شربل بعيني ثائر شجاع

مقدمة بقلم شربل بعيني
   منذ وصوله الى أستراليا، أي منذ أكثر من 35 سنة، عرف الأديب والشاعر والاعلامي والناقد ميشال حديّد كيف يدير بوصلة الكلمة بحنكة قبطان حكيم، تعوّد على لجج بحار الصرف والنحو، ومحيطات النقد الحديث والقديم.
   لذلك نراه يتأنى في كتاباته، فإذا مدحك، تأكّد من أنه لن يوصلك الى الغرور، وإذا انتقدك، فلن يقطع "خيط معاوية". 
   وهذا ما حصل معي تماماً، فلقد كنت أشكر ابن بلدة "رشعين" اللبنانية الشمالية البار، على انتقاداته لي، مهما كانت قاسية، لأنني كنت أعلم مسبقاً مدى اهتمامه بأدبي خاصة، وبالأدب المهجري عامة:
   ترددت كثيراً في تدوين ملاحظاتي العابرة حول كتاب الشاعر شربل بعيني الجديد "ألله ونقطة زيت"، لأنها ملاحظات قاسية. وانتم تعرفون مقدار محبتي لشربل وإعجابي بعطائه الغزير. إلا أنني لا أستطيع أن أسايره في كل شيء، ولا أستطيع أن أغض النظر عن سقطاته الشعرية، وكل هذا مردّه إلى محبتي له، وإلا لكنت التزمت الصمت وتظاهرت باللامبالاة.
   "الله ونقطة زيت" محطّة جديدة وراقية بلغها شربل بعيني من خلال مسيرته الشعرية الطويلة. إنها محطة تحوّل كبير تتسم بغلبة الشعر على النثر. 
   هكذا يبدأ ميشال حديّد انتقاداته "القاسية"، فيعطيك الكثير، ليأخذ منك "الأكثر"، دون أن يسقط في مستنقعات النقد الشخصي، كما يفعل بعض النقاد، بل يظل ضمن النص، يفلفشه، يغربله، ويبذره نقداً مستحباً، مهما كان فجاً، بأسلوب أدبي راقٍ، يدفعك، رغماً عنك، الى الاعجاب به، وتقديم الشكر له على اهتمامه بما تكتب.
   وميشال حديّد من أكثر الذين اهتموا بأدبي، وسلطوا الأضواء عليه، وكان يجاهر علناً بأن لولا شربل بعيني لما كان هناك حركة كتاب مهجري:
   أكثر الناس في جاليتنا جرأة على طبع مؤلفاتهم ونشرها: شربل بعيني، ويليه جميل غازي ونعيم خوري. ونكاد نقول انه لولا هؤلاء الثلاثة لكانت حركة الكتاب المهجري في خبر كان.
   وعندما بدأ كلارك بعيني بنشر سلسلة كتب "شربل بعيني بأقلامهم"، كان ميشال حديّد أكثر المشجعين لها، واعتبرها "مرجعاً قيماً" لكل من يريد تقييم مرحلة طويلة من أدبنا المهجري:
   ولعل القيمة الاساسية التي يحملها الكتاب هي تلك الجدلية التي تولدت بفعل تصادم "الاقلام المختلفة" واحتكاكها، تارة تلتقي، وتارة اخرى تتنافر وتتباعد وتتناقض وهي مكبة على درس مادة الشعر.
   القيمة الاساسية الثانية هي انها جمعت ما تناثر من المقالات في كتاب واحد حفظها من الاندثار والضياع، وهي، بلا شك، ستكون يوماً من الايام مرجعاً قيماً لكل من يريد تقييم شعر شربل بعيني عبر محطاته الاكثر توهجاً، ولكل من يريد ايضاً تقييم مرحلة طويلة من الادب اللبناني المهجري في استراليا.
   فما كان من كلارك إلا أن رد له التحية بأجمل منها، فكتب عنه في الجزء الثالث ـ طبعة أولى 1988، من سلسلة "شربل بعيني بأقلامهم" ما يلي:
   ميشال حديّد.. قلم مشرق، أبي وناصع كجبين الأبطال، يعرف كيف يحلل، يؤنّب، يوجّه، ويبارك ليصل والأديب الى بر الأمان.
   قد يكون أحد أكثر الذين كتبوا عن شربل بعيني، وقد يكون أحد المقربين اليه ايضاً. وقد قال لي شاعرنا ان قصيدته "المربدية" مرّت تحت مجهر ميشال قبل إلقائها في بغداد.
   مع اعتكافه الأدبي المرحلي تفتقر الساحة الى قلمه الذي يعرف كيف يرسم خطوطها.
   أما في الجزء الأول من "سلسلته" فقد قال عنه كلارك:
   ميشال حديد.. واحد من كبار نقّاد المهجر، لأنه يتعامل بصدق مع الكلمة، فتراه يحنو عليها أحياناً، ويقسو عليها أحياناً أخرى، مما جعل القراء يؤمنون بكل كلمة يسكبها يراعه على صفحات الأدب المهجري.
   يكتب الآن في جريدة "صدى لبنان" زاويته الشهيرة "على صنوبر بيروت.
   و"الآن"، تعني عام 1986، لأن ميشال انتقل من "صدى لبنان" الى "ديالا" ومن "ديالا" الى "النهار" و"الشرق"، كيف لا، والعديد من الصحف والمجلات الاغترابية تقفل أبوابها لحظة انطلاقها، بسبب قلّة الدعم الاعلاني، وعدم اهتمام المغتربين بالقراءة، فلقمة العيش تأتي أولاً، وما على الاعلامي سوى التفتيش عن عمل جديد.
   وبما انني أسجل لحظات تاريخية من أدبنا المهجري، لا يسعني إلا ان اعترف أمامكم بخطأ جسيم ارتكبته بحق ميشال حديّد، فلقد هاجمته شخصياً يوم انتقد ديواني "مناجاة علي"، وشبهت معرفته الدينية بفناجين القهوة الصغيرة، التي تمتلىء بسرعة فتحسب نفسها أعظم وأكبر وأفهم من غيرها، وبدلاً من أن يثور علي، أرسل لي رسالة شخصية جاء فيها:
   عزيزي شربل
   تحية من القلب
   مهما قسا الناقد، يظل المنقود أوفر حظاً وأكثر استفادة.
   أن أتهمك بالتعصّب، فقد حددت مادة تعصّبك ونبعته وسببه دون تعميم التهمة، بعكس فعلتك نحوي. وأما الاتهامات الأخرى فكانت حصيلة نقاش وتناقض فكري بيني وبينك، ولم تكن تهجماً شخصياً.
    وبينما كنت أقرأ ما كتب، كان عرق الندم يتصبب من جبيني، وأنا أردد في سري: أغفر لي يا صديقي.
   هذا هو ميشال حديّد، ينتقد الكتاب ويبتعد عن الكاتب، لذلك ستجدون لذة كبرى في قراءة مقالاته الايجابية والسلبية، لأنه كالميزان لا يخطىء.
   ورغم مرور 28 سنة على نشرها، ما زلت أردد هذه الأبيات الزجلية التي أهديتها لميشال يومذاك:
ميشال حديّد.. لو كان
في متلو بهالدنيي كتير
كنا منلاقي الانسان
عم يخلق والعقل كبير
   فألف شكر يا أخي ميشال على محبتك واهتمامك بأدبي المهجري، واسمح لي أن أعيد إليك ما أهديتني إياه، خلال رحلتي مع القلم، من مقالات خالدة، ضمن ضفتيْ كتاب عنونته أنت: "شربل بعيني ثائر شجاع". 
وفقك الله.
**
أضواء على كتاب ألله ونقطة زيت
منذ "هكذا تكلّم زراداشت" الى "الأجنحة المتكسرة" الى "مرحبا ألله" ما هو جديدنا الشعري والموضوعي؟
ـ1ـ
   ترددت كثيراً في تدوين ملاحظاتي العابرة حول كتاب الشاعر شربل بعيني الجديد "ألله ونقطة زيت"، لأنها ملاحظات قاسية. وانتم تعرفون مقدار محبتي لشربل وإعجابي بعطائه الغزير. إلا أنني لا أستطيع أن أسايره في كل شيء، ولا أستطيع أن أغض النظر عن سقطاته الشعرية، وكل هذا مردّه إلى محبتي له، وإلا لكنت التزمت الصمت وتظاهرت باللامبالاة.
   "الله ونقطة زيت" محطّة جديدة وراقية بلغها شربل بعيني من خلال مسيرته الشعرية الطويلة. إنها محطة تحوّل كبير تتسم بغلبة الشعر على النثر. لم أقرأ ما كتب في الجرائد حول هذا الكتاب الجديد، لذا قصدت التركيز على النواحي السلبية في عملية غربلتي للكتاب، وابراز نواقصه وعيوبه، وكنت أود مقارنة الكتاب بالكتب الأخرى التي تناولت مواضيع الشعر التي احتواها كتاب "ألله ونقطة زيت"، إلا أنني في نهاية الأمر عزفت عن هذه الفكرة مكتفياً بالتلميح اليها من بعيد.
   ان شربل بعيني يستحق اهتمامنا به كما يستحق محبتنا.
ـ2ـ
   في مسألة الشعر لا مجال للمراوغة والمجاملة، وإلا سقط الشاعر والناقد والقارىء معاً.
   وإني إذ أهمل النواحي الايجابية والجمالية التي يعبق بها كتاب "ألله ونقطة زيت"، لا ينبغي أن أتجاهل اني أكتب في زمن الضحالة، زمن السقوط الشامل.
   مقدمة الكتاب كانت شبه أطروحة لاهوتية، مع أن كاتبها وظّفها بشكل صريح في مهاجمة الآخرين ممن "لبسوا الثوب الذي يميّزهم ولا يشرّفونه".
   في رأيي أن القصيدة ان لم تثر على ذاتها، وتمزّق أشكالها الروتينية والبدائية، لن يكون لها قدرة على اختراق هذا العصر المتمرّد على نفسه، وعلى ما عداه من العصور الساكنة ظلالها.
   القصيدة حالة لا تشبه إلا نفسها، ولا تعترف إلا بذاتها، ولا تخضع إلا لطقوسها ونواميسها، ولا ترفض إلا على طريقتها الخاصة بها، والمتفجّرة منها إليها والى ما حولها. واما أن تتقيّد القصيدة بأشكال الماضي وأوزانه وألحانه، فإنها ستظل كالحسناء البدوية المقهورة بتقاليد قبيلتها وعاداتها وشرائعها. وكيف لهذه البدوية أن تتعالى على واقعها ما دامت ترفض الخروج على المألوف والسلفية؟.
   القصيدة في "ألله وتقطة زيت" سايرت الماضي بأشكاله وقوالبه الجاهزة، اغتسلت بأسيده، وتنشّفت بغباره، وتبهرجت بألوانه وروائحه، وتراقصت على أنغامه وإيقاعاته. هذا من حيث الشكل واللحن.
   ملاحظة ثانية، لا اخالها اقل خطورة من الأولى، وهي أن الشاعر سقط في "اللحن الفصيح". لقد غالبته اللغة الفصحى: السقطات في هذا المجال كانت كثيرة، منها على سبيل المثال لا الحصر:
"يفوح العطر البنفسجي
من توب أبيض لبستو"
"وحدك مستقبل أيامي
وغيرك تذكار من الأمس"
لغة فصحى نقية لا غبار عليها.
   اللغة الشعرية متأرجحة ما بين الفصحى والعامية، أو بالأحرى مكتوبة بروح الفصحى، ومبهرجة بالعامية، وهذا وهن كي لا أقول عيب.
   ملاحظة ثالثة: ضياع الشاعر في آفاق نظرية، وتناقضات موضوعية، مثل قوله:
"يا رب.. القدامك واقف
تا تراجع خطوات مشيتا
وتعدّ زنوبي المش عارف
لما خطيتا اني خطيتا"
الى قوله:
"وعارف شو رح يصدر مني
قبل صدورو.. لا تظلمني
ومشيني ع دروب التقوى"
   ان من يصادر المستقبل لا بد ان يكون واعياً حاضره وماضيه، أم ان الخطيئة تنزل فينا في غفلة منّا ومن يقظتنا.. في غفلة من زماننا الماضي والحاضر والآتي؟ وماذا عن الخير؟ وهل هو أيضاً يصدر عنا في غفلة منا ومن زماننا؟.
   التفسير الحرفي لما جاء على لسان الشاعر هو أن الانسان يجهل انه يخطىء ساعة يخطىء، ولكنه يدرك خطيئته الساكنة في مستقبل أيامه، ويطالب الله سلفاً بأن يسامحه ويأخذه بحلمه، بينما يطالبه بحرق الآخرين بحموّ غضبه. مسألة فيها نظر!.
   ثم هناك الأديان التي يراها الشاعر ديناً واحداً، وهي في الجوهر ليست كذلك، ولا مجال ههنا للخوض في المسائل اللاهوتية والفلسفية المتعلّقة بهذا الموضوع.
   ملاحظة رابعة تختصر تأثر الشاعر خصوصاً في قصيدته "شموع جديدة" بقصائد موريس عوّاد المندرجة تحت عنوان "مرحبا يا ألله"، لكن موريس عوّاد يمتاز بشفافية علاقته مع الله. انها علاقة صداقة قديمة فيها الكثير من "الخوش بوش". تارة يمازحه ويضاحكه ويداعبه، وتارة يثور عليه، ويرثي مملكته، ويتهمّه بتخلّيه عن أهل الأرض. وأما شربل بعيني فإنه يخاطب الله كما يخاطب الابن الخائف أباه القاسي، او المحكوم حاكمه.
