الطبعة الأولى 2002، الثانية 2010، الثالثة 2019
الجزء الأول
**
لقائي الأول بشربل بعيني
الجزء الأول
**
لقائي الأول بشربل بعيني
في إحدى الجلسات الحميمة التي جمعتني بالدكتور رفعت السعيد في منزل الشاعر شربل بعيني، سمعت أستاذ التاريخ في الجامعة الأميركيّة في القاهرة يقول: "بإمكانك أن تزوّر كلّ شيء ما عدا التاريخ، فالتاريخ لا يرحم أحداً، ومن يغيّر حرفاً واحداً فيه، يضحك عليه التاريخ ويرذله إلى الأبد
ومن هذا المنطلق، رأيت أن أفلش أمام أعين الحقّ، أجمل ما قيل بأدب وشعر شربل بعيني، هذا الذي اختاره المجلس القاري للجامعة اللبنانيّة الثقافيّة في العالـم ـ قارة أميركا الشماليّة، أمير الأدباء والشعراء في عالـم الإنتشار اللبناني.
أكثير على شربل بعيني أن يلقبّه بقدموس الثاني، رئيس المجلس القاري للجامعة اللبنانية الثقافية في العالـم ـ قارّة أميركا الشمالية، حضرة الأديب المهجري المعروف جوزيف حايك، صاحب المؤلفّات العديدة، مثل:
ـ الأزمة اللبنانية، وموت الضمير العالـمي. (1988)
ـ لبنان.. الوطن النهائي. (1999)
ـ وطن الرسالات، ونصف لبنان المغترب. (2000)
وهو من لُقّب بأجمل الألقاب من قبل، دون أن يعترض عليها أحد؟.
ألـم يلقّبه طوني شربل الصحفي المهجري المعروف بسيف الأدب المهجري؟
ألـم يغدق عليه سكرتير رابطة إحياء التراث العربي يومذاك الأستاذ أيّوب محمّد أيّوب لقب شاعر المهجر الأوّل؟
ألـم تلقّبه الأديبة تريز حرب بشاعر الحنين وشاعر الغربة الطويلة؟
وأخيراً، وليس آخراً، ألـم يغدق عليه رئيس تحرير جريدة المستقبل الصحفي المهجري جوزاف خوري لقب (الجامعة الثقافية)؟
يكفي شربل بعيني فخراً أن يكون أوّل شاعر مهجري يدعى إلى المربد الشعري في العراق عام 1987، وأن يقع عليه الإختيار لافتتاح البث الإذاعي لمهرجان المربد باسم ألفي مدعو من كافة أقطار العالـم.
شربل بعيني، الذي قال عنه رئيس رابطة إحياء التراث العربي الاستاذ كامل المر في كتابه مشوار مع شربل بعيني إنه "أهم وأجرأ شعراء العربيّة في وقتنا الراهن، ليس في المغترب الأوسترالي فحسب، بل على نطاق العالـم العربي أيضاً". يحق له أن يلقّب "بكبير أدباء موطن الأرز" لأن ما تركه من نتاج رائع، لن تتمكن من (إطفاء شمسه) أو (تحجيمه) جميع الأقلام الهوائيّة، المسيّرة حسب أمزجة أصحابها. فشربل بعيني لـم يتغيّر قيد شعرة منذ عرفته.. وقصائده بدأت تنتقل إلى لغات عديدة، وتدرّس في الجامعات، وتنشر في كتب عالميّة عديدة، آخرها قصيدته (تازمانيا) التي نُشرت في كتاب خيوط الشمس أنطولوجيا الشعر الأسترالي 2002 للشاعرة آن فيربيرن، التي أدخلته أيضاً جنّة كتابها حلم شعري في ظلال أرز الرب 2000، وترجمت وقرأت قصائده في مناسبات أدبيّة مختلفة.
إذن، فكل ما قيل في شربل وفي أشعاره، أصبح ملك التاريخ، وكل تلاعب به، أكاديمياً كان أم عشوائياً، مرفوض رفضاً باتاً، وسيرذله القارىء الواعي، قبل أن يرذله التاريخ نفسه.
المنافسة الأدبيّة حقّ، ولكن التغييب بسبب ضآلة الخبرة والمسح الطوبوغرافي غير مسموح به أكاديمياً. لا بل سيوقع صاحبه بلهيب مناقشات حادّة، قد لا ينقذه منها إلاّ إعادة التدقيق والتفتيش والتمحيص الأكاديمي، الذي يكره المزاجيّة ويدينها.
منذ مجيئي إلى أستراليا عام 1983، مروراً باستملاكي لجريدة صوت المغترب، وانتهاء بتفرّغي للقراءة، وصورة رفيق غربتي الشاعر شربل بعيني لـم تتبدّل على الإطلاق. لقد فتح لي قلبه قبل بيته، واستودعني أسراره، وأخبرني، والألـم يمزّق فؤاده، لماذا انقلب البعض عليه.. ولماذا قطع علاقته الشخصيّة بهم، دون أن يقلّل من قيمتهم الأدبيّة، أو أن يردّ على تهجّماتهم بتهجّمات مماثلة، قد تسيء إلى أدبنا المهجري وإلى وحدتنا في الغربة. كان يريدهم أن يتوقّفوا عن ثرثراثهم وحقدهم ومكائدهم، وأن ينضووا تحت لواء الأدب الاغترابي بكبرياء وعزّة نفس. وأن لا يسيّروا أقلامهم كما تسِيرُ رياحُ أهوائهم الشخصيّة. فإذا اقترب منهم أحد مدحوه، وإذا ابتعد عنهم شتموه وحذفوه. وأذكر كيف كان الشاعر نعيم خوري، رحمه اللـه، يقول لشربل بعيني، إثر كل تهجّم عليه: إيّاك أن تتدخّل، أتركهم عليّ.. إنهم أطفال صغار!.
عام 1984، كان عام التحوّل في حياتي، إذ شاءت الظروف أن أشتري جريدة صوت المغترب، من صاحبها الأستاذ جان سمعان، وأن أبدأ رحلتي مع المتاعب منذ ذلك الحين.
أيّام عملي في الجريدة، اخترت بعض أعدادها من الأرشيف، ورحت أتصفّحها، فوقع نظري على عبارة تقول: "شربل بعيني لـم يعد شاعراً فحسب، بل أصبح يمثّل تيّاراً أدبيّاً في المهجر".
فالتفت إلى الزميلة لور قزي وقلت لها:
ـ أنا لا أعرف من هو شربل بعيني، ولكنني أريدكم أن تعتنوا أكثر بإخراج زاويته الأسبوعيّة.
وذات يوم، وبينما كنت ماراً بصحبة الصديق محمد حسين العمري في أحد شوارع منطقة غرانفيل، همس محمد في أذني قائلاً:
ـ تعال أعرّفك بشربل بعيني.
فإذا بي أقف أمام شاب بهيّ الطلعة، بشوش الوجه، ذي صوت عالٍ. وبدون أدنى مجاملة قلت له:
ـ أنا إسمي رفيق غنّوم، اشتريت جريدة صوت المغترب، وأريدك أن تسمح لي بمتابعة نشر زاوية "من خزانة شربل بعيني" في جريدتي.
فإذا بصوته يهدر، وما زال يهدر، في أذنيّ:
ـ ستبقى زاويتي في جريدتك إلى أن تضجر منها يا أستاذ رفيق.
ولـم يكتفِ شربل بزاويته الأسبوعيّة، بل راح يزوّدني بأجمل روائعه الشعريّة، بالفصحى والعاميّة، مثل: كيف أينعت السنابل؟، لعنة اللـه علينا، دياب الشعب، عرسنا استقلال، دعوة إلى الجنون وغيرها. وكنت أعطيها حقّها من الإخراج الفني، ولا أبخل عليها بصفحات كاملة. وصدقّوني إذا قلت، إن صوت المغترب في كل مرّة كانت تنشر بها إحدى روائع شربل، كانت تباع عن بكرة أبيها. وكنت أتلقى الرسائل والمكالمات الهاتفيّة العديدة، التي تحمل الإعجاب والإطراء لتلك القصائد. كما أعترف للمرّة الأولى، أنني كنت أستلم، إثر نشر كل قصيدة، مبلغاً من المال، يطلب مني مرسله أن أشتري به علبة سيجار فاخر، أدخنّه ساعة فراغي. ناهيكم عن الهدايا الكثيرة التي كانت ترمى على مكتبي مكللة ببطاقات الشكر، التي ما زلت أحتفظ بها.
من هنا نقدر أن نستنتج مدى الألـم الذي كان يجتاح قلوب المهاجرين اللبنانيين والعرب في أستراليا، من جرّاء الحرب اللبنانيّة اللعينة. وفي نفس الوقت، بإمكاننا أن ندرك مدى الارتياح النفسي الذي كانت تسببه لهم قصائد شربل بعيني. إنّها معادلة بسيطة ولكنّها مهمّة لمن يدرس أدب شربل بعيني.
صحيح أن شربل لا يتقيّد بأوزان، أو بتفعيلات، أو ما شابه، ولكنه يتقيّد بموسيقاه الخاصّة، وبلغته الخاصة أيضاً. أليس هو القائل: "الشعر هو الشاعر لغة وموسيقى".
وأعتقد أن صوت المغترب، رغم خسارتي الماديّة بها، قد أعطتني الكثير من الربح في معرفة معادن الناس، ولولا هذا الربح لما تحوّلت معرفتي العابرة بشربل بعيني إلى صداقة حميمة ومتينة جداً، مكّنتني من التغلب على ضجر غربتي. فساعة تطلبني تجدني عند شربل بعيني أو تجده عندي، أشكو له همومي ويشكو لي همومه.. وأعتقد جازماً أنه لـم يخفِ عنّي شيئاً، كما أنني لـم أخفِ عنه شيئاً. كان صديقاً صادقاً، أحبّ الجميع، وضحّى من أجل الجميع. ولو رجع كل واحد منّا إلى ضميره، أي إلى اللـه، لاعترف في قرارة نفسه أن شربل بعيني لـم يؤذِ أحداً على الإطلاق، بل على العكس، عمل المستحيل من أجل مساعدة العديد من الأدباء والشعراء، وخاصة أولئك الذين رمتهم نيران الحرب خارج وطنهم، بغية التغلّب على غربتهم والتأقلم معها. وكنت أعجب باندفاعه اللامحدود من أجل مساعدة الآخرين، دون التطلّع إلى فائدة شخصيّة قد يجنيها من جرّاء ذلك. وإذا راجعنا العديد من المقالات التي نشرت حول أدبه، نجد أن الجميع يعترفون بمحبّة شربل بعيني لهم.
وصدق الأديب المهجري الكبير جوزيف حايك، الرئيس القاري للجامعة اللبنانيّة الثقافيّة في العالـم حين قال في صكّ الإمارة: "إن الأديب شربل بعيني قد وفّر بعطائه الأدبي والفكري والتربوي ما يوفّر للإنسانيّة أسباب العزّة والكرامة، فكانت أنشودته الحرف والكلمة، وكان الفكر الخلاّق يستوي على عرشه، وحدود أرضه قد ضاقت بطاقاته، فراح يوسّع حدوده إلى أقمار الدنيا، فاغترب عن لبنان إلى أستراليا في العام 1971". لأن هذا ما فعله شربل بعيني، باعتراف الجميع، خلال ثلاثين سنة من رحلة اغترابه القسري عن الوطن.
**
في العام 1990، حصل شربل بعيني على لقب "أمير الشعر المهجري" من شخصيّة دينيّة أدبيّة كبرى، زارت أستراليا، واطلعت على أدب شربل بعيني.. كما أنّها استمعت إليه وهو يلقي أشعاره.
ومع ذلك، أخفى شربل بعيني الخبر، ولـم ينشره في كتبه، أو يستغلّه لشهرته، رغم أن مانحه لا يستهان به، لا من الناحية الإجتماعيّة، ولا من الناحية الدينيّة، ولا من الناحية الأدبيّة، ولا من الناحية الإغترابيّة، إذ أنه ترك بلاده، مثلنا، يوم ترأس أبرشية مصر للموارنة. إنه المطران العلاّمة يوسف مرعي، صاحب أكثر من سبعين مؤلفاً في اللاهوت والفلسفة، والمرشد الروحي لراهبات العائلة المقدّسة المارونيّات.
وكان شربل بعيني قد التقاه عدّة مرّات، واستمع إليه، وأهداه كتبه، وأقام له وللسفير اللبناني الدكتور لطيف أبو الحسن حفلة تكريميّة في منزله، شارك فيها، كالعادة، العديد من كبار أدباء وشعراء الجالية.
كل القصائد والكلمات التي ألقيت يومئذ كانت أكثر من رائعة، ولكنني سأختار من بعضها أجمل الأبيات التي قيلت بشربل كي لا أطيل الموضوع:
قال الشاعر جورج منصور:
يا شربل.. كلّنا بلطفك سكارى
قبل ما نسكر بخمر الزّياره
بسيدني، كل شخص بيزور دارك
كأنّو زار من لبنان حاره
الدني بتمحل وما بتمحل فكارك
الوحي من إيدك بيمطر إشاره
بيادر شعرنا غمرت غمارك
مواسم حبّ من قلبك عصاره
عطيت كتير.. والموسم تبارك
يا سبحان الـ بيعطي بهالغزاره
مدري في قمر سهران جارك
مدري جبينك مشعشع مناره
سفير بلادنا ما كان زارك
لو ما للشعر بيتك سفاره
وقال الدكتور جميل الدويهي:
تصيّد الفجر بالأقلام شاعركم
ففي الشقائق من شريانه قبلُ
ولوّن الحقل عصفوراً وأطلقه
حتّى استفاق على أنغامه الرسلُ
هذا الأبيّ الّذي يمناه جدوله
هذا النبيّ الذي أقواله عملُ
يا شاعر الغربة السوداء من حجر
خلقت سحراً، وفاضت عندك الجملُ
وقال رئيس عصبة الزجل اللبناني الشاعر عصام ملكي:
هالبيت.. بيت الـ شربل المشهور
وإمّو.. الما فيها تعيش بغيابو
هوني الوعي والذوق.. هوني النّور
وهوني الحرف عم يلبس تيابو
وقال الشاعر المرحوم زين الحسن:
شربل بفكرو خشّ مملكة الخلود
ورجّع ع سيدني روح جبران النبي
وبلّش يجمّع من شذا عطر الورود
تا صبّ هيكل أبجديّه مرتّبه
وقال الشاعر المرحوم نعيم خوري:
غرّد.. كفاك تمزّقاً وتحسّرا
إنّي أحبّك أن تثور وتكفرا
وانهض ففي غليان فكرك لوعة
تشتاق أن تدوي وأن تتفجّرا
وكانت ألطف وأظرف قصيدة، تلك التي ألقاها الشاعر عصمت الأيّوبي، والتي يقول فيها:
شكراً لشاعرنا الدّاعي وأسرته
شكراً يقصّرُ عنه النطق والكتبُ
شكراً لمن حضروا.. شكراً لمن أكلوا
شكراً لمن طبخوا.. شكراً لمن سكبوا
لقد اكتفيت من المناسبة بالشعر كي لا أطيل الكلام، ولكنني، قبل أن أودّع المناسبة، أحب أن أطلب من الأخت الأديبة مي طبّاع، أن تضيف قصيدتَيْ الشاعر المرحوم نعيم خوري والدكتور جميل الدويهي إلى كتابها شربل بعيني قصيدة غنّتها القصائد، إذا أعيد طبعه، لأنني أعتبرهما من عيون الشعر، لا في المهجر فحسب، بل على مساحة الشعر العربي.
وعندما عاد أسقفنا العلاّمة يوسف مرعي إلى لبنان، أرسل بطاقة شكر إلى شربل، ننشر منها:
"مع أخلص مشاعر الشكر..
إلى أمير الشعر المهجري.. وعائلة بعيني العزيزة.. ووافر النعم والبركات".
إذن، فالإمارة أعطيت لشربل بعيني منذ زمن بعيد، دون أن يعمل، وهو القادر، على نشر اللقب وتعميمه.
وأين العجب في ذلك؟.. و"شربل بعيني شاعر العصر في المغتربات".. حسب شهادة والد الأدباء المهجريين، وناشر أدبهم في العالـم العربي، والمطّلع على سير الحركة الأدبيّة في كافّة المهاجر.. عنيت به الأديب السوري الكبير نعمان حرب، صاحب السلسلة الأدبيّة الشهيرة قبسات من الأدب المهجري. وإليكم شهادته التاريخيّة بشربل كما نشرت في مجلّة الثقافة السوريّة عام 1993:
"إنّني على صلة دائمة بأدباء وشعراء المهجر في كافّة أنحاء المعمورة، وأرى أن الشاعر شربل بعيني هو شاعر العصر في المغتربات، لا يوازيه أي أديب مهجري بغزارة الإنتاج الأدبي، ووضع مجهوده، وعبقريته، وماله، رهناً لإعلاء الأدب والفكر، وغرس الكلمة العربيّة في القلوب والنفوس، وبذل الذّات للحفاظ على ألق الحضارة العربيّة، وشدّ العلاقات والأواصر بين أبناء المغتربين وإخوتهم المقيمين".
والسؤال الذي يطرح نفسه بنفسه: لماذا لـم يخفِ شربل بعيني إمارته الجديدة كما أخفى إمارته القديمة؟.. أو بالأحرى، كما أخفى لقب "شاعر العصر في المغتربات" الذي توّجه أميراً على كافّة الشعراء العرب المغتربين، وليس على اللبنانيين فقط، كما جاء في صكّ إمارة المجلس القاري؟
الجواب على هذا السؤال يأتينا من رسالة الرئيس القاري للجامعة الاستاذ جوزيف حايك، التي يقول فيها:
"عزيزي الاستاذ بعيني،
البيان المرفق وزّعناه على الصحف، وقد صدر في النهار، كما أرسلته بواسطة الفاكس إلى جريدة الهيرالد عندكم، وأقترح أن توزّعوه على كل الصحف اللبنانيّة في أستراليا، والتفضّل بإيداعنا صورة عن كل جريدة تنشره.
شكراً.. وتكراراً تهانينا وتحيّاتنا".
بربكم، هل بإمكان شربل بعيني أن يخفي إمارته الجديدة، بعد توزيع الخبر، من قبل المجلس القاري، ونشره في الصحف الإغترابية، وإرساله إلينا بواسطة الفاكس؟.
هل بإمكانه أيضاً، أن يرفض طلب رئيس المجلس القاري للجامعة اللبنانية الثقافيّة في العالـم الأستاذ جوزيف حايك بتوزيع البيان على كل الصحف اللبنانيّة في أستراليا؟.
بالطبع لا.. وإلاّ، لكان "الأمير الثاني" اختفى في الأرشيف كَـ "الأمير الأول".. أو كَـ "شاعر العصر"!!.
وأنا لا ألوم شربل بعيني على إخفاء لقب "أمير الشعر المهجري" الذي أغدقه عليه سيادة المطران يوسف مرعي، وعدم إعطائه حقّه من الشهرة.. لأنني أعرف كم من المرّات سحبت منه الأوسمة التي منحته إيّاها الدول، دون أن يحرّك ساكناً، أو أن يتأفّف.
ففي العام 1989، منحه رئيس ولاية نيو ساوث ويلز السيّد نيك غراينر وساماً وطنياً تكريماً له على إنشاء مكتبة عامة، من ماله الخاص، في مركز تجمّع المسنّين العرب في بانشبول. وقد أطلق عليها التجمع إسم "مكتبة شربل بعيني".
وفي اليوم المحدّد لاستلام الوسام ذهب شربل إلى مكان الإحتفال، وبصحبته العديد من الأصدقاء، تتقدّمهم حضرة الأخت كونستانس باشا، رئيسة معهد سيّدة لبنان يومذاك. وكم كانت دهشته ودهشة التجمّع عظيمة، عندما وصلت جميع الأوسمة ما عدا وسام شربل. رغم الحملة الإعلاميّة التي قام بها التجمع للترويج للوسام، ورغم نشر الخبر في جميع الجرائد والإذاعات المهجريّة.
أين هو الوسام؟!.. تساءل الجميع بدهشة وألـم.. وراح رئيس تجمّع المسنين العرب السيّد راشد الحلاّب، يجري الإتصالات المكثّفة.. وكانت أجوبة المسؤولين تأتي إلى مسمعه متشابهة: سنرسل الوسام للشاعر بعيني بواسطة البريد. ولغاية الآن لـم يستلم شاعرنا الوسام.
ولكي يبرّر تجمّع المسنين موقفه من عدم وصول الوسام إلى شربل، طلب من نائب منطقة لاكمبا، يومذاك، السيّد ويز دافرون أن يرسل لشربل رسالة تقدير على خدماته للمسنين.. فكتب بالتاسع والعشرين من آذار 1989 ما يلي:
"عزيزي السيّد بعيني
لقد طلب منّي تجمّع المسنين العرب أن أنقل إليك وافر امتنانهم للخدمات التي قدّمتها للمسنين في مجتمعنا هذا.
ضروري جداً أن لا نهمل العجائز.. وفي نفس الوقت، هناك خدمات جليلة قدّمت لهم، دون أن يعلن عنها، رأينا من الواجب أن نشكركم عليها.
أريدك أن تعلـم أن خدماتك في سبيل الآخرين قد سجّلت لك.
أيضاً، أرجوك أن تقبل منّي شخصياً الشكر والتمنيّات".
كما أن التجمّع نشر بياناً في جميع الصحف المهجريّة، موجّهاً للشاعر شربل بعيني، أنقله هنا عن جريدة صدى لبنان، العدد 685، وإليكم ما جاء فيه: "نقولها هكذا، بدون تكليف ولا ألقاب.. لأنك حقاً صديق لتجمّع المسنين العرب ككل، وصديق لرئيس هذا التجمّع ومدير إعلامه، وقد كنت دائماً من السبّاقين في تشجيع التجمّع في كل عمل نافع يقوم به، وأنك لا تترك مناسبة إلا وتتحدّث وتثني على هذا التجمّع وإدارته. وإنها لشهادة بألف. ولكن هناك أمراً نريد أن يعلم الجميع بفضلك فيه، ألا وهو مكتبة المسنين العرب، التي كنت أنت سبب وجودها ومزوّدها بالكتب الأدبيّة والشعرية والثقافيّة القيّمة. فلـم تبخل عليها بأي من كتبك، ولـم تدخر وسعاً بتذكير أصدقائك الكتّاب والشعراء اللبنانيين والعرب في أن يهدوا هذه المكتبة من نتاجهم الأدبي والفكري والثقافي، حتى امتلأت رفوفها، وأصبح المسنون العرب يغرفون من معين ثقافتها الكثير، وأصبح الضجر، عدوّهم الأول، يتوارى بين صفحات كل كتاب يقرأونه.
إن التجمع أيها الشاعر المجدّد، الذي لا ينضب له معين، يتقدّم منك بالشكر الجزيل، ويعترف لك بالجميل.. ".
قلنا لشربل يومئذ: إنتبه، هناك من يحاربك في الجالية.
فأجابنا والإبتسامة تكلّل وجهه: ليس المهم أن استلم وساماً، بل المهم أنني رشّحت له من قبل أناس يحبّونني.
ومع أنني لا أعتقد أن الشاعر بعيني قد تعرّض للمحاربة في المرّة الثانية، كما تعرّض في المرّة الأولى، إلاّ أنني سآتي على ذكر ما حصل، فقط للتذكير لا غير. فلقد أعلن السيّد نبيل قدّومي عام 1993، وفي يوبيل شربل بعيني الفضي، أن هناك هديّة رمزيّة لشربل جاءته من الأخ الرئيس ياسر عرفات.. ستسلّم له في منزله. وأيضاً.. لـم يستلم شربل بعيني الهديّة الرمزيّة!..
لهذه الأسباب مجتمعة، راح شربل بعيني يخفي في أرشيفه كل ما يصله من تكريم وإطراء، حتى لا يُتعب أحداً، كما أتعب البعض خبرُ تكريمه من قبل المجلس القاري
ديك نزار قبّاني الرائع
محبّة شربل بعيني للأدب المهجري دفعته لتحويل منزله إلى قاعة يكرّم بها، كي لا أقول إلى فندق، يستضيف به العديد من كبار الأدباء والشعراء العرب، الذين كان يدعوهم، باسم رابطة إحياء التراث العربي، لزيارة أستراليا، ولاستلام جائزة جبران الأدبيّة، التي تعب شربل كثيراً من أجل شهرتها، وضحى بوقته وماله بغية توسيع رقعة انتشارها، كيف لا، وهو من صمّم (براءتها)، وأعطاها الزمن الذهبي.
وإن أنسى لا أنسى تلك المكالمة الهاتفيّة التاريخيّة التي دارت بينه وبين شاعر العرب الأكبر المرحوم نزار قبّاني، والتي دامت أكثر من ساعة بين سيدني ولندن. فلقد أخبره، رحمه اللـه، أنه يرفض استلام جائزة جبران التي منحته إياها رابطة إحياء التراث العربي عام (1993)، لأنها أعطيت في نفس الوقت للشاعر العراقي الكبير محمد مهدي الجواهري. وبدلاً من أن يستسلم شربل بعيني لإصرار نزار على الرفض ويقفل الخطّ، خوفاً من دفع فاتورة الهاتف المكلفة جداً، راح يكلّم صديقه بهدوء ومحبّة، ويخبره بأن هناك مفاجأة مخبّأة له خلال الاحتفال، لن يخبره عنها كي لا يفشي السرّ. وهكذا دواليك، إلى أن تمكّن من إقناعه بإرسال خطاب يلقى في الاحتفال، شرط أن يقرأه شربل نيابة عنه، حسب رغبة نزار. وكان مدير تحرير جريدة المستقبل الأستاذ أنطونيوس بو رزق حاضراً، يومئذ، في منزل الشاعر بعيني، وقد استمع معي إلى تلك المكالمة النادرة.
وعندما انتهى شربل من مكالمته مع فقيدنا الغالي نزار قبّاني، ارتمى على الكنبة وراح يمسح عرقه ويتنهّد ويقول:
ـ الحمد للـه مرّت على خير.
فسألته بعد أن التقط أنفاسه:
ـ وما هي المفاجأة التي تعدّها لنزار؟.
فتطلّع بي طويلا،ً والهم يجتاح تقاطيع وجهه، وتمتم:
ـ لست أدري.
فما كان من الصديق أنطونيوس بو رزق إلاّ أن قال:
ـ يجب أن تتصرّفوا قبل فوات الأوان..
فالتفت إليه شربل وقال:
ـ إذا أردت مساعدتنا، يا طوني، حضّر أسئلة عرمرميّة كي نرسلها لنزار، وبذلك نضرب عصفورين بحجر واحد. أولاً، تكون أنت أول صحفي مهجري في أستراليا، يجري لقاء مع نزار. وثانياً، نشعره بأهميّة الجائزة، وبأن الإعلام المهجري يهتمّ بها كثيراً.
وكان أنطونيوس بو رزق، في ذلك الوقت، مدير تحرير جريدة العالـم العربي، التي نشرت اللقاء القنبلة في صدر صفحاتها. وقد أعجب نزار بمستوانا الإعلامي في المهجر، وأثنى عليه، وعلى أنطونيوس بو رزق، أكثر من مرّة.
وفي اليوم المحدّد لتوزيع جائزة جبران على مستحقّيها، كنت أول من دخل قاعة بلديّة غرانفيل، لأرى بعينيّ المفاجأة ـ السرّ، التي أعدّها شربل لنزار قبّاني، ووعده بها. فإذا بالطفلة ريما الياس تطلّ علينا وتصدح بصوتها العذب أغنية خاصّة كتبها شربل احتفاء بيوبيل نزار قبّاني الذهبي، وزيّنها برقصات فتيات صغيرات من معهد سيّدة لبنان في هاريس بارك، جسّدنَ بحضورهنَّ الملائكةَ على الأرض. كما دمج صوت نزار وهو يلقي أشعاره في ستّ الدنيا بيروت، بأصوات العديد من المطربات والمطربين الذين غنّوا قصائده وخلّدوها. وقد افتتن المرحوم نزار بمفاجأة (حبيبه) شربل، كما كان يحلو له أن يناديه، فكتب له رسالة بتاريخ (1/12/1993) قال فيها:
"أخي الأستاذ شربل..
وصلني (صندوق العجائب) الذي تكرّمت بإرساله إليّ، وفيه براءة جائزة جبران التقديرية، والميدالية، والكأس، والمجلّة.
والحقيقة، أنك بهرتني بكل هذه الهدايا التي وصلتني من أستراليا.. وتذكّرت الزعيم جمال عبد الناصر.. في عبارته المشهورة: (إنتظرناهم من الشرق.. فجاؤوا من الغرب..)
والمبدعون العرب، ينتظرون أن يأتي تكريمهم من الصحراء.. ولكنه يأتي من جهة البحر..
فالبحر يعرف متى يطرح اللؤلؤ.. والمرجان.. والقصائد الزرقاء.
والبحر هو الذي نقل على أمواجه الحضارات من أثينا، وقرطاج، وصور.
والبحر، أخيراً، هو الذي يمنح بلا منّة، ويفيض دونما حساب.
سامحوني إذا لـم أستطع في هذه الرسالة القصيرة أن أردّ لكم بعض جميلكم، فكلمة رئيس رابطة إحياء التراث العربي الأستاذ فؤاد نمّور رائعة في شفافيتها وصدقها، وكلمة ريما الياس الطفوليّة كريستاليّة كدمعة، وقصيدتك الجميلة عنّي، هي تضوّي مثل الذهب، وعندما يكون الحب كبيراً فهو دائماً (يضوّي).. وأقول لأخي الشاعر نعيم خوري إن الجنيّات هنّ اللواتي لعبنَ بي..(ولست أنا الذي بالجنّ قد لعبا..)
إن الرجل يظن نفسه لاعباً.. وهو في الحقيقة ملعوب به.
فشكراً أيّها الحبيب شربل، على سرّك الجميل..
وشكراً لكل الأحبّاء الذين شاركوا في الإحتفال بيوبيلي الذهبي.. راجياً اللـه أن يمنحني القوّة، لأبقى سيف هذه الأمّة، كما كنت وردتها"..
ـ مجلة ليلى ـ العدد 33 ـ تموز 1988ـ
ولشدّة فرح نزار بمفاجأة شربل، كان يتّصل به أسبوعيّاً، وكنت أنصت، عندما يصادف وجودي هناك، إلى كل كلمة يقولها.. وقد لا أذيع سرّاً إذا قلت: إن نزار قبّاني كان يشتم الزعماء العرب ألف مرّة في الدقيقة خلال مكالماته الهاتفيّة مع شربل بعيني، ولكم شعرت باليأس الذي يجتاح كل خليّة من خلايا جسمه وعقله، وأدركت للحال لماذا كتب رائعته (متى يعلنون وفاة العرب؟)، التي أقامت الأرض ولـم تقعدها بعد. وكم من المرّات وعد شربل بالمجيء إلى أستراليا، عندما تتحسّن صحته، ويسمح له طبيبه بالسفر الطويل، وكان يقول له ويلحّ: إذا لـم أتمكّن من السفر.. تعال يا شربل لزيارتي.. أحبّ أن أراك.. أتسمع؟.
والحقيقة أن شربل سافر سراً إلى لندن للقاء نزار، ولكن اللقاء لـم يحصل، إذ أن عقارب الساعة توقفت، عندما توقّف قلب شاعرنا العملاق نزار قبّاني وهو مسافر في الطائرة. وقد بكاه شربل كوالد وكمعلّم وكحبيب، وأصدر عدداً خاصّاً من مجلته ليلى تخليداً لذكراه العطرة. رحمه اللـه، كم كان عظيماً وكم كان متواضعاً.
وفي 31 كانون الثاني 1994، استلـم شربل رسالة جديدة من نزار، يبدي بها إعجابه للمرّة الثانية، باليوبيل الذهبي الذي أعدّه له كمفاجأة.. وفيها يقول:
"أخي الحبيب شربل..
أمطار حبّك وحبّ الأخوة والأخوات في أوستراليا، تساقطت عليّ كالأمطار.
ليلتي أمس كانت مع شريط الفيديو، الذي تكرّمت بإرساله، فشعرت وأنا في لندن الباردة، بنار المحبّة تدفئني، وبنهر من القبلات يغسلني، وشعرت أن لي أهلاً رائعين في سيدني، أستطيع أن أدخل بيوتهم في أي وقت، وأتناول طعام العشاء عندهم في أيّ وقت، وأنام عندهم في أيّ وقت..
هكذا يجعلك الشعر مزروعاً في فضاءات هذا العالـم، ويعطيك مفاتيح كل البيوت، ويجعلك نغمة في إيقاع الكون.
لا تهتم بالناحية التقنيّة للفيديو.. فأنا كنت مهتماً بفيديو القلب.. وبتلك العصافير التي كانت تطير على المسرح.. وهي تحتضن كتابي قالت لي السمراء.. وتزقزق كما لـم تزقزق طيور الجنّة من قبل.
أما أنت، فقد قرأت كلمتي أحسن منّي، وكنت (بشبوبيتك) وأناقتك، ووسامتك.. نجم الحفلة..
لقد أعجبني جداً شريط الكاسيت الذي أعدّته السيّدة ماري ميسي للإذاعة الحكوميّة S.B.S"".
كانت السيّدة ماري ميسي تتحدّث بلغة حلوة، وبهدوء وشاعريّة، وكان إخراج الشريط وتنوّعه ولقطاته بمنتهى الجمال. فأرجو أن تنقل إليها أطيب مشاعر الشكر والتقدير.
وأخيراً، أشكرك على قصيدتك الرقيقة جداً، والشفّافة جداً، والعاشقة جداً، التي كرّمتني بها، وأدّتها الغالية ريما الياس. فلها ولرفيقاتها العزيزات قبلات الشعر، وقبلاتي.
لقد كنتم جميعاً رائعين.. في حبّكم.. ورائعين في كلماتكم.. فسامحوني إن لـم أكن على مستوى حبّكم العظيـم"..
ـ مجلة ليلى ـ العدد 33 ـ تموز 1998ـ
وصدّقوني أن شربل بعيني كان محظوظاً جداً لحلول يوبيل نزار الذهبي في نفس السنة التي منحته بها رابطة إحياء التراث العربي جائزة جبران العالميّة، وإلاّ، لكان عليه أن يفتّش عن مخرج جديد يمكّنه من الوفاء بوعد قطعه على نفسه.
من هنا نقدر أن نستنتج سرعة البديهة التي يتحلّى بها شربل، وأنه لا يستسلـم للمصاعب بسهولة. ومن هنا أيضاً نقدر أن نعرف سرّ تفوقّه على الآخرين، وسرّ امتلاكه لزمام الأمور، وسرّ تغلّبه الدائـم على كل من يهاجمه. إنه بصريح العبارة يخطط للفشل كما يخطط للنجاح.. ولهذا بقي ناجحاً كل هذه المدّة، وبقي حسّاده يلهثون للتعلّق بأطراف ثوبه، ولو لثوانٍ معدودة، دون جدوى.
وكما ذكرت سابقاً، لقد تمنّى شاعرنا الأكبر نزار قبّاني زيارة أستراليا، والنزول ضيفاً عند صديقه شربل بعيني، ولكن الطبيب منعه من تنفيذ رغبته التي لمّح لها في إحدى رسائله لشربل بعيني، حين قال: "وشعرت أن لي أهلاً رائعين في سيدني، أستطيع أن أدخل بيوتهم في أيّ وقت، وأتناول طعام العشاء عندهم في أيّ وقت، وأنام عندهم في أي وقت”..
وكانت أمنية شربل الكبرى أن يستضيف نزار قبّاني في منزله، كما استضاف من قبل العديد من عمالقة الأدب العربي.. ولكن الرياح تجري، دائماً وأبداً، بما لا تشتهي السفن.
وعندما أصدر شربل بعيني مجلّة ليلى، كان نزار أوّل من استلمها، وقد بقي يستلمها حتى وافته المنيّة. وبما أنه يدرك مدى أهميّة الإعلام الأدبي في المهجر، رحّب بصدور ليلى برسالة أرسلها لشربل في الخامس عشر من شهر تشرين الثاني 1995، وإليكم ما جاء فيها:
"أخي الغالي شربل..
بريدك هذا الأسبوع يشبه شهر نيسان، أريجاً، وخصوبة، ورائحة طيّبة.
أفرحتني أوّلاً مجلّتك ليلى، لأن إصدار مجلّة عربيّة في أوستراليا عمل رائد وتأسيسي، ويبقي الجسور ممدودة بين المغتربين العرب، وبين لغتهم الأم، وتاريخهم، وتراثهم.
كما أسعدني أن ترسل لي نسخة من امتحانات اللغة العربيّة في أوستراليا. ما أسعد الشاعر حين يرى شعره يمرّ من قارة إلى قارة.. ويحمله التلاميذ في محافظهم المدرسيّة.
شكراً على إعادة نشر قصيدتي (المهرولون) في مجلّتك، والواقع أن هذه القصيدة اشتعلت كبيدر من القشّ في كل مكان.. وتحوّلت إلى منشورات سريّة تنتقل من يد إلى يد.. كما تهرّب حشيشة الكيف!!
وهذا دليل على أن الناس يبحثون في الشعر عن خلاصهم، ويعتبرونه مسيحهم المنتظر..
وحين تستطيع قصيدة أن تخضّ عظام الأمّة العربيّة ـ كما تقول في رسالتك ـ فهذا دليل على أن ضمير هذه الأمّة لا يزال سليماً ومعافى.. وجسدها لـم يتحوّل إلى كوم رماد..
المهم أن يبقى شعراؤنا واقفين على الخطوط الأمامية.. حتى لا يسقط الوطن تحت حوافر المغول.
