرحُ، والرؤيا لها عصبُ
وزغردتْ في شريط الفجر، ضاحكةً،
أصداؤها الريحُ، والبركانُ، والشّهبُ
يا زارعَ الوجعِ الوثنيّ في عدمي
هل يدركُ الحقدُ كيف الثأرُ والغضبُ؟
وكيف تنهضُ في الدنيا قصائدنا
وخلفها الريحُ، والأقمارُ، والسّحبُ؟
وفوقَها، لا يدٌ خطّتْ، ولا قلَـمٌ
ولا احتوتْها، على غليانِها، الكتُبُ
كأنّها في حدود الشمسِ طالعةٌ
وفي يديها، جمالُ الكونِ ينسكبُ.
قلْ للمرايا على صفحاتها انكسرتْ
صورُ الزمانِ، ورثّ اللونُ والخشبُ
وما تبقّى سوى الإبداعِ، ريشتُهُ،
من الجراح، بنار الشّعرِ، تختضبُ
هذي ملامحُنا، في الأرض مشرقةٌ،
ما عزّها حَسَبٌ، أو غرّها لَقَبُ
تلملـمُ العالَـمَ الأزليَّ، تنسجُهُ،
وهجاً يشعّ به الوجدانُ والهدُبُ
فلا تليقُ بغيرِ الشّعر مملكةٌ
ولا تطيبُ العلى، والمجدُ، والرّتَبُ.
عفواً زهيرُ، فلا أبعادُنا اختنقتْ،
ولا الشّواطىءُ تثنينا، ولا العُبُبُ
روّادُنا، في جفون الشمسِ طلّتُهمْ،
عَنْ مطرَحِ النورِ، ما غابوا ولا تعبُوا
يغامرونَ.. سُعالِ الضّوءِ يعرفُهُمْ
إلاّ المعاناة، ما ذاقوا، وما كسَبُوا
سلِ "السّنابِلَ" عن دنيا "مراهقة"
وعن "إلهٍ" على الشفتين يضطربُ
"وغربة"، طال فيها جوعها أبداً
إذا الضّميرُ، ضميرُ الشّعرِ يغترِبُ
"وللخزانة" في قبساتها دررٌ
يغارُ من ظلّها الياقوتُ والذّهبُ
"مشّي معي"، زمنُ الأوهام قافلةٌ
من اللصوصِ على أحلامنا انقلبوا
"ونقطة الزيت" في أوجاعنا اشتعلتْ
قل "للمجانين" نحن العقلُ فارتعبُوا
إنّي إخالك في الدنيا أخا سفرٍ
جناحُكَ النارُ، والطوفانُ يصطخبُ
وفي سطوعِك للأحرارِ ملحمةٌ
على مداها استوتْ أمجادُها الحِقَبُ
وفي جراحِكَ أضواءٌ مشرّعةٌ
هل يسمعُ الشّرقُ، أم هل يُبْصِرُ العرَبُ؟
غداً نعودُ إلى دنيا طفولتنا
فيرقُصُ الجدولُ الغافي وينتحبُ
ويسكرُ الدّربُ في خطواتنا جذَلاً
وبالورودِ يضجّ السّفحُ والهُضُبُ
ويُشْرِقُ الفِكْرُ، رغمَ السّيفِ، مبتهجاً
فيُولدُ الفرحُ الأبديُّ والطّربُ
كأنه في دروبِ الغيمِ مشتعلٌ
على الزمانِ، وتهوي تحته الحُجُبُ
وللصباحِ رفيفٌ في خواطرهِ،
يمزّقُ الليلَ، في عمري، فينسحبُ
على رماح الفدى تغلي مشاعلُنا،
وفي الأعالي سيوفُ النّار تنتصبُ
فتلتقي ذكرياتُ المجدِ في وطنٍ
أقوى من الموتِ.. ماتَ الموتُ فالتهببوا.
**
مشوار مع شربل بعيني
البيرق ـ العدد 18 ـ 28/11/1986
ـ1ـ
على بيادر الرؤيا يتفتّح ضوء السنابل
يرسم على شفاه الصباح أسطورة الخلق
ولأجيال لـم تولد بعد تتناقلها زقزقة الرياح
في جراح العزّ يتوالد العمالقة
وفي عبقها تتناسل ملاحم العباقرة
لهب الألوهة يرتشف فعل الإيمان
يتخمّر، وينمو، فتزدهي تباشير الخلاص
تطارد المجوس والصيارفة وتجّار الهيكل
من عرق الندامة يتحرّر خبز الإنسان
وعلى لوثة العار ينتفض مدّ الحضارة
حدّ السكين يحزّ الأعناق
وفي شلال الدم ينتهي القتلة
وتجدد الأسطورة فوق فوهة العدم.
وإلى الشرف القومي تتسلّل الوشاية
أخطبوطاً حلزوني الصدى
يتثاءب، يتمطّى، ينتشر، يأكل بعضه بعضاً
وتتعالى مع العاصفة ألسنة النار.
ـ2ـ
خلف القضبان الحديديّة تتكوّم مخلّفات القهر
يسرق منها الحقد عافية البهجة
وببقاياها تتسلّى أحناك الزمن الرديء
تتساقط مواسم الفرح في مأتـم الحرف
وتصير الرموز ترابيّة الوجع والتحدّي
تعجن رمادها والأنين يتخفّى في المحاجر
ترفض الدموع لأنها ترفض العار
ولأنها في ضمير البركان ترفض أن تغتسل بالدخان
وفيما تبحث عن الحياة يسبقها الموت في طريق الجلجلة
يتوهّج الحب في خندق الفداء، وتتميّز الأصالة.
اقتلوا الجريمة قبل أن تتفننوا في قتل المجرمين
وقبل أن تنصبوا أعواد المشانق ارفعوا منائر التاريخ
اطلبوا تجدوا، اقرعوا يفتح لكم
أعطوني قلماً أعطكم جيلاً يعانق السماء
وفي الأبعاد المجنّحة يشيّد عمارة الحضارة
وأعطوني عصاً أجعل لكم الوطن سجناً
يضجّ بالبرابرة والمجانين
وأعطوني رصاصة تَصِر النعمة نقمةً تدمّر الإنسان
تقتل فيه القيم والمُثُل وأحلام الحريّة والحياة.
ـ3ـ
على مزارب الخطيئة اكتبوا عنوانكم
وبأعقاب السجائر عمّروا ناطحات السحاب
فتكرج ضحكة القهر على شفاه التنين
أقلام الحريّة لا تكتب صكوك العبوديّة
والجوع النفسيّ لا تكفيه شرائح اللحم.
لا تصلبوا عيونكم على تقاطع الرياح
لأن عربدة الجنون تلتهب منها الدروب
يتقزّز معها الصبر الأسطوري
وتنطفىء مشاعل الرجاء.
من يختلس فلس الأرملة إنما يأكل جسد اللـه
تهرب من شفتيه أحلام الحب والقيامة
ويترمّد الوعد الآتي من فرع الحياة.
بعامل الثقة تصير أوراق الإزدرخت أجنحة نسور
تصفّق لها قباب الدنيا وقناطر التاريخ.
تتحدّى الواصف، وتحضن الآفاق
فترقص تحتها أوتار الأرض
ويطرب فيها رباب السماء.
تذكّروا أن اللـه لا يطلب أوسمةً
إنه الوسام الحقّ
لا تقتلوا اللـه فيكم، أبقوه حيّاً
ولو لمجرّد الأمل.
ـ4ـ
تعالوا نتحسّس جراحنا والمسامير
وبعبق الدم نغزل أسطورة العزّ
نستشرف آلامنا والمدى والمصير
ونحبك بخيوط الضوء منديل العودة.
أيّتها الأرض المحروقة
يا أرض الأحزان والمآسي والدماء
يا موعد أحلامنا والأمل والرجاء
ليلك طويل رهيب وحادّ كحوافر العفاريت
بالحبّ والتضحيّة والانفتاح والفداء
سنزرع في ترابك البخور
ونحرّره من الويل والبؤس والشقاء
نغمر أمنياتك برموش العيون
وبالحنان نغسل تعاستك الخياليّة
أنت التي تدفعين ضريبة النار والحديد
عن مائة مليون
رذلهم التاريخ ورافقتهم لعنة الأجيال.
**
أيقونة أدب
1989
مجنون الْـ نَطَرْنِي وْقالْ: لازِمْ عَرّفَكْ
إنْت الشِّعرْ مِنْ سَطْوِتَكْ آخِدْ لَقَبْ
لا تْقُولْ إِنُّو اللَّقَبْ بَدُّو يْشَرّفَكْ
بِالنَّارْ أَوْ بِالدَّمّ لَو كَانْ انْكَتَبْ
مَسْمُوحْ أَوْ مَمْنُوعْ إِنِّي صَرّفَكْ
إِسْمَكْ يَا شَرْبِلْ صَارْ أَيْقُونِةْ أَدَبْ
**
النمر الأسود
صوت المغترب، العدد 1077، 3/5/1990
ألقاها عام 1990 في منزل شربل بعيني بحضور السفير لطيف أبو الحسن والمطران يوسف مرعي.