   مرة وصف شربل بعيني نفسه بأنه صديق الله، لكن سرعان ما دبّ الخوف والهلع في قلبه، فعاد ليلقبّه بالأب الماشي فوق الأمس والغد.
"بتبقى البي الما في منّو"
"سبحانك يا بي الكل".
   ولعلّ قصيدة "شموع جديدة" حملت لنا بصمات موريس عوّاد أكثر مما حملت من بصمات شربل بعيني.
   "حدود الويل. حفافي الايام. غرقني باللون تا لوّن كل الاحلام. صيّرني حكايه مخرطشها بإيدك. وع شفافا طرطشها متل الخمره. شلحني بشي دنيي منسيّي تا نفّض غبرتها".
   ان هذه الأجواء الشعرية الشفافة الرقيقة المنفلشة كنظرات الأطفال البريئة، تختلف كثيراً عن أجواء القصائد الأخرى المشحونة بالنقمة والرهبة والرفضية المتشحة ثوب الاصلاح الاجتماعي. حتى أن الألفاظ تبدو كأنها مستعارة من كتاب "آخ" للشاعر موريس عواد. حتى أن طريقة سبكها وتجسيد صورها الشعرية هي طريقة ابن بصاليم في منتصف السبعينيات، وقد غادر ابن بصاليم هذه التجربة الكتابية الى تجربة شعرية جديدة شكلاً ومضموناً من خلال كتابه "حكي غير شكل" وما بعده.
   ملاحظة خامسة: أفكار كثيرة تكرّرت أكثر من مرّة في أكثر من قصيدة. وصور شعرية كثيرة أيضاً كانت ظلالاً لصور سابقة، أو تكراراً لها، ولا حاجة لإعطاء أمثلة على ذلك.
   وأخيراً، انني أتساءل: ماذا أضاف شربل بعيني من جديد شعره إلى قديم جبران خليل جبران في ثورته على رجال الدين وميكيافيلياتهم؟
   لقد وقف شربل بعيني موقف جبران خليل جبران من تجار الهيكل ولصوصه، واصطحبنا الى جنائن زرادشت، وقفشات عوّاد، ولذعات مارون عبّود، وفي رأيي أن أياً من هؤلاء لم يبلغ مبلغ السيّد المسيح في مواجهة الكهنة والكتبة والفريسيين الذين وصفهم بأنهم مراؤون، وحذّر تلاميذه من خميرتهم. وقد شذ فريدريك صاحب زرادشت عن هؤلاء بإعلانه الشهير "لقد مات الله".
   وأما جبران فقد أعلن موت الله في أحد مواقفه المفجعة يوم ماتت شقيقته إذ كتب: "مات الله يوم ماتت سلطانة"، ولم يكن الاعلان الجبراني سوى نوع من "العتب" القاسي المخضّب بالمرارة والتفجّع.
   تلك هي ملاحظاتي "السلبية" التي خرجت بها من كتاب "الله ونقطة زيت"، واما المحتوى الايجابي من أفكار وجماليات فأتركه لغيري علّه يعطي الشاعر حقّه كشاعر جريء، غزير العطاء، متعدّد المواهب.
الناشر: هذا المقال رفضت بعض الصحف المهجرية نشره عام 1990، لأسباب نجهلها، فتمكنّا من الحصول عليه وإثباته في الجزء السابع من سلسلة "شربل بعيني بأقلامهم" الورقية، مخافة أن يضيع.
**
أضواء على كتاب الهي جديد عليكم
   إذا كان البعض يفهم الشعر على أنه سيرة ذاتية أو حكاية محطات معينة من حياة الشاعر، فإن كتاب "إلهي جديد عليكم" هو شيء من هذا القبيل.
   شربل بعيني يحكي في كتابه الجديد "الهي جديد عليكم" نتفاً من حياته الخاصة، التي تبدو خلال قصائده عالماً من التناقضات المرعبة، وتبدو أيضاً سريعة التقلّب والتبدّل كطقس أوستراليا وربما أكثر.. فمن الحب ونشدان الجمال والغناء والطرب، الى الحزن والتشاؤم، فاليأس حتى الكفر.
أناجي وأعبد رباً أصماً
عيي اللسان
وعيناه يابستان
إلهي جديد عليكم
ألستم تحبّون كل جديد؟
   إله الشاعر هنا غير معروف أعطاه بطاقة مطلقة، وقد يكون الدولار، أو الألم والضياع، وقد يكون غيره. المهم أن الشاعر يعلن عبادته لهذا الاله ـ الحجر، والمهم أيضاً أن الشاعر يائس.
   وكما أن إله الشاعر غامض، كذلك حبيبته، وأحزانه وأفراحه وأشياءه. فالعموميات تغلب على الخصوصيات، والأوصاف والصور الشعرية في قصائده معروفة عند كل الشعراء، غير انه صاغها باسلوب نيوكلاسيكي على طريقة نزار قبّاني في تفعيلاته العمودية.
   ويحاول الشاعر بعيني طرح اشارات فلسفية بصيغة شعرية تقريظية، خصوصاً في تساؤلاته حول من "أنا".
"من أنا؟"
   سؤال من عمر الانسان. فما الجديد فيه؟ وما كان جواب الشاعر؟ كان نوعاً من "الهرطقة" المجانية. كان نوعاً من اعلان الافلاس واليأس في هذا العالم "عبثية الوجوديين".
   الشعر الشعر هو الابداع، والابداع الشعري هو ان تخلق عالماً جديداً بلغة وشكل جديدين.
   وباختصار.. الشعر لعبة خطيرة مع الاشياء، ومع الكون، ومع الذات، ومع الله، ومع الشكل.
   وباختصار أكثر.. القصيدة ليست طلاء لدهن قشرة العالم، وانما هي فعل هدم وبناء. وانطلاقاً من هذا ماذا هدم البعيني، وماذا بنى في كتابه الجديد "الهي جديد عليكم"؟.
   عنوان الكتاب لا يخلو من الركاكة البيانية، فالأصح أن نقول: "عليكم جديد الهي" أو "جديد عليكم الهي" أو "الهي عليكم جديد". غير أن تفعيلة البعيني اقتضت الصياغة الركيكة صوناً للوزن وتقديراً لمنزلته.
   كما ان القافية لجمت انفاس الشاعر، وحدّت من انفلات شاعريته على مداها. من هنا يأتي عدم ارتياحنا الى الوزن والقافية في الشعر.
   نعرف ان شربل بعيني شاعر كبير وقدير وخصب، لكن بلغته اللبنانية الأصيلة، لا باللغة "المستعارة" الأخرى، ولغته في كتاب "مجانين" كانت تعدنا بالكثير، لكنه هجرها وتنكر لها، ورحل الى لغة يبدو من خلالها مضطرباً،  ومثل ختيار يجتاز طريقاً وعراً وسط عاصفة هوجاء، لم تساعده هذه اللغة على تفجير طاقاته الشعرية الكامنة بشكل عفوي لا تصنّع فيه ولا تذبذب.
   البعيني شاعر باللغة اللبنانية، فلماذا يغدر بهذه اللغة؟ ولماذا لا يريد أن يكون شاعراً؟
   على أي حال، ان كتاب "الهي جديد عليكم" يشكل مغامرة أدبية مهمة في اطار حركتنا الأدبية المهجرية، ولعل أهمية الكتاب تكمن في أن الشاعر اكتشف بعد التجربة ان مكانه الطبيعي والابداعي هو في اللغة اللبنانية الجميلة، لا خارجها ولا على انقاضها.
صدى لبنان، العدد 287، 18 ايار 1982
**
التقليد والسرقة في حركتنا الشعرية
شاعر شاب أصبح معروفاً جداً في لبنان، وله خمسة كتب شعرية، كنت ألتقيه دائماً، وكنت معجباً بنبوغه وديناميكيته ومقالاته الصحفية النقدية، وكنت واياه نتعاطف كثيراً مع حركة طلابية شكلت منذ منتصف الستينات تياراً ادبياً واسعاً.
   ذات يوم سألني عن جديد لي، وكنت آنذاك مولعاً بالجنون أي الشعر، فقرأت له آخر قصائدي، وبعد أشهر وجدت ملامح تلك القصائد في كتابه الثالث مثل "لا احد يكمش الارض في رحيلها"، و"الورقة تشقّ مسافة سقوطها".
   هو نشر قصائده قبلي، ومن يصدّق أن مثل تلك التعابير هي لي، خصوصاً وان هذا الحديث يعود الى ما قبل خمسة عشر عاماً؟
   تذكرت هذه الحادثة وأنا أقرأ كتاب "الغراب الأعور" للشاعر ميشال طراد، الذي صدر هذا العام، ومما قرأت"
وشمس العمر يا بني مالت عالغياب
وشح النظر ما عدت فيي إقشعك
هذه الابيات بماذا تختلف عما كتبه الشاعر أسعد السبعلي كما في قوله:
والصورة الودّيتها بقلب الكتاب
شحّ النظر بالكاد وجّك إقشعو
   وفي كتاب "رباعيات" للشاعر شربل بعيني، مرّ أمامي البيت الشعري التالي الذي تطوّر الى قصيدة في كتاب "الغربة الطويلة" للشاعر نفسه:
تراب رجع تراب وتراب عم يمشي
   يقابله بيت شعري آخر في كتاب "بنات العشرين" للشاعر ايليا ابو شديد:
تراب باقي تراب، وتراب عم يمشي
فمن سرق من؟ ومن سرّق عمّن؟
   يقول الشاعر شربل بعيني انه لم يقرأ كتاب "بنات العشرين" قبل كتابة قصيدته في الانسان ـ التراب، وانه لم يقرأ شعراً من ذي قبل في هذا المعنى. ويعني ذلك ان هناك تواتراً في الأفكار بين أبو شديد وبعيني. وهذا أمر قد حدث مع كبار الشعراء والأدباء والفلاسفة.
   على أي حال، ان قصة الانسان ـ التراب تعود الى نبع واحد هو التوراة: "اذكر يا انسان انك من التراب والى التراب تعود".
ولكن ماذا عن السارق الكبير أحمد شوقي حين يقول:
رتب الشجاعة عند الرجال جلائل
وأجلّهن شجاعة الآراء
   بينما كتب أحد كبار فطاحل الشعر العربي قبله بمئات السنين:
الرأي قبل شجاعة الشجعان
هو أول وهي المحل الثاني
ديالا، العدد 5، 17 أيلول 1987
**
الكتاب.. ماذا دهاه؟
مقتطفات من مقال طويل:
   حركة التأليف باللغة العربية في جاليتنا لا تزال في بداية بداياتها.
   الكتبة كثر، والمواهب متوفرة، والفرص متاحة، والطباعة باللغة العربية متطورة. إلا أن المؤلف لا يزال يتردد كثيراً في طبع مؤلفاته الجاهزة.
   لماذا؟
   قد يكون عدد القراء هو السبب، وقد تكون حسابات الربح والخسارة هي البعبع. وعلى اي حال ان المؤلف مهما كان عظيماً هو مهدد بالسقوط دائماً عندما يضع مؤلفاته في كفّة، وعائداتها المالية في كفّة ثانية. كفة الميزان سترجح لغير صالحه.
   أكثر الناس في جاليتنا جرأة على طبع مؤلفاتهم ونشرها: شربل بعيني، ويليه جميل غازي ونعيم خوري. ونكاد نقول انه لولا هؤلاء الثلاثة لكانت حركة الكتاب المهجري في خبر كان.
ديالا، العدد 3، 20 آب 1987
**
المرأة في قصيدة كيف اينعت السنابل؟
قبل البدء بتحليل شخصية المرأة في قصيدة "كيف اينعت السنابل؟" للشاعر المهجري شربل بعيني، لا بد من استخراج رسمها من بين آلاف الخيوط والوجوه والظلال والآهات لنتعرّف اليها من الخارج، ونميّزها عن غيرها من نساء الارض.
الصوت:
تبدأ القصيدة بصوت امرأة مجهولة. البداية صوت.. صوت شفّاف وحزين:
لا تَسَلْنِي يا حَبيبـي،
كَيفَ أَيْنَعَتِ السَّنابِلْ؟!
رَغْمَ رَحيلِ الشَّمسِ عَنْ أَرْضي،
وَأنَّاتِ البَلابِلْ..
رَغْمَ الْحَرائقِ والتَّشرُّدِ،
رَغْمَ صَيْحاتِ الأَرامِلْ..
   الصوت هنا صوت مشهدي، حاله مأساوية رهيبة. حالة وطن بلا شمس، بلا مطر، بلا أمل. حالة وطن بقي منه أنات البلابل والحرائق والتشرّد وعويل الأرامل. وعلى الرغم من ذلك فقد أينعت السنابل.
كيف؟ لا تسلني يا حبيبي "يقول الصوت".
لماذا؟
الصوت يستمر في التعليل والتشريح بدون أسئلة. الصوت يعطي أجوبة على أسئلة لم تسأل انما معلّقة في البال، ومنطفئة في العيون:
فَبِلادي، يا حَبيبـي،
أسرَتْها زُمرَةٌ
لا فَرْقَ عِنْدَها بَيْنَ مَقْتُولٍ وَقَاتِلْ
سَرَقَتْها..
سَرَقَتْ خاتَمَ إِصْبَعِها وَصَبَّتْهُ سَلاسِلْ
وَدَعَتْ أَطْفالَها السُّمْرَ
إلى التَّحْقيقِ في كُلِّ الْوَسَائِلْ..
عَذَّبَتْهُمْ..
عَلَّقَتْهُمْ فَوْقَ أَعْوَادِ الْمَشَانِقِ
خَوْفُها..