أرجو لك مشواراً ظافراً على طريق الصحافة، مع أطيب تمنيّاتي لك بالسعادة والنصر الكبير".
ـ مجلة ليلى ـ العدد 33 ـ تموز 1998 ـ
عام 1986، سألته الصحفيّة هدى الصبّاغ في حديث نشرته جريدة البيرق في عددها الرابع: من هو مثل شربل بعيني الأعلى في الحياة؟.
وبدون أدنى تردّد أجابها: إجتماعيّاً والدي. أدبيّاً نزار قبّاني.. لأنني أعتبره أول من ثار على الشعر ثورة قوية، وجعل الناس تحب الشعر أكثر. لقد أنزل نزار الشعر من أبراجه العاجيّة، وقصوره الفخمة، وزيّن به أكواخ الفقراء.. لذلك أعتبره قدوتي من الناحية الأدبية.
إذن، حبّ شربل بعيني لنزار قبّاني حبّ أعمى، نما في قلبه منذ لقائه الأوّل به عام 1968، يوم ذهب إلى بيروت برفقة أخيه جوزاف لتقديم نسخة من ديوانه البكر مراهقة لمعلّمه نزار. كان عمره، آنذاك، سبع عشرة سنة، وكان نزار في أوج مجده الشعري. ومع ذلك استلم النسخة من يد شربل، وراح يتصفّحها، وبعد دقائق، التفت إلى شربل وقال:
ـ أنت شاعر يا شربل، ولكنك تكتب باللغة العاميّة اللبنانية، التي لا يفهمها أكثر من ثلاثة ملايين نسمة. دعك من لغة سعيد عقل، فسعيد عقل سيتخلّى عنها قريباً، وسيعود للكتابة باللغة العربيّة الفصحى، التي يقرأها أكثر من مائة مليون نسمة. عليك يا صديقي أن تتوجّه للكثرة لا للقلّة.
فما كان من شربل إلاّ أن جاوبه:
ـ طالما أنني عاجز عن منافستك بالشعر الفصيح، الذي أنت سيّده دون منازع، سأكتفي الآن بالكتابة باللغة العاميّة.
فأعجب نزار بجوابه، ودعاه لتناول الغداء معه.
حفظت هذه القصّة عندما راح شربل بعيني يذكّر صديقه نزار بها على الهاتف، ونزار يتمتم: لـم أعد أذكر يا شربل.. لندن أنستني الكثير من قصصي البيروتيّة.
العلاقة الأدبيّة والشخصيّة بين شربل ونزار متّنتها السنون، وألهبتها الإتصالات الهاتفيّة والرسائل. لذلك لـم يفكّر بالنتائج السلبيّة حين دافع عن صديقه نزار، وها أنا أنشر دفاعاً واحداً، كتبه شربل كإفتتاحيّة لمجلّة ليلى، رداً على أحد الذين انتقدوا نزار قبّاني في اجتماع ضمّ العديد من أدباء وشعراء المهجر. ولكن المضحك في الأمر أن نزار قبّاني رفض رفضاً باتاً أن ينشر شربل مقاله هذا، بعدما سمعه منه على الهاتف، وحجّته الوحيدة أن نقّاد أستراليا لا يهمّونه، كما يهمّه نقّاد أوروبا والدول العربية.. كما أنّه يريد من شربل، صاحب اللسان السليط والحجة الدامغة، على حدّ تعبيره، أن لا يضيّع وقته في ثرثرات أناس فارغين، ستغرق حتماً في الباسيفيك، قبل أن تصل إليه، أو تؤثّر عليه. وإليكم ما كتب شربل:
"في اجتماع (أدبي) ضمّ العديد من الأدباء والمثقفين والدكاترة، تكلّم أحد المتأدبّين عن الشعر العربي فقال: بعد أمير الشعراء أحمد شوقي خلت الساحة العربيّة من الشعراء. فقاطعه أحد الموجودين قائلاً: هناك نزار قبّاني، أنسيته؟! فأجاب حضرة المتأدّب: لا.. ولكن نزار قبّاني شاعر داعر.
هكذا واللـه!! دون زيادة أو نقصان!!..
حبيب الشعب من الماء إلى الماء شاعر داعر!! فما رأيكم دام فضلكم؟!
هل يصحّ أن يتفوّه رجل ثرثار كهذا بمثل ما تفوّه في مجتمع أدبي راقٍ، دون أن يرموه بالبيض والفجل والبصل.. والصرامي؟.
نزار قبّاني شاعر داعر!.. أي أنه مارس الدعارة، حسب ادعاء ذلك المعتوه الذي لا أحبّ أن أذكر اسمه، ولا الشعر يحب أن يذكر اسمه، حتى ولا اللـه تعالى يحب أن يذكر اسمه.. لماذا؟.. لأنه تجنّى على شاعر كبير لـم ولن تلد الأمهات نظيراً له، لا من الناحية (الآدمية)، ولا من الناحية الشعرية.. وبئس من يقول العكس، لأنه ابن الشيطان يدعى.
نزار قبّاني لـم يؤذِ برغشة، ولـم يتجنَّ على أحد.. فلماذا يتجنّون عليه كل ما دقّ الكوز بالجرّة؟!.. ألأنه تغنى بالمرأة العربيّة وطالب بحريّتها؟.. أم لأنه لـم يهتم إلاّ بإنقاذ أمته العربية من براثن الجهل والفاقة؟.. والويل ثـم الويل لمن يفكّر بسعادة 100 مليون عربي تعيس، فالأمـم المتحدة ضده، والجامعة العربية ضده، والإعلام العربي ضده، وكلاب الحكّام العرب ضده.. فهل من بهدلة ألعن من هذه؟!
من يريد أن يتهجّم على نزار عليه أن يكون أكبر من نزار، فهل يوجد بيننا من هو أكبر من نزار؟.. أعوذ باللـه".
ولكن نزار قبّاني لـم يوقف شربل عند حدّه، ولـم يطلب منه أن لا ينشر، عندما اتّهم بسرقة قصيدة (مع جريدة) من أحد الشعراء الفرنسيين. بل أطلق له العنان، وهو الواثق من مقدرته بعد الذي سمعه من قبل. لذلك استقتل شربل بالدفاع عن نزار، ولـم يكتفِ بشهر سلاحه لوحده، بل استنجد بالأستاذ الجامعي عصمت الأيّوبي، صاحب كتاب على ضفاف الكارثة، الذي غيّبه أيضاً المسح الطوبوغرافي السيىء في هذه الجالية، وراح الإثنان يشنان الهجوم تلو الهجوم إلى أن رفعا راية النصر. ففرح نزار بسير المعارك الأدبيّة، وكتب لحبيبه شربل رسالة مؤرخة في الخامس من شهر كانون الثاني 1996، يقول فيها:
"يا شربل الحبيب..
ما هذا الشريط الخرافيّ الذي بعثت به إليّ؟.. لقد دوّختني.
فعمّك الدكتور عصمت الأيّوبي يمطر من الشرق، وأنت تبرق.. وترعد.. من الغرب.. وأنا تحت أمطار حبّكما بلا مظلّة..
هل يمكن أن يأتي الربيع كلّه من أستراليا.. بلا موعد سابق؟
هل يمكن أن أنام ليلة كاملة على وسادة من الياسمين.. وأصحو على صوت العصافير.. وأغتسل بماء العشق؟..
إنني أعرف أبعاد حبّك النزاري، ونوبات جنونك الجميل، ولكنني لـم أكن أتصوّر أن الاستاذ عصمت دخل في الحزب.. أيضاً.. وصار يضارب عليك في الإيديولوجيا النزارية..
إن حديثه فاجأني برقّته، وحضارته، وثقافته، وجذوره الشعريّة، ومنطقه المتماسك.
أمّا أنت.. فقد كنت كديك القرية تمارس فحولتك على آخرها.. وتفقأ عين الدجاج الناقد.. وتنتف ريشه.. حتى سقط مضرّجاً بدم أحقاده..
الواقع إن القصّة كلّها سخيفة، وجاهلة، ومتخلّفة ثقافياً.. ولكن ماذا تفعل إذا كانت (ثقافة زيت الكاز) تحاول أن تشتري كلّ شيء.. بما في ذلك كبرياء أبي الطيّب المتنبي..
ولكن أبا الطيّب المتنبي.. لا يمكن أن يباع في السوبر ماركت.. ولا يمكن لكلماته أن تتحوّل إلى جوارٍ في سرير أمير المؤمنين..
فشكراً للدكتور عصمت على شهادته الثـمينة، وشكراً لك أيّها الديك الرائع الذي ملأ الدنيا، وخوّف قارة بأكملها بشجاعته وفتكه ومروءته".
ـ مجلة ليلى ـ العدد 33 ـ تموز 1998 ـ
وأعتقد أن نزار قبّاني قد هاجم في رسالته هذه جميع الذين تهجّموا على صديقه شربل بعيني قبل أن يتهجّموا.. وفقأ أعين دجاجهم أيضاً.. وفضح أولئك الذين يبيعون أدبهم في السوبر ماركت.. أصحاب الكلمات السخيفة، الجاهلة، والمتخلّفة ثقافياً.
شربل بعيني.. ديك نزار قبّاني الرائع.. هذا الذي ملأ الدنيا، وخوّف قارّة بأكملها بشجاعته وفتكه ومروءته.. هو ذاته الذي قال عنه الأديب الرئيس جوزيف حايك: "إن كبير أدباء موطن الأرز الأستاذ شربل بعيني قد فتح صفحات التاريخ، وترك تلك الصفحات تتكلّم، فأصبح موسيقى العذارى على فـم الأنبياء، الذين حنوا الجبين أمام عظمة الأدب والفكر والكلمة"..
رحم اللـه نزار قبّاني.. فلقد سلّح صديقه شربل بعيني، قبيل وفاته، بعبارات مسنونة كالسيف، وكأنه يعلم أن دجاج الغربة لا بد من أن يتطاول على ديكه الرائع.
**
أديبنا السوري الكبير محمّد زهير الباشا، يُعتبر من أهمّ الذين كتبوا عن أدب شربل بعيني، إذ أنه أوّل من أعدّ دراسة أدبيّة عن شعره في عالـمنا العربي، وأطلق عليها إسم شربل بعيني ملاّح يبحث عن اللـه.. واعتبرت "فاتحة" الإلتفات إلى أدبنا المهجري في أستراليا.
وللباشا، بالإضافة إلى دراسته عن شربل، مؤلّفات عديدة أذكر منها:
1ـ شعر حسّان بن ثابت الأنصاري. 2ـ خيوط من رماد. 3ـ من تحت لتحت. 4ـ المتنبّي يجلو مقلتي نسر. 5ـ العصفور الجريء. 6ـ أرأيت الذي؟. 7ـ سيوف لا تعرف الهزيمة. وغيرها.
وقد لا أغالي إذا قلت إن ما من أديب ألّف كتاباً عن أديب آخر، وعزفت له الموسيقى، وقرعت الطبول، وأقيمت المعارض الفنيّة والأدبيّة، وألقيت الخطب والقصائد، كما حصل للباشا في "يوم محمد زهير الباشا" التاريخي، الذي أحيته الجالية العربيّة في مدينة سيدني، بدعوة من أبناء مجدليا المقيمين والمغتربين، يوم الثلاثين من حزيران 1989، تكريماً له على تلك الدراسة الرائعة. كما أن وسائل الإعلام، المسموعة والمقروءة، في الوطن والمهجر، لـم تغطِّ خبراً أدبياً كما غطت خبر ذلك اليوم المجيد. ويكفي أن أذكر أن جريدة صدى لبنان لصاحبها الأستاذ جوزاف بو ملحم، قد أصدرت ملحقاً خاصاً في 11/7/1989، نشرت فيه كل الكلمات والقصائد التي ألقيت، بالإضافة إلى العديد من الصور والتعليقات.
ولنعرف أهميّة ذلك اليوم أنقل بعض ما كتبه الأستاذ أنطونيوس بو رزق في مقدّمة الملحق:
"30 حزيران، لا أدري ماذا أسمّيه. أهو يوم الأديب محمد زهير الباشا؟.. أم يوم المغترب اللبناني في أستراليا؟!
والحق.. إنه يوم الأديب الباشا، ويوم الشاعر شربل بعيني، ويوم المغترب الأسترالي. إنه يوم الأدب والشعر.
لقد كان يوماً أدبيّاً مهجريّاً بكل معنى الكلمة، حيث ضاقت صالة "تاون هول ـ غرانفيل، على وساعتها، بحشد غفير فاق كل تقدير وتوقّع، كما حضرته غالبيّة الوجوه الأدبيّة والفنيّة والصحفيّة والإجتماعيّة من أبناء الجالية".
وأعتقد أن الحشد الغفير الذي فاق كل تقدير وتوقّع، ناهز الآلاف من أبناء الجالية. منهم من زار المعارض الفنيّة والأدبية، ومنهم من استمتع بالحفلات الغنائيّة، ومنهم من استمع إلى القصائد والكلمات التي ألقاها العديد من أرباب الكلمة في مهجرنا هذا. إنه يوم كامل.. بدأ مع إشراقة الشمس، وانتهى مع بداية يوم آخر. فمن، بربّكم، يقدر أن يحصي الناس في يوم طويل كهذا؟.
وفي هذا اليوم المجيد، أعلن مختار بلدة مجدليا يومذاك، السيّد الياس ناصيف أبي خطّار، أن التفكير يدور حول وضع اليد العامّة على البيت الذي ولد فيه الشاعر شربل بعيني، ليتحوّل إلى متحف يضمّ نتاج شربل وكافة أدباء المهجر. وأعتقد أن البيت كان قد تحوّل إلى متحف منذ سنوات، لولا كثرة الوارثين له.. ومن منّا لـم يعان الأمريّن من جرّاء إتمام أوراق حصر الإرث بعد وفاة الأهل، وما شابه. ومع ذلك فالفكرة بدأت تختمر أكثر وأكثر في عقول العديد من مثقفي بلدة مجدليا، الذين يؤمنون أن نداء مختارهم التاريخي يجب أن ينقلب إلى واقع مفرح.
صحيح أن الباشا أصبح مغترباً مثلنا، يعيش الآن في الولايات المتحدّة الأميركية، ويحمل في عطلة نهاية الأسبوع يافطته الشهيرة "أطلقوا سراح إبني"، ويتظاهر لوحده أمام مركز الأمـم المتحدة وحقوق الإنسان. ولكنه عندما كتب دراسته عن شربل كان يعيش في العاصمة السوريّة دمشق، ولهذا، أخذت الدراسة عمقها ووهجها وعظمتها. وبسبب هذا العمق الأدبي وهذا الوهج وهذه العظمة، منحته رابطة إحياء التراث العربي في أستراليا جائزة جبران العالميّة لعام 1989.
رسائل الباشا إلى شربل كثيرة، وأكثر مما تتصوّرون، لذلك سألجأ إلى لعبة مسليّة كنت ألعبها وأنا صغير، وصوتي يملأ شوارع "إدلب": أنا أعمى ما بشوف، أنا ضرّاب سيوف"، والرسالة التي تقع عليها يدي سأختار منها بعض الفقرات. وصدّقوني أن أول رسالة وقعت بين يديّ، كانت آخر رسالة أرسلها الباشا بتاريخ 24/2/2001، وفيها يهنّىء شربل بإمارة الأدب فيقول:
" مبارك لك صكّ إمارة الأدب، وحماك الربّ من صكوك الحسد والوشاية وغدر الزمان".
وهناك رسالة مؤثرة جدّاً، كان قد أرسلها لشربل بتاريخ 26/12/2000، وفيها يأتي على ذكر ولده الغائب بين الأرض والسماء، فلنقرأ:
"بالمناسبة، لـم يفرج بعد عن ولدي محمد ريـم، ولـم يكن إسمه بين أسماء الّذين أفرجوا عنهم، وتعدادهم 600.. والباقي من مسجوني الرأي لـم تبت السلطة بأمرهم، ولا ندري عددهم، وهل بينهم إبني.. واللـه أعلم".
كلام كهذا، يخبرنا أن الكلفة بين الباشا وشربل قد رفعت تماماً، وأصبح كل واحد منهم يشكو همّه للآخر، شخصيّاً كان أم أدبيّاً.. وهذا ما يعطي لرسائلهما نكهة إنسانيّة قلّما نجدها في رسائل الأدباء.
عندما علـم الباشا بزواج أخيه الأعز شربل، أرسل له بتاريخ 10/10/1994، بطاقة تهنئة فيها كل الفرح والمرح، وفيها أيضاً تلميح عن قصيدته الشهيرة قرف:
"تحيّة ربيعيّة ملأى بالرياحين المبتسمة على شفاهكم، وهي كنز دائـم لحل دائـم، وصبر كان قد زرع ليوم تتويج المحبّة على أحلام استمرّت سنوات، لتأتي فوّارة مع الربيع، مزهرة مع الندى. لا أستطيع أن أحلّق مع أحلامكم وأمنياتكم، فالمفاجأة بروعتها جعلتني أقول مغالطاً: من صدّق الشاعر أنه تاب؟.. فإذا تاب على يديّ ليلى، فلننتظر ديواناً جديداً يمسح "القرف"، ولنبدأ جميعاً بأخذ "شعرة" من لحية شربل، لنصنع منها دواء عجيباً فيه السحر لكل المتربّصين".
والظاهر أن محمد زهير الباشا قد أعجب كثيراً بديوان قرف، لذلك راح يذكره كلّما اسودّت الغربة في وجهه، فلنقرأ ما كتب بتاريخ 13/2/1992:
"متى يتمّ الطوفان؟ ومتى تغسل النفوس والأبدان؟ وأرضنا العربيّة ماهرة بهزات البطن، وتموجّات السرّة، وقبض الدولارات على النهود والزنود وبريق الأظافر. فهلاّ ازداد تمسّكنا بالشعر لنهرب من أنواع "القرف".
كل رسائل الباشا لشربل تنبض بالثورة، فتحسّون، وأنتم تقرأونها، أنها تنتفض بين أيديكم، لذلك يتوجب عليكم أن تمسكوا بها جيّداً، وإلاّ ستطير من بين أصابعكم وترتفع في الفضاء. وصدّقوني إذا قلت: في أوّلها ثورة، وفي آخرها ثورة، والويل ثـم الويل لمن لا يمتهن إطفاء النار.. فقد تحرق الكلمات غابات قلبه، وتلهب شواطىء عينيه بجمراتها المشتعلة. وخير دليل على ذلك هذه النصيحة التي قدّمها لشربل بتاريخ 7/1/1996 حال إصداره مجلّة ليلى:
"كل آمالي أن تبقى مسيرة المجلّة مزدانة بخط فكري واحد، ألا وهو الكشف عن مساوىء الطغيان أنّى وجد، وأن يكون ذلك الخطّ يحمل الدعوة إلى صحوة الفكر، وإلى تنوير الأذهان، لتتخلّص هذه النفوس من أدران الأجهزة وكلابها والمرتزقين".
ومن غير الباشا، المحترق القلب على فلذة كبده، يكتب رسالة مجلّة ليلى وأهدافها، ويختم الرسالة، التي دأبت المجلّة على نشرها في معظم أعدادها، بهذه الكلمات الثائرة:
"لا علاقة لهذه المجلّة بأي سلطة، فهي ترفض التسلّط والتبعيّة والفئويّة، وتعتمد على مساهمة القرّاء ماديّاً أو معنويّاً".
وبما أنني أكشف بعض الأسرار، ها أنا أخبركم أن الباشا، رغم كونه كاتباً بارزاً في مجلّة ليلى طوال مدّة صدورها، كان يدفع اشتراكه السنوي بالدولار الأميركي تشجيعاً منه لها، ودعماً لرسالتها التي هي رسالته في الأساس. فتصوّروا عظمة هذا الأديب السوري المهجري الكبير. فبدلاً من أن يقبض ثـمن كتاباته، كان يدفع كي لا تنزلق ليلى كما انزلق غيرها من المطبوعات. فهل من رسالة أسمى من رسالة هذا "الباشا"، الذي يجمّل لقبه بدلاً من أن يجمّله اللقب.
ولـم يكتفِ الباشا بكل هذا، بل راح يشدّ أزر شربل، كلّما أحسّ بتعب يتملّكه، أو بيأس يجتاحه، خاصة إذا كان الأمر متعلّقاً بمجلّته ليلى، وباستمراريّة صدورها، فلنقرأ ما كتب بتاريخ 6/12/1999:
"تحيّة الشقيق للشقيق في عصر كثر فيه الإنشقاق والتزوير والنعيق، وبقيت وحدك تصارع أمواج الهمجيّة والتردّد، وإن الرسائل بيننا ما انقطعت لحظة، لأنك وصفحات المجلّة في أعماق النبض الذي صدّقك منذ أن تلاقينا بديوانك الأوّل فالثاني، وكثّر اللـه دواوينك الشعريّة، وأبعد عنك دواوين السياسة وترهاتها.. وقد أدركت يا أخي أن العمل في الصحافة يأكل الزمن، ويسلب الراحة، ويشد منك النظر إلى أسطره.. واهتمامك بأن المجلّة تنحو إلى الجديد وإلى التجديد، والأشهر تتوالى بخيوط الفجر، والأعداد تتوالى بنهاية كل شهر، وأنت واقف لا تستطيع أن تتغافل، أو تغفل عن مقدم شهر أو نصفه أو عِشْرِه. وكذلك عملي في الأكاديميّة يعيدني إلى غرفتي المتواضعة التي جمعت كل الأيّام الغابرة على بضعة رفوف. ولا أعتب على الغربة التي لجأت إليها، فهي الملاذ ولو كان على رصيف، تجمعك بمن احتمى، ومن استهوى وعشق التحرّر من القيود المصطنعة.
أخي شربل.. ثابر على المتابعة، المنهكة للقوى، وأنت فخور بهذه الأعداد التي تزيّن المقل حين تطلّ علينا مع البريد كل شهر. لا تيأس، واطرق أبواب المبدعين من كتّاب وشعراء وقصصيين، ليكن لديك كل مفتاح للخير، وللإبداع، ولكلمة الحق مهما صغرت".
ولنعرف ماذا تعني مجلّة ليلى للباشا، علينا أن نقرأ ما كتب عنها، ونشرته هي عام 1995:
"ليلى.. صهوة أحلام مجنّحة. وهي خمرة الشعراء والوالهين، وابتسامة الجراح على شفاه المتعبين. أنشودة استلهمها الشاعر في امتداد غربته الطويلة، فكانت بوح الفل والنسرين في نقطة زيت باركها اللـه.
ليلى في حروفها كخيل المتنبي. لا يجلّ الشاعر إذا لـم يبدع ولـم يتكبّر. وهي صهوة، وصراع ضد الجبروت. وهي عنفوان القمم والرمز المشتهى.
ليلى.. لا تعرف شيئاً اسمه النكوص والهرولة والمستحيل، فهي الشمّاء أمام انحسار العهود المرسومة على مياه أوسلو".
وكما اهتمّ الباشا بأدب شربل، هكذا اهتم شربل بأدب الباشا.. فوفاؤهما لبعضهما البعض كان أقوى من غربتهما، والمعروف عن الغربة أنها تقضي على المثل الإنسانية، ولكنها عجزت عن القضاء على وفاء هذين الأديبين المصلوبين على جُلْجُلتيْ هموم الوطن وهموم الغربة. وإليكم ما كتب الباشا في 19/8/1993، إثر صدور الطبعة الثانية من كتابه شربل بعيني ملاّح يبحث عن اللـه:
"عدت إلى المغترب قبل فترة وجيزة، واكتحلت عيناي برؤية الكتاب عن الملاّح الذي يبحث عن اللـه والحقّ، ونبحث عنه كلّنا في هذه المعمورة، وهو في أعماقنا بسمة الحب، نغمة الوفاء، تجليّات قصيدة في موقع غزلي محترم.
الإخراج الجديد جاء رائعاً، ولكنني ما زلت أحبّ ذلك الرسم على الغلاف القديم. وشكراً لك على جمع الكتابين في مؤلّف واحد. فأنت لست على استعداد أن تركن إلى ما يسمّى بالعربيّة: الإسترخاء. وما عودتنا الغربة الاسترخاء، رغم أهل الاسترخاء على كراسيهم، وأهل الاسترضاء يعزفون لهم سمفونيّات خلودهم على ظهر البسيطة. والكتاب الجديد بهذا الإخراج الجديد لا يسمح لنا بأي نظرة نحو الغفوة، وستبقى دفقات الشباب حيّة تدفعنا نحو المزيد من العمل، والحياة عمل، والعمل فنّ، والفن صعب المرتقى، والمرتقى درجاته تصل إلى اللـه. فمهما كرّرت لك شكري على هذه الخطوة فإنني أعتبر نفسي مقصّراً تجاه هذا الوفاء الذي افتقده أهل هذا العصر، ولعل كل عصر يفتقد الوفاء، إلى أن يأتي الشاعر أو النبي أو المفكّر، فيثبت أن الوفاء عنصر حيوي في حياتنا، لكننا في عصر باع أهله الحياة بدريهمات، وظنّوا فتح الشوارع وفاء للشعب، فأكثروا من الجسور، جسور الإسمنت والحديد، ليصلوا إلى كل بيت بسهولة، وأضاعوا جسر الموّدة والوفاء".
إسمحوا لي أن ألتقط أنفاسي بعد هذه الموعظة الرائعة عن الوفاء، وأصرخ: حيّاك اللـه يا باشا وبيّاك. فما من أديب حلّل الوفاء كما حلّلت. وما من إنسان أحسّ به وعايشه كما أحسست وعايشت.
وفي نهاية الرسالة يقول لشربل:
"أرجو أن أسمع وأقرأ ملاحظاتك عن المتنبي يجلو مقلتي نسر.
فما كان من شربل إلاّ أن صاح: شبّيك لبّيك.. قلمي بين يديك. وكتب مقالاً عن الكتاب شكره عليه الباشا بتاريخ 15/10/1993:
"فقد سرّني أنك شاركتني بالفرح عن كتابي المتواضع المتنبي شاعر يجلو مقلتي نسر، شاكراً لك تفضّلك بنشر مقالك عنه في الجريدتين: البيرق والعالـم العربي. وقد أعجبتني أحكامك النقديّة على بساطتها، لكنّها عميقة الهدف، هيّابة لمن هو ذلك الشاعر المتنبي. في تلك البساطة عفويّة قلمك الذي عرف الشاعر والشعر، وجرّب معاناته في ديوان يصدر إثر ديوان. حتى مناجاة علي وأللـه ونقطة زيت، والرب يحمي رعيّته. لا بد وأن لها من القدسيّة ما يشفي الجرح والندب والغربة. وتسألني: أأعجبك المقال؟.. كيف لا يعجبني وقد خطّ بيراعك وقدرتك ومهارتك. الكتابة تكون شعراً أو لا تكون. تكون نثراً أو لا تكون".
تساءلت مليّاً، وأنا أقرأ رسائل الباشا لشربل، لماذا لـم يزر هذا الأديب الكبير أستراليا، رغم الإحتفال التاريخي الذي أقيم له، ورغم منحه جائزة جبران العالميّة؟ وعرفت من بعض الرسائل أن وضع السيّدة نعمة الباشا الصحي، في ذلك الوقت، كان سيّئاً للغاية، ولقد توفّاها اللـه بعد مدّة قصيرة من وصولهما إلى أميركا، لذلك لـم يتمكن الباشا من المجيء إلينا، رغم الدعوة التي تلقّاها من شربل، وهذا ما فهمته من رسالته المرسلة بتاريخ 21/2/1989:
"وكم قرأت في عينيّ أم البنين الدموع والفرح معاً في رسالتك، وأنت تدعوها إلى بيتنا في أستراليا".
وفي اليوم الأول من عام 1992، أرسل الباشا لشربل هذه الرسالة المشحونة بالثورة:
"سررت لأن كتابك الجديد مناجاة علي قد ترجم إلى عدّة لغات، وأتمنى أن يترجم إلى "العربيّة"، فيفهمه قراؤه العرب قبل غيرهم من العجم.
هدفك في الكتاب: المحبة ونشرها، واللقاء باللـه وحده. فهل إلى هذا السبيل نحن سائرون؟.. ألـم تسمع صرخة خليل الكافر لجبران خليل جبران، وهو يصرخ داعياً الربّ بأن يمنح الأرض الحريّة والعدالة؟
سيبقى شرقنا منكوداً بطائفيّة تمزّق، تشتت، تقتل، تفني، تنحني لربّها. وأصبح لكلّ طائفة ربّ وأرباب، فمتى نتخلّص من هذا التعصّب والتزمّت؟.. وما قلت لك كفيل بأن يحيل هذا الصراع إلى مستنقعات ملأى بالمهرّبات. وويل لأمّة تبحث عن سكاكين تمزّق أوصالها، بدلاً من أن تشحذها للدفاع عن وجودها."
ألا تعتقدون مثلي أن رسائل كهذه يجب أن تنشر؟. فواللـه واللـه إنها تحتوي على درر أدبيّة لا تقدّر بثـمن. وأعتقد أن رسائل الباشا إلى شربل تحمل من الألـم والحزن والصدق القوي، أكثر مما تحمله قصائد الخنساء لأخيها صخر، والمتنبي لسيف الدولة الحمداني. وكلّما أردت التوقّف عن لعبتي "أنا أعمى ما بشوف"، كلما وجدت نفسي مشدوداً إلى القراءة أكثر.
عام 1988، أطل على أدبنا المهجري في أستراليا، وللمرّة الأولى، كتاب الأديب السوري الكبير محمد زهير الباشا شربل بعيني ملاّح يبحث عن اللـه، وقد صدرت منه طبعتان، الأولى عام 1988، والثانية عام 1993.
الكتاب أحدث ضجّة إعلاميّة في أستراليا وأميركا ولبنان وسوريا، فكتبت عنه الصحف والمجلاّت اللبنانيّة والسوريّة والمهجرية. وأقيم لمؤلفه أكبر احتفال تكريمي شهدته المهاجر كافّة، وأعني ما أقول، دام يوماً كاملاً، وسمي بثلاثة أسماء خالدة: الأول "يوم محمد زهير الباشا"، والثاني "يوم الأدب المهجري"، امّا المحتفى به فقد أطلق عليه الإسم الثالث "يوم لبنان".
قسّم الباشا دراسته عن شربل إلى فصول عدّة، شرح فيها مراهقة شربل بعيني: شعراً وديمومة، وجنون شربل الذي يبحث عن العقل في ديوانه مجانين، كما غاص في عالـم شربل الداخلي ليلتقط بيديه الجبّارتين قوس قزحه، وليصل إلى استدارة التوهّج في فنّه. أما الإهداء، فكان لتلك "النعمة" التي رافقته على دروب الحياة، وجعلت الوفاء حبّاً ومثالية وحقيقة في ظلّ عينيها.
فمن هو هذا الأديب السوري، المغترب الآن في الولايات الأميركيّة المتحّدة، الذي أهدى لبنان يوماً مخصّصاً له، ضارباً عرض الحائط بكل الأسماء التي أطلقت على ذلك اليوم الأدبي الرائع، فجيّر مجده واسمه للبنان. وهل يحلو للباشا، يومذاك، مجد أو أبهة أو تكريم وشعب لبنان يتذابح على الهويّة.. بالطبع لا؟!.. وصدّقوني أن الباشا قبل أن يكتب في دراسته كلمة واحدة عن شربل، كتب كلاماً كثيراً عن لبنان، ومن هذا الكلام أنشر ما يلي:
"أليس غريباً أن نكتب في تاريخ لبنان وسواحله الدموية مشحونة بالحقد والبغض والكراهية والأوهام، فكثر السماسرة وأدعياء الإخلاص..
هذه الصخرة ـ لبنان ـ يجب أن تقسو على أعدائها.. لا على أبنائها.
وازدادت الصخرة عبودية الإنسان للإنسان، وبعد.. فلا بد من أن يعود لبنان إلى الإعتزاز بتاريخه ومساهمات الحقيقة، دون التخلّي عن نسيان هذا الواقع وبصماته المحفورة في ذاكرة التاريخ.. لا بدّ من أن يعود..".
وها هي أمنية الباشا تتحقّق ويعود لبنان تدريجيّاً إلى سابق مجده وتألّقه، وإلى الإعتزاز بتاريخه.. وقد لا أغالي إذا قلت: إن هذا الوطن الصغير قد علَّم أعداءه درساً لن ينسوه، يوم حرَّر جنوبه بسواعد فتيانه الأبطال.. كما أنه أعطى درساً في التحرير للعديد من الدول العربيّة.
ولكي تتعرّفوا على هذا الأديب السوري المجنون بحبّ لبنان وشعبه، أنقل إليكم بتصرّف بعض المعلومات المنشورة على غلاف الطبعة الثانية من دراسته:
ولد محمد زهير الباشا في دمشق، ولكنه أهدى بيروت أنضر سبع سنوات من عمره، ومن هنا نقدر أن نفهم سبب "جنونه" ببلد الأرز. يحمل إجازة في الآداب من جامعة دمشق ـ قسم اللغة العربيّة. عمل رئيساً للمركز الثقافي العربي في مدينة درعا، ورئيساً لدائرة الرقابة على المصنّفات الفنيّة والإرث الثقافي، ومعاون مدير المركز الثقافي في دمشق. مارس مهنة التدريس في الكويت والجزائر، وكتب "أبجديّة الأسبوع" في الثقافة السوريّة، "ونقطة ضوء من حبر" في مجلّة ليلى المهجريّة التي كان يصدرها شربل.
ذكرت هذا، ليعرف القارىء عمّن أكتب، ومع من أتعامل.. فالباشا سيّد كلمة ورجل موقف، ومن هذه السيادة وهذه الرجولة أعدّ دراسته عن شربل بعيني.. ولأبعد عنكم وعنّي عمليّات الإستشهاد والقراءات الطويلة، سأطلعكم على جملتين تختصران الدراسة بأكملها، وردتا في الصفحة 95، شرط أن تقرأوهما بتأنٍ بالغ:
"في ديوان الشاعر شربل كيف أينعت السنابل؟ يحارب التهمة المهيّأة المتوفّرة لكلّ مواطن.. ولكل مواطن تهمة تتوافق مع حجمه ووزنه وأمواله.."
فهل من كلامٍ بعد هذا الكلام؟.. أترك الجواب لكم.
ورغم شموليّة دراسته عن شعر شربل، لـم يكتفِ الباشا بها، بل راح يواصل التنقيب، وينشر ما ألهمته مخيلته من نقد أو تقريظ في الصحف المهجريّة والعربيّة. وأجزم أن المقالات التي نشرها عن أدب شربل بعيني قبل وبعد صدور الدراسة، لو جمعت، لأعطتنا دراسة "زهيرية" أخرى، تغني أدبنا المهجري بفنٍ نقديٍّ لا يعلى عليه، لغته شامخة، وأسلوبه مدرسة. فلقد تمكّن الباشا من استنباط الخيال الشعري عند شربل ليرمي بين أيدينا الحقيقة المجرّدة.
عام 1987، وقبل صدور الدراسة، كتب الباشا في زاويته الشهيرة "أبجديّة الأسبوع" التي كانت تنشرها الثقافة السوريّة، ما يلي:
"شربل بعيني يثبت لنا في أزجاله أنه في البدء كان الشعر مراهقاً، وكان الوجدان خصباً، والغزل دون مُراهَقَةٍ ومُرَاهِقَةٍ مثل منقار عصفور يحمرّ خجلاً من عندلة جارته، دون أن يقوى على المشاكسة وفعل.. الغناء.
زجله يشعر، يحسو من العتاب، فلا تذبل الآهات، ويفرفح القلب وهو يرسم الحلم على جناح التنورة "الْـ مُشْ لاحِقا تِقْصِير". ويتأوّه من القلوب الحاقدة المنافقة التي تودّ أن تشعل الغزل ليكون رماداً، أو يتخيّله العشّاق سراباً يتفاعل بأعجوبة مع كل صوت، وكأنّه ضحكة الحسّ في اللهفة المتعبة.
والأخطل الصغير وشربل بعيني وكل من عشق الجمال وما زال، وأهل القلم والوتر واللون يذوقون الحبّ ويتذوّقونه مرّتين.. مرّتين".
وعام 1989، وفي جريدة الأمة الأميركيّة ـ العدد 11، كتب الباشا بعد صدور دراسته بعدّة أشهر ما يلي:
"تعلّم الشاعر شربل أن الصبر ليس حزناً وقهراً، فمنحته هذه المواقف آفاقاً جديدة، وأبعد عن نفسه ضغوطاً من ذكريات أليمة، وتطلّع إلى الكلمة الشعريّة يبني من تفاعلاتها شعراً فصيحاً بلغة سليمة طيّعة، ويستلهم من ربى لبنان زجلاً أخضر اشتهر به ميشال طراد، وإيليّا أبو شديد، وغنطوس الراسي وسواهم..
وبقراءة سريعة بين دفتي ديوانه كيف أينعت السنابل؟ نسمع صرخات الشاعر، وكأنها الجرح الخطير والنزيف في ظلمة الليالي وهو يخاطب السادة المحقّقين. فمن قصيدته "إسمعوني جيّداً" نتلمّس كيف سارت نبضات الشاعر وراء الأمل وهي الأمل".