ـ1ـ
غَرِّدْ.. كَفَاكَ تَمزّقاً وتحسّرا
إِنّي أُحبّك أن تثورَ وتكفُرا
وانهضْ ففي غَليانِ فكرِكَ لوعةٌ
تشتاقُ أن تدوي وأن تتفجّرا
مرَّ الصبّاحُ وفي جفونِكَ نشوةٌ
وشَّى جوانحَها السّحابُ وزنَّرا
وأنا أراكَ على ضميرِ قصيدتي
لَهَباً وبُركاناً وفجراً أَخضَرَا
يا ضحكَة الحلم المشعّ إذا استوى
وإذا طغا، وإذا اشتكى وتضجّرا
حتّامَ صمتك والجراحُ مشاعلٌ
تأبى الكرامة أن تُذَلَّ وتُزدرَى؟
وعلى أكفّك للنضالِ حكايةٌ
نقشَ الفداءُ فصولَها وتصَوَّرا
يا شعلةَ الحلمِ المضيء حضارة
فجِّرْ دمَ الشعراءِ ضوءاً أحمرا
واكتبْ على نبضِ الترابِ ربيعه
فترى الربيع على الحروف اخضَوْضَرا
فإذا سكتَّ ففي السكوتِ حلاوةٌ
وإذا حكيت فللشذا أن يسكرا
إنّي عرفتك نجمة بظلالها
ما كان أحلى أن نطوفَ ونعبرا
فكأنّها صلوات حسّ مشرقٍ
غسلتْ نقاوتُه الزمانَ فنوَّرا
ولقد سألتُكَ أن تنيرَ دروبَنا
وعلى ندى الأحلامِ أن تتخطَّرا
لتقومَ في وجع الحجارةِ يقظةٌ
تُحيي وتلهمُ ما تدمَّرَ واهترى
قد حان أن نبني انطلاقةَ نهضةٍ
ونردُّ قيداً باطلاً مستهترا
فإلامَ يسحقنا ويطفيء وهجَنا
زمنٌ أصمٌّ.. لا يحسّ ولا يَرى؟
ملأى سنابلُنا وغنجُ كرومنا
مطرٌ يفيض على الجوارحِ عنبرا
ينصبّ في قنواتنا وهمومنا
أدباً وشعراً مبدعاً متحرِّرا
كالشمسِ تنسجُ من دلالِ جفونها
دفئاً تغلغلَ في النسيمِ وعطَّرا
ـ2ـ
كانت لنا دنيا وكان لغيرِنا
بطر على الدنيا استبدَّ بكَنْبِرَا
فيها امتشقنا الشعرَ ومضاً راعشاً
وهُمُ استباحوا في الرسالةِ متجرا
فكأنما وطن النجوم ضريبة
بالفكرِ ندمغُها انتقاصاً وافْتِرَا
وأتيت منسرح الخيالِ تهزُّنا
متسامياً، متواضعاً، مُسْتَبْشِرا
وإذا احتضنتَ مواهباً ومناقباً
ومنائر الوطنِ المشعَّة جوهرا
غدَت السّفارةُ بيتَ كل مواطنٍ
وغدا السّفير لكلّ مجدٍ منبرا
وبدتْ على الأفقِ البعيدِ سنيّة
رؤيا تعّهدها النبوغ وعمَّرا
مَنْ كان يعطي من عصارةِ قلبِهِ
كانَ الأبَرَّ.. وكان فينا الأكبرا
يغزو مواسمَنا الفراغُ ويحتفي
فَعَلامَ عن جهلٍ نلومُ البيدرا؟
ليستْ معاركنا سوى أكذوبةٍ
ركبَ الغرورُ متونَها وتجذَّرا
فالشعرُ مدرسةُ الجمالِ ووحده
يختارُ منحىً للأداء ومصدرا
تتألقُ النّجْوى على لمعاتِهِ
تنسابُ فيهِ تدفّقاً وتَوَتُّرَا
فإذا الهياكل صيفُها وشتاؤها
حلم على حلم تطوَّر وانبَرَى
هل نُنصِفُ الأدبَ الحديثَ إذا كبا
حدس وراوحَ في الهوى وتعثَّرَا؟
تمضي هواجسنا وكلّ ظلالنا
وضلالُ ما تركتْ يسيرُ القَهْقَرى
ويظلّ ناقوسُ الصبّاح مضوِّياً
ليضجَّ فيهِ جديدُه ويغيّرا
ومع الأماسي كالأريجِ يرشّنا
عبقاً يهزهزُ ما انطفى وتخدَّرا
ما همّنا انتفض الخيالُ بشعرنا
حرّاً مقفّى تارةً ومُدَوَّرا
ألمجدُ أن تُرْضِي ضميرَك والعُلى
وتُضيءُ في الإنسانِ بالاً خيِّرَا
أكتبْ على ورقِ المساءِ رياحنا
حتّى إذا انقشعَ الدّجى وتكسَّرا
بقِيَتْ رياحُ الأبجديّةِ للهُدَى
أملاً يوَشِّحُ بالضّياءِ الأَعْصُرَا
ويُطِلُّ وجهُك يا "لطيف" منارةً
سحقَتْ بوهجِ الوعدِ ليلاً أغبَرا
ومحَتْ على دربِ الغيومِ خرافةً
زرعَتْ جنوناً طاغياً ومُدمِّرَا
كي تمطرَ الدنيا على خلجاتنا
لهباً تبنَّى العُنفوانَ وفجَّرَا!!
ـ3ـ
يا سيّد اللاهوتِ عفوَكَ إنْ أَكُنْ
في الشِّعْرِ أُعْطِي ما لِقَيْصَرَ قيصَرَا
أوْ كانَ من قبسِ انفتاحِكَ قد سرى
مثلَ البخورِ تضوّعاً وتَجَمّرا
فتفُوحُ من عبقِ الحروفِ بحيرَةٌ
فتحَ الصّباحُ شطوطَها وتخضَّرا
أوْ كنتُ من لحمي الذبيحِ ومن دمي
أسقي وأولِم كلّ ليلٍ خنجَرا
أو كان "شربل" قد أثارَ مشاعري
كي تسترقَّ وتستفيضَ وتخطُرا
فإذا السّنى الأزليّ يشرب من دمي
ويمدّ جسراً بالضلوعِ مُسَوّرا
ويقولُ في فرحِ التراثِ مزغرِداً:
يا شاعراً يشتاقُ أن يتطَوَّرَا
أنفُضْ عن الزَّمَنِ الخَجُولِ غُبارَهُ
وامسحْ صدى التاريخ يهدُرُ منذِرا
مَنْ كان يغرقُ في سعالِ دُخانِه
هيهات أن يسمو وأن يتحرَّرَا!!
**
بحيرة الضوء
مقطع من قصيدة أُلقيت في حفل تسليم (جائزة جبران) 1990
ألمجدُ يعرفُ أهلَه وعرينَهُ
وعلى جدارِ صباحِهِ ينسابُ
شبّاكُهُ ملهَى الشَّذَا، وعلى الرُّبَى
أَلَقٌ يزغردُ ضاحكاً وسرابُ
وعلى قصائده تزركشُ وردةٌ
فستانَها، والحُورُ، والأطيابُ
تسنسبُ اللونَ الذي تشتاقُهُ
وبدون "شربلَ" ما لَها استنسابُ
هذا "بعيني" شعرُهُ وحنينُهُ
وترٌ يغنّي للهوى وربابُ.
**
أم أنطوان
والدة الصديق الشاعر شربل بعيني
(حضورها في إشراقة الوجدان أقوى من غدر الزمان)
جريدة الشرق ـ العدد 14، 14 تموز 1999
حَمَلَتْ حُلْمَها، منَ الشّرقِ جاءَتْ
كفُّها الأَرْضُ والْعُيُونُ السَّمَاءُ
وَعلى الغَرْبِ رَعْشَةٌ مِنْ إِباءٍ
تَتَماهَى فِي دَرْبِهِ الْكِبْرِياءُ
وَمَشَى صَوْتُها على الغَيْمِ دِفْئاً
يَتَمَشَّى فِي جانِحَيْهِ الضِّياءُ
فإِذَا القلبُ كوكَبٌ واسْتفاقَتْ
في يَدَيْهِ الْحِجارَةُ الصَّمَّاءُ
تَعِبَتْ دُونَها السّماءُ، ولمّا
أعَيَتِ الأرض، فالخُلودُ البَهاءُ
مثْلَما تَرْحَلُ الملائِكُ طارَتْ
واستَقَرَّتْ حَيْثُ اسْتَقَرَّ الرَّجاءُ
ليسَ في الموتِ ما يَطَالُ وجُوداً
مُطْلَقَ الْبُعْدِ، إِنْ قَضَى الأنبياءُ
شَرَفُ الموتِ أَنَّهُ ليسَ فِينَا
ذِكْرَيَاتٍ أَتَى عَلَيْها الْفَناءُ
فَتَرَكناهُ صاغراً حيثُ شِئْنَا،
والَّذي لا نَكونُهُ لا نَشَاءُ
سَكْتَةُ الْقَلْبِ أَمْ سُكُوتُ زَمانٍ
أَفْرَغَتْهُ مِنْ وَهْجِها الأَشْيَاءُ
صارَ في مِثْلِها السَّماواتُ تَحْكي
كبرياءً، حتّى يَطيبَ الْعَزَاءُ
هِيَ أَسْمَى مِنَ الزَّمانِ، ونحنُ
غُرَباءٌ، أَيَّامُنا غُرَباءُ
كَفْكِفوا الدَّمعَ فالجِراحُ أَضاءتْ
تَمْسَحُ الْحُزنَ كَيْ يَرَى الأَحْيَاءُ
هِيَ أُمُّ الْجَمِيعِ في كُلِّ قَلْبٍ
مِنْ سنَى الطِّيبِ شُعْلَةٌ خَضْراءُ
إنْ نَشَدْنا لِكُلِّ إِسْمٍ مقاماً
تَتَفَيَّا فِي ظِلِّها الأَسْماءُ
قَطَفَتْها مِنْ كُلِّ نَجْمٍ شُعاعاً
بارَكَتْهُ القِدِّيسَةُ الْعَذْراءُ
وستَبْقى جُفُونُنا عالِقاتٍ
حَيْثُ حَطَّتْ، وحيثُ مَرَّ الْهَواءُ
لَها في كلِّ خاطِرٍ مُسْتَنيرٍ
صُورَةُ الْحُبِّ، والإطارُ الْوَفاءُ
هذِهِ أُمُّنا، ولَوْ أَنَّ فينا
بَعْضَ ذِكْرَى، وجُوهُنا الأَبْناءُ
**
ضيعة الأشباح:
محطة مميزة لعملنا المسرحي في هذا المغترب
النهار ـ العدد 660 ـ 19 تموز 1990
مساء التاسع والعشرين من حزيران الماضي يشكّل فصلاً مثيراً من فصول مغتربي، وفرصة سعيدة لو تسامحت في تجاوزها وتفويتها لما عذرت لنفسي، ولندمت طويلاً.
أسميه مساء مسرحية "ضيعة الأشباح" في مدرسة سيدة لبنان لراهبات العائلة المقدسة المارونيات، تمنيت فيه ان تتوقف عقارب الساعة، أو تبطيء على الأقل، فلا تختصر عمر المعادلة بين عنصر الفكر وعنصر الفكاهة، بين الاهتمام المتواصل والضحك المتواصل، بين الارتخاء في الماضي والانشداد الى المستقبل، فتمر الساعتان الكاملتان وكأنها قفزة واحدة من الباب المفتوح على القلق الى النافذة المشرعة على الشمس، من الجرح المنقع في الملح الى ابتسامة مشرقة على الغد.
