الطبعة الأولى 2002، الثانية 2010، الثالثة 2019
الجزء الثاني
الجزء الثاني
**
الأب يوسف السعيد: شربل بعيني هزّ المربد الشعري في العراق
الأب الدكتور يوسف السعيد، شاعر عراقي معروف، مؤلفّاته عديدة ورائعة، منها: الموت واللغة 1968، ويأتي صاحب الزمان 1986، وطبعة ثانية للتاريخ 1987، وغيرها. جاء من السويد، حيث يخدم رعيّته السريانيّة، للمشاركة بالمربد الشعري الثامن في بغداد، فأعجب بقصيدة شربل بعيني المربديّة، وأعترف، كغيره من الشعراء، أن شربل بعيني قد هزّ المربد الشعري الثامن بقصيدته الشهيرة "أرض العراق أتيتك".
ولدى مراجعتي لبعض كتبه، وجدت إهداء مكتوباً بخط يده على الصفحة الأولى من ديوانه طبعة ثانية للتاريخ، الذي أهداه لشربل يوم التقاه في العراق عام 1987، يثبت صحّة ما قلته سابقاً.. والإهداء يقول: "شربل بعيني.. صوت صارخ في بريّة الشعر، منادياً اجعلوا طريقه مستقيمة. مبارك هو شربل الذي هزّ اليوم ألفي شاعر في مربد بغداد الثامن".
وما أن رجع إلى السويد، حتى أرسل في 14 كانون الأول 1988، رسالة إلى شربل، أقتطف منها الآتي:
"العزيز جداً الشاعر شربل بعيني المحترم
مودّة شاعريّة طيّبة..
تنساب كلماتك بتؤدة فوق طرس الكلمة في جرائد المهجر، أستشف ذلك من جريدة صدى لبنان التي وصلتني. كنت رائعاً جدّاً، ونفسك الأدبي أصيل، طالع، واكتب، وانشر. رجاء زوّدني بدواوينك كي أكتب عليها وعنها ما يريحك ويريحني. أيّامنا في بغداد والمربد ولقاءات حميمة مع الشعراء لن تنّسى إطلاقاً".
وبناءً لرجائه، زوّده شربل ببعض مؤلفاته، فأعجب بها الأب الجليل أشدّ الإعجاب، وكتب عنها دراسة أدبيّة بعنوان "الشاعر شربل بعيني نقاهة لمجتمع مغترب"، نشرتها له جريدة صوت المغترب في 19 أيار 1988، العدد 987، وها أنا أعيد نشرها كاملةً نظراً لأهميّتها:
"إلتقيته للمرّة الأولى في بغداد، في المربد الثامن للشعر، طويل القامة، في بؤبؤيه علامات جرأة أدبية نادرة، صوته عالٍ ليس فيه امتداد، الجملة تأتي شفّافة على شفتيه، وبصلابة يتكلّم، وينتج بسخاء، كأنّه النبي الذي أرسله اللـه إلى شعبٍ، وهو بينهم نذيراً وبشيراً، يعطي دور النقاهة لأولئك المعذّبين في معامل أستراليا، مسحوقين من فرط ضجيج المطرقة والسندان، وضوضاء الآلة، في معامل صناعيّة ضخمة، وهي لا ترحم إطلاقاً، ولا تراعي شعور عاطفة الإنسان، الإنسان، من أي جهة جاء، ومن أي مكان انطلق، وإذا عُدّ الشعراء في أستراليا على أصابع اليد، فشعراء العروبة أقلّ من ذلك بكثير، والشاعر لا يحكم، ولا يعمل بأوامر تصدر إليه، هو الذي يرغم القصيدة أن تخرج من حجالتها، وتعطي قوة، وصلابة، وراحة، لكلّ المعذّبين، لا سيّما عمّال شلحتهم الغربة على سواحلها البعيدة. لا سيّما أستراليا التي التهمت كل المسافات، بعد أن جرّدتهم من اللغة، والتقاليد، والطعام، والعادات. كل شيء لا يشبه لبنان.. من ذلك المنطلق البعيد، صرخ يناغي ويناجي، ويستنجد الطبيعة لا الناس:
خبّيئيني، يا بلادي، تحت شالِكْ
واسكبيني ضوءَ شمسْ
كي أشيل الليل من قلب رجالِكْ
وأقيم كلَّ يوم حفلةً ساهرةً
فوق الحواجز والمعابرْ
وأمام كلّ حبسْ
وعلى وجه الطفولَه
أرسم الحلْمَ المسافرْ
وردةَ حبٍّ خجوله
وأناشيدَ، وهيصاتٍ، وعرسْ..
والشعر عند شربل بعيني، ليس أهزوجة زجل فقط، ولا ذبذبات حفلة فيها روائعه، فهو شاعر، واللغة الزجليّة فيها مسحة من الأصالة، والتجديد، والسمو:
وكنت ع بابِك وقفت سْنينْ
حامل كمنجه وباقة رْياحينْ
تا كيف ما تروحي وتجي ع البيت
غنّي لْعُيونِك أجمل تْلاحينْ
وشربل لا يحتقر نفثات يراعته، وما تنزّ من شفرتيها، يحتفظ بكل شيء، ويقدّمه إلى القارىء الذي يكنّ له كل محبّة ومودة واحترام، وقد جمع كل ذلك في كتب، عليها مسحة من الأصالة، والجودة، والعطاءات الفكريّة الرائعة. وهو إذ يحرّك أقلام المهجريين، يعطينا رسماً آخر، ونكهة أخرى.
وإليكم ثبتاً بقائمة مؤلّفاته: مجانين، الغربة الطويلة، مراهقة، قصائد مبعثرة، إلهي جديد عليكم، مشّي معي، رباعيّات، من خزانة شربل بعيني، كيف أينعت السنابل؟، من كل ذقن شعرة، قصائد ريفيّة، أللـه ونقطة زيت، يضاف إليها ثلاثة أجزاء من شربل بعيني بأقلامهم، لمعدّه الأستاذ كلارك بعيني.
يده تنقل إلينا ما ينسجه عقله، هو المتكىء في مجالس الشعب، ويقهقه على الزمان، وسراجه لا ينضب زيته، ولا تنطفىء فتيلته.
شربل بعيني، يبقى المدماك ، الحجر الذي رفضه البنّاؤون، فأصبح رأس الزاوية، العازف على قيثارته قصائده، ليريح شعباً حذفه الوطن إلى السواحل البعيدة.
أكتب، ففي شعرك عزاءٌ تقطف ثـماره من فردوس الروح".
إذن، فشربل بعيني، بنظر الأب الدكتور يوسف السعيد، هو الحجر الذي رفضه البنّاؤون، فأصبح رأس الزاوية. هو المدماك، وهو المتكىء في مجالس الشعب، العازف على قيثارته قصائده، ليريح شعباً حذفه الوطن إلى السواحل البعيدة.
هذا هو شربل بعيني، الذي سراجه لا ينضب زيته، ولا تنطفىء فتيلته. ولو لـم يكن هكذا، لما حُظي بكل هذا الإهتمام الأدبي من كافّة أقطار المعمورة. وما أظهرته، حتى الآن، لدليل قاطع على صحّة ما أقول.
وفي رسالة أرسلها بتاريخ 17 نيسان 1988، نرى أن الأب السعيد بدأ يغوص بروحانيّات شربل، إثر استلامه ديوان أللـه ونقطة زيت، الذي تُرجم إلى الإنكليزيّة، وإليكم ما كتب:
"العزيز وقرّة العين شربل بعيني المحترم
مودّة طيّبة، أطيب من المنّ الصباحي..
استلمت رسالتك، مع كتابين أللـه ونقطة زيت، وشربل بعيني بأقلامهم، رقم 3، وشكراً مع فائق إمتناني. إنك عبارة عن دينمو استمراري، إنك جزء حي من حركات الفلك. بارك اللـه فيك، وأخذ بيدك، تعمل وكأنّك أكثر من شربل، وتقف على ضفة النهر، فإذا أنت وحدك، وإنّما رجل الدنيا وواحدها من لا يعوِّل على رجل. نبضك يتحوّل إلى أنباض. أصابع يدك أكثر من خمسة. تعمل كخليّة نحل، غير مبالٍ، ولا هيّاب. بوركت، ومباركة هي غلال إنتاجك. قمحك مبارك، وبيادرك حلّ فيها أكثر من ملاك ليسامر إمرأة منوح.
أللـه ونقطة زيت، وجدانيّات، مع وجوديّة صارخة، ونقد للـه، وليسوع، وللإنسان. ولولا نقد عمر الخيّام ما تذوّقنا شعره، وتقبّلناه بهذه الرحابة العالميّة. وتستطيع أن تنتقد اللـه، وتعارض يسوع، لكنك لا تستطيع أن تنتقد راهباً، أو راهبة، أو قسيساً. رجاء حاول أن تبتعد عن ممارسة العنف في قصائدك. لكن أدبيّات الزجل أكثر حريّة من الشعر الكلاسيكي.. واللبناني يغرق بحر اللـه باعتراضاته، وبشكوكه، وتأوهه. أكتب، أكتب، أكتب، الجالية في كل مكان تتنفّس من رئة واحدة، والأديب يتنفّس برئتين، ويجعل القارىء يحسّ بحريّة الراحة، وهو يلتهم قصيدة في غربته. ولولا الشاعر لكانت سماء الإغتراب بلا مطر، ولا غيوم، ولا سحب. الشاعر وحده يجعل القارىء أن يحس، وكأن السماء قد ازدادت زرقةُ جمالها، وبانت أخّاذة ورائعة. هل تعلم أن الشعراء سيحكمون هذا العالـم؟، في زمن يتعب فيه صوت البندقيّة، ويختفي من مجالس الناس السيف، والخنجر، والسكين. وحده الشاعر يستطيع أن يوحّد طبائع الحيوانات في طبع واحد، فينام الدبّ مع الجمل، والأسد مع الثور.
إذاً، مباركة هي شفرة يراعك، وأرجو لك الإستمراريّة والعطاءات الكثيرة، ولا يغريك صوت الدرهم، لئلاّ يقال عنك ما قاله المعرّي: وما أشقى من راغب في ازدياد.
لتظلّ يدك على سكّة الفدّان، واحذر أن تتراجع، ونحن بكل هواجسنا معك".
وبما أن الأب الدكتور يوسف السعيد مغترب مثلنا في بلاد السويد، نجده يكثر من المفردات الإغترابيّة، التي نرددها دائماً، كالإغتراب، والجالية، والسواحل البعيدة، والمهجريين، والغربة، والمعامل، وضوضاء الآلة، والمهجر وغيرها. كما أنه لا ينسى المال، السبب الثاني في هجرة الناس، بعد الإضطهاد طبعاً، فيحذّر شاعرنا من إغراءاته الكثيرة، كي لا يقال عنه ما قاله المعرّي. وبما أن شربل بعيني أبعد ما يكون عن المادة وإغرائها، طالبه أبونا السعيد بأن يكون الفلاح الماهر الذي يفلح حقله، ويده دائماً وأبداً على سكّة الفدان، كي لا يتعرّج الثـلم، وتتشوّه الحراثة.
ومن كثرة شوقه للقاء شربل، طلب منه في رسالة أرسلها بتاريخ 5 تموز 1988، أن يراقب ويراجع دعوته إلى المربد التاسع، ولـم يكن يدري أن شربل قد أخذ قراراً بعدم المشاركة، وإليكم بعض ما كتب:
"إن هذا العالـم لا يغذّيه سوى قلم كاتب أصيل مثلك. فاكتب، ولتكن شجاعتك كشجاعة قدّيس، أو كنبيّ حاولوا طرده من المدينة، أصرّ على البقاء، فرجموه، فكانت دماؤه حبراً أبدياً للخلود.
سنلتقي في المربد لتاسع، وعليك أن تراقب وتراجع دعوتك. هل لي أن أقول لك، مدفوعاً من حبّي وغيرتي والتأمّل في مستقبلك؟. ترى ماذا تكتب؟.. ما ترسم؟.. وكيف تسوح تلك البلاد القصيّة؟.
آمل أن أسمع صوتك، أيّها العزيز مار شربل، قدّيس أستراليا، وطيورها الجميلة".
ولـم يكتفِ الأب السعيد بتشبيه شربل بـ"قديس أستراليا وطيورها الجميلة"، بل شبهه، مرة ثانية، في إحدى رسائله المؤرّخة بتاريخ 22 أيلول 1988، بـ"الشاعر الأيل"، والتشبيه، كما تعلمون، مستوحى من مطلع المزمور القائل:
كما يشتاق الأيل إلى مجاري المياه،
كذلك تشتاق نفسي إليك يا أللـه.
ولو لـم يكن مطلق هذه التشبيهات كاهناً، لكنت أول من يستغربها، رغم روحانيّتها ودفئها. وإليكم نهاية رسالته:
"آمل أن نلتقي في يوم ما في إحدى النوادي التي تملكها الجالية، لأقرأ شعري، وتقرأ زجلكم الرائع جدّاً.
بقدر ما يتقلّص ظلّ الأدب، بقدر ما تكون هناك حلاوة فيه. والأدباء نادرة هذا الزمان والقارورة الغالية الثـمن.
سنلتقي، أكتب إلي. أنا قصيدة ظمآنة إلى ينابيعك أيّها الشاعر الأيل".
ولـم يُخفِ الأب السعيد إعجابه بدراسة ابن بلدي محمد زهير الباشا، فراح يكيل الإطراء له في رسالة أرسلها لشربل بدون تاريخ:
"وصلني، واستلمته مع الشكر، كتابكم شربل بعيني ملاّح يبحث عن اللـه، بقلـم المحلّل الأدبي الرائع محمد زهير الباشا. والكتاب في تحاليله رائع، ومشوّق، وأخّاذ، وربّما كان مصدر تنفيس للمؤلّف الكريم، حاملاً على شفرتي يراعته غضبه من دنيا يعيشها، ولا يجد من يحترم مقدّسات هذا الوطن الكبير الذي أنجبنا. شكراً لكم، وأجزل الشكر للمؤلّف الجليل.
أنتم نقرة على طبلة الإغتراب، ونبضة مشلوحة على أوتار الكلمة، تعيدوننا إلى عالـم واقعنا ونحن على ضفاف الإغتراب، وشعركم بالعاميّة أشدّ فصاحة وتعبيراً من الفصحى".
إعتراف الأب السعيد بأن شعر شربل بالعاميّة أشدّ فصاحة وتعبيراً من الفصحى، لـم يكن الأول من نوعه، فلقد سبقه إليه الأستاذ حسن درباس عام 1983، يوم كتب في جريدة النهار المهجريّة، العدد 348، أن لغة شربل بعيني العاميّة "فيها بلاغة تفوق فصاحة أصحاب علم الكلام المهجري".
في التاسع والعشرين من شهر حزيران سنة 1990، أصيب الأب السعيد بالدهشة حين وصله ديوان أحباب، وسبب دهشته كانت رسوم الفنان جورج حدّاد التي زيّنت الكتاب، فلنقرأ ما كتب:
"دهشة الحرف الواقف بين يديك أنموذجاً حيّاً مشرشراً كزغاليل إضمامة من نور بهيج، يتسلّق شعفات من جبال العاطفة الرقيقة في يراعتك الذكيّة، مسافراً عبر الدروب الجبليّة، رابضاً كلبوة جميلة ترمق الوهاد والشعاب، تراقب الطرق خوفاً على أجرّائها.
كنت ذكيّاً في أحباب، ديوانك المولود جديداً. مباركة هي حروفك، ومبجّلة هي عباراتك الشعريّة ذات الجرس الرقيق.
شربل.. تأخّرت عنّي، تأخّرت في إطلالتك، تأخّرت في إرسال قوافل حروفك. تأخّرت حتّى في غيابك عنّي، وعندما ينقطع عنّي صوتك فكأن القارة الأستراليّة كلّها قد انفصمت عن هذا الكون.
أصبت بدهشة صارخة، وأنا أتصفّح ديوانك. اعتقدت جازماً أنني أنا الذي خطّطت هذه التخطيطات في ديوانك، وأخيراً وجدت إنها لجورج حدّاد. آمنت الآن بالتقمّص الذي تنبجس ينابيعه من أصابع الفنّان، جورج حدّاد هو حتماً شقيق روحي، ربيب نفسي، وإلاّ من يستطيع أن يميّز تخطيطاتي من عروق خطوطه".
كم كنت أودّ، لولا ضيق المجال، أن أنشر جميع رسائل الأب الدكتور يوسف السعيد إلى شربل بعيني، كونها تختلف اختلافاً جذرياً عن باقي الرسائل التي وصلته. فالروحانيّة الدينيّة تعطّر كل حرف من حروفها، وبخور شاعريّته يتضوّع على صفحاتها بإباء زائد، ليعطيها رائحة اغترابيّة نادرة، ستبقى وحيدة في عالـم الكلمة.
**
من السودان واليمن مع أطيب التمنيّات
يعتبر السودان من أكبر الدول العربيّة، وأكثرها عرضة للطوفان وللمجاعة، وفي نفس الوقت يعتبر من أغزرها إنجاباً للشعراء. وقبل أن أطلعكم على رسائل أحد أبناء السودان العظماء، التي أرسلها لشربل بعيني، وبها يخبره عن الطوفان والحرّ الشديد، وعن الشعر والأدب. أودّ أن أعرّفكم به، لتعلموا رسائل مَن نقرأ، وآراء مَنْ نناقش. ومَن أفضل من الدكتور الشاعر تاج السر الحسن ليعرّفنا عن نفسه؟ كما جاء في هذه الرسالة التي أرسلها لشربل، في العشرين من كانون الأول 1988:
"تحيّة طيّبة وبعد،
بمزيد من السرور تلقّيت رسالتك الرقيقة. ماذا أقول لك عن حياتي؟: ولدت عام 1935 بجزيرة أرتولي، من أعمال المديريّة الشماليّة بالسودان. تلقّيت تعليمي الإبتدائي بالسودان، أمّا تعليمي الثانوي والعالي فقد تلقّيته بجمهوريّة مصر الشقيقة، حيث أكملت دراستي بجامعة الأزهر عام 1960، كليّة اللغة العربيّة. صدر لي الديوان الأوّل قصائد من السودان بالإشتراك مع الشاعر السوداني جيل عبد الرحمن، ثـم أصدرت بعد ذلك ديوان القلب الأخضر في جمهوريّة مصر العربيّة عام 1968، عن دار الكاتب العربي. يصدر لي هذه السنة ديوانان من الشعر في بيروت، وكذلك كتاب في النقد الأدبي، عنوانه الإبتداعيّة في الشعر العربي الحديث، وأعمال أخرى في علـم الجمال، ومجموع مقالات في "السياسة والأدب"، وإعادة طبع ديوان القلب الأخضر من دار الجيل بلبنان.
شكراً يا شربل على إهدائك الكتابين لشخصي المتواضع، وقد استمتعت فعلاً بالإطلاع عليهما، وعندما يتم طبع كتبي أعدك بإرسال نسخ منها إليك".
هذا هو الشاعر السوداني الكبير، الدكتور تاج السر الحسن، الذي التقاه شربل في المربد الشعري الثامن في العراق، وهذه هي شهادته بشربل بعد أن استمع إليه وهو يلقي قصيدته المربديّة الشهيرة "أرض العراق أتيتك":
"لـم أكن أصدّق عيني وأنا أتحدّث إلى واحد من أحفاد أساتذتي شعراء المهجر الكبار، حتى أتيح لي اللقاء بالشاعر الصديق شربل بعيني، فرأيت في وجهه البشوش طيبة أهل لبنان. وما أن قرأت قصيدته المربديّة، حتى أحسست فيها بصدق الشاعر، وأصالة التجربة.
لـم أكن أصدّق نفسي أن تتكرّر الغربة مرّة أخرى. ألـم يكفنا نحن أهل الشرق ذلك الإغتراب الطويل المرير؟ لقد اغترب جبران، وأبو ماضي، ولكن أن يغترب جيلنا فذلك أمر عصيب، لن ينقذنا منه إلاّ الشعر، الشعر الحقيقي الصادق، مثل ذلك الذي وجدته في قصيدة الصديق شربل بعيني. تمنيّاتي لك ياشربل: المزيد من الإزدهار في حياتك الإبداعيّة".
وفي رسالة له بتاريخ 30 أيّار 1988، يخبر شربل بعيني عن الأرض الساخنة، وعن سبب تأخّره بالمراسلة، وأنه معجب بالشعر القومي، أي الزجلي، وقد كتب عنه في صحيفة السياسة، وإليكم ما كتب:
"تحيّة طيّبة من الأرض الساخنة، فدرجة الحرارة هذه الأيّام في الخرطوم 47 درجة فهرنهايت، فاعذرني لكسلي في الردّ عليك، وإن كان خطابك العزيز، وقصاصات صدى لبنان بين يديّ لا تفارقني، أقرأ ما سطّرته بيراعك الشاعر.
شكراً لك، عزيزي، على تعريف شخصي الضعيف لدى القرّاء عندكم. كما اطلعت على (ستوب)، ووجدت فيه تلك النبذة التي كتبتها عن شعركم البديع. ولا شكّ أن كتاب شربل بعيني بأقلامهم قد كان جميلاً.
قبل، كتبت عن (الشعر القومي) في صحيفة السياسة السودانيّة، وهذا يعني أنني أحبّ الشعر العامي، ولا أتردد في قبول أي كتاب يصلني منك في هذا الموضوع.
وفي الختام، تقبّل خالص تحيّاتي، وعميق ودي، وشكري وتقديري".
الآن، بدأت أفهم سرّ امتناع معظم الجرائد والمجلاّت العربيّة عن نشر الشعر العامي، وعدم السماح لأي كان بإلقاء قصيدة عاميّة في المربد الشعري. فإذا كان الدكتور السر الحسن لن يتردد في قبول أي كتاب زجلي يصله، فهذا يعني أن الكثيرين غيره قد يرفضون مثل هذه الكتب. أَوَ لـم يؤكّد الدكتور عبد اللطيف اليونس على الصفحة الأولى من الثقافة السورية الصادرة في 9/5/1993، أنه يحب شعر الزجل، وأنه يحفظ بعضه ويرويه، ولكنه، والكلام له الآن: "لست من مؤيّديه، والأصحّ مؤيّدي نشره بكتب، لينوب عن الفصحى ويحل محلها". رغم أنّه أكّد في نفس المقال، بعد قراءته لديوان مناجاة علي لشربل بعيني: "أن أي شعر فصيح لا يمكن أن يسمو على شعور هذا الشاعر باللغة العاميّة".
فإذا كان الدكتور عبد اللطيف اليونس، يعترف أن ما من شعر فصيح يمكنه أن يسمو على شعور شربل بعيني باللغة العاميّة في ديوانه العالمي مناجاة علي، فلماذا إذن لا يؤيّد نشره بكتب؟!.. ولو لـم ينشر شربل مزاميره بكتاب، أما كان اليونس قد حُرم من التمتّع بقراءتها، وحُرم الأدب العالـمي، أيضاً، من الحصول عليها، بعد أن ترجمت إلى عدّة لغات. ثـم مَن قال إن الشعر العامي سيحلّ محلّ الفصحى؟!.. فمنذ التكوين والشعر العامي يسير بمحاذاة الفصيح، دون أي اصطدام، أو دون أن يخيف أحدهما الآخر، أو أن يفكّر بإلغائه.
لقد أرسل شربل العديد من كتبه للدكتور السر الحسن، كونه يطبع كتبه في أستراليا، بينما ينتظر دكتورنا الفاضل صدور أعماله عن بعض دور النشر العربيّة، التي تكثر الوعود، وتقلّل التنفيذ، حتى نفد صبره، فكتب إلى شربل رسالة، بتاريخ 10 تموز 1988، يقول فيها:
"تسلّمت الكتب ورسالتك ضمنها. شكراً لك يا صديقي على هذا الوفاء لأخيك.. وما أجمل غزارة هذا الإنتاج.
أكتب إليك، وقد زالت موجة الحرّ الجهنميّة، وحبانا اللـه بأمطار جعلت الجوّ جميلاً غائماً، يشبه ما لديكم.
كنت البارحة عند بعض الأخوة الناشرين، وسمعت كلاماً جميلاً، وهو أن بعض الأعمال ستصدر، إنشاء اللـه، خلال الشهرين القادمين، وخصوصاً كتاب الإبتداعيّة في الشعر العربي الحديث، الذي حدّثتك عنه بالمربد. أملي كبير في صدور تلك الأعمال، حتّى أقوم بردّ الجميل لك يا أخي شربل العزيز.
أمّا التعليق على أعمالك فأتركه إلى رسالة أخرى. لك عظيم شكري، وفائق تقديري وودّي".
سؤال بسيط وجّهته لشربل بعد قراءتي لهذه الرسالة: هل طبعت كتب الدكتور السر الحسن؟ وهل أرسل لك نسخاً منها؟.. فجاءني جوابه صريحاً ومعبّراً: وهل عندنا دور نشر لتنشر كتب صديقي السوداني؟. وإن وجدت هذه الدور، هل يوجد عندنا قانون لحماية منشوراتها من السرقة على امتداد مساحة دولنا العربيّة؟.. فلقد أخبرني المرحوم نزار قبّاني أن اللصوص سرقوا دواوينه، وطبعوها، وباعوها، دون أن يتمكّن من توجيه الإتهام إليهم، فكم بالأحرى محاكمتهم!!. الأمّة العربيّة، يا رفيق، بحاجة إلى ثلاث عمليّات نفض جذريّة، لتحاكي الأمم المتحضّرة: الأولى طائفيّة، والثانية سياسيّة، والثالثة ثقافيّة.
وفي رسالة له بتاريخ 16 تشرين الأول 1988، طمأن الدكتور السر الحسن صديقه شربل عن أحواله، وأنه وعائلته بخير بعد أن فاض النيل وأغرق العديد من الجزر السودانيّة، وإليكم ما جاء فيها:
"عزيزي الشاعر والصديق شربل..
لك التحيّة والشوق..
لا زالت أفضالك تترى عليّ، فلقد تسلّمت طرد الكتب الأولى، والتي ما زلت أستمتع بقراءتها. وتسلّمت أخيراً مؤلّف الأستاذ كامل المر عنكم، وأيضاً فرحت به واطلعت عليه.. وقد جاءت رسالتك وقد حملت مشاعر الصداقة المخلصة القلقة علينا. وبالفعل، كانت الكارثة كبيرة يا صديقي شربل، ولكننا تجاوزناها والحمد للـه. وقد كان لرسالتك أثرها الطيّب على النفوس. شكراً لك لهذه المشاركة الأخويّة.
نحن بخير، وبيتنا، الحمد للـه، لـم يصب بسوء، وإن تضرّر إخوة لنا كثيرون من الجيران. كما أن أهلنا بالمديريّة الشماليّة واجهوا الكثير من العناء، بعد أن فاض النيل، وأغرق العديد من الجزر، أو كاد يغرق بعضها.
مرّة أخرى لك منّي فائق التمنّي، وخالص الود. إطمئن يا أخي فما زلنا بخير. وإلى لقاء قريب حيث تتيح الظروف معك ذلك اللقاء.
للآن لـم أستلم كتبي من بيروت لأردّ لك الجميل".
إذا كانت رسائل رائعة كهذه لـم ترد الجميل لشربل، فما من كتب ستردّه له يا أخي الدكتور تاج السر الحسن، فلقد كفّيت ووفّيت، أطال اللـه بعمرك، وبرونق قلمك.
والآن، سأنتقل إلى اليمن السعيد، إلى نيويورك العالـم القديم، لنتعرّف على الصحفي اليمني أحمد الأشول، ولنقرأ بعضاً من رسائله لشربل.
وأحمد الأشول، بالإضافة إلى عمله الصحفي، يعتبر من أشهر خطّاطي الأمة العربيّة كافّة، وكان الإعلامي الوحيد في المربد الذي تمكّن من إقناع شربل بإجراء حديث صحفي معه، بعد أن تعرّض شاعرنا لعمليّة ابتزاز مقرفة من أحد الصحفيين اللبنانيين. وإليكم القصّة كما سمعتها من شربل ليلة رجوعه من العراق:
لاحقه أحد الصحفيين اللبنانيين لإجراء مقابلة صحفيّة، تُنشر في إحدى كبريات الصحف اللبنانيّة، وحديث إذاعي يُبثّ عبر أثير الإذاعة اللبنانيّة الرسميّة في بيروت. وكان شربل، في كل مرّة يلتقي بها ذلك الصحفي، يرفض طلبه، ويقول له:
ـ لقد قلت كل شيء في قصيدتي، فما عليك سوى نشرها.
ولكن الصحفي لـم يقتنع بكلام شربل، بل ظلّ يلاحقه إلى أن رضخ للأمر، ووافق على إجراء المقابلة. وما أن أخرج الصحفي آلة التسجيل من محفظته، حتى التفت إلى شربل وقال:
ـ أتدري كم يكلّفني مثل هذا الشريط الفارغ؟. وكم من البطاريّات يجب أن أشتري بعد كل حديث؟.. ناهيك عن ثـمن آلة التسجيل، وعن مصاريف تنقلاّتي، وعن الوقت الذي سأقضيه في تفريغ الحديث وإعادة صياغته..
ـ ولماذا تقول لي كل هذا؟
ـ لا لشيء، فقط أريدك أن تدفع لي 200 دولار أميركي ثـمن أتعابي.
ـ ملاحقتك لي أسبوعاً كاملاً، لـم تكن حبّاً بأدبي، بل طمعاً بمالي.. أما هكذا؟!
ـ كل شيء له ثـمن.. والشهرة لها ثـمن أيضاً.. لقائي معك سيجعلك مشهوراً في لبنان والبلاد العربيّة.
ـ إسمع.. لو سألتني أن أهبك 200 دولار، حسنة لوجه اللـه، لوافقت دون أدنى تردّد، ولكن أن أدفع لك ثـمن مقابلة إذاعيّة أو صحفيّة، فاسمح لي بها.
ـ من عادتي أن آخذ 500 دولار، ولكنني رحمتك كثيراً..
ـ رُح فتّش عن غيري..
ـ طيّب 100 دولار..
ـ سلّـم لي على الشهرة والأخلاق والمناقبيّة الصحفيّة.
وبما أن صوت شربل بعيني عالٍ، ولو تكلّم همساً، فلقد سمعه العديد من المدعوّين إلى المربد، ومن ضمنهم الأستاذ أحمد الأشول، الذي اقترب منه، وهمس في أذنه:
ـ نحن في اليـمن لا نقبض ثـمن أحاديثنا الصحفيّة، هلاّ تفضّلت بمنحي حديثاً غير شكل، وأنا أعدك بتزويدك به، وإرساله إلى عنوانك في أستراليا، متى تـم نشره.
وهكذا توطّدت العلاقات بينهما، كما تخبرنا رسائل الأشول إلى شربل. ومن رسالة مؤرّخة في 17/2/1988، أختار الآتي:
"ممتنّ لك حقّاً على بادرتك النبيلة بالمكاتبة، لأن ذلك لـَمِمَّا تفرضه أصول العلاقة بيننا، وأن أكون الوفيّ نحوك بداية، خاصّة وأنني نشرت مقابلتك، وكان لها صدى إيجابيّ مؤثّر بين أوساط أدبائنا وشعرائنا. وأعتز لرأي البعض الحميم منهم إلى شخصي، الذي أثنى على المقدّمة، ولولا أنني شُغلت، لكنت حرصت على كتابة عناوينها بنفسي.
أرفق مع هذا خمس صور، الخامسة عبارة عن صورة شخصيّة لي التقطت مع إحدى لوحاتي الأربع، التي خصّصتها للمهرجان العالمي للخطّ العربي، والزخرفة الإسلاميّة، الذي سيقام بمركز صدّام للفنون ببغداد، في 24 نيسان 1988، والذي وجّهت إليّ الدعوة للمشاركة به. فإذا استحسنتم نشرها في صحفكم المحليّة، العربيّة أو الأجنبيّة، فسأعتز كثيراً، لأن ذلك سيكون مفيداً، أو رصيداً عظيماً لي أن أدرج عالميّاً في الصحف العالميّة، خاصّة وأن الخطّ العربي، كما هو معروف، يمتاز أو تمتاز حروفه بأهليّتها للتشكيل والتطويع عن سائر الحروف الأخرى.
الأخ شربل، مطلوب رأيك في المقابلة، وشكراً على بادرتك بإرسال المغلّف وما حواه، وإذا ما أتيحت الفرصة بتناول بعض قصائدك، وما قيل عنك، فسأبعث إليك بذلك.
تحيّاتي الحارة، وتمنيّاتي بتجديد اللقاء في أي مناسبة، وفي أي مكان، في الوطن العربي، أو في المهجر، أو المنفى".
وفي رسالة أخرى، أرسلها بتاريخ 2/5/1988، راح الأشول يخبر صديقه شربل عن اهتمامه بأدبه، وأنه مزمع على تسجيل انطباعه عنه في زاوية اسمها "شربل بعيني يقبض على الكلمة"، كما أنه أدرك أن شربلنا لا يحب المجاملة أو الإطراء الذي يطير في الهواء، وكيف لا يدرك ذلك وقد كان شاهداً على ما حدث بين شربل وذلك الصحفي اللبناني في بغداد، وإليكم ما كتب:
"ببالغ السرور تلقّيت المغلّف بما حواه، وازدادت غبطتي لاهتمامك المتزايد في متابعة كل جملة، وتوثيق ذلك في السلسلة اللطيفة، التي هي في نظري، وبحق، مرجع لكل أخ أو صديق يريد أن يعرف شيئاً عن شربل بعيني، وأرجو أن توافيني من جانبك بكل عدد، أو كتيّب يصدر منها، وأنا عازم، إن سنحت الظروف قريباً، أن أسجّل انطباعي عن مضمونها وعنك كتابةً في الجريدة، وقد يكون ذلك تحت عنوان "شربل بعيني يقبض على الكلمة"، أو أي عنوان آخر يخطر في حينه.. وتفسيري لذلك هو كونك لا تحب المجاملة أو الإطراء الذي يطير في الهواء، ولكنك من منطلق إنصاف نفسك وغيرك تقوم بتدوين كل رأي، وهذا هو، في نظري، ما يجب أن يأخذ به الجميع.
نعتذر عن أي تقصير حدث في قصيدتك، وكان بودّي أن تظهر صورتك، لكن للأسف لـم أعثر لك على صورة واضحة. في الأخير، لك كل التقدير والإمتنان".
وبعد انقطاع دام عدّة أشهر، أرسل الأشول، بتاريخ 1/12/1988، رسالة إلى شربل يقول فيها:
"أكتب إليك هذا على استعجال، منتهزاً تواجدي لدى وزيرنا المفوّض، وشاعرنا، وأديبنا، وكاتبنا المسرحي الأستاذ محمد الشرفي، وفوجئت عند أوّل وهلة سلّمت عليه فيها، أن بادرني بالحديث عنك. وحقيقة، وبعيداً عن المجاملة، أقول لك: لا تقطع صلتك بهذا الرجل العظيم.. وقد أخبرته بأنني أرسلت إليك المقابلة في حينه، ومن ثـم فقد قمت أنت بنشر إحدى لوحاتي إلى جانب المقابلة، التي عملت على نشرها بإحدى الصحف اللبنانيّة.
وبالفعل، فقد كان هذا الإتصال، أو التجديد له، عبر هذه الورقة، فرصة ثـمينة للتواصل، واعذروني إذا كان الإنقطاع قد استمرّ أكثر مما ينبغي".
الرسائل كثيرة، ولكن مجال النشر ضيّق، لذلك سأكتفي بهذا القدر من رسائل هذين العظيمين من بلادي العربيّة: الدكتور تاج السر الحسن، والصحفي الخطّاط أحمد الأشول. فمثلما جمعهما المربد الشعري الثامن في بغداد بالشاعر شربل بعيني، جمعتهم اليوم، بعد سنين طويلة، هذه الدراسة الموثّقة التي أكتبها بفرح زائد.
**
جان رعد: زمانك طفل.. يا سابق زماني
عام 1989، جاء الشاعر الزجلي الشهير جان رعد إلى أستراليا، لإحياء عدّة حفلات زجليّة، ولكنّه، ولسوء الحظّ، تعرّض لوعكة صحيّة مفاجئة، أدخل على أثرها المستشفى، فما كان من الشاعر شربل بعيني إلاّ أن عاده، واطمأن على صحته، دون معرفة سابقة، وعرض عليه كل ما يمكن للأخ أن يعرضه على أخيه، فأكبر جان بادرته الإنسانيّة هذه، وتوطّدت بينهما أواصر الصداقة.
ولد جان رعد في بلدة "لبعا" الجنوبيّة، ويعتبر من أشهر شعراء الزجل اللبناني، اشتهر بقفشاته الشعريّة الساخرة، والمفرحة في آن معاً، فلقبّه الشاعر الكبير سعيد عقل بشاعر الفرح. كان أحد أعضاء جوقة زغلول الدامور، وجوقة عائلة الزجل اللبناني، وله ديوان زجلي صدر عام 1987، اسمه هادا الباقي.
لدى خروجه من المستشفى، أهدى صديقه شربل هذه القصيدة، التي كتبها وهو يعاني الألـم، ومع ذلك، جاءت آية في الروعة:
ـ1ـ
يا شربل.. في بشر عن سوء نيّه
بكسر وفتح لعبوا بالهويّه
الـ فَتَحْهَا قال شاعر مجدليّا
الـ كسرها قال شاعر مجدليِّه
في بنت مراهقه كتابك وجدها
بقلبك عايشه.. وشعرَك عبدها
الصبيّه الـ حبّت الروح وجسدها
ما بدها ناس خلقاني لعددها
ما بتفرق التوبه من الْخطيِّه
ـ2ـ
جمال الحبّ من أللـه وجمالو
وكمال الكون من ضلع اللي شالو
ما بين الغنج والسحر ودلالو
في عندك حبّ مستعبد لحالو
وفي عندك حبّ عبد الجاذبيّه
ـ3ـ
يا شربل.. إنت في قلبي ولساني
زمانك طفل.. يا سابق زماني
المحبّه بذمّة الشاعر أمانه
لا إنت بعصر عايز قيس تاني
ولا بعازه لخوتا عامريّه
ـ4ـ
وبتاني كتاب تفكيرك تخلّى
عن الـ صلاّ.. وما عارف ليش صلاّ
بنقطة زيت.. شعب الـ شاف أللـه
لأللـه بقول: شو خالق حياللّـه
يا رزق أللـه ع عصر الجاهليّه
ـ5ـ
رجعت وشفت لَكْ كتاب تالت
بقلبو شي ألف مجنون فالت
مجانين الدني حكيت وقالت:
أمـم من كبر حظّ العلم زالت
قبل ما يزول حرف الأبجديّه
ـ6ـ
وكتاب الرابع: الغربه الطويله
الهدف من هالمهمّه المستحيله
بشعرك ثور.. والثوره فضيله
الوطن شمشون والحاكـم دليله
وشعب مقصوص بمقص الضحيّه
ورغم مرضه، وتحذير الأطباء له من بذل أي مجهود جسدي أو فكري، اشترك جان مع زميليه العملاقين أنيس الفغالي وأسعد سعيد بحفلة وداعيّة، فطلب من شربل أن يعرّفها، وأن يقدّم الفرقة للجمهور. فقدّمها بقصيدة مثيرة، سأنشر منها الأبيات التي أجبرت رئيس تحرير إحدى الصحف المهجريّة على الإستقالة، وكان أخونا قد رفض رفضاً باتاً نشر القصيدة، إذا لـم تحذف منها بعض الأبيات. وبالطبع، فقد رفض شربل حذف أي كلمة منها، وطالب بعدم نشر زاويته الأسبوعيّة، عندئذ تدخّل صاحب الجريدة لمصلحة القصيدة وحريّة التعبير، وبدلاً من أن تنشر في إحدى الصفحات الداخليّة، أطلّت كاملة الإشراق على الصفحة الأخيرة من الجريدة، فما كان من رئيس التحرير إلاّ أن قدّم استقالته. وها أنا أنشر الأبيات التي طالب بحذفها:
شو صايبو أللـه
خلق الدني كلاّ
وقلَّل الشّعَّارْ؟!
الظاهر بمعجنتو
جرّب تا يتسلّى
كاس العرق تلاّ
وما حسّ باللي صار
إلاّ بتاني نهار
من بعد ما كنتو!!
وما أن تطاير زجلنا الشعبي في سماء الغربة، ورقصت الصالة على أنغام الأكف وهيصات المغتربين، حتى التفت جان إلى شربل وقال له ارتجالاً:
بسيدني الشعر مقبل
ولصوبنا مقبل
بمواسمو مسبل
حبّو غني بالمعرفه البيدر
وعبَّى الكتب أفكار
وهالمحبسه اللّي إسمها المنبر
نحنا لها زوّار
ورهبانها الشعّار
وقدّيسها: شربل
عندئذ دبّ الحماس بالعملاق الزجلي الآخر، الشاعر أسعد سعيد، وارتجل قصيدة تنتهي جميع أبياتها بكلمة (بعيني)، إذا قرأناها بإمعان، ندرك أن الكلمة الأولى تعني عين الماء التي نستقي منها، والثانية العين التي نرى بها، والثالثة عائلة بعيني، والرابعة كفّة الميزان:
شربل.. يا عود مألّه الدوزان
فجّرت نبع العاطفه بعيني
شعرك زرع أفراح بالأحزان
شعرك بقلبي.. شعرك بعيني
للزهر مرج وللعطر خزّان
بينطلق من شربل بعيني
ولولا بيحطّوا للشعر ميزان
الدنيّي بعينِه.. وشربل بعينِه
وهذان العملاقان، كما هو معروف، كانا من أقدم وأشهر أعضاء فرقة زغلول الدامور الشهيرة، لذلك أجد أن لا غضاضة من نشر الأبيات التي ارتجلها على الهاتف، كبير عمالقة الزجل الشاعر جوزيف الهاشم، الملقّب بزغلول الدامور:
يا شربل الـ بالفكر عم تبقى
بحفلة وداع منطلب نشوفك
منحب نقشع بيننا حبقه
ما بينّكر بالكون معروفك
يا طبقة الـ ما فوقها طبقه
نحنا بسيدني كلنا ضيوفك
ومنريدك بحفلة وداع تكون
ضيفنا تا تكمل الحلقه
وما أن وصل جان إلى وطن الأرز الخالد، حتى بدأت رسائله تتفتّح كالأزهار بين يديّ شربل، وبدأت محبّته تشع كالشمس، وتتضوّع كالأريج:
"أعزّ الأعزّاء، يا أغلى صديق صادق صدوق، شربل بعيني..
كما انتظرت أنت تأمين وصول الرسالة، كذلك أنا..
أطبع القبلات الأخويّة على وجنتيك، علّها توصل حرارة القلب إليك، وتدبّ فيك حرارة الرجوع، ولو زيارة، إلى هذا الوطن الذي أطفأ نار الحرب، واشتعلت فيه نار الإشتياق لـمن هو أعز وأوفى رسول هاجر، وحمل حرف الكرامة، في بلاد كان عنها الحرف أبعد من الكواكب عن بعضها البعض.
هذا أنت يا شربل.. جئت إلى تلك الجزيرة الكبيرة كبر الطموح، والبعيدة بعد الأمل، لتقول لها: أنا من بلد ليس له مسافات، عرضاً أو طولاً، ولكن له الحرف، وها أنا أحمله إليكِ، لا للمقايضة، ولا للبيع، إذ حاشا أن يباع حرف المعرفة على يديّ أصحاب المعرفة. إنه هديّة لكِ، ولكل عشّاق الأبجديّة التي منها ولدتُ".
الرسالة لـم تنتهِ بعد، ولكنني سأتوقّف عن نشرها، لأنه لا يحق لي الإفصاح عن خدمة بسيطة، قدّمها شربل له، رغم مطالبته بنشر الرسالة بعد موته:
"فيا ليت كتابي هذا ينشر بعد موتي للأجيال القادمة، لتتعلّم الوفاء من الأجيال الماضية".