محمد زهير الباشا يبحث عن الأمل، فلا يجده إلاّ بنبضات شعر شربل بعيني، ويتمنّى لو أن كلّ الشعراء كتبوا للناس، لمعاناة الناس، لحزن النّاس، ولأوجاعهم، لتمكّنوا من تحويل هذه الأرض إلى جنّة، ولأرجعوا للشعر أبهته ومجده.. ولكن، وهذا ما يزعج الباشا، نجد أن معظم الشعراء يهذون وهم يكتبون، غير عابئين بمشاعر القرّاء، الذين بدأوا يلعنون الشعر والشعراء، ويبتعدون عن قراءته، ولهذا تحجم معظم دور النشر عن إصدار الدواوين الشعريّة لأن لا قرّاء لها. وما صرخة الباشا عام 1988، في زاويته "أبجديّة الأسبوع"، وهو يناجي الشعر إلاّ دليل ساطع على صحّة ما ذكرت:
"يا شعر، لا تجعلني ناقداً، ولا شاعراً إلاّ بما أحسّ، بما أفكّر. فالنقد اليوم غاطس في مستنقع الرجاء. والرجاء حبل طويل يمتدّ من المطبعة إلى السّحب.. والشعر، اليوم، يمرّ في أسواق الأعراس، والرقص على الأوتار المتقطّعة لا يجدي ولا يمتع.
لا تقل لي يا شعر إنّك سنديانة من كرمة ومن خوابي النواسي ترتوي. لا تتحدّث يا شعر عن ذاتك وأنت ضائع لا تفرّق بين خفقة صدق، وإبداع تجربة، ومعاناة بحّار تائه في أمواج الظلمات، كالشاعر شربل بعيني، يبحث عن اللـه.
يا شعر، متى تستيقظ من كهف التحنيط، لتشتري لبناً فيعرفك الناس. أنت ميت بثوب حي!!".
ومن هذه المناجاة نقدر أن نفهم لماذا كتب الباشا دراسته الخالدة شربل بعيني ملاّح يبحث عن اللـه، فالشعر بنظره إذا لـم يستيقظ من كهف التحنيط، ويشتري بدراهمه خبزاً ولبناً كي يعرفه الناس، يبقى ثرثرة فارغة، يُضحك القارىء ويبلبل أفكاره، بدلاً من أن يأخذ بيده كي يقطع نهر الحياة الجارف من ضفّة الخنوع والإستعباد إلى ضفّة الحريّة والعيش الكريم.
وأعتقد جازماً أن الباشا ما كان ليكتب دراسته الشهيرة عن شربل، لو لـم يجد في أشعاره بلسماً لجراحه، ومُتنفّساً لبراكينه النفسيّة والأدبيّة.. أو بكلام أوضح، لو لـم يجده على صورته ومثاله: ثورة وعنفواناً.
وهذا ما اكتشفه الصحفي جوزاف بو ملحم قبلي بسنوات حين قال في يوم "محمد زهير الباشا":
"لا أدري لماذا أطلقت حكمي باكراً على دراسة الاستاذ محمد زهير الباشا، فقلت للشاعر شربل بعيني: يبدو لي أن الباشا يكتب عن ذاته ومأساته، وإن كان يستشهد بأشعارك".
وصدّقوني أن عظمة الأسلوب النقدي عند الباشا تكمن في تسخيره كل ما يقع عليه نظره، وما يستسيغه فكره، من أجل دعم حريّة أبناء شعبه. فالثورة التي تتفجّر بداخله ستصبح بركاناً هادراً متى انضمت إليها ثورات شعراء وأدباء آخرين، كشربل بعيني، من أجل إنقاذ الإنسان العربي من أخطبوط قاتل، يمتص دمه، ويرميه على قارعة الطريق، دون أن يتجاسر جارٌ أو صديق.. ويودعه الثرى.
الباشا ثائر مجروح، لـم تتمكن منظّمة حقوق الإنسان من تضميد جراحه، وشربل شاعر ثائر، فأين العجب إذا التقيا، وتسامرا، وتحابّا، وتعاضدا، بغية إنقاذ إنساننا العربي من أخطبوطه القاتل؟
عام 1990، نشر الباشا دراستين طويلتين عن ديوانيْ شربل معزوفة حب وأحباب، الأولى في الثقافة السورية الصادرة في 25/8/1990، والثانية في البيرق المهجريّة ـ العدد 247، فكتب في الأولى:
"الحب عند شربل ترحال وسفر، يود أن يستمسك بكل اللحظات الهانئة في غزله، ويطلق عليها لحظات التوازن الذاتي. لكنه مع الحب يترك للذات عنانها، فلا تعرف معنى للتوازن المستقل، وهو يعزف اللحن الأبدي على قيثارة هواه، فجاء غزله عزفاً، وعزفه غزلاً مباحاً يتهرّب به عن طريق العزف عن إباحة النبضات الصارخة بالجسد والشهوة.. ويحاول ستر النبضات بحرف، بغمزة، بهمزة، وقد تفجّرت لديه الطاقات المبدعة، فجسّد حساسيته على أرض الغربة ديواناً إثر ديوان، بل قل غزلاً ملتزماً بالحب، وحبّاً ملتزماً بمن تغنّي معه، وتنشد معه كل آهات الحبّ، فكانت معزوفة حب ابتهالاً بالدهشة يشحذ بها الذكريات بحروف زجليّة، فهو لا ينسى أن لا ينسى".
وقال في الثانية:
"المودة بين الأخيار والأصفياء متينة عراها. الوفاء بعض من سماتها. وليس سهلاً أن يمتلك الشاعر أسرار النفس البشريّة، ويصل بها إلى إدراك مفاتيحها. فكيف إذا كان لا يجد سوى الحبّ نبراساً في هذه النفس. والشاعر شربل امتلك القدرة على النظرة الشموليّة في هذا الكون، وامتلك مفاتيح النفس البشريّة، فلا كون دون حب، ولا شعر دون أحباب، ولغة الحب والأحباب لا تفرّقها لغة السياسة، وكأن السياسة تحرّم الصدق، وتمنع الحبّ، وتصنع للنفس مفاتيح مزيّفة".
صدقت يا ابن بلدي، يا ابن الباشا، فلا كون دون حبّ، ولا شعر دون أحباب، واسمح لي أن أضيف إلى كلامك الرائع عبارة مستوحاة مما قرأت لك، ومفادها أن لا نقد دون محبّة أيضاً. وهل أسمى من محبّتك؟.. هل أكبر من قلبك؟.. وهل أشرف من قلمك؟.. بالطبع لا، فلقد منحتك الحياة قوّة وخبرة وعظمة أنّى لأحد غيرك امتلاكها.
والآن أتكركم مع مختارات من كلمة محمد زهير الباشا التي ألقاها المربي المرحوم فؤاد نمّور نيابة عنه، في "يومه" الأدبي الخالد:
"أيها الحفل الكريم..
اسمحوا لي أن أتطفّل على برنامجكم بهذه الفقرة، بكلمة هي "أنتم ونحن وكلّنا". أنتم بالحضور، وأنتم بالغياب، وبموافقتكم على السماح لي بنسبة اعتدنا على تردادها، وهي 99،99، نسبة هي السحر، هي الحريّة المستباحة، ونسوا أن الحريّة هي الرب. بهذا علّمني أخي شربل.. حرّك فيَّ مواجع المراهقة، واهتاج الشجن، وأينعت السنابل في فرحة العمر، والعمر مسحة من نقطة زيت، ونسينا أن الربّ وحده، ولمّا كنا معه، كان معنا في فرحة الكلمة، والكلمة عمر..
نحن على اليابسة، وعلى جزيرة الإعتقالات، صرنا في سيدني في جزيرة الأحرار، نحن الهاربون بجلودنا، وقد تلوّنت وزخرفت بالإيديولوجيّات المذهبيّة الحالمة. نحن مشرّدون.. ندّعي ممارسة الديمقراطيّات. نحن في أقاصينا نروي أن الجبن ليس منّا سماته. ويأتينا الظلم كالفأس الحادّة بيد جار، بيد مثقّف، بيد أخ قرأ غير ما قرأت.
والأرزة سجينة، تنسج قصيدة الدهر على جبين الأتقياء الذين اتقوا البرد بأنفاسهم، ولـم يعرفوا بعد من يحرق أغصان الياسمين في كل عرس. من يجعل العرس بطاقة طائرة هاربة إلى باريس، موغلة بين النجوم إلى سيدني، مبحرة نحو الأطلسي وأرض كولومبس. والمهاجرون بلا أنصار.. في صلاواتهم نسوا كأس الخمرة، ذلك أن العرس ـ الهروب ـ في أعماقنا صلاة مشتهاة. هروب من جحيم الوطن إلى جحيم الغربة.
إسمعني أيّها الربّ يوم أقول لأخي، لظلّي: تعارضني أقبلك، تخاصمني أرحمك.. تنظر إليَّ أحبك.. تقع على الأرض أحميك بجسدي من سكاكين أصدقائك.
طوبى لمن آمن بي ولـم يرني.. يومها تزهر الأرض، تفرح الأرض وتزهو. صنين، يومها، يصرخ في أوجه الرعود. يومها، يوم لبنان، يوم نسير جميعنا فوق سطح الماء، نبرىء الأبرص والأعمى. يومها، نحيي الموتى. فملاّحنا شربل بعيني يبحث عن اللـه، وكلنا نبحث عن اللـه في أعماقنا.. فتفرح الأفئدة بيوم لبنان، يوم التحرّر والحريّة، ولعلّي أعثر على ظلّ تحت فرع أرزة وأتلو أدعيتي
**
لقد استشهدت، من قبل، بكلمات خالدة قالها أستاذ التاريخ في الجامعة الأميركيّة في القاهرة الدكتور رفعت السعيد.. دون أن أغوص في تفاصيل لقاءاته بشربل بعيني، أو أن أنبش رسائله المودعة في أرشيفه الملآن بالدرر التاريخيّة.. والمنظّم بطريقة تعجز عنها الدول.
ومقصدي من كل ذلك، هو أن أخصص له فصلاً كاملاً، نظراً لأهميّته الأدبيّة والإعلاميّة والسياسية في مصر. فهو، بالإضافة إلى وظيفته السابقة، رئيس مجلس إدارة جريدة الأهالي، وأمين عام حزب التجمع الوطني التقدمي الوحدوي.. وعضو مجلس الشورى المصري.. وصاحب مؤلفات أدبيّة وتاريخيّة لا حصر لها.
عام 1993، منحت رابطة إحياء التراث العربي الدكتور رفعت السعيد جائزة جبران العالميّة، فما كان منه إلاّ أن بادلنا الإعجاب بالمثل، فحمل حقائبه وحطّ بيننا.
إثر وصوله إلى مطار سيدني، اجتمعت المعارضة المصريّة لاستقباله، كما اجتمع موظفو السلك الدبلوماسي المصري في أستراليا، ولـم يغب منهم أحد على ما أعتقد. هناك، بدأت المنافسة الشديدة بينهم. كل طرف يريد أن يأخذ الدكتور السعيد لينام عنده، أو ليكون مسؤولاً عن زيارته التاريخيّة تلك. فساد هرج ومرج، وعلا الصراخ حتى أصبح من الصعب أن يسمع الواحد صوته. فإذا بصوت جهوري يرتفع عالياً، ويطغي على كل الأصوات، ويطلب من الجميع الصمت.. بعدها قال للدكتور رفعت:
ـ أنت ضيف الجالية العربيّة في أستراليا، وكما ترى فالجميع يحبّونك.. ولكن القرار الأخير يعود لك.. وكما تقرّر أنت ننفّذ نحن.. شاء من شاء وأبى من أبى.. مع من تريد أن تذهب يا دكتور؟.
فاختار الدكتور رفعت الذهاب مع أعضاء السلك الدبلوماسي المصري، لأسباب ذكرها لنا ولا داعي لذكرها الآن، شرط أن يقيم في أحد فنادق سيدني الفخمة، وعلى حسابه الخاص بالطبع.
أخبرني هذه الحادثة مَن كان وراء زيارة رفعت إلى سيدني، حضرة الزميل أنطوني ولسن، يوم كنّا نتلاقى معاً في اجتماعات رابطة إحياء التراث العربي، قبل تقديم استقالتينا من عضويتها لأسباب شخصيّة قد أفصح عنها في المستقبل القريب بإذن اللـه.
صاحب ذلك الصوت الجهوري، والموقف الصحيح، الذي أوقع الرهبة في قلوب المتخاصمين على استضافة الدكتور السعيد، كان شربل بعيني. فأعجب رفعت، منذ ذلك الحين، بشجاعته، وتوطّدت بينهما أواصر صداقة حميمة أقرب ما تكون إلى الوله!.. وها هو يذكّره، إثر وصوله إلى القاهرة، بتلك الحادثة:
"يا شربل
محبّتي لك ولكم بلا حدود.
زرت بلاداً كثيرة. جبت العالـم طولاً وعرضاً، لكن سيدني تعلّقت بالقلب، سرت في شراييني ورفضت أن تغادر:
وما حبّ الديار شغفنَ قلبي
ولكن حب من سكن الديارا
فما حيلتي!!.. ولـم أزل أستعيد ذكرى أيام حلوة، وصدرك الفتيّ يتحدّى العالـم، مقتحماً كل من أمامك، وأنا أحبّ المقتحمين.
أتمنّى أن تكونوا جميعاً بخير، ومستمتعين بحياة حلوة في بلد حلو، حلو بكم أنتم.
يا سيّدي.. أحوالي أنا لا بأس بها. ولكنّ مناكفتي للمتأسلمين تتصاعد، وهم مغتاظون، وكلّما ازدادوا غيظاً امتلأ القلب بسعادة غريبة. هل هي نزعة شريرة عندي؟.. أم هو العشق للوطن والناس؟.. أم هو العهد الذي قطعته على نفسي أمامك؟.. لـم أقله لك.. لـم أحوّله إلى كلمات.. ولكن عندما تأمّلت ملامحك الشجيّة، وبسمتك الصاخبة، وصخبك المتّزن، وتحدّيك المترفّع عن كل ما يغري.. عاهدت النفس أن أواصل لأكون مثلك.
مع محبّتي.. أسكبها تحت أقدامكم انتظاراً ليوم آتي فيه لأرتمي في أحضانك وأنال بركتك"
والملفت حقّاً، أن جميع رسائل الدكتور رفعت السعيد المرسلة لشربل بعيني بدون تواريخ.. وكأن أستاذ التاريخ المتمرّس لا يؤمن بتأريخ رسائله، حتى لا يكون بينه وبين شربل فاصل زمني.
وكما ذكرت سابقاً، فالمحبّة التي جمعت رفعت بشربل تخطّت حدودها، تماماً كمحبّة نزار قبّاني لشربل، وأصبحت ولهاً، وها هو يعبّر عن ولهه الغامر، في هذه الرسالة المقتضبة السريعة، كما لـم يعبّر صديق من قبل:
"العزيز شربل..
محبّتي بغير حدود.. وكلّها لا تكفي.. إلى درجة أن (ليلاك) سوف تشعر بالغيرة لو عرفت وقاست ـ بمعنى القياس وليس القسوة ـ مقياس هذه المحبّة".
ألـم أقل لكم، أن الجميع اعترفوا بمحبة شربل بعيني لهم، وبمحبّتهم لشربل بعيني، فأرجو أن لا يلومني أحد إذا جاهرت بمحبّتي للأمير، ودافعت عن تاجه، وكرّمته كما كرّم العديد من كبار أمتّه، ومعظم زملائه في الغربة.
ورغـم جهل الدكتور رفعت باللهجة اللبنانيّة، كونه مصريّاً، إلاّ أنه اصطحب معه في الطائرة قصيدة شربل بعيني الشهيرة قرف، التي وصفها البعض (بالشعر المرحاضي)، لأنهم لـم يفهموا معناها، ولـم يلتقطوا أبعادها الإنسانيّة والتثقيفيّة والإجتماعيّة، وإن كتبت بلسانهم. وها هو الدكتور السعيد يأتي على ذكرها في هذه الرسالة:
"يا شربل..
أفصح يا فتى.. ماذا فعلتم؟!.. الأيام التي قضيتها معكم غيّرتني، نقلت وجداني من مكان لآخر. عندما تواريتم في المطار عن ناظريّ، أحسست أنني أترك الوطن متّجهاً إلى الغربة. فقلوبكم وعواطفكم نسجت وطناً حبيباً وحانياً. لست أبالغ، لقد أصبح الأمر مختلطاً!.. هل تصنع المودّة هذا القدر من الإنتقال الوجداني؟
لقد غيّرتموني، وأشعلتم عواطفي، وهي التي اعتادت على الحياد الصّارم، وأعدتـم إليها دفء الطفولة الحانية المتخلّصة من تراكمات الفعل القاسي القادر على أن يثلـم، حد السكّين، العواطف، فيجعلها عاجزة عن أن تقطع حواجز النفس لتنطلق.
فماذا فعلتم بي؟.. في الأفلام المصرية تصرخ الفتاة التي ضحكوا عليها قائلة: "شرّبوني حاجة صفراء.. وسكرت". فماذا سقيتموني حتى أسكر بعطر محبّتكم، وأظل معلّقاً بسمائكم، مشتاقاً إلى جلساتكم، وإلى جرس ضحكاتكم.
اصطحبت معي في الطّائرة "القرف". أي عنوان هذا؟ ذكّرني برواية لي إسمها "البصقة"، تعهّد النّاشر أن يوزّع معها مناديل ورقيّة.
لكن "القرف" يتجسّد داخلنا عندما تضع أيدينا عليه. ببساطة، تمدّ يدك، تسحب يدنا اللاهيّة أو المتلاهيّة، وتضعها في نار الحقيقة. تحرق صمتنا بالحقيقة. فواصل يا عزيزي إحراقنا.. فنحن نستحقّ أكثـر حتّى نتحرّك، ونقول ما يجب أن يقال، ونفعل ما يجب أن يفعل.
أحتاج إلى تواصلك، فاكتب. أكتب شعراً أو نثراً، أو حتى إبعث داخل مغلّف واحدة من ضحكاتك المنطلقة، التي تبدو وكأنك قد فتحت أمامها كل بوّابات قلبك".
كلام صادق كهذا، يعيدنا إلى عبارات صادقة أيضاً، خطّها قلـم مداده المجد، ونبراسه خدمة مغتربيه، وتكريم مبدعيه، إنه قلـم الأديب الرئيس جوزيف حايك القائل: "إن الأستاذ بعيني قلّده المفكّرون والأدباء والشعراء وأسياد التراث الحضاري والفكري، ومنهم الحكومة اللبنانيّة، أكثر من 20 من الأوسمة والميداليّات المذهّبة عربون إجلال وإكبار لمستواه الأدبي الرفيع".
وصدّقوني أن كل الأوسمة المذهّبة التي حصل عليها شاعرنا ما كانت لتأتي إليه لولا شهادات هؤلاء العظماء الذين التقاهـم، والذين اعترفوا جهاراً بمستواه الأدبي الخارق، وأن لا أحد مثله، منذ عهد الرابطة القلميّة، أعاد للأدب العربي عزّه، في عالـم الإغتراب.
ما أن علـم الدكتور رفعت السعيد باختيار صديقه شربل بعيني "أمير الأدباء اللبنانيين في عالـم الإنتشار" من قبل المجلس القاري للجامعة اللبنانية الثقافيّة في العالـم، الذي يرأسه الأديب المهجري المعروف جوزيف حايك، حتى أرسل له فاكساً مستعجلاً يقول فيه:
" الأخ العزيز شربل بعيني
لـم يضف المجلس القاري للجامعة الثقافيّة في العالـم أكثـر من أنّه اعترف بواقع واقعيّ، معترف به من جميع من يعرفون فضلك وإبداعك وشموخك.
متمنيّاً لك دوام العطاء.. تقبّل تحيّتي ومحبّتي لك وللعزيزة ليلى.. وإلى اللقاء".
القاهرة ـ 29/11/2000
وهذه هي المرّة الأولى التي ننشر بها تاريخ رسالة وصلت منه، كونها وصلت عن طريق الفاكس، والفاكس يؤرّخ تلقائياً.
وكما نفهم من رسالته، فإن هذا الرجل العظيـم، الذي تحمي حياته الحكومة المصريّة على مدار الساعة، يعترف بفضل صديقه شربل بعيني الأدبي والفكري، رغـم بعد المسافة بينهما. بينـما نجد أن بعض الأدباء والشعراء المقيمين بيننا، لا ينكرون الفضل فحسب، بل يحاولون التخلّص من صاحبه بأيّة طريقة كانت.
صحيح أن عددهم قليل، ولكنهم يشوّهون صورتنا في الخارج، تلك الصورة المشرقة التي حاول شربل أن يبرزها أمام أعين الجميع. فإذا نجح شاعر منّا نجح هو، وإذا أبدع أديب مهجري أبدع هو.. وما مطالبته المستمرّة لرابطة إحياء التراث العربي، يوم كان أمين سرّها، بإعطاء الجبرانيين القدماء أحقيّة اختيار الجبرانيين الجدد، إلاّ دليل واضح على اهتمامه بتوصيل أدبنا إلى الخارج. ولكن أعضاء الرابطة، وأنا واحد منهم، لـم يفهموا قصده في ذلك الوقت، فصوّتوا ضد مشروعه، ويا ليتنا لـم نفعل. إذ أنّ مشروعاً كهذا يزيح عن الرابطة مسؤوليّة اختيار الجبرانيين، وكم أوقعته هذه المسؤوليّة بمشاكل عديدة مع أصدقائه الطامعين بالجائزة.. وفي نفس الوقت تتفاعل الرابطة سنوياً مع عباقرة كرّمتهم، ولكن السنوات الطويلة وهموم الحياة أبعدتهم عنها، وأبعدتها عنهم. ولكانت ضمّتهم إليها من حيث لا يدرون، فكبرت بهم وكبروا بها، قبل أن يصبحوا ذكرى، أو قبل أن تمتد يد المزاجيّة وتلغي أحدهم، كي لا أقول نصفهم، لا سمح اللـه.
وها هو الدكتور رفعت السعيد يوصي صديقه شربل بنقل محبّته لجميع أعضاء الرابطة، وإن كان قد سمّى البعض منهم.. تماماً كما أوصاه نزار قبّاني، وعصام حدّاد، ومحمد الشرفي، وعبد الوهّاب البيّاتي، ومحمد زهير الباشا ونعمان حرب، وجورج شدياق، وعبد اللطيف اليونس وغيرهم. كلّهم أحبّوا الرابطة، وكلّهم أصبحوا ذكريات.. ولهذا أعترف بندمي لعدم تصويتي لصالح مشروع شربل الريادي. ولنقرأ معاً وصيّة حبيبنا الدكتور رفعت لشربل:
"هل أطلب منك شيئاً؟ طبعاً لن أستطيع الكتابة للجميع، حتى العناوين ليست عندي، فابعث بمحبّتي وإعجابي وتقديري وحبّي للأحبّاء فؤاد نمّور، وكامل المر، وإيلي ناصيف.. هم وحريمهم وأولادهم.. دفء مودتهم ما زال وسيظل يربكني".
عندما خسرت الأمة العربيّة شاعرها الأكبر نزار قبّاني، قرّر شربل أن يخلّد ذكراه بعدد خاص من مجلة ليلى التي يملكها، فأرسل له الدكتور رفعت كلمة رائعة هي "بعض من دين واجب الأداء.. لنزار ولك" على حد تعبيره. وإليكم بعض ما كتب:
".. ويذهب نزار قبّاني، فهل يتبقّى لنا شيء من شعر أو فنّ؟!
يذهب الذي استطاع أن يطوّع اللغة، وأن يجعل من الكلمات أنغاماً، ومن الآهات ألحاناً.
يذهب الذي قال فسكت الجميع، وسكت فلـم يترك مجالاً لأي قول ولأي شعر.."
ومن يعتقد أنني شذَذت عن الموضوع الرئيسي، ودخلت في موضوع آخر، أخبره أنني ما نشرت رثاء رفعت لنزار إلاّ لأنشر ما جاء قبله من وفاء، قل مثيله، لشربل. فالكلمة التي أرسلها لمجلّة ليلى هي بعض من دين واجب الأداء لنزار ولشربل.. أي أنها نقطة صغيرة من بحر وفاء هذا الرجل العربي المثقل بالتواضع، القابض على زمام الأمور السياسية في مصر، والغارق حتّى أذنيه في القراءة والكتابة. فلقد أخبرني شربل إثر رجوعه من القاهرة، بعد لقائه برفعت، أن هذا الأخير لا يضيّع دقيقة واحدة بدون قراءة، لذلك تجد سيّارته أشبه ما تكون بمكتبة عامّة. وأين العجب في ذلك؟.. وقد اعترف دكتورنا السعيد بإحدى رسائله لشربل أنّه حمل معه في الطائرة ديوانه قرف.. ومن يدري فقد يكون قد حمل معه دزينة كتب أخرى لـم يفصح عنها، وحوّل الطائرة أيضاً إلى مكتبة عامّة. العلـم عند اللـه.
لقد زار الدكتور رفعت السعيد أستراليا عدّة زيارات خاطفة، ورغم ضيق وقته، كان يعطي شربل حصّة الأسد، المهم أن يراه، أن يدردش معه، وأن يصيح بلهجته المصريّة المحبّبة، قبل دخول المنزل: إحنا هنا يا شربل.. فين إنتَ يا وادّ؟
وما أن يعود لمصر، حتى تطل إحدى رسائله، ونار الإشتياق تتأجّج في كل حرف منها، فلنقرأ ما يقول:
"يا شربل.. هل أقول وحشتني، أم أقول ماذا؟.. وقد انتفى كل قول وعجز عن التعبير. أم هل أقول شكراً وقد غمرتني بما لا يمكن أن تشكره كلمات؟!
أم أقول يا بختك.. فقد اخترت أجمل وأرق نساء الأرض شريكة ورفيقة وقرّة عين؟
أم أقول إنني مشتاق.. عاجز عن الاستقرار هنا بارتياح بعد كلّ ما أحدثته في سيدني وملبورن من حنان وحنين؟
أرسلت لك رسالة سابقة هل وصلت؟ لكن ها أنا ألاحقك حتى لا تشكو من بريد مصر أو من متلقّي بريدها.
تحيّاتي إلى ليلى، وخالص شكري وشوقي.. كذلك الوالدة.. قل لها لـم أرَ حماة تحب زوجة إبنها كما تفعل. لقد انتهزت فرصة اختلائي بها لتعرب لي عن حبّ، بل ما هو أكثر من حبّ لليلى.. يا بختها.
أشواقي بلا حدود.. وكذلك محبّتي وإلى اللقاء".
بربكم، أليس رفعت السعيد مدرسة بالحب والوفاء والتواضع؟.. فلماذا لا نقتدي به، كي نقطف المجد في غربة لا ترينا سوى السراب؟.
رفعت السعيد، الباحث التاريخي، والمناضل الوطني الذي لـم يبقَ سجن في مصر إلاّ ودخله.. وقد يكون أصغر مناضل بالتاريخ العالمي دخل سجناً ولـم يحلق ذقنه بعد.. يوصينا بالمحبّة، تماماً كالناصري.. فلماذا لا نتعظ؟ ولماذا لا نتعلّم من الكبار كيفيّة التواضع، وأننا بالمحبّة وحدها نتمكّن من تحويل صحراء غربتنا إلى حديقة غنّاء؟..
رفعت السعيد جنّد حياته وقلمه للدفاع عن الحقّ.. وشربل بعيني، كما قال الأديب جوزيف حايك، "جنّد حياته وقلمه لتربية الأجيال، وأغنى المكتبات العامّة بأدبه ومؤلّفاته".
أطال اللـه بعمر رفعت وجوزيف وشربل ليظلّوا قدوة لأجيالنا المقيمة والمغتربة
**
عام 1987، وفي المربد الشعري ببغداد، إلتقى شربل بعيني بأحد عمالقة الشعر العربي في العصر الحديث المرحوم عبد الوهّاب البيّاتي. وفور عودته من العراق أخبرنا في زاوية "قذائف ورد"، التي كان يكتبها أسبوعيّاً في النهار، قصّة لقائه بالبيّاتي، فقال بتاريخ 17/12/1987:
"كنت أجلس وحيداً في الباص، أمام فندق الشيراتون، أنتظر إقلاعه للذهاب إلى قاعة الرشيد الكبرى لألقي قصيدتي "أرض العراق .. أتيتك"، وفجأة صعد إليه رجل خمسيني يكلل الشيب مفرقيه، وجلس بجانبي وهو يبتسم لي، فقلت له بعد أن أذهلني وقاره:
ـ أللـه بالخير.. شربل بعيني من أستراليا.
ـ يا مرحبا.. عبد الوهّاب البيّاتي من العراق.
ـ أنت عبد الوهّاب البيّاتي.. أللـه كـم أنا مشتاق لرؤيتك والتحدث إليك.. وها أنت تجلس بقربي على أهون سبيل.
وبعد أخذ ورد، قال له شربل:
ـ على الأمّة العربيّة واجب تكريمك، فلماذا كل هذا التأخير؟
ـ (........)
ـ سأرسل لك ما سأكتبه عنك في النهار الأوسترالي.
ـ ولمن هذه الصحيفة؟
ـ للأستاذ بطرس عنداري..
ـ إذن توجد نشاطات أدبية في أستراليا؟
ـ هناك رابطة إحياء التراث العربي التي توزّع "جائزة جبران العالميّة" كل عام، وهي تقيم الندوات الشهريّة لدراسة الأدب المقيم، ولتشجيع الأدب المهجري أيضاً..
ـ عظيم.. ها قد وصلنا"..
عبد الوهّاب البيّاتي يقول: ها قد وصلنا.. أي أنه أحسّ، ومن اللقاء الأول بشربل، أن هذا الرجل لا يلقي الكلام على عواهنه، بل أنه سيعمل من أجل تكريمه في أستراليا. وهذا ما فعله شربل حال وصوله إلى بلاد الكنغر. ولنقرأ معاً رسالته إلى البيّاتي المؤرّخة في السادس عشر من آذار 1988:
"حضرة الشاعر العربي الكبير الأستاذ عبد الوهّاب البيّاتي المحترم
تحيّة أدبيّة صادقة وبعد،
لقد استلمت كتبك ببهجة لا توصف، وأطلعت عليها رئيس رابطة إحياء التراث العربي في أستراليا الاستاذ كامل المر، فأعجب بها كثيراً، وقرّر أن تدخل برنامج الرابطة لهذه السنة.
كما أن الدكتورة سمر العطّار بدأت بتدريس أدبك في جامعة سيدني، وهذا بالطبع ما يسرّني أنا، لأن عطاءك الشعري لا يمكن أن نقف حياله مكتوفي الأيدي، خاصّة وأننا نعيش الحريّة كاملة في أستراليا، وهذه هي النعمة الوحيدة التي حصلنا عليها في غربتنا.
شاعري الكبير.. أعرف تماماً أنك عشت في لبنان مدة من الزمن، وأنك تفهم لهجتنا العاميّة، لذلك تجرّأت وأرسلت لك مجموعة من دواويني المنشورة باللهجة اللبنانية".
وفي الرابع عشر من شهر نيسان 1988، أرسل البيّاتي هذه الرسالة لشربل:
"الأخ العزيز الشاعر الأستاذ شربل بعيني
تحيّاتي ومحبتي.. وصلتني رسالتك المؤرخة 16/3/1988، قبل أيام قليلة، ومعها مجموعة من مؤلفاتك الشعريّة، وبعض ما كتب عنك، وقصاصة من جريدة صدى لبنان الصادرة في سيدني.
شكراً على مشاعرك الطيّبة وهداياك التي تؤكّد نشاطك الشعري العميم في ديار الغربة، ومحاولاتك التغلّب على الغربة بالكتابة التي هي نعمة نادرة. توقّفت كثيراً عند رباعيّتك الرائعة:
سكران وحدي بغربتي سكران
ومسكّر بوابي بوجّ الناس
بحاكي كراسي البيت والحيطان
وبصير إتخانق أنا والكاس
تحيّاتي إلى الأستاذ كامل المر رئيس رابطة إحياء التراث العربي في أستراليا، وإلى الدكتورة سمر العطّار. مع شكري وحبّي. متمنيّاً لك مزيداً من العافية والنشاط الشعري".
وبعد أشهر قليلة، أي في أواخر حزيران 1988، أقامت رابطة إحياء التراث العربي ندوة تكريميّة للشاعر عبد الوهّاب البيّاتي، اشترك بها الاستاذ كامل المر، الدكتورة سمر العطار، الاستاذ عصمت الأيوبي، المربي فؤاد نمور، وشربل بعيني الذي ألقى رائعته "البيّاتي.. الحلم الراجع"، التي قالت عنها جريدة القبس الكويتية الصادرة بتاريخ 13 أيلول 1988 بأنها استقراء لأعمال البيّاتي الشعرية.. وإليكم التعليق:
"أما قصيدة الشاعر اللبناني شربل بعيني المكتوبة باللغة المحكيّة، ففيها استقراء لأعمال البيّاتي الشعريّة والنفاذ من خلالها إلى وحدة الشاعر وغربته بين عبيد المال والباحثين عن الذهب في دكاكين السياسة والأدب، كما تتحدّث القصيدة عن أخوّة الشعراء الحقيقيين، وأن مجد الشاعر الحقيقي، هي مملكة الشعر المتحصّنة ضد الموت والتعاسة والترهات التي تمزّق القلب".
أما البيّاتي فقد قال في رسالة أرسلها لشربل بتاريخ 14/9/1988:
"وقد قرأت أول ما قرأت قصيدتك الرائعة (البيّاتي.. الحلم الراجع)، وأنتظر الآن شريط الفيديو لكي أستمع إليها بصوتك. لا أعرف كيف أشكرك وأشكر الأساتذة: الدكتورة سمر العطّار، والاستاذ كامل المر رئيس رابطة إحياء التراث العربي، والأستاذ فؤاد نمور، والاستاذ عصمت الأيّوبي".
وبما أن الدكتورة سمر العطّار من القلائل الذين يعترفون بالفضل، وبالتواصل الأدبي، فلقد أرسلت لشربل رسالة بتاريخ 17 حزيران 1988، تشكره فيها على إعارته لها كتب البيّاتي. فلنقرأ بعض المقاطع من رسالة هذه الأديبة العظيمة:
"عزيزي شربل:
ألف شكر على إعارتك لي كتب البيّاتي. ماذا أفعل من دونك؟؟
هل تعرف أحداً يملك أشعار في المنفى، وتجربتي الشعريّة؟ الكتاب الأوّل ينفعني لأنني سأتحدّث عن موضوع النفي في شعر البيّاتي، والثاني، أعتقد أنه سيرة ذاتية للشاعر، وإن كنت لست متأكّدة.
على كل حال لن يكون موضوعي كاملاً، لأنني لـم أطلع على كل ما كتبه البيّاتي، وكل ما كتب عنه".
وبعد أسبوعين، أي في 4/10/1988، استلم شربل رسالة أخرى من البيّاتي يقول فيها:
"الصديق العزيز الشاعر المبدع الاستاذ شربل بعيني المحترم.
تحياتي ومحبتي.. وصلني بالأمس كتاب مشوار مع شربل بعيني للأستاذ كامل المر، وبدأت بقراءته، وقد سرّني وأفرحني أن شاعريتك تنال مثل هذا الإهتمام الذي تستحقّه (شاعراً وإنساناً)، وأن مشوار الاستاذ كامل المر معك ومع شعرك كان شهادة عادلة إنسانيّة في زمن كثر فيه المزوّرون والأدعياء والمزيّفون.
قرأت الحاشية التي كتبتها في حاشية (الفوتوكوبي) لمقالة الدكتورة سمر العطّار المنشورة في الدستور.. وأقول لك، ايّها الصديق الرائع، إن ندوتكم كانت تمثّل ذروة الموقف الأدبي والإنساني في تكريم الثقافة العربيّة، وذروة الموقف الوطني التقدّمي في وجوه صنّاع الظلام.
كتبت إليك قبل هذه الرسالة رسالتين: الأولى شكرتك فيها على إرسال الصحف المهجريّة، والثانية: أرسلت لك فيها صورة عن المقالة التي كتبها أحد الأصدقاء منشورة في جريدة القبس في طبعتها الدوليّة، وهي كافية للرد على السؤال (لماذا....؟)".
رسائل البيّاتي إلى شربل بعيني كثيرة، لا مجال لنشرها الآن، ولكنني سأكتفي بالقليل منها ولسان حالي يردّد: حرام أن تبقى هذه الرسائل محجوبة عن أعين القراء العرب.. وأعتقد أن شربل بعيني قد ارتكب جريمة كبرى، من حيث لا يدري، لأنه أبقاها في أرشيفه، كما أبقى رسائل الأخرين، دون أن يطلقها في النور.
وهل أجمل من هذه الرسالة المعبّرة التي أرسلها البيّاتي، بتاريخ 24/10/1988، من مدريد، يوم كان موظّفاً في السفارة العراقيّة، لصديقه العزيز "الشاعر المبدع شربل بعيني"، وفيها اعتراف صريح منه بشاعرية شربل بعيني الفذّة:
"الصديق العزيز الشاعر المبدع الأستاذ شربل بعيني المحترم
تحيّاتي وموّدتي.. وصلتني رسالتك المؤرخة 7/10/1988، ووصلني كذلك شريط الفيديو مع رسالة موقّعة من الأستاذ كامل المرّ والأستاذ الأيّوبي، فشكراً لك ولهما وللرابطة على تشريفي وتكريمي بمنحي "جـائزة جبـران الأدبيّة العالميّة" لعام 1988.
استمعت إلى شريط الفيديو، وبخاصة إلى قصيدتك الرائعة، بعد أن كنت قد قرأتها مرّات عديدة، ولقد ازداد إعجابي بعد أن استطعت من خلال إلقائك الخلاّب المثير المؤثر العميق الوصول إلى الضفاف الشعريّة الإنسانيّة التي تكتنز بها القصيدة، والتي تنطوي على ألـم ثوري عاصف.
إنّك شاعر حقيقي، وصوتك جزء لا يتجزّأ من شاعريتك الفذّة. أكرّر شكري وتقديري ومحبّتي".