ولقد بدا لي ان "ضيعة الأشباح" هي اسم مبتكر لضيعة خيالية في لبنان، قريبة من قلعة مجدل عنجر، إذ ان ديكور المسرح قد تمّ تصميمه وعرضه في هذا الاتجاه، فكانت الحجارة المشقوعة اشبه بجماجم الضحايا والشهداء، الذين قتلهم جمال باشا السفّاح، واعتابها من ضلوعهم وأعناقهم الممتدة من عتمة الدنيا الى صباح التاريخ.
والتمثيلية، باختصار، تدور فصولها في ضيعة لبنانية، في زمن الحكم العثماني، عصت على قوة واستبداد جمال وبطشه وتنكيله، فلم يستطع احتلالها او تدجينها، وبالتالي اخضاعها لطغيانه رغم الحملات المتتالية، فلجأ الى الابتزاز، والى خلق عقدة نفسية في أبنائها، وذلك بعملية غزو داخلي يقوم به أشباح غريبو الاطوار والتصرفات، فمن اتلاف وتدمير ممتلكات، الى تهديد وخطف وقتل، فيسود الضيعة جو من القلق والرعب، حتى اذا نجحت الخديعة، يتخلى الناس عن الرفض والمقاومة، ويستسلمون لمشيئة جمال باشا.
وكي يستتب له ما يريد ويبتغي، اختار لهذه الغاية اقرب الطرق، وهي أن يكون "دود الجبن منه وفيه"، فاستعان بالمرتزقة والانتهازيين والوصوليين، عشاق الوجاهة ولو على حساب الشرف والكرامة، وطالبي النفوذ والسلطة، باطلاً أم حقاً، وباب الرزق المفتوح، حلالاً كان ام حراماً.
ونجح السفّاح في مخططه، وبدأ ظهور الأشباح في الساحات والزواريب، على المطلات وفي الحقول، في كل موقع وفي كل تجمّع، مما افتعل مناخاً نفسياً معقداً مبلبلاً قادراً من القضاء على كل روح للصمود والمقاومة، وتنقسم الضيعة الى قسمين: الأول يعتبر ظهور الأشباح مصيبة لا يمكن التخلص منها الا بالهرب والتطلع الى الخارج، او في الاستعانة بالآغا، زلمة السلطان، لانقاذ الضيعة من خطر الابادة.. والثاني يرى في ظهور الاشباح، ظهور جمال الباشا نفسه، بشكل مختلف في جواسيسه وعملائه، لزرع بزور التفرقة والتفتت، واشاعة الرعب والتسبب بالهزيمة، ولذلك وجب الصمود ومقاومة الاشباح بكل الوسائل، وبجميع الامكانات، رجالاً ونساءً واطفالاً.
وتتزاحم الأحداث، فتختلف وتلتقي، تتشعب وتتشابك بتناسب وتناسق كليين، بين الجد والهزل، الفكر والفكاهة، المقلب والنكتة، الفرح والحزن، اليأس والرجاء، العزيمة والتردد، الحكمة والتروي والنزعة والتهور، من غير أن يطغى عنصر على الآخر بشكل خطابي أو غنائي، ليكوّن هذا الطغيان شعوراً بالملل والتأفف، حتى إذا ما احتاجت اعصاب الجمهور الى شيء من الهدوء والراحة، يرتفع الفن الى المستويين الفكاهي والفكري الى الطرب، فيتألق صوت الطفلة المعجزة ريما الياس بغناء لبنان والصلاة لقيامة لبنان: صلاة مفعمة باللغتين العربية والانكليزية.
في هذا الجو العاصف، وعلى غليان الجمهور الثائر، يظهر الاشباح من جديد ليخطفوا ويقتلوا، فتتعرف احدى الفتيات على صوت شقيقها مرشد، أحد الأشباح، تتقدم منه، تمزّق قناعه، تصفعه صارخة: اقتلني يا مرشد.. اقتل اختك يا مرشد..
وفجأة يعود مرشد الى حقيقته، فيركع، ويركع بعده الاشباح الواحد تلو الآخر، وينتصر الصمود بانتصار العز في المقاومة، ويتعالى نشيد: جايي انت جايي.. يا مركب البدايه.
مَن تتبّع التمثيلية، لا بد أن طرح على نفسه هذا السؤال: لماذا تختلف "ضيعة الأشباح" عن ضيع لبنان؟
الجواب بسيط، ذلك لأنها صورة مصغرة عن طبيعة لبنان وأصالته وتاريخه وحضارته. لبنان الغني بالفضائل والقيم والمثل العليا، وليس لبنان الدخيل الغريب عن حقيقته، تضلله وتهدد وجوده الأمراض والعلل والافكار المستوردة، تمسخ شخصيته وتعطّل قراره، وتغتصب إرادته. انها ضيعة يتعانق فيها الصليب والهلال، يتشاركان لقمة العيش والهم والحضور الانساني الكامل، والاستعداد لبناء مستقبل أفضل، لا عصبية دينية، ولا انحلال اخلاقي، ولا تنازل عن الحق مهما كانت قوة الباطل.
ويستطرد سائل نفسه متسائلاً مرة أخرى: هل ان وجود "ضيعة الأشباح" على حقيقتها اللبنانية الصارخة، هو سبب نجاح التمثيلية؟ أم لأن التمثيلية عينها قد عرضت وتعرضت من خلال "ضيعة الأشباح" الى المرض المزمن الذي ما فتىء ينهش في الجسم اللبناني حتى كاد يقضي على كل لبنان؟ أوَليست المفاتيح اللبنانية هي التي أدخلت الأشباح الى لبنان؟ بل انها هي الاشباح التي سلّمت نفسها للشيطان، فسلمت أعناق اللبنانيين للذبح؟
أوَليس المسؤولون هم الذين يتطلّعون الى الخارج بدل التطلّع الى الداخل لمعالجة مستجداته، ومداواة ويلاته؟ أوَليست الاوطان الصغيرة نعاج الأرض طعاماً لنسور الفضاء الكاسرة؟ فكيف إذا كانت النعاج ورعاتها قد تحللوا من المقاومة ومن روحيتها وعصبيتها ولهبها الانساني؟ أوَليس أطفال لبنان، الاغنياء والفقراء، المشردون والمهجرون واليتامى، بجراحهم النازفة، وصبرهم الأسطورة، وصمودهم العنيد، هم أمل الوجود اللبناني على الصعيدين الداخلي والخارجي؟
من البديهي اذن أن نشير الى ان الثلاثمائة طفلة وطفل، من أطفال مدرسة سيدة لبنان، قد أدّوا جميعهم ادوارهم على الوجه الأتم والأمثل، لقد قاموا بهذه الأدوار ولم تمنعهم الآلام العظيمة، والاوجاع القاهرة، والثياب الممزقة والاقدام الحافية المتشققة، لم يتراجعوا بسبب الجوع والعطش والظلمة وخطر الموت، عن مقاومة الأشباح والتصدي للمؤامرة ـ الخديعة التي تهدد مصيرهم ووجودهم.
هؤلاء الأطفال أعادوني ذلك المساء، اربعين سنة الى الوراء، اذ كنا في أواسط الاربعينات في جمعية "ترقية المصالح الوطنية" في بطرام، نقوم في فصل الصيف بتمثيليات، بعضها مترجم، كجزاء الشهامة، وبعضها أصيل كلولا المحامي، وكنا أساتذة مدارس وجامعات وموظفين في مختلف القطاعات، من فرقتنا على سبيل المثال الدكتور ايلي سالم وزير خارجية لبنان الأسبق، والمرحوم الدكتور خليل سالم مدير مالية لبنان، الذي اغتالته الحرب اللعينة، وجليلة سرور مديرة التعليم الثانوي في كلية بيروت.. الخ، وكنا اذا صعدنا المنبر تستولي علينا رهبة الموقف، ورعشة الخجل والخوف، كما كنا نحتاج الى ملقن من وراء الستار يساعدنا على استذكار الدور والنص تلافياً للحرج.
هؤلاء الأطفال في سيدة لبنان، على سبيل المثال ايضاً، بو يوسف، نعمان وام يوسف، ماغي، حنا وام سامي وغيرهم، لم يخافوا، لم يتعثّروا، لم يتلكأوا، لم يتلعثموا ولم يعوزهم ملقن.
كانوا عندما تستعصي اللفظة العربية عليهم، وهم من مواليد هذه الأرض، يزينونها بلكنة حلوة مطيبة بلثغة شفافة وبشال ضوئي شبيه بطرحة العروس.
واذا كنا نحن الكبار نخاف من الفشل، فنحاول أن نعطي الأفضل، فمَن يريد أن يجرد الاطفال من احساسهم ومن كبريائهم؟ مَن يريد أن يتنكر للمواهب التي تختزنها نفوسهم، فينكر عليهم جدّهم ومثابرتهم وجرأتهم؟ ثم مَن يريد أن يغبن نجاح مدرستهم، راهبات وأساتذة، في منح هؤلاء الأطفال الرعاية الصحيحة، وتوفير المناخ اللازم في الحرية للتعبير عن مكنوناتهم ومواهبهم وخصائص نفوسهم؟
هؤلاء الاطفال اعطوا ادواراً، فأدّوها واحسنوا الاداء، وجعلوا من مساء التاسع والعشرين من حزيران 1990، محطة مميزة لعملنا المسرحي في هذا المغترب القصي.
أنا لا أخاف على نفسيات هؤلاء الأطفال وخصائصها، خوفي من حرمانها من يد صالحة تمتد إليها، بعد أن تترك المدرسة، وقبل أن يبتلعها المجهول، فتنتشلها من الذوبان والضياع.
شكراً لراهبات العائلة المقدسة.
شكراً لمؤلف ومخرج التمثيلية الشاعر شربل بعيني.
وشكراً لأطفال لبنان في مدرسة سيدة لبنان. وألى مزيد من النجاح، مع أطيب التمنيات.