ومن غير العمالقة يعترفون بالفضل؟.. فجان رعد رفض أن يكون ثالث الذين تكلّم عنهم الأديب العربي الكبير جرجي زيدان، عندما قال بما معناه: الناس ثلاثة، الأوّل يرد جميلك، والثاني يتجاهله تماماً، أمّا الثالث فيقتلك كي يقتل جميلك. لذلك طالب بنشر كتابه إلى شربل، كي تتعلّم الأجيال القادمة الوفاء من الأجيال الماضيّة. فهل من وفاء أسمى من هذا الوفاء؟ وهل من محبّة أكبر من هذه المحبّة؟ وهل من تواضع يضاهي تواضع هذا العملاق الزجلي المبدع؟.. بالطبع لا.
ومن مصر، بلاد المجد الفرعوني والعربي، أرسل جان هذه الرسالة إلى شربل، وأحب أن أنوّه أنها كالرسالة السابقة بدون تاريخ:
"في ذكرى آلام السيّد المسيح، مع آلام الوطن الأم، وعذاب الإنسانيّة اللبنانيّة، وبعد مضي سنتين على فراقنا، وعندما سمحت لي الظروف، جئت بهذه الرسالة لأطبع قبلاتي على وجنتيك المملوءتين ببراءة الأطفال، ووداعة الحمام، وعنفوان الشباب، وخيال الإلهام والعبقريّة، يا أعز شاعر وصديق في ديار الإغتراب، عندي، وبقلبي.
أكتب إليك هذه الرسالة من مصر العربيّة، من مدينة الإسكندريّة، لأخبرك عني أولاً، فبعد أن تركت سيدني، ذهبت إلى أميركا، وبدأت رحلتي في واشنطن، وكانت لي أمسيات شعريّة، لا أقول موفّقة، بل هكذا كانت. ومنها انتقلت إلى فلوريدا، وهناك حصل حادث، نقلت على أثره إلى المستشفى، سببه تعب في القلب، فأشار عليّ الأطباء أن أركّب بطاريّة تساعد على انتظام دقّات القلب، فحملت حالي، وعدت إلى بيروت، ودخلت المستشفى، وأجريت العملية بعد أن وافق الأطباء في بيروت على استشارة أطباء أميركا. والآن، والحمد للـه، الصحّة جيّدة ولا ينشغل لك بال.
ضمنه قصاصة من جريدة الأنوار، التي كتبت عنك بتاريخ وصولي من عندكم إلى بيروت. كما أخبرك أن الكاتبة الصحفيّة والشاعرة الزجليّة القديرة حنينة ضاهر، التي تكتب بالأنوار الصفحة الثقافيّة، هي التي طلبت منّي أن تكتب عنك".
في الأول من أيلول عام 1991، أي بعد ثلاث سنوات من تركه أستراليا، أرسل جان هذه الرسالة المعبّرة والمؤثرة لشربل:
"حبيب القلب، وحبيب الأحبّاء الشاعر شربل بعيني
باسم الكلمة التي حملتها إلى ديار الإغتراب، وكنت أحد القدامسة الذين انطلقوا وتلمذوا وبشّروا بالأبجديّة الشاعريّة، ولا يزالون على عهد المعرفة والوفاء لبلاد أوجدت تلك الحروف منارة تنير الكفيف ليبصر طريق المعرفة.
فيا أخي بالكلمة والعطاء..
ما يقارب الثلاث سنوات، والبعد بيننا لا يزال ينهش مسيرة لقائنا، ويسد الطريق برّاً وبحراً وجوّاً، وصرت أشعر كأن الأرض توقّفت عن دورانها، واستسلمت للعناء والتعب، تاركة الأرواح تسير بالأحلام في عيون الفناء، وبيقظة الأمل تجمعنا، وبذاكرة الماضي نعيش، كأننا على بساط الريح ننتقل نقلة الرجاء باللقاء.
فيا قلبي أكتب، ونُب عنّي بما يوحيه لك الفكر والوحي، على صفحات الورق المنسوج شحماً، ومسطّراً بشرايين القلوب.
أكتب ولا تخف. أكتب لمن يستأهل الكتابة. أكتب لمن يمصّ ذلك المداد بشفتيه، ويطعّم به تلك الألسنة التي لا تعرف إلاّ مرارة الحياة، كأنّها تبشّر بموت المحبّة، ودفن الصداقة، متجاهلة أن لشربل أخاً لا يزال يؤمن بالأخوّة، وشاعراً لا يزال يؤمن بشاعريّة القداسة إسماً وفعلاً".
للـه درّك يا جان على هذا الوفاء النادر، وعلى شاعريّة القداسة التي تتمتّع بها أنت، وتظهر جليّةً في كلّ كلمة كتبتها، خاصّة عندما تكلّمت عن "تلك الألسنة التي لا تعرف إلاّ مرارة الحياة، كأنّها تبشّر بموت المحبّة ودفن الصداقة".
كلّنا إلى زوال يا جان، ولكننا سنبقى كلاماً على ورق، أو أفعالاً يراقبها الناس، فطوبى لمن لوّن الكلمة بأفكاره، وطوبى لمن زيّن الحياة بأفعالـه. وهنيئاً لك ولشربل لأنّكما امتلكتما عظمة الكلمة وطوباويّة الأفعال.
**
حنينة ضاهر: يا أللـه نجّنا من هذا الشاعر المجنون
الشاعرة والأديبة حنينة ضاهر، تعتبر من أشهر شاعرات لبنان، لا بل من أعظم أديباته أيضاً. عملت كمسؤولة عن الصفحات الثقافيّة في عدّة جرائد ومجلاّت لبنانيّة. نثرها لا يقل روعة عن شعرها، كما أن نقدها للأعمال الأدبيّة، يأتي، دائماً، مفعماً بالصدق. وما نفع الكلمة إن لـم تكن صادقة.
تعرّفت حنينة على شعر شربل بعيني، من خلال دواوينه التي حملها معه إلى لبنان الشاعر جان رعد، فما كان منها إلاّ أن أعدّت دراسة رائعة عنها، نشرتها في جريدة الأنوار البيروتيّة، بتاريخ 30 أيّار 1989، ونظراً لأهميّة الدراسة، وعظمة القلـم "الضاهري" الذي سطّرها، سأحاول نشر أكبر قدر منها:
"من بين الكلمات الكثيرة التي نردّدها في مجال التغنّي بلبنان، ومعطياته الجمالية والثقافيّة والحضاريّة و.. و.. و.. إلى آخر المعزوفة المموسقة القافيّة والرنين، كلمة لعلّها الأكثر صدقاً ومطابقة للواقع، خاصّة في الظرف الراهن، الكلمة هي: لبنان إمبراطوريّة لا تغيب عنها الشمس.
هذه الكلمة، أو هذا التبجّح، ورد من زمان، أيام كان اللبنانيّون المغتربون لا يشكلّون عشرة بالمئة من مجموع اللبنانيين، وكان لا يخلو من الحقيقة أو بعضها، فكيف بها الآن، وقد أصبح ثلاثة أرباع اللبنانيين، إذا لـم يكن أكثر، منتشرين في جميع الموانىء والمطارح، ليس بدافع السياحة وحب الاستطلاع، بل للبحث عن مكان يستطيعون فيه أن يذهبوا إلى أعمالهم صباحاً، بدون أن يكتبوا وصيّتهم، ويعودوا مساء إلى منازلهم، وليس إلى ديار الآخرة، أو إلى أحد المستشفيات، أو المصحّات العقليّة.
هذا الواقع الذي يتخبّط به اللبنانيّون منذ أربع عشرة سنة، ولمّا يزل، هو الذي أعطى للكلمة مفعولها الإيجابي على كل شبر من الأرض، ما عدا لبنان الوطن والأرض، الذي أصبح لبنانات عديدة موزّعة على كلّ مكان. فمن النادر، بل من المستحيل، أن تجد مكاناً في العالـم لـم يصله اللبنانيّون. وبقدر ما تكاثر الاغتراب اللبناني، وتنوّعت أسبابه، بقدر ما تعدّدت مناطق الاغتراب، واتسعت رقعته. فقديماً كانت مناطق الاغتراب التي يقصدها اللبنانيّون، تكاد تكون محصورة بين أفريقيا والأميركتين اللاتينيّة والشماليّة. أما الآن فما من دولة في العالـم لـم تفتح أبوابها أمام اللبنانيين".
وبعد أن تخبرنا حنينة عن كندا وأستراليا اللتين أصبحتا محط رحال الأكثريّة من اللبنانيين، تسجّل، كنماذج، بعض الإنجازات الفكريّة في أستراليا، وتبدأ بالتحدّث عن أدب شربل بعيني:
"من أستراليا، ومن مدينة سيدني بالتحديد، بين يديّ بعض المعلومات، وبعض النتاج الشعري. أمّا المعلومات فلقد تلقّفتها عن شفتيّ الشاعر المنبري الصديق جان رعد، إثر جولة شعريّة قام بها إلى تلك البلاد الخيّرة، وما لقيه في رحابها من معاملة مثالية، ورعاية فائقة، ما برح وسيبقى يحتضن دفأها في خلجات الحسّ، ونبضات الوجدان.
أما النتاج فمن ثـمار موهبة الشاعر المبدع شربل بعيني، المغترب إلى أستراليا منذ العام 1971، نزيل مدينة سيدني. النتاج هو أربع مجموعات شعريّة، هي على التوالي: مراهقة 1968، الغربة الطويلة 1985، رباعيّات 1986، وأللـه ونقطة زيت 1988.
قبل الدخول إلى عالـم شربل بعيني الشعري، يجدر بنا أن نعرف من هو شربل بعيني الانسان.
شربل بعيني من مواليد بلدة مجدليّا، شمالي لبنان، عام 1951. أصدر أول مجموعة شعريّة له، وهو ما زال في السابعة عشرة من عمره، بعنوان مراهقة، وقصائد مبعثرة 1970. هاجر إلى أستراليا في أواخر العام 1971. هو أول من أصدر كتاباً بالشعر اللبناني في أستراليا، وقد تناولت جميع الصحف الصادرة بالعربيّة في أستراليا وسواها من بلدان الانتشار اللبناني نتاجه الشعري بالتقييم والتحليل، وشاعريته بالإطراء والتقدير. والمجموعات الأربع التي ذكرتها ليست هي كل إنتاج شربل، بل هناك سلسلة طويلة من أسماء المجموعات التي أصدرها، تتعدّى الخمسة عشر اسماً، بين نثر وشعر. ومن الطبيعي جدّاً أن لا أكون قرأت المجموعات الأربع التي وصلت إليّ، في هذا الزمن الرمادي الذي نعيشه، إلاّ قراءة فوريّة وسريعة، وعلى ضوء ما قرأت بسرعة، أودّ أن أتحدّث عن هذا الشاعر الديناميكي، الذي لا يضيّع لحظة واحدة من لحظات حياته إلاّ مع الشعر وللشعر.
قلت: بسرعة قرأت، وأنا أعرف مسبقاً ما سيترتّب على هذا القول من نتائج، ولكن.. عندما تدخل إلى حديقة وارفة اللون والعبق، ويدغدغ حواسك الأريج، وتسبح عيناك بالخضرة والعطر، هل ستكون بحاجة إلى تفحّص كلّ زهرة على حدة، كي تعطي رأيك باسمها، وخصائص عطرها، وفصيلة دمها، لتقول هذه وردة جميلة؟!.. بالطبع لا. وهكذا الشعر، فإما أن يكون شعراً من الشهقة الأولى، والرشفة الأولى، وإمّا لا يكون.
ومن الرشفة الأولى سأكتفي الآن بالتحدّث عن أللـه ونقطة زيت، النتاج الأخير لشربل بعيني".
إلى هنا، وشاعرتنا الكبيرة ما زالت تعبّد الطريق أمام القارىء المقيم، ليتفهّم ثورة شاعر مهجري، تفجّرت وما زالت تتفجّر داخل كل ديوان أصدره، وخاصّة أللـه ونقطة زيت، الذي ترجمته إلى الإنكليزيّة السيّدة مهى بشارة، وأعيدت طباعته عدّة مرّات. تقول حنينة:
"أول ما استوقفني هو الاسم العنوان أللـه ونقطة زيت. كم هو مثير هذا الاسم، بخاصة في مساحات الشعر اللبناني. وكم يدعو إلى الدهشة والاستغراب: أللـه ونقطة زيت. يا أللـه نجّنا من هذا الشاعر المجنون، الذي يجعل نقطة الزيت تتساوى مع اللـه، أو العكس، ولكن... وعندما نتعرّف إلى فاعليّة وقدرة نقطة الزيت تلك في مضمونها، وماذا بإمكانها أن تحمل.. أو ماذا سيحمّلها الشاعر من مسؤوليّات وأعباء، قد تلغي صفة الجنون عن شربل، أو.. سنبارك له بها".
ألا تقولون قولي إن اعتراف حنينة أكثر إثارة من اسم ديوان شربل أللـه ونقطة زيت؟.. فلقد اعتبرت اسم الديوان مثيراً في مساحات الشعر اللبناني، وهذا ما يتميّز به شربل، إذ أنه يعرف كيف ينتقي أسماء كتبه. وأعتقد أن أسماء جميع دواوينه لا تقل إثارة عن أللـه ونقطة زيت، وبمراجعة بسيطة لتلك الأسماء تدركون صحّة قولي. ولنعد إلى الدراسة:
"شربل بعيني لـم يضع نقطة الزيت هذه في معادلة مع اللـه كفراً، بل.. إنه منتهى الإيمان. فهذه النقطة قد تكون المنظار الذي من خلاله يتجسّم كل ما يلمسه من حوله من ممارسات وتصرّفات وهرطقات، هي أبعد ما تكون عن مفهومه المصفّى للـه والدين والتعامل والوطنيّة. من هنا تنتفض (الأنا) الشاعرة كأعنف وأقسى ما تكون انتفاضة الإيمان الصادق وثورته على كل ما هو دجل ورياء. وشربل بعيني في انتفاضته الإيمانيّة بركان متفجّر، هو يكاد يجرف في طريقه كلّ شيء.
القصائد الأربع والعشرون التي تضمنّها كتاب أللـه ونقطة زيت، تمتاز بالعفويّة والصدق. فشربل بعيني يكتب بتلقائيّة ملفتة فائقة البراءة وكيف ما أراد، بلا خوف وبلا عقد. فالشعر هو صوته، ضميره، هو هويّته الشخصيّة. شعره تفجّرات علويّة تحمل من الأهداف أكثر ما تحمل من الصنعة، ومن الذكاء أكثر من التذاكي. الكلمة على شفتيه غجريّة مجنونة، تنطلق عارية عرياً كاملاً.. تماماً كالحقيقة".
لو لـم تكن حنينة ضاهر شاعرة شاعرة، لما تمكّنت من فهم شعر شربل بعيني كما لـم يفهمه أحد من قبل. ولما تمكّنت من امتلاك صحّة الأحكام وأبعادها، كما امتلكتها حين أصدرت هذا الحكم الواعي، الذي أعتبره شهادة تاريخيّة بشعر شربل: "شعره تفجّرات علوية تحمل من الأهداف أكثر ما تحمل من الصنعة، ومن الذكاء أكثر من التذاكي. الكلمة على شفتيه غجريّة مجنونة، تنطلق عارية عرياً كاملاً.. تماماً كالحقيقة".
أجل، هذا هو شعر شربل بعيني، يحمل من الأهداف أكثر من الصنعة، ومن الذكاء أكثر من التذاكي، ولو لـم يكن هكذا لـما أحببناها، ولـما سخّرنا وقتنا من أجل دراسته والكتابة عنه. وإلى باقي الدراسة:
"غريب هذا الشاعر التصادمي، الذي يعيش في المقلب الآخر من الأرض. أرض المصانع والمادة الجليديّة الحس والذوق والنبض، ومع ذلك، نراه يتفجّر كالشّلال الهادر، وما من شيء يقف في وجهه. يطبع المجموعات الشعريّة، بمعدّل كل سنة مجموعة. يحيي الأمسيات، ينشر في الصحف، وتتلقّف كلماته الناس، كل ناس الاغتراب، كرسائل الوطن وبطاقات العشّاق، وكيف ما كان، فهي أحياناً كسياط من نار، وكماء الزهر ومكاغات الأطفال أحياناً، وفي جميع الحالات تعشّش في الوجدان، وتزهر فوق الوسائد، وهو هو طفل يتفتّح الإيمان في قلبه، وعلى شفتيه تتعثّر الكلمات:
كل شي خلقتو بيحكي عنَّك
عن حبَّك.. عن ضحكة سنَّك
عن هَـ الإيدين المفتوحَه
عن هَـ الخير الفايض منَّكْ
إنتْ الشَّجره الْـ فوق التَّلِّه
إنتْ القمحَه بوكر النّملِه
يا خالق وبتخلَق هلَّقْ
بْرعشة قلبْ.. بزهرة زنبَقْ
مِن دون عْجايِب مِنْصَلّي".
سأكتفي باستشهاد واحد لها من ديوان أللـه ونقطة زيت، لأن ما أود إطلاعكم عليه ليس شعر شربل، بل أجمل ما قيل فيه، لذلك اسمحوا لي أن أنتقل الى خلاصة الدراسة:
"إذا كنت قد اخترت مجموعة أللـه ونقطة زيت كي أتحدّث عنها من بين المجموعات الأربع، التي وصلت إلى يديّ، فليس هذا لأن الثلاث الباقيّة لا تستحق الاهتمام، بل العكس هو الصحيح، فالموهبة المتفجّرة، والإبداع التصويري المبتكر، والوهج الشعري المبهر، والأسلوب المميّز، الذي يتفرّد به شربل بعيني، إضافة إلى صياغة جيّدة، وموقع هو الوسط بين الكلاسيكيّة العريقة والحداثة المنظّمة، التي تعتمد التجديد في الفكرة والموضوع والمعالجة، أي التجديد من الداخل، كل هذه المواصفات التي يتقنها شربل بعيني، ويمارسها في خطّه الشعري، رأيتها موزّعة بين المجموعات الأربع التي ذكرتها، ولكني ركّزت في حديثي عن أللـه ونقطة زيت، لأنني اكتشفت بين سطورها شاعراً مميّزاً بثلاثة أشياء مهمة هي: النضج الفكري والشعري في المعالجة أولاً، والإيمان العميق الواعي المتحرّر من التهويل والهرطقة ثانياً، وثالثاً هذه الثورة العارمة المتفجّرة في كل كلمة وكل حرف وفاصلة في قصائد شربل بعيني، على كل ما هو غلط وفساد وانحلال خلقي، وزيف اجتماعي، ودجل ديني.
شربل بعيني في أللـه ونقطة زيت هو مصلح اجتماعي، أكثر منه شاعر ينظم الشعر للشعر، على وزن الفن للفن، ولعلّه الوحيد، من بين الذين عرفتهم من جيله، الذي يتعامل مع الشعر على أنه رسالة ومسؤوليّة، يتوجّب عليه القيام بها وتوظيفها لإسعاد أمتّه، وإصلاح مجتمعه. فالشعر، قبل أن يكون أحلاماً وتنهدّات، هو رسالة، وعلى الشاعر تأديتها حتّى آخر نقطة من دمه، وآخر صورة شعريّة تتثاءب في خياله".
في نهاية دراستها أطلقت حنينة ضاهر شهادة تاريخيّة أخرى بشربل بعيني، إذ أنها اعتبرته "الوحيد" من بين الذين عرفتهم من جيله، الذي يتعامل مع الشعر على أنه رسالة ومسؤوليّة. كما أنها اعتبرته شاعراً مميّزاً بنضجه الفكري والشعري، وبإيمانه الواعي المتحرّر من الهرطقة، وبثورته العارمة.. وأعتقد، كما اعتقد الكثيرون قبلي، أننا إذا جرّدنا شعر شربل بعيني من ثورته فلا يبقى منه شيء.
من رسائل حنينة إلى شربل، اخترت رسالة واحدة، تتماشى مع دراستها أسلوباً ومعنى، ولكنها تتشاوف عليها شاعريّة، ولو وزّعنا جملها كما توزّع كلمات قصائدنا الحديثة، لحصلنا على قصيدة ولا أجمل، فلنقرأ ونحكم:
"في ذمّة الشعر لك من جوارحي بعض الوشوشات الدافئة. في ذمّة الحبّ لك من ريشتي بعض البوح الشجيّ. في ذمّة الوفاء لجان رعد، الشاعر الصديق، كل الشكر.
جان الإنسان الشاعر، على كبره هو كالنحلة، ما برح يحوم فوق المروج النيسانيّة اللون والعبق، يمتص الرحيق من الأزهار البريّة الطاهرة، فيحوّله عسلاً مصفّى على شفتيّ أنا القفير الصغير. أياديه عليّ المخمل الدافىء هي، كانت دائماً، والآن ازدادت دفئاً. ربّما، إذ حملت إليّ بعضاً من لهاث شاعريّتك العذبة الطعم، الموسيقيّة الرنين. وملأ خيالي الواسع بصورتك المشرقة بالنبل والجمال. بإصرار وعناد وإخلاص، زرعك في مخيّلتي سنديانة سمراء. وما زال، وما زلت تزوّده بالمادّة الدسمة التي تنعش إحساسه بالوفاء، وتحصّن إخلاصه بالخلود، فيحمل إليّ بين موسم وآخر ما يصله من إبداعك المتدفّق، ونتاج عبقريّتك المتألّقة. فحقّ له الشكر، كما حقّ لك خاصّة بعدما قرأت الجزء السادس من شربل بعيني بأقلامهم، الذي ناب عنك بإهدائه لي مشكوراً.
أسعدني كثيراً ما تتبّعته، في هذا الجزء، من مراحل نشاطك الرسوليّ في حقل الكلمة، التي هي رسالتك الشعريّة التي نذرت ذاتك لها. كما أسعدني أن يكون نشاطك المبارك في طريق الجلجلة اللذيذة التي اخترتها، يلاقي هذا التجاوب، وهذا الوقع الموسيقي في عقول وقلوب مواطنيك وقرّائك، وأن يكون لكلمتك هذا الصدى النوراني في الأذهان والمشاعر، وفي هذا ما يطمئن على فاعلية الكلمة الصادقة وخلودها، وشحنة كبيرة من الزخم لاستمرار العطاء.
من بين الأمثال والحكم التي نردّدها واحدة تقول: ربّ ضارة نافعة. هذه الكلمة الحكمة، أكثر ما تكون صدقاً في تطبيقها عليك، وعلى أمثالك من الموهوبين الذين شرّدتهم عواصف الجنون عن مواطن أحلامهم الدافئة، وطفولتهم الهانئة، لتنثرهم نجوماً لامعة، ومشاعل ساطعة في عتمات الغربة، ومناجم الإختبار، فكنتم رسل حضارة، وقدامسة الإبداع الجدد.
ويلات الحروب!! من قال؟! إن للحروب بعض الحسنات، وإن نسبياً، إذ لولا هذه الست عشر من السنوات الرماديّة وعواصفها الهوج، التي حملتك إلى الهجرة، أو هجّرتك، لست أدري. لولاها لبقيت في هذا الحيّز الضيّق من الطمأنينة والاسترخاء الذهني المترف، لـم تتوجّع، لـم تشتق، لـم يمزّقك الحنين، لـم يخنقك الكبت، لـم يحدودب ظهرك انحناء، وأنت تلملم أشلاء أحلامك، وبقايا شبابك عن دروب الغربة، لـم يصهرك الألـم بناره المقدسة، ولـم يفجّر عذابك وحنينك هذا البركان الهادر من الشعر والحب والصدق. أظن، بل أؤكّد، أنك لـم تكن أنت الشاعر شربل بعيني، الذي أتمنّى له استمرار العطاء والتألّق".
أكثر الخصال التي أحببتها بشربل بعيني هي التواضع، أي ابتعاده عن الغرور والتبجّح. وكيف لا يكون متواضعاً وقد أخفى في (أرشيفه) رسائل الإطراء التي وصلته من أدباء لبنانيين وعرب، مخافة أن يخسر صداقة البعض، أو أن يُتّهم بالغرور.
رأي شاعرة معروفة كحنينة ضاهر بشربل بعيني، ليس ملكاً له، بل ملكنا جميعاً، ومن هذا المنطلق نفضت عنه غبار الأيّام، وأطلقته بالريح. وأعتقد أن الرابح الوحيد من كل هذا، ليس شربل بعيني، كما قد يتبادر إلى الأذهان، بل أدبنا المهجري لا غير.
**
الأم الرئيسة والأخت المشيرة.. والنعمة الإلهيّة
الأخت الدكتورة إرنستين خوري، كانت، رحمها اللـه، من أشهر وأتقى مشيراتراهبات العائلة المقدّسة المارونيّات في لبنان. لها ديوان شعري، اسمه مختارات من شعر الأخت إرنستين خوري، جمعته وطبعته، بمساعدة شربل، الأخت كونستانس باشا، يوم كانت رئيسة معهد سيّدة لبنان في هاريس بارك، وأهدتها نسخاً منه في أوّل زيارة لها لأستراليا عام 1985، وقد اعتبرت إرنستين هذه الهديّة أهمّ وأجمل هديّة تسلّمتها في حياتها، كيف لا، ولـم تكن تدري أن الأخت كونستانس تحتفظ، رغم الغربة والبعد، بالعديد من قصائدها، وأنها ستطلقها للنور، وستعيدها، كمفاجأة، للنبع الذي فجّرها، وللعقل الذي أبدعها.
والأخت إرنستين، كما هو معروف، درّست الأدب العربي نثراً وشعراً في الجامعة اللبنانيّة، وتتلمذ على يديها العديد من أدباء وشعراء وصحفيي لبنان المشهود لهم. كما أنها أغنت ديرها بأجمل القصائد والأناشيد الدينيّة والمدرسيّة. إنّها، وباختصار شديد، شاعرة كبيرة، ودكتورة قديرة، وراهبة مشيرة. ولهذا أردت أن أنفض غبار الأيّام عن بعض رسائلها لشربل بعيني، نظراً لما كانت تتمتع به من مكانة أدبيّة ودينيّة في عالمنا الفاني هذا.
وفي زيارتها الثانية لأستراليا عام 1986، أهداها شربل الطبعة الأولى من ديوانه كيف أينعت السنابل؟، فأهدته هذا التقييم الصادق الرائع للديوان:
"السنابل اليانعة تعرف أن تعطي الثـمر، ولكنّها لا تعي كيف نمت، ولا كيف أينعت.
وهكذا شربل بعيني، شاعر الغربة الطويلة وصاحب الدواوين العديدة. ينظم الشعر كما يغرّد العصفور، وتشعّ الشمس بالنور، وتخرّ المياه المنسابة بين الخمائل.
هو رائد من روّاد الشعر الحديث. لا يتقيّد بالأوزان التقليديّة، ولا بوحدة القوافي. يعتمد في النظم على حسّه المرهف، وأذنه الموسيقيّة، وخياله المبدع.
شعره سلسلة إيقاعات تتنوّع بتنوّع الإنفعال، وصوره طريفة خلاّبة تصوّر الواقع، وتسمو به بواسطة الخيال المبدع، ولغته بسيطة واضحة أقرب إلى العاميّة منها إلى الفصحى. تخشن لتستوعب النقمة والثورة، وتلين لتعبّر عن لواعج الألـم والحنين.
واعتماده اللهجة المحكيّة في الكتابة مردّه البعد عن الوطن الأم، وتوخّيه جعل الشعر في متناول الجماهير منهل الوحي وسرّ الخلود.
في القصيدة الواحدة نقع على مقاطع كأنّها سرد حديث صحفي، ولا نلبث أن ننتقل إلى البديع الرائع فكراً وأسلوباً، إيقاعاً وتصويراً. وفوق هذا كلّه تسيطر صورة الفنّان البارع الذي يمس الكلمات العاديّة بأنامله السحريّة فتستحيل أوتاراً وألحاناً.
فإلى الأمام، شاعرنا الموهوب، إلى بناء مدرسة جديدة تعرف باسمك، وينتمي إليها الكثيرون من هواة الشعر الحديث الذين ما زالوا تائهين. إلى التحرّر من قيود الأوزان التقليديّة ولكن لا إلى الفوضى. إلى التزام الإيقاع المتغيّر مع الإنفعال . إلى تخيّر الألفاظ وسلامة التركيب. إلى الجماليّة في الشعر التي لا تتوقّف على الموضوع بل على براعة التصوير.
إلى هذا المستوى أنت مدعو لتكون رائد الشعر الحديث في ديار الإغتراب. وتمثّل بالشاعر والكاتب الفرنسي الشهير "فلوبير" الذي كان يعتني بالجملة كأنّها بيت شعر، وببيت الشعر كأنّه قصيدة. وتذكّر أن الشهرة لا تتوقّف على كميّة الإنتاج، بل على نوعيّته وجودته".
تقييم صادق، ذكّرني بتقييم رائع أيضاً لديوان كيف أينعت السنابل؟، نشره الصحفي المهجري المعروف ميشال حديّد، بتاريخ 30 تموز 1985، في جريدة صدى لبنان العدد 455، ومنه أختار:
"تمينة وحبيبها ليسا إلاّ شخصاً واحداً هو شربل بعيني نفسه، وكم يشبه الشاعر في قصيدة "كيف أينعت السنابل" جبران خليل جبران في عملية استنطاق أبطاله، فقد يتعدد الاشخاص، من حيث الكم والعدد، ولكنهم ينطقون جميعاً بصوت واحد هو صوت الشاعر أو الكاتب، حتّى قيل أن جبران هو البطل الحقيقي لقصصه".
ولأن الكلام الصادق لا يضيع عند شربل، فقد نشر تقييمها هذا على غلاف الطبعة الثانية من ديوان كيف أينعت السنابل؟. وما أن وصلت نسخة منه إلى الأخت إرنستين، حتى امتشقت القلـم وردة وكتبت بتاريخ 28/6/1987:
"بكل سرور استلمت كتابك الرائع "السنابل اليانعة"، وكانت دهشتي كبيرة عندما قرأت على الغلاف مقتطفات من تقييمي لشعرك الحرّ الحديث، مرآة نفسك الشفّافة التوّاقة لتحطيم القيود، وارتياد القمم من كل القيم في عوالـم الحق والخير والجمال.
ما زلت أذكر الأيام التي قضيتها بينكم في أستراليا. كل ما حولي كان جميلاً، ولكنّ نفسي كانت غارقة في بحر الأحزان، وقد وجدت تعزية كبرى بما أبديتموه لي من الألطاف والاهتمام.
أنا اليوم، بالرغم من الفراغ الكبير الذي يملأ نفسي، أواصل تعليم الأدب نثراً وشعراً في الجامعة اللبنانية. والتعليم، صدّقني يا شربل، ساعدني كثيراً في التغلّب على الحزن المميت. إنه عطاء الروح فيه ننسى ذواتنا وعالمنا المظلم، ونطلّ على آفاق جديدة في دنيا الآمال والأحلام. أنت أستاذ، ولا شك أنك اختبرت ما أقول.
أملنا كبير أننا بعد ليالي الحروب الطويلة التي عانيناها، سيشرق علينا فجر السلام والحريّة، فنعود نجتمع وإيّاكم في لبناننا العزيز، لبنان جديد مبني على دعائـم المحبّة والإخاء والحق والعدالة".
وكشاعرة قديرة، راحت الأخت إرنستين تصف ويلات الحرب اللبنانيّة لشربل، في رسالة أرسلتها له بتاريخ 21/2/1989، وتعلن بيأس شديد أن الأخ يقاتل أخاه، والإبن يحارب أباه في لبنان، وأن المراهنين على تفريقنا قد ربحوا الرهان. فبعد أن سمعناها تبّشر شاعرنا، في رسالة سابقة، أن لبنان سيعود، نجد أن كل أحلامها تبخّرت في هذه الرسالة:
"وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر..
وقبل رجوع الأخوات إلى أستراليا بثلاثة أيّام وصلني كتابك، ولمّا نزل نرتجف هلعاً، وندمع أسى لِما سمعناه من دويّ المدافع وانفجار القنابل، ولِما رأيناه من دمار وخسائر في الأرواح والممتلكات شملت العديد من مدارسنا. فرُحنا نسأل ونتفقّد متخوّفين من الأعظم. هذا والقسم الكبير من اللواتي ذهبن إلى الرياضة بقين محبوسات في دير الأم في عبرين، بسبب إغلاق المعابر والتعرّض للأخطار.
هذه هي الحال في لبنان (يا قطعة سما)، حوّلناه إلى لبنان (يا صورة جحيم)، يا بحر العواصف والظلمات، وملتقى القراصنة والطغاة.
ملاّحون نحن تائهون. باسم اللـه نتقاتل ونتخاصم، وباسم الوطن نتعادى ونتقاسم. نفتّش عن اللـه ، ونحوّل وجهنا عن الإنسان أخينا، إبن اللـه، وصورته، وعمل يديه!. نطالب بالعدالة والإنصاف ونغتصب أموال غيرنا. ننادي بالحريّة ونبيع الإستقلال والكرامة بحفنة من المال، أو بمنصب في المستقبل!
آه يا شربل متى تزول الغشاوة عن أعيننا، فنعرف الحقيقة والحقيقة تحرّرنا.
النار تأكل نفسها إن لـم تجد ما تأكله، وفرّق تسد.. لقد ربح المراهنون على تفريقنا، فقد أصبح الأخ يقاتل أخاه، والإبن يحارب أباه. هذا ما جرى ويجري اليوم، فمتى يتراءى المخلّص ليزدجر الرياح، ويقول للبحر: اسكن، اصمت. فيعود الصفاء وينشر السلام. وتعود يا شربل إلى الوطن الذي تركت، لنغنّي معاً نشيد المحبّة في مهد المحبّة".
وبعد كل هذا اليأس المسيطر الطاغي، نجد أن الأخت إرنستين عادت إلى التمسّك بإيمانها، وبثقتها بأبناء شعبها، وبأن لبنان أقوى من الموت، طالما أن هناك شعراء كشربل، صرختهم صرخة شعبهم، وثورتهم شلاّل أمل، فلنسمعها تصرخ:
"لا لن نيأس، ولن نستسلم لأنبياء الشؤم. سنقاوم حتّى النهاية دعاة الشرّ والتقسيم والتباغض. قدرنا بيدنا، ولو دفعنا الثـمن بالأموال والأرواح. سلاحنا إيماننا باللـه وبالوطن. باللـه أب لجميع البشر، وبلبنان وطن للإنسان كلّ إنسان.
سندافع عن مبدإنا وعقيدتنا بأسيافنا وأقلامنا، مقيمين كنّا أم مغتربين، وشعرك يا شربل يرى فيه القارىء صرخة حقّ، ورجع حنين، وإشراقة أمل.
بثورتك على الظلم تثور على الشرّ وتنتصر للخير، وبتوقك للحقّ والجمال تفتّش عن اللـه، ولن تجده إلاّ في سماء نفسك، وقد تنقّت بنار المحبّة لتذوب شفقة على صالبيها، فتهتف مع المسيح: اغفر لهم يا أبتاه لأنهم لا يعلمون ما يصنعون.
فلننسَ الإساءة، ولننادِ بالصفح وبالتسامح، فلا بدّ لليل أن ينجلي، وللصبح أن ينبلج، وتعود من جديد تسطع فوق أرض لبنان شمس المحبّة والحريّة. وتعود يا شربل إلى الوطن الأم ترنّـم بالعود والكنّارة أناشيد المجد والإنتصار".
وبما أن الكلام صادر عن راهبة مشيرة، وصلت إلى أعلى رتبة، بعد الرئيسة، في رهبنتها، وجب عليّ أن ألفتكم إلى عبارات ثائرة وصادقة، وردت في رسالتها، تحارب بها التقسيم، وأنبياءه الدجّالين، دعاة الشر والتباغض، وتؤكّد إيمانها باللـه وبالوطن، شرط أن يكون اللـه أباً لجميع البشر، وأن يصبح الوطن وطناً لكل أبنائه. فهل من إيمان أقوى من هذا الإيمان؟. وهل من وطنيّة أسمى من هذه الوطنيّة؟.
ومع الأخت كونستانس باشا، أرسلت هذه الرسالة بتاريخ 25/1/1991، لتخبره بها عن القصيدة التي ألقتها ترحيباً بالسيد البطريرك نصراللـه بطرس صفير، لدى زيارته التاريخيّة لدير العائلة في عبرين، وتطلب منه قراءتها بتمعّن، وتذكّرها وهو يقرأ، وهذا ما يؤكّد على أن الكلفة بين الأخت المشيرة وأخيها الشاعر قد تبدَّدت كليّاً، كأسراب الضباب، أو كأمواج السراب:
"هي فرصة سعيدة أغتنمها لأكتب لك مع الأخت الحبيبة كونستانس، وقد طمأنتني إلى أحوالك، وبلّغتني سلامك، ونقلت لي ما يفرح القلب عن مدى إخلاصك، وتعدّد نشاطاتك، وتألّق شاعريّتك، وازدياد شعبيّتك. فإلى الأمام يا إبن لبنان البار، نحن بحاجة إلى أمثالك، إلى المجاهدين في سبيل الحقّ والوطن. وأنا كما عرفتني لا أزال على يقيني أن الآلام الكبيرة تصنع الرجال العظام. وأنت أنت، كما عرفتك، من معدن الذهب الإبريز المصفّى في بوتقة المحن. فاللـه معك، والمجد بانتظارك، وإن للحق لا للقوة الغلبة.
أنا ما زلت أعلّم في الجامعة، وهذه السنة كانت متعبة جداً. عشنا تحت القذائف في الملاجىء، نعدّ الأيام والشهور. والآن نعمل لإنهاء برامج السنة الماضية، لنبدأ السنة الجديدة في أوائل آذار، إذا لـم نباغت بما لـم يكن بالحسبان!. وما أدرانا ما تخبّئه لنا حرب الخليج من تطوّرات وانعكسات!.
لقد أرسلت لك مع الأخت كونستانس نسخة عن آخر قصيدة نظمتها في 15 آب، عيد السيّدة، بمناسبة زيارة السيد البطريرك لدير العائلة في عبرين، بصحبة وفد من الأساقفة، وذلك لتقبّل نذور الراهبات. وهذه أوّل مرّة يحضر نذورنا، من أيام العزّ الذي عرفته الجمعيّة في عهد القديس البطرك الحويّك. وكانت مناسبة لنا للتعبير عن الآمال التي كنّا وما نزال نعقدها على بكركي والبطركيّة حاملة مجد لبنان، والقلب ملآن من الآلام والأحزان والمخاوف، ففاضت القريحة ونظمت ما نظمت، وما من أحد من البعيدين أو القريبين إلاّ وطلب الحصول على هذه القصيدة. وكما قالت حضرة الأم العامّة: وزّعنا قصيدتك كما نوزّع كتاب مار أنطونيوس. فاقرأها واذكرني.. وتجد أيضاً بعض أناشيد على ألحان فيروز، نظمناها خاصّة في هذه المناسبة. وأخبرك أيضاً أنني قضيت الصيفيّة في عبرين أدرّس الراهبات الفلسفة، وهنّ الدارسات اللواتي هربن من مختلف المدارس، هربن مثلي من جحيم المعركة، بعد أن تحمّلن الكثير الكثير، واستولى عليّ وعليهنّ الرعب. والحمد للـه تقدّمن إلى الإمتحانات الرسميّة في آخر هذه السنة، أي في كانون الأول، ونجحن كلّهن بدرجة جيّدة. فمن الشعر، إلى الفلسفة، إلى الأدب المقارن، اليوم عدت أعلّمه بالجامعة، أعانني اللـه وإيّاك على القيام باستمرار في هذه الرسالة المقدّسة".
ما أن مرّت أمام عينيّ عبارتها الأخيرة: "أعانني اللـه وإيّاك على القيام باستمرار في هذه الرسالة المقدّسة"، حتّى تذكرت رسالة معلّقة على حائط مكتبة شربل بعيني، وصلته عام 1989 من رئيسة المدارس الكاثوليكيّة في نيو ساوث ويلز يومذاك، المرحومة آن كلارك. وبما أن الرسالة تفسّر نفسها بنفسها، سوف لن أبسّط معانيها التاريخيّة، بل سأنشر ترجمتها لتدركوا كم من الخدمات التربويّة قدّمها شربل لأجيالنا الإغترابيّة دون أن يدري بها أحد. والرسالة تقول:
"عزيزي شربل بعيني
أكتب إليك هذه الرسالة، لأعبّر عن امتناني للوقت وللتعب اللذين بذلتهما من أجل ترجمة كتيّبنا الخاص الذي يشرح كيفيّة التعليم في الصفوف الإبتدائية، والذي سنرسله للآلاف من أولياء أمور طلاّبنا.
لقد كان امتحاناً صعباً لك، لأننا لـم نعطك الوقت الكافي، ومع ذلك قمت بعمل تطوّعيّ رائع تشكر عليه، وفي نفس الوقت سيخبر الأجيال، وبصوت عالٍ، مدى اهتمامك بتربيّة وتعليم الناشئة من أجيالنا.
أنت تعلم، ولا شك، أنك قدّمت لعائلات أطفالنا خدمة، لن يمحوها الزمن".
في كل رسائلها، كانت الأخت إرنستين خوري تدعو شاعرنا للعودة إلى الوطن، تماماً كدعوات الدكتور عصام حدّاد المتتالية له، حتّى تمكّن منه، وأقنعه بالعودة، وكأنها تعتبره، كما اعتبره الدكتور علي بزّي في حديث إذاعي أجرته معه السيّدة ماري ميسي عام 1993، وبثّه أثير إذاعة أس بي أس الحكوميّة، شاعر الوطن في الغربة:
"نحن نعتبر شربل بعيني شاعر الوطن في الغربة، مثلما كان شاعر الغربة في الوطن. حنينه دائم لوطنه لبنان، لمجدليّا، للأرز، لكل شيء هناك. شربل إنسان بشعره، الذي يعالج كل المواضيع الإنسانيّة والحياتية والإجتماعيّة".
لقد لفتني شيء هام في رسائل الأخت إرنستين خوري، ألا وهو تسجيلها التاريخي لوقائع حدثت معها، أو مرّت بها، فمن زيارتها إلى أستراليا، إلى التعبير عن حزنها بسبب وفاة أخيها، إلى وصف ويلات الحرب اللبنانية، إلى زيارة البطريرك الماروني لدير العائلة في عبرين. إلى.. إلى..
دير عبرين، الرابض في منطقة البترون الشماليّة، من منّا لـم يسـمع به، وقد أعطى العالـم أجمع، منذ تأسيسه على يد البطريرك الحويك، أجمل زهرات المجتمع والدين، عنيت بهنّ راهبات العائلة المقدّسة المارونيّات.
هذا الدير، الذي ترهّبت به الأخت إرنستين خوري، ترأسه اليوم الأم الدكتورة فيرونا زيادة. وقد وقعت بين يديّ رسالة منها لشربل، خلتها في بادىء الأمر للأخت إرنستين، ولكن ما أن رأيت الإمضاء حتى أدركت الحقيقة، وقرّرت أن لا أفصل بين الأم الرئيسة فيرونا والأخت المشيرة إرنستين، ولو فصل بينهما الموت، وأن أنشر رسالة الأم بين رسائل الأخت.
والأم فيرونا، زارت أستراليا عدّة مرّات. وفي زيارتها الأولى كمشيرة عام 1987، إذ أنها لـم تكن قد انتخبت رئيسة عامة بعد، وصلت من مطار سيدني إلى قاعة كنيسة سيّدة لبنان لحضور مسرحيّة فصول من الحرب اللبنانيّة، التي ألّفها وأخرجها شربل بعيني، فأعجبت بها أشد الإعجاب، والتفتت إلى الأخت كونستانس باشا، وقالت لها هذه العبارة المعبّرة والمؤلمة في آن واحد: "أنتم تمثّلون فصولاً من الحرب اللبنانيّة ونحن نعيشها".
وبعد رجوعها إلى الوطن، أرسلت بتاريخ 25 تموز 1988، هذه الرسالة لشربل:
"من الوجوه الكريمة التي يصعب على المرء، بعد التعرّف إليها عن قرب، أن ينساها، هو وجهك المشرق البشوش المنفتح أيّها العزيز شربل.
كيف حالك؟ وكيف حال الأهل؟ عساك في الصحّة التامّة التي أرغبها لك من صميم الفؤاد.
إني أذكرك دوماً في صلواتي، وخصوصاً في هذه الأيام، أيّام تمّوز الحارة عندنا والباردة عندكم، ولا أنسى الأوقات الحلوة التي قضيتها معكم في سيدني العام الماضي. عسانا نعود فنلتقي هنا في الوطن الأم في لبنان.