أن تَسْتَحيلَ الأَيْدي أقْلاماً وَبارودَ قَنابِلْ..
خَوْفُها..
أَنَّ الرَّضيعَ في بِلادي يَعْرِفُ كَيْفَ يُقاتِلْ!
هويتها: بطاقة سفر
   الصوت يبدأ بسرد حكاية صبية اسمها "تمينة"، أوقفها مجهولون عند ابواب المدينة. ومن خلال التحقيق معها أقرّت انها مهجرة:
أُتْرُكوني..
اُتْرُكوني..
فَهُنَاكَ خَلْفَ أَسْوَارِ الضَّغِينَه
وَالْحِكاياتِ اللَّعِينَه
لِيَ بَيْتٌ.. فَدَعُوني
إنَّ مِنْ حَقِّيَ أَنْ أَسْكُنَ بَيْتِي!!
شوقها وحنينها
   "تمينة" تتذكر، تشتاق، تتمزّق حنيناً الى بيتها، الى أشياء بيتها الصغيرة والكبيرة، الى الكرمة والحديقة وجرار النحل، الى صوت يقول الحقيقة ويزرعها في الاجيال الطالعة والآتية.
الجريمة الكبرى
   "تمينة" لا تزال تشكو الى حبيبها مدى الظلم الذي لقيته على أيدي الاسياد بتهمة انها "أكلت ثدي الزعامة":
ضَرَبوني..
فَكَّكُوا كُلَّ العِظامْ
وَرَمَوْني، يا حَبيبـي، بَيْنَ أَحْضَانِ السَّقامْ
ثُمَّ قَالوا، وَالْكَلامُ عِنْدَنا مِنْ طِينَةِ الحُكَّامْ:
"إبْنَةٌ كَسْلَى.. جَريئَه
سَوَّدَتْ وَجْهَ اليَتامَى
قَدْ حَسِبْناها بَريئَه
فَوَهَبْناها السَّلامَه
هذه البنتُ الدَّنيئَه
أكَلَتْ ثَدْيَ الزَّعامَه.."
الحقيقة:
   عذابات "تمينه" الماضية والحاضرة والآتية تشردها، منعها من العودة الى بيتها الحبيب، اغتصابها، تحطيم عنفوانها وكبريائها.. كل هذه الأمور:
خِطَّةٌ مَدْروسَةٌ هَنْدَسَها عَقْلٌ كَبيرْ
أَشْرَكَ فِيها الْيَهودَ وَشَرْقَنا الْعَرَبِيَّ كُلَّه
وَسَخَّرَ ، لِنَجاحِها ، التِّلْفَازَ وَالْجَرائِدَ
وَكُلَّ مِنْ يَكْتُبُ حَرْفاً في مَجَلَّه..
تساؤل العالم المتجاهل:
   والسؤال الكبير الذي تواجه به "تمينه" العالم من خلال مخاطبتها حبيبها هو:
لكنَّني ما زِلْتُ لا أَدْرِي:
لِمَاذا شَوَّهوا الطِّفْلَ الصَّغيرْ؟
وَلِمَاذا شَرَّدُوني، يا حبيبـي،
دُونَ عَوْنٍ أو مُجيرْ؟
   السؤال الكبير تأخّر كثيراً. لقد قدّمت الجواب على السؤال عندما قالت ان الزمرة الحاكمة تخاف الانسان الحر:
خَوْفُها..
أَنَّ الرَّضيعَ في بِلادي يَعْرِفُ كَيْفَ يُقاتِلْ!
   هل هو التناقض؟ أم تساؤل العارف المتجاهل؟ أم هو توطئة لأسئلة وأجوبة أخرى؟
الحوار الذاتي
  يبدو أن "تمينه" بعيدة عن حبيبها، كما هي بعيدة عن أرضها، ويبدو أنها تكتب الى حبيبها رسالة شعرية هي كناية عن حوار عميق مع ذاتها. وهذا الحوار الذاتي لا يقوم بدون أسئلة وأجوبة ومناقشات مستفيضة:
"وَلِماذا أَيْبَسوا الأَزْهارَ وَالأَشْجارَ
ثُمَّ صادَروا ماءَ الغَديرْ؟
وَلِماذا قَتَلوا في ساحَةِ الأَرْقامِ
مَلْيُونَ شَهيدْ؟!
كُلُّ هذا كيْ يَصيرَ الْمَوْتُ دَوْلَه"
.."شَعْبُنا.. شَاؤوا لَهُ أن يَتَعَذَّبْ!!
.. لَيتَني أَدْري، وَلَوْ بِالحُلْم، مَنْ كانَ السَّبَبْ؟
لأَجْمَعَ اللَّعَناتِ والدُّموعَ والآهاتِ
في قَماقِمِ العَجَبْ..
وَأَشْتَري لِكُلِّ مَنْ قالَ أَنا بَرِيءٌ
خِنْجَراً مِنَ الغَضَبْ
وَسُيوفاً مِنْ لَهَبْ"
   وبعدها تعود "تمينه" من جديد الى استذكار ايام الطفولة واسترجاع صورة امها المصلوبة وبلادها السليبة التي تناجيها قائلة:
خَبِّئينـي يا بِلادي تَحْتَ شالِكْ
وَاسْكُبينـي ضَوْءَ شَمْسْ
كَيْ أَشِيلَ اللَّيْلَ مِنْ قَلْبِ رِجَالِكْ
   ومن جديد ايضاً تستزيد "تمينه" في الحديث عن نفسها وعذاباتها واضطهاد الاحتلال لها:
غَمَرتْني هَبَّةُ الرِّيحِ وَذَرَّتْني رِمَالْ
في عُيُونِ الإِحْتِلالْ
أَفْزَعَتْهُمْ بِرِمالي
هَبَّةُ الرِّيحِ الَّتِي لا تَهْضِمُ ثِقْلَ اللَّيالي..
.. عَمَّمُوا إِسْمي وَلَوْني
وَعَناوينَ خِصَالي:
.. "هذِهِ الْبِنْتُ تَمينَه
"...."
صَفِّدوها،
كَبِّلوها بِالْحِبالْ
وَادْفُنوها في قُبورِ "الإعْتِقالْ"..
.. "يَتَّموها، شَرَّدوها ، يا حبيبـي،
وَرَمَوْها في الْحِكاياتِ اللَّعينَه
بَيْتُها اللَّيْلُ وَأَوْهامُ السَّكينَه
.. أَصْبَحَتْ، مِنْ حَيْثُ لا تَدْرِي.. مَدينَه.
وتطلب "تمينه" من حبيبها:
خُذْني إِلَيْكَ يا حبيبـي،
.. كَيْ أَكُونَ السَّيْفَ فِي وَجْهِ الْخَطَرْ
.. دَوَائِرُ التَّجَسُّسِ تَنْتَشِرُ كَما الْهَواءْ
في مَسَامِ الأَرْضِ،
في تَنَفُّسِ الْمِياهِ،
وَاحْتِراقِ الضَّوْءِ في الْفَضاءْ
.. قَسَماً..
بِأَحْرُفِ القُرآنِ وَالإنْجيلْ
لَنْ أَموتَ قَبْلَ أَنْ أَفْضَحَ مَلْيونَ عَميلْ
وَزَّعوا شَعْبِي غَنائِمْ..
قَسَماً بالأَرْزِ
وَالثَّلْجِ
وَأَوْراقِ النَّخيلْ
لَنْ أَمُوتَ قَبْلَ أَنْ أَحْمِلَ جُرْحي وَأُقَاوِمْ
حَتَّى، عَنْ أَرْضِ بِلادي،
يَرْحَلَ الْغازي الدَّخيلْ
   المرأة في قصيدة "كيف أينعت السنابل؟" يمكن استحضار صورتها الظاهرة عبر الخطوط والألوان التالية:
   صبية في عمر الورد، تقترب من حاجز احتلال يفصلها عن أرضها، فيغتصبها رجال الحاجز، ويحققون معها، ويعذبونها أيم عذاب.
   الآن هي امرأة مقهورة، محطمة القلب والنفس، ممزقة الجسد والوجه. ترتد الى الوراء. تسترجع كل صور الموت والمآسي والظلم والقهر والقمع. تثور. تتوعد. تتفجر غضباً وحنقاً. تتضح صورة الواقع أمام عينيها اكثر فأكثر. تنزل الى ما وراء الحدث الظاهري ـ المشهدي لتكتشف حقيقة المؤامرة ومخططيها ـ وتتحول "تمينه" الى مقاتلة عنيفة لتمحو عن وجه أرضها ملامح العار وظلاله وأدواته.
   المرأة في قصيدة "كيف اينعت السنابل؟" واعية، مثقفة، كثيرة الهموم، متجذرة في تراثها القومي، عنيدة المراس، صلبة الايمان بعدالة قضيتها، جريئة حتى اعلانها التحدي والتمرد، وحتى رفع البندقية المقاتلة بوجه المغتصب. تعرف لماذا تقاتل ولاجل من تقاتل، وتعرف حقيقة المؤامرة واسبابها، وتعرف لماذا يطاردها زعماء الداخل والاحتلال على السواء. وتعرف الطريقة المناسبة للتخلص من هؤلاء جميعاً. لا تفكر عشوائياً، ولا تضرب عشوائياً، انها تفكر بكل خطوة قبل الاقدام عليها. وفي الوقت نفسه لا تنفك تشحن الرجل نفسياً لينهض ويثور ويتمرد ويقاوم.
   انها قوية الشخصية، حديدية الارادة، ثاقبة النظر، وانها مقدامة، مغامرة واثقة من نفسها، وبالتالي هي عاشقة تطلب حبيبها لا الى سريرها وانما الى ساحة النضال والمقاومة. وفي قسمها بالانجيل والقرآن والارز والثلج والنخيل يعطيها الشاعر نفحاً من فكره وموقفه، فنضالها فوق الطائفية، ومقاومتها تمتد الى ابعد من حدود وطن الارز والثلج. وهي في الوقت نفسه تنظر الى الصراع اليهودي ـ المشرقي على انه مؤامرة خارجية خططها عقل كبير لاغراق المنطقة كلها في آتون الحروب والمآسي.
   من هنا تبدو المرأة في قصيدة "كيف أينعت السنابل؟" صاحبة رسالة انسانية تحررية، وهي تحاول دائماً ايجاد نوع من التوازن بين العقل والعاطفة من خلال لجوئها الى التساؤل واجاباتها على تساؤلاتها الذاتية. وفي النهاية تختار "العنف" طريقاً الى التحرير والتحرر، لكنه العنف اللاعشوائي.
   في النهاية، تحمل البندقية وتعلن نفسها مقاومة.
ديالا، العدد الثاني، 30 تموز 1987
**
حبيتك يا بنت بلادي
الشاعر شربل بعيني لا يزال مسكوناً بهاجس التجديد والتغيير والتمرد على الاوزان والالحان الشعرية التقليدية.
   وقصيدته الجديدة "حبيتك يا بنت بلادي" هي احدى بنات هاجسه التجديدي، واحدى قنبلاته التمردية:
ـ1ـ
حابِبْ إِتْغَزَّلْ بِعْيُونِكْ
هَـ الأَصْفَى مْنِ الْخَمْرَه
وْأَنْقَى مْنِ الإِلْمَاس الْـ بَعْدُو
بْمَنْجَمْ طهْرُو نَاطِرْ..
حَابِبْ إِرْسِمْلِكْ نَهْدَاتِي
بْرِيشِه مَسْحُورَه
وْعَلِّقْهَا عَ الطُّرْقَاتْ
اللِّي مَا بْتِتْعَبْ مِنْ إِجْرَيْكِي..
ـ2ـ
حَابِبْ إِحْرِقْلِك بَخُّورِي
وْشِكّ بْشَعْرِك وَرْدِة عُمْرِي
الْمَقْطُوفِه مْنِ كْرُوم الْخَيْر
الْـ كَانِتْ تِتْدَلَّى حْوَالَيْكِي..
ـ3ـ
يَا أَجْمَلْ مِنْ وَاحَه
وْأَرْطَبْ مِنْ نقْطَات الْمَيّ
وْأَرْحَمْ مِنْ فَيَّات النَّخْلِه بْصَحْرَا
مَحْسُودِه مْن النُّور السَّاطِعْ مِنْ عِينَيْكِي..
ـ4ـ
زِعْلِت مِنِّي طْيُور الْغَابِه
وَقت الْـ سِمْعِتْنِي عَمْ غَنِّي
لإِسْمِكْ غِنِّيِّه شَعْبِيِّه
وْمَا قِدْرِتْ تِحْفَظْ كِلْمَاتَا
وْتِسْكِبْهَا كِلاَّ بْدِينَيْكِي..
   قد ينكر البعض على شربل هذا المنحى الشعري التجديدي، كما أنكر القدماء على جبران خليل جبران، ونزار قبّاني، وانسي الحاج، ويوسف الخال، وأدونيس، وغيرهم، لغاتهم الشعرية والادبية الجديدة، واكمال القصيدة عندهم وأوزانها. لكن القديم سقط امام تيارات التجديد التي لا تزال تتجدد باستمرار منذ كانت الدادائية والسريالية اللتين لعبتا دوراً تحريضياً مهماً على "تهوئة" الأدب واللغة وانعاشهما، واطلاقهما عبر شبابيك اللاوعي.
   والحق يقال ان الحركة الشعرية التجديدية كانت الأقدر على احتواء مخاض هذا الزمن، والاكثر تعبيراً عن همومه، وقضاياه، وهواجسه، وقفزاته الهائلة في مختلف مجالات المعرفة والعلم والتكنولوجيا. كانت ضميره ووجدانه في جميع تقلباته وتحولاته واغراءاته، ولا بأس اذا خرجنا نحن في المهجر، قليلاً على الموسيقى الخارجية "موسيقى اوزان الخليل" التي يناهز عمرها الألفي سنة، باعتبار انها لم تكن سوى امتداد للموسيقى في العصر الجاهلي.