لقد اعترف نزار قبّاني في إحدى رسائله، أن شربل بعيني قرأ كلمته أحسن منه، في حفل تسليم جائزة جبران، وكان نجم الإحتفال. وها هو البيّاتي يعترف أيضاً أنه استطاع من خلال إلقاء شربل الخلاّب المثير المؤثر العميق، الوصول إلى الضفاف الشعريّة الإنسانيّة التي تكتنز بها قصيدته "البيّاتي .. الحلم الراجع"، والتي تنطوي على ألـم ثوري عاصف. كما أعترف أن صوت شربل بعيني جزء لا يتجزّأ من شاعريته الفذّة.
وقد لا أذيع سرّاً إذا قلت إن المطران المرحوم عبده خليفة، الراعي الأسبق للأبرشية المارونيّة في أستراليا، قد قال في منزل شربل بعيني، وعلى مسمع الجميع: "الويل لمن يلقي كلمته قبل شربل بعيني، والويل لمن يلقيها بعده. فالأول.. ينساه الجمهور بعد أن يكون قد استمع لشربل، والثاني.. قد لا ينصت إليه كونه انتشى بإلقاء شربل".
إذن، لـم يكتفِ شربل بندوة تكريم البيّاتي التي كان السبب في إقامتها، ولا بمد الجسور بينه وبين رابطة لـم يكن قد انتسب إليها بعد.. بل عمل على منحه جائزة جبران العالمية من قبل الرابطة.
عام 1988، أعلن رئيس رابطة إحياء التراث العربي في أستراليا الأستاذ كامل المر، باسم شهداء الكلمة في كل مكان، عن منح الشاعر العراقي عبد الوهّاب البيّاتي جائزة جبران العالميّة. فانفرجت أسارير شربل بعيني، وقرّر الإنتساب للرابطة عن اقتناع مقنع، وعن إيمان قوي برسالتها الأدبيّة الإنسانيّة الساميّة من أجل النهوض بأدبنا المهجري، ومد الجسور بينه وبين الأدب المقيم. وهذا ما عمل له شربل طوال مدّة انتسابه للرابطة، وما زال يعمل له الآن بعد استقالته منها.
كما انفرجت أسارير عبد الوهّاب البيّاتي أيضاً عند استلامه رسالة رسميّة بهذا الخصوص، فأرسل بدوره رسالة شكر إلى رئيس الرابطة الأستاذ كامل المر، وأمين سرّها، يومذاك، الأستاذ عصمت الأيّوبي. وقد نشرت جريدة صدى لبنان تلك الرسالة في عددها الصادر بتاريخ 29/11/1988، وفيها يقول:
" تحياتي ومودتي
استلمت رسالة الرابطة التي تحمل توقيعكما الكريمين، وأنا أشعر بالفخر والإعتزاز بالمواقف القومية الانسانيّة الرائعة التي تقومون بها تكريماً لأدباء أمتنا العربية الأحياء والشهداء منهم. وأن الرسالة الأدبيّة ـ حسب تعبيركم ـ التي أخذت الرابطة مهمة الإضطلاع بها ونشر لوائها في أقصى أصقاع الدنيا، هي مفخرة ورسالة إنسانيّة عظمى، ستنير الطريق أمام باقي الجاليات العربيّة في أوروبا وأميركا وأفريقيا، وتحثّها على الإقتداء بكم. وإن فخري ليزداد عندما تكرمون الشعر العربي من خلال تكريمي في أمسية حارّة أثارت إعجاب الذين قرأوا جريدة القبس الدولي في كل أرجاء المعمورة، وإنه لشرف عظيم لي أن أمنح جائزة جبران العالميّة من رابطتكم المناضلة من أجل غد عربي مشرق. فشكراً لكما".
وبعد هذه الرسالة التي أرسلها البيّاتي للرابطة، راحت رسائله لشربل بعيني تنهمر كالورود في عرس الكلمة. فأرسل له رسالة من مدريد بتاريخ 18/12/1988، أنشر منها:
"بعد عودتي من رحلة طويلة شملت مصر والعراق وهولندا، أكتب إليك لكي أقدّم أخلص التهاني بالعام الجديد، متمنياً لك مزيداً من الإبداع والصحة والسعادة، ومهنّئاً بصدور كتاب شربل بعيني: ملاح يبحث عن اللـه للأستاذ محمد زهير الباشا، الذي أضاف زهرة جديدة في بستان إبداعك.
وكم كنت أتمنى أن أرسل كلمة لتقرأ في احتفال تسليم جائزة جبران، ولكنّ عودتي من السفر، التي كانت في تاريخ 15/12/88، حالت دون هذه الأمنية العزيزة على النفس، إذ كان الوقت قد فات.
إحتفلت على طريقتي الخاصّة في مساء السبت الموافق 17/12/88، فقرأت كتاب النبي لجبران، وباحتفالي هذا أكون قد كنت معكم.
أنتظر كافّة المعلومات المتعلّقة باحتفالكم وشريط الفيديو لكي أعيش معكم، كما كان الأمر في حفل التكريم. لك حبي وتمنيّاتي بالصحة والعافية، ومزيداً من مقاومة الغربة بشعركم". وكما كان يمنّي النفس باستضافة نزار قبّاني في منزله، هكذا منّى شربل بعيني النفس باستضافة عبد الوهّاب البياتي، ولكن الأمنيتين لـم تتحققا لظروف مختلفة. وكان المرحوم نزار قد شرح ظروفه الصحيّة لشربل، وها هو المرحوم عبد الوهّاب يشرح ظروفه الماديّة لصديقه برسالة أرسلها له بتاريخ 17/1/1989.. وصدّقوني أن شربل لو علـم قبل توزيع الجائزة بظروف صديقه الماديّة الصعبة، لكان عمل المستحيل من أجل استضافته، ولكن البيّاتي أسرّ له بها بعد أسابيع من توزيع الجائزة، وإليكم ما كتب:
"شكراً على تهنئتك ورسالتك الرائعة المسكونة بالنور والشعر والحب.. وشكراً لرابطة إحياء التراث العربي في أستراليا على مبادرتها بمنحي جائزة جبران، ولكل الأصدقاء الأعزّاء في الرابطة، ولقراءتك رسالتي الأخيرة إلى الرابطة واستلامك الجائزة، وكم كنت أتمنى أن أكون معكم في هذه المناسبة المباركة، ولكن رحلتي إلى مصر والعراق وهولندا قضت على البقيّة الباقيّة من إمكانياتي الماديّة التي كنت أستطيع بها أن أكون معكم.
الميداليّة وشهادة الجائزة وربطة العنق (وهي هديتك) كانت عربوناً لرفاق الكلمة الصادقة الشريفة، هذا العربون سيبقى رمزاً وعلامة وإشارة إلى أن الحب لن يموت، وثورة الشعر والإنسان لن تقهر.
تحياتي وسلامي وحبّي إلى الجميع، وإني سأبقى أنتظر إشاراتك الضوئية دائماً وأبداً".
روابط الصداقة التي جمعت بين شربل بعيني وعبد الوهّاب البيّاتي، تحوّلت فيما بعد إلى أخوّة حقيقيّة.. وإلى اندماج أدبي كامل.. أو بالأحرى إلى مشاركة عائليّة حميمة، وها هو عبد الوهّاب، وللمرة الأولى، يأتي على ذكر عائلته في رسالة أرسلها لشربل بتاريخ 9/5/1989، فيقول:
"أشكرك جداً على حسن اهتمامك، وقد أعجبني شريط الفيديو، وأعجب الأسرة حيث شاهدناه عدة مرات، وعشنا معكم تلك الأويقات الأدبيّة الرائعة".
وتمتيناً لتلك المشاركة العائليّة الحميمة، التي أرادها البيّاتي أن تتعمّق، أرسل لشربل رسالة مقتضبة وحزينة من كاليفورنيا، يقول فيها:
"أكتب إليك من كاليفورنيا، التي وصلت إليها من بغداد بسبب وفاة إبنتي (نادية) المقيمة هنا. في طي رسالتي هذه نص القصيدة المرثيّة".
وبالطبع، فقد أرسل له شربل رسالة تعزيّة، كتبها بدموع عينيه، وبلهيب غربته، وحمّلها حبّه الأخوي للوالد المفجوع.. فما كان من عبد الوهّاب البيّاتي إلاّ أن شكره برسالة رقيقة، مرفقة بكتاب ترجمه له الدكتور بسّام فرنجيّة وطبعته جامعة جورج تاون، إسمه حبّ وموت ونفي.. وإليكم فقرات منها:
"ألهمتني رسالتك الحزينة بعض العزاء، ففقدان إنسان عزيز في هذا الزمان البخيل لا يعوّض، وبخاصة إذا كان هذا الإنسان منك وإليك: ضياء عينك ومنارة حبّك".
وخلال وجوده في الولايات المتحدة الأميركيّة طلب من الدكتور بسّام فرنجيّة أن يراسل صديقه شربل في أستراليا، كيف لا، وقد حكى له الكثير عنه، فكتب الدكتور فرنجيّة بتاريخ 21/5/1991 ما يلي:
"الأخ العزيز الأستاذ الشاعر شربل بعيني المحترم
أطيب تحيّة.. فقد طلب منّي الأستاذ البيّاتي أن أرسل هذه المجموعة من الأخبار عنه وعن الكتاب الجديد، ويسرني أن أرسلها إليك مع هذه الرسالة. كما أنني أتشرّف بالتعرّف إليك، فقد سمعت عنك كثيراً. أحييك من واشنطن مع فائق الإحترام".
ولـم يتأخّر شربل بعيني لحظة واحدة بمدّ أسلاك حبّه بين سيدني وأميركا، تنفيذاً لرغبة صديقه البيّاتي، فأرسل مجموعة من كتبه للدكتور بسام فرنجيّة، وبعض الأشرطة الغنائية، ولمحة عن نشاطنا الأدبي في أستراليا. وقد شكره الدكتور فرنجيّة برسالة أرسلها له بتاريخ 22/7/1991، وفيها يقول:
"أخي شربل..
أطيب تحيّة إليك. أشكرك. فقد وصلني طرد بريدي فيه ما يقرب من عشرين ديوان شعري ودراسة لك/عنك. وأنا أبارك مثل هذا الإنتاج الغزير الذي وضعته بفخر في مكتبتي، فاحتلّ مكاناً بارزاً. فأنت طاقة على العطاء، وأيّة طاقة!..
تصفحت قصاصات الجرائد الأسترالية، التي وصلت مع الطرد، ورأيت صورك وصور المجموعة العاملة التي تحيي التراث العربي في المهجر، فألقيت عليكم جميعاً تحيّة سلام وحبّ وإعجاب، فكم نحن بحاجة إلى مثل هذا الإحياء، فما تفعلونه اليوم، واجب حضاري وقومي أنتم أهل له، قدوة وشعلة.
أشكرك، أخي شربل، لكل ما أرسلته لي، وأعدك أنني سأقرأه كلّه. وأشكرك للشريط الرائع الذي ما زلت أستمع إليه، وقد وضعته في آلة التسجيل التي هي فوق مكتب دراستي، وأنا أدرس وأستمع إلى الطفلة ريما الياس وهي تغني شربل بعيني.
أشكرك للمقالة عن البيّاتي والكتاب والتي تفضّلت مشكوراً بالإهتمام بها، ونشرها على هذا الشكل الجميل.
أحييك يا شربل، فقد طوّقتني بعواطف نبيلة فاضلة، أشعر بعجز ردّها".
وأعتقد جازماً أن البيّاتي كان مسروراً لهذا التواصل الأدبي بين شربل وبسّام. طالما أنه كان المخطط الأول له؟
وها هو يخبر صديقه شربل بأنه قرّر الإنتقال من مدريد إلى بغداد، ويتمنّى عليه، إذا زار بغداد، أن يتّصل به كي يواصلا مشوارهما الأدبي.. فتصوّروا عظمة هذا الشاعر العبقري.. وتأمّلوا تواضعه، واقرأوا معي رسالته التي أرسلها لشربل في الحادي والعشرين من شهر شباط 1990:
"بعد أسبوع من تاريخ كتابة هذه الرسالة إليك، سأكون قد غادرت إسبانيا نهائيّاً، عائداً، إلى الوطن..
إذا ما زرت بغداد، أيّها الصديق العزيز، فالرجاء الإتصال بي حتّى نواصل مشوارنا الشعري. مع تحيّاتي إلى جميع الأصدقاء".
وبالطبع، فقد حزفت من الرسالة عنوان البيّاتي في بغداد، لأن لا داعي لذكره، بعد أن توفّاه اللـه وخسرته الأمة العربيّة جمعاء.
والملفت للنظر هو صداقة شربل بعيني لشاعرين لدودين في آن واحد، هما نزار قبّاني وعبد الوهّاب البيّاتي، دون أن يطلب أحدهما نصرة شربل على غريمه، رغم معرفتهما بتلك الصداقة الثلاثية المشتركة، فلقد كانا، رحمهما اللـه، شاعرين كبيرين، وعدويّن شريفين، وصديقين وفيين لشربل بعيني. فكم نحن بحاجة لأخذ الموعظة والعبرة منهما في غربتنا هذه.
**
الدكتور عصام حداد، مدير معهد الأبجديّة في مدينة جبيل الأثرية، وصاحب العديد من المؤلّفات الأدبيّة والشعريّة الرائعة، يعتبر من أكثر الذين أحبّوا شربل بعيني، وكتبوا عنه، وكرّموه. ويكفي أنه أوجد جائزة سنويّة تحمل اسم شربل بعيني، وتوزّع على المتفوّقين من طلاّب معهده.. ليكون الأعظم في صداقته!!.
ومن كثرة حبّه له، لـم يتوقّف، منذ التقاه في المربد الشعري الثامن في بغداد عام 1987، من إيداع البريد إحدى رسائله المستعجلة لشربل. كما أنه لـم يترك وسيلة إعلاميّة لبنانيّة إلاّ وذكر بها اسم صديقه شربل بعيني.
وإذا كان الشاعر المرحوم نزار قبّاني، والدكتور رفعت السعيد قد أعلنا حبّهما لشربل على "صنوبر رسائلهما"، فإن عصام حدّاد قد أعلن "جنونه" بشربل بعيني على "صنوبر بيروت".
ولأن مقالات ومقابلات عصام الإذاعية والتلفزيونيّة عن شربل أصبحت معروفة، بعد أن نُشرت واطّلع عليها المقيمون والمغتربون، أجد لزاماً عليّ أن أطلع القرّاء على رسائله. وما أدراكم ما رسائله؟ إنها أشبه ما تكون بمحيط من الصفحات لا حدود جغرافية له. صحيح أنني سأختار القليل منها، ولكنني سأختار الأجمل.
كثيرون هم الذين يعتقدون أن الدكتور عصام حداد يعيش هنا في أستراليا، لأن أخباره ومقالاته الأدبيّة تملأ الصحف والمجلاّت المهجريّة. وإليكم هذه الطرفة التي تثبت صحّة ما أقول:
ذات يوم، زارني أحد الأصدقاء، فوجدني أقرأ في مجلّة أميرة. فسألني:
ـ لمن تقرأ؟..
فقلت:
ـ للدكتور عصام حدّاد.
وبدون أي تردد قال:
ـ هذا أحسن أديب في أستراليا.. إنّه يوزّع "جائزة شربل بعيني" كل سنة في "اليوكرانيان هول" في منطقة لدكمب".
وصدّقوني أنني لـم أصحّح معلوماته، لأن العديد من أبناء الجالية يعتقدون أن الدكتور عصام مغترب مثلهم. وهذا يعود للأثر الطيّب الذي تركه أثناء زيارته لأستراليا عام 1991، من أجل استلام جائزة جبران العالميّة.
لقد كان ألطف وأشرف شخصيّة أدبيّة زارت غربتنا هذه. ومن كان مثل الدكتور عصام، يصعب على المغتربين إرجاعه إلى الوطن، بعد أن يكون قد وقع بين أيديهم.
معظم رسائل عصام ـ إسمه الأصلي يوسف تيمناً بعمّه يوسف الحداد معلّم جبران ـ تبدأ هكذا: شربلي الحبيب، يا شربلنا، يا شربل الكل، يا عريس الشعراء. ومن هذه البداية بإمكاننا أن نقرأ النهاية.
وها أنا أفتتح موسم الغطس في محيط رسائله، بهذه الرسالة المؤرخة في 25/4/1988، التي كتبها فور رجوعه من العراق، والتي عادت إليه بعد شهرين من إرسالها، بسبب الأحوال الأمنيّة التي كانت مترديّة، يومذاك، في وطنه لبنان:
"شربلي الحبيب.. قد نكون وحدنا سريعي الإندماج قلباً بقلب. والأصح أنت المتفرّد بهذا الحبّ الآسر الذي ترعى به محبّيك..
من حين رجوعي إلى وطن "الغربة الطويلة"، وأنت ملء قلبي، وفكري، وقلمي. أرجو أن نواصل الرسائل.. وقد أذهلني توثّبك الدائـم إلى الأفضل، فكراً ووطنيّة وصفاء. ويا ليتني قربك لأساهم معك في عملك لأجل الفكر، ولأجل لبنان. ثق بوفائي الدائـم، وحبّي الدائم الوفي".
وأعتقد أن ما من وفاء عرفه الأدب القديم والحديث، دام أكثر من وفاء وحب الدكتور عصام حداد لشربل بعيني، والعكس بالعكس. وها أنا، إثباتاً لقولي، أقفز فوق السنين، وفوق مئات الرسائل، وأنشر تهنئة عصام لصديقه شربل بإمارته الأدبيّة، كما نشرتها جريدة الأنوار البيروتيّة، ومجلّة أميرة المهجريّة الشهريّة، في بداية عام 2001:
" لا عجب أن يكرّم الإغتراب اللبناني الشّاعر شربل بعيني، فالجامعة الثقافيّة في العالـم، بالمجلس القاري، انتخب هذا اللبناني الكبير في عالـم الإنتشار أميراً من أمراء الكلمة، حمل هـمّ الثقافة وهـمّ لبنان على منكبيه أكثر من ربع قرن.
هذا الرجل المهووس بوطنه وبالفكر، لا يرتاح منذ أن هجر لبنان هجرة قسريّة، فما كلّ وما لان، لأنّه طُبع على التضحيّة والوطنيّة والإستشهاد في سبيل القلـم، وفي سبيل لبنان.
فسبحان اللّـه كيف يبعث للأمـم، دوماً، رجالاً يمشون على الإبر والحراب، ولا يهابون الموت، لأنهم رسلٌ يؤاتيهم اللّـه القوّة ليتحمّلوا كلّ الصعاب.
شربل بعيني الشّاعر المربّي الوطني الإنساني، هو مجموعة رجال كوّنت منه، على حدّ براءة الجامعة الثقافيّة، قدموساً آخر حمل التراث الحضاري اللبناني الإنساني إلى العالـم، يعلّم ويثقّف، يكتب ويحاضر، لكأنّه يحسب الدنيا كلّها عطاء لأمّته. يرى الكون من خلالها، ويراها من خلال روحه وقلبه وقلمه، كنوزاً لا تنفد وفولاذاً لا يلين.
إن هذه النضارة في الروح، وهذا العنفوان الأرزي في الجبين، وهذا القلب كرواء تلالنا، عطايا كوّنت منه حبيباً إلى كلّ مغترب ومقيم.
إن سرّ شربل بعيني هو بهذا الأنس الكامن فيه، بهذه الشفافيّة الرائعة، بهذه الصراحة والبثّ المحبّب الذي ألّب الكثيرين إليه، وألّب الكثيرين.. عليه!!
إن الإنسان الذي يختلف فيه الحبّ والرأي، لهو من الكبار. وإننا، نحن الشرقيين، إذا نبغ واحدٌ منّا عِوضَ أن نكون كالغربيين نغار عليه فنغار منه.
إن أحدهم يشبّه الغربيين طالعين السلّـم، يدفع بعضهم بعضاً للعلاء، وأما الشرقيون فيشدّون ببعضهم في السلّـم إلى تحت!!
وأنا أريد، بل أحبّ، أن يؤتى الإنسان منافساً أو حسوداً عملاً بقول أبي تمام:
وإذا أراد اللـهُ نشرَ فَضِيلةٍ
يوماً، أتاح لها لسانَ حسودِ
فالحسود لا يؤذي إلاّ نفسه، ولكن ينفع خصمه لأنّه يلفت إليه الخواطر والأنظار فيعرفون قدره. والجوهرة لا تعرف إلاّ بالمصهرة. فحذار أن يكون هناك حاسداً، أتمنى له أن يترفّع عن الأذِيّة كرمى لعينيه، لئلاّ يُتّهم بألف تهمة وتهمة، وبذلك أكون فضّلت كرامته أن تنحدر إلى أدنى الدركات.
إن شربل بعيني مبدع، فاقت كتبه العشرين. لو كان بإمكانه أن يكون بائع ورد، أو قطع غيار، لملأ أستراليا مالاً، وعمّر قصوراً. ولكنه آثر أن يخدم وطنه لا نفسه، فانصرف إلى التعليم والتأليف. فكم من مهرجان ومسرحيّة ومؤتمـر جنّد شربل له كل قواه، فعمل ما لـم يعمله العديد من السفراء والقناصل الذين يهمّهم كلّ شيء ما عدا الوطن!
كم من أناس يهاجرون، أو يحتلّون القنصليّات والسفارات والسرايات، هـم على شاكلة قرد ذلك الغيلـم في قصّة إبن المقفّع، ينزلون البحر وينسون قلبهم على الشاطىء، فيعيشون في الغربة أجساماً بلا فكر ولا روح، مأجورين في وطن لا يؤمنون بديمومته. وأما شربل، فحمل قلبه على كفّه ونزل إلى المعترك، سفارته النقّالة، ولبنانه الرسالة في الجبين، وفي القلب وفي الضمير. فلا كثير عليه الأوسمة والتكريم والبذل.
عرفت الكثيرين بعد سنين، نسوا وطنهم، حتى إنهم تنكّروا للغتهم، فيتربّى أولادهم على التنكّر للبنان. وها هو شربل بعيني في (هاريس بارك) يعلّم أولاد اللبنانيين لكي يندمجوا بوطنهم عن طريق اللغة. فهل من يدلّني على مثل هذا الإستشهاد الدّائـم في سبيل لبنان؟!
وبالمناسبة، أقترح على الدولة أن تخترع وساماً تسمّيه (وسام الإغتراب اللبناني)، علّها تشجّع هذا وذاك ليحملوا في أجسامهم دماً نقياً للبنان، ويكون شربل أوّل حاملي هذا الوسام.
وكم من ذوي مآرب وجشع ومصالح يخلّون وراءهم لبنان للذئب والغراب، يعيش كل لنفسه كأنه وحده في جزيرة. وأما شربل فهو (البرزخ) للمقيم والمغترب، كأنه واصل إلى أستراليا توّاً من مجدليّا، (خاص ناص) مادة خام.. فيها كل الحب والوطنيّة والتفاني بلا حساب.
وأما أن نطعن بشربل بعيني الذي انتخب من بين 41 مرشّحاً، فهذا عين التجنّي والحقد والإجحاف. فالترفّع عن الحقد كبير والبغض جريمة. حرام أن تنهش قلوبنا الأفاعي، فالحقد حقير.
وأمّا أنا فأقول لشربل ما قال ريشيليو: (لولا انتقاد أعدائي ولؤمهم، ما نجحت في كثير من أعمالي).
ويقول الشّافعي في معنى آخر:
كلّ العداوات قد ترجى إزالتها
إلاّ عداوة من عاداك عن حسدِ
وسلام اللـه عليك يا أخي شربل. بوركت لك الجائزة وهذا التقدير، فأنت كنت وتظلُّ رسول لبنان".
نفهم من هذا المقال المعمّم على الوطن والمهجر في آن واحد، أن الدكتور عصام حدّاد لـم يكتفِ بفوز صديقه بإمارة الأدب والشعر في عالـم الإنتشار اللبناني، بل اقترح على الدولة اللبنانيّة أن تخترع وساماً تسمّيه "وسام الإغتراب اللبناني"، ويكون شربل أوّل حاملي هذا الوسام. إنتبهوا إلى كلمة "أوّل" لتدركوا أهميّة أدب شربل بعيني عند مخترع "جائزة شربل بعيني" في مهد الحرف جبيل.
هذه هي الصداقة، هذا هو الحب، وهذا هو الوفاء.. وهذا ما نجده دائماً وأبداً في كل حرف خطّه قلـم عصام للذي اجتاح قلبه، تماماً كما كتب بتاريخ 2/8/1988:
"لا أذكر أن أحداً اجتاح قلبي بمثل ما اقتحمته أنت.. وكنت فخوراً بأن بغداد، كعبة المعرفة، عرّفتني بك، فحملتك في فكري وقلبي وعينيّ.. ولـم يبرح صوتك يدوّي في كياني، وضحكتك تتمثّل أمامي، وطيفك يماشيني في ليالي بغداد الأنيسة".
وها هو يعترف برسالة أرسلها بتاريخ 3/11/1988، أن صبره للقاء شربل قد نفذ: "وأنا بفارغ صبر أتعجّل المربد لأراك وأسمعك، فلا تخذلني بغيابك".
والحقيقة أن شربل خذله تلك السنة ولـم يذهب إلى المربد التاسع، لأسباب ذكرتها سابقاً. فأرسل له عصام رسالة عتاب لعدم مجيئه إلى بغداد مؤرّخة في 30/11/1988:
"من سنة لسنة أنتظر المربد لأراك، فقد تحاببنا، ولـم أعد إلى بغداد هذا العام إلاّ أملاً برؤيتك، فقد ملأت قلبي وعينيّ. ولو كنت مصوّباً إليّ جهازاً تلفزيونيّاً ولاقطاً، لرأيتني أتنقّل من فندق إلى فندق، أسائل هذا، وأسلّم على ذاك، دخيلك متى يصل الوفد الأسترالي؟..
على كلّ حال ربما أنت ارتحت، ولكن، وحياة عينيك، أنا حزنت وحزنت وحزنت، وأحسست أن المربد بدونك ناقص".
إذن، فالدكتور عصام حداد لـم يذهب إلى بغداد إلاّ طمعاً برؤية حبيب قلبه، وعندما خذله شربل، توجّه إلى مسقط رأسه "مجدليّا"، علّه يعوّض بالحجر ما خسره من البشر. فلنقرأ هذا المقطع المعبّر جداً من رسالة مؤرخة في 13/10/1990:
"كما أني ذهبت إلى مجدليّا، وتحدّثت طويلاً إلى الأديبة سوزان بعيني، وكنت أنت الوصلة في كل حديث، وحين وطأت أرض مجدليّا، تصوّرت شربل الطفل، واليافع، والشاب، يعدو في ربوعها، وبين أشجارها، وخلف صباياها، وعلى منابرها، ورجعت بمشاعر شاعر لا أقدر على وصفها. أترك لك أنت تقديرها".
وبما أن الشّوق عند شربل لرؤية عصام، لا يقل عن شوق عصام لرؤيته، بل يتشاوف عليه، رشّحه لنيل جائزة جبران العالميّة، علّه يأتي إلى سيدني لاستلامها، ويمتّع العين والقلب برؤيته.. فربحها عام 1991، وأربحها شهرة إعلاميّة لـم تحظ بها جائزة من قبل. إنه حركة دائمة.. إنه خزّان وفاء.. ومن هذا الوفاء النادر راح يخبر الناس، أنّى وجد، عن رابطة إحياء التراث العربي، وعن أدباء المهجر الأسترالي، وعن جائزة جبران، التي احتفل لبنان بفوزه بها.
ولكي يستلمها، وصل إلى سيدني في منتصف شهر تشرين الثاني 1991. ومن ساعة وصوله ولغاية عودته، والإعلام المهجري يغطّي كل خطوة يخطوها: من القصيدة الجبرانيّة الرائعة التي حلّق بها في الإحتفال، إلى الأمسيّات الشعرية والأدبيّة التي أحياها في منزل شربل بعيني، إلى تكريمه من قبل راهبات العائلة المقدّسة المارونيّات في هاريس بارك، وكافة أعضاء الرابطة والأصحاب، إلى إلقائه قصيدة بيوم لبنان الذي أقامته فرقة أرز لبنان الفلكلوريّة في منطقة دارلينغ هاربر السياحية.. إلى اللقاءات الإذاعيّة والصحفيّة العديدة التي أجريت معه.. إلى نشاطات عدّة لا حصر لها.
لقد دخل هذا الرجل قلوب المغتربين، وأبى المغتربون أن يخرجوه منها.. هكذا وبكلّ بساطة!!.. وها هو يكتب في جريدة الأنوار البيروتيّة الصادرة بتاريخ 24/12/1991 "انطباعات شاعر في رحلة بعيدة.. إلى قارة بعيدة"، فلنقرأ بعض ما كتب:
"3 ساعات من بيروت إلى دبي، و7 ساعات من دبي إلى سنغفورة، ومن سنغفورة إلى سيدني 8 ساعات، وأنت على رحمة القدر وبركة اللـه، معلّق بين الأرض والسماء"..
وبعد أن يخبرنا بأسلوبه الساخر عن رجرجات الطائرة وإقلاعها وهبوطها، وعن تلك الحيزبون المتصابيّة التي أعمت بصره بدخان سيجارتها طوال الرحلة.. يصل إلى مطار سيدني:
" ها هم الإخوان اللبنانيون يعانقونك بلهفة وحنين، يشمون فيك رائحة الليمون والزعتر والوزّال، يبكون ماضيهم المجيد ولكنهم يتأوّهون تأوّه الآمل بالفرج والعودة إلى ذراع الأم والأب والأهل والصديق..".
ويبدأ عصام بإجراء مقارنة بسيطة بين الحال التي وصل إليها وطنه الغالي لبنان، وبين الرفاهية التي تنعم بها أستراليا، وكيف تغرّد البلابل في سيدني، بينما الصيّاد اللبناني القليل المذاق يقتل بلابل الأيكة تقتيلاً بلا هوادة ولا حياء.. إلى أن يصل إلى بيت القصيد، صديقه شربل بعيني:
"تنزل صبحاً إلى الحديقة فترى شربل الخل الوفي الذي يحسبه الشاعر العربي ثالث المستحيلات، تراه في انتظارك، يحيطك بكل عناية وراحة وحفاوة، بجانبه أم أنطوان وأنطوان ليوفّروا كل ما يسر ضيفهم الحامل لهم من لبنان العبير والضوء ورائحة الزعتر والخضرة وعنفوان الجبل، ويهرع إلى خزانته "هذا ما فيها لي من لبنان كمشة تراب" أوصى شربل أول راجع من وطنه أن يحملها إليه من أرض بلاده، فاحتضنها كأثـمن ما لديه.
الحقيقة تبكي وتبكي لهذه الوطنيّة الرائعة وتبكي بعد، إذ تعرف كيف أن شربل بعيني الشاعر الذي ينبش في دماغه ألف خلد، ويحرّ فيه ألف شيطان وشيطان، لا يهدأ ولا يدع أحداً يهدأ في سبيل مجد بلاده ومجد الفكر. لقد هرب ذات ليلة إلى سيدني بعدما هدّد بالقتل لأنه يقول الحقيقة، ويريدونها أن تظلّ مخبّأة، لينطلق بها اليوم".
ولا أعتقد أن وسيلة إعلاميّة لبنانيّة صدرت في أواخر عام 1991، ولـم تنشر خبر فوز الدكتور عصام حدّاد بجائزة جبران العالميّة، وقد لا أُلام إذا ردّدت ما ذكرت سابقاً: إن الدكتور عصام حداد أعطى رابطة إحياء التراث العربي وجائزتها زخماً إعلامياً هائلاً.. ومن يطالع قصاصات الصحف والأشرطة المسجّلة التي أرسلها لشربل، يوافقني الرأي، أو يبزّني في القول.
عام 1992، دعا المجلس الثقافي في بلاد جبيل والرابطة الثقافية في معهد الأبجديّة، إلى الإحتفال بتكريم الشاعر الدكتور عصام حداد، لمناسبة نيله "جائزة جبران العالميّة"، برعاية وزير التربية والفنون الجميلة الدكتور زكي مزبودي. كما رشّحه قائمقام جبيل بالوكالة السيّد حبيب مخايل كيروز لنيل وسام وطني بسبب فوزه بجائزة جبران. وفي الإحتفال وصلته بركة البطريرك الماروني مار نصر اللـه بطرس صفير الأبويّة.. وبرقيّة ـ قصيدة من نصفه الثاني شربل بعيني.
هذا قليل مما فعله عصام للجائزة، وهذا بعض ما فعلت الجائزة له. ولكثرة وفائه لمن كان السبب في ترشيحه لها، واستضافته في بيته، أوجد في معهد أبجديّته جائزة تحمل اسم شربل بعيني، وإليكم الخبر كما جاء في رسالة أرسلها بتاريخ 21/8/1992:
"شربلي الحبيب.. أعانقك بلهفة عصاميّة أنت تعرف حرارتها ووفاءها. لا يكاد يمر علينا يوم، إلاّ ونتذكرك. صورتك أمامنا. كتبك على متناول يدنا. خيالك بعيوننا. ضحكاتك.. نكاتك.. كلّك بكل ما فيك.
أهلي ومعارفي والمعجبون، ولا سيما الحسناوات صاروا يزاحموني عليك.. صار لي ألف ضرّة وضرّة، وبمقدار ما ينمو في القلوب والعقول اسم شربل بعيني "بقشع حالي"..
أجدّد شكري على القصيدة والبرقيّة والمقال المنشور في جريدة الأنوار، وتلقّيت تلفونات عديدة تهنئة بعد المقال.
قدّمنا في معهد الأبجديّة "جائزة شربل بعيني" على مجموعة كتبك لإحدى الآنسات، واسمها ريتا بواري، وهي "جائزة الشرف" على مجمل سلوك ودروس الطالبة".
ولـم يتوقّف معهد الأبجديّة سنة واحدة عن منح الجائزة، بل كان يشجّع طلابه الفائزين بها بالكتابة إلى شربل. وها أنا أنشر مقتطفات من رسالة وصلته بتاريخ 25/9/1998، من الفائزين ماغي عبّود، رشيدة سعادة وجان كلود فهد:
"يسعدنا، بكل إعجاب وفخار، أن نباهي بالجائزة التي تولونها طلاّب معهد الأبجديّة كل عام. وكان لنا الحظ هذا العام أن نحوز عليها، فعمّت الفرحة قلوبنا، لأن إسمكم الكبير ملأ قلوبنا وأسماعنا، فكان بمثابة العطر من الورد.
فمنذ ثلاثة أعوام كان لنا الحظ الكبير أن دخلنا معهد الأبجديّة، فكان اسمكم يملأ الأذهان والآذان. وحين كانت إدارة معهدنا الحبيب تتلفّظ باسمكم، نرى على وجه مديرنا الحبيب الدكتور عصام إشراقة جديدة ملؤها الحب والإعجاب، فتحسّ أنه ينتقل للحال إلى عالـم سحري علوي يحملنا معه إليه، فنعرف آنئذ أن حلماً، أو ذكرى فيها شربل بعيني".
إذا كان طلاّب معهد الأبجديّة يكتبون كلاماً كهذا لشربل، فكم بالأحرى مديرهم عصام. فمن يريد أن يبكي من شدّة الشّوق والحنين، عليه أن يقرأ رسائل عصام الكثيرة لشربل. وهنا، دعوني أوجّه لومي إلى شربل بعيني لعدم نشر رسائل عصام حدّاد وهو الذي نشر مئات الكتب.. كما دعوني ألوم الدكتور عصام حدّاد على عدم نشره المقالات الرائعة التي كتبها عن شربل في الصحف والمجلات اللبنانيّة، وهو من هو في عالـم النشر والأدب. إنها جريمة كبرى يرتكبها اثنان يملكان دارين للنشر: دار شربل بعيني في سيدني، ودار عصام حداد في جبيل. فسامحوني إذا حكيت!!
هناك سرّ، أودّ أن أبوح به للقرّاء، وهو أن الدكتور عصام حدّاد، وبعد اشتداد المعارك العسكريّة في لبنان، طلب من صديقه شربل أن "يسحبه" إلى أستراليا، وقد ذكر طلبه هذا في أكثر من رسالة. ولكنّ شربل أدرك بحسّه المرهف أن صديقه عصام سيمحو فكرة السفر من عقله متى زار أستراليا. وهذا ما حدث بالفعل، وهذا ما علّق عليه عصام في جريدة الأنوار، العدد 12636:
"بعدما قال الشاعر المغترب شربل بعيني، للعائدين: "هاتوا لي معكم كمشة تراب من أرض "مجدليّا"، حتى إذا متّ في غربتي، ضعوها في تابوتي، ليمتزج ترابي بتراب لبنان".. الآن الآن، أخلّي ها هنا كلّ مباهج الكون، وأطير مع أول نسمة غادية إلى بلادي، بلاد الحب والسحر والمجد والضياء".
رسائل عصام إلى شربل، أقل ما يمكنني أن أقول عنها إنها صادقة، كتبت بأسلوب أدبي رائع. ولقد سحرتني، بصدقها الناصع كثلج لبنان، رسالة أرسلها لشربل بتاريخ 30/11/1991، ومنها أنشر:
".. وهل تظن أن هناك أطيب من السانحات التي قضيتها في أستراليا؟!.. لقد سمّرت في نفسي مدى العمر طابعاً لا يمحى، إذ وجدتني بين أهلي ألاقي كل حفاوة وتكريم. إنك لـم تترك عملاً ولا حفلاً ولا تكريماً إلاّ وقمت به في سبيل عصام، الذي يرى فيك الخلّ الوفي الذي يزعم الناس أنه غير موجود.. وها أنا أقسم أني وجدته يا أيّها الحركة التي لا تهدأ في سبيل وطنك، وفي سبيل الشعر والفكر.