كيف أحوال المدرسة، والتلاميذ، واللغة العربيّة، والشعر؟.. والشاعر ماذا أنتج هذه السنة؟ لقد قرأت ديوانك بتمهّل وتمعّن، واكتشفت أكثر فأكثر شفافيّة نفسك العذبة، التي لا تعرف للعطاء حدوداً. وفقّك اللـه، يا شربل، في كل مشاريعك، وأهداك إلى رفيقة العمر التي تقدّر من أنت، وتكتشفك على حقيقتك، واللـه سميع مجيب.
نحن هنا في لبنان، ما زلنا نقوم بالنشاطات الثقافيّة، ونهتم بالتربية والمستوى رغم كل شيء. إنما أصبحت الحالة الاقتصادية، ويا للأسف، همّ اللبنانيين الوحيد وشغلهم الشاغل. فموضوع أحاديثنا وسهراتنا والنشرات الإخباريّة عندنا، هو الغلاء الفاحش، وصعوبة العيش، والتقنين، والتلوّث، واللحوم الفاسدة، والمواد الكيميائيّة المستوردة السامة، أضف إلى ذلك اليوم، حديث الاستحقاق الدستوري لرئاسة الجمهورية وعدد المرشحين.
لقد سئمنا كل هذا، واشتقنا إلى المجانيّة، والقيم، والشعر، والاستعداد الدائم للعطاء دون أي حساب.. وكل هذه قد لمستها فيك، أثناء ترددي عليكم في سيدني، يا شربل. إنك حقّاً نعمة من اللـه أعطيت لمدرسة سيدة لبنان في سيدني! بارك اللـه فيك، وحقّق كل مرغوبات قلبك.
إني أذكر دوماً ضحكتك الرنّانة المعبّرة عن صفاء ذهنك وروحك المرحة، ولا أنسى نزهاتنا مع الأخت كونستانس العزيزة. كانت فعلاً أيام حلوة.
عذراً على تأخّري في الكتابة، وأرجو أن أكون اليوم قد عوّضت. أعود فأكرّر، بأني لا أنساك أبداً في صلواتي. حفظك اللـه من كل مكروه، وأعطاك ما تريد، وما تصبو إليه".
أطال اللـه بعمرك أيتها الأم الرئيسة فيرونا، فرسالتك اختصرت كلّ الرسائل.. وقداستك ظهرت في كل حرف من حروفها.. ومَن غير الأم الحنون تعترف بعطاء الأبناء، وتعلن دون خوف، إن شربل بعيني نعمة من اللـه أعطيت لمدرسة سيّدة لبنان، التي ترأسها وتديرها وترعاها اليوم الأخت إيرين بو غصن. وقد لا أكون مغالياً إذا قلت: إن ما مدرسة في أستراليا تدرّس اللغة العربيّة إلا ودخلتها كتب شربل بعيني المدرسيّة، وشملتها النعمة أيضاً.
لقد جمعت العائلة المقدّسة بين الأم والأخت من نواحٍ عدّة، منها القداسة، والتواضع، والأخلاق الساميّة، والعلم، والثقافة الجامعة المضيئة التي تظهر في كل حرف من حروفهما.
وفي رسالة، بدون تاريخ، طلبت الأخت إرنستين من شربل أن يستمر في محاربة الظلم بسلاح الكلمة، فهي سيف ذو حدّين، يُحطّم ولا يتحطَّم. لأن لا شيء يعيد لبنان، ويعيد الشرفاء إليه، سوى الكلمة الثائرة الصادقة. فلنقرأ بعض ما كتبت:
"استلمت كتبك الشعريّة الغالية الرائعة، وقرأت على صفحاتها الأولى مشاعرك الصادقة نحو أخت تبادلك التقدير والاحترام والإعجاب، وتعاني ما عانيته بدورك على أرض الوطن وفي ديار الغربة.
إننا ما زلنا نعيش في مهبّ الرياح العاتية، التي تطلع علينا كل يوم من الداخل ومن الخارج. نصارع قوى الشرّ الرهيبة، آملين بالنصر، مؤمنين بأن للحق لا للقوّة الغلبة.
ولكن متى؟ وكيف؟ أللـه أعلم... وهو أبداً سيد التاريخ!... ونحن نردّد مع صاحب المزامير: يقوم اللـه يقوم ويتبدّد أعداؤه. هذا هو إيماننا، وهذا هو رجاؤنا، وما أضيق العيش لولا فسحة الأمل.
سيعود لبنان يا شربل، وسيعود إليه المهاجرون المخلصون أمثالك، ليساهموا في انبعاث الحريّة والعدالة.
استمر على ما أنت عليه من محاربة الظلم بسلاح الكلمة، فهي سيفٌ ذو حدّين، يحطّم ولا يتحطّم.. عسى أن تتحقّق الأحلام ونلتقي قريباً، ونحن متلاقون دوماً في الأهداف والمشاعر والآمال.
أرجو لك موسماً حافلاً بالإنتاج الشعري الثـمين، واسأل اللـه أن يباركك، ويحفظك بعافيته الإلهيّة، فتهون المصاعب، وتتحقّق الأماني.
لك شكر خاص على نشرك قصيدتي في استقبال غبطة البطريرك في عبرين، على صفحات صحف أستراليا. هذا من زيادة حبّك ولطفك".
الأخت إرنستين تتمنّى لصديقها موسماً حافلاً بالإنتاج الشعري الثـمين، وبمراجعة بسيطة لبعض ما قيل بأدب شربل في المهجر، نجد أنه لـم يخيّب أملها على الإطلاق. فها هو الشاعر فؤاد نعمان الخوري يخبرنا في مقال نشره بجريدة التلغراف، العدد 1999، الصادر في 27 تشرين الثاني 1989، أن الشاعر شربل بعيني يتسلّق جبل النضارة:
"ينحو الشاعر شربل بعيني في ديوانه الجديد معزوفة حب منحى متطوّراً، في سياق مسيرته الشعريّة الممتدة على مدى عشرين سنة ونيّف. ولئن كان الإستاذ جوزاف بو ملحم اعتبر في مقدّمته (أن الشعر دار دورته الأولى)، إلاّ أن شربل، برأيي، قد تجاوز نفسه في هذا الكتاب، من حيث اللعبة الفنيّة والومضة الشعريّة، بحيث أراه يتسلّق جبل النضارة، مشملاً، مختصراً، معمّقاً تجربته، دقيقاً في اختيار ألفاظه".
كما أن الدكتور جميل الدويهي يخبرنا في مقال نشره بجريدة صوت المغترب، العدد 1056، الصادر في 23 تشرين الثاني 1989، أن شربل بعيني هو الوعد بالبقاء:
"شربل بعيني الذي أحب ومات وقام وانسحب على المرارة دهراً لا ينتهي.. هو الوعد بالبقاء والإشارة الرافضة لكل الدساتير الملعونة والمتمرّدة على سلالة الأسود العنسي.
شربل بعيني لحظة الوصول حين يقف جلجامش خائفاً من المغامرة.
إنه الإنفلات من دائرة القهر حين يكثر المستزلمون والزاحفون إلى مائدة بيلاطس..
وأن يثور شربل على الظلامية والإرهاب ويطبع كتاباً، تحدٍ وإعلان للقيامة واقتحام جديد للمستقبل.
أن يمرّ شربل بعيني في موّال الكتابة دعوة إلى البقاء حين يريد أحفاد هولاكو أن ينسفوا جسور الحريّة، ويلغموا الشمس بالحقد الأسود.
مبارك الآتي باسم شربل بعيني.. ومباركة ثـمرة شربل بعيني معزوفة حب ومبارك الشعر".
وبكلمات شعرية جميلة يخبرنا الأستاذ أنور حرب، في مقال نشرته جريدة التلغراف، العدد 2674، الصادر في 20 حزيران 1994، أن شربل بعيني شاعر طليعيّ:
"الكلمة الأخيرة لخّصت البعيني: شربل شاعر طليعي، ثوري، ملتزم، توّاق إلى الجديد. شعره نبض يحمل المستقبل، إنه، كما تقول الأديبة طبّاع، عازف ماهر أجاد العزف على أوتار الحياة، فغنّاها بصدق وجرأة".
أما الأستاذ كامل المر فيخبرنا في مقال نشره في جريدة صدى لبنان، العدد 589، الصادر في 29/3/1988، أن خيال شربل بعيني يجعل من المناسبة التي يشارك بها مناسبة وطنيّة:
"أما ما اتفق على تسميته بأدب أو شعر مناسبات، فهو مجرّد ألفاظ بغير روح، مجرّد مدح أو هجاء أو تزلّف أو حقد، ما أن يخرج من فـم الأديب أو الشاعر حتى يتلاشى مع موجات الأثير.
قدوم فيروز إلى أستراليا كان مناسبة معيّنة، لكن خيال الشاعر شربل بعيني جعل منها مناسبة وطنيّة للدعوة إلى وحدة لبنان الممزّق المشلّع، وأدرك أنه لـم يبق من وحدة هذا البلد سوى فيروز، فقال رائعته: فيروز كوني أمّنا.
وتأتي باسكال صقر.. وهذه مناسبة محدّدة أيضاً، لكن خيال الشاعر شربل بعيني جعل منها "وطناً واقفاً على المسرح". وأظنّ أن هذه العبارة ستذهب مضرب مثل يقال لكل فنّان أو فنّانة يعكسان آلام الوطن وعذابه، إن بالصوت أو بالقول، وقد اصطاد الأستاذ جوزاف بو ملحم بحسّه الصحفي المرهف هذا البيت وجعله عنوان تغطية تلك الأمسية.
تباركت مثل هذه المناسبات التي تعطينا مثل هذا الأدب، وليخرس النابحون الذين يتلطّون وراء عبارات "شعر المناسبات".
وأخيراً يخبرنا الأستاذ جوزيف خوري في مقال نشره في جريدة البيرق، العدد 828، الصادر في 7/7/1994، أن شربل بعيني يؤكّد أن سلطان الحبّ أكبر قوّة على الأرض:
"شربل بعيني الذي لا تهمّه الحواجز والصعوبات يؤكّد بأن سلطان الحبّ أكبر قوة في الأرض، لا يستطيع أحد أن يقف قصاده، وهو الدين الحقيقي الذي يوحّد الشعوب، ويجمع ما بين القلوب".
لست أدري ماذا تعني عودة شربل إلى لبنان للأخت الدكتورة إرنستين؟.. هل هي "عودة غودو" الجديدة؟ أم عودة السلام إلى الربوع اللبنانيّة؟.. فإنّها في كل رسائلها كانت تمنِّن النفس بتلك العودة، وتبشّره بأن شمس المحبّة والحريّة ستسطع من جديد فوق أرض لبنان، وتعود يا شربل إلى الوطن الأم ترنّـم بالعود والكنّارة أناشيد المجد والإنتصار. وحتى لا يتعجّب شربل من كثرة أحلامها بعودته، تخبره أن لبنان بحاجة إلى أمثاله، إلى المجاهدين في سبيل الحقّ والوطن.
وعلى بطاقة ميلاديّة بدون تاريخ، كتبت الأخت الدكتورة هذه الأسطر القليلة لشربل، الكبيرة بمعانيها، العميقة بفحواها، وكأنّها الدعاء الأخير لها قبل الرحيل عن هذه الفانية:
"أتمنّى لك أن يظلّ النجاح حليفك، وأن لا تثنيك المعاكسات عن مواصلة الجهاد حتّى تتجسّد الكلمات في موطن الكلمة نوراً يبدّد الظلام، وناراً تحرق ما تراكم من آثام".
وعندما توفّاها اللـه، بكاها شربل بدموع حمراء، كما يبكي الأخ أخته، وكما يبكي الشاعر أفول حلم عايشه لسنوات طويلة، ورثاها بقصيدة حزينة سأنشرها كاملة، تخليداً لذكراها العطرة:
ـ1ـ
غَيْم الْبِكِي.. لَبَّدْ سَمَا عِبْرِينْ
وْمَا عَادْ لاقَى الدَّيْر شَمْسِيِّه
هَبِّتْ صَلاَ عَ شْفَافْ قِدِّيسِينْ
تْرَهّبُوا.. نَكْرُوا الأَنَانِيِّه
وْصَوْت يِنْدَه: خَبّرُوا حَرْدِينْ
خِسْر الْوَطَنْ أَرْزِه سَمَاوِيِّه
خِسْر الْقَدَاسِه الْـ حِمْيِت مْسَاكِينْ
بْطَلْبَاتْ عَمْ بِتْرَدِّدَا شْبِيِّه
عِرْفِتْ يَسُوع وْخَطِبْتُو مْنِ سْنِينْ
وْقَدّمِتْلُو قَلِبْهَا هْدِيِّه
الْجُمْعَه الْعَظِيمِه قَرّبِتْ.. تِخْمِينْ
حَبِّتْ بَدَالُو تِنِصْلِبْ هِيِّي
مِينْ مَا بْيِزْعَلْ عَ إِرْنِسْتِينْ
عَ الرَّاهْبِه الْقدْوِه الشِّمَالِيِّه
عَ الشَّاعْرَه اللِّي زَرْعِت بْسَاتِينْ
بِبْيُوتْ مَهْجُورَه وْمِنْسِيِّه
خَيَّاتْهَا الْـ بِالدَّيْر مَنْدُورِينْ
سِمْعُوا كْلامَا قَبِلْ مَا تِرْتَاحْ
وِتْرَجِّع الْوَزْنِه الإِلَهِيِّه
ـ2ـ
فِرْحِت الْجَنِّه.. بْطَلِّة الإِيمَانْ
بْطَلِّة الْكِلْمِه الْوَاقْفِه عَ مْطَلّْ
بْطَلِّةْ قَصِيدِه وَعِّت الإِنْسَانْ
وْخَلِّت الْكُفْر بْعَتِمْتُو يِنْشَلّْ
مَشْلَحَا الأَبْيَضْ مِنْ تَلِجْ لُبْنَانْ
وْخَاتَم الْخُطْبِه فِضّتُو مْنِ الْفُلّْ
وْتَوْبَا الرّمَادِي اسْوَدّْ مِنْ دُخَّانْ
شَوَّه بْلادَا.. وْمِنْ غَدرْ مِحْتَلّْ
أَشْعَارْهَا الْـ بِتْشَرِّف الأَوْزَانْ
فَتْحِت بْيُوتَا.. تْأَهّلِتْ بِالْكِلّْ
وْصَارِت تْوَزِّعْ لِلْبَشَرْ صُلْبَانْ
وِتْعَلِّمُنْ كِيفْ الْحُزنْ بِيفِلّْ
يَا حُزن "شَرْبِل".. يَا بِكِي قِصْدَانْ
بَعْدِكْ يَا إِرْنِسْتِينْ رَحْ مِنْضِيعْ
وْمَا فِي فَرَح عَ بْوَابْنَا بِيطِلّْ!!
رحمك اللـه يا ابنة بلدة حردين، المقدّسة بأبنائها، الشامخة بوطنيتها، والتي أنارت العالـم بقنديلين مقدّسين لا ينضب زيتهما: الطوباوي نعمة اللـه الحرديني، والأخت الراهبة إرنستين خوري.
**
ندوة إذاعة الإذاعة
الشاعر رفيق روحانا، من منّا لـم يسمع به أو بأبيه عملاق الزجل اللبناني أنيس روحانا، رحمه اللـه، وهما من أعطيا الشعر فرحه، توهجّه، وعظمته. حتّى قيل إن مجرّد ذكر إسم عائلة "روحانا" يفتح أمامك سجلاًّ ذهبيّاً من العطاءات الفكريّة والشعريّة والموسيقيّة.
لرفيق مؤلفات أدبيّة وشعريّة عديدة، كما أن له صولات وجولات في عالـم الأثير، وقد استضاف في برنامجه الإذاعي الأديبة إبريزا المعوشي والدكتور عصام حداد لمناقشة أدب شربل بعيني. وكنا قد نشرنا مقتطفات من التعليق الصحفي الذي كتبه مدير تحرير جريدة المستقبل الأستاذ أنطونيوس بو رزق حول تلك الندوة التي بثّتها إذاعة الإذاعة في لبنان.
إبريزا المعوشي، إسم أدبيّ لامع، مؤلفّاتها الأدبيّة عديدة. فازت بجائزة المرحوم كمال المر، وزارتنا في أستراليا عدّة مرّات للتوقيع على كتبها. وبما أننا تكلّمنا عن عصام سابقاً، سنبرز الآن ما قاله رفيق وإبريزا عن شربل بعيني.
الدكتور عصام حدّاد أعطى لمحة موجزة ومعبّرة عن حياة شربل ومؤلفّاته، وعندما قال إن شربل أصدر جريدة صوت الأرز فور وصوله إلى أستراليا، وكان له من العمر 22 سنة، قاطعه من يشرّفني أن أحمل وإياه اسماً واحداً، وقال بلهجته اللبنانية المحببة:
"هَوْن.. بيذكّرني بيعقوب صرّوف، أديبنا الكبير، اللي بيتعلّم اليوم بصفوف البكالوريا، كان صار عمرو 24 سنه وقت اللي أنشأ مجلّة المقتطف، يللي كانت من أكبر المجلاّت بزمانا. بيذكرني بجبران يللّي هوّي ونعيمي وأبو ماضي والعصبه أنشأوا مجلّة السمير، وما كان واحد منّن عمرو فوق التلاتين بعد. هالعبقريّة، كيف بتدعيه للواحد ، بسرعة عَ بكّير، إنّو يشتغل؟!".
إبريزا شكرت رفيق على تخصيص ندوة أدبيّة عن شربل، ذلك الشاعر البعيد، وقالت له:
"بحبّ إشكرك عن شربل بعيني، هَـ الشاعر اللبناني البعيد. عادة، الناس بْيِهتمّوا بالقريب وبينسوا البعيد. وهون إلك الفضل الكبير إنّو تدير هَـ الندوة حول كتبو. لهالسبب أنا بشكرك عنّو، وبشكرك باسم كل اللبنانيي يللّي بأستراليا. مجرّد تنذكر كلمة أستراليا قدّامي، مش عارفه شو الحنين اللّي بيستيقظ بقلبي؟.. رحت سنة 84 عَ أستراليا، عند صدور كتابي لبنان جبين لا ينحني. بأستراليا سألتني الصحافة: إنتي شو جايي تعملي هون؟.. قلتلّن: جايي إتعلّم الوطنيّه منكُن. لأنّو هَـ اللبنانيي هونيك متل اللبنانيي يلّلي منعرفُن، أو، بالأحرى، بيخبرنا عنّن بيّاتنا، هَـ اللبناني الجبلي البريء، الكبير القلب، الكريم، هيك اللبنانيي بعدُن بأستراليا، كأنّن ما سافروا من جبالن العاليه على بلاد، الغربه بتاكلن، والمدنيّه بتاكلن، ضلّوا لبنانيين صافيين، وأنا كتير حبّيتُن. ولهالسبب رجعت رحت مشوار تاني سنة 88، عند صدور كتابي التاني يللّي حضرتك تفضّلت وذكرتو هلّق، اللي نلت عليه جائزة كمال المر ويبقى السؤال، وبهالوقت، يعني بالمشوار التاني، حصل لي الشرف إنّو إتعرّف بالشاعر شربل بعيني".
هنا، سألها رفيق:
"شو فيكي تعطينا عنّو هلّق؟".
فأجابت:
"طبعاً، أنا ما كان عندي الوقت الكافي إنّي إلتقي فيه تا كوّن كتير فكرة عنّو، ولكن قدّ ما هوّي بتحسّو صريح بتقدر قوام تكوّن فكرة عنّو. هَـ الإنسان بتحسّ في عندو جرح عميق بقلبو إسمو لبنان. مجرّد يشوف إنسان جايي من لبنان، بتلاقيه التهب كلّو سوا، وصار يحكي عن لبنان. وبتحسّ على إنّو عندو حرقة للعودة للبنان. رغم إنّو هوّي بأستراليا عايش كتير مرتاح، تقريباً متل معظم اللبنانيي هونيك مرتاحين ماديّاً، ولكن يبدو إنّو ليس بالخبز وحده يحيا إبن الإنسان".
وعندما طلب منها رفيق أن تنتقي قصيدة لشربل، اختارت قصيدة (وريقات من دفتر الغربة)، وراحت تقرأ بصوتها الأنثوي العذب:
غُربَتي.. صَارَتْ كَطَعْمِ الْمَوْتِ صَعْبَه
أَوْجَعَتْها زَفْرَةُ الرِّيحِ، وأَنَّاتُ الْيَنابِيعِ
وَآهاتُ الْحَصَى والرَّمْلِ والتُّرْبَه
وَدُمُوعُ ذلكَ الطِّفْلِ
الَّذِي أَضَاعَ بِالزَّحْمَةِ ربَّه..
فاسْتغاثَ كالشُّعَاعِ التائِهِ
المطْرُودِ مِن شمسِ الْمَحَبَّه:
أينَ أَهلُ الخَيْر يا أُمَّاهُ؟.. قولي،
أَيْنَ جِيراني الأَحِبَّه؟
أَيْنَ يسُوعِي الصَّغِيرُ
فَإِنَّنِي قَدْ ذُقْتُ صَلْبَه؟
وعند انتهائها من القراءة صاحت إبريزا: "يا عيني..". وصاح رفيق: "حلو.. حلو.. ليك يسوعي الصغير شو حلو؟.. كلمة يسوع بحد ذاتا بتجبلِك طفوله.. إذا قلتي: مسيح، ما بتجي طفوله معو، بيجي معو مجد.. بتقولي: يسوع، بحد ذاتا بتجيب طفوله، وقال: يسوعي الصّغير. ليك شو حلوه!!".
بعد هذا التحليل الرائع لكلمة يسوع، تابعت إبريزا القراءة:
قسّموها.. قسّموا أرضي مزارِعْ
ملأوها بالخفافيشِ وأصناف الضفادِعْ
شوّهوا الإنسانَ فيها
غَيَّروا لونَ بنيها
جعلوها، بعد علياءٍ، سفيهَه
تحملُ وشمَ العمالَه
وتبيعُ الغشَّ في سوقِ الأصالَه
وتضاجعُ، لا تبالي،
كلَّ مَن يرغبُ فيها!!".
بعدها، راح الدكتور عصام يقرأ مقاطع شعريّة من ديوان مجانين، ويحكي عن وفاء شربل لأصدقائه، وعن رحلته مع الكلمة في الوطن والغربة. وكما قلت سابقاً، سوف لن أتطرّق إلى ما قاله الحدّاد، رغم أهميته، كي أبقي الكلام لرفيق وإبريزا.
الشاعر رفيق روحانا لـم يلتقِ بشربل بعيني كالدكتور عصام حدّاد والأديبة إبريزا المعوشي، ومع ذلك نجده قد تعرّف عليه من خلال الكلمة، وراح يشرح أبعاد معرفته هذه بأسلوب شاعري رائع:
"تنين حكيوا عن شربل بعيني. تنينُن بيعرفوه، بيعرفوه بالوجّ.. أما أنا بعرفو من خلال كتبو. شو شفت بكتب شربل بعيني؟.. شفت إنسان بيحبّ لبنان حبّ عظيم. شفت شاعر عندو لدعة الغرابة والنضارة بشعرو. شفت إنسان مش قادر ينسى ضيعتو، بعدو بيحكي عن الغبار.. ما في قصيده عندو إلاّ ما بتمرق فيها كلمة غبرة. وبيمرِّق كتير مفردات مختص فيها متل: حافي، شوالات.. هَـ الكلمات هاي يللّي بتدلّك إنّو هوّي إبن ضيعه. شفت فيه كمان الإنسان اللّي مجروح وبدّو يضحك لأنّو ما بدّو يدلق همّو ع الناس، وهون بيبقى الإنسان الكبير. الكبير بيقلّك: هموم الناس بتكفيّا. شفت فيه الإنسان يللّي صادق كل الصدق، لأنّو متناقض مع حالو، بعلمك بيحبّ الحلوه، وراضي عنها، بيحطّا مطرح أللـه، بيعملا إلهة، شويّ، بقصيده من بعد منها دغري، بتلاقي خوت عليها، تاري تناقر هوّي وياها شوي، قدّ ما هو صادق ما قدر يتصنّع، حكي بكل تناقض. من شعر شربل رح إقرا من كتاب معزوفة حب، الصفحة 53، هَـ القصيدة الـ حبّيتا:.. وهيك.. في قبل (هيك) هَـ التلات نقط، يللّي بيقولولك في كتير كلام قبل ما نوصل لهون:
ـ1ـ
.. وْهَيْكْ صِرْنَا تْنَيْنْ
عَمْ نِشِتْرِي بِالدَّيْنْ
كِلْمِه تْفَرِّحْنَا
وْكِيفْ بَدّنَا كِيفْ
نْسَدِّد مْصَارِيفْ
رَهْنِتْ مَطَارِحْنَا
ـ2ـ
.. وْصِرْنَا عَ بَاب الْحُبّ
نُوقَفْ تَا نِسْتَعْطِي
وْيِنْبَحْ صَوْت الْقَلْبْ
بَرْكِي حَدَا بْيِعْطِي
تِذْكَارْ شِي صُورَه
نِتْنَوَّر بْنُورَا
كِيفْ مَا رِحْنَا
شِي شْفَافْ مَسْحُورَه
بْلَحْظَاتْ مَسْتُورَه
بْبَوْسِه تْرَيِّحْنَا
ـ3ـ
.. وْهَيْك صِرْنَا تْنَيْنْ
عَ دْرُوبْنَا عِينَيْنْ
بِدْمُوعْهَا سْبَحْنَا
وْنِرْكُضْ وَرَا الْمَجْهُولْ
عَ صَوْت دَقّ طْبُولْ
شَلَّعْ مَسَارِحْنَا
وْإِنْتِي وْأَنَا خْيَالَيْنْ
الْكِذْبِه تْمَرْجِحْنَا
الْعَتْمَاتْ تِمْسَحْنَا
إِنْتِي وْأَنَا طِفْلَيْنْ
مِنْ خَوْفْنَا صِحْنَا".
وبعد أن انتهى "سْمِيِّي" من قراءة هذه القصيدة الرائعة، بصوته الجهوري المعبّر، التفت إلى إبريزا وسألها وهو يتنهّد تنهدّات الإعجاب:
"شو بدِّك تِحكي يا إبريزا؟".
فقالت:
"متل ما قلت: دكتور عصام وأنا منعرفو شخصيّاً، يعني منعرف شكلو كيفو، إنت ما بتعرفو إلا من خلال كتاباتو، ولكن، وصفتو كأنك بتعرفو، لا يقل عن عشر سنين".
فقاطعها رفيق قائلاً:
"في شغلتين تلاته بعد.. ليكي شو اشتلقت إني بعرف عنّو. اشتلقت إنّو بيحبّ الطرب، وفي بحياتو شي مطربه معذّبتو، كاتبلا شعر كتير. في بمعزوفة حب سبع تمان قصايد كلتهن عن الصوت الحلو. أنا بفهم شو معناتُن".
فضحكت إبريزا وتمتمت:
"هيك.. أنا ما بعرف"..
فتابع رفيق كلامه:
"كمان، حسّيت على شغلة عندو، إنّو بيحبّ.. وعندو قدرة إنّو يحب كتير وبسهولة".
فقالت إبريزا:
"متل ما ذكرت أنا، إنّو رغم قصر الفترة الزمنيّة يللّي شفتو فيها، ولكن كتير بتقدر تعرف عنّو إشيا قدّ ما هوّي صريح، وديناميكي، وبدّو يعطي، وبدّو يعمّر، وبدّو يبني، وبدّو يخرِّب، وثورجي.. عرفت كيف؟ لهالسبب بتلاقي عندو غزارة إنتاج، عندو شي هَـ الإنسان بقلبو، بصدرو، بدّو يطلّعو ومنّو عارف شو هوّي".
فقاطعها رفيق قائلاً:
"عندو ثورة كبيرة، اختصرا: بدّو يقصقص صابيع اللّي انتخبوا". فقالت إبريزا: "هوّي معو حقّ، ونحنا منشاركو فيها، ولهالسبب وصلنا لهون".
وبعد أن دافع الدكتور عصام عن شربل بعيني دفاعاً مقنعاً، راح الشاعر رفيق روحانا يطلعنا على "لمعات بلاغة ولا أروع عند شربل بعيني" على حد تعبيره، ويصيح عند الإنتهاء من قراءتها: "يخرب بيتك ما أروعك يا شربل بعيني".
وعن ثورة شربل التي تتفجّر بكل قصائده، قال رفيق:
"هَـ الروح الثوريّة اللي عند شربل، مش بس فيها ثورة، فيها طفولة عم تعمل ثورة، يعني، حلو الولد الزغير بصدقو وببراءتو يقلّك: بدّي هبِّط يللّي تعمّر غلط. مش عم يتملعن بالثورة. ثورتو فيها براءة طفل، صحيح عم بيقول الحقيقة".
وعلّقت إبريزا:
"مظبوط.. ثورتو للعمار مش للدمار. ثورة حب وجمال..".
وأكمل رفيق: ".. وحرقة بالقلب".
الندوة الإذاعية طويلة ورائعة، ومن غير الممكن نشر كل ما جاء فيها، لذلك سأكتفي بهذا القدر، وأطلعكم على إحدى رسائل رفيق لشربل، المرسلة بتاريخ 16/11/1991:
"خيي شربل.. أللـه معك..
بعد تحيّة من صميم القلب، وتمنّي إنّك تكون موفّق بالصحّة والعمل، ومبدع بالشعر، بحبّ إنّي قلَّك، وبكل صدق وصراحة، إنّو رسالتك كانت أطيب رسالة استلمتا بحياتي. حسّيت إنّو الشعر أكبر من الحبّ، بيجمع وبيقرّب، ولو كانت المسافة بين القارات.
يا خيّي شربل..
من حوالي سنتين تعرّفت عَ شعرك وعجبني. اليوم تعرّفت عَ الشاعر الطيّب القلب، الغني بالفكر، النبيل بالعطاء، الوفي الشهم. هَـ القِيَم كلاّ بتخلّي الإنسان يشعر إنّو الدني حلوة، خصوصاً بعد ما ضاعت القِيَم بأرض القِيَم. ياي شو صرت حابِب إتعرّف عليك عن قريب يا خيّي شربل. اللّي متلك خسرُن لبنان بالوجود المادّي، بسّ ما خسرُن بالوجود المعنوي. إنت كنز للبنان وللشعر وللصداقة.
أكتر من مرّة، كان يحكيلي عنّك خيّي الشاعر عصام حدّاد، وكنت قلّو: أنا متخيّلو أعظم مما عم تحكي يا عصام. من وين أنا بعرف هَـ القدّ؟.. من شعرك اللّي كلّو جمال ونبل وشهامة وثورة، وشي جديد بيقول إنّو صاحب هَـ الشّعر إنسان عظيم.
ما بعرف ع شو بدّي إشكرك برسالتك، بسّ أعظم شي هزّني هوّي هَـ القصاصات من المجلاّت اللّي فِيا كلام عن المرحوم بيّي، لو بتشوف إمّي قدّيش بكيت فرح لمّا شافت رسالتك، وهيك مرتي وولادي وإختي وخيّي وكل الأصحاب اللّي خبّرتن ع محتوى هَـ الرسالة.
انشاللـه يا خيّي شوفك بعيني، مش بسّ بفكري. عَ كلّ حال لسان حالي بيقول: شربل بِـ عيني وقلبي وكل حواسي.
رح وصّل سلامك لإبريزا وعصام. بسّ كون أكيد رح توصل تعزيتك ببيّي لكل إهل وادي شحرور، ولكل أصحابي، لأني ما رح إترك حدا ما خبّرو عن هَـ التصرّف النبيل اللي صدر منّك، بركي بيصير الوفا عنوان لكل اللّي نسيوا شو هوّي الوفا".
لقد أجمع الثلاثة الكبار: إبريزا ورفيق وعصام، على وفاء شربل لأصدقائه، وأنه يحافظ عليهم كما يحافظ المرء على بصره وحياته. وأنه، مهما تقلّبت الظروف، لن يغدر بواحد منهم. فالغدر ليس من طبيعته، وهذا ما لمسته شخصياً بعد سنوات معتّقة عشتها برفقة شربل بعيني.
ولأن النصيحة بجمل، كما يقول المثل الشعبي، سأنهي كلامي بهذه النصيحة التي قدّمها رفيق روحانا لشربل:
"متل ما طلع شربل من الضيعة، بدنا ياه يرجع ع الضيعة، ولو كانت أستراليا بدّا تزهّرلو رملاتا دهب، لازم شربل يرجع، مطرحو هون، والشعر الْـ عم يكتبو ما بيكون فيه جمال وقوةّ إلاّ إذا نبت بأرض مجدليا".
**
صقران من الأردن
أحمد موسى شاكر العمران وعاصم عبده فرج إسمان لامعان في عالـم التلفزة العربيّة. كانا يعملان، يوم التقيا بشربل بعيني في المربد الشعري عام 1987، في تلفزيون المملكة الأردنيّة الهاشميّة، فتوطدت بين الثلاثة أواصر صداقة، عملوا المستحيل كي تستمر، وكيف لا تستمر وقد بنيت على أسس متينة من الأخوّة والاحترام والتقدير.
رسائلهما لشربل بعيني كثيرة، لذلك سأطلعكم على بعضها كي تدركوا مدى انتشار أدبه في الأقطار العربيّة، ومدى إعجاب الذين اطلعوا عليه. وكما تلاحظون، فأنا أستعين بكلام مؤرّخ، كتبه أناس كبار وعظماء عن أدب شربل، هم، في كثير من الأحيان، أشهر وأكبر وأعظم من شربل بعيني. فما قيل قد قيل، وما كتب قد كتب، وما على الدّارس سوى الحصاد، والإستشهاد بما حصد، ونقله بأمانة، لا حبّاً بشربل، بل احتراماً للتاريخ وللعمالقة الذين صنعوه.
ومن رسائل العمران لشربل أختار رسالة مؤرخة في الأول من أيلول 1988، وفيها يقول:
"وصلت رسالتكم المزدانة بالأدب، والمعطّرة بالحب، في وقت كنت موجوداً به في مصر لحضور دورة تدريبيّة مدتها ثلاثة أشهر، وحين عودتي، وجدت تلك الرسالة المحملة بالحب والخلق. وجدت فيها كثيراً من الذكريات التي ستبقى لنا، دوماً، المشعل الذي ينير دروب الشعر والأدب.
أشكركم جزيل الشكر، وعظيم الإمتنان، على ما أتحفتمونا به، والذي إن دلّ فإنّما يدلّ على المصداقيّة الأخويّة التي تربطنا بكم، وعلى الروح الشاعريّة التي تتحلّون بها.
أخي شربل..
إنّني أعتذر شديد الإعتذار لأنني لـم أكن موجوداً في ذلك الوقت الذي جاءت به (باسكال) إلى الأردن. فأنا لا أدري إذا قدمت أم لا.. وقد سألت عنها بعض الزملاء، فقالوا لي لـم تأتِ، والبعض الآخر لا يعرف، علماً بأنني كنت موجوداً في القاهرة.
إنني على أتـم الاستعداد لتقديم أيّة خدمة أستطيع أن أقدّمها لأي إنسان من طرفكم. أنتم قدّمتم لنا الكثير، ولكنّني، وللأسف، لـم أقدّم لكم أيّة خدمة، وإنني على استعداد لذلك، إذ أنني أعتبر نفسي أخاكم الصغير.
أخي شربل..
لقد كنتم السبّاقين دائماً، وأصحاب الجميل، وإنني مشتاق لرؤيتكم والتحدث معكم. لقد قرأت كل الأشعار التي وصلتني، آخرها (أللـه ونقطة زيت)، وهي جميلة جداً، وإنني أحفظ قصيدة (لعنة اللـه علينا)، وقد أسمعتها لزملائي وأصدقائي فكرروا علي قراءتها.
أرجو أن نكون عند حسن ظنّكم بنا، واللـه لقد بكيت عندما قرأت كتاب (باسكال.. وطن واقف على المسرح)، لما فيه من وصف جميل، ولأنني لـم أكن قريباً منها، ونحن في خدمة كلّ أخٍ عزيز. أتمنى أن تزور الأردن في الأيام القادمة".
يتضح لنا من هذه الرسالة أن شربل يخدم أصدقاءه قبل أن يخدم نفسه، فحين أخبرته باسكال صقر أنها مدعوّة إلى مهرجانات جرش، أتصل سراً بأصدقائه الإعلاميين في الأردن، وطلب منهم تسليط الأضواء على زيارتها، وتقديم المعونة الإعلاميّة لها، كي تنجح فنيّاً وإعلامياً، ومن خلالها ينجح وطنه الغالي لبنان، فشربل بعيني يؤمن أن نجاح اللبناني، في أي مجال، هو نجاح للبنان. وأذكر عندما كان مسؤولاً في رابطة إحياء التراث العربي كيف كان يعمل المستحيل من أجل تكريم أصدقائه، وترشيحهم لنيل الجوائز، غير عابىء بالنتائج، المهم تحريك الحركة الثقافية والفنيّة في المهجر، وإعطاء الحقّ لكلّ صاحب موهبة.
وكما تمنّى الدكتوران عصام حداد والأب يوسف السعيد لقاء شربل بعيني في المربد التاسع في العراق، هكذا تمنى، أيضاً، أحمد موسى شاكر العمران في رسالة أرسلها بتاريخ 14/10/1988:
"بادىء ذي بدء، أتوجّه بالسؤال عنكم صحةً وعملاً، داعياً لكم بالتوفيق في كل ما تصبون إليه.
لذا، فإنني أشكركم جزيل الشكر على ما أتحفتمونا به من كتب قيّمة، فحواها نتاج أدبي يستحقّ كل ثناء وإعجاب وإجلال. فمكتبتي الصغيرة تزداد نوراً وإشراقاً، وقد أصبحت كبيرة، تحتوي على الأدب والشعر اللذين لـم تكن تحويهما من قبل، حقاً إنها هدية من صديق عزيز وأخ كبير.. أستاذنا شربل بعيني
إنني مشتاق لرؤيتكم والتحدث إليكم، ولن أنسى تلك الرحلة التي أزداد من خلالها شرفاً وإكباراً، وأتمنى أن نلتقي هذا العام في مهرجان المربد الشعري في العراق.. إن شاء اللـه".
وعلى بطاقة ميلادية، تمنّى عاصم عبده فرج ما تمنّاه صديقه أحمد، بأن يلتقي أيضاً بشربل، وإليكم بعض ما كتب:
"أنا مشتاق إليك كثيراً، واللـه ما نسيتك، وما نسيت الأيام القليلة في بغداد. نحن نستأهل أكثر من كلمة مرحبا، وأتمنى أن نتقابل ثانية.
أشكرك كثيراً على هذه الكتب الجميلة وعلى هذه الأشعار، وأتمنى لك دوام التوفيق والنجاح في هذه السنة الجديدة، أعادها اللـه عليكم، وعلى لبنان، بموفور الصحّة والرفاهية والحنان".
وعلى بطاقة أخرى، تمثّل العادات الأردنيّة الصميمة، كتب عاصم هذين السطرين، لا غير، المثقلين بالمعاني الكبيرة والتطلعات الإنسانيّة:
"أرسل لك هذا (الكرت) عن بلدي الحبيب كي يبقيني في ذكراك كلما نظرت إليه. ولن أنساك أيها الصديق".
ألا تقولون قولي إن هذين السطرين يختصران آلاف الكلمات؟ فعاصم يحب بلده الأردن، ويريد أن يحبّب شربل به، فأرسل له بطاقة من التراث الأردني، تمثّل رجلاً بدويّاً نصب فخاً في الصحراء الأردنيّة لاصطياد الصقور، وراح ينتظر وصول الأمل، وكأن عاصماً أراد أن يخبر صديقه شربل، بطريقة غير مباشرة، أن الأردن ينتظر وصوله أيضاً. أما ليس هو وأحمد، من عرضا على شربل فكرة الإشتراك بمهرجانات جرش السنويّة؟.. هذا هو الوفاء العربي الخالص، وهذه هي الصداقة الحقّة.
وها هو أحمد موسى شاكر العمران، في رسالة مؤرخة في 15 شباط 1988، يرجوه أن يحضر مهرجان جرش، دون أن يعلـم بأن شربل قد اتخذ قراراً بعدم المشاركة بأي مهرجان أدبي أو فنيّ في الوطن العربي بعد خضوعه فور وصوله من العراق، للإستجواب في مطار سيدني، من قبل المخابرات الأسترالية. وقد أخبرني المرحوم فؤاد نمّور قصّة تثبت أن المخابرات الأسترالية تنصتت على محادثات شربل بعيني الهاتفيّة إثر رجوعه من العراق، لفترة زمنية طويلة. والقصّة تقول إن فؤاداً اتصلّ بشربل هاتفياً، وأخبره أن ابن أخيه مسؤول كبير في المخابرات الأردنيّة، وقد أتى إلى أستراليا بطريقة سريّة، كي لا يعرفه أحد، بغية الإطمئنان عن صحّته. وأخبره أيضاً أنه يريد أن يتعرّف عليه شخصيّاً بعد أن قرأ الكثير من أشعاره. فما كان من شربل إلاّ أن صاح:
ـ أعطهم خمس دقائق فقط، وسيصلون إلى بيتك يا أستاذ فؤاد..
ـ من هم.. قل لي؟
ـ رجال المخابرات الأستراليّة.. أما أخبرتك أنهم يتنصتون على هاتفي؟
ـ بلى..
ـ إذن، قل لابن أخيك أن يحضّر نفسه لاستقبالهم..
ـ لا تخف يا شربل.. بعد نصف ساعة سنكون نحن عندك..
وبعد ساعتين من الانتظار، اتصل شربل بصديقه، وسأله عن سبب تأخّرهم، فما كان من فؤاد نمّور، رحمه اللـه، إلاّ أن صاح:
ـ إنهم في بيتي.. يخرب بيتك يا شربل.. كيف عرفت أنهم سيصلون بعد خمس دقائق؟
ـ وماذا سيفعلون بابن أخيك؟
ـ إنهم أصحابه.. وقد عاتبوه على عدم إعلامهم بمجيئه.. كما أنهم عرضوا عليه حراسة خاصّة..
ـ سلّم لي عليهم، وقل لهم أن يتركوني وشأني، فأنا لست مجرماً ليتنصّتوا عليّ.
وإليكم ما جاء في رسالة أخينا أحمد:
"أشكركم جزيل الشكر على رسالتكم الكريمة، وعلى ما تحويه من مصداقيّة وعمق أدبي، حصيلته ونتاجه خير دليل على آدميّة وأخلاقيّة صاحب هذا النتاج الذي فحواه الشمولية، التي تغذّي العقل بإشراقة جيل جديد، صاحب فكر، له وقع وأثر في الحياة الإنسانيّة.
إن ديوان كيف أينعت السنابل؟، هو في الحقيقة، مشهد فذّ فريد.. بناء شاهق عريق.. عطاء فكري متواصل، مفعم بالوطنيّة والاحساس الصادق والبعد القومي الشامل.. طرح موضوعي رصين.. شاعريّة جذّابة.. أسلوب سلس، عذب المنطق والعبارات.. إنه نتاج ضخم.
عزيزي شربل..
لقد وصلت رسالتكم في 8/1/1988، ووصل معها الشوق والحنين والأدب والفكر. وصلت في المساء، وكانت تلك الليلة فرحة كبيرة لي وإخواني جميعاً، فأعجبوا بها وقالوا: إنه صديق صادق. وأرجو يا صديقي أن نكون عند حسن ظنك، فأنا في الحقيقة لست شاعراً، ولا كاتباً، وأرجو أن تتقبّل رسالتي على ما تحويه، وأن تغفر لي أخطائي الإملائيّة والإنشائيّة.
إنني مشتاق لرؤيتكم والتحدث إليكم، كي نعيد الإبتسامة ونجدّد الضحك هنا في الأردن، وفي (حسبان) مسقط رأسي، وأرجو يا أخي أن تحضروا مهرجان جرش، إذ أن أسعد أوقاتي هي رؤيتكم. كما أرجو أن تزوّدونا بأخباركم وأشعاركم الجميلة".