ديالا، العدد الرابع، 2 ايلول 1987
**
رباعيات شربل بعيني
بالصدفة وقعت يدي على كتاب اسمه "رباعيات" للشاعر شربل بعيني، وهذا الكتاب كناية عن قصيدة طويلة باللغة اللبنانية، كنت قرأتها في العام 1983، وأعجبت بها لأسباب عديدة.
السبب الأول: طول النفس الشعري عند الشاعر.
السبب الثاني: عمق التجربة الشعرية وشموليتها.
السبب الثالث: العفوية الصاخبة المشدودة بشيء من عنصر القصة التشويقي.
   وهذه الملاحظات وجدتها مدونة على هامش الكتاب بخط يدي، ورأيت نفسي مضطراً لاعادة قراءة القصيدة من باب تقييم الملاحظات تقييماً ذاتياً. فلم أضف اليها شيئاً ولم أحذف منها شيئاً.
   لغة الشاعر بعيني لغة جميلة، مهفهفة، جذابة وبسيطة كحياتنا الريفية البعيدة عن تعقيدات التكنولوجيا، وصخب المدن، وضجيج التجار والسماسرة. لغة تتعامل مع الألوان والمواسم والحجر والشجر تعامل الفلاح مع أرضه ومحراثه وزرعه وحصاده. القلب هو المسافة والعقل قنديل يضيء المسافة وما يجري من أحداث وقصص ضمن مسافة الضوء.
   وباختصار.. المسافة حكاية عمر، وما العمر سوى محطات متصل بعضها ببعض اتصالاً وجدانياً عميقاً، وان كانت متصادمة المواقف والحالات والنتائج.
الْعُمرْ ضِحْكِه.. وْإِذَا مَا ضْحِكْتْ
بِتْعِيشْ حَامِلْ هَمّ عَ ضَهْرَكْ
بْتِمْرُقْ حَيَاتَكْ تَافْهَه.. وْعَ السَّكْتْ
بِتْصِيرْ تِضْجَرْ إِنْتْ مِنْ عُمْرَكْ
   ومن عمر الضحكة ينقلنا الشاعر بسحر شعره وعذوبته ورقته الى عمر السراب والضياع والغربة:
عم نركض نجمّع بغربتنا سراب
ونفني العمر ونضيّعو بالوهم
وولادنا التاركينهن خلف البواب
عم يكبروا وبقلوبهن شلال سم
.....
رَحْ يِقِتْلُونِي.. صَاحْ هَـ الْكِذَّابْ
الْـ عَمْ يِكْذبْ عْلَيْنَا بْأَقْوَالُو
وْهُوِّي بْعَيْن النَّاسْ مِتل الْبَابْ
بْيِغْلُقْ.. بْيِفْتَحْ بِالْهَوا.. لْحَالُو!!
   ولا ينتهي هنا، بل يعطينا مبررات لآلامنا وعذاباتنا، وعلى حد قوله، ينبغي علينا أن نتألم ، كأن ذلك واجب وصولاً الى معرفة القيمة ـ الحقيقية:
لازِمْ نْجُوع وْنِعْطَش وْنِبْكِي
وْنِبْرُدْ.. تَا نَعْرِفْ قِيمْتَكْ يَا رَبّْ
   والانسان ليس يعيش في المطلق، ولأجل المطلق، الانسان جزء من المجتمع الحضاري الثقافي، لذا فإن عمره القصير على وجه الارض متداخل ومتشابك مع الزمن الاجتماعي. التجربة واحدة ولكنّا غرقنا في التجربة: تجربة الحرب وتجربة الثورة على الحرب والمستفيدين من الحرب:
لا تْصَدّقُوا الأَخْبَارْ كِلاَّ كِذْبْ
نِحْنَا الْـ دَفَعْنَا دَمّنَا بْهَالْحَرْبْ
مَاتْ مِنَّا أْلُوفْ خَلْف أْلُوفْ
وْعَ ضَهرْنَا اصْطَلْحُوا دْيَاب الشَّعْبْ
....
يَا أَرْزِة بْلادِي هَانُوكِي كْتِيرْ
نَاسْ نِصَّابِينْ مَا عِنْدُنْ ضَمِيرْ
رَفْعُوا لِوَاكِي كِذْبْ قِدَّام الْبَشَرْ
وْدَبْحُوا طْفَالِكْ غَدرْ بِقَلْب السّريرْ
....
كِرْمَالْ عَيْنِكْ بَسّْ.. يَا بْلادِي 
زْرَعِتْ بِالْغُرْبِه شِعرْ وِزْهُورْ
وْضِلَّيْتْ طُولْ الْوَقْتْ عَمْ نَادِي:
يْدُومْ عِزِّكْ.. وِالْقَلِبْ مَقْهُورْ!!
   تصوير رائع لحالة الانسان في غربته. النيران تتآكله من كل الجوانب، محاصر ومحتل بالقهر والحنين والغضب، يعز على اللبناني المهاجر أن يرى وطنه تتناتشه الذئاب الكاسرة أو "دياب الشعب"، وتتوازعه حصصاً بالتراضي أو بالقوة، ويتحطّم قلبه أمام مشهد الوطن الذبيح، ومشهد الكذب والتزوير والغش. ومن أعماق قلبه المحطّم المقهور يصرخ:
"يدوم عزك" يا أرزة بلادي.
   رغم كل شيء، ورغم ان اللبناني يعرف تماماً أن الوطن تحوّل الى مزرعة للزعيم وحاشيته، لكنه لا يستسلم، ولا يترك اليأس يلج الى داخل نفسه، ولا يجبن أمام الموقف الصعب، بل نراه ينتفض ثائراً ومهدداً ومتحدياً. انتفاضته مقاومة لأجل البقاء والاستمرار. انتفاضته وجود وتأكيد للوجود. غضبة بطل له تاريخه الطويل في النضال والمجد.
   "رباعيات" الشاعر بعيني باللبنانية قصة انسان بعيد عن أرضه بالجسد، قريب منها حتى العظم بالروح. وفي هذه القصة المؤثرة المليئة بالدموع والحسرات والوجع والحنين، تتبلور مشاعرنا الحقيقية، واحساساتنا الدفينة، واحلامنا الجميلة، وغضبنا المتأجج بشعر لبناني صافٍ وممتع للعين كما هو ممتع للأذن والعقل والقلب. نحن لسنا جيل الحرب المجاني، نحن جيل الثورة على "دياب الحرب ودياب الشعب"، وعلى ذابحي أطفال الوطن في أسرّة البراءة.. أو كما يقول الشاعر، نحن جيل الدم البريء:
كلّ نقْطِةْ دَمّ نِزْلِتْ عَ التّرَابْ
فَرَّخْ مَكَانَا حُلْم أَوْسَعْ مِنْ دِنِي
وْخَلِّتْ وَطَنَّا يْزِيحْ عَنْ صَدْرُو الْعَذَابْ
وْمِتل السِّحر يِرْجَعْ لَحَالُو يِنْبِنِي
   .. ولا حاجة بعد هذا الكلام لأي كلام آخر، فهو يختصر شعارنا المقدّس: لبنان يبنيه اللبنانيون، وعبثاً البحث عن بنائين من غير الشعب اللبناني.
صدى لبنان، العدد 442، 2 نيسان 1985
**
رسالة أخيرة حول مناجاة علي
عزيزي شربل
   تحية من القلب
   مهما قسا الناقد، يظل المنقود أوفر حظاً وأكثر استفادة.
   أن أتهمك بالتعصّب، فقد حددت مادة تعصّبك ونبعته وسببه دون تعميم التهمة، بعكس فعلتك نحوي. وأما الاتهامات الأخرى فكانت حصيلة نقاش وتناقض فكري بيني وبينك، ولم تكن تهجماً شخصياً.
   الموضوع ليس كلاماً على الجاهل والعاقل، وإلا لما كان ما كان.
   وليس كلاماً على الاثارة، ولهذا فإن "النهار" أغلقت بوجهنا الباب.
   وليس كلاماً على الابريق والفناجين، وإلا لما رجعنا الى الوراء كل هذا الزمن، ولما قطعنا كل هذه المسافات، لأن العقل يعمل ويحقق اليوم خارج رمالنا ويباسنا.
   عودتنا الى الوراء كانت شيئاً من الحنين وشبه زيارة خاطفة.
   ان صفة "فيلسوف" يمكن اطلاقها على الكثيرين من حملة الأقلام، لا بمعناها الأكاديمي، وأما الصفة الأكاديمية فلا تطلق إلا على من كانت له نظرية فلسفية متكاملة.
   الدارسون القدماء والجدد لم يتمكنوا من ايجاد مكان لعلي بن أبي طالب في الفلسفة الأكاديمية، لأنه لم يترك وراءه دراسات فلسفية ونظريات على نحو ما فعل الفلاسفة الآخرون من عرب وأعاجم. لذا فإنني فوجئت بلقبه: فيلسوف الفلاسفة"، علماً بأن العرب لم يعرفوا هذا العلم الشمولي الكلي إلا في فترات متأخرة عن طريق الترجمات عن اليونانية والهندوسية. فأمهات الفلسفة العالمية هي فلسفات اليونان. ربما يكون علي فيلسوف الفلاسفة العرب في زمانه حيث لم يكن فلسفة ولا من يحزنون. اما ان يكون فيلسوفاً أبعد من شبه الجزيرة العربية، وابعد من زمنه المحدود جداً، فهذا ضرب من المغالاة، ولا يهمني كثيراً ما يقوله المغالون في هذا المجال.
   أما بالنسبة لما قاله جبران في علي، فيختلف في الجوهر عما تقصده أنت: "مات شأن جميع الأنبياء"، وما دام حصيره الموت مثل جميع مثل جميع الأنبياء، فما المبرر لتسميته بقديس القديسين؟ على أن كل نبي، متى تم اختياره من فوق، هو بالضرورة قديس ما دام يطيع من هو فوق، ويعمل بإرادته، وإلا فإنه نبي كذاب. ألا تعلم يا عزيزي بأن الشيطان يتنبأ أيضاً، ويقوم بأعاجيب خارقة؟ على أن علياً لم يكن نبياً بل كان مجاهداً مثالياً، وذا فهم لا قبل للعرب به آنذاك.
   ثم هناك "لخبطة" في أفكارك من حيث أن المسيح في الأناجيل هو نفسه عيسى بن مريم في القرآن. هناك شخصيتان مختلفتان تماماً، وإلا ماذا نفعل بهذه الأسرار المسيحية المقدسة، مثل: سر الألوهية في شخص المسيح، وسر الفداء، وسر القيامة بعد ثلاثة أيام، وسر الصعود، وسر الجلوس عن يمين العظمة الالهية، وسر المجيء الثاني بالصفة الالهية الخالصة؟
   أخيراً لك مني أطيب التحيات والتمنيات، وتذكر دائماً بأن ما من إنسان يكمّل نفسه بنفسه.
سيدني 1993
**
زياد رحباني 12
      قرأت إعلاناً، بل دعوة خاصة لحضور مهرجان تكريمي لمناسبة مرور 25 سنة على صدور أول ديوان شعري للشاعر شربل بعيني بعنوان "مراهقة".
   وصل تقليد نزار قباني إلى المهاجر، لا بأس، فليكن، إنه ينفع ولا يضر.
   وسمعت قبلاً عن حروب "داحس والغبراء" بين أهل القلم في جاليتكم، ويقال إن كلمة واحدة قد تولّع حريقاً يمتد أسابيع، ويضيع الصحو الفكري في الدخائن والأغبرة وهدير الخراطيم المائية، وعويل سيارات الاطفاء والبوليس، وغوغاء الحشريين والمتفرجين، والله حياتكم حلوة على قلّة ثمرها، و"علقاتكم" مسليّة في زمن التثاؤب والهروب من المقالة السياسية "المكلفة".
   تكريم الشعر والشعراء عادة لبنانية عريقة على مستوى الدساكر والقرى، لا على مستوى الدولة، لأن الدولة والشعر لا يلتقيان. وإجمالاً، الدولة ضد الابداع، لأن الابداع في البداية والنهاية، تغيير، وثورة، وتمرد، ورفض. هذه الالفاظ تحمل في ذاتيتها أخطاراً جسيمة على الدولة كهيكل تنظيمي ثابت، وكأسلوب أداء وممارسة، وكشركة مصالح وتجارات.
   وما أريد قوله في هذا المجال قد لا ينسجم وعقليات كثيرة في جاليتكم الموقرة جداً. الإبداع "مهنة" المراهقين، وقدر الذين لا صوت لهم في الدولة. وعلى ما أعتقد، هو نتاج "العقل النقدي". وأعرف من خلال ما أطالع في صحفكم أن النقد ينفّر الشعراء والأدباء من الناقد. يعني ان النضج لما يكتمل، وأن الكلمة لا زالت "حصرمة" أو على صورة أراضينا البور الداشرة، و"الرزق الداشر يعلّم الناس الحرام". من هنا تكاثرت الأقلام في جاليتكم حتى "تكسرت النصال على النصال".
   آمل أن يكون الاحتفال تحريضاً على تحقيق قفزة نوعية في اللون والشكل والاسلوب واللغة، نريد إضافات لا تراكمات تراثية.
   هنئوا بالنيابة عني الشاعر شربل بعيني، وقولوا له من دون خفر: بإمكانك أن تعطي أفضل. والسلام.