**
أحباب شربل بعيني
النهار ـ العدد 563 ـ 24/5/1990
كتابة الشعر اداة معرفة، وسلاح قتال، فإذا كان لا يجوز وضع النور تحت المكيال، فإنه أيضاً لا يجوز اختزان المعرفة في الضباب، واذا كانت الكلمة هي السلاح، فإن القتال لا يمكن أن يكون في الصمت.
وقد تنقلت المعرفة أحياناً من عالم الحواس لتدخل مرحلة تأملية في وجدان الإنسان، تشاطره معاناته وتطلعاته، وتكثف فيه الضوء، تعطيه رؤية جديدة، وتفتح له افاقاً اوسع، ليسترد وعيه ووضوحه، ويستعيد معناه، فتخرج الكلمة، في تعدد اتجاهاتها، وكأنها حتمية تاريخية في الخلق والممارسة، تضمن استمرار الحقوق والحريات.
هكذا تصير الحرية مداخلة حقوقية، ويصير الحق سلاح الحرية الأمضى والأشد، وتكون الكلمة شعلة الحتمية التاريخية التي تكون فيها الأرض والانسان والتقاليد ابداً حاضرة، وأبداً متجددة.
اذن، الكلمة هي نحن شكلاً ومضموناً، الشكل هو المظهر الحضاري للكون، والمضمون هو المحور الأهم للإنسان.
وشربل بعيني، الذي لا يعرف ان يسكت في مناسباته، إلا اذا كان السكوت افضل في الكلام الصامت، في ديوانه الأخير، "أحباب"، يطل علينا، وكأنه يعود بعد غياب طويل، يفجر مخزونه النفسي بصدق ووضوح، حتى ليبدد، وكأنه الكلمة، قد خرجا من معمودية واحدة.
"أحباب" تقرأه من العنوان، من الاسم، يغني المحبة الجامعة التي تستحق الكلمة، فتتوفر لها حلوة أنيقة، وتتألق بلا مواربة، ولا تصنّع أو تعهر.
وإذا كان الشعر العامي ينمو ويتكاثر في وسط تفتقر فيه الفصحى الى التطور اللغوي، والى وفرة في الثقافة، والمام شامل في القواعد والمبادىء العامة، يخاطب الشاعر الناس بلغتهم اليومية، فيحلو لهم شعره ويفهمونه، فإن شعر شربل بعيني، على عاميته مزيج من اليومية ومن التطور اللغوي الزاخر بالصور والالوان والمعاني، الملتزم معطيات الثقافة وخصائصها.
لوحاته يسكنها الزمن، فيفوح منها عبق المناسبة الى أزمنة لم تولد ببال، تحمل البعد التاريخي، بجمالاته وابداعاته، وتستنبط فيه رموزاً مشعة لأجيال في طريق التكوين.
بعض الشعر العامي يشبه رقصة الأفعى او سكرة الموت. في شعر "أحباب" اصالة نفسية تتوسل الانسان بعقليته الأخلاقية الجديدة، وبوعي أفضل للحياة والكون. بهذه النفسية يتحول الموت الى فعل حياته، وتصير الحياة عطاء دائم العافية. الضروري فيها قليل من النسيان، والاساسي ترويض الخلايا على الاستمتاع باسترارية التذكر.
وكم راق لي الا يكون في "احباب" مكافأة على موقف، او تزامن في رد جميل، ولا هو قصائد فارغة من المضمون والفحوى، بل فيه "خطيئة" شاذة محيية، فجاز من يطفح بالخطايا المميتة، اذ التصق بالانسان في قيمته ووجوده، شاطره العرق والدم والخبز، كما شاطره الكلمة، مرادفاً للنضال من أجل البقاء. إن أتعس الشعراء من لا يستطيع مشاطرة الآخرين.
وفيه أيضاً تحد لزمن يسير القرفصاء، ويدعي انه في مواجهة تيار المألوف والاعتيادي، ومعه تفاجئك، بين الحين والآخر، في بنية القصيدة، هزهزة خفيفة، لا تنم عن خلل، بل تكتنفها شفافية شعرية، اشبه ببطاقة فضية مفتوحة على نوافذ الشمس، تدعوك الى ربيع دائم الروعة والجمال، ليس فيه مسحة كآبة أو مجافاة او سلبية.
أما قيل: الكلام من صفة المتكلم؟ وإذا كان "أحباب" في بعض خواصه، يفتقر الى القلق والتوتر والغموض الشعري المتأجج الذي يستدعي الكثير من التأمل والتعمق للكشف عن خصوصيته ومزاياه، فإن الذي يشفع بهذا النقص هو هذه المرونة الطبيغية البريئة التي تعطيه نكهة مميزة، والتي تجعل من المناسبة امتداداً أبعد من القول وأوسع من مساحة الذكرى.
يا شربل بعيني، لتكن لبعض الشعر فساتين تتطاير في مع رياح الزواريب، وليبقَ شعرك معمداً باللهب الانساني، فيشتعل ويحرق عتمات الدروب.
**
العرس لمين؟
التلغراف ـ 22/7/1994
ـ1ـ
عرس العطر للورد.. عرس لمين؟
سكرت معو ع الصوت دعسات السنين
ومن فوق وجّ الليل غنّالو القمر
وعربش ع كتف الضو عقد الياسمين
خيالو مرق ع الدرب، زقّفلو الحجر
تخمين وعّى الأرض ورتاحت إلو تخمين
يمكن صحي، وطل بعيونو ونطر
موّال ع شفاف الدني من زمان
يجمع صدى، ويلم همس العاشقين
ـ2ـ
وفاق الصباح.. وقال للشمس طلعي
من ضلاع صدري وحيّكي شال الهوا
طفّي عيون الليل، وتمشّب معي
وع مفرق الغيمات نتلاقى سوا
ون عيطولك ترجعي لا تسمعي
الشمس اللي رجعت ما بقي منها النوا
برموش عيني تعمشقي، لا تفزعي
غلي بقلبي كيف ما دارت معك
لولا غرامك، كان قلبي ما وعي
ـ3ـ
وغاب الصدى.. إيام هالدنيي صدى
وزهور ع خدود الندي تنقط صور
من زْمان مرقت، ما عرف فيها حدا
وحنّى صابيعا وكحّل جفونا القمر
وكان الحلم.. صار شربل ع الهدا
ينغّم قصيدة حب ع شفاف الوتر
يرش الشمس ع الحرف ويهجّي المدى
ـ4ـ
ون كان من كتر الفرح صار البكي
شلال بـ عبّ السما زينه وحلا
من وين بيطل الهوى؟ ومين الذكي
اللي مدّ ع جناح السما وصلة صلا
ولمين يا حلوه اصطفيت التكتكه
إلا لشربل والقصيده الصارخه:
إنتي الغلا.. إنتي الحلا.. انتي الهلا
ـ5ـ
يا أهل هاك الريح.. هالعتم احترق
لا تركعوا أهل المحبّه وتركعوا
هالتاج يللي بالسما زمّ ومرق
بالحب بدنا نكبّرو ونوسّعو
ونغزل صدانا نجوم بكفوف الورق
وع كل غيمه وكل صوت نطلّعو
ومن حد هاك العاصفه لولا انطرق
باب الوفا.. ع الميلتين بتفتحو
إيدين شربل ـ يا هلا ـ وإنتي معو
**
رسالة من مسقط رأسه
بطرّام في أول تشرين أول 1992
أخي وصديقي شربل:
تحيو محبة وإخلاص، إذل تعبّدت طريقها في دمي، أرجو متمنياً نقلها الى الوالدة الحبيبة أم انطون، والى اخوانك والعائلات، داعياً الله ان تكونوا جميعكم على خير ما يرام صحةً وعافية ونشاطاً.
ولا أنسى راهبات العائلة المقدسة المارونيات في مدرسة سيدة لبنان، إن لهن مركزاً خاصاً في وجداني. وكذلك سائر الأصدقاء.. لهم جميعاً تمنياتي القلبية الطيبة.
عزيزي شربل:
في اليوم التالي من وصولي قصدت الصديق عصام حداد الذي قال لي انه لم يفاجأ بوصولي، إذ سبقني اتصال هاتفي منك. تبلغت الرسالة، وبلغته بدوري تمنياتك ورغبتك. البنت لم تكن موجودة في جبيل وجوارها، واتفقنا على موعد آخر يسبقه اتصال هاتفي. كنت في السراي عندما وصلني هذا الاتصال الساعة العاشرة من قبل ظهر الثلثاء في 22 ايلول، ليكون تسليم الجائزة في احتفال تخريج مدرسي ، وطلب مني القاء قصيدة، وعدته خيراً، اذا كانت المناسبة أدبية، وذهبت إليه الخميس، فإذا الحفلة للأزياء والرقص والمعارض وما شابه، فرفضت الاشتراك، وانتظرنا وصول الفتاة لأسلمها الجائزة ذلك النهار، فكانت للمرة الثانية غير موجودة، واتفقنا ان يتصل بها ليبلغها أمر وجودي، فتتسلم جائزتها في مكتبه في احتفال يقتصر على وجود بعض الأصدقاء والشعراء، وحتى هذا التاريخ لم يحصل هذا الاتصال. سأقوم بدوري بما يلزم وأخبرك كل شيء.
من جهة موضوع كامل، ارجو تبليغه انني سلمت الرسالة الى ابن عمه في الأشرفية، وطلبت منه أن يحضر الغرض، واعطيته عنواني وارقام الهاتف في بطرام واميون وبيروت، وحتى هذا التاريخ لم يتنازل احد ويتصل بي، وسأعاود انا شخصياً الاتصال، وسأبلغه عند عودتي بكل ما يجد.
لقد أنهيت هذا الأسبوع أعمالي الخاصة. بعضها نجح وبعضها إما للنجاح وإما للفشل. الحالة أمنياً أفضل بكثير مما كانت عليه. الخوف من الحاضر والقلق على المستقبل هما سيدا الموقف، ولقد رفضت الدخول في أي حوار سياسي مع أي طرف، كما رفضت دعوات عدة لأغراض أكثرها مبطنة.
انا أرفض الاستغلال كما ارفض الانجرار لأي تيار، وخاصة في هذه الحال التي اقل ما يقال فيها انها حال قلقلة مغلفة بالانطوائية والتمييع. اسود اسود كل ما يبدو من الملامح.