رغم أسلوبه الشيّق في صياغة الرسائل، نجد أن العمران يعترف لصديقه شربل بأنه ليس شاعراً أو أديباً، ليخط له الرسائل العرمرميّة المحشوّة بالصرف والنحو. إنه إبن الصورة، ورفيق الكاميرا، يلحق الأحداث إلى سابع أرض. إنه باختصار شديد يكتب بالصورة، كالشاعر تماماً، ولهذا اندمج فكره بفكر شربل بعيني، وطابق عقله عقل شربل بعيني، وتعملقت صداقتهم رغم بعد المسافة بين (الجزيرة المعلّقة بكعب الأرض) وأردننا الحبيب.
وكي أكون منصفاً مع الكلمة الجميلة الأخّاذة، أعترف أنني أخذت جملة (الجزيرة المعلّقة بكعب الأرض)، من عبارات كتبها الشاعر فؤاد نعمان الخوري في 14/11/1988، يوم أهدى ديوانه بين تذكرتين لشربل بعيني، وفيها يقول:
"إلى الصدبق الشاعر شربل بعيني، الذي رفع إسم الأدب اللبناني إلى مصاف الأسماء العالميّة، ومهّد الطريق للكتابة والطبع في هذه الجزيرة المعلّقة بكعب الأرض".
وعندما صدرت دراسة الأديب السوري محمد زهير الباشا شربل بعيني ملاّح يبحث عن اللـه، كان أحمد من أوائل الذين أهديت إليهم، فكتب في 18 آذار 1989، هذه الرسالة المعبّرة:
"الأخ العزيز شربل بعيني.. ملاّح يبحث عن اللـه.
بعد التحيّة.. يشرّفني أن أبعث إليكم، بعد غياب طويل، بهذه الكلمات. فأنا لـم أتمكن من الردّ على رسالتكم الكريمة، التي تحمل في طيّاتها الحبّ والشعر والأدب، وأشياء كبيرة في معانيها. كما أنها تطرق مواضيع حيويّة من خلال الأدب والفكر، وهذا يدل على عقليّة منفتحة، تتعايش مع كلّ ما هو واقع، وتعالج كل ما هو مطروح بواقعيّة وشموليّة وموضوعيّة.
أخي العزيز شربل..
أشكرك جزيل الشكر، وعظيم الإمتنان، على الكتاب القيّم شربل بعيني ملاّح يبحث عن اللـه، وعلى مجموعة الكتب القيّمة التي وصلت من طرفكم، فما هي إلاّ تحفة أدبيّة أقبّل صفحاتها الأدبيّة والفكريّة".
أحمد موسى شاكر العمران وعاصم عبده فرج إسمان جديدان دخلا فهرس أدبنا الإغترابي من بابه الواسع، تماماً كما دخله العديد من أصحاب الكلمة الماسيّة الأحرف، والأخلاق الرفيعة التي تتشامخ في غربتها كالقرنة السوداء وقمم جبل الشيخ.
ورغم اعتراف الصديق إبراهيم سعد بأنه لا يملك ناصية الكلمة، إلاّ أنه كأحمد وعاصم من أصحاب الأخلاق الرفيعة والكلمة الصادقة، وإليكم ما قال في هذه الرسالة المعبّرة:
"عزيزي الأستاذ شربل..
تحيّة طيّبة وبعد،
رغم أنني لا أملك ناصية الكلمة مثلك، ولكنني أود أن أعبّر عن شعوري نحوك قدر المستطاع، لذلك كتبت لك هذه الكلمات المتواضعة تعبيراً عن مودّتي الصادقة.
قرأت ما جاء في لقائك مع السيّد علي سلطان، بحّار من باكستان، فسررت به، وصدق المثل القائل: وحدها الجبال لا تلتقي. كذلك سرّني أن يصل شعرك إلى تلك البلاد ليترجم إلى لغتها أيضاً، وهذا مدعاة فخر واعتزاز لك ولمحبّيك.
والآن، ومع قرب إطلالة عيد ميلاد المسيح، مسيحنا إلى العالـم، وعيد الفطر السعيد، ورأس السنة الميلاديّة، حيث تبدأ الألفيّة الثالثة، يطيب لي أن أبعث لك ولعقيلتك وعموم أفراد عائلتك، ومن يلوذ بكم، باسمي واسم عائلتي، بأحر التهاني وأطيب التمنيّات بدوام الصحة والعافية، واطراد النجاح في عالـم الشعر والأدب ولو كره المعكّرون. ولك منّي ألف تحيّة، وألف مبروك لك بالإمارة مرّة ثانيّة خطيّاً بعد المباركة الأولى على الهاتف:
الصداقَه تعزيه وبلسم بيداوي
جروح النفس من كلّ المساوي
وإذا بتكون مع شربل بعيني
بتهزم للأبد كل العداوِه".
الأصدقاء كالسنونوات المهاجرة، لا يمكنها أن تعيش خارج أسرابها، ونحن هنا في غربتنا هذه يجب أن نحصّن صداقتنا أكثر، وأن نلقّحها بلقاح الوفاء كي تستمر وتتفاعل.. وصدق الأب بولس نزهة حين كتب في بطاقة أرسلها لشربل في 12 تمّوز 1993 ما يلي: "عندما تغادر السنونوة المهاجرة الأسراب الطائرة، تردّد على مسامعها: غداً نلتقي".
آمل أن تلتقي سنونواتنا بعد فراق، لتكوّن أجمل سرب عرفه تاريخ اغترابنا. فالغربة، يقول المثل، تضيّع الأصول، لذا وجب علينا التصدي لها بالمحبّة والإتحاد.. قبل أن تجرّنا من آذاننا وتجعلنا مضحكة الأجيال.
**
ستّ رسائل من ستّ دول
البروفسور محمد سليمان أشرف، كان رئيساً لقسم الدراسات العربيّة في جامعة دلهي الهنديّة يوم التقاه شربل بعيني في العراق عام 1987، وسأطلعكم على إحدى رسائله إليه، لأنتقل بعدها إلى عظيم آخر من دولة أخرى. وإليكم ما كتب في 24 تمّوز 1989:
"الأخ الفاضل شاعر الحبّ والجمال..
تحيّة طيّبة وبعد،
فقد تسلّمت رسالتك الكريمة والكتاب لمحمد زهير الباشا شربل بعيني ملاّح يبحث عن اللـه، عندما عدت من الخارج، ولذلك ما استطعت من قبل أن أردّ على رسالتك.
أشكرك على إرسالك هذا الكتاب القيّم، الذي حلّل فيه الأستاذ محمّد زهير شعرك تحليلاً دقيقاً، وما تسلّمت أي كتاب منك من قبل.
وفي الواقع تمتّعت بقراءة المقتبسات من شعرك الرائع. ما أروع ما نظمت عن نفسك:
أنا شاعر الحب
والهوى
والجمال
أعيش للجمال
وأفنى بالجمال..
وما أجمل صورة للعرب عرضتها في ديوانك كيف أينعت السنابل؟.
أين الذين غامروا وقامروا
وساهروا الإفرنج في العلب؟
أين الذين فجّروا اللذات في أقبية المساء
وشربوا الخمور من أحذية النساء
وصدّروا البترول كي يستوردوا البغاء؟
أين الذين هجّروا الأقلام
ثـم أحرقوا الأدب؟
تمزّقت أرضي
ولـم يدرِ بموتاها العرب!!
صورة صادقة. ومَنْ مِنَ العرب يستطيع أن يسمع هذه الكلمات المريرة؟.
وبسبب غيابي عن البلد، ما تمكنت من الإشتراك في مهرجان المربد هذا العام.
وأخيراً لك منّي كل تقدير واحترام".
ومن الهند سأنتقل إلى المملكة المغربيّة، لأطلعكم على إحدى رسائل الأديب المغربي أحمد الطريبق أحمد، الأستاذ المحاضر في كليّة الآداب في جامعة تطوان، والتي أرسلها بتاريخ 12 كانون الأول 1988:
"الأخ الأديب المهجري شربل بعيني
تحيّاتي..
من أعماق شعوري، ومن أعماق هذه الأرض في الجناح الغربي من الخريطة العربيّة، كانت مفاجأة لي سارّة، وأنا أستلم الكتاب الموسوم باسمك النبيل، عن تجربتك الأدبيّة وأشعارك المهجريّة. ولـم يكن يخطر بالبال أن حروفاً عربيّة ستخترق الآفاق والمجاهل لتصل إليّ، وأنا في المغرب، كقطرات الندى، تحمل في ثناياها زخماً من العروبة، آتية من قلب أستراليا، هذه القارة النائية عن العروبة والحرف العربي.
نعم، إن رسالتكم في مهجر أستراليا رسالة خالدة. وكم هو جميل هذا التاريخ العربي الذي يعيد تجربته مع الحرف النضير. ومن زمن قريب سقطت آخر ورقة من الصفصافة العربيّة، والمتبقيّة من حديقة المهجر، ذلكم هو مخائيل نعيمة. ولكن عدوى العروبة ووجدان الحرف سيسريان إلى آخر بقعة من بقاع الأرض، ما دام القرآن وتراث العرب ينبضان في قلب الجسد العربي.
إن الكتاب المرسل إليّ عن تجربتك، سيكون الجسر الروحي الذي سيربطني مع تجربة كل عربي في المهجر هنالك، هنالك في البعيد.
أما عن شخصك المرح، فقد افتقدناك في المربد التاسع، وهو مربد اللقاءات العربيّة على أيّ حال.. فيه من الشعر القليل، وفيه من الفوائد الكثير، وأهمها اللقاء الصادق الذي يربط بين الأدباء من أقصى الأرض إلى أدناها، ولا أدل على ذلك هذه الصداقة التي ربطتني وإياك، في صدفة من صدف الزمان.
وماذا عن المربد التاسع؟.. هو في عمقه ومداه لا يختلف عن المرابد الأخيرة، لكن مناخه العام ينمّ عن شعور وارتياح بجو السلام الذي سيسود المنطقة. وما أفظعها من حرب مدمّرة، كانت، وأملنا ألاّ تعود، وأملنا أن تنقلب الأرض غير الأرض في لبنان، ويعود إلى بناء الأعشاش لطيوره المهاجرة، وأنت من الطيور المهاجرة، يا أخي شربل!! أليس كذلك؟.
فمزيداً من الإتصال الروحي بيننا عبر المراسلات والمطبوعات، وكلّي اشتياق إلى المزيد فالمزيد: صحفاً أو دوريّات من عالـم المهجر، فلها مذاق خاص، ولها طعم لا يمّحى أثره من الوجدان، وسأوافيك مستقبلاً بأشياء من المغرب لتتبيّن عن كثب الحركة الأدبيّة النامية في بلدي".
رسالتا أشرف والطريبق لن أعلّق عليهما، ولن أشرح أبعاد كلماتهما الرائعة، بل سأنتقل إلى العراق لأطلعكم على إحدى رسائل الشاعر السرياني المعروف نزار الديراني، صاحب الدواوين العديدة، والرسالة بدون تاريخ:
" أمامي الآن دواوينك الأربعة، والفرح ينزلق على شفتيّ بسمةً معسّلة، وقد تجرّعت نصف الكأس كدفعة واحدة من العرق والليمون تخليداً لتلك الكأس التي قدّمتها لي في فندق شيراتون يوم التقيتك في المربد، وتجديداً لصداقتنا. كم تمنيّت لو استطاع العرق أن يرفع بعض الفقّاعات على سطح الكأس تعبيراً عن مجده. لا زالت الكلمات تنساب على الورق وابلاً من الخلجات، كالرصاص، وكأسي قد أشرفت على الإنتهاء. ولكن آه من القلم!.. لقد تساءلت مرّات ومرّات: لماذا لا ينساب حبّي على الورق من غير قلم؟.. أتذكر كم مرّة حاولت أن أعبّر لك عن شعوري، ولكن، وللأسف، يبدو أن الرسالة كالقصيدة، لا يأتي مخاضها إلاّ في الوقت المناسب؟.
أخيراً، أرجو أن يحالفني الحظّ للحصول على جميع مؤلفاتك المقبلة، وأعاهدك بأني سأرسل لك نتاجي حال الإنتهاء من الطبع. متمنيّاً لك الصحة والعافيّة".
ومن العراق إلى اليمن، لنقرأ معاً رسالة الإعلامي المعروف عبد الودود المطري، المرسلة بتاريخ 16 آذار 1991:
"شربل بعيني: الشاعر المبدع والصديق العزيز
تحيّة طيّبة وبعد،
أتمنّى أن تصلك رسالتي وأنت في صحّة جيّدة، كما أنا عليه، بعد أن زرت أمريكا وفرنسا. فرنسا لعلاج إبني فهيم، وأميركا بناء على دعوة وجّهت لي من هناك، من قبل وكالة الإعلام الأميركيّة، أنا ومجموعة من الصحفيين اليمنيين. إستمعت إلى الأشرطة التي بعثتها إليّ بواسطة الأخ محمد الشرفي، فشكراً لك. وحقيقة فإن هذه الطفلة (ريما الياس) المؤديّة للأغاني معجزة، وكلمات الأغاني مبدعة، والألحان جميلة جداً.
عزيزي شربل
أرجو أن تكتب لي عن أستراليا. كيف هي؟.. هل هي مثل أمريكا مثلاً؟.. إذا كانت مثل أمريكا، فقد عرفت أمريكا ولا تعجبني، لأنني شرقي صميم، ومتخلّف صميم، ويعجبني تخلّف الشرق وروحانيّته، وأكره المادة.
ضمن هذه الرسالة عددنا الأخير من الراصد، آمل أن يحوز إعجابك. بالمناسبة أنا أفكّر في أن أدرس يا عزيزي شربل، زهقت من العمل لأنه يمتصّني، يقتلني. أنا في الأساس مشروع شاعر فاشل، ولي بعض المحاولات البسيطة، وأكتب القصّة أيضاً. أريد أن أسأل إذا كان بالإمكان أن أدرس الأدب الأسترالي. أقصد إذا كان هناك منح مجّانيّة تقدّمها أي جهة كانت لمثل تلك الدراسات، فاكتب لي.. أود أن آخذ إجازة من الحياة لمدة عامين أو عام. للعلم، النفط أو الوسخ الأسود تدفّق هذا العام في بلادنا.
أحمد الأشول يسلّم عليك، والعزيز محمد الشرفي مسافر حالياً في العراق ضمن وفد رسمي وشعبي وحزبي وسيعود بعد يومين. وحقيقة نحن مشتاقون لرؤيتك في بلادنا، ومحمد الشرفي يود ذلك كثيراً، وإنشاء اللـه سيتم في أقرب فرصة. تعالوا اسكنوا في بيتي.
ملحوظة: السفارة البريطانيّة في صنعاء توزّع استمارات هجرة إلى أستراليا. أنا أريد أن أسبق الجميع، ولكن ليس بفرصة العمل، وإنما الدراسة. لغتي الإنكليزيّة لا بأس بها، يعني 40 بالمئة تقريباً، وأنا خرّيج، أصلاً، إدارة أعمال ـ بكالوريوس من جمهوريّة مصر العربيّة عام 1983، وأنا من مواليد 1958، ولكن قاتل اللـه الشعر والنثر والصحافة والقصّة، حولوا مجرى حياتي 180 درجة، ولـم أكسب سوى الشهرة. دلّني على بنك يصرف ثـمناً للشهرة".
ومن اليمن إلى لبنان، إلى رسائل الشاعر والمربّي اللبناني إيلي مارون خليل، لأنتقي منها هذه الرسالة المرسلة بتاريخ 29 أيّار 1988:
"أخي الحبيب الشاعر شربل بعيني المحترم
سلام عليك وعلى روحك الطيّبة..
لا أزال، وسأبقى، أذكرك صديقاً وأخاً. لقد كان مهرجان المربد الأخير مناسبة جيّدة بالنسبة إليّ، وصدفة عرّفتني بلبنانيّ صميم في دنيا الإغتراب، هو أنت يا شربل. ولقد قرأت مرّة خبراً في مجلّة المنبر، ورأيت صورتك فسررت.
رسالتك إلى سهيل وصلت من زمان. أنا سلّمته إيّاها في المدرسة، فنحن ندرّس في مدرسة واحدة (معهد القديس يوسف ـ عينطورة)، ويقول إنه كتب إليك بعدها مباشرة.
رسالتك إليّ المؤرخة في 11 نيسان 1988، وصلتني في 12 أيار 1988. أغتنم هذه الفرصة مع أقرباء صديق لي لأرسل إليك هذه الرسالة، وأخبرك شيئاً من أخباري.
ستصدر الطبعة الرابعة من كتابي القصصي عنكبوت الذاكرة والزمن في آب القادم، وعن المكتبة الأهليّة. بعدها بحوالي الشهر يصدر كتاب جديد لي عن الدار نفسها أشهد أنني عاشق. وفي مطلع 1989 ستصدر مجموعة قصصيّة جديدة، أكتبها للأطفال بناءً لاتفاق مع دار مكتبة بوليفر، التي أصدرت روايتي زهرة المدى المكسور في نوّار 1986.
وغير ذلك، الصحّة جيّدة. الإنتخابات الرئاسيّة يبدو أنها ستحصل في موعدها. الإتجاه العام، حتى الآن، هدوء.
أتمنى أن تراسلني دائماً، فأنا أسرّ. أطلعني على أخبارك، كتاباتك.. وإلى اللقاء.. ربما في مربد جديد.. من يدري؟! وألف شكر للمقال".
وأخيراً، سأنتقل إلى سوريا لأطلعكم على رسالة العقيد المتقاعد عبد الكريم ونّوس، المؤرّخة في 27 أيلول 1993:
"تحيّة وشوق..
التحيّة:
شكراً لك يا بعيني
وأنا بحطّك بـ عيني
بمناجاتك قلت الحقّ
بأمير المؤمنين
بِمْزاميرك هـ العشرين
فاح العطر والياسمين
قريت الإنجيل بياسين
يا حبّي ويا نور عيني
المالك تفكيرك علي
نِعم المالك والمملوك
الحقيقه ما بتنطلي
ولولا كترت حولا شْكوك
بثالوثك عندي إيمان
وكلمة أللـه بتجمعها
أللـه واحد بالأديان
وهـ الفرقه منَّك معها
أنا مسيحك عندي
متل محمّد قد بقدّ
والذكي بيفهم قصدي
وع كْلامي ما فيه يردّ
وأما الشوق:
إلى كل كلمة صدق وحقيقة وأمل تنبعث من أفواه تعوّدت نطق الصدق، وقول الحقيقة، وبعث الأمل في النفوس التوّاقة إلى الخير والحب والأمان. فشوقي إليك، وسلامي عليك وعلى أمثالك الذين تحرّروا من ربقة التقاليد، وقالوا الحقيقة في المثل الأعلى لكل الأمـم، لأن الكل احتاج إليه ولـم يحتج إلى الكل، ولذلك قيل عنه أنه إمام الكل. فالأعداء تفرّقوا عنه، ولكنهم أجمعوا على علاه، وكل الورى أثنوا عليه وعلى حسنه رغم قِلاه. فهو إمام الأئمة، حبّه إيمان، وبغضه نفاق. أمير المؤمنين، وأمير كل أمير، وما أقلّت الغبراء، ولا أظلّت الخضراء ندّاً له في كل عصر وزمان ومكان.
فحيّاك اللـه أستاذي الكريم على ما نطقت به من الدرر، وكانت مزاميرك العشرون بما حوته من معانٍ سامية، وأفكار نقيّة صافيّة، ومضامين ساطعة البراهين في رحاب أمير المؤمنين".
ستّ رسائل من ستّ دول مختلفة، بيّنت لنا مدى انتشار أدب شربل بعيني، فهو لـم يتقوقع في غربته، بل حلّق في الأرجاء العربيّة والعالميّة، ليخبر اصحاب الشأن الأدبي، من دكاترة ونقّاد وأدباء وشعراء وقرّاء عاديين، أن في أستراليا أدباً عربياً، قيمته بصدقه، بتواضعه، بتفاعله مع الأخرين، وبإنسانيته اللامتناهيّة.
لقد دفع شربل بعيني جنى عمره من أجل نشر أدبه، وإرساله إلى بلدان بعيدة، قد لا يحلـم هو بزيارتها، ومع ذلك وصل إليها عن طريق كلمته الشامخة، ولسان حاله يردّد:
"لقد سخّرت مالي في خدمت حرفي، وجنّدت حرفي في خدمة الإنسانيّة، فساعدني يا ربّ كي أمتلك الحقيقة".
**
تبّاً للغربة.. أم شكراً لها؟
في زاويته الشهيرة (ستوب) التي كانت تنشرها جريدة صدى لبنان، قبل توقّفها عن الصدور، كتب شربل بعيني بتاريخ 30 آب 1988، العدد 611، ما يلي:
"أربعة أشخاص سيفرحون كثيراً لدى قراءتهم هذه الرسالة: جورج يمين، جوزاف بو ملحم، ميشال حديّد، وفؤاد نعمان الخوري. الثلاثة الأوّلون من تلامذتها، والرابع أحد أحبّ الأصدقاء إلى قلبها، أمّا صاحبة الرسالة فهي الأديبة الشماليّة المعروفة سوزان بعيني".
وفي (ستوب) آخر، نشرته صدى لبنان في 16 كانون الثاني 1990، العدد 674، كتب شربل:
"حظّي يفلق الصخر، هذا ما قلته وأنا أتلقّى بطاقة معايدة من الأديبة المجدلاويّة سوزان بعيني، في نفس اليوم الذي تسلّمت به هديّة الفنانة نجوى عاصي (كمشة تراب من مجدليّا).
كلمات سوزان تتألّق دائماً، وتتشاوف الواحدة على الأخرى بدلع مستحبّ".
وفي ديوانه رندح يا وجع، الصادر في سيدني عام 1989، خصّ الشاعر المهجري فؤاد نعمان الخوري صديقته سوزان بعيني بالتفاتة رائعة، حيث نشر فيه القصيدة التي ألقاها في "يوم محمد زهير الباشا" الشهير، الذي أقيم في 30 حزيران عام 1989:
ـ1ـ
زنبق مجدليّا، السنه، حملان
صارت جنينه تخبّر جنينه
شاعر مجدليّا صبي جهلان
غنّو، تا يكبر شربل بعيني:
يا بيّاع العنب والعنبيّه
قولو لأمّي، وقولو لَبيّي
سرقوني الغجر،
من تحت خيمة مجدليّه
ـ2ـ
ومين قال: بيروحو الغجر؟ مين قال؟
.. وشاعر نسي تاريخ ميلادو
لا سهول حفظت دعستو، ولا جبال،
جوّال، مطرح ما الحلم قادو..
رفيقو بهالرحله الطويله، خيال،
والذكريات الغافيّه زادو،
وعا كلّ تلّه يطلع بموّال،
وبسرير بالو ينيّم ولادو:
يا بيّاع العنب والعنبيّه
قولو لأمي، وقولو لبيّي
قتلني الضجر
واللغات الأجنبيّه!
ـ3ـ
كانت تجي سوزان البعيني
تقلاّ عيون الشعر: يا عيني
ترشرش ع (بحويتا) القوافي، نبيد،
من تـمّ جرّه، ما لِها دَيْنِه
من بعيد بلمح صوتها، من بعيد،
واقف حكم، بين المدى وبيني
سوزان! عم ألّف كتاب جديد
وموعود من شعرك بِـ حلويَنِه،
وغنّي معي بهالعيد:
يا بيّاع العنب والعنبيّه
قولوا لأمي، وقولوا لَبيي
مشتاق الشجر
للطيور العسليِّه!
كما خصّها فؤاد بالتفاتة أروع من الأولى، في هذه الرسالة التي أرسلها لشربل بتاريخ 19 نيسان 1988:
"تحيّة لبنانيّة وبعد،
أشكرك على كلمتك اللطيفة في صدى لبنان، وصدانا أيضاً، في عدد الثلاثاء 5 نيسان 1988.
وأشكر صديقنا الأستاذ جوزاف بو ملحم، الذي شرّع لنا قلباً وقلماً وجريدة.
اسم اللـه عليك يا شربل، يا مسبّع .. الصفحات!
لا أكاد أنتهي من معانقة أبياتك في صحيفة، حتّى أسلّم عليك في أخرى.
أيّها النبع الفوّار..
ليس كثيراً عليك أن (تطوف) شعراً، لأنّك ملأت جرارك من (عيون مجدليّا).
ولا أستغرب شفافيّة لديك، فقريبتك (سوزان) تفيض في لبنان رقّة وجمالاً وثقافة، والشعراء يكتبون.
أما مسألة التقليد والتجديد في الشعر، فتلك مسألة محسومة من زمان، لأننا أبناء الحريّة والمستقبل، والتجديد من المسلّمات.
شكراً مرّة ثانية، والسلام عليك".
أما الدكتور عصام حدّاد فقد ذكرها بهذا المقطع من رسالة أرسلها لشربل في 13 تشرين الأول 1990:
"كما أني ذهبت إلى مجدليّا، وتحدّثت طويلاً إلى الأديبة سوزان بعيني، وكنت أنت الوصلة في كلّ حديث، وحين وطأت أرض مجدليا، تصوّرت شربل الطفل، واليافع، والشاب، يعدو في ربوعها، وبين أشجارها، وخلف صباياها، وعلى منابرها".
هذه هي الأديبة اللبنانيّة سوزان بعيني التي سأطلعكم على بعض رسائلها لابن بلدتها مجدليّا. وصدّقوني أن أسلوبها في كتابة الرسائل أقرب ما يكون إلى الشعر، وأجمل ما يكون من نثر. وخير دليل على ذلك هذه الرسالة التي أرسلتها بتاريخ 25 تمّوز 1988.
"شربل، يا صديقي الشاعر..
قد تكون هذه الرسالة العاشرة التي أبعث بها إليك، والوحيدة التي خططت كلماتها على ورقة.
أما الباقيات، فوشوشات ومناجاة، كان عليّ أن أترجمها أحرفاً قبل الآن، إنّما بقيت أضغاث أحلام، وبقيت أنت في الفكر والوجدان.
شكراً على هديّتك الثـمينة، التي أتتني من خلف البحار، ورائحة شربين مجدليّا عالقة بكلّ صفحة من صفحات هذه الدواوين القيّمة.
شربل الصغير، الذي كان يكتب الشعر على عيون مجدليّا، وخلف دير مار الياس، وتحت كينة الكنيسة، وأمام دكّانة خرستين.
شربل المراهق الذي نظم لعينيّ كل فتاة مجدلاويّة، وكلّهن جميلات، شعراً.
شربل الشاعر، الذي زيّن بيوتات مجدليّا بديوانيْ مراهقة و قصائد مبعثرة.
شربل الذي سار هذه الدرب الطويلة بين مجدليّا وسيدني، أصبح اليوم (شاعر المهجر الأول)، يوقظ الضمائر، يستلّ سيف الحقّ، ويشهره بوجه تجّار الوطن، يخطّ تيّاراً جديداً، ويخلق نهضة أدبيّة وفكريّة، ويصبح بذلك (سفيراً فوق العادة). فهو يحمل الوطن للمغتربين، ويحمل أستراليا، بلاد الإغتراب، إلى الوطن الأم لبنان.
كل المواعيد تحقّقت بك يا صديقي، وهنيئاً لمجدليّا يرفع إسم مجدها عالياً إبنها البار شربل سركيس بعيني.
كنت أتمنّى أن أحصل على مؤلّفاتك كلّها، لتكتمل مجموعتي، ويزداد بك فخري واعتزازي. فديوانيْ مراهقة و قصائد مبعثرة احترقا مع ما احترق من مكتبتي ومكتبة والدي القيّمة، يوم أحرق بيتنا في 27 آذار 1976.
ومؤلفاتك في بلاد المهجر لـم يصلني منها سوى: الغربة الطويلة، مجانين، من كل ذقن شعرة، ومن خزانة شربل بعيني. وقد تهافت أهل البيت على قراءتها بدءاً بوالدتي، التي تسألني كل يوم: هل كتبت إلى شربل؟.. هل أهديته سلامي؟.. هل قلت له إنني أصلّي كي أراه في الوطن قبل أن أموت؟.. ومروراً بأولاد أخي الصغار منهم والكبار.
أجمل ما في كتاباتك، أنك تقطف من كل البساتين أجمل الباقات وأحلى الزهور.
تتنقّل ما بين الشعر اللبناني المرهف، والشعر العربي الفصيح، والنثر الساخر، والقصيدة الحديثة، وتبدع في كل نوع تتناوله.
لا أعلم.. هل صدر لك حديثاً شيء جديد؟ أكون لك شاكرة إن زوّدتني به.
شكراً لكلارك بعيني الذي أثبت فعلاً أنه أديب مرهف، إذ جمع لك كل ما قيل عنك، وأتحفنا بكتاب قد يكون فريداً من نوعه. هل صدر رقم ـ2ـ.
أنا مشتاقة إلى أخباركم الأدبيّة والإجتماعيّة، لا تبخلوا بها عليّ. أتمنى لو أحصل دوماً حتى على المقالات التي تنشرها في الصحف هناك.
لا أدري في النهاية، هل أقول: تبّاً للغربة التي سلبتنا الشاعر؟ أم: شكراً للغربة التي بلورت موهبتك الشعريّة، وجعلت منك (شاعر المهجر الأول)؟".
لقد أطلعتنا سوزان، برسالتها هذه، على أشهر الأمكنة المجدلاويّة التي كان يلجأ إليها شربل من أجل كتابة الشعر. فتارة كان يكتب على عيون مجدليا، وتارة أخرى خلف دير مار الياس، وطوراً تحت كينة الكنيسة، وأحياناً كثيرة أمام دكّانة جدّته المرحومة خرستين. والظاهر أن هذه الأمكنة من معالـم القرية، وأنها تعني الكثير لشربل، وإلاّ لما اهتمت بها سوزان، ولما ذكّرته بها.
وأعتقد أن أجمل ما في رسالة سوزان تلك النهاية المعبّرة جدّاً، التي تفيض وعياً وإدراكاً، وتتلاعب بعواطف قارئها كما تتلاعب بالكلمات: "لا أدري في النهاية، هل أقول: تبّاً للغربة التي سلبتنا الشاعر؟ أم: شكراً للغربة التي بلورت موهبتك الشعريّة، وجعلت منك (شاعر المهجر الأول)؟".
أجل، تبّاً للغربة يا سوزان، لا لأنها أبعدتنا عن أهلنا وربوعنا، بل لأنها كشفت أمامنا همجيّة الحكّام في أوطاننا، وأنهم لـم يسمعوا بالإنسانيّة، ولا بالديموقراطيّة، ولا بحقوق الإنسان، ولا بحريّة التعبير عن الرأي، ولا بالعدل. هذا ما كشفته لنا الغربة، وهذا ما أدمانا في الصميم. فلقد كنّا نعتقد، قبل غربتنا، أن الكون كلّه مبنيّ على الغلط، وأن قوانين الدول كلّها، كقوانين بلادنا، لا تعرف الحق والعدل. ولكن، وللأسف، اتضح لنا أن بلداننا العربيّة، والعديد من الدول الأخرى، ما زالت تعيش حالات مستعصيّة من الهمجيّة والحرمان الإجتماعي والإنساني. وأنها بحاجة إلى معجزات إلهية متعدّدة كي تماشي العصر، وتمحو غربة سكّانها بالداخل، قبل أن تفكّر بعودة مغتربيها، إذ أن الغربة عن الوطن في الوطن أشد مرارة من غربتنا هذه.
وعلى بطاقة ميلاديّة بدون تاريخ، كتبت سوزان عدّة أسطر، تختصر بها كل ما قلته سابقاً، فهي، أيضاً، في الوطن، تائهة في الصحراء، كالمجوس، تبحث عن نجمة الخلاص وباب الأمل، أما ليست هذه غربة في الوطن عن الوطن، بلى واللـه. وإليكم ما كتبت:
"صديقي شربل..
تائهون في الصحراء، كما المجوس، نبحث عن نجمة الخلاص وباب الأمل، بينما العواصف الرمليّة تتقاذفنا من كل جهة.
عجيب أن أكتب لك ذلك في ليلة عيد الميلاد، عيد الأمل والحق والسلام.
السلام؟ نتوق إليه، نتضرّع إليكم أن تصلوا من أجله.
نشتاق إليكم في الأعياد، وعلى أمل لقياكم، نطلب من الطفل الصغير أن يقودنا وإياكم إلى الخلاص".
ألـم أقل لكم أننا بحاجة إلى معجزات إلهيّة كي تتوقف قافلة التشرّد عن الوطن، بعد أن بدأت الدول الراقيّة ترفض لجوءنا إليها؟.. فلقد تبيّن لها أن حبل اللاجئين العرب أطول من يوم الدينونة، وأن تشرّد الشعب العربي من جور حكّامه، وأنظمته التعسفيّة، أكبر من أن تستوعبه الدول، ومنظمات حقوق الإنسان. إنه كابوس حقيقي أطلّ على العالـم، ولا ينقذ العالـم منه، إلاّ انتفاضة الشعب العربي ذاته، وإحقاق حقّه الإنساني والإجتماعي والديموقراطي بدمه الطاهر.
وفي رسالة أخرى بدون تاريخ، وإن كانت قد أرسلتها قبيل حلول عام 1992، كما فهمت من كلماتها، تتمنى سوزان أن تحمل السنة الجديدة وعداً للأمنيات القديمة. ولكي تعرفوا ما هي أمنياتها القديمة، سأنشر ما جاء في الرسالة:
"أيها الحبيب شربل..
يا شاعر قريتي، يا شاعر لبنان..
سنة جديدة تتهيّأ لاستقبال الأيّام، وشبح الحرب يبتعد عن لبنان إلى غير رجعة، إن شاء اللـه.
على عتبة السنة 1992، هل تجوز لنا الأمنيات من جديد؟!
هل يعود إلينا الحلم؟!
هل يمكننا، بعد، الترجّي؟!
أمنيتي أن يعود السلام إلى وطني.
حلمي أن يعود أبناء وطني إلى وطني.
أمّا رجائي، فهو أن أرى وجهك من جديد يملأ شوارع قريتي، بعد أن شرّدتك الحرب في دروب الغربة.
أن أرى بيتك الصغير المهجور يفتح أبوابه للراحة والدفء، ويفتح نوافذه العتيقة، فيشع منها النور من جديد.
هل تحمل السنة الجديدة وعداً للأمنيات القديمة؟".
ستتحقّق، بإذن اللـه، أمنياتك القديمة، أيتها الأخت سوزان، وسيشرّع بيت شربل بعيني الصغير المهجور أبوابه للراحة والدفء، وسيفتح نوافذه العتيقة ليشعّ منها نور الحياة. فأدب شربل، كما قال الأديب سامي مظلوم، هو من أدب الحياة. وأعتقد أن أدباً كهذا، سيعود إلى أرضه، ليعيش إلى الأبد في ذلك البيت الصغير.
**
عبد اللطيف اليونس: أي شعر فصيح لا يمكن أن يسمو على شعور هذا الشاعر باللغة العاميّة
الدكتور عبد اللطيف اليونس.. مَنْ مِنَّا، نحن السوريين أو العرب، لـم يسمع به؟ إنّه أشهر من أن يعرّف، فلقد انتخب نائباً في البرلمان السوري أكثر من مرّة، وخصّه والد الأدب المهجري الأستاذ نعمان حرب بتاسع قباساته عن الأدب المهجري. ومن هذه القبسات أختار:
"بعد زوال عهد الشيشكلي، عاد المجلس الشرعي للإنعقاد، وجرت إنتخابات نيابيّة جديدة سنة 1954، فاز بها اليونس من جديد مرّة ثانيّة بعضويّة المجلس النيابي. وكانت قد تألّبت ضدّه قوى هائلة، وبذل مناوئوه أموالاً كثيرة، ولكنه نجح ورفيقيه اللذين كانا معه في القائمة نجاحاً كان له دويّ في سائر أنحاء البلاد.
الأستاذ اليونس أوّل من طالب بتأميم البترول العربي، وتأميم الشركات الأجنبيّة، وإلغاء جميع الاتفاقات والمعاهدات مع دول الغرب، وعقد اتفاق مع الاتحاد السوفياتي، والوقوف في وجه الإمبرياليّة والصهيونيّة. وقد أحدثت المذكّرة التي قدّمها إلى جامعة الدول العربيّة بهذا الشأن، ضجة كبرى في العالـم كلّه، لأنها كانت أول مطلب من هذا القبيل، ثـم لأنها صدرت عن نائب في المجلس النيابي السوري وأمين سرّه، وتناولت مواضيع مهمة وخطيرة ذات تأثير كبير على دول الغرب كافّة".
على بعض رسائل هذا المناضل والأديب الكبير سأطلعكم، كما سأقوم بتحليل دراسة كتبها عن ديوان مناجاة علي لشربل بعيني، ونشرتها الثقافة السوريّة في 9 أيار 1992 على صفحتها الأولى.
في 12 أيلول 1992، أرسل الدكتور اليونس رسالة لشربل يخبره بها أن الأديب نعمان حرب يعطّر المجالس بذكره، وأنه التقى نسيبه المرحوم يوسف بعيني في سان باولو. وإليكم ما كتب:
"الأديب الكبير الأستاذ شربل بعيني الأكرم..
أعطر التحيّات وأنضرها لقلبك الطيّب المشرق، ولمن حولك من الأخوة الكرام الميامين.
وبعد، لقد تلقّيت رسالتك الكريمة من أديبنا الكبير الأستاذ نعمان حرب، الذي يعطّر المجالس بذكرك وذكراك، وذكر بقيّة الأخوة الذين نعتزّ بهم ونزهو.
وأعتذر لتأخري بالكتابة لك، لأني كنت موجوداً بأحد المصايف القريبة من دمشق، حيث تلطّف الأستاذ حرب وزارني مع الأستاذ مدحة عكاش وبعض الأصدقاء الأعزّاء. وقد انصرفت في ذلك المصيف إلى المطالعة، وألقيت باليراعة إلى حين. فمعذرة أيها الأخ النبيل لتأخّري بالجواب.
نسيبك المرحوم الأستاذ يوسف بعيني كان موجوداً في سان باولو كبرى المدن الأمريكيّة، وكان يشرف على تحرير مجلّة العصبة التي كانت تنشرها العصبة الأندلسية، وكان رئيسها الشاعر الكبير الشهير شفيق المعلوف.
والذي أعرفه عنه أنه من كسروان، وأكثر من هذا لا أذكر. وقد توطّدت الصلات معه، واستمرّت الكتابة بيننا إلى أن انتقل إلى رحمة اللـه، وله ذكرى كريمة في نفوس عارفيه جميعاً، ولا أستثني.
كان ذا يراعة مترفة، وقلب نابض مشرق، ونفس أبيّة نقيّة. وقد نشرت ما كتبه عنّي في كتابي بين عالمين. وكانت له منزلته المرموقة في الجالية العربيّة، وهو في الطليعة من الأدباء المجلّين.
ولكن أكثر أولئك الأدباء قد ضاعت أخبارهم وآثارهم، لأنه لـم يتح لها أن تنشر في حياتهم، مع ألف أسف وأسف!!
أيها الصديق الكريم:
إن لك أثراً كريماً في نفسي، وأرجو متى تتاح لك فرصة زيارة الوطن الأم، أن تذكر أن لك أخاً يحنّ للقائك ولقاء بقيّة إخوانك، وألف أهلاً بك وبهم.
مكرراً وافر تحيّاتي، مقرونة بوافر مودّتي وتقديري.
لاحقة:
منذ أيّام قليلة كنا في زيارة لجبل العرب، حيث أقيمت أمسية أدبيّة في المركز الثقافي العربي بمدينة السويداء، وقد نعمنا وسعدنا بلقاء الإخوة هناك، وفي طليعتهم الأخ الأكبر الأستاذ نعمان رجل الطيبة والمكرمات".
وقبيل حلول عام 1993، أرسل مناضلنا الكبير هذه التهنئة لشربل بتاريخ 23 كانون الأول عام 1992، وفيها يقول:
"الشاعر المبدع الأستاذ شربل بعيني الأكرم
تحيّة الأدب والعروبة، مشفوعة بوافر التقدير والإعتبار.
وبعد: فإني أغتنم مناسبة حلول العام الجديد لأبعث إليكم بأحرّ التهاني، وأجمل الأماني.
راجياً لكم، ولأسرتكم الغالية، ولمن يلوذ بكم من الأنسباء والأصدقاء، عاماً جديداً سعيداً. واللـه يحفظكم ذخراً للمروءة والمكرمات.
مكرراً لكم وافر التحيّات".
وفي التاسع من أيّار عام 1992، نشر اليونس على الصفحة الأولى من الثقافة السوريّة دراسة حول ديوان مناجاة علي الذي ترجم، وما زال يترجم، إلى عدّة لغات عالميّة. والذي قال عنه الشاعر المهجري فؤاد نعمان الخوري في مقابلة صحفيّة أجرتها معه جريدة صوت المغترب، ونشرتها في العدد 1952، الصادر بتاريخ 31 تشرين الأول عام 1991:
"شربل بعيني قام بمحاولة جيّدة في مناجاة علي، حيث أخذ الزجل ليحتكّ بقضايا جديدة من الفلسفة والمصير والكون.. هذه الخطوة بحد ذاتها مباركة".
والآن، سأبدأ بنشر دراسة اليونس والتعليق عليها:
"أحب شعر الزجل، وأحفظ بعضه وأرويه، لكنّي، وأعترف، لست من مؤيّديه، والأصحّ من مؤيّدي نشره بكتب، لينوب عن الفصحى، ويحلّ محلّها.
وقد تكون هذه المحاولات عند بعضهم بريئة، ولكنّها عند البعض الآخر ليست كذلك..
وسعيد عقل أعلن، ويعلن باستمرار، أن رسالته في الحياة، هي أن تحلّ العاميّة محلّ الفصحى في لبنان.
ولو لـم يكن للبنان رسالته العربية والأدبيّة الخالدة خلود الدهر، لكانت صيحة سعيد عقل قد لاقت صداها الإيجابي عند بعض اللبنانيين.
ولكن الواقع اللبناني، والروح القومي الرفيع في لبنان، هما أسمى من أن يؤثّر عليهما داعٍ للإنعزاليّة، وعامل لها، ومستميت في سبيلها.
وتلطّف أديبنا الكبير الأستاذ نعمان حرب، وأهداني ديوان شعر للشاعر شربل بعيني، وعنوانه مناجاة علي، وحينما بدأت بقراءته، نسيت نفسي ووقتي، واندفعت به حتّى أتمتته.
الشعر هو وليد الشعور، وهو ليس وقفاً على قافية ووزن، بل إن له منطلقه في أي رحاب وأي مجال.
وديوان الشاعر بعيني هو شعر حقاً، بصرف النظر عن لونه باللغة العاميّة، وليست الفصحى.
ولا أحب أن أعود لتكرار ما قلته عن معارضتي الكتابة بغير الفصحى، ولكنّي أحب أن أؤكد بأن أي شعر فصيح لا يمكن أن يسمو على شعور هذا الشاعر باللغة العاميّة.
أفكار متتابعة، وصور متسلسلة، وتعبير عن المشاعر: رقيق عذب حلو..
الإمام علي بن أبي طالب دنيا من المكرمات والطيبة والبلاغة، التي لـم يعرف التاريخ العربي مثيلاً لها، لا قبل ولا بعد، كما يعترف بذلك كافة المستشرقين، وسائر المنصفين.
وإذا كانت السياسة، في الزمن القديم، قد حاولت الحدّ من شهرته، والغضّ من قيمته، فإن الجوهر يظلّ جوهراً، ولو علاه التراب، ومتى يزال عنه، يبدو أكثر نضارة وأشد لمعاناً وإشراقاً. وقد قال الفيلسوف والبحّاثة الكبير جبران خليل جبران: (لقد جهل العرب قدر الإمام علي بن أبي طالب، حتى قام بين جيرانهم الفرس قوم يفرقون بين الجوهر والحصى).
من أروع، ولعل أروع ما كتب عن علي بن أبي طالب، هو ما كتبه الكاتب الكبير جورج جرداق، وما أحسب أن في المكتبة العربيّة ما هو أبدع من هذا الكتاب ولا أسمى، لا من حيث موضوعه، وإنما من حيث تناول الموضوع، وكيفية معالجته، والأسلوب الشيّق البليغ الذي كتب به.
ولقد عرف الشاعر شربل بعيني هذه الحقيقة وآمن بها، فأهدى ديوان شعره هذا إلى الأستاذ جورج جرداق، وقال في عبارة الإهداء القصيرة المعبّرة: (إلى الأديب العربي الكبير جورج جرداق، الذي غنّى عليّ بن أبي طالب، صوت العدالة الإنسانيّة، كما لـم يغنّه أحد من قبل).