النهار، العدد 828، 18/12/1993
**
شربل بعيني بأقلامهم
   صدر مؤخراً عن دار الثقافة، سيدني، كتاب جديد بعنوان "شربل بعيني بأقلامهم" للأديب كلارك بعيني المقيم في ملبورن.
   يقول الاستاذ كلارك بعيني: "منذ زمن بعيد وفكرة إصدار مثل هذا الكتاب تراودني، كيف لا، وشربل بعيني واحد من كبار شعراء المهجر، ويعتبر، دون مراوغة، عراب الأدب المهجري في أستراليا".
   ومن خلال هذا الكتاب، تعرّفنا الى قلم جديد في جاليتنا، فنشكر شربل بعيني والذين كتبوا عنه بأقلامهم، على هذا الاكتشاف النادر، فلولاهم ربما لم يتحفّز كلارك للكتابة والظهور على مسارح الادب في اوستراليا بدون تردد او خفر.
   الكتب انيق بالوانه وشكله واقسامه، وغني بمواضيعه التي تناقش وتجادل في الادب والشعر والفكر وتطرق ابواب العقل الباطني واللاوعي في الانسان لتكتشف الجديد من الكنوز الدفينة لا أجمل منها الا هي.
   ولست هنا بوارد تقييم "شربل بعيني بأقلامهم" خصوصاً وان هناك سقطات مريعة ارتكبتها "الاقلام المادحة والناقدة" في مجالات تعريف الشعر والادب، وفي مجالات ابراز موهبة الشاعر وتلافيفها واغراءاتها وانفعالات الشاعر المفجّرة والمتفجّرة في آن.
   ولعل القيمة الاساسية التي يحملها الكتاب هي تلك الجدلية التي تولدت بفعل تصادم "الاقلام المختلفة" واحتكاكها، تارة تلتقي، وتارة اخرى تتنافر وتتباعد وتتناقض وهي مكبة على درس مادة الشعر.
   القيمة الاساسية الثانية هي انها جمهت ما تناثر من المقالات في كتاب واحد حفظها من الاندثار والضياع، وهي، بلا شك، ستكون يوماً من الايام مرجعاً قيماً لكل من يريد تقييم شعر شربل بعيني عبر محطاته الاكثر توهجاً، ولكل من يريد ايضاً تقييم مرحلة طويلة من الادب اللبناني المهجري في استراليا.
   وفي النهاية، لا بد من ان يستفيد الشاعر نفسه من كل ما كتب في شعره، فيفصل بين ما هو مديح لاجل المدح، وبين ما هو نقد لاجل الصقل وتعميق التجربة الشعرية واغنائها.
صدى لبنان، 1986
**
شربل بعيني: ثائر شجاع
عودة الى رباعيات الشاعر شربل بعيني باللغة العامية
   صدر حديثاً عن مطابع دار الثقافة كتاب شعري باللغة اللبنانيّة ـ طبعة ثانية ـ بعنوان رباعيّات للشاعر شربل بعيني.
   تتميّز القصائد في هذا الكتاب بقصر قاماتها، هذا إذا كان الشعر يقاس بالأشبار والأمتار، كما يقيس البعض إنسان اليوم.
   شربل بعيني المعروف بطول نفسه الشعري، يبدو في رباعيّاته قصير النفس. يأتي كالومض، ويمضي كالبرق، كأنه يطارد أحواله وشتاته وتمزقاته. الوقت هو المساحة الشعرية. والوقت هنا يسابق بعضه بعضاً، ويتكثّف طبقات من أوتار وأعصاب مشدودة إلى الآخر.
   تتعود المواضيع، وتتنوع المحطات ضمن أحادية الجو النفسي العام الناجم عن تآلف حالات الشاعر النفسية أو تصادمها مثل: التمرد والشعور بالانسحاق. الحنين إلى الأرض والأحبة. الحالة الرفضيّة التي يعيشها الشاعر في مواجهة قياسرة هذا الزمن الرديء، والبحث الدائم عن الحل والاستقرار:
مرقت سنين محمّله فوقا سنين
وبعدك يا أرض العزّ مظلومه
تمنّيت لَوْ بعْصاة موسى استعين
وقلّك بعد ما يغرقوا: عومي
   هذه القصيدة تختصر حالة الشاعر، فهو يتمنى لأرضه القيامة لأن في قيامتها قيامته هو. ولكن أنّى له أن يحقق أمنيته ما دام ذلك يتطلب معجزة كالتي صنعها موسى بعصاه.
   أرض العز المظلومة، هي الواقع، هي الانسحاق، وعصا موسى هي التمرّد وأداة التغيير، وأما التمني فهو الشعور بالانسحاق، دون الاعتراف به علانية، لأن الاعتراف يعني الانكسار والتسلّم بالأمر الواقع.
   الصورة الشعرية في هذه القصيدة، حولت اللامرئي إلى مرئيات:
مرقت سنين محمله فوقا سنين
   صورة جميلة قوامها خمس كلمات، اختصرت زمناً من الروتين والضجر والانكسار. السنون تحمل بعضها بعضاً: مشهد مألوف لا جديد فيه، كأنه مشهد الـ 12 سنة من الحرب في لبنان.
   هذه عينة من قصائد شربل بعيني في "رباعيّات"، ويسألني شربل: لماذا فضلت رباعياته على "إلهي جديد عليكم".
"رباعيات" ـ طبعة ثانية ـ كتاب أنيق وجميل من حيث الشكل وطريقة توزيع القصائد، وتجربة شعريّة غنيّة من حيث التجديد الشعري معنى ومبنى وصورة وكلمة.
   والطبعة الثانية حملت إلينا إضافات شعريّة جديدة، وغيّبت بعض القديم. لقد أصبحنا نحب شربل بعيني ككل، لا كأجزاء ومحطّات، فقديم شعره عتبة لجديد شعره، كما جدّد شعره اختمار قديمه:
.. وبدَّك الكرسي تكون من قدّام
تا تعرِّم وينقال عنّك بَيْك
أكبر شرف بتنال لو بتنام
تا نقعِّد الكرسي شي مرَّه عليك
صدى لبنان، العدد 521، 11/11/1986
**
شربل بعيني.. عندما يتساءل
   أدهشنا الشاعر شربل بعيني بتساؤلاته الخطيرة التي تدور كلها حول مصير الأرض والشعب والقضية. ومن تساؤلاته:
هالأرض يللي همومها بالبال
وع شفافنا نغمات وتلاحين
ومنشان تحصد خيرها أجيال
سقينا ترابا دموع مغتربين
ليش فيها تكاتروا الأنذال
وليش فيها لعبت شياطين
وليش حتّى تندبح أطفال
وتتهجّر من بيوتها ملايين
وليش باعوا مجد استقلال
مش ملك بيُّن.. ملكنا نحنا
ومدفوع حقّو دمّنا من سنين؟
   ليش؟ ليش؟..
   لأن الحاكم الذي لا يُراقب من قبل شعبه يقتل شعبه.
   لأن المسؤول الذي لا يراقب من قبل رؤسائه، يقتل رؤساءه.
   ضمير الحاكم هو شعبه.. وشعبنا مشرذم. بعضه مستزلم، وبعضه معفّن بالطائفيّة والمذهبيّة، وبعضه مخادع. وبعضه صامت. وبعضه ميليشيات ومافيات. وبعضه هاجر الى الخارج، وضاع في العالم.
   هذا الشعب هو ضمير الحاكم.. وتصوّر يا شربل بعيني بأي ضمير يحكمنا الحاكم.
صدى لبنان، العدد 527، 23/12/1986
**
على صنوبر بيروت: شعب حمار
      طالعت كتاب شعر وردت فيه هذه الأبيات التالية:
والناس الـ ماتوا صاروا
حكايات كبار
يحكيها الجار لجارو
عن شعب حمار
رضي يحرق ديارو
بقلب غضبان
ورضي يفوّت مسمارو
بقفا لبنان
أولاً: لا يليق بأي شاعر أن يقول في شعبه بأنه "حمار"، وأن الشاعر هو فرد من أفراد هذا الشعب.
   وثانياً: ليس هناك "شعب حمار"، بل قد يكون هناك شعب مستضعف ومغلوب على أمره، ومكبّل بسلاسل من صنع زعمائه وساسته، وهو ينتظر الفرصة لينتفض ثائراً لكرامته أو ينتظر قائداً ينقذه.
   وثالثاً: الشعر ينبغي أن يحافظ على صفائه ورسالته أخلاقياً وقومياً وإنسانياً، فلا ينزل إلى مستوى لغة "أولاد الحرام المنتشرين في الأزقة وعلب الليل".
   ورابعاً: لبنان هو وطن، والوطن لا يهان ولا يشتم.
   وخامساً: إن الأبيات الشعرية هي للشاعر شربل بعيني من كتاب "مجانين".
   وسادساً: لو كان غير شربل بعيني صاحب هذه الأبيات لما أتيت على ذكرها إطلاقاً، فمن محبتي له أردت أن ألفت نظره إلى "ناحية مهمة" في شعره، وهي لا تليق به ولا بشعره.
صدى لبنان، العدد 497، 27/5/1986
**
عودة الى الشاعر شربل بعيني في "مناجاة علي" 2
يعتبر أمير المؤمنين علي بن أبي طالب من أكثر الشخصيات الاسلامية التاريخية مثاراً للجدل حتى أيامنا هذه. بمقتله مصلياً، انتهى عهد الخلفاء الراشدين، وانتقل الحكم الاسلامي الى الأمويين في دمشق، ليصبح حكماً وراثياً. وبعلي وخصومه السياسيين، بدأت الحرب الاسلامية، وتعدد الفرق والمذاهب والطوائف، فكان هناك الانصار والخوارج والعلويون والشيعة والسنة.
   يحتار الباحث من أين يبدأ مع علي بن أبي طالب لئلا يثير قلاقل الآخرين وغضبهم. فتعاليم كل طائفة حيال علي تختلف عن تعاليم الأخرى. ولكل منها موقفه ونظريته. من هنا فان احتيار الشاعر شربل بعيني شخصية علي لتكون مادته الشعرية يبدو اختياراً محفوفاً بالمخاطر سلفاً. وهو اختيار لن يرضي الجمهور الكبير مهما حاول الشاعر مراعاة الموقف، ومجاملة الساهرين على شرائع الطوائف وطقوسها. فكيف اذا كان الشاعر حاداً لدرجة انه "مسحن" علياً وخلع عليه الكثير من صفات المسيح؟
   شعراء كثيرون استهلوا علياً ومأساة "عاشوراء" في أشعارهم. وفي عصرنا الحديث هناك الشاعر بولس سلامة الذي وضع ملحمة عيد الغدير الشعرية المتكاملة في مأساة "الحسن والحسين" فيها من العاطفة ما يدمي القلوب. وفي الشعر العامي، وضع أسعد السبعلي قصيدته المطولة أمير الزاهدين في علي ومزاياه الخلقية والانسانية، لكن أحداً من الشعراء لم يجعل من علي مخلصاً على نحو ما يقول المسيحيون في المسيح.
   قد يتبادر الى ذهن البعض انني في مقالتي السابقة، كنت اتوخى السلبية وحسب في تناولي ديوان "مناجاة علي". ما كتب قد كتب. ولست بآسف على شيء لأن الشاعر بدون ناقد أمين هو شاعر فاشل، وأنا أتوسل النقد طريقاً. جل ما فعلت انني دونت بضع ملاحظات خلتها كافية لأي عمل نقدي يتناول "مناجاة علي" مستقبلاً، وأعتقد انه اذا كان لا بد من نقد سليم لديوان "مناجاة علي" ينبغي على الناقد أن يدرس مقارنة ثلاثة شخصيات تاريخية: المسيح، محمد وعلي.
   على اي حال، يبقى هذا الديوان كنقلة شعرية نوعية باللغة العامية، مغامرة جريئة تسجل للشاعر شربل بعيني انطلاقة جديدة برغم كل المآخذ، ولعل أهم ما يميز الديوان هو انه صادر عن شاعر غير مسلم، مما يؤكد ان الانسانية فوق الطوائف والمذاهب. المحبة تجمع لا تفرق دون أن تلغي الخصوصيات، لأن المحبة بدون حرية هي كالجسد الذي بدون روح.
   في الأخير، نرجو من أصحاب النوايا "الطيبة" والباحثين عن الاثارة الطائفية عدم تفسير ما نكتبه وفق مزاجهم لأن رأينا بعظمة الامام علي وسمو مقامه لن يتغيّر.
النهار، 7/1/1993
**
عودة الى الشاعر شربل بعيني: نظرة جديدة على ديوان مناجاة علي
قيل الكثير في ديوان "مناجاة علي" للشاعر شربل بعيني. لست أتناول ههنا ما قيل على السنة الخطباء والنقاد والمحتفلين بهذه النعمة الشعرية. ولست بصدد تشريح الكتاب تشريحاً مفصّلاً ووافياً مع أنه نقلة نوعية في المسار الشعري المهجري العامي. لكن "مزامير" معينة استوقفتني قليلاً تتعلّق بحقيقة علي بن أبي طالب التاريخية، والعقيدة الاسلامية ومسألة التوحيد وتعدّد الاجناس.
في المزمور الأول ورد ما يأتي:
من فلسفتك
من أقوالك
شعّت شمس وطلع نهار
   إن علياً لم يكن فيلسوفاً، وما أعطى فلسفة، بل سار على دين الله وسنن رسوله.