أستعرض الآن كل مراحل الزيارة بلوعة وحنين، ومن تلقائي أدمع وأدمع وأدمع، ولا سيّما حين أتمثّل أمامي "أم أنطوان" في عمل مستمر لتوفير الراحة لضيفها وللجميع، حتّى يظنّ كل وافد إلى أستراليا أن بيته الثاني هو "بيت البعيني" محجّة الأدباء والمفكّرين والمشرّدين، ولا تضطرب إذا وجدت بينهم مثل "بروتوس" ويوضاس، فذلك هو كمال الحياة والمجد، فلولا الليل لـم يعرف النهار، ولولا الشوك لـم يعرف الورد".
كلام مخلص، تفوح منه رائحة الحكمة في القول والخبرة في الحياة. وأعتقد أن عصام فهم منذ لقائه الأوّل نفسيّة صديقه شربل بعيني، وعرف أن تواضعه الجمّ لا يدل على ضعف واستهتار، وأن شربل بعيني، رغم إنسانيته المفرطة، يعرف كيف يتخلّص، ومتى يتخلّص من أي بروتوس أو أي يوضاس دخل بيته. إنه لا يجامل أحداً في القضايا الإنسانيّة والأخلاقيّة. أي أنه كما قال عنه الأستاذ شوقي مسلماني في مقال نشرته جريدة البيرق في عددها الثامن والأربعين: "شربل بعيني شاعر، الطفل فيه حاضر دائماً لأنه أصدق، لأنه لا يعرف المداهنة أو اختلاق الأعذار والمبررات. ولأنه من طينة البراءة الأولى والحبّ الأول. أبيض أسود، هكذا كل شيء".
ولـم يكتفِ عصام بما كتبه عن شربل، بل راح يقيم الندوات الإذاعيّة حول شعره، وها هو الأستاذ أنطونيوس بو رزق يخصّ ندوة إذاعة "الإذاعة" اللبنانيّة حول أدب شربل بعيني بمقال نشره في جريدة البيرق بتاريخ 15 آب 1991، أختار منه:
"نتاج شربل لـم يتوقّف عند حدود أستراليا، بل تخطّاها، "طار" إلى لبنان والبلاد العربيّة، فقيلت فيه كلمات، وعقدت لنتاجه ندوات، وكتبت حول دواوينه دراسات، نذكر منها دراسة الأديب محمد زهير الباشا شربل بعيني ملاّح يبحث عن اللـه.
وفي لبنان، بلد الكلمة الأقوى من المدفع، لـم تستطع الحرب القذرة أن تقتل ما في نفوس بنيه من فن وأدب وشعر وتكريم لأهل الفن والأدب والشعر.
وإذاعة "الإذاعة" في برنامجها الخاص الذي يعدّه ويديره الأديب الأستاذ رفيق روحانا، استضافت الأديبة إبريزا المعوشي والأستاذ عصام حدّاد صاحب "دار عصام حدّاد للنشر" في ندوة بعنوان "حول نتاج الشاعر شربل بعيني".
في الندوة تحدث الأستاذ حداد عن كيفيّة تعرّفه إلى الشاعر في المربد ـ العراق. ثـم انتقل إلى الكلام عن الظروف التي أجبرت الشاعر على الهجرة، وجعلت من شعره شعر مرارة من الظلـم وكبت الحريّات وثورة من أجل الحق والحريّات...
بعدها وجّه معدّ الندوة الأستاذ روحانا السؤال للأديبة إبريزا المعوشي عن شربل، الإنسان والنتاج، فقصّت أديبتنا كيف أن لقاء قصيراً مع الشاعر أدخلها قلبه لتتعرّف إلى مكنوناته، وسبرت أغوار نفسه لتغرف من لآلئه، وقالت: "وطنيّة شربل تجعله يتحرّق للعودة إلى لبنان. ورغم هناءة عيشه يحن لوطنه".
وصدّقوني أن رسائل الدكتور عصام لشربل، وخاصّة تلك التي كان ينهيها بهذه العبارة: "متمنيّاً أن نتلاقى دائماً، ولا سيّما تحت سماء لبنان" أعطت مفعولها، وبدأ صخر غربة شربل الطويلة يتفتّت أمام إصرار عصام، فرجع إلى لبنان في أوائل عام 1999، وبذلك يكون قد تغلّب على غربة دامت أكثر من ثلاثين سنة، والفضل كلّه يعود لذلك الذي فتح بيته له، وعمل المستحيل هو وأخته سلوى وأخواه سمير وسامي، من أجل راحته وراحة زوجته ليلى. وما أن رجع شربل إلى أستراليا، حتى وصلته من عصام هذه الرسالة المؤرخة في 14/5/1999:
"هوذا الحبيب الذي به ارتضينا".. هذا ما يصرّح به علناً عصام وسلوى وسمير وسامي بعد زيارتك لبنان. لقد رأت العين من كانت تحلم به. لقد رأينا شربل الذي يفعل فعل الذرّة في القلوب. كيف حال "درة الشرقين" ليلى؟.. كيف حال "ست الحبايب" التي يقال لها: مباركة ثـمرة بطنك.
أخاطبك من على شرفة الطبقة العاليّة التي رأت طلعتك البهيّة أنت وليلى، والتي سمعت هيصتك المهووسة بالوطن والفكر. نخاطبك كلّنا بلهفة وحب وإعجاب، مجدّدين الشكر على زيارتك، وعلى ما تتحفنا به من محبّة وإطراء ووصف في مجلّتك التي أطلقت عليها: جعبة المحبّة".
من نكاتنا الإغترابيّة التي حملها الدكتور عصام حداد إلى أرض الوطن، تلك التي حصلت مع شربل وكامل المر. فبعد أن ألقى الأستاذ كامل خطابه في حفل تسليم جائزة جبران، وشكر الحاضرين فرداً فرداً.. سأله صديقه شربل إذا كان الجمهور الحاضر كلّه من الرجال.. فأجابه كامل:
ـ لا إنه من الرجال والنساء..
فقال له شربل:
ـ إذن كان من المفروض أن تشكر الحاضرين فرداً وفردة.. حتى لا يتهموك بالتمييز الجنسي.
ومن النكات العصاميّة التي أخبرنا إياها شربل، أنه طلب من الدكتور عصام أن يريه بعض الشقق المعروضة للبيع، شرط أن تكون مطلّة على الوادي.. وبعد عدّة أيّام من اللف والدوران وصعود سلالـم البنايات المشرفة على الوديان، صاح عصام بشربل:
ـ يا عمّي.. ضروري تكون الشّقة فوق الوادي.. ما لبنان كلّو وديان، مطرح ما بدّك وقاف وتفرّج.
ما كتبته عن رحلة الدكتور عصام حداد الأدبيّة مع شربل بعيني قليل جداً، ومبتور جداً.. لأنني لو أطلقت لقلمي العنان لكتبت عنهما مجلداً كاملاً، كيف لا ورسائلهما فقط بإمكانها أن تلد مجلدين وأكثر.
محمد الشرفي: من أنت أيّها الرجل؟
عام 1990، كنت أصطاد السمك تحت جسر سيدني الشهير، في المنطقة التي تقع بها مدينة الملاهي (لونا بارك)، فإذا بشخص يأخذ الصنّارة من يدي، وكأنّه يريد سرقتها، فتطلّعت به والغضب يجتاحني كعاصفة. فإذا بي أقف أمام رفيق غربتي الشاعر شربل بعيني والشاعر اليمني الكبير محمد الشرفي. فصحت بأعلى صوتي:
ـ أهلا وسهلا بابن اليمن البار، أخبارك تملأ صحفنا المهجريّة، ورسمك نحمله في أعيننا وقلوبنا.
فأجابني الشرفي وهو ينظر إلى قبّعة كنت أضعها على رأسي:
ـ شكراً يا أخي.. لقد غمرتموني بمحبّتكم. واللـه الجالية العربيّة في أستراليا عظيمة، لـم تتخلّ بعد عن عاداتها الشرقيّة المشرّفة.
هنا، التفت إليه شربل وقال:
ـ دعني أعرّفك بصديقي المهندس رفيق غنّوم، كان منذ مدّة صاحب جريدة صوت المغترب.
فسألني الشرفي:
ـ ولماذا تخليّت عنها..
فقلت:
ـ لأسباب صحيّة.. وها أنا، كما تراني، أصطاد السمك من أجل الترويح عن النفس، وتنفيذاً لرغبة طبيبي. والآن، أخبرني هل أنت مسرور في أستراليا.
فتطلّع بشربل بعيني مليّاً وقال:
ـ أنا في ضيافة صديقي وأخي شربل بعيني.. الرجل الذي يعرف كيف يكرّم أصدقاءه.. فلولاه لما جئت إلى أستراليا، ولولاه لما حصلت على جائزة جبران، ولولاه لما التقيت بصحفي شاب، أجرى معي حديثاً في منزل شربل، ووعدني بإعداد دراسة أكاديميّة عن أدبي، يقدّمها لنيل شهادة الدكتورة.. على أن أزوّده بمؤلّفاتي متى رجعت إلى اليمن، ولكي يقرّب شربل بعيني المسافة الزمنيّة للدكتورة أهداه كل ما أهديته من كتبي.. إسمه.. إسمه..
فصاح شربل بعيني من المكان الذي يقف فيه لالتقاط صورة تذكاريّة لنا:
ـ أتركها مفاجأة يا محمّد..
فضحك الشرفي وقال:
ـ هذا هو شربل.. لا يخبر عن عمل قبل الإنتهاء منه.
وعندما همّا بتوديعي، همس شربل في أذني:
ـ تعال الليلة إلى منزلي.. سيستلم الشرفي جائزة جبران، وسيلقي أحلى قصائده.
وفي المساء، كان منزل الشاعر شربل بعيني يعجّ بالأدباء والشعراء والصحفيين والفنانين، فاستلم الشرفي جائزته من رئيس رابطة إحياء التراث العربي الأستاذ كامل المر، وجائزة المرأة العربيّة في أستراليا من الممثلة نجوى عاصي.. بعدها حملنا على أجنحة قصائده إلى عالـم لا يصله إلاّ من تذوّق الشعر وعاش لحظات هبوب نسائمه.
وقصّة شربل مع الشرفي بدأت حين التقاه في المربد الشعري في العراق عام 1987، فأهداه الشرفي مجموعة من كتبه، وأعطاه عنوانه لمراسلته، فكانت حصيلة هذه المراسلات العشرات من الرسائل الأدبيّة الهامّة.. والعديد من المقالات والمقابلات مع الصحف اليمنيّة.
ومن الرسالة الأولى، بدأ إعجاب شربل بعيني بصراحة صديقه الجديد محمد الشرفي، فلقد حمل على شعره الفصيح حملة لا يقبلها إلاّ من كان بعقليّة شربل بعيني، وبشاعريّة شربل بعيني. رغم أن نقد الشرفي لشعر شربل لـم يكن بالنقد الجديد، فلقد سمع مثله من نزار قبّاني، والدكتور عصام حداد، ونعيم خوري، وكامل المر، وميشال حديّد، وجوزاف بو ملحم وغيرهم.. كما أنه اعترف على صفحات كتبه، وفي العديد من قصائده، وخاصّة في قصيدته المربديّة، أن الوزن لا يعنيه، في زمن ضاعت به كل الأوزان وكل المقاييس، وأصبح الإنسان في بلاده، وفي كل بلاد، يقتل أخاه الإنسان من أجل المتعة ليس إلاّ. فلنقرأ ما خطّت أنامل الشرفي في رسالة أرسلها لشربل بتاريخ 30/3/1988:
"ملاحظتي على ديوانك عدم ضبط الوزن "التفعيلة"، والنثريّة أحياناً، والنزاريّة الواضحة، وقد يكون شعرك بالعاميّة اللبنانيّة "جبل لبنان" أفضل من شعرك بالفصحى، ولكنني لا أشجّعك أن تعتبرها البديل للغة العربيّة الفصحى. فأنت عربي، ولن تكون كسعيد عقل، أو على مذهبه، ولا تصدّق من يشجّعك، المنطقة واحدة تراثاً وتأريخاً ولغة وجغرافيا، وأحلاماً، وآلاماً، ومسافات عبر التاريخ الطويل الماضي، والمستقبل التأريخي القادم..".
وبدلاً من أن يهرب شربل من وعظ صديق جديد، ويتوقّف عن مراسلته، تمسّك به أكثر فأكثر، ولسان حاله يردّد: صديقك من صدَقَك لا من صدّقَك. ثـم ألـم يعظه صديقه نزار قبّاني بكلام مشابه عندما زاره في مكتبه في بيروت عام 1968؟ فلماذا الزعل إذن؟
ولكن الشرفي، وبعد أقلّ من عام، بدأ يستلذ بقراءة أشعار شربل بعيني، وبدأ يناديه "بالشاعر الإنسان"، كما أنه بدأ يعلن عن إعجابه باستمرارية عطاءات شربل في هذا البلد البعيد. فلنقرأ معاً مقتطفات من رسالته المؤرخة في 13/3/1989:
" أخي الشاعر الإنسان الأستاذ شربل بعيني.
تحيّة، وأمنيات الشعر والأدب لقلمك، وروحك الشاعرة، وحروفك المتوهّجة، ونبض قلبك الدائـم بالحبّ للإنسان، والوطن، والأرض.
تسلّمت رسالتك، مع خمسة كتب من كتبك، وكنت قد استلمت قبلها كتاباً جميلاً، وقرأته وهو جميل عنك، وأنا معجب لهذه الإستمرارية العجيبة في ذلك البلد البعيد..
أشكرك أيضاً على الكلمات القصيرة، لكنّها أطول في القلب والتأثير من مقالة أطول، أو دراسة، لنظل مع هذا التواصل، وقد تسنح الفرصة عند عودتي إلى اليمن نهاية هذا العام، فأقدّمك للقارىء اليمني والعربي".
هذا هو شعر شربل بعيني.. إمّا أن ترفضه وإمّا أن تقبله كما هو. فشربل يعرف تماماً كيف يصوغ أشعاره، ويعرف أيضاً أن "الشعر هو الشاعر لغة وموسيقى"، وأن ما سار عليه الأولّون قد لا يسير عليه اللاحقون، وأن الزمن كفيل بتغيير الأوزان والأنماط السائدة، وأعتقد أن الشرفي بدأ يكتشف أسرار اللعبة الشعريّة الذكيّة عند شربل بعيني، فبدلاً من الوعظ السابق بدأ بتصديق شربل من خلال أشعاره، وأنه صاحب رسالة. وإليكم بعض ما كتب في 9/12/1989:
"أخي الشاعر شربل بعيني..
تحيّة.. أصدّقك من خلال أشعارك، والإستمرار، أنك صاحب رسالة، وأصدّق الآخرين فيما كتبوا ويكتبون عنك.
أنت أحد المهمومين بالإنسان، وبالإنسان في لبناننا، وبيروتنا، وفلسطين، والعرب. والمهمومون بمثل هذه القضايا متعبون، والمتعبون هم الشعراء، والأنبياء، والمصلحون. لأنهم يفكّرون في كل شيء يهمّ الإنسان.
قد نلتقي مرة أخرى، وقد لا نلتقي، ولكننا التقينا وكفى. لقاؤنا في بغداد لقاء، ورسائلنا الآن لقاء أعمق وأسخن، لأننا على بعد آلاف الأميال، وما زلنا نلتقي على صهوات الروح، ومتون الأدب والشعر: أدب الإنسان، وشعر الهدف والقضيّة.
أزفّ إليك إعجاب بعض المعجبين بنشاطك، ونشاط الإخوة المهجريين في أستراليا. ويقول البعض ويتساءلون: هل هذا غزو أو فتح أو استيطان للغة العربيّة في المهجر؟ وقد أجيب أحياناً بأن ذلك يشير إلى أمرين سلبي وإيجابي:
ـ السلبي، هو انعدام الحريّة للمبدعين في بلادهم (دليل على قيمة الحريّة للإبداع).
ـ والإيجابي، نشاط المبدعين واستمرار إبداعهم في المهجر (دليل على حب الحرية والوطن، وأن المهجر ضرورة).
أؤمن كما تؤمن أنت، وكل المهاجرين، أن الحريّة أساس الإبداع، وأن الإبداع أساسه الحريّة، وأن الشعوب المبتلاة بالعبوديّة والقهر والكبت، سوف تظلّ في أول صفوف المتزاحمين على القبور والمشانق والفناء.
لقد سقط جدار برلين، فمتى تسقط بقيّة الجدران في الوطن العربي أو في العالـم الثالث "عشر"؟.. عمر الخطّاب قال: متى استعبدتـم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟
كم أتمنى اليوم الذي تكتب لي فيه من قريتك الصغيرة في لبنان، ولبنان صدر ورئة، كما كان يتنفّس منها المبدعون الأحرار. قال أحدهم: بيروت غلطة حضاريّة صحّحها العرب. ليتنا نصحّح معاني الحريّة والديموقراطيّة، والتعامل، والأخلاق، والسلوك، وأقول: يا ليت.. يا ليت.. حتى ولو بعد أن نموت".
هذه الثورة "الشرفيّة" هي التي حبّبت شربل بشعر محمد الشرفي، ودفعته للتواصل معه. لأنه وجد إنساناً آخر في العالـم العربي يؤمن بما يؤمن به هو وأكثر. ووجده أيضاً أهلاً للفوز بجائزة جبران العالميّة، التي تمنحها الرابطة باسم شهداء الكلمة في كل مكان، وهل أفضل من هذا "الشهيد الحي" المدعو محمد الشرفي للفوز بها.
وكما ذكرت سابقاً، فلقد استلم الشرفي جائزته في منزل شربل بعيني عام 1990، لأن طائرته تأخّرت عدّة أيّام عن الموعد ـ الحلم مع الجائزة. ونزل ضيفاً مكرّماً عنده. وإليكم ردّة الفعل عند الشرفي بعد لقائه الثاني بشربل، كما صوّرها في رسالة أرسلها بتاريخ 1/1/1991:
"أخي الشاعر المبدع الكبير.. والإنسان الإنسان الأستاذ شربل بعيني المحترم.
ألف تحيّة، وكل عام وأنت بخير..
والأذن تعشق قبل العين أحياناً.. وقد تذوب العين والأذن والقلب محبّة عند اللقاء. وتنساب أنهار المحبّة بعد اللقاء، وتنفتح بساتين في القلب، وتنعقد ألف أغنية وأغنية في الأذن، وتخضرّ ألف سماء وسماء في العين.
لقد امتدت جسور بيني وبينك من الأهداف والمبادىء الإنسانيّة قبل اللقاء الأخير، وها هي جسور مجنّحة من المشاعر والعواطف تمتد جديدة دافئة متينة في أعماق القلبين، وأغوار النفسين..
مَن كنت أيّها الرجل؟
ومَن أنت اليوم؟
أيّها التضحيّة التي لا تنتهي، والمحبّة التي لا تذبل.
مَن أنت عندي بالأمس؟
ومَن أنت اليوم وغداً؟
يا مَن أينعت السنابل في قلبه محبّة، وضميراً حيّاً، وخلقاً كالربيع الدائـم.
هل أقول إنك واحد ممن كنت أبحث عنهم في شعري، وأفتّش عنهم في زوايا الخيبة، وجفاف الأرض؟..
مثلك أيها الإنسان عملة نادرة، فأنت مبدع سلوكاً، ومبدع شعراً، ومبدع عملاً، وعلاقات مع الآخرين. لقد رأيت، وسمعت، وقرأت، فما أخطأت فيك عين، ولا خابت أذن، ولا كذبت قراءة.
وما كنت أحسب أن للقصائد قدمين تمشي بهما، وعينين ترى بهما، وأذنين تسمع بهما، حتى لقيتك..
أتمنى لو تتحوّل القصائد إلى سلوك، ودواوين الشعر إلى قيم وأخلاق، حينئذ سيبحث الشعراء عن موضوع آخر للشعر، وأرض أخرى للإبداع. أو يستحيلون إلى أرواح ملائكيّة، تبث السعادة في نفوس البشر، وتزرع النور في كل طريق.
لـم أعد أحملك في نفسي أفكاراً مجردة، وكلاماً أو شعراً هلاميّاً بارداً، لقد أصبحت أغنية أصغي إليها كل يوم، وجريدة يوميّة أقرؤها كل صباح، وفنجان قهوة أكسر به بقايا نعاس، وأنفض به بعض رماد عالق في الوجه، والمتطاير من منافض الرداءة الفكريّة، ورديئي الشعر والشعراء، نجّاك اللـه من رماد الشعر، وغبار الشعراء!!
أخي شربل.. قد لا أستطيع أن أقول كل شيء في هذه العجالة، وفي أوقاتي المزدحمة بالعمل والهموم، ولكنني قد أقول كل شيء بالتقسيط، وعلى امتداد الأيّام والسنوات القادمة، وكيف لا، وقد حفرت بنفسك صورتك في الأعماق، كما هي أمام عيني صباح مساء على جدران منزلي، ووراء كل حرف وسطر في كتبك، وشعرك، وإبداعك، ورسائلك التي لا أرى أنها ستنقطع أو تتوقّف، والتي قد تتحوّل إذا أردت إلى وسيلة أدب وفكر متبادل، ونقاش صادق لهموم الأدب والإنسان.
أخيراً، قبّل عنّي أمك، أمي، أم المؤمنين، التي أعادت إليّ دفء الحب في صدر أمي الراحلة، وحنان عواطفها، ورعايتها، وبورك لها فيما أنجبت، واحتضنت، وربّت، ورعت، وسلّم لي على كل الإخوة والأصدقاء فرداً فرداً، وكل عام وأنتم بخير".
ألـم أقل لكم أن شربل بعيني قد ارتكب جريمة كبرى بإبقاء رسائل تاريخيّة كهذه في أرشيفه دون أن يطلقها للنور.. وكم كنت أتمنى لو كان بإمكاني نشر كل الرسائل التي وصلته، ولكن ما باليد حيلة، فالمجال لا يسمح بذلك.
ما أن وصل الشاعر محمد الشرفي إلى يمنه الحبيب، حتى بدأ الإشتياق إلى صديقه شربل يتأجج في صدره، ويبلبل نهاره، ويؤرقه في ليله.. فبدأ يعمل على استضافته في اليمن.. فاتصل بوزارة الثقافة والسياحة، وقدّم تقريراً مفصّلاً لاستضافة رئيس رابطة إحياء التراث العربي الأستاذ كامل المر وصديقه شربل بعيني. وإليكم ما جاء في رسالة وزير الدولة لشؤون مجلس الوزراء اليمني السيد يحيى حسين العرشي، التي أرسلها لوزير الثقافة والسياحة اليمني في 15/6/1991:
"الأخ وزير الثقافة والسياحة المحترم
بعد التحيّة:
نرفق بهذا صورة التقرير المرفوع للأخ رئيس الوزراء من الأخ الأستاذ محمد الشرفي.
ونظراً لعلاقة الموضوع بالثقافة والنجاح الذي حقّقه حضوره في أستراليا أثناء استلامه الجائزة.
فلا مانع من النظر في المقترحات الواردة في التقرير، ومن ذلك ما يتعلّق باستضافة رئيس الرابطة والشاعر شربل بعيني. وتقبّلوا تحيّاتي".
وراح الشرفي يراجع الوزارة بشأن الدعوة، ويخبر شربل بكل خطواته، وبكل مشاكله، بما فيها المشاكل الزوجيّة، فكتب في 7/7/1991 ما يلي:
"أخي الشاعر الكبير الاستاذ شربل بعيني..
تحيّة.. أشكرك على الإتصال التلفوني إلى عبد الودود المطري. دعوتك والأستاذ كامل المر في وزارة الثقافة. سأتابعها لمناسبة جيّدة.
صمّم الأصوليون على أن يفرّقوا بيني وبين زوجتي، فطلّقت، وتزوجت، وأعيش الآن شهر عسل ممتاز. والضرورات تبيح المحظورات، وللضرورة أحكام".
ولكي يثبت لشربل أنه يعيش كل كلمة كتبها في ديوانه الرائع دموع الشراشف، أرسل له بتاريخ 29/8/1991 صورة يحتضن بها عروسه الجديدة "المودرن"، أي غير المشرشفة، مصحوبة برسالة أختار منها الآتي:
"إطمئن يا شربل.. إن زوجتي الحبيبة بلا شراشف أو أحجبة، وإن كانت تستخدم نصف حجاب مادي على وجهها في حالات، فأسرتها محافظة جدّاً، ولكن ممارستها للعمل كمدرّسة وإداريّة وجامعيّة أتاح لها فرص التخلّص من بعض التقاليد والرواسب الماديّة، فلا يوجد ما يبرّر إنتحاري على أبواب صنعاء، أو إحراق كتبي، إنها تشاركني كل القضيّة بتناغم عجيب فاطمئن. ألهمتني إلى الآن نصف ديوان إنتحار الشراشف الذي سأهديه إليك. هل تريد أن ترى صورتها تفضّل؟"..
وقصة الصورة هذه، تعود إلى حوار ساخن دار بين الشرفي وشربل، وكنت أنا أنصت إليهما وهما يتناقشان في موضوع هام حاربه الشرفي بكل قصائده، ألا وهو موضوع "الشرشف" أو الحجاب الكامل الذي يحجب رأس المرأة ووجهها. فسأله شربل:
ـ هل ترتدي زوجتك الشرشف يا محمد؟
فأجاب:
ـ نعم.. كما أن إحدى بناتي ترتديه..
فقال شربل:
ـ طالما أن عائلتك لا تعمل وفق قصائدك التي تثور بها على "الشرشف"، أجد أن من الأفضل التوقّف عن انتقاده حتى لا يتهموك بانفصام الشخصيّة، وحتى لا يطلبوا منك الإنتحار على أبواب صنعاء، أو حرق كتبك. فلا يحق للشاعر أن يطالب الناس بما لا يفعله هو.
قبيل مغادرته سيدني، سحب الشرفي خاتمه من إصبعه وقدّمه لشربل، فما كان من شربل إلاّ أن سحب خاتمه أيضاً وقدّمه للشرفي.. فتشابكت أيديهما وهما يلبسان الخاتمين.. وحرصاً منه على تذكير شربل بأنه ما زال يلبس خاتمه، كان يرفع يده في اللقاء الذي أجراه معه التلفزيون اليمني، ويلوّح بها وهو يتكلّم كي يلفت شربل إلى الخاتـم.
كثيرة هي القصص الطريفة التي حصلت أثناء زيارة الشرفي لأستراليا، ولكني سأذكر أكثرها طرافة:
طلب الشرفي من الصحفي جوزاف بو ملحم تزويده بكتاب آيات شيطانية لسلمان رشدي، ليأخذه معه إلى اليمن، فصاح به جوزاف: أتريدني يا شرفي أن أكون السبب في إهدار دمك؟. ولكن الشرفي طمأنه إلى أنه سيخفيه في حقيبته الدبلوماسيّة، ولن يكتشفه أحد. ولست أدري إذا كان جوزاف قد حقّق رغبة الشرفي أم لا؟
وذات ليلة، طلب الشرفي من صديقه شربل أن يسكب له كأساً من الويسكي، فرفض شربل تلبية طلبه وقال:
ـ الويسكي يضرّك يا محمد.. إذ أنك تعاني من مرض القلب والسكري، ولا أريدك أن تموت في بيتي..
فغضب الشرفي من تصرفه هذا وقال:
ـ أنا في ضيافتك يا صاح.. وترفض أن تقدّم لي كأساً من الويسكي.
فحمل شربل قنينة الويسكي، وراح يسكبها في المغسلة وهو يصيح:
ـ الويسكي لا يعني لي شيئاً.. صحّتك هي الأساس.. الدكتور قال لي أن المشروبات الروحيّة قد تقضي عليك.. ولا أريدك أن تموت عندي.. أفهمت يا صاح؟.
وأعتقد أن الشرفي لـم يفهم قصد شربل، لأنه راح يشرب ويشرب، وكان شربل يمسك أنفاسه كلّما رأى ضيفه غير عابىء بصحّته. ولكنه، وفي يوم سفره بالذات، أتى شربل بقنينة ويسكي وقال للشرفي: اليوم فقط سأدق كأسي بكأسك، وأشرب معك.. كي أخفّف من ألـم وداعك.. وكي أشرب نخب صداقتنا. من يدري فقد يكون هذا اللقاء لقاءنا الأخير.
فحضن الشرفي صديقه شربل وانفجرا باكيين..
وفي إحدى جلساتنا الحميمة، أبدى شربل بعيني إعجابه بقرآن كريم شاهده في إحدى نشرات الأخبار، بينما كان أحد الرؤساء العرب يهديه لرئيس آخر، فما كان من الشرفي إلاّ أن صاح:
ـ أتعتقد أن الرؤساء العرب أفضل منك؟.. سيصلك القرآن الذي أعجبك متى وصلت إلى اليمن.. ولكن أخبرني، لماذا تريد القرآن وأنت مسيحي ـ ماروني وعلى اسم القديس اللبناني شربل؟
فضحك شربل وقال:
ـ لأنني أفكّر بإهدائك الإنجيل المقدّس.
ورحنا نضحك كما لـم نضحك من قبل. وفي 13/3/1991، أرسل له الشرفي مصحفاً رائعاً وثـميناً، ومرفقاً بهذه الرسالة:
"أرفق لكم بهذا، مصحفاً مفسّراً تفسير الجلالين، ومصحفاً آخر مسجلاً على ثلاثين شريطاً. الأخير أهداه لكم الكاتب الصحفي والقاص محمد عمر بحّاح باسمنا معاً".
وما زلت أذكر كيف انتفضت وعارضت عندما قال الشّرفي إن الحرب تدقّ أبواب الخليج العربي، وقلت له بالحرف الواحد: "لا أعتقد أن العرب سيحاربون بعضهم البعض، وفلسطين ما زالت محتلّة".. واتضح لي فيما بعد، أن العرب لا يحاربون سوى بعضهم البعض، وأن الشرفي كان على حقّ فيما تنبّأ. وها هو يأتي على ذكر الحرب في رسالة أرسلها لشربل بتاريخ 20/5/1991:
"أخي الشاعر الكبير الأستاذ شربل بعيني
تحية طيبة.. أرجو أن تكون في أفضل إبداع، ووفرة إنتاج، وأهدأ عمل، وأوفر كسب. ولقد شغلتنا ظروف الحرب، وما بعد الحرب، وبعد يومين من هذا التاريخ نستقبل العيد الأوّل للوحدة التي هي العزاء، والعوض، والبديل لكل منغصة، وألـم، ونغص في الحياة. وما زلت أتابع مسألة دعوتكم لدى رئاسة الوزراء، ولكنّهم مشغولون، ولكن ستتم قريباً".
الشرفي، كما نرى، ما زال يلاحق دعوة شربل بعيني وكامل المر لزيارة اليمن، ولـم يكن يعلـم أن "أم المؤمنين"، كما كان يحلو له أن ينادي والدة شربل، قد أخذت قراراً حاسماً بعدم السماح لابنها بزيارة أيّة دولة عربيّة، فلقد أصيبت بمرض السكّري عندما تأخّر عن الخروج من المطار، بسبب توقيفه لعدّة ساعات في مطار سيدني، والتحقيق معه من قبل الإنتربول الأسترالي لدى عودته من المربد الشعري في العراق. القصّة رائعة، وسآتي على ذكرها لاحقاً بإذن اللـه.
وبناء على طلب أمّه المرحومة بترونلّة رفض المشاركة بالمربد التاسع، وبمهرجانات جرش الأردنيّة.. كما ألغى فكرة زيارة اليمن من رأسه، وقد أخبر الشرفي بذلك في إحدى مكالماتهما الهاتفيّة.
أخيراً، أحب أن أخبركم أن الشرفي قد خضع، منذ عدة سنوات، لعمليّة جراحية كبرى في القلب، ولكنه قبل دخول غرفة العمليّات في أحد المستشفيات الإلمانية، إتصل بشربل ليخبره أن العمليّة خطيرة، وقد تكون المرّة الأخيرة التي يكلّمه بها، ويعبّر عن حبّه وامتنانه لأشرف صديق عرفه. وما عليكم سوى أن تتصوّروا حالة شربل بعيني النفسيّة عندما علـم بوضع الشرفي الصحي.. فراح يبكي، ويجري الإتصالات الهاتفيّة اليوميّة مع المستشفى الإلماني، وكان المسؤولون فيه يخبرونه أن الشرفي ما زال في غرفة العناية الفائقة. إلى أن اتصل به الشرفي وأخبره أنه كان يسمع صوته، ولكنه كان عاجزاً عن الكلام. فانفرجت أسارير شربل وراح يضحك ويشكر اللـه تعالى على سلامة صديقه شاعر اليمن الأكبر محمد الشرفي
**
عام 1988، وفي مقال نشره في جريدة النهار المهجريّة، العدد 595، شبّه الشاعر فؤاد نعمان الخوري صديقه شربل بعيني "بطاحون النشر في أستراليا". ومن لا يعرف كميّة الكتب التي نشرها شربل يعتقد أن الخوري يهزأ من صديقه!.. ولكي تدركوا أبعاد التشبيه الفؤادي، ها أنا أنشر لائحة بأسماء الكتب الأدبيّة والمدرسيّة التي ألّفها ونشرها شربل بعيني، على أن ألحقها بالمسرحيّات، والكتب التي كتبت عنه، والجوائز والتكريم، والصحف والمجلاّت التي أصدرها، إلى آخره، علّني بذلك أثبت صحّة كلام فؤاد، وأصحّح، في نفس الوقت، بعض العمليّات الحسابيّة الخاطئة، التي اقترفها أناسٌ، عن سابق تصميم، بحقّ تاريخنا الأدبي المشرّف في هذا المغترب البعيد.
ولكنني، وقبل أن أبدأ بنشر اللائحة، أحبّ أن ألفت انتباهكم إلى عدد الطبعات التي صدرت من كل كتاب، حتى تأتي عمليّاتكم الحسابيّة صحيحة وصادقة:
مراهقة ـ أربع طبعات: 1968، 1983، 1987،1989
قصائد مبعثرة عن لبنان والثورة ـ 1970
مجانين ـ ثلاث طبعات: 1976، 1986،1993.
إلهي جديد عليكم ـ 1982
مشّي معي ـ 1982
رباعيّات ـ طبعتان: 1983، 1986.
قصائد ريفيّة ـ طبعتان: 1983، 1992
من كل ذقن شعرة ـ ثلاث طبعات: 1984، 1986، 1990
من خزانة شربل بعيني ـ طبعتان: 1985، 1992
الغربة الطويلة ـ طبعتان: 1985، 1992
كيف أينعت السنابل؟ ـ طبعتان: 1987، 1988
أللـه ونقطة زيت ـ 1988.
كي لا ننسى بطرس عنداري ـ 1988
معزوفة حب ـ 1989
ـ أحباب ـ 1990
مناجاة علي ـ طبعتان: 1991، 1992.
قرف ـ 1993
سبعة عشر كتاباً أدبيّاً، بثلاثين إصداراً أو طبعة لا فرق.. إلى هنا واللائحة لـم تكتمل بعد، ( لقد صدر حتى سنة 2020 أكثر من خمسين كتاباً لشربل بعيني) إذ أنني، كما وعدتكم، سأطلعكم على الكثير، فلا تتأفّفوا من كثرة مؤلفات شربل، بل تأففوا إذا أخفيت منها شيئاً، لأن النتاج الأدبي متى نشر، يصبح ملككم أنتم، وليس ملك صاحبه.
أخبرنا البروفسور نديم نعيمة حين زار أستراليا، أن المكتبة الوطنيّة في كانبرا، تحتفظ بكتب شربل بعيني بطريقة مشرّفة، تماماً كما تحتفظ بكتب عمالقة الأدب الانكليزي.. فلقد طلبت منه الموظفة هناك أن يطبع على الكومبيوتر إسم أديب ما، فما كان منه إلاّ أن طبع إسم شربل بعيني، فكرّت أمامه على الشّاشة أسماء كتبه العديدة بشكل رائع. وليس هذا فحسب، بل أن المكتبة الوطنيّة، تحتفظ أيضاً بالنسخة الأولى لكتاب مجانين، الذي طبعه شربل سنة 1976، واعتبر أوّل كتاب شعري عربي طبع على مطابع أسترالية، وسجّل في المكتبة الوطنيّة. وصدّقوني أن العديد من المتعاملين بالشؤون الأدبية والفنيّة في هذا المهجر، يجهلون أن عليهم واجب تسجيل مؤلفاتهم المطبوعة في أستراليا بالمكتبة الوطنيّة ـ كانبرا، ومكتبة الولاية التي يعيشون فيها، وإلاّ تعرّضوا لملاحقة القانون، ولدفع غرامة مالية كبرى.
وبما أن شربل بعيني يملك دار نشر مسجلة باسمه في الدوائر الحكوميّة، ومعلن عنها في جميع المنشورات التي تروّج للكتب الأسترالية في العالـم، كان على معرفة تامّة بقانون النشر في هذه البلاد.
وقد لا أذيع سرّاً إذا قلت إن مؤسسة "جايمس بانّيت" لتوزيع الكتب، قد ساهمت كثيراً في توزيع كتب شربل العربيّة والإنكليزيّة على العديد من المكتبات الأسترالية والعالميّة.. وهذا ما ساعد أدب شربل على الإنتشار السريع في العالـم. وهذا أيضاً ما دفع شربل إلى الإسراع بنقل بعض كتبه إلى لغات مختلفة. ومن هذه الكتب أذكر:
مناجاة علي، طبعتان: 1992، 1995 ـ ترجمه:
ـ إلى الإنكليزية الأساتذة: ناجي مراد، إيلي شعنين وجو اليموني.
ـ إلى الفرنسيّة الاستاذ عبد اللـه خضر.
ـ إلى الإسبانيّة الاستاذ إبراهيم سعد.
وهناك من يترجمه إلى الأورديّة واليونانيّة أيضاً.