إنّها عبارة معبرة ومؤثرة، تشير إلى مدى تأثّر شاعرنا بكلمة حقّ تقال، وببيان رائع عذب، وقفه جرداق لخدمة الحقيقة ومواكبتها والدفاع عنها.
ما أشد حاجتنا إلى كتّاب نزيهين منصفين، يرتفعون فوق أي مستوى، ليندغموا بالمثل الأعلى الذي خلقوا منه، وتصبح أقلامهم جزءاً منه.
ويوم نصل إلى هذا المستوى، نصير ناساً كالناس، ولا أقول: فوق الناس، ومعاذ اللـه أن أقول!
تحيّة إلى الشاعر شربل بعيني، وإلى روح نسيبه يوسف البعيني، الذي عرفته في البرازيل، وقد تلطّف وخلّدني بما كتبه عنّي في مجلّة العصبة الأندلسيّة، والذي سيبقى ذكره معي ما بقيت، ويحيا ما حييت.
ومزيداً من العطاءات والإبداع، أيها الشاعر المحلّق المبدع شربل، فمثلك وحده يعمل لوحدة أمته، ويسعى لرفع الحواجز من بينها، وإعطاء فكرة خيّرة نبيلة عنها.
أنت وجرداق وجورج زيدان قد دخلتم التاريخ من أوسع أبوابه، وخلّدتـم في محرابه، فمرحى، ثـم مرحى".
رغم أنني أبديت رأيي في ما يختص بنشر الشعر العامي في كتب، يوم كتبت عن الشاعر السوداني تاج السر الحسن، أجد أن من الأنسب إعادة نشر بعض ما كتبت، وذلك لتوضيح الصورة.
يؤكّد الدكتور عبد اللطيف اليونس، في دراسته، أنه يحب شعر الزجل، وأنه يحفظ بعضه ويرويه، ولكنه ليس من مؤيّدي نشره بكتب، مخافة أن ينوب عن الفصحى، ويحلّ محلّها. رغم أنّه أكّد في نفس الدراسة: "أن أي شعر فصيح لا يمكن أن يسمو على شعور هذا الشاعر باللغة العاميّة".
فإذا كان الدكتور عبد اللطيف اليونس، يعترف أن ما من شعر فصيح يمكنه أن يسمو على شعور شربل بعيني باللغة العاميّة في ديوانه العالمي مناجاة علي، فلماذا إذن لا يؤيّد نشره بكتب؟!.
أما ليس هو القائل عن ديوان مناجاة علي المنشور باللغة العاميّة: "حينما بدأت بقراءته، نسيت نفسي ووقتي، واندفعت به حتّى أتمتته"؟. أفلا يستحق هذا الشعر العامي أن ينشر بكتاب، وفيه ما فيه من السحر واللذة والشعور والبلاغة؟!
ولو لـم ينشر شربل مزاميره الزجلية بكتاب، أما كان اليونس قد حُرم من التمتّع بقراءتها، وحُرم الأدب العالـمي من الحصول عليها، بعد أن ترجمت إلى عدّة لغات، وحرمنا نحن أيضاً من قراءة ومناقشة دراسته الرائعة هذه؟.
ثـم مَن قال إن الشعر العامي سيحلّ محلّ الفصحى؟!.. فمنذ التكوين والشعر العامي يسير بمحاذاة الفصيح، دون أي اصطدام، أو دون أن يخيف أحدهما الآخر، أو أن يفكّر بإلغائه.
أنا أعرف أن الدكتور اليونس، صاحب القلـم الرائع، لا يريد أن يحرمنا من الإطلاع على آدابنا الشعبيّة، ولكن خوفه من شرذمة قوانا اللغوية والأدبيّة، هو الذي أملى عليه ما كتب، وإلاّ لما كان خصّ ديواناً شعبياً بهذه الإلتفاتة المميّزة.
فاليونس يؤكد أن ديوان الشاعر بعيني "هو شعر حقاً، بصرف النظر عن لونه باللغة العاميّة وليست الفصحى". كما أنه يطلعنا على رأيه الصريح الصادق بالشعر: هل هو وزن وقافية، كما يريده البعض أن يكون، أم أنه إبن الحريّة والخيال؟ فيقول: "الشعر هو وليد الشعور، وهو ليس وقفاً على قافية ووزن، بل إن له منطلقه في أي رحاب وأي مجال". ولهذا رأى أن شعر شربل في المناجاة: "رقيق، عذب، حلو".
إنه يريد أن يفهمنا بكلمات قليلة أنه مع الشعر الشعر، أياً كان شكله، وأياً كانت لغته، شرط أن يكون وليد شعور كاتبه، ليس إلاّ.
وفي نهاية دراسته، أو مقاله لا فرق، نراه يعرب عن حاجته إلى كتّاب نزيهين منصفين، يرتفعون فوق أي مستوى، ليندمغوا بالمثل الأعلى، الذي هو الإمام علي، ويوم نصل إلى هذا المستوى، يقول اليونس: "نصير ناساً كالناس، ولا أقول: فوق الناس، ومعاذ اللـه أن أقول".
لقد توقّفت كثيراً عند حاجة اليونس إلى كتّاب نزيهين، التي هي حاجتنا جميعاً، في الوطن والمهجر، فوجدت أن الأنانيّة أعمت بصيرة البعض، والحسد شلّ عقول البعض، والطائفيّة قضت على إنسانيّة البعض. وفي نفس الوقت وجدت أن الكتّاب النزيهين المنصفين ليسوا قلّة على هذه الأرض، بل أنهم نعمة إلهية لبني البشر. وبين هؤلاء الكتّاب وجدت اليونس يشمخ بأنفه عالياً.
أخيراً، يوجّه اليونس هذه التحيّة العملاقة كقلمه إلى شربل:
"مزيداً من العطاءات والإبداع، أيّها الشاعر المحلّق المبدع شربل، فمثلك وحده يعمل لوحدة أمته، ويسعى لرفع الحواجز من بينها، وإعطاء فكرة خيّرة نبيلة عنها.
أنت وجرداق وجورج زيدان قد دخلتم التاريخ من أوسع أبوابه، وخلّدتـم في محرابه، فمرحى، ثـم مرحى".
بعد كلام هذا الأديب السوري الكبير، ماذا بإمكان مهندس زراعي أفنى عمره بزراعة الأرز السوري الشهي، أن يقول؟. لذلك سأنهي كلامي وأخلد للنوم، وطيف سوريا الحبيبة يخفف من غربتي، ويزرع على لساني هذا البيت الخالد من الشعر:
بلادي، وإن جارت عليّ عزيزةٌ
وأهلي، وإن ضنّوا عليّ كرامُ
**
روبير خوري وصوت الشاعر
الشاعر اللبناني المعروف روبير خوري هو صاحب مجلة صوت الشاعر، التي تعنى بالأدب الشعبي اللبناني، وأعتقد، وإن كنت غير متأكّد، أنها آخر مجلة تصدر في هذا المضمار، بعد أن توقّف معظمها عن الصدور، وحرم أدبنا الشعبي من وسائل إعلاميّة تنشره وتدعو إليه.
من رسائل روبير أختار رسالة حسبتها، بادىء ذي بدء، قصيدة، نظراً لأسلوبها الشاعري المميّز، كان قد أرسلها لشربل في 12 حزيران 1992:
"الصدفه اللي أوقات بتغيّر كتير من مجاري الأمور.
.. صوت الشاعر اللي قرّبت المسافات البعيدة.
.. كلمتنا اللي كانت الحافز المباشر لهالتلاقي الفكري بيننا.
هالتلات عوامل بتأمّل تزيدنا تعارف بطريق المستقبل.
استلمت هديتك اللي هيّي أهم شي بنظري ممكن يهديه إنسان لإنسان. هديتك اللي بعتبرها دَين وما بقدر ردّو. لأنّو شربل بعيني الشاعر والأديب اللي هداني عصارة فكرو الشعري والأدبي بدون معرفة سابقة، لا بد إنّو يكون إنسان محبّ وصادق.
يا عزيزي بكل تواضع بهديك أعداد مجلّة صوت الشاعر، هالمجلّة اللي بتأمّل تتصفّحا وتنال اهتمامك.
بيسرّني، وبيسرّنا بصوت الشاعر إنّو نكسب محبّة صديق، وإنّو يصير في بيننا تواصل، وتبادل شعري، ومنتأمّل يكون لصوت الشاعر محطّة ترتاح فيا بأستراليا عند شاعر كبير بيقدّر قيمة الشعر.
صفحات صوت الشاعر مفتوحة لشعرك وأخبارك، وقلوبنا مفتوحة لمحبتك.
بكرّر شكري لمبادرتك بالإتصال بصوت الشاعر، وبشخصي، وبتمنى نلتقيك بالوقت القريب بلبنان".
أمّا الرسالة الثانية، فقد افتتحها روبير بردّة زجلية حلوة، وكأنه يريد أن يخبرنا أن لا شيء يتقدّم الشعر، حتّى في الرسائل، والرسالة، للتوثيق فقط، بدون تاريخ:
"صديقي الشاعر شربل بعيني المحترم
يا رفيق الكلمه الحدّه
الرافقت الكل بشوطك
اشتقنا عليك، ومن مدّه
ما عدنا سمعنا صوتك
اغتنمت فرصة سفر السيّدة دورس دوماني عا أستراليا، تا إبعتلك هالرساله المتواضعه، اللي بتحمل إلك شوقي ودعائي باستمرار نجاحك الأدبي والشعري.
صديقي: بسألك عن أشغالك وأحوالك، وبتمنالك كل خير. زوّدنا بأخبارك الشعريّة، إذا بيهمّك، ونحنا حاضرين لنشرها عا صفحات صوت الشاعر.
إذا بتريد أي خدمة من لبنان، نحنا حاضرين، ومنتمنى استمرار التواصل الفكري والشعري بيننا".
وعندما كرّمت الجمعيّة الإسلامية العلويّة في سيدني شربل بعيني على ديوانه مناجاة علي، كانت مجلّة صوت الشاعر السبّاقة الى نشر الخبر في الوطن الأم لبنان، فكتبت في عددها 31 الصادر في شهر كانون الأول 1992، ما يلي:
"بدعوة من الجمعيّة الخيرية الإسلامية العلوية، وفعاليات الجالية اللبنانية والإعلاميّة في مدينة (بانشبول) بأستراليا. أقيم حفل تكريمي للشاعر المهجري شربل بعيني، بمناسبة صدور ديوانه مناجاة علي. كان ذلك مساء السبت 7 تشرين الثاني 1992، في قاعة غرانفل ـ تاون هول.
حضر الإحتفال جمهور كبير من خيرة وجوه الجالية اللبنانيّة، بالإضافة إلى مجموعة من رجال فكر وإعلام أستراليين، وقد رعى الإحتفال سعادة السفير اللبناني الأستاذ لطيف أبو الحسن، كما شارك فيه الأديب اللبناني جورج جرداق.
وقد تكلّم في هذا المهرجان فضيلة الشيخ كامل وهبه، والشاعرة الأستراليّة آن فيربرن، الآنسة ليلى الأيوبي، الآنسة نجوى عاصي، الأستاذ مايكل هولنغورث، الأستاذ رفيق حمّودة، والأستاذ كامل المر.
ومما جاء في الدعوة: تكريم شربل بعيني هو تكريم لكل أديب مهجري، ولكل مغترب رمت به رياح الظلم على شطوط الغربة، ولكلّ من آمن بالإنسانيّة الشاملة.
صوت الشاعر بدورها تهنّىء الشاعر شربل بعيني على هذا التكريم، الذي سرّنا أن يكون لشاعر زجلي من بلادنا، تتمنى له دوام النجاح في عالـم الكلمة".
يتضح لنا من صياغة الخبر أنه نقل إلى المجلّة شفهياً عن طريق الهاتف، أو عن طريق إنسان ما، سافر إلى لبنان بعد أن حضر المهرجان، لهذا دخلت (بانشبول) كمدينة، وليس كمنطقة من مدينة سيدني، وسقط إسم البروفسور نديم نعيمة من بين الأسماء المشاركة، وهذا ما يدل على أن الشاعر خوري يتتبّع أخبار الشعراء المهجريين وينشرها، كما تصله، المهم أن يكون السبّاق الى تشجيعهم، وتسليط الضوء على نشاطاتهم في ظروف صعبة للغاية كان يمرّ بها لبنان، أقلّها اقتتال بنيه، وانهيار عملته، وترحيل ما تبقّى من طاقاته الفكريّة والإبداعيّة.
وزيادة في تكريم شعراء الإغتراب، اختار روبير ديوان رباعيّات لشربل بعيني (كتاب الشهر)، وخصّه بدراسة رائعة، وبالتفاتة مميّزة على غلاف مجلته صوت الشاعر. وترحيباً منها بالخبر، نشرت البيرق في عددها 593، الصادر في 29 كانون الأول 1992، ما يلي:
"مرّة جديدة يؤكّد الشعر الإغترابي أو المهجري حضوره على الساحة الأدبيّة، ليس فقط في بلاد الإغتراب، بل أيضاً في الوطن الأم، ويظهر للملأ انبعاث نهضة أدبيّة تستحقّ الإلتفات والإهتمام.
ومن هؤلاء الشعراء الذين تخطّى نتاجهم هذا المغترب، ليصل إلى الوطن الأم، الشاعر شربل بعيني الذي أفردت له مجلّة صوت الشاعر الصادرة في لبنان صفحة حول ديوان رباعيّات الذي مضى على إصداره أكثر من عشر سنوات.
وصوت الشاعر الشهرية الإصدار، هي مجلّة تهتم بالشعر الشعبي اللبناني، الذي هو خلاصة حضارة لبنانيّة، وقد حمل غلاف عددها الأخير العناوين التالية: جوقة القلعة في نهر الكلب. حنينة ضاهر تكتب عودة إلى الجذور. وكتاب الشهر، رباعيات الشاعر شربل بعيني.
ومن منطلق اهتمامنا بالأدب المهجري وأدبائه وشعرائه، لأن في ذلك إعلاء لشأننا، نورد ما جاء في هذه المجلّة، شاكرين أصحابها والقيّمين عليها على لفتتهم الكريمة هذه".
وقبل أن أبدأ بنشر دراسة الخوري، أحبّ أن أطلعكم على مقتطفات من مقدّمة الطبعة الأولى لـ رباعيّات، التي كتبها الأستاذ ألبير زعيتر عام 1983:
"رباعيّات.. شعر حلوٌ لشاعر عتيق أعطى الشعر الإغترابي اللبناني لمسات أدبيّة مميّزة، وأغنى المكتبة الشعريّة الإغترابيّة من نفحات قلبه.
سبح في بحور العشق والحبّ، فصوّر الأحاسيس الإنسانيّة من خلال معاناته الشخصيّة.
أعطى إحساساته بعداً ربّانيّاً، وأشرك البعيد الآتي من السماء في تصوّراته الشعريّة، وكأني به يريد من شعره أن يكون صلاة في معبد يتلوها كلّما تاق إلى مناجاة حبيبته.
ولكن مع وجدانياته وحلاوتها الشعرية، نرى له جولات وصولات في الوطنيّة، فينتفض للوطن الجريح، وطن الإنسان والشهادة. ويعطي من قلبه ووجدانه عنفوانَ مجد، وصرخاتِ بطولة، وتحدياً للغاصبين.
هذه الصرخات الوطنيّة ليست بغريبة على شربل بعيني، فالوطنيّة والوجدانية والإنسانيّة هي من خصائص الإبداع الذي يتحلّى به. فلا عجب إن رأينا رباعيات تثور على الثورة، وتصنع من الحب محبّة، ومن الرفض والعنفوان سياجاً للوطنيّة.. وجميعها تصب في خانة شاعر إنسان، جعل من الشعر صلاة حبّ ووطنيّة، ومنبراً لأحاسيس البشريّة. ذلك هو شربل بعيني".
كما أحب أن أطلعكم على بعض ما كتبه الأستاذ ميشال حديّد في جريدة صدى لبنان، العدد 521، الصادر في 11/11/1986:
"صدر حديثاً عن مطابع دار الثقافة كتاب شعري باللغة اللبنانيّة ـ طبعة ثانية ـ بعنوان رباعيّات للشاعر شربل بعيني.
تتميّز القصائد في هذا الكتاب بقصر قاماتها، هذا إذا كان الشعر يقاس بالأشبار والأمتار، كما يقيس البعض إنسان اليوم.
شربل بعيني المعروف بطول نفسه الشعري، يبدو في رباعيّاته قصير النفس. يأتي كالومض، ويمضي كالبرق، كأنه يطارد أحواله وشتاته وتمزقاته. الوقت هو المساحة الشعرية. والوقت هنا يسابق بعضه بعضاً، ويتكثّف طبقات من أوتار وأعصاب مشدودة إلى الآخر".
إلى أن يقول في نهاية المقال:
"رباعيات ـ طبعة ثانية ـ كتاب أنيق وجميل من حيث الشكل وطريقة توزيع القصائد، وتجربة شعريّة غنيّة من حيث التجديد الشعري معنى ومبنى وصورة وكلمة.
والطبعة الثانية حملت إلينا إضافات شعريّة جديدة، وغيّبت بعض القديم. لقد أصبحنا نحب شربل بعيني ككل، لا كأجزاء ومحطّات، فقديم شعره عتبة لجديد شعره، كما جدّد شعره اختمار قديمه".
وتحت عنوان: (كتاب رباعيات للشاعر شربل، على أوراقه وجع الغربة وفرح الحبّ)، كتب الشاعر روبير خوري في صوت الشاعر هذه الدراسة القيّمة:
"مثله مثل الكثيرين الذين غادروا لبنان إلى بلاد الإغتراب سعياً وراء لقمة العيش، حاملين معهم آمال محطّمة ووجع الغربة، ولكن..
هكذا الشاعر شربل بعيني غادر بلاده إلى أستراليا، وحلّ هناك ضمن الجالية اللبنانية العريقة، التي حملت معها من لبنان، كل لبنان، التقاليد، العادات، الأعياد، حتى أسماء الشوارع والقرى.
والشاعر شربل بعيني اغترب وحمل معه، إضافة إلى ما ذكرت، الشعر الشعبي اللبناني، وهو الذي له في هذا الميدان الشعري الباع الطويل، والذي ساهم بقوة في تحريك عجلة الشعر الشعبي في أستراليا، ربما أكثر من غيره، فهو الشاعر الذي له أكثر من عشرة دواوين بالشعر الشعبي اللبناني.
ومن بين كتبه العشرة، اخترنا اليوم كتاب رباعيات، 126 صفحة، حجم عادي، مزدان برسوم للفنّان المهجري ميشال رزق.
يقول الأستاذ موريس عبيد في تقديم رباعيات: "فشربل بعيني هذا الشاعر الإنسان، الغزير العطاء، المرهف الحسّ، شاءه اللـه أن يكون المترجم الأدبي، والناقل الصادق، روعة كونه الصغير إلى المجتمع الذي ترعرع وعاش في صميمه". خاتماً بقوله: "رباعيّاته تمتاز بالجرأة، وتتناول جوانب الحياة بعنفوان وكبر".
كِرْمال عَيْنِك بَسّ يا بْلادي
زْرَعت بِالغُربِه شِعْر وِزْهورْ
وْضِلَّيت طول الوَقْت عَمْ نادي:
يْدُوم عِزِّكْ.. وِالقَلْب مَقْهورْ
بهذا المقطع يبدأ شربل بعيني رباعيّاته، التي كتبها وهو بعيد عن وطنه لبنان، والتي تبيّن لنا التصاقه بوطنه، وتعلّقه بأرضه الطيّبة، حيث تقرأ له في مكان آخر:
عْلَوَّاهْ لَوْ فِيِّي يَا ضَيْعِتْنَا
رَكِّبْ جْنَاحْ.. وْطِيرْ بِالْعَالِي
تَا غِطّ غَطَّه عَ سْطَيْحِتْنَا
وْزُورْ كَرْمِي الْـ زَارْعُو دْوَالِي
وبلحظة من لحظات الرجوع إلى الذات، يتذكّر الشاعر شربل بعيني يوم انسلخ عن أرضه الطيّبة مختاراً الغربة ليقول وهو يسمع، ويعاني مما وصل إليه الشعب اللبناني متسائلاً:
لَيْش صِرْنا بْهَالدِّنِي مْسَبِّه
وِتْشَرْشَحِتْ بِالْكَوْن قِيمِتْنَا؟
وْلَيْش انْسَلَخْنَا عَنْ أَرْض خِصْبِه
وْجِينَا انْزَرَعْنَا بْأَرْض غُرْبِتنا؟
رباعيات شربل بعيني غنيّة بالصور الشعريّة، فهذا الشاعر تدرّج برباعيّاته من الوطنيّات، إلى الوجدانيّات، إلى الحب، الذي أعطاه القسم الوافر من رباعياته، فبعد أن نراه شاعراً متمرّداً بـ:
تَا نْكُونْ أَقْوَى مْنِ الرِّيَاح الْعَاتْيِه
الْـ حَصْدِتْ سَنَابِلْنَا اللِّي بَعْدَا خُضْرْ
لازِمْ نْقَاوِم هَـ العادات الْبَالْيِه
وْعَ كِلّ مَفْرَق دَرْبْ نِزْرَعْ شِعْرْ
نعود ونراه مستعطفاً حبيبته عدم الرحيل، وهو الشاعر الأعزب الباقي إلى الآن:
إنتي الطُّهْر إِنْتي.. يَا شَمْعَه بْدَيْرْ
يَا زَنْبَقَه الْـ غَار الزَّهر مِنِّكْ
طَلّتِكْ كَانِت سَعادِه وْخَيْرْ
لا تِرْحَلِي.. مَا لِي غِنَى عَنِّكْ
وبعد.. شربل بعيني، الشاعر المغترب، صاحب العشرة دواوين شعر، جال بكتابه رباعيّات على مجموعة مواضيع متعدّدة، سكبها بقالب شعري مميّز، وكأنّي بهذا الشاعر الملهم، أراد برباعياته أن يفرغ ما في جعبته من مواضيع في كتاب واحد، باحثاً بالإنسان، الأرض، الطبيعة، الإغتراب، الحب.
ونقلب الصفحة الأخيرة من كتاب رباعيّات، فنقرأ للأديب جوزيف بو ملحم، يختم هذه الرباعيّات، ويقول معرفاً عن الشاعر: (عندما يقال شربل بعيني في أستراليا، يعرف الجميع أن الشعر هو بيت القصيد. فشربل والشعر توأمان في هذه البلاد، حتى أصبح تجنيّاً ذكر أحدهما دون الآخر.
خسة عشر عاماً في المهجر، وعشرة دواوين شعر، وكتابان مدرسيّان، وسيرة حياة. هذا هو شربل بعيني، وكفى).
ولكنّ شربل لـم يكتفِ بعشرة دواوين شعرية، ولا بكتابين مدرسيين، بل أضاف إليها، في السنوات التي تلت، عشرات الكتب التي ذكرتها، سابقاً، عندما تكلّمت عن مؤلّفاته الأدبيّة والمدرسيّة.
ولو لـم يعجب شاعر كبير كروبير خوري بشعر شربل بعيني، لما خصّه بالإهتمام، وهو من هو في عالـم الشعر والنشر والصحافة، ويكفي أن تصله كل شهر مئات القصائد التي يختار منها الأجمل لأعداد مجلته صوت الشاعر، لندرك مدى نضوج رؤيته الشعريّة، ومدى عمق تذوّقه الأدبي.
**
مدرسة جديدة في الأدب المهجري
الدكتور جورج مارون، كاتب لبناني معروف، مؤلّفاته تشهد له، فكأنه ما كتبها إلاّ ليدعّم أسس إنسانيّة الإنسان في وطنه، وكأنها قناديل فكر اقتُطفت من شجرة المحبّة، وخير دليل على ذلك اهتمامه بأدب شاعر مهجري لـم يلتقه أبداً، حتى ولـم يسمع صوته. جلّ ما في الأمر أنه تعرّف عليه من خلال كتب أهداها إليه صديق مشترك اسمه الدكتور عصام حدّاد.
هو إبن بلدة بقرقاشا الشماليّة الشامخة في جبل لبنان. تقدر منها أن تلتقط ما تشاء من نجيمات السماء، فالغيوم، دائماً وأبداً، تتكوّن في وادي قاديشا المقدّس، وترتفع صوب منازلها الهانئة لتحوك لرقبتها شالاً، ولا أجمل، من الضباب. ويكفي أن تكون هذه البلدة الصغيرة جارة قرية بقاعكفرا التي أعطت العالـم قديس لبنان شربل مخلوف، لنكتشف سرّ تلك الطوباويّة التي تكتنف كل كلمة كتبها جورج في دراسته (شربل بعيني وألوان الغربة: مدرسة جديدة في الأدب المهجري(، التي نشرها في الأنوار اللبنانيّة، الصادرة في 16 أيلول 1994 . وقد يتعجّب البعض من وصفي الدقيق لتلك المنطقة، ولكنهم لو علموا أنني أمضيت أجمل سني شبابي في لبنان، وخاصّة في الشمال، لأدركوا مدى تعلّقي وافتتاني بالقطعة السماويّة، التي اسمها لبنان.
يبدأ الدكتور مارون دراسته بتحليل نفسي للغربة، وكأنّه عاناها كما عانيناها نحن، فيقول:
"ما أقسى الغربة، وما أضنى قرار السّفر. حشرجات يغصّ بها حلق المسافر. دمعات كاوية عالقة في المآقي، تعبّر عن أنين الجسد ووجع القلب قبيل الفراق، تراقب شعاعات الشّمس الفاترة عند الغروب، كأنّها تودّع الأرض الدافئة في آخر نظرة أو لقاء، وتغيب الوجوه عن الشاطىء المنبسط خلف البحار في بلاد أسيرة تتكىء على صدر جزر من الإنكفاء والعزلة، غزتها أرجل عربات الحضارة، وجحافل من دخان المصانع وهدير الآلات تحوّل الأرض إلى بركان مشتعل، لا تخمد ناره، ولا ينطفىء أواره، يطوي الحياة في عروق الثواني وأحداق اللحظات، إنها الغربة، ما أتعسها تنساب على صدرها جداول النجوى والحنين، تحمل الرسائل والآهات إلى الوطن، تتذكّر حكاية الماضي والطفولة الغابرة، تشتاق إلى صفاء الحياة وسكينة الطبيعة في جبال لبنان، إلى خرير المياه جاريات في السفوح والبطاح، تنشد أغاني الوجود بأرقّ الأنغام وأعذب الألحان، تهفو إلى عبق الأزهار والثـمار، يتضوّع من شرايين الأودية المقدّسة، وظلال أفياء غابات الأرز الشاهقة".
كلمات جورج عن الغربة ذكّرتني بأغنية لسيّد الأغنية العربيّة الدكتور وديع الصافي، يقول مطلعها:
مُرَّه يا ليالي الهجر مُرَّه
أكتَرْ من العلقَم ألف مرَّه
كما ذكرتني بصرختين موجعتين لشربل، الأولى في قصيدته (وريقات من دفتر الغربة):
غربتي صارت كطعم الموت صعبه..
والثانية في ديوانه الغربة الطويلة:
يا غربة الأيّام الطويلِه
يا غربة الشّقا والضّنا
قبل ما تِحْكيلُن.. حْكِيلِي:
شُو اللِّي مِتْخَبَّالي أنا؟!
وأعتقد أن جورج لـم يلجأ إلى تخويف القارىء من الغربة، إلاّ ليضعه، بطريقته الأدبيّة الساحرة، في الجو الذي كتب به شربل قصائده المهجريّة، وإليكم ما كتب:
"بين أنفاس هذه الغربة يغنّي شاعر لبناني أناشيد الحب والجوى، يعزف ألحان السفر وترانيم الجداول، يعتصر قلبه أسى، يكتوي بنار الصبابة، يكابد اللوعة والبعد عن الأهل والوطن. إنه الشاعر شربل بعيني، حامل قيثارة الحبّ المتجدّد وراء البحار، يبثّها شوقه اللاهب، وحنينه المشتعل إلى مراتع الطفولة، وملاعب الصبا، إلى الأرض التي حبا عليها فتنشّق نسيمات الحريّة مع هوائها، وتلقّى المبادىء والفضائل القويمة، فتربّى على السماحة والمثل، وازداد تشبّثاً بأرض الوطن، يرفض التخلّي عنها، ولكنّ التجارب المرّة، وسنين المحنة العجاف، وما خلّفته من واقع مشؤوم مشوب بالقلق والحذر والضياع، دفعت بشاعرنا إلى مغادرة قريته مجدليا الهادئة الساكنة في جبين الساحل المشرق شمالي لبنان. تلك القرية التي أنس إلى موسيقى أوراق أشجارها الوارفة، فكتب تحت ظلالها أولى قصائده، معبّراً فيها عن باكورة التجارب في حياته، لكنّه تركها مرغماً فغدا كطائرٍ يجوب الآفاق بحثاً عن الصفاء والسكينة، فكانت أستراليا محطّته البارزة، وفي تلك الأصقاع استقرّ شاعرنا، ولكنّ باله لـم يهدأ، فظلّ الحنين يشدّه إلى الأهل والوطن، فتتجدّد الذكريات، وتتفجّر ألماً، ويدوب قلب شربل على الشاطىء، وهو ينتظر سفينة العودة لتنقله إلى لبنان، ويسيل قلبه شعراً متدفّقاً يتلظّى بنار الحبّ، يترك صداه في قلب الشاعر من خلال مجموعة من الدواوين الشعريّة نظمها في بلاد الإغتراب، شعبيّة الطابع، واقعيّة الإتجاه بموضوعاتها اليوميّة، وهي تعتبر بحقّ نواة الشعر العامي لما فيها من خروج على قيود الشعر العاديّة، وقد نوّه بها الدكتور عصام حدّاد، صاحب ومؤسس معهد الأبجديّة في جبيل، في أكثر لقاءاته الشعريّة والأدبيّة، فاعتبرها محاولة جديدة في عالـم الشعر، قام بها الشاعر بعيني بهدف إرساء قواعد الأدب المهجري في أستراليا، بلغة عاميّة سهلة، لبنانيّة الأصل، تحمل كل معاني النغم والرقّة واللطافة التي تشيع في النفس موسيقة صاخبة".
نقدر أن نفهم من هذا الكلام أن الدكتورين مارون وحدّاد قد اعتبرا، وبعد دراسات مطوّلة، أن شربل بعيني قام بمحاولة جديدة في عالـم الشعر، تعتبر بحقّ نواة الشعر العامي، لما فيها من خروج على قيود الشعر العاديّة، بغية إرساء قواعد الأدب المهجري في أستراليا. وكأنهما يلتقيان مع ما كتبه الأستاذ كامل المر عام 1988، في كتابه مشوار مع شربل بعيني، صفحة 68:
"أمّا في الشعر العامي، فللشاعر مدرسة خاصّة به، تمرّدت تمرّداً مستساغاً مستحبّاً على ما هو معروف من أوزان هذا الشعر، وسيكون لها، ولا شك، أثرها في تطوير هذا الفنّ الشعري، الذي لا يقلّ أهميّة عن الشعر الفصيح والمواضيع الأدبيّة الأخرى".
كما يلتقيان، أيضاً، مع ما كتبه الشاعر فؤاد نعمان الخوري في جريدة صوت المغترب، العدد 1020، الصادر في 9 آذار 1989:
"ولعلّ الشاعر شربل بعيني أول من عرف، بحسّه الشعري، كيف يلتقط إشارات التجديد الطالعة من بيروت، فجدّد وطوّر و(خربط) الأوزان".
وفي المصبّ ذاته، تصبّ هذه الشهادة التي نشرها الصحفي زاهي الزيبق في عدد التلغراف 1911، الصادر في 8 أيار 1989:
"الشاعر شربل بعيني، منذ نعومة أظافره، يعشق الفنّ والشعر والأدب، ويخوض في ميادينه ومنابره، بقريحة نادرة، وموهبة فائقة، فلا غرابة إذاً أن يستحوذ على اهتمام النقّاد والأدباء والشعراء والصحافة ورجال الفكر، ولا غرابة أن نراه من أوائل المدعوّين إلى أشهر المنابر الشعريّة والأدبيّة، سواء في أستراليا أو في الخارج، لأنه استطاع، وبمجهود شخصي، أن يرفع من مستوى الأدب المهجري، ويسجّل لأستراليا طول الباع في هذا المجال".
كلام كهذا، يثبت أن عطاء شربل بعيني الأدبي في المهجر، على مدى ثلاثين سنة، لـم يذهب سدى، بل أسس (مدرسة جديدة في الأدب المهجري)، على حدّ تعبير الدكتور جورج مارون. ولنتابع القراءة:
"وأهم هذه الدواوين: مراهقة، الغربة الطويلة، رباعيّات، كيف أينعت السنابل، أللـه ونقطة زيت.. وحين نقرأها نسافر مع الكلمات المنسابة عبر أقنية الشعر إلى عالـم مفعم بالأمن والصفاء، تسوده المحبّة والعدالة والحريّة والإخاء، وهو العالـم الذي تتوق إليه ذات الشاعر، وتصبو في جدليّة تصاعديّة، لتبلغ عالـم الروح، بعيداً عن المادة القاتلة، والحقد المشوّه في مجتمع متداعي الأساس، مقوّض البناء".
عندما كنت أنشر قصائد شربل في جريدتي صوت المغترب، كنت أتلقى عشرات الرسائل والمكالمات الهاتفيّة التي تشيد بها، وتوصف شاعرها "بالشاعر الصادق"، الذي يفتّش عن عالـم تسوده المحبّة والعدالة والحريّة والإخاء، تماماً كما قال دكتورنا البقرقاشي. وما نفع الكلمة إذا لـم تنطلق بنا، أو بالأحرى تحملنا إلى هذا العالـم المثالي؟.
ومن رسالة وصلتني من القارىء توفيق جابر، ونشرتها صوت المغترب في عددها 864، الصادر في 19 كانون الأول 1985، أختار هذه الفقرة:
"شربل بعيني، شاعر صادق مع نفسه ومع الآخرين، ولو منحنا اللـه نعمة الشاعرية لكنّا كتبنا كلاماً كهذا، يعبّر عن رأي الأغلبيّة الساحقة من المقيمين والمغتربين".
كما أختار هذه الفقرة، من رسالة وصلتني من القارئة أنطوانيت تصّور، ونشرتها صوت المغترب في عددها 874، الصادر في 27 شباط 1986:
"شربل بعيني كان في (آخرتها شو؟) شاعراً ثائراً بكل ما في الكلمة من معنى، وأعتقد أنه بشعره العامي لا يقل، بمستواه، عن باقي القصائد التي نشرها بالفصحى".
ومن رسالة أخرى لتوفيق جابر، نشرتها صوت المغترب في عددها 892، الصادر في 10 تموز 1986، أختار الآتي:
"قالت مجلّة النهار العربي والدولي أن الصدق القوي يهدر في أشعار شربل بعيني. وأنا أقول بدوري: لولا هذا الصدق، لما توصّل إلى امتلاك قلوب العديد من أبناء الجالية، لدرجة أصبح معها: ضمير الشعب".
وعن معاناة شربل بالغربة، يقول الدكتور مارون في دراسته الرائعة:
"ومعاناة الغربة لـم تغب عن قلب الشاعر، بل خضّبت ذاته بألوانها، وجعلته طائراً يغرّد في حديقة الوجود، يبحث بين ظلال الغربة عن حبّ ضائع وسلام مفقود، فلا يرى إلاّ الأشباح المخيفة تنشب أظافرها الحادة، تنعي رحيل الإنسان، تبشّر باليباس والفناء، فتنداح الصور السوداء، فلا يرى إلاّ الأوديّة وقد ملئت بالجثث المتناثرة، وبقايا اللحود المظلمة، وتتحوّل الرحلة إلى قلق ويأس، ولكن ذلك لا يلبث أن يغيب، فتتجدّد الرؤيا الصافية لتبدّد الغيوم الداكنة، وإذا برؤيا الشاعر المنبثقة من الذات الصامتة، الذات المتجسّدة حباً وحنيناً ذائباً، تتوق إلى الذات الكليّة لتنصهر بها، وتتحد معها في عناق طويل في مسيرة الخلق والإبداع.
والمجتمع لـم يكن بعيداً عن إحساس الشاعر وقلقه، وقد ساده الجهل والطمع والجشع، وغدا فيه الإنسان سلعة تباع في الأسواق.. يغرق في الطين المحمّى، ينتحب أمام توابيت الأحلام في جزر معزولة، تغطّي شطآنها الصدف والمحار.
في ارتداديّة هذا المجتمع يعلو نداء شربل بعيني، يحمل في كلماته نفحات تمرّد وثورة على الظلم الإجتماعي، وفقدان العدالة.. يجسّد النزعة الإنسانيّة الشاملة والحبّ المطلق، والبعد عن العصبيّة البغيضة والطائفيّة الممقوتة.. يبحث عن الحقيقة الكامنة في جوهر الوجود.. يفجّر غضبه على التجّار الفاسدين والمرابين، وكل من باع الإنسان والدين، ويدعو إلى إبعادهم من مجتمعنا، لأنهم سبب كل شرّ وفساد وانهيار".
ما أن انتهيت من قراءة هذه العبارات المذهّبة، حتى حملتني الذكرى إلى افتتاحيّات كنت أكتبها في صوت المغترب، أستشهد بها بأبيات من قصائد شربل بعيني، وأعتقد أنني كنت أوّل مَنْ أدخل أشعار شربل في افتتاحيّات صحفيّة. ومن تلك الإفتتاحيّات اخترت واحدة تتلاءم مع ما كتبه دكتورنا العزيز، كانت قد نشرتها صوت المغترب في عددها 866، الصادر في 31 كانون الأول 1985:
"احتفل العالـم بذكرى ميلاد السيّد المسيح، رسول المحبّة والإخاء والسلام. فأين نحن في هذا العصر من المحبّة والإخاء بين أبناء الأمة الواحدة، التي اختارها اللـه من بين الأمم جمعاء، وبعث إليها الأنبياء والمرسلين؟.
وأين نحن من السلام بين أبناء البلد الواحد، والحقد الطائفي البغيض يعمي الأبصار، ويحجّر القلوب؟..
نحن جميعاً مؤمنون باللـه، فمنّا من آمن بالإنجيل، ومنّا من آمن بالقرآن، تجمعنا مفاهيم المحبّة والتآخي والوئام. وهنا أتذكّر قول الشاعر المهجري شربل بعيني، مع اعتذارنا للتصرّف:
.. وكلّ ما طِلع عليّي الضوّ
رحْ إرفع راسي بالجوّ
وإسألكُنْ بِـ إِسم الدِّينْ
وْبالإنجيل وبالقرآن:
إذا كنتو زعلانين
تْراضوا.. وإذا متفّقين
حَرام تْسيبُوا الأوطانْ".
في هذا المقطع، يخاطب شربل السيّد المسيح والنبي محمد، ويدعوهما إلى الإتفاق والتراضي، رحمة بوطنه لبنان، وبما أن المآسي والحروب تحصد آمال وأحلام جميع الشعوب العربيّة، استبدلت اسم (لبنان) بكلمة (أوطان) في البيت الأخير، كي يشمل الإتفاق باقي أوطاننا العربيّة التعيسة.
في ختام دراسته، يعطينا الدكتور جورج مارون هذه الشهادة النضرة بأدب شربل بعيني:
"أخيراً يمكن القول أن شربل بعيني شاعر الحبّ المتجدّد، حبّ مخضّب بدموع التجربة، وألوان الغربة والمعاناة، استطاع أن يصفّي الذات ليصهرها بشموليّة الوجود. حمل في قلبه حبّ الوطن والإيمان بأرضه وشعبه، فهو إن أحبّ كان حبّه صادقاً مخلصاً، وإن غنّى الشعر نفحه في قيثارة عذبة، تنفث الكلمات الرشيقة والمعاني اللذيذة في أسلوب جديد يجعله في مصاف الشعراء الذين يحاولون إرساء قواعد مدرسة جديدة في صياغة الديباجة الفنيّة للشعر العربي في بلاد الإغتراب".
عندما كنت أكتب عن شربل بعيني، وأنشر قصائده باهتمام زائد، اتهمني البعض، وما أكثرهم في هذا الزمن الرديء، بالإنحياز الأعمى مع شربل، وكأني أرى الأشياء بعين واحدة، ولكنني، وبعد اطلاعي على آراء المئات من أصحاب الأقلام الشريفة الناصعة كثلج صنّين، وجدت أن ما كتبته لـم يكن سوى قطرة في بحر محبّة الآخرين لأدب شربل بعيني. وخير دليل على ذلك هذه الدراسة التي أهداها لأدبنا المهجري الدكتور جورج مارون.
**
من محردة، عروس العاصي.. لعريس مجدليّا
مفيد نبزو ومحفوض جرّوج، إسمان تلازما تلازماً كليّاً في كل كلمة كتباها عن شربل بعيني، أو في كلّ رسالة أرسلاها إليه. تماماً كما كان يفعل الأخوان رحبّاني في جميع مؤلفاتهما الموسيقيّة، حتّى أصبح من الصعب فصل الإسمين عن بعضهما البعض، أو تفضيل أحدهما على الآخر.
ورغم أن بعض رسائلهما قد وقّعت بشكل انفرادي، تارة باسم مفيد، وطوراً باسم محفوض، خاصّة عندما دخل مفيد الجندية، إلاّ أنني لن أفصل بينهما، طالما أن معظم رسائلهما موقّعة باسميهما معاً، وطالما أنني أنفّذ رغبتهما التي وجدتها مشرقة بين السطور. هكذا أرادا، وهذا ما سيحصل.
ولكي أعرّفكما على هذين الأديبين السوريين، أحب أن أطلعكم على أولى رسائلهما لشربل، فلنقرأ معاً:
"أجمل ما في العمر لقاء الأدب. وأسمى محبّة محبّة الكلمة. لأنه في البدء كان الكلمة، والكلمة عند اللـه.
لقد استلمت من أخي الحبيب نعمان حرب مجموعتين شعريتين كنت قد خصيّتني بهما. تلقّيتهما فشممت فيهما رائحة حبّك، وعبق مودّتك. ففرحت جداً، وقرأتهما بلهفة وشوق. فأعجبت بهذه الشاعرية الأصيلة، وهذه الطاقة الشعريّة، والصور الجميلة، والسلاسة اللغويّة التي تميّزت بها هذه القصائد.
يسعدني جداً جداً أن أضمّ محبّتك إلى قلبي، ونكون جنباً إلى جنب في ميدان الكلمة، وحديقة الإبداع. فأرجو أن تستمرّ علاقتنا وأخوّتنا، لنكبر فيهما، ونفخر فيهما، ومن خلالهما يتفجّر ينبوع العطاء. فألف شكر للأخ الحبيب نعمان حرب الذي كان له الفضل الكبير في تعريفي لحضرتك: شعراً وروحاً، وإن شاء اللـه نتعارف بالذات بعد أن تعارفنا بالروح والعاطفة. بادرة الأستاذ نعمان لن أنساها إلى الأبد بإذن اللـه.
أخي الحبيب شربل..
نحن هنا في محردة، عروس العاصي، ندعوكم، وفي أوّل زيارة لعندنا في سوريا، لزيارة محافظتنا الكريمة حماة ـ مدينة محردة، ليتمّ اللقاء بكم، ونفرح بوجودكم بيننا.
لا أدري إذا كنت قد عرفتني من قبل، أو سمعت عنّي من خلال الصحف والمجلاّت أو الأخ نعمان. فأنا أكتب الشعر والزجل والمقالات والدراسات، وأنشر في عدد من الدوريّات في سوريا وبعض الأقطار العربيّة، وأنا مراسل لمجلة الشراع اللبنانيّة، ولمجلّة الضاد الحلبيّة.
يشاركني في التحيّة والمعايدة أخي الأديب محفوض جرّوج، الذي قرأ معي شعرك الحلو العذب، ويسعده التعرّف لحضرتك أيضاً. فأنا وهو نعمل مشتركين في حقل الأدب".