في المزمور الثاني:
يا قديس القديسين
يا مرجّع يسوع الحبّ
   في الاسلام، قديماً وحديثاً، ما كان عليّ بأعظم من عمه النبي محمد، لا في المراتب البشرية، ولا في المراتب السماوية. فكيف ينادي به الشاعر "يا قديس القديسين"؟ واما ان يكون علي هو "مرجع يسوع الحب" فاعتقاد لا تثبته الاحداث التاريخية، ذلك ان علياً شارك في كل الحروب التي خاضها الرسول. وقتل من أهل قريش الكثيرين. وكان هذا سبباً رئيسياً في امتناع أهل الشورى عن مبايعته الخلافة بعد وفاة الرسول حرصاُ على وحدة المسلمين التي كانت متمثلة آنذاك في وحدة أهل قريش. وخاض أيضاً حروباً ضد معاوية بي أبي سفيان، ومنها معركة "صفّين" الشهيرة. اما يسوع فلم يدافع حتى عن نفسه أمام بيلاطس البنطي وملوك اليهود ورؤساء أساقفتهم.
في المزمور الخامس:
إنك أكبر من انسان
   من هو علي إذن، ما دام أكبر من انسان؟ هل كان ملاكاً أو نورانياً؟
في المزمور السادس:
انت الغايه
وحدك وحدك
يا أمير المؤمنين
يللي صلّى عليك وسلّم
   كيف يكون علي هو الغاية؟ ان غاية المؤمن هي خلاص النفس. فمن يكون علي ليصبح هو غاية المؤمن؟ وهل صحيح ان الله سلّم علياً وليس محمداً؟
   ان بإمكان اي مؤمن ان يصلّي على أمير المؤمنين، وأما عملية تسليم الكتاب الشريف فلم تتم إلا بوحي من الله الى رسوله محمد لا غيره بواسطة الملاك جبريل.
   كيفما فسّرنا كلام الشاعر، يظل الكلام مغالطة تاريخية ودينية لا تتوافق والاسلام.
في المزمور السابع:
منك كان البدو يكون
ومن دونك ما كان الكان
   لقد لعب الشاعر على "فعل ناقص" لعبة ذكية وجميلة، فمن علي كان الذي سوف يكون. وكان ما كان، وبدونه ما كان شيء. وهكذا يأخذ علي في المساحة الشعرية المبنية على "فعل ناقص" صفة الخالق السرمدي.
في المزمور الثامن:
يا فارس جنات الخلد
ملايكتك كانوا يحبّوك
   لست أدري شيئاً عن الخلد وجناته وفوارسه وملائكته، انها قفزة فوق الخيال وفوق مدركات الانسان العقلية والحسية.
في المزمور التاسع:
سبحانو الـ رسمك مخلوق
   في هذا المزمور.. النظرة الى علي تغيّرت بصورة دراماتيكية مفاجئة. فهو من به كان ما سوف يكون وما كان، ثم تحوّل الى فارس جنات الخلد، فإلى مخلوق عادي بصورة انسان.
في المزمور العاشر:
حبيبه وحبّت حبيب
تشرّف فيهن نسل الربّ
   نعرف أن الله في الاسلام هو أحد صمد وليس له نسل.
في المزمور الثاني عشر:
ألله واحد علّي الصوت
يا علي وسمّع هالناس
لا بدو جهاد ولا موت
بدّو نعيش جناس جناس
   الجهاد في سبيل الله ونشر الرسالة الاسلامية هو من صميم العقيدة الاسلامية. فكيف ينفي الشاعر مبدأ الجهاد في الاسلام؟
   هذا من جهة، واما من جهة ثانية، فإن الشاعر طالب بتوحيد الاديان، ومن ثم عاد ليقول لنا بلهجة نبوية ان الله قد حكم علينا بألا نكون أمة واحدة وديناً واحداً بل "أجناساً أجناساً".
ملاحظة عامة:
   أخال الشاعر في "مناجاة علي" يكتب عن "علي الطائفة العلوية"، لا عن علي المسلمين عامة، ولا عن علي المعروف لدى غير المسلمين. وحتى ان "علي العلويين" يبدو في شعر بعيني متناقض الطبيعة والاحوال ولن أقول أكثر.
النهار، العدد 782، 24/12/1992
**
فصول من الحرب اللبنانية
ثلاث لوحات تختصر ثلاث حالات في وطن واحد:
ـ وطن ما قبل الحرب.
ـ وطن الحرب.
ـ وطن الخروج من الحرب.
ـ شارك في تقديم هذه المسرحية ثلاثمئة واربعون تلميذة وتلميذاً، جميعهم من مدرسة راهبات العائلة المقدسة في سيدة لبنان ـ هاريس بارك.
المؤلف والمخرج كان شربل بعيني.
   بلغ عدد الحضور 1400 شخص، وفي مقدمتهم سعادة قنصل لبنان العام في سيدني الاستاذ جلبير عون.
   التلامذة الذين شاركوا في هذا العمل المسرحي تراوحت اعمارهم بين السادسة والعاشرة.
   صور شربل بعيني التلميذ اللبناني قبل الحرب على انه مبذر، يصرف بلا حساب، يسرح ويمرح من غير خوف او هم، يرمي طعامه في القمامة، وهي حالة اللبناني العامة حتى يوم الانفجار الكبير، ويصوره اثناء الحرب كيف يعود الى القمامة ليلتقط منها ما قد رماه اليها في الايام البيضاء، وتبدأ المشاهد تتوالى عن ظروف المحاربين والناس الابرياء، والزعماء والحواجز الطيّارة والطائفية، واما الخلاص فيحققه "جيش من الاطفال"، اي ان الخلاص لن يكون الا على ايدي الجيل الطالع المتمرد على حالة الانكسار.
   ولعل أهم ما يسترعي الإنتباه في هذا العمل، هو قدرة شربل بعيني على تنظيم جيش من 340 تلميذة وتلميذاً لتجسيد احداث المسرحية ورسائلها على خشبة المسرح بشكل مباشر وحي، ولا بد هنا من التنويه بالثلاثي المرح، وبالتلميذة ريتا مارون صاحبة الصوت الواعد.
مجلّة ديالا ـ 1987
**
كلارك بعيني أصبح ذاكرتنا الخضراء
والجزء الثالث فضيحة كبرى في جالية عدد كتابها أكثر من عدد قرائها.

   "شربل بعيني بأقلامهم ـ الجزء الثالث" يشبه امتداد البقاع أيام الربيع وانت تطل عليه من برجه العالي بضهر القضيب.
   لقد جمع هذا الكتاب ما نسينا من أشيائنا الثمينة، واعادنا الى ماضٍ من الذكريات الجميلة، وحفّزنا على مواصلة المسيرة الشاقة في جالية تعطي الدولار لا الكلمة أفضلية المرور، فتعقدت الحياة أكثر، واختلطت الأوراق، واكتظت الواجهة الأدبية والاعلامية بحملة الألقاب المستعارة والمزوّرة، فهذا يسوق الكلمات كأنها قطيع من الماعز، وذاك يشقع الألفاظ كأنها حجارة رصيف مهجور، وذلك يأكل خبز الغير بنهم سارق الهيكل المقدّس.
   من يكتب؟ ومن يقرأ؟ ومن يدقق؟
   فوضى. ضجيج. عربدة على المكشوف. وكل ذلك يسمونه أدباً وتأدباً، ابداعاً وابتداعاً!.
   آدابنا المهجرية.. ولعمري ما أدراك ما آدابنا المهجرية!
شطحات مراهقين.
أحلام مشعوذين.
   خرطشات سكارى.. لا فارق بين اليابس والاخضر، بين أحراج العلّيق ومساكب الورد.
   أكتب يا أخي واملأ هذا الفراغ الشاسع. املأه زعيقاً وصراخاً وشخيراً. المحتوى ليس بمهم. المهم هو ألا يكون هناك فراغ بعد اليوم.
   نحن في زمن يقيس الفكر بالأشبار، والكتاب بالغرامات، والكلمات بالأرقام. يابس. أخضر. أسود. أحمر. هذه لعبة ألوان، لا تقف عند هذه اللعبة. اكتب بالمعول، بالرفش، بأي شيء وصلت اليه يدك، ولا تلتفت الى الوراء، ولا تقرأ ما تكتب، لئلا تنقلب امعاؤك من رائحة ما كتبت.
   لولا قلّة قليلة في هذه الجالية لكنت خنقت كل كلمة تشق مسافتها الى الضوء وكل صوت بنفسجي. فالطقس شقفة من صحراء الربع الخالي، والهواء موبوء، والمكان حقيبة سفر او فرصة للطارئين الباحثين عن "وقفة عز" وراء الميكرفون.
   الجزء الثالث من "شربل بعيني بأقلامهم" أسكت كثيرين من هواة الزعيق والهوبرة، وفضح الكثير من عيوبنا، خصوصاً في مجال النقد الأدبي.
   هو كتاب نقدي، هو غربال، ولكن ليس كل ما فيه يخدم الغاية الاساسية. واني شخصياً لم أرَ أي مبرر لإعادة جمع مقدّمات قدّمت بها كتب الشاعر شربل بعيني سابقاً، فتلك المقدّمات وجدت مكانها الصحيح حيث هي ولازمته الى الابد.
   أما بالنسبة للأعمال النقدية التي احتواها الكتاب، فإنها في الغالب جاءت بمثابة بحوث عامة بحيث انها تفتقر الى عنصر التركيز، فالصورة الشعرية مثلاً لم تعالج كموضوع مستقل فيشبع درساً وتمحيصاً وتقليبا، واللغة الشعرية أيضاً. وأيضاً خلا الكتاب مما يسمى "الأدب أو النقد المقارن"، وهذه الثغرات هي برأيي فضيحة كبرى بالنسبة لكثيرين ممن نصّبوا أنفسهم نقّاد أدب وشعر. ما أسهل الكلام في المطلق. ما اسهل الحديث عن أمور عامة.
   أما الذين يمدحون القصيدة أو يرثونها من موقعهم السياسي الجامد، فإنهم رمز التزوير والتدجيل في هذا العصر.
   النقد الأدبي الصحيح يجب ألا ينطلق من نظريات جاهزة، سياسية كانت أو ايديولوجية. القصيدة هي المنطلق وهي المسافة والمدار. هي الموضوع المطروح للنقد لا بمقاييس خارجية جاهزة، وانما بما تختزن هي من فكر وطاقة وشعور وعنصر مفاجأة وبُعد هدف وايحاء وجمال. فكل هذه الطاقات تسكن جسد القصيدة ومخيّلتها. والناقد الناقد هو الذي يلتقط أسرارها، فيعيش القصيدة لا نظريته الجاهزة لئلا يمسح ما لا يتماشى ونظريته الجاهزة، ويضخّم وينفخ ما يخدم نظريته.
   وهناك مشكلة الحرف، كان من الأفضل أن تعاد طباعة كل المقالات على آلة كاتبة واحدة، ليكون شكل الحرف واحداً بغض النظر عن حجمه. فالشكل هو ايضاً قيمة جمالية هامة.
   للمرة الثالثة أردد بفرح: شكراً للاستاذ كلارك بعيني. سيأتي يوم يكون فيه هو المرجع الأساسي لأهم ما يكتب في جاليتنا من أدب وشعر. انه خزانتنا الأدبية، لا بل انه ذاكرتنا الخضراء.
   انني أقدّر تماماً أتعابه، وتضحياته، وأقدّر فيه ذلك الانفاق النبيل الذي غايته خدمة المعرفة التي تخلّد صاحبها بمقدار ما يثمر ويعطي. المسؤولية اذن تقع على عاتق الزارع لا جامع الغلال.
  مقال لم تنشره الصحف المهجرية لسبب نجهله، فنشرناه نحن كي لا يضيع. 1988
**
كيف أينعت السنابل؟
"كيف أينعت السنابل؟" قصيدة طويلة تشبه كل الفصول الباردة والحارة، أو قل انها بلاد البرد في فصل الصيف.
   الدم الحار الناشب، مدينة الحرائق، وطن الدموع والآهات، أرض الحب الدائرة، أكوام الناس الخائفة، والجائعة والضائعة، الحروب المتناسخة.. كل هذه المشاهد الدافئة تتلاطم وتتدافع تحت عينين باردتين، تحت عيني الزعيم والامير والحاكم "بعون الله وجبروته".
   القصيدة بشكل عام تتميّز بواقعيتها وكثافة حضورها، والحضور هو التجسيد زماناً ومكاناً، شكلاً ومضموناً.
   أحياناً الاسراف في تصوير الواقع، يؤدي بالشاعر الى السقوط في متاهات النثر والترداد، والى شيء يسمى "تسطيع الصورة".
   فاذا كانت الصورة الشعرية ومضة وخطفاً، فإنها عند الشاعر بعيني في بعض شعره تفاصيل مواكب كأنها صفوف طويلة على شبابيك أفران بيروت.
   غير أن قصيدة "كيف أينعت السنابل؟" تشكل قفزة نوعية مهمة في أدبنا المهجري بأستراليا، وتروي شيئاً من صحرائنا القاحلة، واني أسميها "واحة في صحراء لاهبة".
   والقصيدة حكاية وجدانية عن فتاة اسمها "تمينة" سلبوها بيتها، وتعرّضت لشتّى أنواع القهر والعذاب والتشرد، وحرمت من حبيبها، انها الغريبة في وطنها.
   وهذه الحالة ليست حالة فردية.. انها حالة شعب بكامله، وحال وطن من أقصاه الى أقصاه، والى أطراف الدنيا حيث له شتات.