هذا كل ما عندي. اكرر تمنياتي القلبية وسنلتقي خلال اسبوعين باذن الله.
نعيم خوري
**
بعض
مقالات وقصائد
شربل بعيني
عن نعيم خوري
بحيرة ضوّك
بمناسبة صدور ديوان (بحيرة الضوء ـ 1991) للشاعر نعيم خوري.
ـ1ـ
بْحَيْرِةْ ضَوَّكْ.. صَارِتْ بَحْرْ
عَمْ بِتْغَسِّلْنَا مْوَاجُو
وْلَوْ مِنَّكْ مَا كَان الْفَجْرْ
نَقَّانَا بْزَحْمِةْ هَـ الْعُمْرْ
تَا يْضَوِّي فِينَا سْرَاجُو
ـ2ـ
بْحَيْرِةْ ضَوَّكْ.. وِسْعِ الْكَوْنْ
شْطُوطَا بِتْلَوِّنْهَا شَمْسْ
بْتِشْرُقْ مِنْ عِنَّا.. مِنْ هَوْنْ
مِنْ مَطْرَحْ مَا صَفَّى اللَّوْنْ
يْزَوْزِقْ بُكْرَا بْوَهْج الأَمْسْ
ـ3ـ
حْرُوفَكْ.. قَالُوا عَنْهَا: نْجُومْ
بِنْيِتْ فَوْق الْوَرْقَه بْيُوتْ
مَفْرُوشِه كِلاَّ بِعْلُومْ
مِنْ دُونَا مَا فِينَا نْقُومْ
مْنِمْشِي.. وْعَ الْحَارِكْ مِنْمُوتْ!!
ـ4ـ
يَا خُورِي.. الْـ صيَّرْت الشِّعْرْ
حْكَايِه.. وِالْغُرْبِه أَوْطَانْ
وْصِرْت تْكَحِّلْ عَيْن الدَّهْرْ
بْحِبْرَكْ.. مَا أَشْرَفْ هَـ الْحِبْرْ
اللِّي تْعَمَّدْ فِيهْ الإِنْسَانْ!
**
بين المتنبي
ونعيم خوري
صَحيح أن الشاعر نعيم خوري، ما زال ينتظرُ الخُرافة في كتابه "وكيف يزعل القمر"، ولكنّه، في الوقت نفسه يمتشق سيف الحقيقة، يتظلَّلُ شمسَ الْجُلْجُلةِ، ويُمَصمصُ سرابَ الهجر، ليتغلَّب على كلّ الخرافات، ويحفرَ هذا الإهداء الوفيَّ "إلى من كانت أجمل ما في الحياة، وأحلى ما في الحبّ" عَلَى وُرَيقةٍ شَمخت في ديوانه وتباهت.
أَضيعُ، وأنا أَقرأُ شعر نعيم، فالجمال الفني عنده، يسحر الألباب، يفتن النَّظر، ويجبرني على التَّنقلِ بين رياضه المُزهرة، دون إدراكٍ، وكَأنَّني مسيَّر وَلَستُ مُخيَّراً.. وصدق الأستاذ كامل المر حين قال: إن أسلوب نعيم خوري يحاكي أسلوب المتنبي.. وَهَا أنا أشرَحُ ما رمى إليه كامل بحوارٍ أسطوريٍّ بسيط، مطعَّمٍ بِأكادِميَّة سَمْحةٍ، تعانقتْ فيه حكم المتنبي والخوري، ليدرك القارىء.. كيف ولماذا تحاكى الأسلوبان؟!
ألحِكَم
ـــــــــــــــــ
إشتهر أَبو الطيِّب الْمُتَنَبِّي بحكَمِه الكثيرَة، الَّتي عاشت وتعيش على ألسنة الناس بعفويَّة نادرة، وَلَولا حِكم المتنبي، لكانَ واحداً ليس أَكثر، من أُولئكَ الشُّعراء المصطفّين على أبواب الرزق، المتناسلين كالأرانب، الجشعينَ كالذّئاب، الموجودين في كل عصر، الثرثارين حدَّ القرف.. ولَكانت لغتُه اجترت نفسها قبل أن يجترها قلم، وَلَما نُقِشَتْ على نار هو انا كما يقول الشاعر نعيم خوري:
كل اللغات على نار الهوى نقشت،
إلا اللغات التي يجترها قلمُ
وَلَست أدري لماذا تخيَّلْتُ المتنبي حَياً يرزق، يتَجَلْبَبُ عباءته، يُسرجُ فرسـه، ويُيَمِّمُ وجهه ناحيــة "غرانفيل"، ليسأل الشاعر نعيم خوري عن الحبيبة الغائبة الحاضرة، التي أهداها في أقلِّ من سنتين أَربعةَ دواوين شعرية.. وكيفَ يعيش بدونها؟ .. فيجيبه الخوري:
إن كنت أكتم في العينين ولولتي
فإنّما الحبّ، أحلاه، بِما كَتَما
فتمتلىء عينا المتنبي بدموع حبسها لسنوات، ويجهد في استرجاع قواه وذاكرته، ويهتفُ:
حَبيبٌ كأن الحسنَ كان يحبّه
فآثرهُ أو جار في الحسنِ قاسمُه
ولكنّه يخجلُ من نظرات نعيم الواثقة المثقّفة، إذ أنه لـم يقل هذا البيت لحبيبته، بل لسيف الدولة الحمداني.. ويُدرك أن الخوري لن يرحمه في مديحه الوصوليّ هذا، فَيعود إلى محاورته بانكسار، ويسأله عن الحبِّ، هلْ هو حقيقة، أم مجرّد أحلام؟ .. فيجيبه نعيم:
وأوّل الحبّ أحلامٌ، وآخره
صوتٌ يطنّ على الدنيا ويسرقها
يتنهد المتنبي للحظات، يردِّدُ البيت عدَّةَ مرّات، ثم يخرج وريقة رثَّةً من زنّار جبّته وهو يتمتم: "هذه إحدى رسائل حبيبتي، عمَّة سيف الدَّولة، التي أبعدتني النَّميمة عنها.. لعن الـله الحسّاد، وعلى رأسهم أبو فراس الحمداني.. كم كان عفريتاً هذا الشّاعر، وكم سعى لدى ابن عمّه ليحرمني لقاءَ حبيبتي.. بربك، أليس هذا كفراً؟. فيطيِّبُ نعيم خاطره بحكمة بريئة تفسِّر نفسها بنفسها:
عُصْفُورَتانِ، على غصنين ما التهتا،
إلاّ وزقزق عفريتٌ على الشَّجرِ.
فيهدأ المتنبي قليلاً ويقولُ: أنا لستُ متضايقاً من ثرثراتهم، ولكنها هي سبب ضيقي، فلقد ماتت وأنا في منفاي.. أفٍ كم أنا حزين".. وَكَمْ يَحْلُو لِي القول:
إذا اعتاد الفتى خوض المنايا
فأهون ما يمرُّ به الوحولُ
فيحتضنه نعيم بمحبّة ويهمس في أذنه:
قّدْ قيل في الضيق، بعض الضيق مختبرٌ
للعنفوان.. وبعض الضيق للفرجِ
ولكنك، يا نعيم ، قال المتنبي، تعيش في عصر غير عصري، وتتعامل مع ناسٍ غير ناسي، وطموحك قناعة عكس طموحي. نحن ، يا صديقي الشاعر، كنا نعيش على الفخر، نتباهى به، نسترزق منه، نوظّفه لأغراضنا، أَلَمْ تَقرأْ ما قلت:
الخيل والليل والبيداء تعرفني
والسيف والرمح والقرطاس والقلمُ
بَلَى قرأته، أجابه نعيم، وقرأت أنه سبَّب في قتلك أيضاً.. فينتفض المتنبي ويصيح:
وما كل سيفٍ يقطع الهام حدّه
وتقطع لزْبات الزمان مكارمه
ما بِك، يا سيِّد الشُّعراء، قال نعيم، إني أراك سريع الغضب، هوِّن الأمور تفرج. فيتزايدُ غضب المتنبي ويزمجر:
مَنْ يَهُنْ يسهل الهوان عليه
ما لجرحٍ بميِّتٍ إيلامُ
عندئذ أدرك نعيم، أن عليه واجب الترفيه عن ضيفه، فقدّم له فنجان قهوة مرَّة وسيجارة، وأسمعه آخر ما كتب:
إني ألفك منديلا على لغتي،
لا يفهم الحب لوطيّ ومنحرفُ.
فقهقه المتنبي طويلاً وصاح:
كل شيء من الدماء حرام
شربه ما خلا دمَ العنقودِ
وَمِنْ أَيْنَ أنت؟ سأله المتنبي وتابع: دعني أخمِّن.. من لهجتِك وعُنفوانك، يتبيّن لي أنك من الكورة..
وَمن بطرام بالذّات، قاطعه نعيم.
فاحمرت عينا أبي الطيِّب، وانتقل إلى عالـم آخر، كأنَّ غيبوبة لفَّته، أو وحياً نزل عليه فجأة.. وما هي إلا لحظات، حتى انتفض صائحاً: لماذا لـم يؤمنوا بي وبنبُوَّتي... ولماذا حاول أهل "النخلة" جارة "بطرام" سفك دمي.. لقد حاولت شرح عقيدتي ولـم يأبهوا بي.. ألـم تقرأ ما قلت:
ما مُقامي بأرض نخلة إلا
كمقام المسيح بين اليهودِ
لا تصدِّق، يا نعيم، تفسير الدكتور عبد الوهَّاب عزّام، من أن "النخلة" هي "دار نحلة" الموجودة في الشام.... إنها واللـه "نخلتكم" وقد شيَّبني أهلها، ونكَّلوا بي بسبب نبوَّتي الكاذبة، على حـدِّ تعبيرهم.