يتضح لنا بعد قراءة الرسالة الأولى، التي لا تحمل تاريخاً، أنهما من مدينة محردة السوريّة الرابضة في محافظة حماة. وأنهما رفيقا درب وكلمة، وأنهما يكتبان الزجل والفصيح والمقالات النقدية، وأنهما عضوان في اتحاد الكتّاب العرب، ومراسلان للعديد من الدوريات العربيّة والمهجريّة، كما أنهما من الشعراء المعروفين في الوطن العربي. وقد لا أذيع سراً إذا قلت: أنهما كتبا في أدب شربل بعيني أكثر ممّا كتب مالك في الخمرة. وهذا ما سنكتشفه الآن، وإن كنت سأغضّ النظر عن العديد من دراساتهما وقصائدهما ورسائلهما، ولسان حالي يردد: يجب أن تحفظ هذه الدرر الأدبيّة في كتاب، كي لا تضيع في الغربة.
ومن دررهما الأدبيّة أختار بعض الأبيات من قصيدة أرسلاها لشربل عام 1988، وفيها يعلنانه شاعر الأمّة العربيّة. وما العجب في ذلك؟. أما ليس كلّ شاعر صادق هو صوت شعبه، وصرخة أمتّه:
عرفتُهُ شاعراً.. ما كان يوماً
سوى البركان في الحقد الدفينِ
عرفتُهُ شاعراً.. غنَّى فأغنى
وهزَّ الأرضَ في شعرٍ متينِ
فَيَا أَمْواجُ هاتيهِ إِلَيْنا
وإلاَّ أَسرِعي ولَهُ خذيني
عروس الكرم قد تاقت إليهِ
تسائلني، أجاوبُها: دَعيني
أخافُ الشعر يُخجلُني فَهَيّا
أَعيني الشاعرَ المضنى أعيني
ولا تنسَيْ غداً، إِنْ عادَ، غَنِّي
فشاعرُ أُمَّتِي شربل بُعَيْني
ومن قصائدهما الزجليّة أختار قصيدة نشرتها لهما جريدة صدى لبنان في العشرين من آذار عام 1990، العدد 686، وعمّرا مداميك أبياتها على حروف اسم شربل بعيني، وفصّلاها كما تفصّل القصيدة الكلاسيكيّة العموديّة، لا كما تفصّل قصائدنا الزجلية، التي ينتهي صدر بيتها بقافيّة، وعجزه بقافيّة مماثلة أو مختلفة، لا فرق، كما حصل في البيتين الأخيرين من القصيدة:
يا مجدليّا.. الشاعر بحضنك رِبِي
تفتَّق شعر عَ شْفايفُو.. وبعدو صبي
الشين.. شاعر عانق نجوم السّما
والراء.. ربّان الشعر والموهبِه
والباء.. باني صرح للشعر الندي
وطار الشعر لفوق أعلى مرتبه
واللام.. ليل السهر بمْواسم شقا
يفرّق غْناني حدّ هاك المصطبه
والباء.. باني الحقّ تا يركّع ظلـم
والعين.. عرّاب الأرز.. قومي اخطبي
والياء.. ينبوع العيون الظامئة
الـ قللاّ: تعي من شعر وجداني اشربي
والنون.. ناقوس الهجر تا يرجعوا
يصلّوا سوا بلبنان.. لبنان الأبي
والياء.. يعمي الحقد.. يحرق هَـ الوحوش
يفقي بمخلب حرّ .. عينين الغبي
القصيدة طويلة ومشوّقة.. ولكنني سأتوقّف هنا، لأعلّق على البيت الذي يطلبان به من شربل أن يعمي الحقد، وأن يحرق الوحوش، وأن يفقأ أعين الأغبياء. وهما لو أدركا أن الحاقدين أكثر من الطيّبين، وأن الوحوش أكثر من أبناء آدم، وأن الأغبياء يتطاولون على الشرفاء بخساسة مقرفة، لا لشيء، سوى للظهور الخادع، وللبهرجة المقيتة، وللتزعّم السافل، لكانا أبعدا هذه الكأس عن شربل بعيني. إنها حرب شرسة بين الحقّ والباطل.. وأعتقد أن الحق سيهزم الباطل.. طالما أن أرباب الكلمة الشريفة يقفون مع الحقّ، غير خائفين من لسعات ألسنة الأنانيين، ووخز إبر الزحفطيّين إلى أقصى درجة ممكنة.
وبما أن صرخة جبران خليل جبران كانت صرخة إغترابية رائدة ضد أعداء الحقّ والإنسانيّة، نجدهما في آخر القصيدة يحثّان شربل على متابعة طريق جبران النبي:
شربل.. يا شربل.. لا تقول: بغربتي
معذّب، الغربه كتير قلبي معذّبِه
جبران ما حلّق بشعرو ولا سَما
لولا الهجر.. لولا الموت الخلّبي
يا طيور ربّي من القلب لا تهربي
ويا شمس حبّي من السما لا تغربي
مات الأمل، مات الفرح، مات الندى
تا ولد من جبران.. جبران النبي
ومن دراسة بعنوان (هاجس الحب والحرب والوطن عند الشاعر شربل بعيني) نشرتها لهما جريدة صدى لبنان في الرابع من تشرين الأول 1988، العدد 616، أختار الآتي:
"كل من يسافر على أمواج الشاعر المهجري الأستاذ شربل بعيني، لا بد أن يلمح هذه القضايا التي شغلت حيزاً كبيراً في شعره. ففي سفينته الشعريّة مرساة بانتظار شاطىء الوطن، وحمامة بانتظار السلام للوطن، ووردة تنتظر لحظة زفافها للحب.
إنه الشعر، لغة اللـه على الأرض. إنه الشاعر الذي يقف أمام اللـه وجهاً لوجه، وينقل إلينا منه الكلمة التي كأنها في البدء، وكل شيء به كان، وبغيره لـم يكن شيء مما كان، فهل سمعته يرتّل صلاته للـه؟.. إنها صلاة حبّه".
وهل أجمل من هذه الشهادة التي سأقطفها من أشجار رسائلهما المثمرة، وأقدّمها لكم على طبق من ذهب، لتدركوا مدى إعجاب إبنَيْ وطني سوريا بشعر شربل بعيني:
"لقد كان رفيقي في الأيام التي خلت مجموعة قلائدك الشعرية الممتعة، التي كانت تحبسني لساعات طوال خلال اليوم، أعيش فيها معك ومع أشعارك الرقيقة الرائعة، فعبير حروفها الشاعرة كان يحملني على أجنحته الأثيريّة إلى عالـم يعبق بنفحات أنفاسك التي أسالت على أوتار الشعر غناءً تنتشي منه القلوب قبل الأسماع، فقصائدك قطع موسيقيّة تعدّدت فيها الأصوات والنغمات، إلاّ أنها صدرت من قيثارة واحدة، ومن ينبوع متناهٍ في الحساسيّة، يفيض بين حنايا صدرك، يقدّم نسغاً جديداً إلى أدبنا، ويضيف إلى كنوز الشعر العربي لآلىء جديدة لا تقلّ عمّا أعطاه هؤلاء الكبار من الشعراء قدراً وقيمة، لذلك استساغ شعرك كل من قرأه، وأنزله في قلبه المنزلة الرفيعة التي يستحق. كما أنني على ثقة تامّة بأن عندك درراً لـم تلفظ بعد، وفي إهابك تحرّقات ستصوغها أزهاراً نديّة في حديقة الشعر العربي المعاصر".
هذا الكلام لا يقلّ جمالاً عن القصيدة العموديّة التي أرسالاها لشربل عام 1989، وفيها يخاطبانه كما يخاطب العاصي حقول مدينتهما محردة، ليزيدها خصباً وعطاء:
أشربلُ قد عرفنا اليوم شاعرْ
يذيبُ الحرفَ من وجع المشاعرْ
وينسج حلمه المجدول سحراً
ليزهو في العيون وفي الضمائرْ
عرفنا اليوم حسّوناً جديداً
يحنّ إلى الحدائق والأزاهرْ
فرتِّلْ يا سخيَّ الشِّعر لحناً
فإنَّ الهجر يحرق كالمجامرْ
وزفَّ الحبَّ أمنية الأماني
لأنَّ الفجر في شفتيك ساحرْ
أما أهديتَ للإنسان نوراً
فأمسى النورُ في الدنيا منائرْ؟
أما أهديتَ للإيمان ورداً
وأطياراً تزفّ لنا البشائرْ؟
فأينعت السنابلُ وهي شعرٌ
جميلٌ.. أين عصفورُ البيادرْ؟
أشربلُ.. يا نديَّ الشعر رتِّلْ
على سحر الهوى بصلاةِ شاعرْ
فإن الشعر يخفقُ في ضلوعي
وينشده الفؤادُ من الحناجرْ
فهاتِ الشعرَ فخراً واعتزازاً
وفاخِرْ بالهوى والشِّعر فاخِرْ
أما هاجرتَ من بلد الأماني
ورحتَ تجوب في الدنيا مغامرْ؟
فذقتَ من العذابِ المرِّ مرّاً
وصرتَ ولـم تزلْ في الهجر حائرْ
فهاتِ الشعرَ بالأشواق يهفو
إلى لبنانَ.. أو أمِّ الضفائرْ
وهاتِ الشعرَ أصدقُه حنيناً
فما عَرَفَ الهوى صدقَ المهاجر.
وإذا قرأنا بتمعّن زائد انطباعاتهما التي وجداها في شربل بعيني، ونشرتها جريدة البيرق في السادس عشر من حزيران 1990، العدد 149، نجدها قد اختصرت كل الكلام الذي قيل فيه، وأضاءت الصدق في قنديل الكلمة، وحثّتنا على التمسّك أكثر وأكثر بآرائنا وعدم التنكّر لها، وإليكم ما كتبا:
"وجدت فيك شاعراً حرّاً طليقاً تعشقه النجوم..
هزاراً صدّاحاً بنغمات لا تعرف الأسى والمذلّة،
تنثر في كلّ مكان منثوراً وفلاًّ،
تزرع الأشواق في الطريق أمنيات..
قامةً طويلة تعانق الغيم والنجوم،
تستعذب لذّة النجوى وزهو الاكتشاف..
عيناً تحدّق في الظلمات،
تنزع من الليل المحمول على الأكتاف فجراً..
زهرةً تفتّحت بين أيدينا، فأحالتها شمساً من نضار..
أرزةً شامخة نبتت في صحراء الغربة..
ومضةً مزّقت عين السماء الضريرة..
سيفاً لا يُغمدُ، وفارساً في كلّ ساح..
صوتاً من نار، عن الحقّ يدافع..
شعاعاً يبدّد البرد الجامد في الأطراف،
فيتفتّح الدفء زهرة في أعماقها..
نسمةً هبّت على الجذور الجدباء، فسرى النسغ في أحشائها..
جدولاً روى شجرة الشعر، فغدا جمالها يبهر العيون بوارف ظلالها..
ملجأً تأوي إليه الطيور لتحتمي من ريح غدّارة..
كتاباً يقول الحقيقة، كلماته ثائرة النبرة حرّة..
سحابةَ خير أمطرت، ففجّرت الينابيع في البيداء..
مرفأً ترسو فيه سفن الأرواح الظامئة للحب والجمال..
جسرَ العابرين إلى ضفاف غدٍ وضّاء..
هل أنت كلّ هذا؟
نعم، يا عطراً يطلّ على القصائد..
إنّك شاعرٌ.. والشاعر هديّة السماء للبشر".
ألـم أقل لكم أن هذه الإنطباعات تختصر الكثير من الكلام، وتوصلنا إلى برّ الحقيقة، وتهمس في آذاننا أن شربل بعيني شاعر، والشاعر هديّة السماء للبشر.
أخيراً، لا يسعني إلاّ أن أنهي هذه الحلقة بعبارة رائعة وردت في نهاية إحدى رسائلهما لشربل، سيردّدها تاريخنا الإغترابي بفخر:
"عشت أيّها الشاعر، وعاشت أمّة كانت ولـم تزل تنجب أمثالك من عباقرة الحرف في كل زمان".
حيّاكما اللـه أيّها الأديبان السوريّان مفيد نبزو ومحفوض جرّوج، فالتفاتتكما لأدبنا المهجري عظيمة كحروفكم المنضدة بالصدق، والمرويّة بمياه نهر العاصي، حبيب مدينتكما محردة، وملهمكما الأكبر.
**
علي سلطان: إنك أفضل بكثير من بعض علماء الدين المسلمين
علّي سلطان.. بحّار من باكستان، هكذا عرّفنا به شربل عندما كتب عنه في مجلّة أميرة، العدد 11، كانون الأول 2000، وإليكم بعض ما كتب:
"الكل يعلم أن ديواني مناجاة علي قد ترجمه إلى الإنكليزية السادة: ناجي مراد، إيلي شعنين وجو اليموني. وإلى الفرنسيّة الأستاذ عبد اللـه خضر، وإلى الإسبانية الصديق إبراهيم سعد. وها هو السيّد علي سلطان قبطان إحدى السفن القادمة من باكستان إلى أستراليا، يطلب مني أذناً بترجمة (المناجاة) إلى الباكستانيّة (الأرديّة)، ليتنعّم بقراءته معظم شعوب الكون، على حدّ تعبيره.
والقصّة بدأت عندما ذهب علي إلى مكتبة سيدني العامّة، وراح يفتّش بالكومبيوتر عن كتاب نهج البلاغة للإمام علي باللغة الإنكليزيّة. ولمّا لـم يجده، طبع على الشاشة اسم Ali، فإذا باسم ديواني مناجاة علي المترجم إلى الإنكليزيّة، يتراقص أمامه كأشّعة الشّمس فوق مياه الغدير. فطلب الديوان، ولكن الموظّفة أمهلته بعض الوقت، حتّى يُحضروه له من مكتبة أخرى.
وما أن بدأ بتصفّح الديوان حتى بدأت الدموع تنساب على خدّيه، وأحسّ بشغف شديد لاقتناء الكتاب، فسأل الموظفة إذا كان بإمكانه شراؤه، فسمحت له فقط بتصوير عدد قليل من صفحاته.. فما كان من علي سلطان إلاّ أن صوّر عنواني، وأرسل لي رسالة من باكستان يطلب منّي فيها شراء نسخة من مناجاة علي بالثـمن الذي أحدّده. فأرسلت له نسخة منه بلغاتها الأربع، ففرح بها أشد الفرح، وسمح لجميع سكّان منطقته أن يصوّروه ويتناقلوه ويعلّموه لأطفالهم.
وراحت الأيّام والأسابيع والشهور تتسابق، وراحت الرسائل والإتصالات الهاتفية تصلني منه، إلى أن دق جرس بيتي منذ أسبوعين، ففتحت الباب وأنا أسأل: من الطارق؟.. فإذا بصوت غريب يتناهى إلى مسمعي قائلاً: أنا علي سلطان من باكستان، تركت سفينتي المسافرة غداً وجئت لأراك..
تطلّعت به عدّة مرّات قبل أن أسأله الدخول. فلقد أحسست أنني في حلم، وأن من أرى لا يعقل أن يصل إلى بيتي على حين غرّة.
ـ من أوصلك إلى هنا؟ سألته.
ـ رجلاي.. جئت ماشياً من محطة قطار ماريلاندز ، لأن الباص أقلع قبل وصولي بلحظات.
ـ وكيف عرفت أنني في البيت؟
ـ كنت أصلّي طوال الطريق كي أراك..
ـ صدّقني أن صلاتك قد استجيبت.. لأنني وصلت منذ دقائق، وكنت على أهبّة المغادرة بعد دقائق. فما رأيك لو شاركتني طعام الغداء، كي نربح الوقت؟
تطلّع بالطاولة، فوجد عليها طنجرة مليئة بمحشي ورق العنب، فسألني: ما هذا؟ فقلت له: كُل دون أن تسأل.. إنه طعام لذيذ للغاية. فأكل، وأكل، وأكل حتى شبع، وهو يتمتم: الأكل اللبناني شهي جداً.
وبخبرة الطبّاخ المتمرّس، راح يسأل زوجتي ليلى عن كيفيّة تحضير ورق العنب وطبخه.. وما هي أنواع البهارات التي تستعملها، وكيف تقوم بتقطيع اللحم إلى فرم صغيرة. وأعتقد أنه سجّل (الطبخة) في رأسه دون أن يستعين بقلم وورقة، لذكائه النادر.
وما أن بدأت الشمس بالرحيل، سألني أن أوصله إلى أقرب محطّة قطار، فقلت إنّها على مرفأ (بوتني)، فضحك وقال: هناك ترسو سفينتي. فقلت: سأوصلك إلى هناك، فما رأيك؟. فابتسم وقال: شرط أن تزور وليلى سفينتي".
ومن رسائل علي أختار هذه الرسالة المؤرخة في 25 آب 1999، والتي عملت على ترجمتها إلى العربيّة مع ما باقي رسائله:
"عزيزي شربل
حفظك اللـه سالماً، آمين.
قد تكون هذه الرسالة مفاجأة لك، خاصّة وأنها وصلتك من هذه الأرض البعيدة. لقد أعجبت كثيراً بديوانك مناجاة علي، بعد قراءتي له في سيدني، التي زرتها خلال رسوّ سفينتي في مرفإها لعدّة ساعات.
لقد أخذت عنوانك من الكتاب، وحاولت جاهداً أن أجد الكتاب في مكتبات سيدني لأشتريه، ولكن دون جدوى. لذلك سأكون ممنوناً إذا تلطّفت بإرساله إليّ موقّعاً منك، وسأدفع ثـمنه مع كلفة توضيبه وإرساله. لأنه تحفة أدبيّة رائعة. كما أمنّي النفس بمعرفتك، واللقاء بك متى سنحت لي الفرصة بزيارة أستراليا.
إقبل مني تهنئتي الخالصة على نتاجك هذا، الذي أنتظر وصوله إلي بفارغ صبر".
وبالطبع، فقد أرسل له شربل الكتاب مجاناً، وبسرعة البرق، وبالسرعة ذاتها شكره علي على هديته الثـمينة، بهذه الرسالة المؤرخة في 7 تشرين الأول 1999:
"السلام عليكم..
لقد استلمت منك أجمل هديّة في نهاية هذا القرن، إنها، وبحق، هديّة القرن. لذلك أحب أن أشكرك، وأن أطلب من اللـه أن ينعم عليك بالصحة والرفاهيّة.
لا أجد الكلمات المناسبة التي بإمكاني أن أعبّر بها عن إعجابي بكتابك، فأنا أعلم تماماً أن الكلمات تخذلنا لحظة تصوير ونقل عواطفنا. صدّقني، إن الدموع انهمرت على وجنتيّ عندما قرأت مزاميرك. ولقد أبدى أبي وزوجتي وإخواني، وأخواتي، وأقاربي إعجابهم الشديد بكتابك. إنه، بنظري، تطهير للنفس من أوساخ هذه الحياة، وإنك أفضل بكثير من بعض علماء الدين المسلمين.
أرسل لك خطبتين لسيّدي عليّ، لـم يطّلع عليهما سوى القلائل من الناس، وكما فهمت من كتابك أنك كتبته باللغة العربيّة، وقام بترجمته إلى الإنكليزيّة السادة ناجي مراد، إيلي شعنين وجوزيف اليمّوني. لذلك ستجد في الخطبة الأولى أن حرف (الألف) قد أسقط منها تماماً، وفي الخطبة الثانية لا توجد أحرف عربيّة منقّطة. ولقد اكتشفت هاتين الخطبتين أثناء قيامي بدراسة عن العقل البشري، وأعتقد أنك ستفرح بحصولك عليهما.
كما أن عندي الكثير الكثير من هذه الخطب التي قد تحدث ثورة في عالـم الكلمة والدين، ولكنني أتحيّن الفرص المناسبة للكشف عنها.
إذا زرت أستراليا، إن شاء اللـه، سأتصل بك لأشكرك شخصياً على إرسالك لي هذه القطعة الأدبيّة النادرة".
لقد اعتبر علي سلطان، الذي يمضي معظم وقته معلّقاً عينيه على صفحات الكتب لبلوغ الحقيقة والكمال، أن شربل بعيني أفضل بكثير من بعض علماء الدين المسلمين، إذ أنه، أي شربل، تكلّم عن علي بن أبي طالب بتجرّد وبانفتاح لـم يجدهما علي سلطان عند علماء دين من المفروض أن يكونوا منزهّين، وبعيدين عن الطائفيّة البغيضة التي تعمي صاحبها. ولهذا طلب من شربل إرسال المناجاة للعديد من أصحابه المنتشرين في أصقاع الدنيا. وإليكم ما كتب في التاسع من كانون الثاني 2001:
"أخي العزيز شربل بعيني
حماك اللـه، آمين.
أتمنى أن تكون بخير وعافية. لست أدري إذا كنت قد استلمت بطاقة عيد الميلاد في الوقت المحدد أم لا. على كل حال انتقلت الآن إلى سفينة أكبر من الأولى بثلاث مرات. وأثناء عودتنا من سيدني انتشلنا من الغرق 16 شخصاً، غرق زورقهم، وراحوا يصارعون الموج في طقس عاصف، وهم يتمسّكون بقطعة فلّين. واحد منهم قضم الشّرك رجله، ولكنه تمكن من النجاة. عندي الكثير من القصص لأخبرها لطلاّبك، أنقل لهم محبّتي.
كيف حال زوجتك ليلى، لها منّي أطيب التمنيّات. كما أنني سعيد لتمكنّي من زيارتك في سيدني، وإلاّ لكنت حُرمت من التعرّف إليك شخصياً. كما أنني ممتنّ كثيراً لسماحك لي بنقل كتابك مناجاة علي إلى لغتي. سأبدأ بالترجمة حال وصولي إلى بلادي.
لقد تكلّمت عن كتابك مع عمّي الذي يعيش في الولايات المتحدة الأميركيّة، كما أخبرته عن لقائي بك، وعن استضافتك لي بترحاب شديد. ولقد وجدته مهتماً كثيراً بالإطلاع على الكتاب، فهلاّ أرسلت له نسخة منه بالبريد، مع الشكر سلفاً.
لقد انتقلت إلى سفينة أخرى، لأن سفينتي تخضع للتصليح في سنغفورة، ومتى عدت إلى سيدني سأتصل بك مجدّداً بإذن اللـه.
أنا متأكّد من أنك أرسلت الصور التي التقطتها لي في منزلك وعلى ظهر السفينة إلى عنوان منزلي. أما إذا كنت لـم ترسلها، أرجوك أن تزوّدني بها لضمّها إلى مجموعتي المصوّرة.
سوف لن أنسى زيارتي لمنزلك، والطريقة التي وصلت بها إليك، والترحاب الذي استقبلتني به، وإطعامي من مأكلك، واصطحابي لزيارة مدرستك وكنيستك في هاريس بارك. ثـم إرجاعي إلى سفينتي. كل هذا سيبقى في ذاكرتي إلى الأبد".
وكما هو معروف، فلقد علقت سفينة علي سلطان على صخور منطقة (الكورال) المحميّة بيئيّاً، وأحدثت هزّة إعلاميّة عالميّة، وكلّفت ملايين الدولارات من أجل إنفاذها دون أن تتشوّه معالـم تلك المنطقة البحريّة النائية في أستراليا.
ومن رسائل عمّه مظفّر حمداني الموجود في الولايات المتحدّة الأميركيّة، أختار رسالة وصلت إلى شربل بتاريخ 30 آذار 2001، وفيها يقول:
"عزيزي شربل بعيني
أتمنّى أن تصلك رسالتي وأنت بتمام الصحة والعافيّة. لقد استلمت كتابك مناجاة علي في الثالث من آذار، مع تمنيّاتك لي بخط يدك، فألف شكر لك على قطعتيك الأدبيتيّن: الإهداء والكتاب، الذي يقدّم للإنسانيّة خدمات عظيمة، خاصّة وأنه تُرجم من العربيّة إلى الإنكليزيّة والفرنسيّة والإسبانيّة، ونُشر في كتاب واحد.
الإسم، الورق، الطباعة، الإخراج وغيرها، أضفت على الكتاب رونقاً، وجعلت منه تحفة أدبيّة رائعة.
أنا على يقين تام من أن العالـم المتحضّر والمثقّف، سيكون بإمكانه فهم الحقيقة واستيعابها، من خلال الإطلاع على كتابك المفعم بالحقيقة. وبما أنني لا أفهم ولا أقرأ سوى الإنكليزيّة، أعترف بأن نقل أي عمل أدبي إلى لغة أخرى يعتبر معجزة حقيقية، فكم بالأحرى إذا كانت الترجمة تتـم بلغات لا تعتبر سهلة على الإطلاق. لهذا أعترف أن مترجمي كتابك قد قاموا بعمل جيّد يشكرون عليه.
كم كنت أتمنى أن أصبح ضليعاً باللغة العربيّة، ولكن قطار الزمن قد فاتني بعد أن بلغت الثامنة والسبعين من عمري، وبت أنتظر لحظة العبور إلى العالـم الآخر، حيث أرى مولاي علي.
دعني أهنئك على تفهّمك للحقيقة، التي لا حقيقة سواها، وأطلب منك أن تصلّي من أجلي".
وهناك أيضاً من هنّأ شربل بعيني على فهم الحقيقة، وعلى مدح الحق، مثل الشاعر اسحق العشّي، الذي نشر قصيدة في جريدة البيرق عام 1991، أختار منها:
فاهنأنْ يا شربل في مدح حقٍّ
فزت في دنياك في أحلى وسامِ
ودخلتَ البابَ من مدخل صدقٍ
مؤمناً في الحقّ.. في ذاك المقامِ
فتحيّاتي على شعرٍ رقيقٍ
يملأ الآفاقَ من وحي الكرامِ
كما أعادت مجلّة المناجاة ـ 1992 نشر العديد من الكلمات والقصائد التي نشرها أصحابها في الصحف والمجلاّت المهجريّة. ومن كلمة كان قد كتبها الشاعر أنطوان قزّي في جريدة التلغراف، أختار الآتي:
"مزامير شربل بعيني في مناجاته لعلي، أورقت في النفوس حضوراً شعرياً جديداً، وفضوليّة، وتطلّعاً نحو الوجه الآخر من عملة الشعر، وجه الشاعر أمام ذاته، قبل أن يكون أمام الآخرين".
وأختار، أيضاً، مقتطفات من كلمة كتبها الشاعر ألبير كرم في جريدة صوت المغترب:
"رائعة.. تؤكّد أن إبن مجدليّا في مناجاة عليّ شاعر ثوري محلّق. في مسيحيّته الخلاّقة انتفاضة على خرافة الإنعزاليّة المريضة، وفي إيمانه النبيل دعوة حقيقيّة إلى تسبيح اللـه، واتباع هدى الأنبياء والأولياء المجلّين".
ومن دراسة مطوّلة كان قد نشرها الأستاذ عصمت الأيّوبي في جريدة البيرق على حلقات، أختار ما يلي:
"إنّ مناجاة شربل بعيني يجب أن ينظر إليها في إطار مناجاة الدكتور البستاني، وفي إطار مناجاة الدكتور الصالح، وفي إطار مناجاة الدكتور جبر، وفي إطار القمم الروحيّة التي يعقدها رجال ديننا الأجلاّء في أستراليا، وأي مكان آخر، على أنها عمل بنّاء للمسيحيّة وللإسلام على حدّ سواء، ومجلبة لسعادة المسلمين والمسحيين دون تمييز".
ومن مقدّمة الأديب الأسترالي مايك هولينغورث لكتاب مناجاة علي، الطبعة الإنكليزيّة، أقتطف النهاية:
"شاعر ذو عمق بعيد ورؤيا، يقدّم لنا فلسفات شرقيّة ـ غربيّة، بصور صادقة، ومنهج مخلص. إن شربل قد تمثّل بمقولة محمّد (إن مداد العالـم لأقدس من دم الشهيد). إنه شاعر ستسمع أستراليا والعالـم المزيد منه وعنه".
ما رسائل الباكستانيين علي ومظفّر إلا دليل ساطع على صحّة ما جاء في كلام الأستاذ هولينغورث، من أن العالـم سيسمع بشربل بعيني.
**
التكريم التربويّ الأوّل
في الخامس والعشرين من شهر تمّوز 2001، استلم شربل بعيني رسالة رسميّة من رئيسة معهد سيّدة لبنان ـ هاريس بارك الأخت إيرين بو غصن، تعلمه فيها أنه سيكون موضع تكريم في الرابع عشر من شهر آب المقبل. وذلك لعطائه المتواصل، على مدى عشرين سنة ونيّف، في المعهد. وأعتقد أنه التكريم التربوي الأول الذي حصل عليه شربل، ولهذا قال، عندما سأله الأستاذ ألبير وهبة عن شعوره بالمناسبة، أن هذا التكريم سيكون الخطوة الأولى في مسيرة تكريم المعلّم. وإليكم ترجمة لبعض فقرات الرسالة:
"عزيزي شربل،
أغتنم هذه الفرصة لأخبرك أننا في عيد تأسيس جمعيّة راهبات العائلة المقدسة المارونيّات، سنعمل على تكريم الأساتذة والمعلمات الذين أمضوا مدّة طويلة في خدمة معهدنا، كما سنقدّم لهم الجوائز التقديرية التي تليق بخدماتهم.
ويسعدني أن أعلمك أنك ستكون أحد المكرمين في ذلك اليوم السعيد. على أمل أن يظهر هذا التكريم عطاءات ومهارات وتضحيات نخبة من معلمينا أمضوا في خدمة طلاّبنا مدة طويلة من الزمن، تتراوح بين 15 و26 سنة.
كما أتمنى أن يظهر لك هذا التكريم مدى الاحترام والتقدير اللذين تتمتّع بهما في معهدنا. وسيتم الاحتفال في كنيسة سيّدة لبنان، خلال قدّاس رسمي حافل في 14 آب 2001، بعده مباشرة، أنت مدعو لمشاركتي مع أخواتي الراهبات طعام الغداء في الدير".
ولكي نعرف ماذا حصل في ذلك اليوم السعيد، لـم أجد أفضل من مراجعة ما نشرته صحفنا المهجريّة عن التكريم، وبما أن الخبر الذي كتبه الأستاذ ألبير وهبة واحد في معظمها، انتقيت منها البيرق، العدد 1939، الصادر في 21 آب 2001، لتحليل الخبر:
"قدّاس الشكر والاحتفال والتكريم في معهد سيّدة لبنان محطّة روحيّة في حياة المعهد، الذي تسهر عليه وتديره راهبات العائلة المقدّسة المارونيّات.
شكر للـه على نعمه الوفيرة، التي أغدقها على بناته الراهبات اللواتي نذرن أنفسهنّ لخدمة عباده، ونشر كلمته بين البشر، واحتفال بذكرى تأسيس جمعيّتهن المباركة، وتكريم لرسل الكلمة الذين مضى على خدمتهم في المعهد أكثر من خمسة عشر عاماً، وهم: سو مانداي 26 سنة، شربل بعيني 20 سنة، روز خوري 18 سنة، مارينا بابيك 16 سنة، وشاريل جورج 15 سنة".
إذن، فالمكرمون خمسة فقط. حلّ شربل الثاني في الأقدميّة، كونه أمضى عشرين سنة من عمره في أرجاء المعهد، وصاحبه في كافة مراحل تطوّره ونموّه وبنائه.
الحضور كان كثيفاً ومميّزاً، فبالإضافة إلى 1350 طالباً وطالبة، حضر المئات من أهالي الطلاّب، والعديد من المدعوّين الرسميين، وإليكم ما كتب ألبير:
"وبهذه المناسبة دعت رئيسة المعهد الأخت إيرين بو غصن، يوم الثلاثاء الماضي، إلى قداس احتفالي أقيم في كنيسة سيّدة لبنان، برعاية سيادة المطران يوسف حتّي، راعي أبرشيّة أستراليا ونيوزيلندة المارونيّة، حضره نائب منطقة باراماتا روس كاميرون، رئيس بلدية باراماتا ممثلاً بالسيّدة روبن ويلن، ورئيسة المركز التربوي الكاثوليكي الدكتورة آن بنيامين ممثلة بالسيّد غريغ نيزرلي، وعضو بلديّة باراماتا السيّد طوني عيسى، والأهالي والجسم التعليمي والطلاب.
في بداية الذبيحة الإلهيّة، التي احتفل بها الأب جيفري عبد اللـه المرشد الروحي للمعهد، وخدمتها جوقة المعهد، ألقت الأم الرئيسة كلمة ترحيب بالحاضرين، ونوّهت بالسبب الذي من أجله كان هذا القدّاس الإحتفالي".
كلمة الأم الرئيسة كانت رئيسة الكلام، رحّبت بها بجميع الحاضرين، وشكرت المطران يوسف حتّي وكافة المدعوين الرسميين والأهل والهيئة التعليميّة والطلاّب على مشاركتهم بالصلاة في هذه المناسبة السعيدة، إلى أن قالت:
"ونحن نحتفل اليوم بعيد تأسيس جمعيتنا، في الخامس عشر من شهر آب من كل عام، تجدّد كل راهبة منّا نذورها الربّانيّة. في مثل هذا اليوم نقول مجدّداً نعم للربّ، ونبدي استعدادنا لنكون خادمات متواضعات له، على مثال أمنا مريم العذراء. في مثل هذا اليوم منذ ما يزيد على المئة عام تأسست الجمعيّة في عيد انتقال العذراء إلى السماء.
ولاجتماعنا اليوم سبب آخر، ألا وهو تكريم خمسة من أفراد الهيئة التعليميّة الذين مضى على وجودهم معنا فترة من الزمن تتراوح ما بين 15 إلى 26 سنة. خلال هذه الفترة أبدوا التزاماً صادقاً بالمعهد، وروحاً مهنيّة عالية، واستعداداً دائماً للعطاء، ومشاركة يوميّة في حياة المعهد.
أتوجّه بالشكر إلى هذه المجموعة من المعلمين على جهودهم الحثيثة في حياة المعهد، ولنرفع الصلاة والشكر للرب الإله الذي به نلتزم قولاً وفعلاً".
في ختام القدّاس الإلهي وزّعت الجوائز التقديرية على المكرمين، بطريقة مبتكرة ورائدة، إذ اختارت الرئيسة لكل مكرّم شخصاً يتكلّم عنه، قبيل تسليمه الجائزة، ومن أفضل من الأستاذ طوني الشيخ للتكلّم عن صديقه شربل؟.. فجاءت كلمته مختصرة وشاملة في آن واحد، وقام بنشرها في مجلّة أميرة العدد 21، تشرين الأول 2001، وإليكم نصّها:
"عندما سألتني الأخت الرئيسة إيرين بو غصن أن أتكلّم، باختصار شديد، عن شربل بعيني، بمناسبة تكريمه بعيد تأسيس جمعيّة راهبات العائلة المقدّسة المارونيّات، شعرت برهبة، وقررت أن أعتذر. فالمهمة ليست سهلة، إذ عليّ أن أتكلّم عن عشرين سنة من عطاءات شربل بعيني في معهد سيّدة لبنان ـ هاريس بارك.
عام 1980 دخل شربل المعهد بدوام متقطّع. ولكنه في عام 1981 دخله بدوام كامل ورسمي. أي أنه التحق بمهنة التعليـم بعد أن تخلّى عن تجارته، بغية مساعدة أطفال وطنه على تعلّم لغتهم الأم. فكتب لذلك العديد من الكتب، التي طبعت الحكومة الأسترالية معظمها، لتدرّس في معهدنا وفي كل مدارس الولاية. وأعتقد أن ما من مدرسة إبتدائيّة أو ثانويّة أدخلت اللغة العربيّة في منهاجها الدراسي، إلاّ وتدرس كتب شربل بعيني، أو تتخذّها كمراجع.
ولـم يكتفِ شربل بتعليـم اللغة عبر الكتب، بل التفت إلى المسرح، وكتب العديد من المسرحيّات الرائعة، فاعتُبر بحقّ أوّل من أسس مسرحاً للأطفال اللبنانيين في أستراليا.
في العامين 1997 و 1998، درس إبني سيمون اللغة العربيّة عند شربل، فسألته عن رأيه بالأستاذ بعيني، فأجابني: صدّقني يا أبي، إنّه أستاذ رائع وصاخب!
وكما يعرف الجميع، فشربل بعيني يعتبر واحداً من كبار شعرائنا المهجريين على امتداد خريطة الإنتشار اللبناني، لذلك كُرّم عدّة مرّات، ومنح جوائز أدبيّة كثيرة.
منذ عشر سنوات تعرّفت على شربل، أي منذ دخولي هذا المعهد، وبعد كل هذه السنوات، بإمكاني أن أفاخر وأقول: شربل بعيني هو صديقي.
أخيراً أحبّ أن أشكر الأخت إيرين على إتاحة الفرصة لي للتكلّم عن صديقي شربل، وأن أهنىء باقي المكرّمين".
وتأكيداً لما جاء في كلمة طوني الشيخ، أخبركم أن شربل لـم يطبع كتاباً مدرسياً واحداً قبل عرضه على أساتذة كبار كالمرحومين نعيم خوري وفؤاد نمّور، والأستاذ الجامعي عصمت الأيّوبي وغيرهم. ومن رسائل الإطراء التي استلمها حول كتبه المدرسيّة، اخترت رسالة لفقيد الكلمة المرحوم نعيم خوري، كان قد أرسلها لشربل في 24 آذار 1994:
"عزيزي شربل:
تحيّة أدبيّة..
أطّلعت فيما سبق على أحد كتبك المدرسيّة، وأبديت لك إعجابي في ذلك الوقت. واليوم، أتيحت لي الفرصة للإطلاع على كتابك الأخير دروب القراءة، فوجدت فيه قفزة نوعيّة موفّقة، وتطوّراً إيجابياً في التصميم تبويباً وأسلوباً ومادة، ومجهوداً علمياً اشتركت فيه الموسيقى اللفظيّة، ورهافة الحسّ، وشفافيّة العاطفة، لتسهم جميعها في إنعاش اللغة وجعلها أكثر دفئاً وتشويقاً للراغبين في استيعابها.
ورأيت أن هذا الإنتعاش يتمثّل الغزو العاطفي في شكل يحرّض على حبّ القراءة والإستزادة منها، على نمط يسهّل تدريجيّاً الرسوخ في القاعدة الصحيحة صوتاً وقراءة وكتابة.
ولا بدّ أيضاً من الإشارة إلى الأسلوب بالذوق الذي يستحدث طريقة (تلميع) الكلمات، لتدخل القلب والعقل والفكر دفعة واحدة، فتنمو اللهفة، ويزيد الإقبال على حب المعرفة.
فقرب الألفاظ من لغة التداول، وتطعيم بعض الجمل بالكلمات العاميّة السهلة على السمع والفهم والحفظ، قد أسبغا على الكتاب نكهة لذيذة تفتقر إليها الغالبيّة من الكتب المعدّة خصيصاً لتدريس اللغة العربيّة.
وبصورة إجماليّة أجد أن كتاب دروب القراءة على سلاسة لغته وبساطتها، غنيّ بتنوّع مفرداته وصوره والقواعد، متين السبك، أنيق الطباعة، سليم العافيّة، مشوّق وغزير المواد. لك تهنئتي وتمنيّاتي القلبية".
والآن، لنعد إلى تغطية ألبير الشيّقة للخبر، لنعرف منها ما حصل داخل جدران الدير المقدّس:
"وبعد التكريم، دعت الأخت الرئيسة الضيوف والمعلّمين المكرّمين إلى غداء تكريمي في دير الراهبات، قدّم المكرّمون خلاله هدايا تذكاريّة للراهبات، وشكروهن على هذه الإلتفاتة الكريمة، وقد تكلّم بالنيابة عنهم الآنسة روز خوري، فقالت:
بالنيابة عن زميلي شربل، وزميلاتي سو، مارينا، وشاريل، وبالأصالة عن نفسي، أتقدّم منكنّ، راهباتنا الفاضلات، بالشكر الجزيل على هذه الإلتفاتة المميزة، وأخص بالشكر رئيستنا الفاضلة على دعمها الدائـم لنا، ورعايتها المباركة لخطواتنا.
إننا نعتبر معهد سيّدة لبنان بيتنا الثاني، والطلاب والراهبات وأفراد الهيئة التعليميّة عائلتنا الكبيرة، وأنت يا أمنا الرئيسة الأم الروحيّة لهذه العائلة: عائلة معهد سيّدة لبنان".
وعندما سئل عن شعوره في هذه المناسبة أجاب شربل:
"لا نبي يكرّم في بلده.. عبارة طالما ردّدتها، وآمنت بها. ولكنني الآن، أجد لزاماً عليّ أن اعترف أن راهبات العائلة المقدّسة المارونيات في معهد سيّدة لبنان ـ هاريس بارك، قد شذذن عن هذا الكلام، وقرّرن، في عيد تأسيس جمعيتهن، تكريم معلماتهن ومعلميهن، خصوصاً أولئك الذين انضمّوا إلى عائلة معهدهنّ منذ 15 سنة وأكثر.
هذا التكريم الذي نلته مع زميلاتي الأربع: سو وروز ومارينا وشاريل، سيكون الخطوة الأولى في مسيرة تكريم المعلم.
عشرون سنة مرّت من عمري، لـم أشعر بها، فلقد كانت سعادتي بتعليم الصغار تطغى على كل شيء.
أهنّىء زميلاتي بالتكريم، وأشكر رئيستنا الأخت إيرين بو غصن على التفاتتها الرائعة الفريدة، وهي سيّدة المواقف المضيئة. كما أشكر باقي الراهبات اللواتي يوفّرن لنا جوّاً مريحاً من العمل، وخاصّة الأخت كونستانس باشا، لأنها كانت السبب في انضمامي إلى عائلة المعهد التربويّة منذ عام 1980".
في الختام، وجّه المربّي ألبير وهبة هذه الكلمات الشعريّة الجميلة إلى المكرمين:
"يا رسل الكلمة، التي روت أجيال المعهد على مرّ السنين، اليوم في تكريمكم تنتعش الكلمة، وعبركم يتعزّى المعلّم لأنه يشعر أن هناك من يقدّر عظيم عطائه".
لقد قدّرت الأخت إيرين بو غصن عظيم عطاء شربل، وشكرته مرّات ومرّات، ومن كلمتها التي افتتحت بها مسرحيّة (طلّوا المغتربين) التي عرضت في آب 2000، أختار الآتي:
"شكري الأكبر لمن كان وراء هذه المسرحيّة، وكل مسرحيّة عرضت من قبل، هذا الذي عرف كيف يستغلّ مواهب أطفالنا ويفجّرها على المسرح. هذا الذي أدرك أن العلم لا يكون عن طريق الكتاب فحسب، بل بالدخول إلى الحياة بواقعها اليومي، عنيت به الشاعر والمربّي والأديب الأستاذ شربل بعيني".
ألا تقولون قولي إن شكر الأخت الرئيسة إيرين بو غصن الأكبر لشربل بعيني، عام 2000، يوازي تكريمها له عام 2001، بلى واللـه.
وكما ذكرت سابقاً، فلقد نشر الأستاذ طوني الشيخ كلمته في مجلّة أميرة، ضمن تغطية شاملة للخبر، ضمّنها اعتقادات كثيرة صائبة، منها:
"أعتقد أنه التكريم التربوي الأول الذي حصل في إرساليّة تربويّة عربيّة مهاجرة".
كما أنه اعتقد أن مستوى التكريم كان عالياً جداً:
"التكريم كان رائعاً ومخطّطاً له بدقّة، وأعتقد أنه جاء بمستوى تكريم الدول لأبنائها، فلقد حضره أكثر من ألفي نسمة".
وفي ختام تغطيته الإعلاميّة، أعطانا رأيه في أهميّة تكريم المعلّم:
"تكريم المعلّم في معهد سيّدة لبنان، أعاد إلى ذهني ذلك البيت من الشعر:
قـم للمعلّم وفّه التبجيلا
كاد المعلّم أن يكون رسولا
ثلاثة أعياد في عيد واحد، هكذا شعر كل من حضر الإحتفال: عيد سيّدة لبنان، وعيد تأسيس جمعيّة راهبات العائلة المقدّسة المارونيّات، وعيد المعلّم في الغربة. فألف مبروك للمكرّمين، خاصّة لصديقي شربل، وألف شكر للراهبات، لأنهن عرفن كيف ومتى يضئن مصابيحهنّ، وإلى اللقاء في احتفال مشعّ آخر".