   تمينة وحبيبها ليسا إلاّ شخصاً واحداً هو شربل بعيني نفسه، وكم يشبه الشاعر في قصيدة "كيف أينعت السنابل؟" جبران خليل جبران في عملية استنطاق أبطاله، فقد يتعدد الاشخاص، من حيث الكم والعدد، ولكنهم ينطقون جميعاً بصوت واحد هو صوت الشاعر أو الكاتب، حتّى قيل أن جبران هو البطل الحقيقي لقصصه، وهذا ما يسميه أهل المسرح "الملقّن" الذي لا يظهر مباشرة فوق خشبة المسرح، بل يملي على الممثلين من وراء الستائر النص المسرحي.
   القصيدة تجربة شعرية ناجحة، ومعاناة صاخبة، أسهمت الى حد بعيد في تثوير الشاعر، وفي تفجير تمزقاته الداخلية، حتى بقّ البحصة في نهاية القصيدة إذ قال:
قَسَماً..
بِأَحْرُفِ القُرآنِ وَالإنْجيلْ
لَنْ أَموتَ قَبْلَ أَنْ أَفْضَحَ مَلْيونَ عَميلْ
وَزَّعوا شَعْبِي غَنائِمْ..
قَسَماً بالأَرْزِ
وَالثَّلْجِ
وَأَوْراقِ النَّخيلْ
لَنْ أَمُوتَ قَبْلَ أَنْ أَحْمِلَ جُرْحي وَأُقَاوِمْ
حَتَّى، عَنْ أَرْضِ بِلادي،
يَرْحَلَ الْغازي الدَّخيلْ
وَتَعودَ، يا حبيبـي، بَعْدَ غَيْبَتِها الْحَمائِمْ
كُلُّ السَّاحاتِ تَأَهَّبَتْ
لِهُبوطِ أسْرابِ الْحَمائِمْ.
   ويا شربل، علمونا ونحن صغار بأن العمر في يد الله، ولا أحد يدري متى يأتي السارق.. في منتصف الليل، أو عند صياح الديك. وأملنا أن يتأخّر مجيئه لنكتشف المزيد من الكنوز المخبأة:
خَبِّئينـي يا بِلادي تَحْتَ شالِكْ
وَاسْكُبينـي ضَوْءَ شَمْسْ
كَيْ أَشِيلَ اللَّيْلَ مِنْ قَلْبِ رِجَالِكْ
وَأُقِيمَ، كُلَّ يَوْمٍ، حَفْلَةً
فَوْقَ الْحَوَاجِزِ وَالْمَعَابِرْ
وَأَمَامَ كُلِّ حَبْسْ
وَعَلَى وَجْهِ الطُّفولَه
أَرْسُمُ الْحُلْمَ الْمُسافِرْ
وَرْدَةَ حُبٍّ خَجُولَه
وَأَناشِيدَ وَهَيْصاتٍ وعُرْسْ.
صدى لبنان، العدد 455، 30 تموز 1985
صوت المغترب، العدد 846، 15/8/1985
**
مقدمة ديوان مراهقة
   قد يقال أن "مراهقة" مجموعة قصائد متوحشة، بدائية، مجرّدة من الحس الوجداني والشعور الانساني العميق الهادف.
   وقد يقال ايضاً ان الشاعر في "مراهقة" لا يهمه من المرأة سوى نهديها "المن مرمر" وشفتيها "المن نار"، وبالطبع تلك التنورة التي راحت تضيق وتتقلّص وتقصر حتى كاد أبو العلاء المعري يستعيد بصره ويهتف: ألله ما أجمل ما صنعت يداك!
   ان الشاعر في "مراهقة" يتفجّر غرائزياً، ويسترسل في انزلاقه وراء شهواته العنيفة حتى يعلن المرأة الهاً من اثارة ولهو ومجون.
   ليس في مراهقة أي أثر للحب. ليس فيه سوى الغزل الاباحي، الغزل الجنسي الجارف. فالجنس رمز العصر وغايته، والمرأة جسد جميل ولذيذ ولا غير:
وْتَخْت مَفْرُوش بْحَرِيرْ
بْزَنْبَق.. بْوَرْد.. بْعَبِيرْ
وْشَبّ عَمْ يِنْشُلْ غَرِيقَه
وْكِيفْ مَا تْحِرَّكِتْ كِيفْ
اللَّيْلْ وَاقِفْلِي عَرِيفْ
بْيِحْسُب عْلَيِّي الدّقِيقَه
   ان هذا اللون من الغزل الاباحي، هجره الشاعر شربل بعيني منذ زمن طويل، لكنه يشكل مرحلة هامة من مسيرته الشعرية الطويلة. انها مرحلة البداية والتفتح والاطلالة الاولى على العالم من بين دفتيّ كتاب حمل اسم "مراهقة". فالقصائد في الكتاب هي تسجيل أمين لنبضات مرحلة الصبا في سني المراهقة. وقلما أجاد شاعر في رسم وتصوير تلافيف هذه المرحلة وانفعالاتها وتشنجاتها كما فعل شربل بعيني. مراهق يكتب مراهقاته ومغامراته الغزلية بلا حياء أو خوف أو تلعثم.
   ان مغامرات شربل بعيني العاطفية في كتاب "مراهقة" تختلف عن مغامرات الآخرين أمثال: لامرتين في "البحيرة" وموسه في "الليالي"، وفيكتور هيغو في "القصاصات"، فهؤلاء الشعراء استمدوا وحيهم الشعري من جميع أشكال العاطفة لكنهم أخضعوها "العاطفة" لتتحول الى قيمة جمالية ابعد عن البحث الشخصي من اللذة. ويقول الكاتب "ألان" في هذا الصدد: "ان ما يصنعه الانسان تحت تأثير الشهوات والانفعالات والاختلاجات، ليس جميلاً بالطبع.. والانسان عندما يكون فريسة الشهوة والانفعال، يئن ويصيح ويعج أو يحشرج حسب الظروف، وكل هذا ليس نطقاً وليس أنشودة".
   وكثيرون هم الفلاسفة الذين دعوا الى تطهير الفن من الملذات والشهوات والى الارتقاء به الى "نوع من التحالف مع العناصر الكونية عن طريق الحواس التي أصبحت شفافة، وعن طريق الروح في آن واحد" (الشاعر الفرنسي بول كلوديل).
   وكان أفلاطون قد سبقه الى القول: "ان الجمال لا يتحقق الا بقدرة الفنان على التحرر من الملذات العنيفة، والاسهام في الانسجام الذي يسود الكون".
   لو تناولنا قصائد "مراهقة" بحسب المقاييس الجمالية الافلاطونية وسلالاتها عبر العصور، لحسبنا شربل بعيني أبشع من القرد، وألعن من إبليس. واما لو دفعنا بها الى مختبرات سيغموند فرويد العالم الجنسي، فلكنا حصلنا منه على تأشيرة دخول الى الجنة. فالكبت الجنسي هو ايضاً قوة تفجيرية كامنة في الانسان، وقد تتخذ هذه القوة أثناء تفجرها أشكالاً مختلفة وتتلبس صوراً حسيّة متباينة تعبّر عن شدّة الانفعال وضراوته، وتسلط المخيلة على العقل:
صَدْرِكْ.. قَاسِي وِمْحَجَّرْ
جِسْمِكْ.. أَحْلَى مْنِ الْمَرْمَرْ
...
هَـ الْحَلْمِة اللِّي مْشَوّبِه
يَا مَا قْلُوب مْدَوّبِه
وْمَكْتُوبْ حَدَّا عَ النَّهدْ
لا تِلمْسُونِي.. مْكَهِرْبِه!!
....
وْلِكْ.. قَصّرِي الْفُسْتَانْ
يَا مْرَاهْقَه أَكْتَرْ
تَا تْكَزْكِز الأَسْنَانْ
وِالْقَلْبْ يِتْحَسَّرْ
   الشاعر كما هو واضح، بعتمد الصورة الحسيّة في وصف مراهقاته، وفي تصوير انفعالاته الشهوانية. انه مستسلم للجسد واشواقه واحلامه ومتطلباته، مسكون بالنهود والحلمات والشفاه. أليست هذه الاهتمامات والاشواق هي كل ما يفكر به المراهقون والمراهقات؟.
   طبع كتاب "مراهقة" سنة 1968. واشتهر الكتاب كثيراً على الرغم من أن النقاد المتزمتين اجتماعياً ودينياً اعتبروه تجاوزاً خطيراً للقيم الاجتماعية السائدة، وتهديداً مباشراً للجيل الجديد، وقد روّج هؤلاء النقّاد لهذا الكتاب من حيث لا يدرون، فأقبل المراهقون والمراهقات على اقتنائه، وكم ردد هؤلاء "الصغار" في خلواتهم:
جِسْمِي شِعِلْ.. تِمِّي حِمِي
عَجِّلْ بِمَيَّكْ رِشّنِي
   كتب أحدهم تحت اسم "توني سابا" في مجلة "الساخر" العدد السادس، حزيران 1970: "المثل الدارج يقول: ألله بيبلي وبيعين.
وفي السطور التالية بعض تطبيقاته اللبنانية في حقل الشعر:
بلانا بغزل سيىء سخيف، زمخشري لرجل غبي قليل الذوق اسمه نزار قبّاني، صاحب البيت من الشعر الذي لا معنى له:
أخاف أن أقول للتي أحبّها، أحبها
فالخمر في جرارها تخسر شيئاً عندما نصبّها
وأعاننا بالغزل الارستقراطي الرفيع، ومنه هذه القصور لشربل بعيني "وينك يا مار شربل":
هَـ الْحَلْمِة اللِّي مْشَوّبِه
يَا مَا قْلُوب مْدَوّبِه
وْمَكْتُوبْ حَدَّا عَ النَّهدْ
لا تِلمْسُونِي.. مْكَهِرْبِه!!
   وكتبت عنه أيضاً "النهار" و"البيرق" و"الشعلة" ومما كتب مقالة بقلم تريز رعد، نشرت في البيرق العدد 1288، تاريخ 11/11/1968:
إلى شربل بعيني..
أحببتك لأنك جريء،
ما أروعك يا شاعري..
إنّي أراك بين السطور
تبتسم، تثور..
"مراهقة".. إسم جميل
أطلقته على كتابك الجميل
أعترف أنّك سحرتني
سيطرت عليّ تماماً
جعلتني أبني قصوراً من الأحلام
بالقرب من أبياتك الشعريّة.
قرأت "مراهقة" عدّة مرّات متتاليّة
دون أن أملّ..
وكيف أملّ من السحر والجمال
من اللّذة والخيال؟!
   بالواقع ان شربل بعيني في كل ما كتب، كان ثائراً شجاعاً، داعياً الى التغيير، وتجاوز العقليات السائدة، والتقاليد الجامدة. ففي الغزل الاباحي، اضطر بعض النقاد الى الاستعانة بمار شربل مخلوف على شربل بعيني، وفي الشعر الوطني كان غرباله لا يرحم زعيماً ولا مسؤولاً ولا اقطاعياً. وفي شعره الصوفي ثار على رجال الدين ممن حوّلوا العبادة الى مهنة للارتزاق والتعيش، وثار على الاساطير والخرافات الدينية التي مسخت الانسان المؤمن، وقوّضت امكاناته وقدراته على الاقلاع والتحرر.
   ان شعر شربل بعيني يبقى ثرثرة متى أفرغناه من ثوريته الجامحة الملتهبة.. وحتى قصائده في "مراهقة" كانت في تلك "الايام الستينات" دعوة جريئة الى التحرر الجنسي مع تحفظنا الشديد من خطورة تلك الدعوة، لأنها مبنية على الانفعالات النفسية. وقد نحد انفسنا مرغمين على التنازل عن "تحفظنا الشديد" لاننا امام شاعر لا امام عالم فيزيائي أو كيميائي او نفساني.
سيدني ـ آذار 1987
**
من خزانة شربل بعيني: قصائد عاليات في زمن مكسور الكلمة والقلب
من عنوانه يُقرأ المكتوب.
   هذا المثل العامي ينبطق على الشاعر شربل بعيني في مجموعته الشعرية التي صدرت في كتاب جديد بعنوان "من خزانة شربل بعيني" عن دار الثقافة والنشر ـ غرانفيل.
   العودة الى الخزانة تعني العودة الى الاوراق القديمة والذكريات.. الى الماضي في بعض محطاته الأكثر توهجاً في وجدان الانسان. ولا تعني أبداً الافلاس والتراجع.
   فالشاعر شربل بعيني ما زال يعطي ويضج بالشعر، وما زال على عناده يقتحم الأغوار ويفجّرها قصائد على شاكلة الجنائن المعلقات. شربل بعيني غزير الإنتاج، كثيف الحضور، كثير الحركة، وهو يرود حيناً اللغة اللبنانية العاميّة، وحيناً آخر اللغة الفصحى، ثائراً على الأصنام الطائفيّة والسياسيّة، شاهراً سيف العدالة بوجه الطغاة والمستبدين بلا خوف وبلا يأس.
   "من خزانة شربل بعيني" كتاب شعري أنيق، يحتوي مجموعتين شعريتين كان قد طبعهما في كتابين مختلفين هما "قصائد ريفية" و"الهي جديد عليكم"، وينتهي بقصيدة رائعة مهداة لسفيرة لبنان الى النجوم: فيروز.
   في "قصائد ريفية" سقطات من الحجم الكبير، كان بإمكان الشاعر أن يتجاوزها لو لم يكن مسكوناً بهاجس الوقت المخطوف. ومن تلك السقطات الاطالة والشرح، وهما يضعفان من قوة تدافع القصيدة، ويحدان من كثافتها الشعرية، ويجعلانها أقرب الى الأجواء النثرية المنفلشة. فالشعر ينبغي أن يظلّ مضغوطاً وإلا فقد القدرة على الانفجار والتفجير والاشعاع، ومثال على ذلك في قصيدته "شاعر القرية":
وبيتي المغروس قرب الساقية
المستقلة عن النهر
ان جاءه زائر يخاله مهجوراً
لكثرة ما يحيط به من العلّيق والقندول.