رباعيّات، 1993:
ـ ترجمه إلى الإنكليزيّة الدكتور آميل الشدياق.
أللـه ونقطة زيت، 1997
ـ ترجمته إلى الإنكليزيّة السيّدة مهى بشارة.
بالإضافة إلى العديد من كتبه التي تـمّ نقلها إلى الإنكليزيّة والتي سترى النور عمّا قريب بإذن اللـه.
الآن، بإمكانكم أن تضيفوا ثلاثة كتب، بأربع طبعات، إلى اللائحة السابقة، وأن تتركوا، إذا سمحتم، جدول الحساب مفتوحاً. مع العلم أن الطبعة الثانية من مناجاة علي قد ضمّت أربعة كتب دفعة واحدة، بأربع لغات.
عام 1993، وفي يوبيل شربل بعيني الفضيّ، أعلن سيادة المطران يوسف حتّي، راعي الأبرشيّة المارونيّة السابق في أستراليا ونيوزيلندا، أن شربل بعيني الأديب والشاعر لا يهمّه، بقدر ما يهمّه شربل بعيني المربّي، وإليكم ما قال:
".. وقد يفاجأ البعض إذا قلت: إن شربل بعيني الشاعر، في يوبيله الفضّي، لا يهمّني، بقدر ما يهمّني شربل بعيني المربّي، واضع العديد من الكتب المدرسيّة، التي تبنّتها الحكومة الأسترالية، وتناقلتها أيدي الطلبة العرب في المغتربات. مؤلفاته المدرسية هذه، سدّت فراغاً تعليميّاً هائلاً، بعد أن شحّت، بسبب الحرب، الكتب العربيّة المستوردة، وعجز البعض منها، عن استمالة الطالب المغترب، وترغيبه النطق بلغته الأم، لو لـم يتدارك شربل بعيني الأمر، ويتفرّغ كلياً لإعداد كتب مدرسيّة حديثة، قد لا يخلو صف أو مدرسة منها".
وعندما يصدر كلام مسؤول كهذا، عن رجل مسؤول كالمطران حتّي علينا أن نفتّش عن الأسباب التي دفعته إلى قول ما قال.
عام 1980، إلتحق شربل بعيني بمعهد سيّدة لبنان ـ هاريس بارك، التابع لراهبات العائلة المقدّسة المارونيّات، الذي ترأسه الآن الأخت إيرين بو غصن. وكانت الأخت كونستانس باشا، رئيسة المعهد يومذاك، قد طلبت منه تدريس أطفال الجالية أصول اللغة العربيّة، فرفض بادىء ذي بدء لصعوبة المهمة، ولازدهار تجارة الكاسيتات الغنائية العربية التي يقوم بها. ولكنه، بعد عدة أيام، تراجع عن رفضه وقبل الوظيفة، ليس حباً بالمال، بل حبّاً بنشر اللغة العربيّة في بلاد كل مَن فيها وما فيها يتكلّم الإنكليزية، والسهر على تربية أجيالنا الصاعدة.
وبما أن الحرب اللبنانية، في ذلك الوقت، كانت تقضي على كل شيء في وطنه الحبيب لبنان، وجد أن استيراد الكتب المدرسيّة من لبنان يعتبر من سابع المستحيلات بسبب الأوضاع الأمنيّة المترديّة، أضيفوا إلى ذلك صعوبة تعليمها لأطفالنا المغتربين، كونها لـم تكتب لأطفال يشربون اللغة الإنكليزية مع حليبهم، وفي نفس الوقت لـم تطعّم ببعض الترجمات الإنكليزيّة التي تقرب اللغة العربيّة إليهم، وتقرّبهم إليها. فما كان منه، بمساعدة الراهبات الفاضلات، وبدعم من الحكومة الأسترالية، إلاّ أن بدأ بإعداد الكتب العربيّة الحديثة المزدانة بترجمات إنكليزيّة عديدة، وبرميها أمام أعين طلاّبه وطلاّب معظم المدارس الحكوميّة والخاصّة في أستراليا. وها هو السيّد "غريمشو" سكرتير وزير التربية في ولاية نيو ساوث ويلز عام 1985، يهنىء الراهبات على كتاب شربل بعيني الأول القراءة السهلة برسالة نقتطع منها:
"لقد تمت الموافقة على النسخة النهائية من الكتاب، مع تنويه خاص لمدرستكم لإعداد كتاب مدرسي رائع، نحن بأشد الحاجة إليه من أجل تعليم اللغة العربية في هذه البلاد، خاصة أنه يحتوي على مواد محليّة مشوّقة. ولهذا إسمحوا لي أن أهنّىء مدرستكم على هذا الإنجاز التعليمي المتقدّم"..
وإليكم لائحة بأسماء كتبه المدرسية:
1ـ القراءة السهلة ـ طبعتان: 1984، 1985
2ـ سامي وهدى ـ طبعتان: 1985، 2000
3ـ قاموسي ـ طبعتان: 1985، 1987
4ـ القراءة الشاملة، الجزء الأول ـ 1988
5ـ القراءة الشّاملة، الجزء الثاني ـ 1988
6ـ القراءة الحديثة ـ 1990
7ـ دفتري السّادس ـ 1990
8ـ دروب القراءة ـ 1991
9ـ نعم، أنا أقرأ العربيّة ـ 1992
10ـ تعالوا نكتب، الجزء الخامس ـ 1996
11ـ قراءتي الثانية ـ 1997
12ـ كتابي الأول ـ 1998
إثنا عشر كتاباً مدرسياً، بخمسة عشر إصداراً أو طبعة.. فيكون المجموع إثنين وثلاثين كتاباً، وتسعة وأربعين إصداراً، بدون الكتب التي نشرها، من ماله الخاص، لأشخاص أحبّهم وأحبّ أدبهم.
ثُمّ لا ننسى أن شربل قد أصدر عام 1974 جريدة صوت الأرز. صحيح أنّها لـم تعش طويلاً، ولكنها كانت أوّل جريدة مهجريّة في ذلك الحين توزّع مجاناً.
كما أنه أصدر عام 1995 مجلّة ليلى، التي عاشت أكثر من أربع سنوات متتاليّة، كان حصيلتها 48 عدداً.
بعد هذه العمليّة الحسابية البسيطة، ألا يحق للشاعر فؤاد نعمان الخوري أن يشبّه "شربلنا" بطاحون النشر في أستراليا؟
لقد صدق الرئيس القاري للجامعة اللبنانية الثقافيّة في العالـم ـ قارّة أميركا الشماليّة، الأديب المهجري جوزيف حايك، حين قال في صكّ إمارته:
"شربل بعيني قد جنّد حياته وقلمه لتربية الأجيال، وأغنى المكتبات العامّة بأدبه ومؤلّفاته"؟..
لأن هذا ما يثبته الواقع.
**
الأديب السوري الكبير نعمان حرب، يعتبر، وبدون أدنى شك، "والد الأدب المهجري"، إذ أنه أوّل من نشر سلسلة أدبيّة في الوطن العربي تعنى بأدب المهجر. وقد منحته رابطة إحياء التراث العربي في أستراليا جائزة جبران العالميّة لعام 1987، تقديراً له على هذه السلسلة التي صدر منها العديد من الأجزاء، والتي أطلق عليها اسم قبسات من الأدب المهجري.
ومن كان على هذا المستوى الرفيع من الإهتمام بأدب المهجر، لا بد من أن يهتم بأدب شربل بعيني، "شاعر العصر في المغتربات"، على حدّ تعبيره. فاعتبر بحق، من أهمّ الذين كتبوا عن شربل، ومن أوفى الذين راسلوه من البلدان العربيّة.
المقالات التي كتبها نعمان عن شربل، ونشرها في مجلّة الثقافة السوريّة، بإمكانها، لو جمعت، أن تشكّل "قبسة مهجريّة" رائعة.. وأعتقد أن من الإجرام أن تبقى مقالات ورسائل الأديب حرب مدفونة في أرشيف شربل بانتظار المخلّص. وأعتقد جازماً أن ندرة الورق وسعره الخياليّ هما اللذان منعا نعمان حرب من إتمام وعده بإصدار "قبسة" عن شربل، كما جاء في رسالة أرسلها بتاريخ 4/2/1988، أنشر منها:
"في رسالتي، أعلمتك بأنني قرّرت إصدار كتاب عنك، يشمل كل ما قدّمته للأدب العربي من أعمال غزيرة مبدعة...
وصدقني أن كتاب عبد اللطيف اليونس منذ شهرين انتهيت منه، وجرى تنضيده، وتصحيحه، وتصويره، ولكن الطباعة توقّفت بسبب فقدان الورق. أما تدبيره من السوق السوداء، فإن قيمته الشرائيّة تزيد سبع مرّات عن قيمته في المؤسسة. ولا يستطيع أي ناشر حمل هذا العبء. كما أن الطباعة في بيروت أغلى وأكثر مشقّة وصعوبة.. وقد بدأنا العمل، ولدينا من مؤلّفاتك ومؤلفات الأخ الأديب كلارك البعيني، ما يغنينا ويحقّق دراستنا. وهذا الغنى الفكري، والنبع الغزير الفيّاض، يكفي لأصدار أكثر من كتاب، فكيف في المستقبل المشرق الذي أصبحت وإيّاه على موعد في الإبداع والإنتاج. ولا أحسب شاعراً يضاهيك في الإنتاج الشعري، وفي الإبداع في كل فنون الشعر. حفظك اللـه يا أخي من الحاسدين".
هنا، أحب أن ألفت انتباهكم إلى آخر عبارة وردت في النص:"حفظك اللـه يا أخي من الحاسدين"، وكأن نعمان حرب أدرك، منذ زمن بعيد، أن شاعراً بمستوى شربل بعيني لا بدّ من أن يصبح عرضة لحسد الآخرين، وقد صدق ظنّه.
كما أنّه حاول أن يبدّد شكوك المشكّكين بصدور كتابه عن شربل، وما أكثرهم في هذه الأيّام، فراح يخبره بنفس الرسالة عن العوامل التي دفعته لإصدار الكتاب:
"ليس عامل المحبّة الذي يدفعني لإصدار الكتاب عنك، بل هنالك عامل آخر يضاهي الأول، هو تقديري لمواهبك، وإعجابي بالتقنيّة الشعريّة التي تجيدها، وبالحس الموسيقي الذي يرافق نغماتك".
والظاهر أن ندرة الورق في الأسواق السورية، لـم تكن السبب الوحيد في عدم نشر كتاب نعمان حرب عن أدب وشعر شربل بعيني، بل راحت الأيدي البريدية تتلاعب برسائلهما، وتعمل على محو الفكرة تماماً من رأسيهما. وخير دليل على ذلك ما كتبه نعمان لشربل بتاريخ 5/2/1990:
"قرأت رسالتك المكتوبة على صفحات أحد الكتب، ودهشت لعدم وصول جوابك على رسالتي التي بعثت بها إليك منذ سنة تقريباً، وفيها أعلمك عن استعدادي لإرسال الدراسة التي هيّأت عناصرها عن شعرك الجميل الرائع على أن تكون تابعة لسلسلة قبسات من الأدب المهجري لطباعتها في أستراليا. لأنه يتعذّر عليّ الطباعة عندنا لغلاء أسعار الطباعة، وفقدان الورق أكثر من ألف بالمئة. وانتظرت الجواب، وتأثّرت لعدم وروده، واعتبرت نفسي فضولياً باهتمامي بهذه الدراسة طالما أن صاحب الدراسة لا يكلّف نفسه عناء الرد على رسالة لأخيه الذي يريد تخليده وتعريف القارىء العربي على بلبل غريد يصدح في ديار الغربة بأجمل الألحان. حتى وردتني رسالتك الأخيرة في صفحة كتابك، وأنا لا أشك في قولك، وكنت أتمنى أن ترسل بالبريد المضمون، وأن تكون المراسلة بيننا بواسطة البريد المضمون، ويظهر أن أوضاع البريد، بين بلدينا، خاضعة لممارسات عديدة، ولا توحي بالثقة".
هناك أشياء مهمّة في هذه الرسالة يجب التوقّف عندها. أولاً، إخفاء بعض رسائل شربل بعيني لنعمان حرب، والعكس بالعكس. وثانياً، عدم صدور كتاب نعمان عن شربل حتى يومنا هذا. وها أنا أكشف سرّاً استودعني إياه شربل، وأطلب منه المغفرة على ذلك. فلقد أخبرني أن ابن بلدي الأديب نعمان حرب يريد أن يضمّه إلى (قبساته الخالدة)، وعندما أبديت ارتياحي للخبر، وهنّأته عليه، تطلّع بي طويلاً وقال:
ـ أنا لا أستأهل بأن أصبح (قبسة) من قبسات نعمان حرب، لأنني ما زلت في أوّل الطريق، وعندي الكثير كي أقوله، فإذا أعطاه اللـه وأعطاني عمراً، سنحقّق المشروع في المستقبل.
وأعتقد أن هذا يكفي للرد على أولئك الذين اتهموا شربل بعيني بأنه يسعى للجوائز، وللتكريم، وللكتابة عنه. وكأن لا عمل لديه سوى السعي المتواصل لدى أصحاب الأمور!!.. وها هو أديبنا الكبير نعمان حرب يفقأ أعينهم بقلمه الناصع، ويخبرهم أن شربل بعيني هو الذي أخّر إصدار أهم دراسة عن شعره.. كانت ستدخله التاريخ وتضمّه إلى القبسات الأدبيّة المضيئة في البرازيل وفنزويلاّ والإرجنتين وغيرها. وأعتقد أيضاً أن الوقت قد حان لإصدار الكتاب، بعد أن أصبح العمر على شفير الهاوية. أطال اللـه بعمرهما معاً.
وبما أن همّ والد الأدب المهجري نعمان حرب، كان وما يزال، جمع أولاده في بيت واحد، فقد طرح على شربل فكرة الإنتساب إلى إتحاد الكتّاب العرب، بأسلوب دبلوماسي رائع. وإليكم بعض ما كتب بتاريخ 14/7/1987:
"لديّ تطلّعات كثيرة حول نشر وتعميم الأدب العربي في أستراليا، وتعريف القارىء العربي على النخبة الأدبيّة في هذا المهجر، وسوف يكون الحديث عنكم مفصّلاً في لقائي مع الأستاذ علي عقله عرسان رئيس إتحاد الكتّاب العرب. وعمّا إذا كان من الممكن تنسيبكم أعضاء في الإتحاد، وبذلك نكون قد اجتزنا خطوة ممتازة، وأقمنا جسراً قوياً يكون له شأنه في المستقبل. لأن مؤسسة إتحاد الكتّاب العرب من أكبر المؤسسات الأدبيّة في البلاد العربيّة كافة".
وبما أن نعمان من الأدباء الذين إذا قالوا فعلوا.. فقد بدأ بتحويل تطلّعاته إلى واقع، ونشر كل ما يعجبه من أدبنا الإغترابي، كما جاء في رسالة أرسلها بتاريخ 18/1/1987:
"عدد مجلّة الوفاق الأخير طافح بالمواضيع القيّمة، والإبداع في الشعر والنثر. وكذلك العدد الذي سبقه. اخترت من الأول رائعتك (صدّقيني يا بهيسة) ونشرتها في الثقافة، وسوف تنشر في جريدة حمص.
إنني أفاخر بك يا أخي، باعتبارك من شعراء العرب المبدعين، ولا يقف شعرك عند حدود لبنان، بل يمتد إلى كل الساحات العربيّة. ولعلّ الأيام تعطينا (القروي) الجديد المؤمن بقوميّته العربيّة وبوحدة أمته من المحيط إلى الخليج، فيملأ دنيانا ألحاناً وأنغاماً".
عام 1987، شارك شربل بمهرجان الشعر العربي في العراق، فأرسل إلى صديقه نعمان رسالة يخبره بها بأنه سيكون على مقربة منه، أي في العراق جار سوريا، فاعتقد نعمان أن شربل سيقوم بزيارته في السويداء، المدينة السوريّة البطلة، فاستعد لاستقباله أجمل استقبال، ولكن شربل عاد وأخبره برسالة لاحقة أنه سيزور بغداد وليس السويداء، وهكذا يصبح على مقربة منه. فأرسل له نعمان رسالة بتاريخ 2/11/1987، يقول فيها:
"المسافات لا تقاس بين الأخوة الأحبّاء، وقد فسّرت بأن ستكون في السويداء، فغمرتني الفرحة، لأن كلمة (سأكون على مقربة منك) تعني بأن اللقاء سيتم. أما أنت، فإنك بالقرب مني دائماً ولو بعدت عنّي بالمسافات".
ألـم أقل لكم أن الجميع اعترفوا بمحبّة شربل بعيني لهم، وبمحبّتهم لشربل بعيني، قابلهم أم لـم يقابلهم، "فالمسافات لا تقاس بين الأخوة الأحبّاء"، حلى حد تعبير أديبنا الكبير نعمان حرب.
وكما نصحه نزار قبّاني ومحمد الشرفي، لـم يتأخّر نعمان حرب عن إسداء نفس النصيحة لشربل، خاصة بعد أن فتح معه جدالاً بسبب حذف كل أبياته الشعريّة العاميّة التي استشهدت بها الدكتورة سمر العطّار في دراستها القيّمة عن دور المرأة في شعره، والتي نشرتها مجلّة الثقافة السوريّة في 24/1/1987، وجريدة حمص في 6/2/1987، واعتبر شربل أن في تصرّف المنشورتين إهانة للتراث الزجلي اللبناني والسوري معاً، لأن زجل البلدين واحد. فما كان من نعمان إلاّ أن أجابه بتاريخ 24/3/1987، بما يأتي:
"تساءلت عن سبب عدم نشر محاضرة الدكتورة سمر العطّار بكاملها، والإقتصار على دور المرأة العربيّة عبر التاريخ. فأجيبك بأن ضيق المجال في هذه المجلّة الثقافة هو الذي حال دون نشر الدراسة بكاملها عن شعرك. لأن هذه المجلّة هي المنبر الحر الوحيد للأقلام الحرّة في القطر، ويساهم في الكتابة كثير من أدباء الأقطار العربيّة الأخرى. وأعتقد بأن البارز في الدراسة هو دراسة شعرك، والقارىء يدرك ذلك. أما لجهة الشعر العامي ونظرتي إليه، فإنني أحب هذا الشعر، شعر الشعب، شعر كل الناس. وهو أقرب إلى قلب الجماهير وعواطفهم من الشعر الفصيح. هذا رأيي الخاص، وهذه قناعتي. ولكن نشر الشعر العامي في الصحف والمجلات الصادرة في القطر فهذا قليل قليل جداً. ومن النادر أن تنشر مجلّة أو دوريّة قصيدة عاميّة مهما بلغت من العمق والجودة والفنيّة".
إذن، فمسألة حذف أشعار شربل العامية لـم تكن بسبب ضيق المجال في الثقافة السوريّة، بل بسبب "الفيتو" الذي تضعه الصحف والمجلاّت في قطرنا السوري على هذا الشعر، مهما بلغ من العمق والجودة والفنيّة، على حد تعبير نعمان. وأعتقد أن شربل بعيني لـم يقتنع بما قرأ، وكيف يقتنع؟.. فراح يجادل نعمان حرب جدالاً لا رجوع عنه، خاصّة وأنه اعترف في رسالته بأن الشعر العامي هو أقرب إلى قلب الجماهير وعواطفهم من الشعر الفصيح. فلنقرأ ما كتب شربل لنعمان بتاريخ 9/7/1987:
"تقول أيّها الحبيب في حديث أجرته معك ميسون الجيرودي: "إن بناء الشعر يقوم على أركان الإلهام والوزن واللغة. والقصيدة التي تتوفّر فيها هذه العناصر تشد المتلقّي إليها، وتجعله يعيش في جوّها السحري، والشاعر المهجري يدرج عالياً في عطائه الشعري على هذه القواعد.. فلا يتنكّر لعمود الشعر..".
وفي مكان آخر تقول: "فشعراء المهجر عامة يعتمدون في نتاجهم الشعري على تعلّمهم الأصول والقواعد واللغة قبل هجرتهم.. ويعتبرون أن الوزن والقافية في الشعر هما ممتزجان في الدم العربي، فإذا تخلّوا عنهما فكأنهم يحاولون الإبتعاد عن النفس العربيّة، أو العبث في بناء اللغة العربية العتيد الزاهر".
كلام جميل، ولقد أعجبني من الألف إلى الياء. ولكن ألا تعتقد أن الوقت قد حان لنطلق سراح الشعر العربي من قمقمه الضيّق؟.. ألا تعتقد بأن الوزن والقافية وعمودية القصيدة ليست بالتحديد شعراً؟.. إنك يا أخي تحكم عليّ وعلى كل من ابتعد عن وحدة القافية والوزن وعمودية القصيدة بالتنكّر لدمهم العربي، وبالإبتعاد عن النفس العربية، وبالعبث في بناء اللغة العربية. لا يا أستاذي.. أدبنا المهجري أعطى حريّة الإختيار لأدبائه ولشعرائه، وقال لهم: هذه لغتكم العربية اللامحدودة الأفق، لوّنوها، زيّنوها، علّقوا في أذنيها حلق المجد، وفي عنقها عقود الإنفتاح على الأجمل. هي لكم ومنكم، وجدت لتستوعب الأحسن لا لتتوقّف وتنتن وتتلاشى.
نحن نشكر الخليل بن أحمد، ولكن الخليل مات، وآثار حوافر بغلته محتها أقدام المارّة. الشعر شعرنا.. فلماذا لا نعطي حريّة قصوى لشعرائنا في اختيار طرق ابتكار الأفضل؟.. أفلا تعتقد أن الإنعتاق من القيود قد يؤدي إلى مستوى أدبي عالٍ؟".
هنا بدأ والد الأدب المهجري بتقديم نصيحة نزار والشرفي لشربل علّه يقنعه بوجهة نظره، وإليكم ما كتب:
"تفضّلت في رسالتك ببدء جدل حول الشعر. وهذا يطول ويتشعّب. وإذا كان الفراهيدي قد مات، فإن ما تركه من المأثورات لا يموت. وأسألك، لماذا أطلقتم على الرابطة الأدبيّة في أستراليا إسم "رابطة إحياء التراث العربي"؟. أنا معك في كل تجديد وتطوير. وأرى أن لغتنا العربية الغنية لا يمكن أن تغيب عن كل إبداع، وهي من ركائز حياتنا ووجودنا. أنا مع كل جديد، ومع كل تطوير، على أن يبقى تراثنا حيّاً. وتهمّني اللغة الصحيحة في كل عمل إبداعي. أما الأوزان الشعريّة فأراها ضروريّة في الإيقاع، وفي الموسيقى، وفي المضمون. وقد تعوّدها وألفها العرب منذ الجاهلية حتى عصرنا هذا، ويجدون فيها تلك النسمة المنعشة التي تدخل في أعماقهم.
وفي مهرجان شوقي، إشارة إلى أن قصيدتكم كانت باللغة الفصحى، فطربت وانتظرت ورودها إليّ. أنا أحب الشعر العامي، وأعرف أن له جماهيره، ولكنني أرى أن الشعر الفصيح أقرب الى البقاء والخلود. ولأن العرب في كل أقطارهم يحفظون المعلّقات، والمتنبي، وأبا تمام، وشوقي، وغيرهم. والشعر الزجلي لا تحفظه العرب في كل أقطارهم لاختلاف اللهجة العاميّة، على الرغم من حلاوته وعمقه وموسيقاه. فأنا لا أستطيع أن أفهم الشعر العامي في مصر، أو في الخليج، أو في السودان.
إن الموهبة تغمرك من الرأس حتى الأخمص. والأجواء الرحبة تحيطك، والأرض الخصبة في متناولك. فليكن الجنى مستطاباً، ولتبق السنابل يانعة. ولنحلّق كالنسور في أجواء الدنيا العربيّة الواسعة، ولا يقتصر تحليقنا على مساحة لبنان. فالسماء العربيّة واسعة، وأرجو أن أراك محلّقاً فيها كنسر لقمان، حتى إذا عجز جناحاه عن التحليق استعان بقوادمه".
ولكن نعمان، وبعد دراسته العميقة والواعية والمتفهمة لأشعار شربل بعيني المكتوبة باللغة الفصحى، أو باللهجة اللبنانية، بدأ يلين بعض الشيء ويعترف بأن القارىء هو صاحب القرار الأخير، حسبما جاء في رسالته المؤرخة في 4/2/1988:
"وقد كنت أوضحت عن رأيي في شعر النثر، وحرام أن يسمّى شعراً، ولكن أنا معك بأن الشعر هو الشعر، حسب المصطلحات التي يطلقها الناس، عندما تهزّهم الكلمة الحلوة المموسقة. وعلى كل فإن الدراسة سوف تتناول هذه الأمور كلّها، والقارىء هو صاحب القرار، وقد يكون بجانب الشاعر ولا يهتم ببقيّة الآراء".
إنّه، والحقّ أقول، جدال أدبي هام بين قمّتين في الأدب، وبين رأيين مختلفين ومتحابّين في آن معاً، فكيف يسمح لنفسه صديقي شربل بأن تبقى رسائل نعمان في أرشيفه كل هذه المدّة، وفيها ما فيها من آراء ومناقشات نحن بأشد الحاجة إليها؟!.
قد يتساءل البعض: لماذا لـم يأت نعمان حرب، في رسائله، على ذكر مجلّة ليلى التي أصدرها شربل؟!.. وأعترف بأنه أتى على ذكرها في معظم رسائله، كونها كانت تعني له الكثير، وكان ينتظر وصولها إليه بفارغ صبر.. وها هو يختصر كل اهتمامه بمجلّة ليلى بآخر رسالة أرسلها لشربل في السابع من كانون الثاني 2001:
"أيها الحبيب شربل.. تأخّرت في الكتابة إليك، بعد احتجاب ليلى عن الصدور، لأن هذا الإحتجاب أثار في نفسي الألـم والحزن، لأن بقاء ليلى على قيد الحياة، كان بيرقاً خفّاقاً في سماء المهاجر، يمثّل الأدب العربي في كل أشكاله وألوانه ومعطياته، ونقاء الفكر القومي بكل ما له من ميزات في عالـمنا المطلوب لتفعيل الحياة. وما أحوجنا إلى مثل هذا الصوت يعلو بنبراته في بلدان الإغتراب، ويعبّر عن تاريخنا وحضارتنا وأمجادنا. وكانت ليلى تحمل هذه الرسالة وتضيء كل الجوانب المعتمة من حياتنا.
لماذا توقّفت ليلى عن الصدور؟ لماذا توقّف البلبل الغريد عن الشدو على أفنان أستراليا؟.. لماذا احتجبت ليلى.. وهي كانت المرآة الصادقة للأدب والفن والتاريخ؟!
كل هذه التساؤلات أحاطت بي، لأنني أجهل السبب المقنع، ولا أظن أن النفقات الماديّة قد حالت دون الصدور، ولا النبع الفيّاض بالإبداع والفكر قد توقّف. أحتار في السبب، وأحتار كيف أفسّر تراجع الفرسان في حلبة الخلود القومي!!
حبيبي شربل.. حاول أن تقنعني بالأسباب التي أدّت إلى احتجاب صدور مرآة الأدب والعروبة والفكر عن الإستمرار في حلبة الحياة، كي لا يستمر قلقي وألمي لغياب نجمة وضّاءة من سماء الإشعاع".
قبل أن يقنع شربل بعيني صديقه نعمان بالأسباب التي أدّت إلى اجتجاب صدور مرآة الأدب ليلى، عليه أن يقنعنا نحن أولاً، لأنه أوقف المجلّة دون استشارة أحد منّا.. هكذا واللـه. فبعد وفاة والدته أم أنطوان مباشرة، قال:
ـ لقد أوقفت ليلى وألغيت مهرجان عيدها الرابع، الذي توزّع فيه جائزة شربل بعيني السنويّة.
ولكي أكون منصفاً مع شربل، أعترف بأنه أخبرني، وقبل توقّفها بأشهر، بأن المجلّة تأخذ كل وقته، وتدمّر موهبته الشعرية، لذلك لـم يتمكّن من إصدار ديوان شعري واحد بسبب الإرهاق الذي تسبّبه له. كما أن سفره المتواصل خارج أستراليا قد يؤخّر صدور المجلّة في مطلع كل شهر، وهو الذي لـم يؤخر صدورها يوماً واحداً طوال أربع سنوات. أخيراً، جاء رحيل والدته عن هذه الفانية، بينما كانوا في زيارة أحد أقاربهم، ليقعده عن التفكير، أي أنه، وبصريح العبارة، أصبح مشلول التفكير تماماً. فأحسّ بأن ليلى ستتأخّر عن الصدور عدّة أشهر ريثما يستعيد قواه العقلية، ويتخلّص من صدمته النفسيّة، فآثر أن يوقفها تماماً.
ومن حقّ نعمان أن يلوم شربل على حجب مجلّة ليلى عن أعين القرّاء، وهو الذي كتب عنه الكثير من المقالات التي نشرت على الصفحات الأولى من الثقافة السوريّة. وهو الذي أرسل له تحيّة الفجر والأمل، وبسمة الأرض والوطن، في مقال نشره في الثقافة عام 1986، ومنه أختار:
"ولـم يكن الشاعر الرقيق شربل بعيني، إبن لبنان البار، المهاجر إلى أستراليا، إلاّ واحداً من تلك البلابل المغرّدة التي خطّت بأجنحتها الأرجوانيّة على أغصان شجرة العروبة الشامخة في المغارس الأجنبيّة، يزفرون، ويتألمون، وترى أوراق هذه الشجرة تتساقط الواحدة تلو الأخرى، على أرض ممزقّة تئنّ من جروحها، وتندب أبناءها المتخاصمين المتباعدين. وصوت الشاعر هو صوت الأمّة وضميرها. هو نفحة علاء، وثورة شرايين، وصرخة حقّ. هو لهيب النزوح المستعر، وصدى التوجّع والغربة. هو انتفاضة الأصالة العربية لبعث التراث من جديد.
وأطلّ الشاعر على أرض الوطن، يحمل ريشة فنان، ويراعة إبداع، وكلمة حقّ، فرسم لوحة الأرض الممزقّة، وحمل إليها شوقه وحنينه، وأسند رأسه إلى حضنها، وخاطب الذين شوّهوا الصورة، وتحالفوا مع الشيطان، بأن مصيرهم إلى القبر، ومن القبر إلى البحر.
هل يفقهون سر الألـم الكامن في هذه القصيدة الرائعة التي تنضح سمّاً مذيباً: "دعوة إلى الجنون"؟. هل يعرفون كيف يعودون إلى رشدهم؟.. فصرخة الشاعر هي صوت الأمة، ودمعة الشاعر هي دمعة الأمّة، وإيمانه هو إيمان كل ذي إيمان. إن الفجر يشرق من خاصرة الليل، والأمل يطلّ من أنات الجريح.. وإلى شربل بعيني، تحيّة الفجر والأمل، وبسمة الأرض والوطن".
كما أنه كان يدرك أن المادة لـم تكن السبب في احتجاب ليلى، لأن شربل، بنظره، يعيش ليكتب لا ليكسب. وها هو يؤكّد ذلك عام 1990، في الثقافة السوريّة:
".. والشاعر شربل بعيني يحتضن هذا الأدب، وينفق عليه بسخاء، ويعمل لنشره في الأقطار العربيّة على الرغم من الغلاء الفاحش في الطباعة، وفي التوزيع، لأنه يعيش ليكتب لا ليكسب، وكأنه ينشد دائماً أغنية الشاعر الفرنسي بيرانجيه: أنا لا أحيا إلاّ كي أنظم أغاني، فإذا انتزعت مني مكاني ياسيدتي، فإنني سأنظم أغاني كي أحيا".
قيمة شربل الأدبية عند نعمان لا تعلوها قيمة. لذلك لا يريده أن يتراجع إلى الوراء، بل أن يفتّش أبداً عن المرتفعات والأماني والأحلام ليوقظها، كما جاء في مقال نشرته الثقافة عام 1996:
"الشاعر المبدع شربل بعيني، أبداً يفتّش عن المرتفعات، ويغوص في أعماق الوجود، ويفتّش عن الأماني والأحلام ليوقظها، ويبعث فيها النبض والحياة. وأين تكمن الآلام والجراح، ليصف لها الدواء، ويوقف أوجاعها ونزفها.
أبداً يعود إلى المنابع الأصيلة ليعب منها الراح والكوثر، ويصطفي منها القلائد والعقود الحيّة المضيئة المشرقة. لا يقف عند الحدود التي رسّختها أجيال المبدعين والملهمين، وإنما يتجاوزها ويبني على شموخها تماثيل الجمال والإبداع في رؤياه الجديدة. يحب بإخلاص ما بناه أهله فوق سطح المجرّات، ويبقى وفيّاً لهذا الإشعاع المنبعث من خيوط الشمس. لأنه تعبّد في محراب الكلمة الصادقة، وعاش في دنيا الحرف العربي العريق في تاريخه وحضارته. لا ينكر الذين سبقوه على دروب الخلود، ولكنّه يتّخذ منهم مثالاً وريادة، ويستشفّ من بريقهم الألوان والأنغام الحلوة، ويضيف إليها الفريد الجديد المطرّز بالحبكات المذهّبة، والخيال الرائع، والبلاغة في المضمون، والإشراق في المبنى".
وصدّقوني أن ما من كتاب صدر عن شربل بعيني، إلاّ وقرَّظه قلم نعمان حرب، وخير دليل على ذلك مقال نشرته الثقافة السوريّة أيضاً عام 1995، مدح به نعمان الأديبة مي طبّاع مؤلفة كتاب شربل بعيني قصيدة غنّتها القصائد بمقدّمة رائعة.. قال بعدها:
"هذه المقدّمة كان لا بد منها، ليعرف القارىء العربي، ولو لمحة موجزة عن هذه الأديبة الكبيرة مي طبّاع، التي أصدرت دراستها المتميّزة عن شاعر عربي كبير، يغترب في أستراليا منذ أكثر من عشرين سنة، وقد أصبح من الشعراء العرب البارزين الذين أعادوا سيرة جبران ونعيمة والقروي وفرحات وغيرهم من الرعيل الأدبي الذين رفعوا راية الأدب العربي في كافة أنحاء المهاجر، وخلّدوا لغة الضاد بكل ما فيها من جمال وفصاحة وبلاغة، وأبرزوا بمآثرهم الحضارة العربية وأصالتها وشموخها.
شربل بعيني أحد العباقرة العرب في أدبه وعطائه الوفي، ونهجه الجريء في كل ما يعطيه من نثر وشعر، ومن إخلاص للعروبة والوطن، ومن تقديس للإنسانية والمثل العليا".
أما قنبلته الأدبيّة الشهيرة، فلقد ألقاها عام 1993، على الصفحة الأولى من الثقافة السوريّة، غير عابىء بمن سيزعل أو بمن سيرضى، فضميره الأدبي لا يسخّره لمراضاة أحد. ومن هذا المنطلق، لقّب شاعرنا شربل "بشاعر العصر في المغتربات". ومن غيره يقدر على منح هذا اللقب دون أن يلتفت إلى الوراء. أليس هو من ألّف أكثر من عشرين كتاباً عن شعراء المهجر؟.. أليس هو المطلّع على كل شاردة وواردة في أدب الإغتراب على مساحة الكرة الأرضيّة؟!.. بلى.. وألف بلى.. لذلك، لن يتجاسر على لومه لائـم إذا قرأ إطراءه هذا لأدب شربل بعيني:
"إنّني على صلة دائمة بأدباء وشعراء المهجر في كافّة أنحاء المعمورة، وأرى أن الشاعر شربل بعيني هو شاعر العصر في المغتربات، لا يوازيه أي أديب مهجري بغزارة الإنتاج الأدبي، ووضع مجهوده، وعبقريته، وماله، رهناً لإعلاء الأدب والفكر، وغرس الكلمة العربيّة في القلوب والنفوس، وبذل الذّات للحفاظ على ألق الحضارة العربيّة، وشدّ العلاقات والأواصر بين أبناء المغتربين وإخوتهم المقيمين".
عندما توفّى اللـه فلذة كبد نعمان حرب، المرحوم عادل، بكاه شربل كما يبكي العمّ ابن أخيه، وأخبرنا في افتتاحيّة مجلّة ليلى العدد 32، الصادر في حزيران 1998، عن غصّته وألمه على المرحومين نزار قبّاني وعادل نعمان حرب، وإليكم ما كتب:
"الغصّة التي اجتاحت قلبي عندما علمت بوفاة صديقي الشاعر نزار قبّاني، سأظلّ عاجزاً ما حييت عن التعبير عنها، كيف لا، وقد ذهبت خصّيصاً إلى لندن من أجل التنعّم بطلّته البهيّة التي تنعّمت بها منذ أكثر من ثلاثين سنة، عندما أهديته باكورة أعمالي مراهقة. ولكن سارت الرياح بعكس ما تشتهي سفني، فعدت إلى سيدني خائباً، لأتلقّى بعد يومين من وصولي خبر وفاته.. وها نحن نهدي العدد القادم من مجلة ليلى لروح نزار، معطراً بدموع أدباء وشعراء من دول عديدة، أحبّوا شعره، وآمنوا بعبقريّته.