رسم نعيم ابتسامة هزءٍ على شفتيه وقال:
كم نبيٍّ قبلَ تاريخ السَّما
قد خلقناه بحرفٍ أبجدي
حتّى أنت يا بروتس، صاح المتنبي، وَربِّ السَّماء، لأركبنَّ فرسي وأرحل، ولن ترى وجهي بعد اليوم:
أبداً أقطع البلاد ونجمي
في نحوس وهمّتي في سعودِ
لا تغضب، يا سيِّدَ الشعراء، قال نعيم: ولكننا في مهجرنا هذا لا نراوغ، سلني ما شئت شرط أن تبقى في ضيافتي، فزيارتك تاريخيّة، ومسامرتك سعادة.. وصدِّقني إذا قلت: إنك حصدت من المجد والشهرة ما لـم يحصده نبي.
فانفرجت أسارير المتنبي، وقال: هات كتابك الأخير لأتصفّحه، ولأصطاد بعض حكمه..
... خبّأته في العيون الشهلِ ساهمة،
ما أجمل الحبّ سرّاً ليس ينفهمُ
رائع يا نعيم، وأروع منه هذه:
... سَلي جمالك، إني لا أجرّحه،
هل يجرح الضوء إلا حين يحتجبُ؟
وكم كنت أتمنى لو كنت القائل:
... فَأَجمل الصيف أن يرخي ضفائره
لتمسح الحَرّ، أو تجتاحه السحبُ.
عظيم يا ابن الكورة عظيم.. بربك لا تقاطعني، دعني أتلذَّذ:
... الحبّ مثل الريح، لا يرتاح منغلقا،
وأجملُ الحبِّ أن يسمو وينطلقا.
هذا الشعر يحاكي شعر أبي النواس، وإن تشامختَ حكمةً:
... لا ينتقي الإلماسُ إلا ما يشابهه
أو يعشق الدرّ إلا صنوها الدرر
وهذا يحاكي شعري أنا، وإن قلتَه بعد ألف سنة ونيّف:
... أحلى الشموع إذا ضوأتها نزفت،
ولا تضيء شموعٌ لا تذوب ولا..
أما هذا فأقرب ما يكون إلى شعر أبي العتاهية، ولكنه أقرب إلى النفس من ذاك:
... فإن تحوَّلَ رب الحبّ طاغية
ينسى الإله، وتنسى شكله الكتبُ.
بأبي أنتَ وأمي، لو لـم أكن أقرأ في كتابك، لقلت إن هذا البيت لضرير المعرّة:
... ما عدتُ أغبط في الدنيا سوى صنم
طاغٍ على الأرض.. إلا أنه صنمُ.
أمّا هذا، فلا يحاكي شعر أحد، إنه نسيج وحده، أقدر أن أتنشَّقَ منه رائحة الحرّية التي تتمتعون بها في مهجركم الأسترالي. ولو خُيِّرتُ بين البقاء ميتاً، والعودة الى الحياة، لاخترت العيش بينكم، فلا شيء يشدّ الشعر إليه كالحرية.. وصدّقني ان لا ممالك للشعر، لا من النيل الى الفرات، ولا من سيدني إلى بطرّام، فكل عين تقرأ هي مملكة الشاعر، وكل قلب ينبض هو جنة الشاعر، وكل عقل يستوعب هو حلم الشاعر.. وإذا كنت تكتب بالعربية، فهذا لا يعني انّ شعباً معيّناً تفرَّدَ بك، إنك للناس، بكل طبقاتهم، بكل لغاتهم، وإن لـم تكن هكذا لَما جئتُك اليوم. إلى اللقاء، يا عزيزي نعيم، فلقد حان وقت رجوعي.. إلى حيث البكاء وصريف الأسنان.
والآن، عزيزي القارىء، ألا تقول قولي، بأنَّ الاستاذ كامل المر، رئيس رابطة إحياء التراث العربي كان على حق حين قال: إن أسلوب الشاعر نعيم خوري يحاكي أسلوب المتنبي... حِكْمةً .. بَلَى واللـه.
المصادر :
1- وكيف يزعل القمر ـ نعيم خوري ـ منشورات دار الثقافة ، سيدني 1994
2- ديوان أبي الطيِّب المتنبي ـ شرح الدكتور عبد الوهّاب عزّام ـ دار الزهراء 1978
3- المتنبي .. شاعر يجلو مقلتي نسر ـ محمد زهير الباشا ـ أميركا 1993
4- شعرنا الحديث .. إلى أين ـ الدكتور غالي شكري ـ دار الآفاق الجديدة 1978
**
فلينعم بك نعيم الآخرة
ـ1ـ
مَكْسُورَةٌ هِيَ الأَشْعَارُ
كَقُلُوبِ مُحِبِّيكَ..
وَكُلُّ الأَوْزَانِ الشِّعْرِيَّةِ مُنْتَفِضَةٌ
وَثَائِرَةٌ..
أَشْكَالُهَا الْهَنْدَسِيَّةُ تَغَيَّرَتْ
رَغْمَ مُعَارَضَةِ الْخَلِيلِ وَاحْتِجَاجاتِهِ..
صُرَاخُهَا يَصُمُّ الآذَانَ
وَمَا مِنْ مُصْغٍ إِلَيْهَا.
إرْفَعْ يَرَاعَكَ عَلَماً تَتَبَنَّاهُ..
أُنْصُبْ أَوْرَاقَكَ خِيَماً تَسْتَظِلُّهَا..
إِرْمِ صَوْتَكَ نَهْراً تَرْتَوِي مِنْهُ..
مَا خَانَتْكَ الأَوْزَانُ يَوْماً،
فَخُذْ بِيَدِهَا.
ـ2ـ
غِيَابُكَ أَذْهَلَ الْغُرْبَةَ،
لَفَحَهَا بِوَجَعِ الإنْتِظَارِ،
أَقْعَدَهَا عَنِ التَّفْكِيرِ،
فَرْفَطَ نَظَرَاتِها الْعَطْشَى لِرُؤْيَتِكَ،
وَسَمَّرَهَا عَلَى نَعْشِكَ الطَّاهِرِ
زُهُوراً لا تَذْبُلُ.
ـ3ـ
غِيَابُكَ هَمٌّ جَدِيدٌ
يُضَافُ إِلَى هُمُومِنَا الْحَيَاتِيَّةِ الْكَثِيرَةِ
وَيَتَغَلَّبُ عَلَيَهَا!
كَيْفَ سَنَنْهَضُ وَكَبْوَتُنَا مُوجِعَةٌ؟
كَيْفَ سَنُواصِلُ السَّيْرَ
وَجَمِيعُ الدُّرُوبِ
تَشْمَئِزُّ مِنْ وَقْعِ خطوَاتِنَا؟
حَتَّى زَغَارِيدُنَا بِتَحْرِيرِ الْجَنُوبِ،
جَاءَتْ مَبْتُورَةً..
وَحَزِينَةً!
أَيْنَ زَغْرَدَتُكَ بِالنَّصْرِ
تُلْهِبُ السَّاحَاتِ
وَتُبَلْسِمُ جِرَاحَ الْجَنُوبِيَّاتِ الثَّكَالَى؟
غِيَابُكَ يَا صَدِيقِي نَعِيم خوري..
أَبْعَدُ مِنَ التَّبْرِيرِ
وَأَصْعَبُ مِنَ الْقُبُولِ!
ـ4ـ
يَا أَيُّهَا الْغَرِيبُ عَنْ أَرْضِهِ،
الْمَنْفِيُّ عَنْ مَرَابِعِ طُفُولَتِهِ،
الْمَشْلُوحُ عَلَى مَرافِىءِ الأمَلِ!
مَنْ مِثْلُكَ
تَمَكَّنَ مِنْ مَحْوِ غُرْبَتِنَا؟!
مَنْ مِثْلُكَ وَهبَنَا وَطَناً مِثَالِيّاً،
تَتَطَلَّعُ إِلَيْهِ الشُّعُوبُ؟
بُيُوتُهُ أَبْيَاتُكَ الشِّعْرِيَّةُ..
نَاسُهُ
مَقَالاتُكَ النَّثْرِيَّةُ..
تُرَابُهُ
حَفْنَةٌ مِنْ تُرَابِكَ الْخَالِدِ..
وَحَدَائِقُهُ
ابْتِسَامَاتٌ كُنْتَ تَسْتَقْبِلُنَا بِهَا،
وَتُوَزِّعُهَا عَلَيْنَا،
كَأَحْلَى الْعَطَايَا،
لَحْظَةَ الْوَدَاعِ.
كُنْتَ نَعِيمَنَا فِي حَيَاتِكَ..
فَلْيَنْعَمْ بِكَ نَعِيمُ الآخِرَةِ.
**
أفروديت الشّعر
إلى روح الوالدة فيكي نعيم الخوري
ـ1ـ
خَبُّوا الْقَوافي.. كَسّروا قْلامْ الْحَكِي
أَفْرودِيتْ الشِّعْر.. حان رْجُوعْها
الأَشْعارْ خَنْقِتْ فَارِسَا.. وِالْمَمْلَكِه
عَ شْطُوطْ حُزْنا غارْقَه بِدْمُوعْها
يا سَيِّد الْكِلْماتْ.. فهْمَكْ بَرْمَكِي
خَلِّي الْقَصِيدِه تِنْتِعِش بِرْبُوعْها
عارِفْ أَنا.. عَامودْ أَحْلامَكْ تِكِي
وْرِيشْتَكْ نَزّ الأَسَى مْن ضْلُوعْها
وْمِنْ دُونْها، دْروب الْحَيَاة مْشَرْبَكِه
وْعَتْمات "ماتْيُو" مْعَوّدِه عَ شْمُوعْها
وْأَحْبابْها، وِقْفِت جْمُوعُنْ تِشْتِكِي
رَفْعُوا الْمَحارِمْ.. رَبّعُوا جْراسْ الْبِكي
حَتّى الْقَصِيدِه تِفْتِخِرْ بِجْمُوعْها
ـ2ـ
خَبّوا الْقَوافي.. الْحَرْف شَرْقَطْ نارْ
وِاحْتَرْقِت الصَّفْحاتْ جُوَّا كْتابْها
"فيكي" الْقَصِيدِه تْمَنِّت الأَطْيَارْ
تِنْقُلْ صُوَرْها.. وْتِنْحِني عَ بْوابْها
خِلْقِتْ إِلُو.. طَعَّمْ جبِينَا بْغارْ
وْمِن جَنِّة "بْطُرَّامْ" لَـمّ تْرَابْها
وْوَقت اللِّي فِيها صَارْ يَللِّي صارْ
طَلَّقْ حَياتُو وِانْطَفَى عَ غْيَابْها
خْسارَه كْبِيرِه.. الْكَوْن كِلّو احْتارْ
وْلِبْسِتْ الأَيَامْ بَدْلاتْ الْحِدادْ
وْنَخّ "النَّعِيمْ" يْشِيلْ تِقْل مْصَابْها
**
شعر نعيم خوري
مثقل بالإيمان
صوت المغترب ـ العدد 2018 ـ 25/3/1993
تحسّه، وأنت تسافر معه في وجعه الحزين، انه يعمل المستحيل من أجل إسعادك، وترطيب أجوائك بندى محبته.