أجل، إنه احتفال مشعّ، ستفرح به، وستردّد أصداءه زوايا غربتنا المظلمة النتنة، وصدق شاعرنا المكرّم حين قال: لا نبيّ يكرّم في بلده، ولكن الراهبات في معهد سيّدة لبنان ـ هاريس بارك، قد شذذن عن هذا الكلام. وما أروعه من شذوذ هادف، مثـمر، مفرح، ومبارك.
**
الشاعر الإصلاحي
المطران المرحوم عبده خليفة كان من أهم الشخصيات الدينيّة والأدبيّة التي التقيتها في منزل شربل بعيني، وأعجبت بها أشد الإعجاب، نظراً لحنكته في تسيير أمور رعيّته، ولرجوليّته في إحقاق الحقّ وتنفيذ القانون الكنسي، وإن أدى ذلك إلى تعرّضه لهجوم وحشي كما حصل له مع أحد المهووسين في الجالية. وأذكر أنني كنت من أوائل الذين هنأوه بالسلامة، ومن أشد المدافعين عن مواقفه الصائبة في جريدتي صوت المغترب، فتوطدت بيني وبينه أواصر صداقة متينة، اكتنفها الإعجاب والإحترام.
ولقد ترأس سيادته، أو بالأحرى، أسّس أول أبرشية مارونيّة في أستراليا ونيوزيلندة، بعد أن عينه قداسة البابا بولس السادس أسقفاً عليها عام 1973، فحقّق الكثير من المشاريع الكنسيّة، وأغنى المكتبة المهجريّة بالكثير من المؤلفات الدينيّة والفلسفيّة والسياسيّة، أشهرها كتاب مريم العذراء وقضايا العصر.
ومنذ وصوله إلى أستراليا، حتى يوم مغادرته لها عام 1991، وإعجاب شربل بعيني بالمطران خليفة لـم يتغيّر، ولـم يتبدّل كطقس أستراليا، بل بقي مؤمناً برسالة الراعي ومشيداً بها. وفي نفس الوقت كان سيادته معجباً أيضاً بأدب شربل وحاضناً له، وخير دليل على ذلك مقطع من قصيدة نشرها شربل في جريدة صوت المغترب ، العدد 830، الصادر في 14 شباط 1985، يمتدح بها كتاب المطران مريم العذراء وقضايا العصر:
عبده خليفه وأمنا مريم
تْوحّدوا بالحُبّ
وخلّوا السّما تْشتّي نِعَمْ
عَ كلّ نفسْ وْقَلْب
وْمَسْحُوا الحياةْ من الأَلَـم
وْزرعوا كَلام الربّ
اللّي تْجَسَّد بْبَاقِة حِكَمْ
مْنِ الصّعب يِكتبْها قَلَم
إلاّ ما يِمْشي الْجلْجلِه
وِيْدُوق طَعْم الصّلب
وفي الرابع والعشرين من شهر نيسان 1985، أرسل لشربل هذه الرسالة المفعمة بالصدق، والمحاكة بحروف من ذهب:
"حضرة الفاضل الأستاذ شربل بعيني المحترم
سلاماً ودعاء، أما بعد..
لقد استلمنا هديّتك الحلوة، كتابك من خزانة شربل بعيني. طالعناه، وما أوقفنا مليّاً هذه المخيّلة الجامحة التي تقودك إلى وضع صور وتصاوير يلذ بها القارىء، ويروح معك في عالـم تخلقه لنفسك، عالـم تريده أكثر عدالة ومحبّة بين بني البشر. وكم نجد في هذه الصور من الحزن والأسى أمام عالـم داس المظلوم، ولـم يأبه للفقير، بينما الغني ينعم بماله وإن لـم ينعم بأخلاقه، والفقير يذوق الأمرّين ويصمت مفضّلاً كتمان ألمه في ثورة داخليّة تتفجّر آهات وأنيناً.
جمعت أفكارك حول الإنسان، وعبّرت عن حبّك له الذي لن يكون صحيحاً بدون حبّك للخالق عزّ وجلّ، وثابرت على التطلّع إلى آفاق أكثر إنسانيّة من عالـمنا القائم الذي هجر اللـه والقيم، وأصبح سجناً للكثيرين.
إنما في بعض مقاطع كتابك أغلاط لا بدّ من تصحيحها، تقول في المزمور الأول من (مزامير ميلاديّة) ما يلي: (من منكم بدون خطيئة فليرمني بحجر، هكذا قال يسوع). والصحيح: فليرمها. وأود أن تكون غلطة مطبعيّة فقط.. وغلطات أخرى.
بارك اللـه انتاجك الأدبي الذي عليه أن يروح أكثر فأكثر إلى تعمّق روحي وفلسفي في مطالعات عديدة لست بغنى عنها، فيصبح شعرك حاملاً خبرة شخصيّة، وتطلّعاً وجوديّاً أعمق وأنجع".
ألـم أقل لكم إن رسالته مفعمة بالصدق، فهو لا يريد أن يجامل صديقه، ولا أن يتقرّب منه بكلمات لا يرضى هو عنها، فأطلعه في رسالته على بعض الأخطاء، وطالبه بتصحيحها، وعندما أخبره شربل أنه تلاعب بالكلمات، ونقلها من "فليرمها" إلى "فليرمني" كي يجعلها أكثر التصاقاً به وبشعره، عملاً بالمثل القائل: يحقّ للشاعر ما لا يحقّ لغيره. صاح، رحمه اللـه، وهو يقهقه:
ـ كي يحقّ لك يا شربل ما لا يحقّ لغيرك، عليك أن تترك كلام السيّد المسيح كما هو.. أفهمت؟!
وعندما أهداه شربل ديوانه أحباب، أرسل له المطران خليفة في الأول من أيار 1990هذه الرسالة المقتضبة:
"حضرة ولدنا العزيز الشاعر شربل بعيني المحترم
بعد إهدائك البركة الإلهيّة عربون محبّتنا وتقديرنا لك: لقد استلمنا ديوانك الجديد أحباب. نشكر لك تلطّفك بإرساله إلينا. سنطالعه بانتباه، ونطلب إليه تعالى أن يبقي القريحة فيّاضة والإستمتاع للقارىء على تجدّد مستمرّ. باركك اللـه وغمرك بخيوره ونعمه".
وأعتقد أن سيادته لـم يطلق لقلمه العنان في هذه الرسالة، وهو من هو في عالـم الكلمة، لسبب واحد، هو أن شربل مدحه بعدّة قصائد في أحباب، وأي مديح للكتاب قد يعتبر بمثابة تسديد دين، وهذا ما يرفضه رفضاً باتاً وقاطعاً.
ولو لـم يكن شربل بعيني هو الذي ألّف ديوان أللـه ونقطة زيت، وهو الّذي طلب من سيادته أن يقدّمه للقارىء، لأبى مطراننا أن يكتب حرفاً واحداً عن ديوان يتطاول فيه الشاعر على رجال الدين بشكل سافر، لـم يسبق له مثيل من قبل، ويكفي أن تقرأوا هذا البيت المشتعل من الشعر، الذي يطلب به من اللـه أن يحرق كل رجال الدين بدون أدنى شفقة، لتعرفوا ماذا أقصد:
حرقهُن كلّنْ من دون شَفْقَه
كلُّن شَكّوا الحربِه بْقَلْبَكْ
ومع ذلك كتب سيادته مقدّمة للديوان بلغ عدد صفحاتها 28 صفحة، اعتبرت بحقّ تحفة أدبيّة رائعة. ورغـم مرضه وشيخوخته في لبنان، لـم ينسَ تلك المقدّمة عندما قابله أحد الصحفيين اللبنانيين، وسأله عن الأدب الأسترالي والأدب اللبناني في أستراليا، فأجاب، رحمه اللـه:
"لسوء الحظّ، أدباء أستراليا لـم يتكلّم أحد عنهم. هناك الشاعر البعيني، شاعر من زحلة، قدّمته في أحد كتبه بمقدّمة مؤلّفة من عشرين صفحة".
المقدّمة، كما ذكرت سابقاً، مؤلّفة من 28 صفحة، كما أن الشاعر البعيني هو من مجدليّا الشماليّة، وليس من زحلة كما قال سيادته في الحديث الصحفي الذي أعادت نشره جريدة البيرق المهجرية في 21 تشرين الثاني 1992.
ونظراً لطول مقدّمة ديوان أللـه ونقطة زيت، سأكتفي فقط ببعض المختارات، رغم الإجحاف الذي سيلحق بها، كونها صيغة بتأنٍ بالغ، بلغ حدّ الجودة.
وكما قلت سابقاً، فقصائد الديوان تشتم كلّ رجال الدين، بما فيهم كاتب المقدّمة، لذلك تمعّنوا كثيراً بكلمات سيادته الذكيّة، ولنقرأ معاً:
"حدس الشاعر، إذا كان نقاداً مصلحاً اجتماعيّاً، وحسّه الشعري المرهف الذي لا يغيب عنه خلل إلاّ ويشخّصه بغية إصلاحه، ولا يغيب عنه جمال إلاّ ويتغنّى به بغية إعطائه مثلاّ للبناء، ورؤياه الصائبة والمخوفة في آن، كل ذلك سيف على رؤوس الدجّالين ومروّجي الغشّ والتزييف من أيّ صوب أتوا وإلى أيّة فئة انتموا. فالإصلاح شامل، كأنه رادار يمسك دون تعب بالموجود، فيشرّحه بعمليّة جراحيّة مؤلمة للموت أو للخلاص.
الشاعر المصلح الاجتماعي يشعر في ذاتيته بزخم وكأنه أمواج بحر عتيّة لا ترحم ولا تحابي.
صدق الشاعر هذا مع نفسه هو صدقه إيّاه مع الآخرين. لا يهاب ملامة، ولا يخاف من بشر. مسؤوليّته كبيرة، يشرّفها بأن يقول ما عليه أن يقوله: يؤنّب، يوبّخ كالنبي. رسالته الاجتماعيّة لا يرفضها، هي فخره.. ومرّات يشجّع فيصبح شعره مرآة مجتمع فيه الغثّ والثـمين، وما أجمل أن يكون الثـمين في من يسيرون نحو هدف حياة اختاروها، وما أبشع الغثّ عند أناس لا يشرّفون دعوتهم في الحياة. ولكل هدف، فمنهم من يعملون في سبيله، ومنهم من يتنكرون له فيصبحون عالة على مجتمع يهدمونه وهم مسؤولون، ولا يبقى فيهم عنصر للبناء.
هذا الشاعر الاصلاحي الذي وصفناه هو شربل بعيني، الذي يتحفنا اليوم بديوان جديد أللـه ونقطة زيت.
العنوان يتركنا حيارى. نتصفّح الديوان فنرى أن الشاعر مجروح متألّـم لعدم الصدق عند من لهم أن يكونوا صادقين، عند من عليهم أن يسيروا بالدين لتنقية الأجواء لا لإفسادها، لبناء مداميك الصرح الاجتماعي لا لدكّه. وإلاّ فما عليهم إلاّ أن يعبّروا عن كذبهم وغشّهم فيكونوا من الصادقين".
هل انتبهتم كيف خرج سيادته بريئاً، مرفوع الرأس، من اتهامات شاعر طالت كل رجال الدين، لدرجة أنه تخطّاه في هجومه، ونمّر عليه، وقال فيهم ما لـم يقله أحد سواه؟ وهل انتبهتم أيضاً، كيف برّأ صديقه شربل من تهمة التجنّي والتطاول، وجعل منه مصلحاً اجتماعياً لا يخاف لومة لائـم؟. هذا هو أسلوب المطران عبده خليفة الذكي جداً. فلنتابع القراءة:
"أخذ المسيح السوط لا لأمر، إلاّ ليطهر الهيكل الذي هو مركز العبادة والاتحاد باللـه، وليعلّم الأجيال الطالعة أن السوط يجب أن يظلّ حاضراً في ضمير يعي المسؤوليّة ولا يبخّرها، في ضمير واعٍ يقظ لكي لا تتكدّس فيه وعليه طبقات السفالة والانحدار نحو الأرض، والانزلاق المشبوه إلى أسفل، مغبّات كل ذلك تشويش ضمائر الآخرين، والتساؤل عن الطريق الصحيح وعن الحقّ، وقد قال السيّد في الكتاب: تعرفون الحقّ والحقّ يحرّركم، والويل لمن تأتي الشكوك على يده".
وبعد هذه المحاكمة اللاهبة لكل من ضلّ الطريق من زملائه رجال الدين، يبدأ سيادته بتقريظ القصائد، وبامتداح صاحبها:
"القصائد الأربع والعشرون التي يضمّها ديوان أللـه ونقطة زيت، تتميّز بالعفويّة والأصالة التي هي من مناقب الشاعر الحقيقي. لا ينحت من صخر بل يغرف من بحر آلهة الشعر، وتأتي القصائد كلّها وكأنها صيغت في وقت واحد. أمواج دفّاقة تتشابه بكل ما فيها من تيّارات جعلت لهذا الديوان وحدته وتضامن أفكاره وسعة آفاقه. نطالع هذه القصائد على اختلاف مواضيعها، ونشعر بأن نسمة واحدة تهيمن عليها، نسمة الإيمان، نسمة الصدق، نسمة الموضوعيّة، وأيضاً وأخيراً، نسمة القرف أمام خزعبلات من له أن يعيش صادقاً مع نفسه ومع الآخرين".
ورغم هجومه، ورغم إطرائه، نجد أن سيادته لـم يسكت على الضيم، بل وخز شربل بشوكته وخزة سريعة مؤلمة، وكأنه يريد أن يقول له: أنصفتك ولكنّك ظلمتني:
"نرى مرّات عند الشاعر قساوة شاملة دون تمييز، وهذا غلط. فمن كان للانتقاد عرضة، فعلى الشاعر أن يسلّط عليه سيف النقد والدينونة، وأن يحمي من لذعاته من هم في أصالة الدين وخدمته لوجه اللـه".
وقد استشهد سيادته ببعض الأبيات من الديوان ليدلّ على قساوة شربل:
"وفي مجال هذه القساوة، بدون تمييز، قول الشاعر:
بْرَمْت الدّنْيي بْطُول وْعرْضْ
تا أعْرِفْ لَيْش الْكُفّارْ
انْقَرْضُوا مْن شْوارِعْنا قَرْضْ
وْصَفُّوا بِمعابدْنا كْتارْ
لا نقرّ للشاعر بقوله هنا، إنما إذا وضعنا هذا النقد اللاذع في أجواء من ينتقدهم، في أجواء من يريد أن يجرحهم لعلّهم يرعوون، نرى أن هذه الشموليّة في النقد لا تلفّ إلاّ من يريدهم ويريد نقدهم، وهم عالة على المجتمع الذي يعطونه لوناً باهتاً، ويوصمون الدين الذي هو براء منهم بوصمة التجارة والغشّ".
يريد المطران خليفة أن ينتقد شربل على شموليّته في النقد، ولكنه لا يريد أن يزعله، أو بالأحرى، لا يريد أن يعتقد القارىء أن شربل يقصده هو أيضاً في نقده، لذلك برّر شموليّة شربل في النقد، بشموليّة نقديّة أعنف كلمة، وأشدّ وطأة، ولسان حاله يردّد مع عمرو بن كلثوم:
ألا لا يجهلَنْ أحدٌ علينا
فنجهلُ فوقَ جَهْل الجاهلينا
وعن النفحة الوجوديّة في شعر شربل، يقول سيادته:
"نفحة وجوديّة تهيمن على شعر شربل بعيني، ينظر إلى الأمور حوله، لا يغيب عن واحد منها، ميله أن يرى ما يستحقّ النقد، وهذه ميزة المصلح الاجتماعي. الإيجابي ليس بحاجة إلى من يشيد به، وهو قبلة أنظار الجميع. السلبي يستوجب الإصلاح لكي يُبنى مجتمع على ركيزة هي رمز صحّة البناء واستمراريته".
المقدّمة، كما ذكرت، طويلة ورائعة، لذلك سأقلّب صفحاتها، وأتغاضى عن استشهاداتها الشعريّة، لأصل إلى الخاتمة:
"نفحة جديدة في نقد شعري اجتماعي لشاعر برهن في دواوينه الماضية، وفي ديوانه الحاضر عن فكر ثاقب، عن وعي اجتماعي صحيح، عن إيمان صريح لا يريد شائبة في المؤمنين، عن إرادة صلبة ليخلّص الإيمان من الدجّالين والمجتمع والغشّاشين.
نفحة تقود الشاعر إلى عفويّة التعبير، وصدق التأكيد، وصراحة النقد، ولهذا فإننا ننصح بقراءة هذا الديوان، ففي هذه المطالعة خير وفائدة جمّة، ونفع ثابت وتحريك للأفكار وتوجيه للعقل، وخاصّة الذي أراد الهدى فاهتدى".
كلمات المطران خليفة، تحاليله، تعمّقه الفلسفي، تفهّمه للأمور، سرعة البديهة عنده، حنكته في استيعاب النقد، وثقته اللامحدودة بنفسه، أمور أربحته معركة التحدي التي واجهته وهو يكتب مقدّمة ديوان كل ما فيه ضدّ رجال الدين. وجعلت منه بطلاً لا يخاف النقد، لأنه خارج النقد. وفي الوقت نفسه أنصف الشاعر وحثّ القارىء على مطالعة ديوانه.
رحمك اللـه يا صديقي العزيز، لقد كنت الصوت وكنت الصدى، وما زلنا نحن نتنعّم بذلك الصوت وذلك الصدى.
**
إبن الأرزة الخالدة
"إنه ابن الأرزة الخالدة، ابن مدينة الشمس الأبديّة، ابن أولئك الذين عبروا اليمّ، قديماً، لبناء علاقات إنسانيّة مع المجتمع البشري. هذا هو الشاعر المرهف الاحساس شربل بعيني، الذي شبّ وترعرع في مجدليّا، القرية اللبنانية المتواضعة".
بهذه العبارات قدّمت شربل، يوم أجريت معه لقاء صحفياً نشرته جريدة صوت المغترب في عددها 839، الصادر بتاريخ 27 حزيران 1985. ومن هذا اللقاء وغيره من المصادر، سأستقي معلوماتي حول رحلة شاعرنا مع الحياة والكلمة.
ولد شربل بعيني في العاشر من شهر شباط سنة 1951، في قرية مجدليّا، وهي بلدة شماليّة، كما جاء في كتاب موسوعة الهجرة اللبنانيّة إلى أستراليا، الكتاب الأول، بداية الهجرة وتطورها ـ 2001) لقنصل لبنان العام السابق في ولاية فيكتوريا، الدكتور طنّوس عون، الصفحة 197: "تفصل بين مدينتيْ طرابلس وزغرتا، وتعتبر امتداداً جغرافياً لهما. إنّها بوّابة قضاء زغرتا... ترتفع عن سطح البحر 100م، أي أنها تشرف على البحر من مكان قريب منه.. عدد سكّانها اليوم حوالي 20 ألف نسمة.. رغم أن عدد أبنائها الأصليين لا يتجاوز الألفي نسمة، بمن فيهم المهاجرون".
وفي الكتاب ذاته، صفحة 198، أخبرنا الدكتور عون أن شربل سركيس بعيني قد وصل إلى أستراليا في أواخر الستينات وأوائل السبعينات. ومن المؤكّد أنه وصلها في أواخر عام 1971. كما خصّه في الصفحة 200 بهذه الإلتفاتة الرائعة:
"وفي حقل الأدب والشعر برز اسم شربل سركيس بعيني، وأصدر أكثر من 20 ديواناً شعرياً، ترجمت بمعظمها إلى الإنكليزيّة والفرنسيّة والإسبانيّة، وسميّ شاعر المهجر الأول، وسيف الأدب المهجري، وحاز على جوائز عديدة".
هو الرابع بين إخوته الستّة: أنطوان، جورج، جوزاف، شربل، ميشال ومرسال. متزوّج من السيّدة ليلى إبنة السيّد والسيّدة عصمت وفريحة الأيّوبي. تربّى على يديّ والديه سركيس وبترونلّه بعيني تربية وطنيّة صادقة، وتلقّى علومه الإبتدائيّة والثانويّة في مدينة طرابلس الفيحاء، التي خلّدها بالعديد من قصائده.
نقر الشعر على طبلة شربل لأول مرّة، في شهر أيار عام 1962. وكما هو معروف عند المسحيين، فإن شهر أيار هو شهر أمّنا مريم، وكانت بنات أخويّتها يخصّصن يوماً كاملاً لكل بيت من بيوت مجدليا. يحملن إليه شخص السيدة العذراء، وسط الصلاوات والترانيم والزغاريد. وعندما جاء دور منزل الطفل شربل، الذي لـم يبلغ بعد ربيعه التاسع، رفض أن تدخل العذراء عتبة بيت أهله، ما لـم يستقبلها بأول قصيدة شعريّة كتبها وألقاها، هي أقرب إلى النثر منها إلى الشعر.. ومع ذلك لاقت التصفيق والتهنئة، مما شجعه على مواصلة الكتابة والنشر.
نشر المئات من القصائد والمقالات في الصحف والمجلاّت اللبنانيّة، منها: النهار، الأنوار، البيرق، لسان الحال، التلغراف، الجمهوريّة، ألف ليلة وليلة، السينما والعجائب، الدبّور وغيرها. ولـم يبلغ بعد السابعة عشرة من عمره.
ديوانه الأول مراهقة ـ 1968، أحدث ضجّة إعلاميّة كبرى بسبب إباحيّته اللامحدودة. منهم من مدحه كتريز رعد في ملحق البيرق البيروتيّة، العدد 1288، الصادر بتاريخ 11 تشرين الثاني 1968:
"إلى شربل بعيني..
أحببتك لأنك جريء،
ما أروعك يا شاعري..
إنّي أراك بين السطور
تبتسم، تثور..
"مراهقة".. إسم جميل
أطلقته على كتابك الجميل
أعترف أنّك سحرتني
سيطرت عليّ تماماً
جعلتني أبني قصوراً من الأحلام
بالقرب من أبياتك الشعريّة.
قرأت "مراهقة" عدّة مرّات متتاليّة
دون أن أملّ..
وكيف أملّ من السحر والجمال
من اللّذة والخيال؟!
أحببتك.. أقولها بحرارة".
ومنهم من هاجمه بشدّة كالدكتور توني سابا، الاسم المستعار لأحد مستشاري رؤساء الجمهوريّة اللبنانيّة، في مجلّة الساخر البيروتيّة، العدد السادس، حزيران 1970:
"أخبروني أن مسرح فاروق بحاجة إلى شاعر (ليقف) ويلقي بين المشاهد قصيدة يبقي فيها الحضور على اتصال بما يقدّم من برامج رائعة. هل تذهب يا شربل؟ أم أن شعرك لا ينفع في الوقوف مثله في القرفصة أو النوم".
وأعتقد أن هذا المقطع الذي اخترته من مقال توني، يختزل باقي المقاطع، ويبرز تطاولها الشخصي الحادّ على شربل. وقد تضاعف هذا التطاول حين نشر شربل عام 1969 قصيدته (القدر كذّاب، القدر مجرم)، في مجلّة صباح الخير، التي كانت تصدر كملحق أسبوعي لجريدة البيرق البيروتيّة. فثارت ثائرة الأب نعمة اللـه ك. ونشر رداً على القصيدة في المجلّة ذاتها، العدد 116، الصادر في 13 تشرين الأول 1969:
"أعزائي،
لقد قرأت مؤخّراً في ملحقكم الحبيب قصيدة لشربل بعيني بعنوان (القدر كذّاب، القدر مجرم)، وبعد مراجعتها عدّة مرّات والتمعّن بها، وجدتها تزخر بالإلحاد ونكران وجود اللـه، والتهجّم على القديسين الأبرار، وجعل الإنسان سيد نفسه.
فمثلاً لو راجعنا عبارة (ركعت صلّي لإلـه ما عندو سما)، لوجدناها تنطوي على شكّ واضح وضوح الشمس بوجود اللـه تعالى. فالشاعر إنما يريد أن يبرهن أن إلهـه ليس له سماء، وكافّة الأديان تثبت أن اللـه في عرشه السماوي، وهذا التناقض يدعو إلى الشكّ. وحين يقول الشاعر:
أنا قدّيس
إصبعي بيضوي بليلات القدر
حملت الأرض
وبنفختي طفيت الشمس
وبروس صابيعي كمشت القمر
إنما يريد بقوله هذا أن يظهر الإنسان بمظهر القديس على الأرض، يقدر على فعل كل شيء، حتى على تسيير الكون حسب إرادته، وهذا عكس ما تعلّمه وتبشّر به الأديان السماويّة.
وأخيراً، يتجاسر ويقول شاعرنا العزيز:
الدني ما في لها نهايه
لها بدايه..
كذب..
نحنا بداية هالدني ونحنا النهايه.
هنا الطامة الكبرى، هنا الإلحاد.. كيف تنشر جريدة البيرق الغراء مثل هذه القصيدة؟ أو بالأحرى كيف يكتب شربل بعيني مثل هذه القصيدة؟ ونحن الذين كنّا نقدّره ونعتقده عكس ما أظهرته لنا قصيدته الجوفاء.
أين الإيمان؟ ولبنان معروف عنه إنه بلد الإيمان.. لا أدري.
سيّدنا يسوع المسيح يقول في إنجيله إن للحياة الدنيا نهاية وقيامة، وشربل بعيني يقول أن لا نهاية لهذه. فبربكم من نصدّق؟
أنترك كلام اللـه تعالى، لنسمع كلمات شاعر تصوّر له مخيّلته ما يشاء؟!
أرجو أن تنتبهوا لما قد تنطوي عليه مثل هذه القصائد من معانٍ وأفكار، تساعد على طرد الإيمان من قلوب شبابنا الطالع الضائع الأعمى، الذي ينقاد وراء كلّ شيء جديد. كما نرجو من الشاعر شربل بعيني أن يتجنّب مثل هذه المواضيع، وهذه القصائد، لأنها تسيء إلى سمعته وأدبه، وتدعونا إلى الشكّ بمسيحيّته".
الآن، بدأت أفهم لماذا لـم يغتظ شربل من مهاجمة البعض له في الغربة، ولماذا كان يضحك عندما كان يقرأ هجوماً عنيفاً عليه. فلقد اعتاد منذ بدايته الأدبيّة على تجرّع العلقم، دون أن يحرّك ساكناً. فإيمانه بربّه أقوى من ثرثرات كاهن. وإيمانه بأدبه أقوى من عنعنات ناقد. لذلك تابع مسيرته الأدبيّة دون الإلتفات إلى الوراء، ولسان حاله يردّد قصيدة علّقها كأيقونة في ديوانه قصائد ريفيّة:
يشزرونني بخبث..
يشكّكون بي وبأعمالي..
يطلقون حولي الشائعات،
ويثيرون غضب الأمواج،
وزورقي مبحر!!
ساريته مستقيمة.
أشرعته متينة.
وأخشابه مقطوعة من شجرة الثقة بالنفس،
التي لا تقتلعها رياح الثرثرة،
ولا تحطّم أفنانها أنواء الرذيلة.
زورقي..
سيصل بإذن اللـه،
لأنني على موعد مع التاريخ.
فإذا كان الدكتور توني سابا (بالتاء وليس بالطاء) قد صاح عام 1970:"وينك يا مار شربل؟"، بعد اطلاعه على باكورة أعمال شربل بعيني مراهقة. وإذا كان الأب نعمة اللـه ك. قد شكّك بمسيحيّة شربل عام 1969، بعد قراءته السريعة لقصيدة "القدر كذّاب، القدر مجرم". نجد أن الناقد المهجري ميشال حديّد، في مقدّمة الطبعة الرابعة لديوان مراهقة 1989، قد اعتبر شربل بعيني في كلّ ما كتب "ثائراً شجاعاً، داعياً إلى التغيير وتجاوز العقليّات السائدة والتقاليد الجامدة. ففي الغزل الإباحي، اضطر بعض النقّاد إلى الاستعانة بمار شربل مخلوف على شربل بعيني. وفي الشعر الوطني كان غرباله لا يرحم زعيماً ولا مسؤولاً ولا إقطاعيّاً. وفي شعره الصوفي ثار على رجال الدين ممن حولوا العبادة إلى مهنة للإرتزاق والتعيّش، وثار على الأساطير والخرافات الدينيّة التي مسخت الإنسان المؤمن، وقوّضت إمكاناته وقدراته على الإقلاع والتحرّر.
إن شعر شربل بعيني يبقى ثرثرة متى أفرغناه من ثوريّته الجامحة الملتهبة.. وحتى قصائده في مراهقة كانت في تلك (الأيام الستينيّات) دعوة جريئة إلى التحرّر الجنسي، مع تحفّظنا الشديد من خطورة تلك الدعوة، لأنها مبنيّة على الإنفعالات النفسيّة. وقد نجد أنفسنا مرغمين على التنازل عن (تحفّظنا الشديد)، لأننا أمام شاعر لا أمام عالـم فيزيائي أو كيميائي أو نفساني".
لقد دافع، يومذاك، رئيس حزب الطبيعيّين في طرابلس الاستاذ حبيب تليجه عن شربل بعيني، وكان أول المدافعين عنه، ولكن ميشال حديّد تمكّن، بعد عشرين سنة ونيّف، من أن يصيب الأب نعمة اللـه ك. والدكتور توني سابا بحجر واحد، رشقه من خلف البحار ليعيد الاعتبار إلى شاعر رمته كلماته الثائرة خارج الوطن.
لقد نبّه شربل بأشعاره من الحرب الأهليّة اللبنانيّة، قبل وقوعها بعدّة سنوات، وبدلاً من أن تؤخذ صرخته على محمل الجدّ، راح البعض يسخر منه ومن أشعاره، ويدعوه إلى الإطمئنان. وخير دليل على ذلك مقال نشره الأستاذ أحمد السيّد في ملحق البيرق البيروتيّة، العدد 1310، الصادر في التاسع من كانون الأول 1969:
"قرأت في مجلّتكم الغرّاء قصيدة للشاعر شربل بعيني، وفيها يندب الأرزة ويخاف عليها من اللاشيء. لذا أردت أن أجيبه بهذه الكلمات النابعة من الصميم:
أرزتنا لن تئنّ.. لن تختلج. لأنها تعرف مقدار صمودها. تعرف أن لجذعها قوّة القدر، فعليه تحطّمت رؤوس أكبر الطامعين الغزاة.
لماذا تندبها يا شربل وتقول: بأن من أغصانها يحاك تابوت المجد؟ أفلا تدري بأنها هي المجد نفسه؟
أرزاتنا اعتادت مناخ الصدور، فمدّت جذورها حتى الأعماق، وكم من غبيّ جاهل لئيم أراد اقتلاعها فعجز، وارتد دامي اليدين والعينين.
هي نحن ونحن هي.. يجمع فيما بيننا رابط إلهي أزلي خالد خلود اللـه في عليائه. أنا لا أنكر عليك خوفك من الأحداث، بل العكس، أنا جد خائف أيضاً، ومع ذلك أنا جد متفائل.
لماذا نخاف؟ أو بالأحرى لماذا تخاف الأرزة، وهناك أناس نذروا أرواحهم لفدائها؟. تقول: هم قلائل.. ما هم، طالما أن إيمانهم بها قويّ راسخ رسوخ الأبد. تقول:
من أبنائها..
من الذين يتّقون الحرّ في أفيائها..
هذا ليس بمنطق.. فبإمكانك أن تجري إحصاء شاملاً في لبنان، وتطرح على كل فرد لبناني هذا السؤال: هل تحب الأرزة؟ وطبعاً سيجيبك الجميع: نعم.
إطمئن يا شربل بعيني إطمئن.. فلا داعي لخوفك".
وأجزم، بعد عقدين من الحرب اللبنانيّة اللئيمة، أن لا أحمد السيّد اطمأنّ، ولا جميع الذين طرح عليهم السؤال وشملهم الإحصاء. فلقد كان شربل بعيني على حقّ حين كتب عام 1969:
أرزتنا تئنّ، تختلج، تموتُ
أرزتنا التي سقيناها دماً
تختلج، تموتُ
يحاك من أفنانها للمجد.. تابوتُ
وكان أحمد السيّد على خطأ، رغم أسلوبه المقنع، حين قال: "إطمئن يا شربل إطمئن.. فلا داعي لخوفك".
لـم يعد الخوف مقتصراً على شربل بعيني وحده، بل امتدّ، في أيّامنا هذه، كالنار في الهشيم، ليشمل العالـم أجمع. فاربطوا أحزمتكم جيّداً قبل الإقلاع في متاهات هذه البشريّة الحاقدة.
**
سد بوزك
عام 1970، كان عام التحوّل في حياة شربل بعيني، فلقد صدر له ديوان قصائد مبعثرة عن لبنان والثورة، حذّر به من وقوع الحرب الأهليّة في لبنان، إذا لـم يتدارك المسؤولون الأمر. كما راحت الصحف والمجلاّت اللبنانيّة، كـ النهار، والأنوار، والبيرق (صباح الخير)، والدبور وغيرها، تنشر له ديوانه يوميّات مراسل أجنبي في الشرق الأوسط، فأحدث الديوانان، المطبوع في كتاب والمنشور في الصحف، ضجّة كبرى، أفرحت الأحزاب الثوريّة وأغضبت الحكّام.
وفي الخامس والعشرين من شهر نيسان 1970، دعاه الإتحاد الطلاّبي الثوري لأمسيّة شعريّة في مركز "حركة 24 تشرين" التابع لها، والتي كان يرأسها المناضل الطرابلسي فاروق المقدّم. ولنعرف ماذا حدث في تلك الأمسيّة، سأنقل إليكم مقتطفات من حديث أجرته في أواخر عام 2000، السيّدة ماري ميسي مع شربل بعيني، وبثته إذاعة (إس بي أس) الحكوميّة:
"لقد ذهبت إلى طرابلس، هناك اشتركت بأمسيات أدبيّة عديدة، ولكنّها كانت متعبة بالنسبة لي، خاصّة وقد صدر لي في ذلك الوقت قصائد مبعثرة عن لبنان والثورة، وعندما تتكلمين عن الثورة عام 1970، فهذا يعني وجع الرأس.
أضيفي إلى ذلك كتاب عن الثورة الفلسطينيّة إسمه يوميّات مراسل أجنبي في الشرق الأوسط.. وبسبب هذه القصائد دعيت إلى أمسية شعرية في طرابلس، فتخلّلها إطلاق نار.. فلكثرة حماس الجمهور راح يطلق النار.. فاختبأ محسوبك تحت الطاولة.. لقد افتكرتهم يطلقون النار عليّ، فاختبأت تحت الطاولة. والمقطع الشعري الذي ألهب القاعة يقول:
لـمْ يقتلوا طفلاً إخواني
أعرفهم، حتماً، أعرفهمْ
فالرحمة همْ
والرأفة همْ
وليسمعْ كلّ إنسانِ
لولا عدالة ثورتهم
لفقدتُ بالعدلِ إيماني.
هنا بدأ الرصاص يلعلع، فأين تريدنني أن أصبح؟"
فضحكت ماري ميسي وقالت: تحت الطاولة.
وعندما سألت أنا شربل إذا كان حقاً قد اختبأ تحت الطاولة، ضحك وقال: "لقد خفت كثيراً، وفكّرت بالإختباء تحت الطاولة، ولكنني لـم أختبىء. كلّ ما في الأمر أنني أردت، في حديثي مع ماري ميسي، أن أضحك المستمعين في أواخر عام تنبّأ فيه المنجمون بزوال العالـم".
ويظهر أن أذناب الحكّام لـم يعجبهم ما حصل في تلك الأمسية، خاصّة وأنه من منطقة معيّنة، وعليه أن يلزم حدوده، كما أن الثورة التي فجّرها بقصائده غير مسموح بها بتاتاً في عالـمنا العربي التعيس المعتقل المهجّر، فاعتدوا عليه أمام سينما (الريفولي)، وقالوا له: سدّ بوزك.
أثناء الليل جاء أحد الكهنة، وطلب من والدة شربل، رحمها اللـه، أن يختفي شربل عن الأنظار مدّة من الزمن، فلجأ سراً إلى بيت أحد أقربائه في بلدة جبليّة اسمها حصرون، ومن هناك بدأت الاتصالات بين لبنان وأستراليا، لتهريب شربل إليها، فسهّل سفره الرئيس المرحوم رينيه معوّض، وكان وزيراً للمال يومذاك، كونه يحمل رقماً احتياطياً في الجيش، بعد أن خضع للتدريب العسكري في الصفوف الثانويّة.
ولكي نعرف أكثر عن هذه الحادثة، وعن الكثير من حياة شربل، سأنشر ما كتبته ابنة بلدي سوريا، الدكتورة سمر العطار، كمقدّمة لديوان كيف أينعت السنابل؟ ـ 1987:
"تخيَّلتُ شربل البعيني، شاباً في العشرين من عمره يترك قريته مجدليا في شرقي طرابلس تحت جنح الليل متوجهاً نحو بيروت في ليلة باردة من ليالي كانون الأول عام 1971، وفي يده حقيبة سفر ، وتحت إبطه علبة بيضاء فيها حذاء جديد لـم يلبس. كان يشعر بمزيج من الرهبة والفرح. لن يطوله أحد في اّخر العالـم ، فكَّر لبرهة، وأراد ان يضحك بصوت عالٍ، لكنَّه ما ان تخيَّل خوري القرية وهو يطرق الباب على بيته ليلاً ويهمس شيئاً في اذن امِّه حتى تملَّكه الخوف من جديد.. "سيرمونه في البئر" قال الخوري محذّراً.
وعذَّبته أشباحُ مطارديه، لا لشيء، إلاّ لأنَّه لـم يفهم ماذا فعل. فهو لـم يقتل ولـم يسرق احداً.... "سد بوزك" قالوا في رسالة شفويَّة أرسلوها له مع الخوري.. هذا "البوز" اللعين لكم سبَّب له وللشعراء في بلاده متاعب لا أوَّل لها ولا اّخر.
لماذا يموت وهو في ريعان شبابه؟. تساءل ألفَ مرَّة. لـم يكن قد أتمَّ البكالوريا بعد في مدينة طرابلس. وكان حلمه بأن يدرس الحقوق في الجامعة.. وبأن يصبح محامياً الى جانب كونه شاعراً. فالمحاماة والشعر كانا في نظره متقاربين: كلاهما يدافعان عن الانسان المغلوب، وكلاهما يهاجمان الظلم ويطالبان بالعدالة، تلك التي افتقدها كثيراً في بلاده.
قبَّلته أمُّه على وجنتيه ألف مرَّة. توسَّلَت إليه بأن يهرب، بان يهاجر. أعادت على مسامعه ما قاله الخوري لها.. "لا فائدة يا ابني" شدَّدت على الحروف "لا فائدة".
وهرب مؤقتاً إلى ضيعة في الجبل.. لـم يرَ أحداً هناك، ولـم يتكلَّم مع أحد.. وتـذكَّر تلك الليلة التي أتى فيها الخوري الى أمِّه. لَكَم كانت نصراً أدبياً له. دعته حركة طلاّبيَّة في طرابلس لإلقاء الشعر.. (وكان قد نشر كتابين مراهقة وهو باللغة العاميَّة، وآخـر قصائد مبعثرة عن لبنان والثورة باللغة الفصحى). وقبِل الدعوة، وكشاب وسيم في العشرين، وقف أمام حشد كبير من مـحبِّي الأدب ومتعاطي السياســة، وألقى عـدَّة قصــائد بعنـوان "يوميات مراسل أجنبي في الشرق الأوسط" هاجم فيها زعماء لبنان الإقطاعيين. وقوبلت القصائد، لا بالتصفيق فقط، وإنَّما بإطلاق الرصاص.. هذا الرصاص، الذي يطلقونه في لبنان إذا أحبُّوا أحداً أو كرهوه، إذا عبَّروا عن فرحهم أو غضبهم، وكأنَّهم يتسلُّون بدمية.. لـم يفكِّر كثيراً بهذا الأمر تلك الليلة. صحيح أنَّه ارتجف عندما سمع طلقات الرصاص. لكنَّ الفرح كان طاغياً عليه. لقد صار، هو القروي من مجدليّا، محطَّ الأنظار في عاصمة الشمال طرابلس، صار مشهوراً ولـم يتعدَّ العشرين.
لكنّ كلّ شيء تغيَّر عندما طرق الخوري على باب بيته ليلاً، وهمس في أذن أمّه:
ـ سَيَرمونه في البئر، ولن يعثر عليه أحد.
لَكَم بكت أمّه تلك الليلة.. لَكَم أَلحّت عليه بأن يهاجر إلى أستراليا، بأن يلحق بأخيه في سيدني. لا لَـم يعد هناك فائدة من البقاء في لبنان، قالت له، فلا شيء له قيمة.
في تلك الضَّيعة الجبليَّة، التي هرب إليها، ظلّ يفكِّر طويلاً بحياته وبمستقبله. ماذا يفعل الآن؟ وهل للإنتماء جدوى؟ كلّهم يؤمنون بحلول العنف: الّذين صفّقوا له، والّذين عادوه. كان في بيته بنادق ومسدسات، ككلّ بيت قروي في لبنان. وكان أبوه يستخدم السّلاح في الصَّيد. لكنّه هو لـم يجرؤ بأن يلمس مسدّساً أو بندقيَّة. ولـم يكن يهمّه بأن يعيِّره الآخرون بالجبن أو بالخوف، فالحياة البشريّة، في عرفه، لا يمكن أن تقدَّر بثمن.
لـم يكن اتخاذ قرار بشأن الهجرة من لبنان بالشيء السَّهل. كان يودّ أن يبقى في بلده، أن يُتْرَكَ وحيداً في سلام. لكن أولئك الذين أحبّوه، وأولئك الذين كرهوه، أرسلوا له رسائل متضاربة. وشعر بأنهم لم يفكّروا به كإنسان. كان مجرَّد كرة بين أيديهم. أرادوا استغلال مواهبه أو خنقها. الّذين أحبّوه وضعوا اسمه في برنامج أمسية أدبيّة جديدة. وعندما رفض الإشتراك عيَّروه بالجبن، وقالوا له بأن ليس له مبدأ. والّذين كرهوه ظلّوا يرسلون له التهديد تلوَ التهديد.
وفكّر بأن يترك المدرسة في طرابلس إلى الأبد، وأن يعمل في التّدريس الابتدائي. سيعيش منسيّاً في قرية ما، ولن يطارده الأحبّاء والأعداء. لكنّ الحصول، حتّى على وظيفة بسيطة في مدرسة ما، كان لا يتمّ إلاّ بتوصيّة من أحد زعماء المنطقة. ولأنّه لـم يشأ أن يهاجر من لبنان، فلقد حاول عبثاً أن يجد وظيفة في التعليم. وعندما قبلته مدرسة ما، قيل له بأنّه بحاجة إلى توصيَّة من زعيم. فذهب إلى أحدهم. ويبدو أن الزعيم قد فوجىء بسماعه للشاغر الموجود في المدرسة. كان من المفروض ـ في نظره ـ أن يعرف عن كل الشّواغر في منطقته!! ووعد الشّاعر بالمساعدة. ولكن في اليوم التّالي أُعطِيَت الوظيفة لأحد أزلام الزَّعيم.
لا مدرسة، ولا وظيفة، وأحبّاء وأعداء يطاردونه من كلّ جانب، والخوريّ يطرق الباب على أمّه ويقول لها بأنَّهم سيرمونه في البئر، وأمّه تقبّله ألف مرّة وتتوسّل إليه بأن يهرب. ماذا يفعل الآن هذا القروي من مِجْدَلَيَّا؟ لَكَم كان تعيساً لأنّه وُلِد في بلد إقطاعيٍّ، يحتلّ فيه الناس درجات معيّنة على السّلّم الإجتماعي. وأحلامه عن العدالة، وعن دراسة القانون، لـم تكن إلاّ أحلاماً غَبِيَّة.
عندها فقط، بدأ يفكِّرُ جدّياً بأستراليا وبالرّحيل عن لبنان. وكانت أستراليا ـ على الأقل في أحلامه ـ بديلاً عن عالم الإقطاع والعنف.
وتقدَّم بطلب للهجرة، وادَّعى بأنّه خيّاط. فأستراليا لـم تكن بحاجة إلاّ للعمّال المهرة. وكان أوّل سؤال سأله موظّف الهجرة الأسترالي أثناء المقابلة الّتي أجراها معه في بيروت:
ـ هل ستحارب في فيتنام إذا ما اضطرّت الحاجة؟
ولـم يتردد عندما أجاب بنعم. لا لأنّه كان يؤيّد الأمريكيين في حربهم القذرة، بل لأنّه كان يعرف أن الحرب موشكة على الإنتهاء، وبأن الفيتناميين سينتصرون في النهاية.