وما أن بدأت مشاعري تتأقلم مع الفاجعة، إذ بي أستلم رسالة من صديقي الآخر نعمان حرب، بعد انقطاع دام أكثر من سنتين ونصف، فإذا بغصّتي تعود إلى سابق عهدها، تحرق صدري، وتؤجج فؤادي.. ولكي تعرفوا السبب، ها أنا أترككم مع مقطفات من رسالة الحبيب نعمان:
(.. أكتب إليك بعد غربة عن الكتابة استغرقت سنتين ونيّف. ولكن غربة الكتابة لـم تؤثـر على دفء العاطفة وحنين القلب والروح، ولـم تنزع منها جبال الشوق والوداد، وقد جار عليّ الزمن، واختطف من بيتي إبني الشاب، عادل، وهو في الخامسة والأربعين، في شهر كانون الأول عام 1995. ثـم اختطف من جانبي شقيقي الأكبر مني في شهر كانون الأول أيضاً عام 1996، ثـم اختطف خلال عام 1997 ثلاثة شباب من أبناء العـم.. هذه المصائب المتلاحقة كادت أن تفقدني ما أملك من صبر عليها، تلجمني، بل وتوثق أصابعي عن الإمساك بالقلم، لأنها أقوى وأعنف ما يستطيع الإنسان أن يواجهه في حياته..).
وبعد هذا كلّه، ألا يعذرني القرّاء إذا أخبرتهم عن غصّتي على نزار، وغصتي على ألـم وحزن نعمان، وهما من أغلى الغوالي، رحـم اللـه الأول، وأطال بعمر الثاني".
هناك مشروعان يجب أن يتحقّقا حالاً: تنفيذ إصدار كتاب نعمان عن شربل، ونشر رسائله إليه.
رسائل هنري زغيب، نسيب نمر وجورج شدياق
كثيرون هم الأدباء والشعراء الذين كتبوا عن شربل بعيني وكاتبوه. فمنهم من التقيته شخصيّاً في منزله، ومنهم من التقيتهم في أرشيفه. ومن الذكريات المحبّبة إلى قلبي، تلك الجلسة التي استمتعت بها مع الشاعر اللبناني المعروف هنري زغيب، صاحب المؤلفات التي لا حصر لها، وكان شربل قد أولـم على شرفه، ودعانا للتعرف إليه.
هنري زغيب يسحركم بكلامه، بمعلوماته، وبحبّه المتعملق للبنان. لبنان حلمه، حرفه، عودته من منفاه الأميركي، والمشاركة في إعادة بنائه. كان يتكلّم وكنّا ننصت إليه بإصغاء قاتل.. وكأن حمامات الروح القدس ترفرف فوق رؤوسنا
في سيدني، أهدى كتابه سمفونيا السقوط والغفران لشربل، ولـم يكتفِ بالكتاب بل خطّ بأنامله الشعرية هذا الإهداء الرائع:
"شربل بعيني..
يا أخي الشاعر.. إليك..
إن وطناً نبنيه بالشعر من منآي الأميركي إلى منآك الأسترالي، هو لبنان الذي يبقى، بعدما رملُ الشطّ يبتلع الزبد.
وحده الشعر يعصمنا ويعصم لبنان.
مع محبّتي ودعائي".
سيدني في 6/12/1993
ولأن هنري زغيب، كباقي الشعراء العظماء، مجبول بالوفاء، أرسل لأخيه شربل، حال وصوله إلى منفاه الأميركي، بطاقة معايدة، جاء فيها:
"يا خيّي شربل،
بعدني عـم بقراك.
أللـه يخلّيلك هَالغَزَارَه الشعريّه،
وهَالغِزَّارَه الشّاعره.
وكل ميلاد والشعر فرحك الدّايـم.
وكل سنه وإنت شاعر أكثر..
مع محبّتي".
ميلاد 1993
كما أنّه لـم ينسه في منفاه الأميركي، بل راح يذكره في لقاءاته الكثيرة، وهذا ما ذكرته الدكتورة سمر العطّار في "البوست كارد" الذي أرسلته من الولايات المتحدّة الأميركيّة:
"عزيزي شربل..
اجتمعت في فيرمونت، حيث عقد مؤتمر العربية في التسعينيّات، بالشاعر اللبناني هنري زغيب، وهو يعرفك، ويعرف أخبار الجالية الأدبية في أستراليا. وقال لي إنه كان ينشر بالنهار، ولكنني لـم أتذكّر اسمه.. وهو لطيف جداً، وأصبحنا أصدقاء في فترة المؤتمر القصيرة".
وبما أن الدكتورة العطّار قد تكلّمت عن اللطف الأدبي عند الشاعر اللبناني الكبير هنري زغيب، أحب أن أخبركم أن شربل قال لي:
ـ إن ألطف إنسان التقاه في بغداد كان الناقد اللبناني المرحوم نسيب حنّا نمر.
ولكي تتعرّفوا عليه أكثر، سأنقل بعض ما جاء في مقال كتبه شربل عن نسيب، إثر عودته من المربد، في جريدة النهار، العدد 581:
"خلع حذاءه وتربّع على مقعد الباص الملاصق لمقعدي. شذرته، فانتبه لذلك وسألني:
ـ من أين أنت؟
* من أستراليا..
ـ لي صديق عزيز جداً سافر إلى أستراليا..
ـ ما اسمه؟
* لا أخالك تعرفه..
ـ ولـو..
* كامل المر..
ـ لقد كنت أتغدّى معه قبل سفري.. بربّك من أنت؟
* نسيب نمر".
ونسيبنا هذا، لـم تصدر موسوعة علميّة في العالـم إلاّ وأتت على ذكره. ومع ذلك، نجد أن اللطافة والتواضع والأخلاق ترافق كل حرف كتبه، أو كل عمل قام به. وها هو في إحدى رسائله لشربل يطلعنا على بعض نشاطاته، وللتوثيق فقط، أذكر أن الرسالة بدون تاريخ:
"علمت منك إنك تريد إصدار كتاب بعنوان مربديّون، فرأيت أن معلوماتكم المنشورة عنّا غير كافية، وإن هي صادقة، فأحببت أن أزيدها بمعلومات أخرى، وبصورة طبق الأصل من الموسوعة العالميّة الأخيرة، التي نشرت شيئاً عنّا، ولا حاجة لذكر الموسوعات الأخرى ما قبلها، فهذه تكفي على ما أظن، وهي منحت كل من كتبت عنه صفحة أو أقل مع صورة في صفحة ثانية.. إلى المعلومات الرئيسية الآتية: عضو لأكثر من مرة في مجلس نقابتي الصحافة والمحررين في لبنان. عضو في إتحاد الكتّاب العرب منذ تأسيسه قبل 20 سنة. من مؤسسي المجلس الثقافي في بلاد جبيل ـ لبنان. من مؤسسي لجنة الدفاع عن المستأجرين في لبنان. عضو لجنة الدفاع عن السلم اللبنانية ، من 1962 إلى 1965، وعضو اللجنة المركزيّة (1954 ـ 1955)، وعضو مرشح لها (1963 ـ 1965) في الحزب الشيوعي في لبنان وسورية. إشترك في مؤتمرات عالمية للسلم ونزع السلاح في موسكو وهلسنكي وبغداد".
وتطول لائحة نشاطات نسيب نمر المشرّفة، ولكنني سأكتفي بالقليل منها، لأصل إلى هدفي المنشود، ألا وهو هذه العبارات:
"منح سليمان أبو زيد وسام الأرز الوطني اللبناني، فأقمنا له احتفالاً تكريمياً في 16 نيسان 1988، وفي كلمتي ذكرت أن قصيدته وقصائد قليلة من لبنان وبعض البلدان العربيّة والمهجر أنقذت المربد الشعري الثامن في بغداد، وكنت أعني قصيدتك أنت عندما ذكرت المهجر.
أخبرك أن إحدى الموسوعات العالميّة التي شاءت أن تكتب شيئاً عني، سألت عمّا إذا كنت قد حزت أوسمة ما. فأجبتها: نعم، دخولي السجن في لبنان وسورية مراراً دفاعاً عن الشعب والوطن. ولا أدري هل ذكرت الجواب أم لا، لأنني لـم أتسلّم النسخة بعد، وربما لن أستلمها، وربما لـم تكتب شيئاً، فاللـه أعلم، كما تقول العرب، إلى جانب الحمد للـه والبسملة".
ومن كلمته التي ألقاها في حفل تكريم الشاعر سليمان أبو زيد، أنشر ما يلي:
"وأخيراً، كنا معاً في مهرجان المربد الثامن في بغداد، فكانت قصيدته بين قصائد نادرة، لؤلؤة بين لآلىء، وجوهرة بين جواهر، استطاعت جميعاً، على قلّتها، الإستيلاء على الأمد وبلوغ الغرض، حتى لقّب هناك بفتى المربد الأغرّ، وقد وقف ووقف آخرون، من لبنان وبعض البلدان العربيّة والمهجر (1)، يثبت ويثبتون أن الشعر العربي شعر الشباب، وشعر الأمل الكبير والرجاء".
وفي الحاشية رقم واحد، قال فقيدنا الكبير نسيب حنّا نمر: "المقصود قصيدة الشاعر شربل بعيني في المربد الثامن في بغداد".
ومن لبنان، أنقلكم إلى فنزويلا، إلى رسائل القبس العاشر من قبسات الأديب نعمان حرب المهجريّة، عنيت بذلك ابن حلب البار الشاعر المهجري الكبير جورج يوسف شدياق، الفائز بجائزة جبران العالميّة لعام 1993.
رسائل الشدياق إلى شربل رائعة، ومفعمة بالأدب وبالفلسفة. ولكي تدركوا صحّة ما أقول، أطلعكم على رسالة مؤرخة في السابع من آذار 1989، يشرح فيها لشربل فلسفة البحث عن اللـه:
"أخي الشاعر المبدع الأعز شربل بعيني دمت بحفظ اللـه ورعايته.
تحيّة وإكراماً..
تسلّمت منذ أسابيع خلت كتابكم القيّم شربل بعيني ملاّح يبحث عن اللـه دراسة الأستاذ محمد زهير الباشا، فتفيّأت دوحته خلال سويعات عذاب.
أبحر شراعي الضائع في بحركم، باحثاً معكم عن الشاطىء الذي ما زلتـم تبحثون عنه في كلّ حدب وصوب.
لست أدري هل تصل؟!.. أم نصل معاً إلى الملأ الأعلى حيث شفافية الروح، وصفاء النفس، والقدرة الساميّة المترفّعة عن الأدران الأرضيّة.
السرّ الإلهي، يا أخي شربل، هو محور البحث عن اللـه. ولكن هل لنا نحن الشعراء أن ندرك تلك الخفايا وراء عالـم الغيب.. وأن نسمع ذلك الصوت الهاتف من أعماق الكون ؟!.. فالعذاب والقهر والعبودية والمادة ليست سوى جدران ضبابية تحجب عن أنظارنا اللـه.. وحب الزعامة والجشع والطمع والإضطهاد ليست غير رياح هوجاء تقذف بشراعنا إلى اليمّ المظلـم، وتمنع هذا الملاّح الباحث عن اللـه من متابعة الدرب نحو الشفافية والضياء والنور.
إذن لنتابع الإبحار بحثاً عن اللـه ـ والأمر يومئذ لمشيئته ـ والمعجزة الكبرى هي السير نحو الهدف، والإبحار نحو الأمل.
الغربة يا صديقي شربل هي مدرسة الشاعر المهجري، وما دمنا نعيش في المهجر، سنظل نبحث كل يوم عن اللـه بين ضباب الفكر، وخلف جدران العقل.
أشدّ على يدكم مباركاً، وضمّة حبّ وتقدير، وإلى مزيد من العطاء الفكري والأدبي".
شربل بعيني لـم يلتقِ أبداً بجورج شدياق، ومع ذلك نشعر من خلال رسائلهما بأن معرفتهما أعتق من خمر الدوالي، وأنقى من دموع العذارى. وها هو برسالته المؤرخة في السابع من شباط 1996، يستقبل صدور مجلّة ليلى كما لـم يستقبلها أديب مهجري من قبل:
"أطلّت عليّ منذ أسابيع خلت ليلى، حاملة بين ثناياها قواوير عطور أدبيّة وثقافيّة، اختصرت ألف ربيع ندي الشذا من بلادي.
وكلّما قلّبت صفحة جديدة فاح دوني عطر أرقّ وأندى. فالحروف عندما نزرعها فوق القرطاس عليها أن تتحرّر رغم أنف الزمن.
ولدت ليلى المجلّة يوم وجدت "ليلى" المرأة في قلبكم، وكما يقال وراء كل رجل كبير إمرأة عظيمة، والحب يا أخي شربل يأتي بألف معجزة ومعجزة. وأول معجزة هي ولادة ليلى خلف الشاطىء الثاني، بعيداً عن أرض الآباء والأجداد، حيث التعامل مع لغة الضاد هو أمر طبيعي.
فلننتظر إذن معجزة ثانية وثالثة، تطلّ علينا بين سانحة وأخرى من أستراليا، موطن العطاء الخيّر الباذخ، وموطىء الخطى الثابتة السائرة أبداً نحو مستقبل أفضل، وغد واعد بمواسم خير وعطاء.
هل استعرتـم عيون "زرقاء اليمامة"؟.. أم أن عيون ليلى كانت كافيّة غداة أنبأتكم بهذا المولود الميمون ليلى، والتي نتمنى لها كل ازدهار وتقدّم بين أحضانكم.
السعي المضطرد لا تخبو له جذوة في قلبكم، والهمّة القعساء هي أول حجرة نرجم بها أول من ينظر إلى المجلّة بعين الحسد والغيرة. فإلى الأمام يا أخي شربل، ونحن نعد اللـه وليلى، شعراء وأدباء المهجر معكم للأخذ بيد كل عمل قيّم، وجهد مـثمر خلف البحر. الطريق متعب وشاق، والعثار لا يمكن حصرها، وأنتم أدرى بذلك، ولكن الهدف.. والهدف وحده يمكن أن يمهّد الطريق، وينتزع العثار واحدة تلو الأخرى نحو غدٍ مشرق، مفعم بالأمل والتفاؤل. "وإرم" تبقى قريبة دون كل مسافر يحدو به أمل، ويهدهد مساعيه هدف.
ليلى المرأة هي لك وحدك.. وليلى المجلة هي في قلوب الجميع. ونرجو لهذا التوأم حياة مديدة وازدهاراً مضطرداً إلى ما فيه خير الضاد في هذا المهجر".
هناك حكاية استوقفتني في إحدى رسائل الشدياق لشربل، أحببت أن أطلعكم عليها، ألا وهي محاولة مجيئه إلى سيدني لاستلام جائزة جبران، فلنقرأ ما كتب في 29/10/1993:
"وبعد يومين.. تلكأت قليلاً، وألقيت بقلمي ناحية، وأسرعت إلى مكتب جوازات السفر علّني أستطيع الحصول على جواز سفر جديد أستطيع بموجبه السفر إلى سيدني، وبعد جهد وعناء كبيرين، حصلت على وعد من رئيس المكتب بمنحي جواز سفر خلال الأيّام القليلة القادمة.
وعدت إلى صومعتي، وبين جوانحي تتراقص آمال العالـم أجمع، وعندما أمسكت بقلمي ثانية، أحسست بدموعي تجري مع مداده، لتخطّ فوق القرطاس أرقّ الكلمات وأنداها، وكنت أنسلّ بين سانحة وأخرى من محراب القصيدة إلى سيدني، وأراني واقفاً بينكم معانقاً ومصافحاً إخوتي ورفاق دربي، شاكراً لهم حسن الظنّ.
وتولّت أيام، وعدت إلى رئيس مكتب الجوازات في فينزويلاّ طالباً جوازي الجديد.. ويبادرني بكلمات اعتذار عن عدم إمكانه الحصول على الجواز، وعليّ الإنتظار أكثر من شهر لإعطائي هذا الجواز الجديد.
وعدت أدراجي، والشجون تعتصر فؤادي ـ قبّح اللـه المسافات ـ قالها قلبي، وقالتها كل جوارحي. إذن لا بد للقصيدة أن ترحل بمفردها، لقد وأدوا بلحظة واحدة آمال عمر طويل".
ووصلت القصيدة إلى سيدني بمفردها، لتقع بين يديّ الزميل أنطونيوس بو رزق، الذي ألقاها نيابة عن الشاعر جورج الشدياق، بعد أن تسلّم جائزته.
هنري زغيب، نسيب حنا نمر وجورج يوسف شدياق، عمالقة ثلاثة التقيتهم، وقرأتهم وأحببتهم، فأدركت للحال سرّ محبّتهم لشربل بعيني، وسرّ محبّته لهم. رحم اللـه نسيباً، وأطال بعمر هنري وجورج وشربل، كي تبقى أقلامهم شموساً منيرة في دياجير شرقنا العربي الغارق بالضلال
**
معظم الكتب التي كتبت عن شربل بعيني، نَهِلَتْ من منبع واحد، ألا وهو سلسلة شربل بعيني بأقلامهم التي جمعها الاستاذ كلارك بعيني، ونشر منها سبعة أجزاء.. توزّعت على الأعوام التالية: الجزء الأول 1986، الجزء الثاني 1987، الجزء الثالث 1988، الجزء الرابع 1989، الجزء الخامس 1989، الجزء السادس 1990، الجزء السابع 1990.
وكم كنت أتمنى أن يواصل كلارك إصدار تلك السلسلة، لأن المقالات التي كتبت عن شربل قد توصلها إلى عشرين جزءاً أو أكثر. وهذا ما لمسته وأنا أتصفح أرشيف شربل الغني بمئات المقالات والقصائد التي قيلت عنه، ولـم يحتضنها غلاف كتاب بعد.
سلسلة شربل بعيني بأقلامهم تحتوي على 1320 صفحة من المقالات والقصائد التي قيلت بأدب شربل بعيني، والملفت للنظر أنها تحتوي أيضاً على مقالات جميع الذين تهجّموا على شربل دون أن يحذف منها حرف واحد. من هنا جاءت عظمة هذه السلسلة. أي أن التاريخ لا يزوّر، فالأسود أسود والأبيض أبيض، وما قيل يجب نقله بأمانة.. وعلى التاريخ أن يحكم له أم عليه. وقد انتبه الاستاذ فؤاد الحاج لذلك، فكتب في عدد النهار الصادر في 14 أيلول 1989، ما يلي:
"من هنا يحق لي أن أقول بأن كلارك بعيني الذي أخذ على نفسه عهداً بمتابعة الطريق، لهو جدير بأن نقدّم له تحيّة الإعجاب والتقدير، لما يقوم به من جهد في سبيل الحفاظ على كل ما يقال بشاعر الغربة الطويلة شربل بعيني، أو يكتب عنه من مدح أو نقد".
من السلسلة أختار ما كتبه كلارك في مقدّمة الجزء الأول:
"عرف شربل السخاء منذ نعومة أظافره، فلقد كان وما زال سخيّاً مع جميع رفاقه، لدرجة أنه كان يطعمهم زاده في المدرسة، ويتطلّع إليهم وهم يأكلونه والبسمة تعلو شفتيه.
وأذكر، مرة، كيف أتاه أحد الأصدقاء طالباً مساعدته بكتابة أحد المواضيع الإنشائيّة، ونظراً لقلّة الوقت المحدد، اضطر شربل إلى إعطائه الموضوع الذي أعدّه لنفسه، فحاز الطالب على علامة متفوّقة، وحاز شربل على تأنيب المعلّم.
وقلائل هم الذين يعرفون مدى عشق شربل للنقد والنقّاد، شرط أن يكون نقدهم هادفاً وبنّاء، وينبع من إخلاص الناقد لمسيرة الأديب، ويساهم مساهمة فعّالة في نموّه وتطوره وإغناء أدبه".
عام 1988، أطل على أدبنا المهجري في أستراليا، وللمرّة الأولى، كتاب الأديب السوري الكبير محمد زهير الباشا شربل بعيني ملاّح يبحث عن اللـه، وقد تكلّمت عنه سابقاً، ومنه أختار:
"إذا كان "دانتي" قد سجّل رحلته في سبعة أيّام، أمضاها في عوالمه الثلاثة: الجحيم والمطهر والجنّة.. فكانت الكوميديا الإلهيّة.
وشربل ما زال يسجّل رحلته كل يوم، يمضيها في أرض الغربة. لبنان جحيم مخيف، الغربة هي المطهر، والعودة هي الجنّة.
يقود تلك الرحلة "فرجيل" شاعر اللاتين: رمز العقل. ورحلة شربل يتفجّر خلالها شعره: رمز العقل والإنطلاق.
مع دانتي، بياترس رمز اللاهوت. ومع شربل، أللـه رمز الخير.
مع دانتي، القديس برنار رمز التأمل. ومع شربل، الحب رمز الحلم والموعد.
في عالـم المطهر، تتراءى لدانتي الأحلام. وشربل، في أرض سيدني، تتمازج الوقائع، ومن أرض الأرز إلى جزيرة أستراليا".
وفي نفس السنة، سجّل رئيس رابطة إحياء التراث العربي في أستراليا الاستاذ كامل المر رحلته الأدبيّة مع صديقه شربل، في كتاب أطلق عليه إسم مشوار مع شربل بعيني. وها هو في مقدّمة الكتاب يخبرنا كيف راودته فكرة إصداره:
"وفيما كنت أراجع تلك المساهمات المتواضعة التي قمت بها، ولا سيما المشاركة بندوة حول نتاج الشاعر شربل بعيني، رأيت أنه بالامكان تطويرها لتتحول إلى دراسة شاملة لنتاج هذا الشاعر، علّها تحقّق غايتين في آن معاً.
الغاية الاولى: أن تؤدي واجباً نحو واحد من أهم وأجرأ شعراء العربيّة في وقتنا الراهن، ليس في المغترب فحسب، بل على نطاق العالـم العربي أيضاً. وعلّها تساعد أيضاً في تسديد خطاه على درب الآلام الطويلة، فيتحفنا بنتاج في العاميّة والفصحى، يكون ذا أثر فعّال في تغيير الواقع المؤلـم، الذي تعيشه الأمة العربيّة قاطبة، بشطريها المقيم والمغترب، وفيم الغرابة، أو ليس الشعراء والأدباء مهندسي المجتمع؟"..
وأعترف هنا بما اعترف لي به شربل، بأنه لـم ينشر قصيدة من قصائده، إلاّ بعد أن قرأها، وراجعها، وانتقدها كامل المر والمرحوم نعيم خوري.. هذا إذا لـم يعرضها عليّ أيضاً، وعلى وجوزاف بو ملحم وعصمت الأيّوبي.. أو يرسلها للدكتور عصام حدّاد في لبنان. وكان دائماً يردّد:
ـ أفضل أن تُنتقد قصيدتي قبل نشرها.. فأنا لست إلهاً، وأدبي ليس منزلاً.
ولولا مراجعاته الكثيرة بشأن قصائده لـم يتمكن في العام 1987 من أن يهز المربد الشعري في العراق.
من مشوار كامل مع شربل أختار:
"الشاعر شربل بعيني طاقة لا تهدأ. الصحف العربيّة الصادرة في أوستراليا تلاحقه لتقطف من ثـمار نتاجه غذاء خالصاً تقدّمه لقرائها. وكلّما تراكمت هذه المقطوعات نسّقها وصنّفها وأصدرها في مؤلّف ، بالفصحى أو بالعاميّة. آخر هذه المؤلفات وليس الأخير بالطبع، فشربل ما زال في أوج عطائه، كان ديوان أللـه ونقطة زيت.
في هذا الديوان، يتناول الشاعر بأسلوب شعره العامي المبتكر، الأساطير والأقاويل والخزعبلات التي تزخر بها الطقوس الدينية والمذهبيّة على اختلافها. هدفه في ذلك تحرير الانسان من المفاهيم التي ولّدتها تلك الأساطير الخزعبلات التي استعبدت الانسان، وعطّلت تفكيره، وأجازت له، على مدى العصور والازمان، أن يرتكب الجرائم باسمها، وفي سبيل الدفاع عنها.
وشربل، في ديوانه أللـه ونقطة زيت، كما في ديوانه كيف أينعت السنابل؟ أشد جرأة، وأكثر وضوحاً، وأعمق فكراً، وأكثر شمولاً.
يبدأ الديوان بثلاثة أسطر بخط يده تقول: "لقد سخّرت مالي في خدمة حرفي، وجنّدت حرفي في خدمة الانسانية، فساعدني يا رب كي أمتلك الحقيقة".
أرى البعيني قد عمل بنصيحة الريحاني، حيث أوصى الشاعر ـ كل شاعر ـ أن: "وفّر قرشك لطبع ديوانك". فقروش شربل توظّف لطبع دواوينه، وفي كثير من الأحيان لمساعدة الآخرين على نشر نتاجهم، وهذا في عرفي قمّة الأخلاق الأدبيّة، وإدراك واعٍ لمسؤوليّة الكلمة الواعية المسؤولة".
عام 1991، نشر شربل بعيني ديوانه العالمي مناجاة علي، فأعجبت بالديوان الممثلة الأديبة نجوى عاصي، وكتبت عنه دراسة رائعة نشرتها في جريدة البيرق، ومن ثـم جمعتها في كتاب بعنوان الوهج الإنساني في مناجاة شربل بعيني، صدر عام 1993. وقد أظهر الكتاب طول باع نجوى في عمليّة النقد والتحليل الأكاديمي الراقي..
تطرّقت في كتابها إلى سيرة المناجى وأدبه وفلسفته، وغاصت في كتابات إمام العباقرة وعباقرة الإمام، وشرحت الإنسانيّة في شعر شربل بعيني، كما ألقت الضوء على طفولة شربل في أرض "مجدليّا" ورحلته مع الحياة، وأفهمتنا أن الشعر رسالة، إلى أن تصل إلى الموضوع الأساسي مناجاة شربل بعيني للإمام علي، وتهدينا بعض المزامير المترجمة إلى الإنكليزية والفرنسية والإسبانيّة.
وها هو الأديب الكبير محمد زهير الباشا يوجه شكره لنجوى في رسالة أرسلها لشربل بتاريخ 15/10/1993، فيقول:
"وأشكر نجوى عاصي على كتابها حول مناجاة علي، فإن إسهامها بما قدّمته من نتاج، وما قدّمته من معلومات تاريخيّة وحقائق إنسانيّة في حياة الخليفة علي بن أبي طالب كرّم اللـه وجهه، ما يشير إلى مكانته في قلوب عارفيه".
من كتاب نجوى أختار:
"من حسن الحظ أن شربل ابتعد عن الروتين الشعري السائد، فقد عرف كيف يجعل الكلمة العاميّة مطواعة ومتناغمة، رقيقة حيناً، وعنيفة أحياناً أخرى، ولقد أحسست وأنا أسافر عبر مناجاته أن الكلمة تأتيه وكأنها قادمة إلى احتفال، لأنه يعرف في أي مقام يوظّفها، بعد أن يخضعها بكثير من الذكاء لتصوراته، وكأن في عمله تلقائية مدهشة، تتخطّى القواعد الجامدة، لتجعل الصورة تتوضّح، مع تناغم شكل التعبير في أفق الشاعر من جهة، والمضمون من جهة أخرى".
وفي نفس العام، 1993، أصدر الاستاذ أحمد حمّود كتابه شربل بعيني في مناجاة علي بن أبي طالب، وفيه يحلل عمق التلاحم بين الاديان، وكيف أن شربل المسيحي ينظر إلى الإمام علي نظرة مسيحيّة صرفة، فيناديه "بقديس القديسين" ويناجيه "بالمزامير". وقد وزّع الكتاب مجاناً في الإحتفال التكريمي الذي أقيم لشربل احتفاء بصدور مناجاته. ومنه أنتقي الآتي:
"للّـه وللحق أقول: إن شاعراً كشربل بعيني يلقّب بأمير التباشير بلا منازع في المهجر والوطن. وفي هذا الظرف بالذات، حيث تبث أحرف كلماته الأنغام الصادقة، فتنفذ إلى أعماق كل ذوّاقة من البشر. وقد كان لقريحته هدف سامٍ هو السير بالإنسان صعداً، هداية اعتقدها شربل حقاً سماوياً بلا منازع، بتعلّقه في حب علي، فانسكبت روحه في إطار هذا الحب، على رغم ما يتعثّر به هذا الإنسان من نقد في طريق العذاب، في حين عجقت روحه في حب إبن أبي طالب، وفي حبّ الناس.
كلماته تفيض رقّة وألماً معاً، ذلك أن أعمق زفرات القلب البشري وجدت لها أنغاماً على شفتيه، وعلى أوتار قيثارته، فسميّ بحق صنّاجة زجل العرب المعذّب، في الوطن الكبير والمهاجر. وسيتناول الناس أشعاره، ويترنمون بألحانها المختلفة، وخصوصاً هذه المناجاة المزاميرية، التي سكب شربل كلماتها من روحه، بأحدث قالب زجلي.. وسيوالي الذوّاقون الترنّم بأشعاره، إلى ما شاء اللـه، دون أن تفقد شيئاً من روعتها".
أما الأديبة مي طبّاع، فقد أعجبتها القصائد العديدة التي قيلت بشربل، فاحتضنتها بحنانها الأنثوي، وعطّرتها بعبير مداد أزهارها، وجمعتها، عام 1994، في كتاب أسمته شربل بعيني قصيدة غنّتها القصائد.
وقد كتبت عن الدراسة مقالات عديدة في الوطن والمهجر، وكنت واحداً من أولئك الذين كتبوا عنها، وها أنا أختار مقتطفات من مقال كتبه الأديب السوري الكبير نعمان حرب حول الدراسة، ونشره في مجلّة الثقافة السوريّة عام 1995:
"إن هذه الدراسة المكثّفة التي بلغت مائتين وخمسين صفحة من الحجم الكبير، قد جمعت بين أسطرها وصفحاتها، سبعاً وسبعين صفحة، كمقدمة للمؤلفة حول كافة الجوانب المضيئة من شعر شربل بعيني، ثـم أتبعتها بقصائد لعدد من شعراء المهجر الأسترالي، خلّد كل منهم الشاعر بعيني برؤيته، ومن وجهة نظره في إبداعه وعطائه".
كما أختار مقتطفات من مقال كتبه الأستاذ أنور حرب في جريدة التلغراف الصادرة في 20/6/1994:
"أهو شاعر ينظم قصيدة أم قصيدة غنّتها القصائد؟
عرفنا شربل بعيني شاعراً وطنيّاً عاطفيّاً وجدانيّاً غزير العطاء والتأليف والإصدار، كما عرفناه شاعراً يبحث في عطاءاته أدباء ومفكّرون.
وليست مي طبّاع الأديبة الأولى التي غاصت في نتاج البعيني، وكتبت عنه محلّلة وناشرة لأعماله وللذين كتبوا عنه في مناسبات ودراسات.
وفي الدراسة الموجزة لشعر شربل بعيني مهّدت الأديبة التي تملك فكراً عميقاً وقلماً شفّافاً لكتابها بوصف الشاعر بعيني: عرفناه هزاراً غريداً، نفحة عربية متوقّدة جريئة..".
من كتاب مي أختار ما يلي:
"طريقة شربل بعيني الجديدة في الشعر العامي استوقفتني، قرأتها مرات ومرات، لما فيها من سلاسة وعذوبة وعمق وجرأة. وجدتها ينبوعاً متدفقاً، لا ينضب، من العطاء الإنساني المثمر، شاملةً جامعة، ترفد مختلف الفنون بديمومة من الأدب والشعر والعلـم والفلسفة. ومما رفع من مقام زجليّاته، رحابة صدرها بالخير والمحبّة، وعدم تطرّفها أو انحيازها لجهة معيّنة. فمهما اختلفت القضايا التي طرحها وسيطرحها الشاعر، تبقى في جوهرها الحقيقي تمثّل قضية واحدة، ألا وهي.. الإنسان".
أخيراً، أهدى طلاّب جامعة مكارثر في غربي سيدني، الشاعر شربل بعيني، بعض الدراسات الجامعيّة التي أعدوها حول أدبه، فما كان منه إلاّ أن أعادها لهم، عام 1996، منشورة في كتاب اسمه شربل بعيني في جامعة مكارثر. والجامعيون الذين ساهموا بتأليف الكتاب هم السيدات والسادة: أنطوانيت عوّاد، ميرنا الشعّار، حنان فرج، نهى السيّد، رولا موسى، ميشال شرف، وسناء زريقة.
من الكتاب أختار هذه العبارات من دراسة الجامعيّة حنان فرج:
"يجدر بنا ان نشكر الشاعر الاديب شربل بعيني على مؤلفاته القيمة، التي ساهمت، وما تزال، في نشر الكلمة العربية والشعر العربي في هذه البلاد البعيدة.. كما انه، أي شربل، يغني التراث العربي، ليس في استراليا وحسب، بل وفي كل البلاد العربية والمهجرية. بإيجاز، نستطيع القول: إنه احد اهم اعلام الادب المهجري، او كما كتب عنه الاديب السوري المتخصّص في ادب المهجر الاستاذ نعمان حرب: "هو شاعر العصر في المغتربات".
ثلاثة عشر كتاباً، والحبل على الجرّار، كتبت عن أدب شربل بعيني.. تعتبر، بحق، أكبر شهادة تاريخيّة لعظمة أدبه، وأرفع وسام يعلّق على صدره.. فأنّى للتاريخ وللغربة أن يغيّباه، وقد تجنّدت أقلام كثيرة لتكريمه، وللإعتراف بعطائه المشرق.
**
مسرح شربل بعيني
أخبرتني الممثلة المهجرية المعروفة نجوى عاصي، أنها رافقت الفنان العربي القدير دريد لحّام في زيارته لمعهد سيّدة لبنان هاريس بارك عام 1993. وعندما سأل الراهبات عن أهم نشاطات المعهد، أخبرنه أن التلاميذ قاموا بعمل مسرحي جيّد إسمه "ضيعة الأشباح" من تأليف وإخراج الشاعر شربل بعيني. فما كان من الأخت مادلين أبو رجيلي إلاّ أن وضعت شريط الفيديو في آلة العرض، وراح "غوّار الطوشي" يطوش بعبقريّة صغارنا المغتربين، وبأدائهم الجيّد، وبتمثيلهم الرائع، وكأنهم خلقوا للتمثيل وخلق التمثيل لهم. فما كان منه إلاّ أن قال أمام الجميع: جميع وزارات الثقافة والتربية والتعليم في الدول العربية لا يمكنها أن تأتي بمثلها.
نحن نعرف أن الوزارات العربيّة بإمكانها أن تأتي بأفضل منها لو شاءت، ولكن فناننا القدير أراد أن يبالغ بإبداء إعجابه بمسرحية اشترك فيها أكثر من 300 طالب وطالبة، أدّوا أدوارهم، بأقل من ساعتين، بإتقان بالغ وبطريقة يعجز عنها الكبار، رغـم أن أعمارهم تتراوح بين الثامنة والثانية عشرة لا غير.
كما لا يسعني إلاّ أن أذكر أن الفنان اللبناني الكبير أنطوان كرباج قد استعان باحدى بطلات "ضيعة الأشباح" التلميذة أنطوانيت خوري، لتمثيل دور ابنته في مسرحية "كذّاب تحت الطلب". وأن المخرج التلفزيوني الشهير سيمون أسمر قد طلب من بطلة مسرحيات شربل بعيني التلميذة ريما الياس، أن تذهب إلى بيروت لأخذ دورها الطليعي في عالـم الغناء.
إذن، مدرسة شربل بعيني الفنيّة أطلقت الكثير من مواهب أطفالنا العمالقة.. وجعلتهم يشعرون بانتمائهم اللا محدود إلى تلك اللغة العربية التي ينطقها أجدادهم وآباؤهم.
ورغم صعوبة التعامل مع مئات الأطفال في مسرحيّة واحدة، نجد أن شربل بعيني لـم يستسلم لليأس، بل أغنى الفن الإغترابي باثنتي عشرة مسرحيّة ولا أجمل.. فاعتبر عن حق "مؤسس المسرح الطفولي في أستراليا"، على حدّ تعبير رئيسة معهد سيّدة لبنان في هاريس بارك الأخت إيرين بو غصن، ليلة افتتاح مسرحيّة "شارع اللبنانيين" عام 1997.
وإليكم لائحة بأسماء المسرحيّات التي ألفها وأخرجها:
فصول من الحرب اللبنانيّة ـ 1987
ألو أستراليا ـ 1988
الطربوش ـ 1989
ضيعة الأشباح ـ 1990
هنود من لبنان ـ 1991
يا عيب الشوم ـ 1993
أللـه بيدبّر ـ 1995
المدرسة ـ 1996
شارع اللبنانيين ـ 1997
جارنا أبوردجيني ـ 1998
طلّوا المغتربين ـ 2000
عصابات وبس ـ 2002
يا مار شربل ـ 2004
(هناك أيضاً مسرحية الكنز المسحور)
(هناك أيضاً مسرحية الكنز المسحور)
وبما أنني حضرت معظم هذه المسرحيّات الخالدة، وكتبت عن بعضها، أجد لزاماً عليّ أن أعترف بأن كل واحدة منها كانت تقول للثانية: أنا أجمل منك. فلقد أوقعنا شربل بعيني بحيرة ما بعدها حيرة: من أين يأتي بأفكار مسرحيّاته؟ وكيف بإمكانه أن يسيّر جحافل من الأطفال بطريقة يعجز عن وصفها اللسان؟..
قال الأستاذ جوزيف خوري في مقال نشره في البيرق العدد 1766، عن مسرحيّة "طلّوا المغتربين":
"كل عبارة في المسرحيّة بحاجة إلى دراسة مطوّلة، رغم كوميديّتها الصارمة الهادفة، التي أضحكت الجمهور حدّ البكاء، وجعلته يتعلّق أكثر فأكثر بخشبة المسرح، دون ملل أو تأفف".
وعن خبرة شربل بعيني في المسرح الطفولي، كتب الأستاذ بيار رفّول في جريدة الهيرالد، العدد 201، أن:
"الأداء الجماعي بيّن عن أنه أصبح له خبرة واسعة في هذا المجال".