   هذا الوصف لبيته والساقية هل هو شعر أم نثر؟ وحتى النثر لا يحتمل هذا الوصف الجامد اليابس الخالي من الايحاء. انه اشبه ما يكون بصورة آلية تلتقطها عدسة الكاميرا، بينما الصورة الشعرية ينبغي ان تكون معجونة بالمشاعر الموحية، لأنها ولادة وجدانية. وكذلك في فصيدته "الجبل الأكبر":
وصعدت الجبل الأكبر
بقدمين عاريتين
دون خوف أو رعدة
والشوك المشرئب بفضول
يلسعني بألسنته الحادة
ولم أحفل به.
   والشاعر يتخلّى عن الرمز ليغرق في الواقعية التسجيلية المملة، ويعطي مجهوداً مضاعفاً لتحديد الزمان والمكان والاشياء، فتأتي الصورة الشعرية مستفزة وسجينة ومتآكلة. وهذا ما جعل الشاعر يحشد كلاماً كثيراً لقول القليل، كما في قصائده: "رعشة حب"، "يوم ممطر" و"الوجوه الخبيثة".
   ويسرف الشاعر ايضاً في استعمال اشارات الاستفهام والمنادى والتأفف والتأوه والتخاطب المباشر، ويعتمد اسلوب الاقصوصة في معظم قصائده، اي الاسلوب السردي الذي ينهك القصيدة، ويخطف اشعاعها، ويبعثر صورها، ويشل زخمها العامودي.
   و"قصائد ريفية" تختلف عن "الهي جديد عليكم" كونها شعراً حراً غير مرتبط بوزن أو بقافية أو بقانون متحجر، غير أن هناك تشابهاً كبيراً في المواضيع بين قصائد الكتابين، ولم يتمكن الشاعر في "الهي جديد عليكم" من التخلّص من الاسلوب السردي التقليدي.
   وقد يخال البعض ان المجموعة الشعرية تتوقف اهميتها عند هذه الملاحظات البسيطة. القصيدة دائماً ليست كلها شعراً، فقد تجد في القصيدة الواحدة أكثر من قمة شعرية أو سقطة حتى عند كبار الشعراء العالميين.
   "من خزانة شربل بعيني" مجموعة شعرية قيّمة، فيها كل الفصول بألوانها ومعانيها، بموتها وقيامتها، وفيها الحب والغزل، كما فيها القصائد السياسية والوطنية وثورة الشعب على ظلامه، وفيها كما قدمه الاستاذ كامل المر: "نار الشاعر شربل بعيني التي تلاحق تجار الاوطان والطائفية حتى الجحيم.. وهي وان كانت ناراً محرقة لهؤلاء، فإنها نور يضيء مسالك الانسان الجديد، ليبني لبنان جديداً، تلتئم تحت ظلال أرزه أجيال المستقبل".
صدى لبنان ـ العدد 445 ـ 30/4/1986
**
ندوة نقّاديّة حول نتاج شربل بعيني
   مجال النقد كان واسعاً أمام الخطباء، كون الموضوع نتاج شربل بعيني، من البداية حتى اليوم، فراح كل منهم ينزله على مشرحة أهوائه الخاصّة، وعقائده القوميّة، ونظريّاته الجماهيريّة، ناهيك عن العقد النفسيّة أيضاً، فغاب عن الندوة جو النقد الشعري الذي توخيناه.
   حبّذا لو تعمد الرابطة، في المستقبل، إلى تحديد مواضيع النقد ومدّتها، فتحصر الندوة في كتاب، أو قصيدة، أو بيت واحد من الشعر. وحبّذا، مرّة أخرى، لو يدور البحث في ميزة معيّنة من مزايا شعر شربل بعيني، كاختيار المفردة، وسبك العبارة، وحبك الصورة، وشقع القصيدة، واستلهام الفكرة، وبدع الجمالية في الشعر، أو الثورة فيه، أو الإقذاع والبشاعة.
   إنه لإجرام أن يقاس شربل بعيني اليوم، من خلال نتاج أعطاه قبل سبعة عشر عاماً. فالشاعر إنسان يتطوّر، وعلى النقّاد تقييم آخر قصائده، إذا ما شاؤوا لهذا الشعر شأواً، أو للشاعر تحليقاً. فقد آن الأوان لشربل أن يكتب للنوع لا للكميّة، وما قصائده التي ألقاها في الندوة إلاّ خير دليل على نضوج خامته الشعريّة. فلنشجّعه ليكمل من هذا المنطلق.
**
وكلام اخير لا بد منه يا شربل بعيني
   قبل ان اوجه كلمتي الاخيرة، ارجو من القراء والمعنيين ان لا يعتبروا كلامي تحرشاً بالاديان، او قدسية شخصياتها، كما أؤكد بأني كنت وما زلت من المعجبين بشخصية الامام علي وحكمه وبطولاته، وما كتبته وأكتبه يعني الناحية العلمية والمدارس الفلسفية فقط.
   شربل بعيني مثله مثل كل الذين يودون فرض علي بن ابي طالب فيلسوفاً على الفلسفة والفلاسفة، يلقبونه بالفيلسوف ولا يقدمون لنا نظريته الفلسفية المتكاملة. وكم كتاباً وضع في الفلسفة. ومن ناقض ومن ساير وبأي من الفلاسفة تأثّر، جلّ ما يقدمون نظريات تقوم على الاجتهادات والتفاسير والمقارنات، وذلك انطلاقاً من موقف ايماني ديني نحترمه ونجله الى أبعد الحدود.
   ويذهب البعض الى حد القول بأنه فيلسوف الفلاسفة. أقول لهذا البعض انه يستحيل على أي طالب كان من كان، ان يفهم الفلسفة العربية دونما العودة الى جذورها عند اليونانيين.
   درست الفلسفة العربية والفرنسية مثل أي طالب آخر، عدا تحصيلي الشخصي الذي تجاوز كثيراً المنهاج الرسمي، إلا أن اسم علي بن أبي طالب، كفيلسوف، لم يرد قط لا في المنهاج الرسمي، ولا في الدراسات الفلسفية العليا القديمة منها والحديثة. ولا في معاجم الفلاسفة. وقبل شهرين كنت أطالع أحدث معجم للفلاسفة باللغة العربية من اعداد جورج طرابيشي ومساعدة كل من الدكاترة: ناصيف نجار وجاد حاتم وبشير الداعوق (الطبعة الأولى ايار 1987)، جمع بين دفتيه كل الفلاسفة العرب باستثناء علي بن أبي طالب.
   وأما كتاب "نهج البلاغة" فلعمري، قرأته من الجلدة الى الجلدة، فلم أقع فيه على نظرية فلسفية أو شبه نظرية فلسفية، وانما على حكم ومقالات ومواقف سياسية واخلاقية لعلي بن ابي طالب، اضافة الى تدخل الملائكة في شؤون الناس ومحاربتهم الى جانب الرسول، واحداث تاريخية ودينية وقعت في بداية الدعوة الاسلامية وأيام حكم الخلفاء الراشدين، وعلوم لغوية واستنسابية.. وقرأت أيضاً أن النبي مدينة العلم وأن علياً بابها، يأخذ من الرسول ويعطي من يسأل، على أن الرسول ما كان يعطي فلسفة بل حكمة وشريعة. ذلك أن الفلسفة قابلة للنقض والتحوّل، واما الدين فثابت في الزمان وغير قابل للنقض.
   كما ان الفلاسفة الكبار أمثال الفارابي، وابن سينا، والغزالي، وابن رشد، ومالك بن أنس، وغيرهم، لم يذكروا علياً قط كفيلسوف.
   يبدو أن هناك تياراً جديداً يعوم في العالم العربي بدأ بإحداث انقلابات جذرية على مستوى الفلسفة والفلاسفة، فيقيم فلاسفة ممن ليسوا بفلاسفة ويفرضهم على الثقافة العامة عن طريق اجتهادات ومقارنات خاصة ليس لي فيها "ناقة او جمل". ان امير المؤمنين لا تقوم عظمته على الفلسفة، وانما على حكمه وفضائله، ومعارفه، وعدله، وعلى كونه من "شجرة النبوة".
   ان شربل بعيني اعتمد مصادر منحازة، واهمل المصادر الأخرى، من هنا كان تعصّبه الواضح، ومن هنا كانت سطوة أمير المؤمنين عليه قوية ومؤثرة. فهو، على سبيل المثال، في ردّه موضحاً قوله: "وحدك وحدك انت الغاية"، قرأ علينا دفاع علي عن نفسه أمام قومه لما كانت الحرب الكلامية على أشدها بين طالبي الخلافة. وقد ابتعد شربل كثيراً عن المعنى الحقيقي، واسترسل في تعداد خصائص علي الخلقية وفضائله التي لا أخالفه الرأي فيها. وهكذا فعل حيال "الوهيته" أو حيال ما يعتقده البعض، استناداً الى اجتهادات دينية مثيرة لا حاجة لايرادها ههنا.
   يقول شربل بعيني ان المسيح "تخلّى عن ألوهيته ليتجسّد في انسانيته، وهل يحترم المؤمن المسيح لكونه ابن الله، ويتخلّى عنه لكونه ابن الانسان؟".
   لم يتخلَّ المسيح عن ألوهيته، وهذا ثابت في الأناجيل الاربعة، وفي التعاليم المسيحية كلها. هو، عند المسيحيين، إله وانسان في آن معاً، أو قل "اله متجسد.. متأنسن" ولم يبلغ الايمان المسيحي ذروته بالمسيح إلا عقب قيامة المسيح من بين الأموات، وظهوره للرسل وتلاميذهم، ومنذ ذلك الحين أخذ التبشير بالانجيل منحى آخر، وهو التبشير بـ"قيامة الرب وانتصاره على الموت". يقول بولس الرسول في هذا الصدد: "ان لم يقم المسيح من الموت، فإيمانكم باطل".
   بمختصر مفيد: ان المسيح، في العقيدة المسيحية، كان كامل الطبيعتين: الانسانية والالهية، على أن هذه الأخيرة كانت تشرف اشرافاً تاماً على طبيعته البشرية.
   لم أعترض على فكرة "تقديس علي"، انما اعترضت على ما جاء في شعر بعيني:
يا قديس القديسين..
   أي على تفضيل أمير المؤمنين على عمه النبي، ذلك أم قدرتي على استيعاب العقيدة الاسلامية لم تيسّر لي القول أن علياُ كان أقدس من الرسول.
   في دفاعه عن "نسل الله في علي" يقول بعيني: "وينسى (ميشال) انني ماروني كاثوليكي أؤمن بأن المسيح ابن الله.. وانني ناجيت علياً من هذا المنطلق".
مرات علي في شعر بعيني هو مسلم.
ومرات هو إله.
ومرات هو كلي الغموض.
ومرات هو كاثوليكي.
فما ذنبي أنا ازاء كل ذلك التناقض في شعره.
   وبالنسبة لفكرة "نسل الله" ان المسيح لم يكن نسلاً الا من ناحيته الانسانية التي تعود الى فرع داود بن يسّى، أي الى العذراء امه. وهو مولود غير مخلوق، وهنا تكمن حقيقة سره الكامنة ضمن "الثالوث". فكيف استعار الشاعر كل هذه الأسرار المسيحية ليخلعها دفعة واحدة على أمير المؤمنين علي؟
   الجهاد على لسان الشاعر، أيضاً أخذ مضموناً آخر. لقد أبطل الشاعر مفعول الجهاد، لأن الجهاد ضد الديانات السماوية مخالفة لارادة الله. وكأن الأوثان اضمحلّت وزالت عن الوجود، وكأن عبدة الأصنام في الهند مثلاً، واليابان، والصين، والادغال النائية، انقرضوا عن بكرة أبيهم.
   ألم يعلن المغفور له الملك فيصل "الجهاد المقدس" على الدولة العبرية في السبعينات من هذا القرن؟ ذلك الاعلان بالتأكيد هو في نظر بعيني، مخالفة لارادة الخالق، بل تمرد على الخالق.
   بأية صفة يستصدر شربل بعيني "فتوى" في إلغاء الجهاد الاسلامي و"تكفير" المجاهدين؟.
   لا أريد التوسع كثيراً في هذه المواضيع الحساسة لئلا يظن الذين يبحثون عن الاثارة الطائفية، انني ضد الذين يعظمون امام الائمة ومنارتهم. غير انني لمست تناقضات مثيرة في "مناجاة علي" ما كان لي أن أمرّ بها كما مرّ الآخرون ممن لا يستحبون تسويد "صفحاتهم البيض" مع أحد. وفي اعتقادهم انهم يقدمون خدمة للشعر والادب. ولا اريد بالتالي أن أتناول كيف اختبأ شربل وراء أمير المؤمنين بهدف الاثارة واستدرار العطف لأنه كان قصير الباع في مواجهة واقعه الشعري، وما اقترفت يداه من أخطاء بحق أمير المؤمنين والانبياء والرسل وحتى الله بالذات. وأنا ما كنت أدافع عن هؤلاء ، كنت أدافع عن حقائق تاريخية بسيطة ما كان يجب أن تتفاعل بهذا الشكل العاصف فيما لو كانت النوايا طيبة وايجابية لدى البعض. وقد حاولت قدر المستطاع ألا أغوص كثيراً على المعاني خاصة في قوله مناجياً أمير المؤمنين:
يا مكمّل حالك بحالك.
النهار، العدد 785، 21/1/1993
**