قساوته على نفسه، يبررها صمته المثقل بالايمان، وهو يترنّح على شاطىء العاصفة، وكأنه "يعيش حالة نفسية وعاطفية مضطربة، يتخذ معها موقفاً من الوجود، من ناسه، من قضاياه والاشياء"، على حد تعبير الاستاذ انطونيوس بو رزق، او كما يقول الاستاذ جوزاف بو ملحم: "انحنى للحزن فتعمد بالدموع".
وانا اعلم علم اليقين مدى اتساع شاطئه، وسرعة تحرك رماله.. لانني عشت تحرك رماله، وحالات جزره ومده، لحظة بلحظة، وانتفاضة بانتفاضة، وانحساراً بانحسار:
أنا لولاك لم يكن لي أمسي
ولا كان لون الحب لي غدا
ألا يوجعك اعتراف نعيم خوري هذا، ويوقفك امام صراحته مبهوراً كالفراشة بالضوء؟
ألا يذكرك رثاؤه لرفيقة عمره، برثاء الخنساء لأخيها:
غداً أصفف أيامي على وجعي
حتى تُعَتَّقَ أزمانٌ وأدهارُ
ولا أغالي إذا قلت إنه تغلّب عليها، وبزّها بأشواط، من ناحية تصويره لحالاته النفسية، التي صورت له، بحد ذاتها، اللا معقول معقولاً:
كأني أرفرف فوق الضباب
ويبكي ويضحك
حبي معي
أضم الضباب
أضم السحاب
أضمك أنت إلى أضلعي
كلام كهذا لن يقوله إلا عملاق شعري، عمّده الوجع، رغم ترفّعه، بدموعه:
ملامح صوتي استرقت اليها
وذابت عليها مآقي السهر
شتاء هنا، وصيف هناك
ونحن الرحيل.. فأين المفر؟
يقول رسول حمزاتوف: "على الكاتب أن يصغي الى نبضات قلبه قبل أن يعقد قرانه على موضوعه".
وأقول بدوري: ان الشاعر نعيم خوري لم يصغِ الى نبضات قلبه، لأنه كان القلب والنبضات في آن واحد، ولم يعقد قرانه على موضوعه، لأنه كان الموضوع بكل أبعاده.
به فقط، يصح قول سفيرنا الدكتور لطيف أبو الحسن، في مقدمة ديوان "سفر الوجع الحزين": "يحاور الموت ويحتفل بالحياة".
ولا أذيع سراً إذا قلت ان تلك المقدمة كتبت قبل وفاة المرحومة "فيكي خوري" بسنتين ونيّف، فكيف عرف سعادته ان القدر سيدخل نعيم خوري كهف يوليسيس ليحاور الموت حقاً، وليحتفل بالحياة؟".
وبما انني أؤمن بأن ناقل الكفر ليس بكافر، سأنقل إليكم العبارة البعيدة المدى، التي سجّلها جوزاف بو ملحم على غلاف "صمت على شاطىء العاصفة": "مرّات تقول الحمد لله، ان ماتت زوجته قبله، وإلا لكانت ماتت..".
وأترك للقارىء فلسفة هذه العبارة، لأنني مجبر على إعادة قراءة ديوانيْ نعيم خوري الأخيرين، مرة ثانية، وثالثة، ورابعة.. لأن لا أحد يقدر أن يتذوق شعره ما لم يعد إليه عودة الطفل الى حضن أمه.
**
نعيم خوري في قال صنين
شاعر له قلب يطوف على الدنيا
الوفاق ـ العددان 5 و6 ـ حزيران وتموز 1986
حين ابتدأ شاعر العرب الأكبر ابو الطيّب المتنبي، يلقي الشعر في بلاط سيف الدولة، وقلوب الشعراء الباقين تتلظى على جمر الحسد، ولد، باعتقادي، الحسد الشعري، الذي لولاه، لما وجد فن الهجاء، ولما مدح عبد سيىء ككافور الاخشيدي.
وكي لا أكون كاذباً، شعرت بشيء من هذا الحسد، إثر اطلاعي على الكتيّب الذي صدر عن دار الثقافة للطباعة والنشر، للشاعر نعيم خوري، بعنوان "قال صنين"، والذي قدّمه الأديب كامل المر قائلاً: "من صلابة صخر صنين، ومن عليل هوائه، وطيب رياحينه. من قدسية وطن الأرز، ومن صفاء انسانه، اشتق الشاعر نعيم خوري كلماته، واستمد معانيه، فكانت لنا رائعة "قال صنين".
وبالطبع، فلقد أجبرتني هذه الرائعة على الانحناء امام خيال شاعر له قلب يطوف على الدنيا:
أنا منه قلب يطوف على الدنيا
وزند مشمر بنّاءُ
يخطف الوعد خاطري فلهيبٌ
في حنيني وفي الضمير إباءُ
دون أن تقدر هذه الدنيا على احتضان جنونه الواعي:
يا جنون الرياح بعض جنوني
يتبناه في الورى العقلاءُ
او اقتفاء خطواته الثابتة:
موجة الوعي تقتفي خطواتي
في زمان طغى عليه الغباءُ
او مضاعاته عظمة، وهو ابن صنين الجبل الأشم الذي:
نصفه يحضن البحار ويزهي
نصفه الآخر العلى والسماءُ
ويكفي نعيم خوري في "قال صنين" انه صفع غربته "وشد أذنها"، وأخذ ينظر بازدراء الى كل من يعتقد ان غربته كانت فألاً حسناً يجب أن لا يتخلى عنه أبداً:
أنت شعبي وموطني وملاذي
لا تلمني، فليس عنك بديلُ
والذي يجعل اغترابي حلماً
أن حبي محصّنٌ مأمولُ
ولكي يؤكد صحة كلامه، نراه يعدنا بالرجوع، ويحدد موعده:
يوم لا يفسد انتماءنا حقدٌ
بربريٌ ومارقٌ مرذولُ
يوم لبنان يسترد هداه
وعلاه، وتطمئن العقولُ
وحتى لا تبعده الايام عن مبتغاه، نراه يستنجد ببلاده، علّها تمده بالعون والامل وتحقق بعضاً من أحلامه:
شخب الجرحُ.. فانهضي يا بلادي
واغزلي الحلم والعبير ستائر
فتخيّلوا معي شدة هذه الصرخة، وكم عانت حنجرة الشاعر إثر اطلاقها، وفي نفس الوقت تخيّلوا صورة نهوض بلاد بأكملها وسط زغاريد أبنائها المقيمين والمغتربين، وقولوا لي: أليس هذا حلم كل انسان لبناني، حمل ثقل السنين فوق منكبيه، ومشى على طرقات القدر غير عابىء بما ستحيكه الاقدار من مآسٍ، همه الوحيد السير بقوة ايمانه فوق مياه البحر الذي قال عنه يوماً:
مر كالحلم خاطفاً ورقيقاً
في خيالي وثار فيه العتابُ
نغمة الحب في عروقه تغلي
والهناءات والشذا والرضابُ
ولطالما حاول هذا البحر الطفيلي ان يتحرش به بغية سبر اغواره، وكشف مكنونات صدره الممتلىء بالطموح والتشاوف، وحثه على الاستكانة في غربته، وانرال رحاله، ونصب خيمة طمأنينته، فكان يصده قائلاً:
لا تسلني، جرحي نزيز وروحي
في حروفي وفي الشفاه جوابُ
أنا في غربتي سجين وقلبي
يتلوى وتعصف الاعصابُ
وسجن الغربة، يعتبر من أكثر السجون بداءة، فالرطوبة والعفونة تعششان في جدرانه النتنة، والعناكبُ تغزل خيوطها بين ممراته، بينما الفئران تتسلى بقضم أظافر أرجل نزلائه.
سجن الغربة هو الباستيل" الدائم للانسان اللبناني، كيف لا، وبلاده ما زالت تعاني الأمرين، من ظلم واستبداد حكامها، الذين لا هم لهم، سوى الجلوس الدائم على الكرسي، وزيادة ارصدتهم في بنوك سويسرا، والتلاعب بحياة المواطنين الابرياء:
أين ارض الجدود؟ اين المبادي؟
أين انساننا واين الجهادُ؟
زمر تحكم الشعوب وتبغي
ويراغي أسايدها أسيادُ
وبعد كل هذه الشاعرية الفياضة عند نعيم خوري، أفلا تعذرني، قارئي العزيز، اذا دبت الغيرة في قلبي، وتخيلت نفسي لأول مرة واحداً من شعراء بلاط سيف الدولة الذين حاربوا المتنبي علانية، في حين كانوا يصفقون له تصفيقاً حاداً كلما اختلوا بأنفسهم وشمّروا للصلاة.
**
هل تفاعلت الجالية
مع وفاة نعيم خوري؟
النهار ـ العدد 1364 ـ 8/6/2000
تفاعل الجالية مع حضور أو غياب إنسان مبدع موضوع يطرح نفسه بإلحاح حين خلت الساحة الأدبية من أحد أهم أعمدة الأدب المهجري، ليس في أستراليا فحسب، بل في كافة المغتربات، بعد أن خطفته يد الموت من بين ايدي الكتابة الهادفة، والابداع اللامحدود، عنيت به الشاعر المرحوم نعيم خوري.