ـ ماذا تريد أن تفعل في أستراليا؟ سأله الموظّف بفضول.
ـ أريد أن أعمل وأن أبدأ حياة جديدة. قال له.
ـ وإذا ما جمعت ثروة، هل ستعود بها إلى لبنان؟ سأله الموظَّف وهو يتصنّع الإبتسام.
ـ لا، لا، قال "الخيَّاط" المهاجر: سأبقى في أستراليا.. سأصرف ثروتي هناك.
كان أخوه في سيدني قد كتب له كلّ شيء، قد لقَّنه الأجوبة. هذا "البوز" اللعين لـم يكن حرّاً، لا في لبنان ولا في غير لبنان. على المرء أن يقول دائماً ما يحبّ الآخرون أن يسمعوه. لكنّه، مع ذلك، تخيَّل في تلك اللحظة أنّه صار غنيّاً وحرّاً.
في مطار بيروت، وقبل أن يتّجه إلى الطائرة، خلع حذاءه القديم أمام موظِّف الهجرة الأسترالي، وأخرج الحذاء الجديد من العلبــة البيضاء التي كان يحملها تحت إبطه. لبســـه بســرعة.. (وكذلك فعل مئات المهاجرين اللبنانيين) ولـم يسأل أحدٌ عن السبب، ولا ما حلّ بمئات الأحذية القديمة في مطار بيروت. هل كان هنـاك قانون أستـرالي يحتِّم على القادمين الجدد من بلاد العالـم، أو من بلاد معيَّنة فقط، بأن يتركوا أحذيتهم القديمة في بلادهم، حتّى لا ينقلوا جراثيم بعينها للعالـم الجديد؟.
كان على عجلة. ولـم يشأ أن يستفسر عن شيء. أخوه كتب له منذ أشهر: "إشترِ حذاء ولا تلبسه حتّى يراك موظّف الهجرة الأسترالي في مطار بيروت". وسمع نفس القصّة من السّفارة الأستراليّة عندما تقدَّم بطلب للهجرة. كان يفكِّر بالثلاثين ساعة التي سيقضيها بين الجو والأرض، قبل أن يصل إلى سيدني. لَكَم اختار بلداً بعيداً عن العالـم! وانتابه الخوف فجأة.
وفي مطار سيدني بخّوه كما تُبَخُّ الحشرات. لـم يكن وحده في ذلك، بل بخّوا جميع المسافرين. وهكذا بدأت حياته الجديدة. كان عيد الميلاد على الأبواب. ولـم يكن قد رأى أخاه ولا عمّه المهاجرَيْنِ منذ زمن طويل. أقام بادىء الأمر عند أخيه. وكان قد تزوّج من أستراليّة ذات أصل لبناني، ورزق منها بطفلة. وخلال إقامته مع أسرة أخيه تعلّم الإنكليزيّة لمدّة ثَمانية أشهر، في مركز مخصص للمهاجرين، ووجد عملاً في معمل للحياكة DRI GLO في FIVE DOCK ـ سيدني. ولتسعة أشهر عمل من الثالثة بعد الظهر وحتى الحادية عشرة والنصف ليلاً. وابتدأت صورته كشاعر يقف أمام حشد من الناس تختفي تدريجيّاً من مخيّلته. وبالرغم من أنه كتب لمجلّة الدبّور اللبنانيّة، بادىء الأمر، شيئاً عن البلد الجديد الذي هاجر اليه، إلا أن وقته لـم يعد يسمح له بالكتابة الجادة. بالإضافة إلى أنّه وجد نفسه في مجتمع غريب، لا يتكلّم الناس فيه العربيّة ولا يفهمونها. ولـم يكن سعيداً في عمله. وذات يوم أوحت له زوجة أخيه الأستراليّة المولد بفكرة. كانت تستمع ليلاً نهاراً إلى أغنيّة واحدة لفيروز. وعندما سألها عن السّبب، قالت بأنّه لا يوجد غيرها في المدينة. كان في جيبه خمســون دولاراً فقط عنـدما ذهب إلى متجر WALTON في المدينة، واشترى آلة صغيرة للتسجيل. ومن لبنان وصلته أغانٍ جديدة. فبدأ يسجّلها على أشرطة بطريقة بدائيّة، ويبيعها في الدكاكين العربيّة في منطقة CAMPSIE، ومن هذه البداية المتواضعة نمت شركته "صوت الأرز". ونتيجة لذلك صار المغتربون العرب، لا في أستراليا وحدها، بل في المهاجر الأخرى يستمعون إلى أحدث الأغاني اللبنانيّة.
ولكنّ الشاعر فيه لـم يكن سعيداً دائماً. فالشِّعرُ والتجارة لا يجتمعان، وان كانت التجارة قد علَّمته كيف يصبح ناشراً وموزِّعاً لكتبه فيما بعد في المهجر. وعندما اندلعت الحرب الأهليّة في لبنان عام 1976، عاد للكتابة وأصدر ديوانه مجانين باللغة العاميّة. وأشرف هو بنفسه على تصوير الكتاب وبيعه في الدكاكين العربيّة التي تشتري أشرطته.
ولو لـم يكن متفائلاً لترك الكتابة إلى الأبد. لكنّه لـم يرَ نفسه كشبح دون ظلّّ في المنفى. كان يعرف أنّه يعيش على هامش المجتمع الأسترالي كمهاجر عربي، وبأنّه يكتب لفئة قليلة جداً من النَّاس، بعضها لا يعرف القراءة والكتابة. ومع ذلك فلقد صمَّم بأن يكتب بالعربيَّة. كان يريد أن يصل صوته من المهجر إلى لبنان، إلى أولئك الذين أطلقوا الرصاص فرحاً في طرابلس، عندما وقف أمامهم كشاب في العشرين، وإلى أولئك الذين توعَّدوه وحلفوا بأن يرموه في بئر القرية. ولـم يشأ أن يكتب لطائفة أو لفئة ما. لـم يشأ أن يؤيّد حزباً ضدَّ حزب. فالإنسان، في عرفه، هو فوق كل شيء: فوق الأديان وفوق الأحزاب.
وتتالت كتبه في المهجر. ودفع هو من جيبه حتّى تطبع على الآلة الكاتبة، ثمّ تُصَوَّر. إذ ليس في سيدني مطبعة عربيّة تصفّ الأحرف. وظلَّ يسوِّق كتبه ويوزِّعها على الدّكاكين العربيّة القليلة في سيدني وملبورن، حتّى أَلِفَ المغتربون اسمه، وصارت الجرائد العربيّة في أستراليا تكتب عنه، وتجري معه المقابلات.
ولـم يعد أحد يطارده في المنفى: لا الذين صفّقوا له في طرابلس، ولا الذين توعّدوا بأن يرموه في البئر. ولكنّ شبح البقاء: البقاء في بلد ليس ببلده، وبين أهل ليسوا بأهله، ظلَّ يتبعه ليل نهار. ولـم يخف هذه المرّة، بل صمد في مكانه مصمِّماً بأن يكتب حتّى ولو للأقليّة.
عندما زارني شربل البعيني مؤخّراً في بيتي، ضحكت معه طويلاً، وأنا لـم أعد أعرف كيف أضحك منذ زمن بعيد. وفي سرّي تعجّبت منه، وأحببتُ براءته الطفوليّة. كان يثرثر بخفّة وطلاقة عن أولئك الذين أرسلوا الخوري لأمّه. كنت أنا أرى أشباحهم السّوداء، وكأنّهم خارجون من توّهم للجحيم، بينما كان هو يرى فيهم دمى ملوّنة من مسرح العرائس، أو خيالات مضحكة على شاشة كراكوز. وضحكت تلك الليلة لضحكه. لكنّ رؤيتنا للأشياء كانت تختلف اختلافاً جذريّاً. كنت أنا أرى العالـم جحيماً لا يطاق، بينما كان هو يرى العالـم مكاناً مشرقاً يمكن أن يعيش فيه الأطفال.
عندما ودّعته وأغلقت الباب أحسست بأن شربل قد منحني بصيصاً من أمل".
لقد وفّقت الدكتور العطّار في سرد قصّة رحلة شربل بعيني مع الحياة، وكأنها عالمة نفسانيّة تعرف كيف تتلاعب بمشاعرنا بكلمة، وتحبس أنفاسنا بكلمة أخرى.. لذلك نشرت مقدّمتها كاملة كي لا أحرم نفسي والقرّاء من الرجوع إليها، والتنعّم بها، ساعة نشاء. علّها تمنحنا أيضاً بصيصاً من أمل.
**
إمارة الأدب في عالم الإنتشار اللبناني
شربل بعيني، هذا المجدلاوي القروي البريء، الذي طاردوه في لبنان، وأجبروه على خلع حذائه قبل دخوله الطائرة كي لا ينقل الجراثـيم إلى أستراليا. هذا الشاعر الإنسان الذي لـم يفهم سرّ تواضعه الجمّ سوى القلائل من الناس، اختاره المجلس القاري للجامعة اللبنانيّة الثقافيّة في العالـم ـ قارّة أميركا الشماليّة، أول أمير للأدب في عالـم الإنتشار اللبناني. وأرسل له صكّ الإمارة في السابع والعشرين من شهر تشرين الأوّل عام 2000، مطعّماً بكلمات ذهبيّة رائعة، وممهوراً بإمضاء رئيسه القاري الدكتور جوزيف حايك، وإليكم ما جاء في الحيثيّات:
"حيث أن الأستاذ شربل بعيني كان، ولأكثر من ربع قرن، ويبقى سيّد الكلمة والقلـم في عالـم الإنتشار.
وحيث أن الأستاذ شربل بعيني قد جنّد حياته وقلمه لتربيّة الأجيال، وأغنى المكتبات العامّة بأدبه ومؤلّفاته.
وحيث أن الأستاذ شربل بعيني أصدر أكثر من 25 كتاباً، وارتفع باللغة والأدب والتربيّة والتعليم إلى أعلى مستويات الأبجديّة، وأصبح (قدموس) الثاني في التراث الفكري والثقافي والحضاري الذي أعطاه للعالـم، هذا العطاء الذي أمامه يتضاءل كل عطاء.
وحيث أن الأديب شربل بعيني قد وفّر بعطائه الأدبي والفكري والتربوي ما يوفّر للإنسانيّة أسباب العزّة والكرامة.. فكانت أنشودته (الحرف والكلمة)، وكان الفكر الخلاّق يستوي على عرشه.. وحدود أرضه قد ضاقت بطاقاته، فراح يوسّع حدوده إلى أقمار الدنيا، فاغترب عن لبنان إلى أستراليا في العام 1971.
وحيث أن كبير أدباء موطن الأرز الأستاذ شربل بعيني قد فتح صفحات التاريخ، وترك تلك الصفحات تتكلّم، فأصبح موسيقى العذارى على فـم الأنبياء، الذين أحنوا الجبين أمام عظمة الأدب والفكر والكلمة.
وحيث أن الأستاذ بعيني قلّده المفكرون والأدباء والشعراء وأسياد التراث الحضاري والفكري، ومنهم الحكومة اللبنانيّة، أكثر من 20 من الأوسمة والميداليّات المذهّبة عربون إجلال وإكبار لمستواه الأدبي الرفيع..
لهذه الأسباب المشرّفة، وهذه المقوّمات الأدبيّة الشامخة، وهذا المستوى الثقافي الرفيع، كان لنا الفخر، كل الفخر، في المجلس القاري للجامعة اللبنانيّة الثقافيّة في العالـم، أن ننتخب من بين 41 مرشّحاً من خيرة الأدباء اللبنانيين، الأستاذ شربل بعيني أمير الأدباء اللبنانيين في عالـم الإنتشار".
هذا ما جاء في حيثيّات الإمارة، وهذا ما أغضب القليلين، وأفرح الكثيرين. ولكي أكون صادقاً مع قرّائي ومع التاريخ، أعترف أن شربل بعيني ما كان لينشر خبر فوزه بالإمارة لو لـم يطلب منه ذلك الرئيس الحايك، فلقد اتصل بي، وأطلعني على الرسالة، وقال لي:
ـ إذا نشرت الخبر سيثير حساسيّة البعض، وإذا أخفيته أكون قد رفضت طلباً عزيزاً لإنسان كبير اسمه جوزيف حايك.
فطلبت منه تنفيذ رغبة الحايك، على أن نرصد الأمور بتأنٍ وحذر.
وفي الرابع من شهر تشرين الثاني 2000، وصلت هذه الرسالة من الرئيس القاري جوزيف الحايك:
"حضرة الأستاذ شربل بعيني المحترم، أمير الأدباء اللبنانيين في عالـم الإنتشار للعام 2000
.. وهكذا طوال ستة آلاف سنة من عمره الحافل بالعطاء والشموخ والعنفوان، يتابع لبنان زرع بذور الخير والإنسانيّة في كلّ مكان، وينقل إلى العالـم دفقة نور من الأدمغة اللامعة، أسياد القلـم والكلمة، وروّاد آفاق الحرف والقيم المثاليّة، هذه الأدمغة التي ارتفعت بحدود الأبجديّة إلى سماء اللـه الواسعة. وأديبنا الأكبر الأستاذ شربل بعيني هو خير مثال على ذلك.
كثير هو عطاء لبنان على مرّ الأزمان، وخير عطائه كان ويبقى انتشار أبنائه تحت كلّ كوكب في أقطار المعمور القصيّة، من أدباء ومعلمين ومفكرين وكتّاب وشعراء، وعلى رأسهم في هذه السنة الألفيّة المقدّسة، يبرز (أمير الأدباء اللبنانيين في عالـم الإنتشار لعام 2000) الأستاذ شربل بعيني، الأديب والفيلسوف والشاعر والمفكّر الخلاّق، الذي فتح صفحات التاريخ وتربّع على عرشها، وأصبح (قدموس) الثاني، وموسيقى الناي الإلهي عند انبثاق الفجر.
وأنتم يا أمير الأدباء الأستاذ شربل بعيني، المشعل الوطني وصاحب الولاء المطلق للبنان، وطن الرسالات، السيد الحر المستقل، لبنان (الجامعة الثقافيّة في العالـم)، التي بها تؤمنون، وبرسالتها تفخرون، أديبنا الكبير، بل (الأكبر) من كل الكبار، كان لنا الفخر، كل الفخر أن ننتخبكم (أمير الأدباء اللبنانيين في عالـم الإنتشار لعام 2000). ويسعدني، بكل ما للكلمة من معنى، أن أقدّم تهانئي لكم وللبنان، ولكل اللبنانيين، مقيمين ومغتربين، وأرفع لكم البراءة الرسميّة الصادرة في 27 تشرين الأول 2000، والتي تعلن للعالـم اختياركم (أمير الأدباء اللبنانيين في عالـم الإنتشار للعام 2000)، واقبلوا يا سيّد الكلمة والحرف تقديرنا وعميق مودّتنا وافتخارنا".
وها أنا أطلعكم على بعض رسائل (الأمير) إلى الدكتور جوزيف حايك، لتدركوا مدى عظمة شربل بعيني الأدبية، وأنه لـم يسعَ للإمارة، كما اتهمه البعض، بل حاول الإكتفاء برسالة تقدير. وإليكم ما كتب في الثامن من أيلول 2000:
"حضرة الرئيس القاري للجامعة الثقافيّة في العالـم الأستاذ جوزيف حايك المحترم.
تحيّة لبنانيّة إغترابيّة صادقة ملؤها المحبّة.
لقد استلمت، اليوم، رسالة ثانية منك كانت أجمل من الأولى، وصدّقني أن قبولك بترشيحي عن إمارة الأدب يعتبر جائزة تقديريّة بحدّ ذاته، كما أن العبارتين اللتين وردتا في رسالتيك الأولى والثانية تعتبران وسامين يشرفّان صاحبهما. ألـم تقل في رسالتك الأولى: إنك الشاعر وإنك الأديب. وفي الثانية: إن مستواك الأدبي يساوي كليّاً مستواك الشعري. بلى، لقد كتبت يا صديقي جوزيف هاتين العبارتين الخالدتين وأرسلتهما إليّ، وهذا، بنظري، يساوي ألف إمارة. ويا ليتكم تستبدلون الإمارة برسائل جميلة كالتي أرسلتها لي، ليأخذ كل شاعر وكل أديب حقّه. فلا أحد من الأدباء والشعراء الحقيقيين تهمه الإمارة. كل ما يهمهم هو إلتفاتة تقدير كإلتفاتتك عبر رسالتيك.
إن كل من يكرّم شاعراً إغترابياً يكون قد كرّمني. فألف شكر لك على محبّتك، لأنك الأمير حقاً، ولأنك الرئيس حقاً".
يقول شربل في رسالته أن لا أحد من الأدباء والشعراء الحقيقيين تهمه الإمارة، وهذا ما يثبت أنه أبعد ما يكون عن الألقاب الرنانة، والأمجاد الدنيويّة الزائلة. أوَ ليس هو من حارب الزعامات، وأبى أن يمدح رئيساً أو أميراً أو ملكاً؟. وقد أدرك الأستاذ بطرس عنداري هذه الحقيقة، فكتب في جريدة الشرق، العدد 84، الصادر في 22 تشرين الثاني 2000، ما يلي:
"تلقّى الشاعر شربل بعيني تقديراً جديداً من الصحافي المخضرم الأستاذ جوزيف حايك، رئيس المجلس القاري للجامعة اللبنانيّة الثقافيّة في العالـم، وهي مستقلّة عن الهيئة العالميّة للجامعة الثقافيّة.
وجاء في بيان المجلس القاري أنه انتخب الشاعر شربل بعيني (أمير الأدباء اللبنانيين في عالـم الإنتشار) تقديراً لعطاءاته الشعريّة والتربويّة في عالـم الإنتشار طوال 30 سنة.
وقال الشاعر شربل بعيني لـ الشرق: إنه يعتبر المبادرة من جانب الأستاذ جوزيف حايك، والمجلس القاري الأميركي عاطفة تقدير ومحبّة، ويعتبرها تشجيعاً للأدب والشعر في عالـم الإنتشار اللبناني، وهو لا يؤمن بألقاب الإمارة والرئاسة في الأدب والشعر، ولكنها عاطفة من قبل شخص لا يعرفه، ولا يستطيع إلاّ أن يشكره".
لقد حاول شربل جاهداً أن يستبدل لقب (أمير) برسالة تقدير، كما ذكرت آنفاً، ولكن قرارات المجلس القاري يجب أن تنفّذ، وقد نُفّذت، فما كان من شربل إلاّ أن خضع لمشيئة المجلس، وتقبّل صكّ الإمارة بفرح واعتزاز، وهل بإمكان الْمُكرَّم أن يرفض حبّ مكرميه؟.. وهل بإمكان الوردة أن ترفض حبيبات المطر بعد جفاف طويل؟.. إنه الشكر الأكبر المتبادل بين مؤسسة اغترابيّة رائدة، رئيسها أديب كبير، وبين شاعر أعطى الغربة دون منّة.
ورغم تفشّي الأنانيّات في مجتمعات اليوم، نجد أن شربل قد عمل المستحيل من أجل تكريم زملائه الأدباء والشعراء، وأعتقد أن سرّ نجاحه الدائـم يكمن في تواضعه، ونكران ذاته، وحبّه للآخرين، واندفاعه في سبيل إعلاء شأنهم وتكريمهم. وهذا ما تثبته رسالته المؤرّخة في الرابع من تشرين الثاني عام 2000:
"رئيسنا القاري الأستاذ جوزيف حايك المحترم..
تحيّة اغترابيّة مخلصة وبعد،
ضحكت وأنا أقرأ في ختام رسالتك الأخيرة أنك أصدرت كتباً عدّة، لأنني كنت أشعر في داخلي أن من يعمل على تكريم الأدباء لا بد أن يكون من طينتهم.
غيرك، يا أخي جوزيف، يتلهّى بتناول الكبّة النيئة، والحمّص بطحينة، والتبّولة، والبابا غنّوج في حفلات الجالية، وأنت تتلهّى بزرع المجد اللبناني في الأقطار الخمسة.
صدق المثل اللبناني القائل: لا يحنّ على العود إلا قشره. وصدق المثل القائل: يا الذي مثلنا تعال لعندنا. فأنت مِثْلنا يا جوزيف، وأنت مَثَلُنا الأعلى، وبئس من لا يأخذ بيدك لتكمل مشوار المجد. أنا معك بقلبي وقالبي وقلمي، وتهنئتي القلبيّة لكل من تختاره الجامعة من أدباء وشعراء الإغتراب لإمارة الحرف. فالكل تعب في غربته، والكل بحاجة إلى يد تنشلهم من ضياعهم الإغترابي، وهل أفضل من يدك وأيدي رفاقك في الجامعة؟. لا واللـه".
لقد وزّع شربل جائزته السنويّة على العشرات من مبدعي الجالية، ونشر صورهم على غلاف مجلّته ليلى، لا لشيء سوى توجيه الشكر لهم على عطاءاتهم المتواصلة في سبيل إعلاء شأن أبناء جلدتهم في هذا المغترب. فكيف لا يلتفت إليه المجلس القاري، وكيف لا يفاجئه باختياره للإمارة. وهذا ما تظهره هذه الرسالة المؤرخة في السادس عشر من شهر تشرين الثاني 2000:
"صديقي العزيز، مفبرك الأمراء، الأستاذ جوزيف حايك.
تحيّة المحبّة والإحترام أرسلها إليك من تحت الأرض.. من أستراليا.
لقد وصلتني المفاجأة الحلوة، ووصلني حبّك وحب الإخوة في المجلس القاري، فأشرقت شمسي رغم رداءة الطقس عندنا، وراحت التهاني تنهمر عليّ من كل من عرف بالخبر، وخاصة الأهل في كندا، فلقد وصلني عدد النهار ـ الأخبار يوم وصول طردك البريدي، وقرأت مقالك عن أدبنا في الإرجنتين، فأعجبني كثيراً، وأدركت مدى اهتمامك بنا كأدباء منتشرين في القارات الخمس، فألف شكر لك.
اليوم صدرت صحيفة البيرق وعلى صفحتها الأولى، وبالألوان، خبر الإمارة. وسأرسل لك تباعاً كل ما يصدر هنا وفي لبنان حول الجائزة المشرّفة التي زيّنتم غربتي بها".
وقد أرسل له شربل كل ما نشر في الصحف والمجلاّت، أو أذيع عبر الأثير، مدحاً كان أم ذمّاً، غير عابىء بشيء، همّه أن يطلع المجلس القاري ورئيسه على كل كلمة قيلت حول إمارته الأدبيّة.. "المهم أن تبقى الديموقراطيّة مرفوعة اللواء في المغتربات، وإلاّ تحوّلنا إلى الأنظمة القمعيّة" كما جاء في رسالة أرسلها شربل للمجلس القاري بتاريخ 15 كانون الأول 2000، وقد أعجب الدكتور حايك بصدق شربل، وبجرأته اللامتناهية.. وطالبه بمتابعة مسيرته الأدبيّة دون الإلتفات إلى الوراء، أو التعثّر بكلمات منتقديه، فالأدب كالشمس، تنير الكون أجمع ولو شتمها جميع سكّانه. وكرّر، جازماً، أنه "بالفخر، كل الفخر، انتخبنا أمير الأدباء سمو الأمير شربل بعيني".
وكما فعلت البيرق التي نشرت الخبر على صفحتها الأولى، في عددها 1823، الصادر في 16 تشرين الثاني 2000، فعلت، أيضاً، مجلّة أميرة في عددها الثاني عشر عام 2001، ونشرت صورة شربل وزوجته ليلى على غلافها الملوّن، وتحتها هذا العنوان المثير: (أميرة تستفتي حول الأمير شربل بعيني). وقد استفتى رئيس تحريرها الشاعر شوقي مسلماني العديد من فعاليات الجالية وأدبائها وشعرائها، فأجمع الجميع على أحقيّة شربل بالإمارة، لا بل طالب رئيس الجامعة الفلسطينيّة في أستراليا السيّد حيدر سعيد بأن تكرّم الإنتفاضة شربل بعيني بجائزة مماثلة:
"يكفي شربل بعيني فخراً أنه كتب قصيدته الرائعة الأخيرة عن انتفاضة شعبنا في الأرض المحتلّة.. وأنا أتمنّى أن تصل هذه القصيدة إلى شبابنا هناك ليعرفوا حجم التضامن معهم عالمياً. أكثر ما أقرأ نتاج شربل في مجلّة أميرة التي تقف إلى جانب شعبنا الفلسطيني بشجاعة نادرة. أقول ألف مبروك للشاعر شربل بعيني، وأتمنى أن تكرّمه الإنتفاضة بجائزة مماثلـة".
ومن المقالات الكثيرة التي كتبت حول الإمارة، أختار هذه المقتطفات من مقال رائع نشره الأستاذ طوني سمعان الشيخ في جريدة البيرق، العدد 1827، الصادر في 25 تشرين الثاني 2000:
"قد يكون شربل بعيني ضد الزعامات والملوك والأمراء. قد يكون ضد الألقاب، ضد التمييز، وضد التشاوف.. فمن زرع الأخلاق السامية في عقول الأجيال الإغترابية الصاعدة، يكره كل ما يسيء للآخرين، وكل ما تمجّه الأخلاق، ولكن لقب (أمير) منذ أحمد شوقي، وانتهاء بالأخطل الصغير، قد أرثى القواعد الصحيحة لأدب صحيح، أقل ما يقال فيه إنه صادق".
وقد لا أجد أجمل من هذه الأبيات الزجليّة التي أهداها الشاعر روميو عويس لشربل، ونشرها في جريدة البيرق، العدد 1855، الصادر في 8 شباط 2001، كي أختم بها كلامي:
يللّي الكلمه من صغر سنَّكْ
حبّيتها، وصار الشّعر فنّك
وتكبر، وشعرك يمتن ويكبر
غار الفضا.. وغار الجبل منَّكْ
بتبقى الجواهر قد ما تكتَرْ
ع سعرها.. وجوهر لأنَّكْ
بيشعر بحالو الحكي مقصَّرْ
مهما انحكى.. ومهما انكتب عنَّكْ
**
إمارة الشعر في عالم الإنتشار اللبناني
في العاشر من شهر شباط 2001، دعت رابطة الجمعيّات اللبنانيّة في السانت جورج لحفل تكريمي للشاعر شربل بعيني، تكلّم فيه كل من: رئيس الرابطة الحاج خليل حراجلي، الدكتور علي بزّي، الأديبة مي طبّاع، الأستاذ جوزيف خوري، الشاعر شوقي مسلماني، الشاعر فؤادي شريدي، السيّد الياس أبي خطّار، السيّدة ليلى بعيني، وكاتب هذه السطور. كما ألقى الدكتور بزّي كلمتيْ الدكتورين جوزيف حايك من أميركا، وعصام حدّاد من لبنان.
خبير الكومبيوتر المعروف طوني الشيخ كتب عن التكريم مرّتين، قبل أن يبدأ، وبعد أن انتهى، ومن كلمة نشرها في البيرق، العدد 1856، الصادر في 6 شباط 2001، أختار:
"سمعت أحدهم يقول، وهو يقرأ نص الدعوة المنشور في جريدة البيرق الغرّاء: لقد انتظرناهم من الشمال فجاءونا من الجنوب. كون الشاعر شربل بعيني من شمال لبنان، ورابطة الجمعيّات اللبنانيّة في السانت جورج من جنوبه. وهذا ما يدلّ على بعد تفكير المسؤولين عن هذه الجمعيّات، وأن النجاح اللبناني هو نجاحهم، وأن حدود وطنهم الصغير لا تستوعب طموحَهم، فراحوا يتلاحمون في الإغتراب، ليكوّنوا الوطن اللبناني الأكبر، الذي لا تغيب عنه شمس الحريّة والإنسانية والحياة الأجمل.
لقد دخلت ربطة الجمعيات اللبنانية في السانت جورج ـ أستراليا، مع المجلس القاري للجامعة اللبنانيّة الثقافيّة في العالـم ـ قارّة أميركا الشماليّة، الذي يترأسه الأديب جوزيف حايك، في اتحاد لبناني مهجري راقٍ، غايته الأولى والأخيرة تكريم المبدعين من مغتربينا، أيّاً كانوا، ومن أيّ منطقة لبنانيّة جاءوا.. ليثبتوا للعالـم أن الوطن الذي أعطى جبران والصبّاح ودبغي، بإمكانه أن يعطي أكثر. وأن الحرب اللئيمة التي اجتاحته لـم تكن سوى زوبعة في فنجانه. فمحبّة واندفاع أبنائه من أجل الحق كفيلان بأن يبنيا وطناً أكثر اتحاداً، وأقوى ديموقراطيّة.
عظمة شربل بعيني لـم تكن في أدبه، ولا في رسالته التربويّة، بل كانت في إنسانيته وتواضعه ومحبّته واندفاعه من أجل مساعدة أصدقائه. فلقد ربطتني به صداقة طويلة، لـم تتمكن السنون، ولا مزاجيّة الغربة، من التغلّب عليها. كانت صداقتنا واضحة لا دجل فيها. وشربل بعيني يكرّه الدجّالين والوصوليين، الذين لا هم عندهم، سوى استغلال صداقة الطيّبين من الناس، وتجييرها لمصالحهم.
هو هكذا، طفولي المزاج، مرح إلى أبعد حدود المرح، يتكلّم بصوت عالٍ كأنه الرعد، فإمّا أن تحبه كما خلقه اللـه، وإمّا أن تبتعد عنه، لأنه لن يبدّل سلوكه إكراماً لك، أو لغيرك. وصدّقني أنك ستحبّه، وستفتخر بصداقته، كما أفتخر أنا وأكثر.. شرط أن تعمل بنصيحتي!!.
العاشر من شهر شباط، هو يوم الجنوب، يوم الشمال، يوم لبنان الـ 10452 كلم2، يوم المجلس القاري، يوم شربل بعيني، ويومنا جميعاً.. لذلك أدعوكم للمشاركة بهذا الاحتفال التاريخي.. وأعدكم بأن كل ما سيحصل فيه سيكون رائعاً، إذ لا أحد مثل أبناء الجنوب اللبناني يعرف كيف يستقبل ضيوفه.. ولا أحد مثل أبناء الجالية في أستراليا يعرف كيف يكرّم مبدعيه. فتعالوا.. تعالوا.. ولسان حالكم يردد: المكان ضيّق ولكن القلوب واسعة.
في العاشر من شباط ولد شربل بعيني، وفي العاشر من شباط يكرّم شربل بعيني.. فهل من ذكاء يضاهي ذكاء أهل الجنوب؟!.. لقد اصطادوا عصفورين بحجر واحد.. وقالوا لنا: نحن لا نحفظ أشعار شربل بعيني فحسب، بل نعرف تاريخ ميلاده أيضاً.. ونعرف كيف نقول شكراً، ومتى نقول شكراً، للمبدعين من أبنائنا، ولا فرق عندنا بين شمالي وجنوبي، بين ابن ساحل وابن جبل، بين مسيحي ومسلم، فكلنا أبناء اللـه، وكلنا أبناء لبنان.. وكلنا، وهذا هو الأهم، أبناء غربة قسريّة فرضت علينا، فحوّلناها جنّة بمحبتنا.
يا رابطة الجمعيّات اللبنانية في السانت جورج.. شكراً.
يا خطباء الاحتفال.. شكراً.
ويا أيّها القادمون إلى السانت جورج لحضور الاحتفال ليلة السبت القادم.. شكراً وألف شكر. وإلى اللقاء في العاشر من شباط في منطقة أرنكليف".
وما أن انتهى الإحتفال حتى نشر طوني تغطية صحفيّة رائعة في جريدة البيرق، العدد 1863، الصادر في 22 شباط 2001، أختار منها:
"إلتفاتة الجنوب اللبناني للأدب المهجري كانت رائعة. فلقد لبّى المئات من شخصيّات الجالية ومثقّفيها دعوة رابطة الجمعيّات اللبنانيّة في السانت جورج لتكريم الشاعر شربل بعيني لنيله لقب (أمير الأدباء اللبنانيين في عالـم الإنتشار لعام 2000) من قبل المجلس القاري للجامعة اللبنانيّة الثقافيّة في العالـم ـ قارّة أميركا الشماليّة.
وكما كانت الأمطار تنهمر بغزارة، هكذا كان الناس يتوافدون إلى قاعة الرابطة في أرنكليف، غير عابئين برداءة الطقس، همّهم الأول والأخير المشاركة بتكريم من كرّم الحرف الإغترابي، وبذر المحبّة والإنسانيّة بين المغتربين.
باختصار شديد، وباعتراف كل من حضره، كان تكريم الشاعر شربل بعيني أكثر من رائع، منحته فيه رابطة الجمعيّات اللبنانيّة لوحة تذكاريّة تخلّد الذكرى. كما منح أبناء مجدليا والدكتور عصام حداد رئيس معهد الأبجديّة في جبيل جائزة شربل بعيني لعام 2001، لكل من رابطة الجمعيّات اللبنانيّة في السانت جورج، ولرئيس المجلس الإقليمي للجامعة اللبنانيّة الثقافيّة في العالـم الدكتور جوزيف حايك.
وفي ختام السهرة أطفأ الشاعر شربل بعيني شمعته الخمسين، وسط هتاف الناس وغنائهم له (سنة حلوة يا أمير)، كما قطع قالب كاتو كُتب عليه: (مبروك عيد ميلادك الخمسين أيها الأمير شربل). والجدير بالذكر أن رابطة الجمعيّات اللبنانية في السانت جورج قد خطّطت لتكريم شربل بعيني في يوم عيد ميلاده، فضربت عصفورين ذهبيين بحجر واحد.. وأقامت لذلك حفل كوكتيل عامراً في نهاية السهرة".
وعلى غلاف عددها الرابع عشر، الصادر في شهر آذار 2001، نشرت مجلّة أميرة هذا العنوان الصارخ: "الجنوب يكرّم أمير الأدب في الإنتشار"، وألحقته في الداخل بتغطية تاريخيّة معبّرة، إليكم بعض ما جاء فيها:
"لـم يحدث بتاريخ الإغتراب أن كُرّم شاعر بيوم عيد ميلاده الذهبي، كما حصل للشاعر شربل بعيني في العاشر من شهر شباط الماضي، فلقد دعت رابطة الجمعيّات اللبنانيّة في السانت جورج إلى مهرجان شعبي كبير احتفاء بفوز إبن مجدليا البار بلقب (أمير الأدباء اللبنانيين في عالـم الإنتشار لعام 2000) من قبل المجلس القاري للجامعة اللبنانيّة الثقافيّة في العالـم، قارة أميركا الشماليّة، الذي يرأسه الدكتور جوزيف حايك. ورغم تساقط المطر بغزارة، ورغم ضجيج أمّنا الطبيعة ببرقها ورعدها، فلقد اكتظّت قاعة الرابطة بمئات المدعوّين من الشخصيّات الدينيّة والسياسيّة والإجتماعيّة والإعلاميّة والأدبيّة وغيرها.
توقيت التكريم كان ضربة معلّم، إذ أنه أقيم في اليوم الذي ولد فيه شربل بعيني. قالب الكاتو (طوله متر)، الذي قطعه الشاعر كان ضربة معلّم أيضاً، فلقد كتب عليه: (مبروك عيد ميلادك الخمسين أيها الأمير شربل). اللوحة التذكاريّة التي قدّمها رئيس الرابطة الحاج خليل حراجلي للشاعر بعيني، كانت مذهّبة كقلوب أبناء الجنوب البطل، وكقلب أميرنا الشاعر. إلتفاتة مجدليّا والدكتور عصام حدّاد ومعهد أبجديّته جاءت في محلّها، فلقد منحوا رابطة الجمعيّات في السانت جورج، والرئيس القاري للجامعة اللبنانية الثقافيّة في العالـم الدكتور جوزيف حايك جائزة شربل بعيني لعام 2001، عن الخدمات الإجتماعيّة والثقافيّة".
وفي هذه المناسبة اقترح الدكتور عصام حداد على الدولة اللبنانية أن تمنح شربل (وسام الإغتراب اللبناني)، فقال:
"وَبِالْمُناسبَةِ، أَقْتَرِحُ على الدَّوْلَةِ أنْ تَخْتَرِعَ وِسَاماً تُسَمِّيهِ (وِسَامَ الإِغْتِرابِ اللبناني)، عَلَّها تُشَجِّعُ هَذا وَذاك لِيَحْمِلوا في أجسامِهِم دَماً نَقِياً للبنان، ويكونَ شَرْبِل أَوَّلَ حاملي هَذا الوِسَام".
ومن بين الكلمات الكثيرة التي ألقيت في الحفل أختار كلمة الدكتور جوزيف حايك، لتدركوا مدى الدعـم المعنوي والأدبي الذي تلقّاه شربل من المجلس القاري:
"حضرات رئيس وأعضاء رابطة الجمعيّات اللبنانيّة في السانت جورج ـ أستراليا.
أيّها الأخوة الكرام.. يا خير المواطنين:
إن حفل تكريم الشاعر شربل بعيني، أمير الأدباء اللبنانيين في عالـم الإنتشار، إن دلّ على شيء، فإنّما يدلّ على أنّكم خيرُ رسلٍ لموطن الأرز تحت سماء اللـه الواسعة، وبأن تكريمكم للأدباء إنّما يجسّد مقوّماتكم اللبنانيّة الشّامخة. إذ أنّ إكباركم وإجلالكم للأدب، هو المرآة التي تعكس حقيقة من أنتم، حيث لا يكرّم الأدب سوى الأدباء، وأصحاب المستويات الرفيعة والأخلاق والمكرمات!
لَكَم يؤسفني أنّ ظروفي في الوقت الحاضر لا تسمح لي بالسفر إلى ربوعكم، للمشاركة بتكريم أديب لبنان الأكبر، الأستاذ شربل بعيني، مؤكّداً لكم، أيّها الأخوة الكرام، أنّني في الساعة السابعة من مساء السبت في 10 شباط، سأكون معكم بكل قلبي وشعوري وإحساسي. كيف لا، "وأميرنا" قد فاق وتفوّق بمواهبه على 41 مرشّحاً لإمارة الأدب من مختلف قارّات الدّنيا، وكلّهم من أسياد القلم والكلمة، ومن خيرة الأدباء اللبنانيين، ومن رسل أبجديّة أجدادنا الفينيقيين.
إنّ المجلس التنفيذي في القارّة الأميركيّة للجامعة اللبنانيّة الثقافيّة في العالـم، الذي لي شرف رئاسته، يلتقي معي اليوم، ليس فقط في تكريم أديبنا الأكبر الأستاذ شربل بعيني، بل وبتكريم كلٍّ منكم، لأنّكم بهذه البادرة الطيّبة، إنّما ترتفعون بلبناننا الغالي إلى أعالي السّموات.
لكم جميعاً، ولأميرنا الأكبر، الأستاذ شربل بعيني محبّتي وتقديري واحترامي".
ولـم يكتفِ المجلس القاري بهذا القدر من الدعـم المعنوي والأدبي، بل أسدل الستارة كليّاً على عملية اختيار أمير أدبي كل عام في عالـم الإنتشار، وتوّج الشاعر شربل بعيني في الرابع والعشرين من شهر تشرين الثاني عام 2001، أميراً مدى الحياة. وإليكم ما جاء في الحيثيات:
"حيث أن الأستاذ شربل بعيني، كان ويبقى، سيّد المنابر، يدغدغ بأشعاره أعماق النفس، ويعالج ما تعاني الإنسانيّة من شدائد ومتاعب وملمّات..
وحيث أن شربل بعيني، العبقري الملهم، كان ولأكثر من ثلاثة عقود من زمن الخير والعطاء، قد كرّس حياته لعذوبة الشعر، ولجأ إلى سكون النفس، يعبّ من خيال فيه إبداع، ومن غذاء ملحمي في الروح، ومن شاعريّة فيّاضة لا زخرف فيها ولا ميوعة..
وحيث أن الأستاذ شربل بعيني، بكل إعجاب وإكبار وإجلال، تغنّى به الشعراء والمعجبون، وكتب الأدباء والمفكّرون، وقرّظ المثقّفون والصحفيّون، وقلّدته الحكومة اللبنانيّة، وعدد من الدول الحرّة، أكثر من 15 ميداليّة من الميداليّات المذهبّة..
وحيث أن سيّد الشعراء والأدباء، الأستاذ شربل بعيني، قد ضاقت بطاقاته أرض وطنه في لبنان، فاغترب إلى أستراليا في العام 1971، وتوسّع في أغاني الشعر الكلاسيكي، يسلخ الكلمة حارّة من أعماقه، متميّزاً بولاء قومي وحنين مهجري، وأغنى المجتمعات بأكثر من 30 كتاباً من أشعاره الرائعة، ومن أدبه الرفيع..
وحيث أن الأستاذ بعيني، في أسلوبه عذوبة نسيمات الصباح في لبنان، وفي تسلسله عمق وتفكير ووحدة بناء، وأغانيه جداول في نعومة أيّار، وموسيقاه عذوبة الصيف في شهر تموز..
فلهذه المقوّمات السحريّة، شعراً أدباً وثقافة، كان لنا الفخر في المجلس القاري للجامعة اللبنانية الثقافيّة في العالـم أن ننتخب من بين 67 مرشّحاً من خيرة الشعراء اللبنانيين في العالـم: الأستاذ شربل بعيني أمير الشعراء اللبنانيين في عالـم الإنتشار مدى الحياة".
للـه درّك يا ابن الحايك، يا حامل وسام الأرز الوطني برتبة فارس، فلقد أدركت، بحسّك الأدبي المرهف، كيف تختار، وكيف تكرّم، وكيف تتمسّك أكثر فأكثر، رغم زوبعة الفنجان، بمن كرّمت. هذه هي الرجولة التي بتنا نفتقدها في زمننا التعيس هذا. وهذه هي الأخلاق السامية التي لا تعلوها أخلاق. فلك وللمجلس القاري الذي ترأس أهدي كل كلمة كتبتها في هذه الحلقات، فلولاكم لما كانت.. ولولاكم لما أشرقت على صفحات غربتي.
أخيراً، وفي نهاية رحلتي مع أجمل ما قيل بأدب شربل بعيني، أحبّ أن أشكر جريدة البيرق الغرّاء على نشر دراستي هذه بإتقان ملفت ومبتكر، إن كان من ناحية الإخراج الفني والتبويب، أو من ناحية المراجعة والتنقيح.. فلقد أثبت العاملون بها أنهم أصحاب ذوق، ومتقنو عمل، وأهل قلـم.. فألف شكر لكل واحد منهم، أناثاً وذكوراً، دون استثناء.
أشكر، أيضاً، كل الذين اتصلوا بي، أو كتبوا إليّ لتشجيعي على مواصلة رحلتي مع حلقات تاريخيّة، اعتبروها رائعة، خاصّة تلك الأقلام النابضة بالحبّ، التي راجع أصحابها الحلقات قبل نشرها. وإن أنسى لا أنسى قرّاء جريدة البيرق الأحبّاء، الذين أتعبتهم بكتاباتي على مدار سنة كاملة. حماهم اللـه في غربتهم، وسدّد خطاهم نحو الأفضل.
أما شكري الأكبر فهو لرفيق غربتي الأمير شربل بعيني، على استضافته لي ساعة أشاء، وعلى فتح قلبيه قبل بيته لإقامتي شبه الدائمة عنده، ووضع كل ما أرغب في تصرّفي، خاصّة ذلك الأرشيف الرائع الغني.
كما أحب أن أعترف أنني لـم أتطرّق إلى الأقلام المهجريّة في أستراليا التي كتبت عن شربل، إلاّ عن طريق الإستشهادات فقط، نظراً لكثرة المقالات والقصائد التي كُتبت عنه، والتي تعد بالمئات، آملاً أن أتمكن بالمستقبل القريب من دراستها على حدة، أو أن يتمكن غيري من الدارسين من تسليط الضوء عليها، نظراً لقيمتها الأدبيّة النادرة.
قد تنتهي رحلتي مع أجمل ما قيل بأدب شربل بعيني عند هذا الحدّ، ولكن محبّتي لرفيق غربتي ستظلّ تنبض في صدري، كقلبي تماماً، إلى أن تنطفىء شموع استودعني إياه اللـه.