فماذا قدمت الجالية لنعيم في حياته، قبل ان نتساءل عما ستقدمه له بعد مماته؟
بالطبع، سيأتي الجواب سلبياً الى اقصى الحدود، لولا بعض الالتفاتات من بعض الأشخاص والتجمعات. مثلاً، لولا حماسة السيد طوني الحلو لشعر نعيم خوري، لما أوجد مكتبة تحمل اسمه، وتحوي مؤلفاته، وقد طالبته مؤخراً بأن يضم إليها كل المخطوطات والشهادات التقديرية التي حصل عليها نعيم في حياته.. شرط أن لا يصيب مكتبة نعيم خوري في ملبورن، ما أصاب مكتبة شربل بعيني في سيدني، التي أنشأها تجمّع المسنين العرب في أوائل الثمانيات، وضاعت مع ضياعه وتوقف نشاطه.
تفاعل الأدباء مع بعضهم البعض.
قبل أن نطالب الجالية بالتفاعل مع المبدع، أياً كان، علينا أن نطالب المبدعين بالتفاعل مع أنفسهم أولاً وثانياً وثالثاً.. واعتقد أن تفاعلاً كهذا في الوقت الحاضر يعتبر من سابع المستحيلات إن لم أقل من أولها، والاسباب عديدة، أذكر منها:
1ـ عدم وجود تجمعات ادبية قادرة على السمو بمبدعينا، منتسبين إليها او غير منتسبين، الى درجات من الرقي الاخلاقي، تجبرهم على احترام الآخر وتشجيعه، وتصويب خطواته الابداعية، ومن ثم التلاحم الكلي معه في السراء والضراء، تماماً كما كان يحدث مع اعضاء الرابطة القلمية في الولايات المتحدة الأميركية، خاصة عندما يتعرض واحدهم للنقد. فيوم هاجم بعض الادباء المصريين جبران خليل جبران على لغته العامية في قصيدة المواكب، انبرى اعضاء الرابطة ومعظم ادباء المهجر في ذلك الوقت، للدفاع عنه والتضامن معه الى ابعد حدود التضامن.
اما اليوم، فها هو الشاعر وديع سعادة الساكن بيننا، يتعرض لأعنف هجوم أصولي من أدباء مصريين أيضاً، بسبب كلمات معبرة كتبها، دون أن نحرّك ساكناً، أو أن نقح قحة احتجاج واحدة، وصدقوني انني، رغم اتصالي به، وعرض خدماتي عليه، ما زلت أشعر بخجل ادبي عارم لعدم تمكني من الدعوة الى مهرجان تضامني معه، يُري من يحب ان يرى، ماذا بامكاننا ان نفعل؟
2ـ التغيب.. كي لا اقول التهميش، عادة سيئة ومزمنة في اوساطنا الادبية والاعلامية، وكأن عبارة الصحافي جوزاف بو ملحم "من ليس معنا ليس منا" قد أسيء فهمها، وفرغوها من وطنيتها، وحولوها الى صرخة ثابتة ما زالت سارية المفعول، ليس على الساحة السياسية، كما ارادها يوم أطلقها، بل على الساحة الأدبية أيضاً.
3ـ التبجح مرض فتاك أصاب معظم شعراء وادباء الجالية، فأينما ذهبت تجد اللعاب يتطاير من أفواههم، وكلمات الثناء على انفسهم تصم آذان مستمعيهم:
ـ أنا وأنا وأنا..
ـ أنا أفضل شاعر في أستراليا.
ـ أنا مسحتهم كلهم في الندوة.
من منا سيلوم أبناء الجالية المساكين اذا امتنعوا عن حضور اية ندوة ادبية يدعون اليها، مخافة ان يصابوا بصداع، تسببه لهم ثرثرات "مبدع" أناني، تسيء الى صاحبها قبل أن تسيء الى من يستغيبهم بغية تحجيمهم.
ومن سيلومنا ايضاً اذا رفضنا، احتراماً لأنفسنا ولأدبنا، المشاركة بأية ندوة يشارك بها هؤلاء المتبجحون، كي لا يمسحونا ويمسحوا الأرض بنا؟
4ـ عدم التشجيع.. وما من أديب مهجري إلا ويشكو من عدم تشجيعه. واذا القينا نظرة سريعة على الندوات التي تطلق بها مؤلفاتنا، لاستلقينا على ظهورنا مقهقهين لقلة وجود "المبدعين" بها، الذين، ان أتوا، يأتون لأخذ صورة في المناسبة، لا لتشجيع صاحب المناسبة.
5ـ الاستهتار: وهذا يحدث عندما يهدي المبدع نتاجه الى مبدع آخر، دون أن يتلقى منه كلمة شكر، وكأنه يريد ان يقول له: لاتنتج بعد الآن.. نتاجك لا قيمة له.
سأكتفي الآن بهذه الأسباب الخمسة كي لا أطيل البكاء على الأطلال، وكي لا أبكيكم معي، لأننا نعيش في عربة لا عدو للمبدع فيها سوى المبدع ذاته!
الإعلام والإبداع:
اعلامنا المهجري لم يقصّر أبداً مع أحد من المبدعين، لا بل حضنهم وقدّم لهم الشهرة على طبق من ذهب. ولولا تشجيع الاعلام المهجري لي لما تمكنت من نشر أكثر من ثلاثين كتاباً، ترجمت بمعظمها الى لغات عديدة كالانكليزية والفرنسية والاسبانية، كمناجاة علي، وألله ونقطة زيت، ورباعيات، وقصيدة حب لأستراليا، وعالم أعمى، وغيرها.
ولولا اعلامنا المهجري أيضاً لما تمكن احد من الكتابة عنّي، وقد وصلت الكتب التي أشادت بشعري الى أكثر من اثني عشر كتاباً، مثل سلسلة شربل بعيني بأقلامهم (سبعة أجزاء)، شربل بعيني ملاح يبحث عن الله، مشوار مع شربل بعيني، الوهج الانساني في مناجاة شربل بعيني، شربل بعيني قصيدة غنتها القصائد، شربل بعيني في مناجاة علي، وغيرها.
ولا أغالي اذا قلت ان معظم هذه الكتب قد نشر في صحافتنا المهجرية بطريقة مشرفة قبل أن يرى النور بين ضفتيْ كتاب.
وبالطريقة ذاتها وأكثر، مدّ اعلامنا يده لفقيدنا الكبير نعيم خوري، ولكل مبدع أثبت وجوده على الساحة الاغترابية، منهم من اشتهر فتواضع، ومنهم من اشتهر فانتفخ ولسان حاله يقول: يا أرض اشتدي ما حدا قدّي!.
اعلامنا المهجري كان راقياً في التعامل معنا، ولم تشُبْهُ سوى شائبتين فقط: نشر نتاج مهجري سيىء للغاية الى جانب النتاج المهجري الجيد، وتفضيل المنقول عن الصحف والمجلات المستوردة على المجبول بعرق غربتنا، وكأن مبدأ (كل فرنجي برنجي) سيقضي على مضاجعنا حتى في أستراليا.
وصدقوني إذا قلت إن نعيم خوري فرح في قبره، ضحكته أقوى من السابق، واشراقة وجهه لتضاهي اشراقة الشمس ضياء بسبب الوداع الاعلامي الراقي الذي حصل له. فلقد نشر خبر وفاته في الصفحات الأولى، وامتلأت الصفحات الداخلية بدمعات أحبائه.. فألف شكر لصحافتنا، ولكافة وسائلنا الاعلامية المسموعة والمرئية.
تفاعل الدولة مع المبدعين:
إذا شكرنا الاعلام المهجري على اهتمامه بنا، فلن نشكر الدولة اللبنانية، والدول العربية، بسبب تجاهلها الدائم لنا. وكم كنت أمنّي النفس بأن أرى مسؤولاً لبنانياً واحداً يحضر جنازة صديقي العزيز نعيم خوري، ويرمي على نعشه الطاهر باسم الوطن لبنان "تنكة" تافهة لا ثمن لها، اسمها وسام الاستحقاق اللبناني، ويقول له باسم وطنه وشعبه: شكراً يا أبا "ماتيو".
وأعترف هنا، وللمرة الأولى، ان احد السفراء قد عمل المستحيل من أجل منحي أنا ونعيم خوري وسام الاستحقاق، دون أن تصغي له دولته، وكأننا لا شيء، لا شيء البتة، في هذا المهجر البعيد، وكأن دولتنا لا تكرم سوى القتلة وقطاع الطرق ومهربي المخدرات.
نعيم خوري كرّم لبنان الوطن، ولكنه رفض أن يكرّم لصوصه، فأسقطه اللصوص من قائمة المحظوظين المكرمين، متناسين ان ابن "بطرّام" ان الكورة الخضراء، ابن غربتنا، أكبر من حدود مستعمراتهم، وأوسع من تفكيرهم الضيّق. انه وطن بحد ذاته، ومن كرّمه نعيم في شعره، فلقد كرّمه الوطن.
الجالية والمبدعون:
والآن جاء دور الجالية، التي انضم نعيم خوري الى احضانها منذ اربعين سنة وأكثر، ساهم في مد اعلامنا بأدبه وحضوره، وشاركها في لأفراحها وأتراحها، وقد لا أذيع سراً اذا قلت انه كان يكتب معظم الخطابات التيى ألقاها أناس مختلفون في حفلاتها ونسبوها لهم، وهذا ما أسرّ به إلي مراراً.
ولقد كان، رحمه الله، أشهر أقلامها، وكان من حقّه أن يلقى منها ما لقيه نزار قبّاني من أبناء شعبه، يوم حملوا نعشه وداروا به في شوارع دمشق. كما من حقّه ان يشارك 10 آلاف مغترب في تشييعه، وأن يهتفوا باسمه عالياً، حتى تتهافت وسائل الاعلام الغربية والعربية على السواء، وتتناقل الخبر: اليوم مات عظيم من أبناء الجالية اللبنانية في أستراليا.
لماذا شيّع نعيم خوري هكذا؟ حتى أقرب المقربين إليه لم يعرفوا بوفاته!.
لماذا لم يؤخّر دفنه الى يوم السبت، ليتسنى لنا إعلام الجالية وحثّها على المشاركة؟
لماذا كانت جنازة شاعر بوزن نعيم خوري لم تستقطب أكثر من 300 مشيّع؟ فاصرخوا معي إذن: الويل لنا، الويل لنا اذا وافتنا المنية، فلن يشيّعنا أحد على الاطلاق.
تفاعل الجالية مع حضور أو غياب مبدع، مسألة من الأفضل أن لا نخوض بها، حتى لا تعترينا قشعريرة او نصاب بيأس شديد.
**