وعن ازدحام القاعة بالحضور ليلة عرض مسرحيّة "فصول من الحرب اللبنانية" عام 1987، كتب الاستاذ بطرس عنداري في عدد النهار 547، ما يلي:
"شارك بالتمثيل حوالي 300 طالب وطالبة، وهذا حدث هام بحد ذاته، ولوحظ ازدحام القاعة الكبرى بالحضور، الذي زاد عن الألف نسمة".
أما عن احترام قدسيّة الوقت أثناء عرض المسرحيات، فلقد كتب الاستاذ جوزاف بو ملحم في صدى لبنان العدد 554، ما يلي:
"المسرحية بدأت في وقتها المحدد، والذين تأخّروا ثواني فاتهم أن يروا بعض مشاهدها، فكأنما شربل بعيني وطلابه ثورة إجتماعيّة بيضاء، تحاول تخليص شخصيتنا الإجتماعيّة مما علق بها من أمراض عدم احترام الوقت، وقلة التقيد بالمواعيد، وإذا الثانية عندهم ثانية، هي جزء من العمر، تقال فيها كلمة، تمثّل حركة، يفتضح أمر أزعر، تسدى نصيحة، ويلطش زعيم".
وقد خصّ الاستاذ أنور حرب مسرحيّة "الطربوش" بمقال نشره عام 1989، في عدد التلغراف 2011، جاء فيه:
"الفكرة ناجحة وتستحق التنويه، والتنفيذ رائع يستوجب التقدير، والتمثيل حيّ لأنه ينطلق من قلوب بريئة لـم تدنّسها أوساخ السياسة".
ولكي يحوّل النثر إلى شعر، ولغة الجرائد إلى أدب، راح رئيس تحرير جريدة التلغراف الأستاذ أنطوان قزّي يصف مسرحيّة "يا عيب الشوم" في العدد 2526، بهذه العبارات:
"من الثبات، من غفلة الساعات المتسارعة، من عجقة الأرصفة المظلمة، يوقظنا شربل بعيني، ويحملنا إلى مسرح سيّدة لبنان مشاهدين، مستلهمين، معجبين، حاملين في أيدينا أسراب عصافير، ولتبقَ الأشجار بلا أطيارها، نغمض العيون على الفرح الآتي من فوق، من على الخشبة، نغمضها جيّداً كي لا نطل على الشارع من جديد على درب "يا عيب الشوم".
هنيئاً لنا بصغارنا الكبار، براهبات ساهرات، وبشاعر أقل ما يقال فيه انه يصهر من الطفولة ما يغني عن سفسطة البلغاء".
إذن، نجاح مسرحيّات شربل بعيني، وباعتراف رؤساء تحرير الصحف المهجريّة، لا غبار عليه، لا من ناحية التأليف والإخراج، ولا ناحية الفكرة، ولا من ناحية التمثيل، ولا من ناحية الحضور.. حتى ولا من ناحية احترام الوقت.
ألـم أقل لكم إن شربل بعيني لـم يدخل مهنة التعليـم في معهد سيّدة لبنان، إلاّ حبّاً بأجيالنا الصّاعدة. وها هو الاستاذ أنور حرب يرى ما أرى في مقال نشره عام 1990، في عدد التلغراف 2089، عندما قال:
"هذه النواة يسهر شربل بعيني على زرعها ورعايتها في النفوس البريئة، ويرعاها كي تنمو في المستقبل وتزهر وتثـمر".
كما أن الاستاذ أنطونيوس بو رزق قدّم شكره للشاعر بعيني عام 1989، على ما يقوم به من أجل تنشئة أزهار الغربة، فكتب في صدى لبنان العدد 677، ما يلي:
"أخيراً، لا بدّ لنا أن نشكر كاتب المسرحيّة ومخرجها الشاعر شربل بعيني، الذي عمل من مسرح سيّدة لبنان تقليداً سنوياً ينتظره الجميع بفارغ الصبر كل عام، والذي ساهم ويساهم في إنماء الحس الفني لدى التلاميذ الذين من المؤهل ان يكون لهم شأن في عالـم الفن والرقص والتمثيل".
وهل أجمل من اعتراف المربي الكبير المرحوم فؤاد نمّور، في مقال نشرته البيرق في عددها الصادر بتاريخ 13 تموز 1990:
"بأن شربل بعيني قد وصل الذروة في مسرحيته السابقة "الطربوش" إلى أن حضرت "ضيعة الأشباح" فاكتشفت أن درجات سلّمه طويلة، وانه قادر على اكتشاف المواهب بين طلابه إلقاء وتمثيلاً وغناء ورقصاً".
وهذا ما أكّده الدكتور جميل الدويهي في جريدة صوت المغترب العدد 1060، عندما اعترف أن شربل قد تمكّن في أحيان كثيرة من اختراق السقف المسرحي:
".. وإذا كان شربل بعيني قد وجد نفسه مقيّداً في أمور كثيرة، منها اضطراره لإظهار 600 طفل في مسرحيّة واحدة، مما يعني اضطراره أيضاً لمراعاة قدرة الأطفال على الحفظ والأداء.. فإنه في الوقت نفسه استطاع أن يقدّم عملاً جيّداً، وفي أحيان كثيرة تمكّن من اختراق السقف الذي حددته له قدرة هؤلاء الشبّان، كما في المقطع الذي دار بين "البصّار" والفتاة التي تبحث عن عريس".
أما الاستاذ أنطوني ولسن فكان في كل مرّة يفكّر فيها بمستقبل الأطفال يلجأ لصديقه شربل بعيني، وها هو يستنجد به في مقال نشرته البيرق في عددها الصادر بتاريخ 10 آب 1990:
"وأخيراً أعود إليك يا شربل، فسامحني.. لماذا أفكّر بك عندما يرتبط تفكيري بالأولاد، ربما أحس بإحساسك المخلص تجاه هؤلاء الاولاد، وإني أتمنى أن تقود أنت المسيرة لخلق جو إجتماعي يهتم بأولادنا في المهجر".
ومن أجل إيجاد مثل هذا الجو الإجتماعي، ارتأى الأستاذ هاني الترك أن تعرض مسرحيّة "عصابات وبس" في المدارس الأخرى، فكتب في جريدة التلغراف، العدد 3891، الصادر في 3 تموز 2002، ما يلي:
"إن المسرحيّة عمل فني رفيع، ويجب أن يعاد تمثيلها في المدارس العربيّة الأخرى. إذ من الواضح أن الشاعر بعيني قد بذل فيها الجهد الضخم، وهي مسرحيّة فنيّة تثقيفيّة تعليمية ترفيهيّة.
إنها مسرحيّة تستحق العرض على باقي أطفال الجالية العربية واللبنانية في المدارس الأخرى. تحيّة إلى البراعم الأطفال الذين جسّدوها على خشبة المسرح".
لقد منّ اللـه على شربل بعيني بوزنات أدبيّة وفنيّة كثيرة، وأعتقد أنه عرف كيف يتاجر بوزناته ويضاعفها، وكيف يحوّل صحراء غربته إلى حديقة غنّاء تنشد فيها فِلَذُ أكبادنا أجمل الألحان وأرقّها
**
محبّة السفراء والقناصل
معظم سفراء لبنان وقناصله العامين في أستراليا كانوا معجبين بأدب شربل بعيني، ولقد كرّمه كل واحد منهم على طريقته الخاصّة. منهم من خصّه بالجوائز كجان ألفا، ومنهم من خصّه برسائل الإطراء كسهيل فريجي وغبريال جعارة وجلبير عون والسفير ريمون حنينة، ومنهم من خصّه بالتكريم على مستوى الدول كالسفير لطيف أبو الحسن، وسآتي على ذكره لاحقاً. ومنهم من مدحه شعراً كقنصل لبنان العام في مالبورن الأستاذ مصطفى مصطفى.
وقبل أن أسجّل قصائد مصطفى لشربل، أحب أن أنشر مقاطع قليلة من رسائل السفير حنينة.
قال سعادته، في رسالة أرسلها لشربل بتاريخ 21 أيار 1982:
"إني أقرأ أشعارك باهتمام بالغ، وبتأثّر عميق. فشعرك يلامس الأعماق، ويظهر روحاً حساسة، وغربة مضنية".
وفي رسالة ثانية أرسلها له بتارخ 31 أيار 1985 قال:
"أشكرك من كل قلبي على مجموعتك الشعرية الرائعة، التي تنعشُ، في قلوب المغتربين اللبنانيين، حبّهم لوطن الأرز. فليوفقك اللـه ويرعَ خطواتك من أجل مصلحة لبنان".
كما أحب أن أطلعكم على رسالة وصلته من القنصل العام الاستاذ سهيل فريجي في الأول من كانون الأول 1976، يمدح بها ديوان مجانين، أول ديوان طبع في أستراليا وسجّل في المكتبة الوطنيّة في كانبرا، وفيها يقول:
" عزيزي الاستاذ شربل
تحية طيبة وبعد..
ما أن انتهيت من تصفّح مجانين، حتى أخذت القلـم لأهنّئك على هذا النتاج القيّم. فقد فتحت مأساة الوطن آفاقاً وتحسسات واسعة أمام المفكرين والادباء ليصوّروا انطباعاتهم وتوجيهاتهم. وإننا نحمد اللـه أن في لبنان من تفهّم جذور المشكلة وأبعادها، وهم اليوم جادّون في بناء مجتمع جديد خالٍ من أدران الماضي، فالأمل أن يوفّقوا في ذلك رحمة بالشهداء والأدباء".
كما أحب أن أنقل إليكم شكر القنصل اللبناني يوسف صيّاح لشربل بعيني في رسالة أرسلها له بتاريخ 18/8/1983:
"وشكراً لك ثانياً على عمل عظيم تؤديه من خلال رسالتك الشعريّة، فتعطي لبنان حكمة الجمال التي طالما عرف بها".
لقاء شربل بعيني بالقنصل الشاعر مصطفى مصطفى تـمّ في منزل الأديبة المعروفة نجاة فخري مرسي، زوجة الدكتور أنيس مرسي، وقد مدح القنصل مصطفى الشاعر بعيني بهذه الرباعية الزجلية بعد سماعه له وهو يلقي قصيدة "لعنة اللـه علينا":
سمعت شعرك.. قلت: يا عيني
متل الورد مزروع بجنينه
مأكّد كلامك مستواه كبير
ما دام إسمك شربل بعيني
كما أضع بين أيديكم بعض قصائده المنشورة وغير المنشورة. ولنبدأ بالمداعبة الشهيرة التي حصلت بينهما، والقصّة بدأت حين أرسل القنصل مصطفى رسالة تهنئة للشاعر بعيني على أحد كتبه، وإليكم ما كتب:
أربع مرّات كتابك
قريتو قدّام صحابك
واحد قلّي شو صابك
الشعر وضعتو بمحرابك؟
فيي أعرف شو انتابك؟
ردّيت ولشربل قلت:
يرحم بطن اللي جابك..
وبما أن والدة شربل بعيني، رحمها اللـه، كانت حيّة ترزق يومذاك، فلقد أخذت على خاطرها وصاحت:
ـ الظّاهر معجّل عليّ صاحبك.
فكتب شربل مقالاً فكاهيّاً حول ذلك، نشرته النهار في عددها السنوي الصادر بتاريخ 18/12/1986، ختمه بهذه الردّة الزجليّة:
يا أمي القنصل مهضوم
وما بيحكي غير المعلوم
الظاهر عارف "بطنك" مات
من وقت الـ مات المرحوم
فأعجب القنصل مصطفى بالمقال، وأرسل له هذه الأبيات:
كلمه بدّي ودّيها
وعبّر عن حبّي فيها
انشاللـه إيّامك كلاّ
بالأعياد بتقضيها
أما بخصوص المرحوم
الدنيا تشتيلو رحمات
انشاللـه محبّتنا بتدوم
وما بتلبّدها غيمات
وقول لإمّك: هالمتهوم
ما قصدو يعيد منامات
أللـه يقبل منها الصوم
بتطهّر كل النسمات
كل واحد عمرو محتوم
بس اللي خلّف ما مات!!
وصدقوني ان القنصل مصطفى لـم ينشر قصيدة واحدة في صحف المهجر إلا إذا كانت عن شربل، لهذا تعجّب العديد من القرّاء حين وجدوا أن دبلوماسيّا لبنانيّاً ينظم القرّادي، فكتب الشاعر نديم سابا في جريدة النهار، الصادرة بتاريخ 15/1/1987، ما يلي:
قلت لنفسي مش معقول
القنصل ينظم قرّادي
ويعرّفنا ع المجهول
ويصفّي بلبل شادي
بحقّو مقصّر مهما قول
بيذكّرني قنصلنا
بنغمة شحرور الوادي
وحين أصدر شاعرنا ديوانه كيف أينعت السنابل؟، كان للقنصل مصطفى هذه الوقفة الشعريّة:
رح أكتب حتى هنّيك
وأطلبلك من أللـه العون
كان فكري بسيدني لاقيك
ونتعرّف ع ذات الصّون
وبدعي تا أللـه يقوّيك
تا تحكُم إنت بهالكون
ويا شربل أللـه يهديك
كيف ممكن يحصلّي الْمَونْ
ليش نحنا منحكم هونيك
حتى نقدر نحكم هون؟!
وقد اعترف القنصل مصطفى بأن الكلمات تنساب شعراً دونما إجهاد عندما يكتب عن شربل:
"إنما طلبت مني كلماتي أن تبقى لك، وأصرّت عليّ بأن تبقى في خزانتك، ولا ترغب في أن تصل إلى الصحافة، فوافقتها على ذلك، ولا إخالك إنّك تستطيع بدورك أن ترفض رغبتها هذه"..
وأعتذر من القنصل مصطفى على نشري قصائد استودعها خزانة شربل، لأن من حقّ القارىء الإطلاع على تاريخ الجالية المشرق، وهل أشرف من تلك الحقبة التي وحّدت اللبنانيين في المهجر، رغم أن وطنهم يعاني الأمريّن من جراء الحرب الشرسة التي اجتاحته وقضت على الأخضر واليابس فيه. وإليكم ما كتب إثر عودة شربل عام 1987 من مهرجان المربد الشعري في العراق:
وحياة شربل والـ بقلبي جسّدك
ما نسيت إحكي شعر حتّى عيّدك
كرت الـ كتبتو كان شعر يعدّدك
ما ردت مع غيري كلام نرددك
وحتى ما غيّرلك عوايد عوّدك
بشعري ما برضى اليوم عنها إبعدك
لو كان عنا جناح كنا منقصدك
للتوّ.. تا نضوّي الشموع بمعبدك
معبد جمال القول فوقو مدّدك
ما وصّلك تا تنتهي بل جدّدك
أعطاك نفحة شعر عزّز مقعدك
فيها سبرت غْوار كون الـ أوجدك
ناطر تا إسمع شو لقيت بهالسفر
وشو جاب من أمجاد.. كرسي مربدك
وكان كلّما أطلّ العيد يتذكّر قنصلنا الإنسان أخاه شربل بأبيات ولا ألطف:
بيتذكر بيوم العيد
كل واحد.. خيّو الأنسان
ولما بيقرب عام جديد
منوعى من بعد النسيان
القصّه بكل دقّه وتحديد
تصوّر شي واحد عطشان
وصرلو فتره يمد الإيد
ويطلب عون من الإخوان
بقلب الصحرا.. وحر شْديد
منشّف جسمو بكل مْكان
وإلاّ.. تزاولّو من بعيد
نبعة مي وكوز رمّان
طار من الفرحه الصنديد
وبلّش غبّ بلا حسبان
وهيك الحاله.. بلا تمجيد
منبعد عن أحلى خلاّن
حتى نرجع بالتأكيد
نغرف من نبعة شربل
أطيب نبعه من لبنان.
ولكثرة محبّته لشربل، نراه لا يترك مناسبة إلا ويراسل بها صديقه، وها هو يرسل له هذه البطاقة من البرازيل، بعد انتقاله من مالبورن ـ أستراليا:
"الأخ شربل..
حتى في البرازيل، وفي مدينة الريو لا يمكن ان ننسى من أحبنا. فمن هذه المدينة الجميلة أبعث بهذه البطاقة، سائلاً اللـه أن تحمل الأعياد المجيدة لك كل خير وصحة وتوفيق مع الأمل بسماع أخباركم الطيّبة".
وعندما زار فرنسا وإيطاليا، لـم يترك المناسبة تمرّ دون أن يرسل لشربل بطاقة أخرى يقول فيها:
"عزيزي شربل..
أنتهز مناسبة وجودي في فرنسا مع العائلة، وفرصة مروري بمدينة ميلانو التاريخيّة في إيطاليا، لأبعث لك بهذه البطاقة الشهيرة، لا لأتذكّرك، فإن ذكرك دائـم في القلب، بل لأهمس لحن الإشتياق في مسمع من هو الأقرب إلى الفكر والأعماق، لأعبّر عن عظيم اعتزازي بالتعرّف إلى إنسان كان نعم الأخ ونعم الصديق.
بوركت فيك علياء الخصال، وأدام اللـه عليك نعمة صوابية الرؤيا، وحماك من جهالة أدعياء حملة الأقلام".
وأعتقد أن قنصلنا اعتبر بطاقته شهيرة لأنها تمثّل لوحة العشاء السرّي الأخير للسيد المسيح مع تلامذته، والتي رسمها ليوناردو دافينتشي. أمّا عبارته الأخيرة التي يطلب بها من اللـه أن يحمي شربل بعيني من جهالة أدعياء حملة الأقلام.. فأترك تفسيرها لكم..
السفير جان ألفا وجائزة الأرز الأدبيّة
عام 1985، منح قنصل لبنان العام في سيدني الدكتور جان ألفا، جائزة الأرز الأدبيّة للشاعر شربل بعيني على نشاطه الأدبي المميّز. واحتفاء بهذه المناسبة شرّع سعادته أبواب القنصليّة اللبنانية للضيوف الأستراليين واللبنانيين والعرب. وفي مقدّمتهم الوزير بيتر أندرسون ممثل رئيس وزراء الولاية، والرئيس نيك غراينر رئيس حكومة الظل يومذاك، ورئيس ولاية نيو ساوث ويلز فيما بعد. وكانت هذه الجائزة أول جائزة تقديرية يحصل عليها شربل بعيني.
وكعادتها، فقد أبرزت الصحف العربيّة الصادرة في أستراليا الخبر، ونوّهت بأهميّته. وها هي جريدة النهار المهجريّة الصادرة بتاريخ 5/7/1985 تنقل الخبر:
"كان قنصل لبنان العام السفير جان ألفا أعلن، في العام الماضي، عن تبنّيه ومنحه جائزة الأرز لأفضل إنتاج أدبي، أو فنّي، أو تراثي لأبناء الجالية اللبنانية. وبدت الفكرة صعبة في البداية، بسبب غياب الوجه الثقافي في الجالية، وعدم محاولة إبراز المواهب في أوساط مهاجرينا.
وكانت المحاولة ناجحة، وتلقّى سعادة السفير الترشيحات، وقام برصد التحرّكات والنشاطات الفكريّة والثقافيّة، وتابعها منذ وصوله سيدني قبل 15 شهراً فقط.
وجاءت المحاولة الأولى على قسط كبير من النجاح، وتشجّع بنمو الفكر والأدب في هذه الجالية، التي افتقرت دائماً إلى الإستنفار الأدبي والفني، وشحذ وتجميع المواهب المشتتة في أوساطها.
وقد ألقى السفير ألفا كلمة بليغة باللغة الإنكليزية أثارت الإعجاب، قال فيها: يبدو من المستهجن أن يكون ممثل دولة تنزف دماءً، وتعاني من حرب طويلة، ما زال يفكّر بتبني وتشجيع الفن والثقافة في أستراليا. ولكن عندما نعلم بأن التاريخ المظفّر لوطننا يعود إلى ما قبل 6 آلاف سنة، وما حقّقه أسلافنا ومواطنونا حول العالـم، وكم من المحتلّين والبغاة تجاوزنا وطردنا، وما زلنا نتحدّى الغزاة الجدد منذ نيّف وعشر سنوات. عندما نعلم هذا، نشعر بأن لبنان سيتجاوز المحنة، وسينهض مثل طائر الفينيق من الرماد، وسيحلّق في الأجواء العالية كما كان، وستفوح العطور من أزهاره وأشجاره مجدّداً..".
كما أن جريدة صوت المغترب الصادرة بتاريخ 4/7/1985، قد اعتبرت يوم 29 حزيران 1985 هو يوم تكريم الأدب المهجري والفنون الجميلة في أستراليا، وتابعت تقول:
"الأدب الذي كان منسيّاً من قبل المسؤولين والرابطات والجمعيّات وغيرها، أتى الدكتور جان ألفا على صهوة حصانه الأغبر ونفض عنه غبار الإهمال، وأعاده ناصعاً كالثلج، مضيئاً كالشمس، وخالداً خلود الأرز والفرات والأهرام، وملوّحاً به كالسيف فوق رؤوس الجميع، ولسان حاله يقول: ما من أمة خالدة إلا بخلود أدبائها، وبالحفاظ على فنونها ونشر تراثها..".
وفي زاويته الشهيرة "كي لا ننسى"، كتب الأستاذ بطرس عنداري في جريدة النهار الصادرة في الخامس من تموز 1985، ما يلي:
"إن جائزة الأرز في سيدني، بتواضعها ومنطلقاتها البسيطة، توازي طموحات ألفرد نوبل وجائزته بمعانيها الإنسانية والأخلاقية والوطنيّة. وقد حضرت خلال ربع قرن عشرات الإحتفالات في السفارات والقنصليّات وكانت جميعها للمجاملات، وتبادل الأنخاب، وتبادل التمنيّات الكلامية. ولكن احتفال يوم السبت 29/6/1985، كان يحمل معنى جديداً لـم تألفه بعثاتنا الدبلوماسيّة سابقاً.. إنه معنى الأصالة ومحاولة البحث عن الفكر، وما يحمل من جمالات وإنتاج وحب.
إن الإنتاج الفكري يثبت وجود الشعوب، وها قد بدأت جاليتنا تثبت وجودها بتطلعاتها الفكرية، ومحاولاتها الأدبيّة. فشكر الجالية نوجهه إلى صاحب الفكرة والمشاركين معه وللفائزين، وإلى جولات إنتاج جديدة".
ولكي لا يبقى التكريم ضمن نطاق الجالية، أرسل سعادته برقية إلى وزارة الخارجيّة اللبنانية، يعلن فيها عن أسماء الفائزين بجائزة الأرز الأدبية والفنيّة، فما كان من الأمين العام للوزارة السيّد فؤاد الترك إلاّ أن وزّعها على الصحف ووسائل الإعلام اللبنانيّة، وها أنا أنشر الخبر كما ورد في جريدة النهار البيروتية الصادرة في 17 آب 1985:
"من ناحية ثانية، تلقّت الخارجيّة برقيّة من قنصل لبنان العام في سيدني السيد "جو" ألفا، أفاد فيها أنه أقام حفلة كوكتيل في دار القنصليّة، حضرها ممثل رئيس الوزراء "الكندي"، وجمهور من أبناء الجالية اللبنانية، ومنح خلالها جائزة الأرز لعام 1985 لكل من السادة: رياض الاسمر وشربل بعيني عن الأدب العربي. وعفيف نقفور وجوفري سابا عن الفن، وديفيد معلوف الكاتب الشهير بالإنكليزيّة، وكامل المر رئيس رابطة إحياء التراث "اللبناني". والجائزة هي عبارة عن كأس فضية حفرت عليها الأرزة اللبنانية. ونشرت الصحف المحليّة تفاصيل هذا الإحتفال، وأشادت بمواقف الجالية اللبنانية ونشاطاتها في الحقول الاجتماعية واللبنانية".
لقد وردت بعض الأخطاء المطبعيّة في مقال النهار، منها: جو بدلاً من جان. ورابطة إحياء التراث اللبناني بدلاً من التراث العربي، وجوفري بدلاً من جيفري.. والكندي بدلاً من الأسترالي. وقد تركتها كما وردت حرصاً منّي على صحّة النقل.
ولكثرة امتنانه للسفير جان ألفا، خلّده شربل بعيني بقصيدة رائعة أقتطع منها هذه الأبيات:
الأرزه الـ حملت مجد ع كتفا
وصارت ع أنغام الأزل تغفا
لو كان بدّنا نزيّنا بشي إسمْ
كلّو شهامه وتضحيّه مع علـمْ
منحفر ع كعبا بالدّهب "ألفا"..
وفي منتصف القصيدة التفت شربل الى السيّدة سامية زوجة السفير ألفا وقال:
ومنشان ما ننسى المتل شو قال:
فتّش عن الحرمه الـ ورا الرجّال
لازم نحوّش ألف سلّة زهر
من زهور صعبه تنشرى بالمال
ونشلحن ع جرين ست الطّهر
ساميه.. ومين غيرها بالبال؟
الـ رغم التنقّل بين بر وبحر
خدمت قضيّة شعبها بعز وفخر
وبالوقت ذاتو ربّت الأطفال.
وما أن نطق شربل بهذه الأبيات حتى أجهشت السيّدة العظيمة بالبكاء، وراحت تمسح دموعها بكفيّها، وهذا ما يظهر جلياً في شريط الفيديو الذي صوّر ليلتئذ وما زلنا نحتفظ به.
وإن أنسى لا أنسى إعجاب الرئيس نيك غراينر بإلقاء الشاعر بعيني، وكيف طلب منه الإنضمام إلى أحد فروع حزب الأحرار، وعلى مسمع من السفير جان ألفا، لأن الحزب، على حد تعبيره، بحاجة إلى نوّاب من خلفيات إثنية، كالشاعر شربل بعيني. وأعتقد أنكم تعرفون جواب شربل للسيد غراينر.. وكيف لا تعرفونه؟ وهو الذي حارب الدجل السياسي بمعظم قصائده. لقد كان جوابه:
ـ لا.. شكراً.. الحقل السياسي لا يعجبني على الإطلاق.
وها هو شربل بعيني، يفي بوعد قطعه للسفير ألفا في القصيدة، بأن يخلّده بالشعر كما خلّده هو بجائزته، فنشر عنه قصيدتين في ديوان الغربة الطويلة، ورباعية في ديوان رباعيات، ولاحقه برسائله إلى حيث انتقل. ومن مونروفيا، عاصمة ليبيريا، أرسل له السفير ألفا هذه الرسالة:
"وصلتني رسالتك مع قصاصة جريدة صوت المغترب، وقرأت قصائدك التي تتكلّم عن معاناة بلدنا الحبيب لبنان بكل اهتمام. كما وأشكرك على القصيدة التي خصّيتني بها. متنمنياً لك دوام التوفيق والنجاح".
هذه هي حكاية الجائزة الأولى التي حصل عليها شربل بعيني "من ألفها إلى يائها"، وهذا هو السؤال الذي يطرح نفسه بنفسه: هل بإمكان شربل بعيني أن يضغط على السفير ألفا من أجل منحه "جائزة الأرز"؟.. بالطبع لا، لأن الجائزة تأتي دائماً لمن يستحقّها.. وأعتقد أن شربل بعيني كان من مستحقّيها، وبفخر أدبي زائد. تماماً كما استحق إمارة الأدب المهجري في عالـم الإنتشار اللبناني، التي منحه إيّاها رئيس المجلس القاري للجامعة اللبنانية الثقافية في العالـم، الأستاذ الأديب جوزيف حايك.
جائزة تقدير الكلمة.. لقمر الكلمة
عام 1986، وفي مدينة مالبورن، منح الأديب المهجري المعروف سامي مظلوم الشاعر شربل بعيني "جائزة تقدير الكلمة"، كيف لا، وهو الذي كتب العديد من المقالات الأدبيّة حول أدب شربل، وشبهّه بـ "قمر الكلمة".
وقبل أن أبدأ بنشر أخبار الجائزة، كما وردت في الصحف المهجرية، أو بنشر بعض ما كتبه الأديب المهجري سامي مظلوم عن شربل بعيني.. أحب أن ألقي بعض الأضواء على سامي، هذا المغترب اللبناني الديناميكي الذي هاجر إلى مدينة مالبورن منذ زمن بعيد، ولـم ينس عاداته، تراثه، لغته، وآدابه. بل راح يعمل المستحيل من أجل نشرها، وتعميمها، والتعملق بها.
هو اليوم رئيس المهرجان اللبناني في مقاطعة فيكتوريا، وأحد مسؤولي إذاعة "صوت الجالية" ـ مالبورن. إنه، وبكلمة مختصرة، لولب الحركة الإعلاميّة والثقافيّة في مدينة مالبورن.
وفي الجزء الثاني من سلسلة شربل بعيني بأقلامهم الصادر عام 1987، وصف الأديب كلارك بعيني صديقه سامي مظلوم بالأديب المهجري المرموق، وأن قلمه: "لا يرحم كل من يريد التلاعب بوحدة أبناء شعبه. له ثقل أدبي هائل في المهجر الأسترالي، وعلاقته متينة مع العديد من أدباء العربية في الوطن والمهجر.
يقال: إن من النادر أن يعشق سامي المظلوم أدباً أو شعراً لأحد، إلاّ إذا تعمّدا بالنار".
من هذا المنطلق، بدأ إعجابه بأدب شربل بعيني. وكأنه وَجَد في ولاية أسترالية أخرى نصفه الثاني. سامي يعمل في مالبورن وشربل يعمل في سيدني. ومن يحب أن يفني عمره بالعطاء اللا محدود، لا يفكر بأسماء الذين أعطوا، بل بما أعطوا لمجتمعهم الإغترابي.
سامي مظلوم لـم يمنح جائزة "تقدير الكلمة" سوى مرّة واحدة يتيمة، كانت من نصيب شربل بعيني. وإليكم القصّة كما شرحها مراسل صوت المغترب في مالبورن الأستاذ الصديق مطانيوس مخّول، بتاريخ 4/9/1986:
"بمناسبة وجود الاستاذ شربل بعيني في مالبورن، أقام الاستاذ سامي مظلوم حفلة لقاء وتعارف في قاعة "التوتو" المعروفة بمعبد الجالية اللبنانية في مالبورن، وكانت مفاجأة اللقاء تقديم هديّة رمزيّة تليق بالأدب وحامليه في القارّة الأسترالية.. ألا وهو الشاعر الكبير، وحامل سيف الحق في دنيا الاغتراب، الاستاذ شربل بعيني.
رحب صاحب الدعوة بالاستاذ بعيني قائلاً: ما هذه الهديّة الرمزية إلا عربون وفاء وتقدير للكلمة، وللعطاء الدائـم تجاه الوطن الذي يقدّم الذبيحة الإلهيّة على ضريحه يومياً. لقاؤنا بك سيخلّد في قلوبنا، وقلوب كل المخلصين.. متمنياً لك أن تبقى على هذا لمنهاج المنبر الحر، وأكبر سفير شعري ، وخليفة النبي جبران، الذي ولد من جديد في القارّة الأستراليّة.
ورد شاعر الغربة الطويلة بكلمة شاعريّة رقيقة، شكر بها آل مظلوم على هذا اللقاء الأخوي "وعلى التقدير الذي غمرتموني به، حيث سيكون محفوراً بقلبي، وقلوب عائلتي وأبناء بلدتي مجدليا. إن تقديركم لي سيزيدني إيماناً وعطاء لنتوحد جميعاً من أجل وطن دمّرته الحرب، ومزّقته الأيادي الشريرة، التي لا تعرف القيم الأخلاقية في عصر الفضاء والذرّة، ونحن أول من أعطى النور، وأعطى الحرف والكلمة للعالـم.. أصبحنا اليوم نطلب مساعدة من أجل خلاصنا. ولكن، بوجود الأقلام الحرة والمخلصين من أبناء الوطن الواحد، لن يكون هناك، بعد اليوم، مكان لتجّار الدماء، سوى حرقهم، ليبقى لبنان صافياً وخالياً من المتاجرين بدماء الأبرياء".
إذن، فقصّة الجائزة لـم تكن مدروسة، أو مخطّط لها من قبل، بل أوجدتها حميّة سامي مظلوم تجاه شعراء بلاده، وخاصة شربل بعيني، هذا الذي كتب عنه سامي أجمل المقالات. ونظراً لكثرتها سأكتفي ببعضها كي لا أطيل الشرح، وأملّل القارىء.
عام 1986، نشر سامي في صوت المغترب العدد 892، مقالاً بعنوان "للشاعر المرهف شربل بعيني"، جاء في نهايته:
"ولأن شعر الشاعر الأديب شربل بعيني ينمو ويتعافى في هذا الاتجاه التثقيفي الراقي، جئت في كلمتي هذه، كقارىء ومراقب لكتاباتك منذ حين، لأعبّر عن شعور وجداني نحو عينة طيبة، هي محطّة أدبيّة مهجريّة تبعث في روح جاليتنا صيحات الوعي لخلق جيل سيفتح عينيه على حقيقة، وفؤاده على حقّ جيل لا يحني لغير العلم رأساً، ولا يمد لغير المعرفة يداً. جيل يعرف أن بلاده كانت وستبقى المعلمة والهادية للإنسانية جمعاء.
بورك نتاجك.. وبوركت الشاعر والرجل المؤمن بالمعرفة والفضائل، المصارع في مغتربه سيدني أستراليا، والمساهم في صناعة تاريخ جالية عريقة، تساهم أيضاً بروح رسوليّة رياديّة في صناعة تاريخ أمّة مضيافة، فيها كل الفن، وكل العلـم، وكل الفلسفة. قيم هي المصباح الكبير الذي أضاء لنا طريق الحياة في غمرات الليل الطويل. إلى الأمام واسلم معافى لحقيقة وجودنا".
ومن تتبّعي الصحفي لتموّجات الجالية السياسية، في وقت من أصعب الأوقات وأعنفها، إذ أن الفرز الطائفي كان يمارس في لبنان، وأصوات مدافع التفرقة تطغى على كل صوت. وجدت أن أدب شربل بعيني كان أحد أهم أسباب وحدة الجالية اللبنانية في أستراليا. فكل ما كتب، وكل ما نشر، كان يدور حول وحدة شعبه ووطنه، ونبذ الطائفيّة البغيضة. ولهذا نال كل هذا المديح، وكل هذه الجوائز، وكل هذا التكريم، وكل هذا الإهتمام الأدبي على مساحة الكرة الأرضيّة. ولهذا فقط، منحه الأديب سامي مظلوم "جائزة تقدير الكلمة"، لأنه أدرك بحسّه الأدبي الرفيع أن شربل بعيني سيبقى ناصعاً بقلمه وأدبه وأشعاره كثلج صنّين.. إلى أن يموت الموت، وتشرق شمس بلاده.
ومن الخصال الأدبيّة الحميدة التي يتحلّى بها شربل، ويعترف بها كل من عرفه، هو أنه لـم يفرض نفسه مرّة واحدة على برنامج أدبي محضّر سلفاً. كما أنه لـم يطلب من أحد إطلاقاً، وأعني ما أقول، أن يلقي قصيدة في مناسبة ما، كما يفعل العديد من أدباء وشعراء الوطن والمهجر، دون أن يُطلب منه ذلك مسبقاً، وأتحدى كلّ من يقول العكس. فلقد كان معدّو الحفلات الفنيّة والندوات الأدبيّة يترجونه من أجل إلقاء كلمة أو قصيدة، ونادراً ما يقبل.. لا بل يجيّر الإلقاء إلى شاعر آخر بغية تشجيعه.. كما أنّه كان يرفض رفضّاً باتّاً المشاركة بتأبين ملك أو أمير أو رئيس أو زعيم.
شربل بعيني عرف كيف يحمي نفسه من مرض التطفّل الأدبي الممجوج الذي يفتك بالكثير من أدبائنا وشعرائنا. فكرامته الأدبيّة كانت وما ظالت مشرقةً كشمس "إدلب" التي لفحتني بحرارتها المقدّسة ساعة مجيئي إلى ورشة الحياة.. وبسبب هذه الكرامة الأدبيّة المشرّفة كُرّم شربل بعيني عشرات المرّات، وقد كان لي شرف المشاركة بتكريمه مرّتين: في يوبيله الفضّي، وفي إمارته الأدبيّة.
وها هو سامي المظلوم يعلن للملأ، عام 1987، بمقال نشره في جريدة صوت المغترب العدد 942، أن شربل سيكون من روّاد أدب الحياة، وهذا ما يثبت صحّة كلامي السابق:
"أعتقد أن الشاعر شربل بعيني قيمة إنسانية، وطاقة إجتماعيّة جيّدة في مغتربنا. يصارع بوقفة عز هذا الشرّ المتربّص بنا، الحاقد علينا وعلى المثل العليا التي نتمسّك بها حتّى الشهادة..
فبحق دماء كل شهداء الحقيقة، شهداء الحياة الجديدة، شهداء القضيّة المقدّسة.. ومع صباحات شهر الفداء الذي كرّس نفسه شرطاً لانتصار شعبنا على كل المتآمرين عليه من الداخل والخارج.. وبحق كل هذه القيـم، إنني أرى هذا الشاعر يعمل بإخلاص، ويتأهّب ليكون من روّاد أدب الحياة في مغتربنا، ومن يعش ير.
أقول هذا، لأنني قرأت الكثير لشربل بعيني، فوجدته يكتب من أجل هدف وطني، وليس من أجل الكتابة فقط".
لقد عشنا ورأينا يا سامي.. فنبؤتك "بقمر الكلمة" صحّت، ومنحك له "جائزة تقدير الكلمة" كان عملاً رائعاً ذا شفافيّة لـم يسبقك إليها أحد. فبوركت محبّتك، وصداقتك، واندفاعك من أجل نصرة الحق. فلقد أخبرني شربل أنك كنت من أوائل الذين هنّأوه بصكّ إمارة الأدب في عالـم الإنتشار اللبناني، وأنك قلت له:
ـ مبروك يا أمير.. مبروك يا قمر الكلمة..
وكيف لا تكون من الأوائل، وكنت ثاني مسؤول أغترابي كرّمه بجائزة بعد السفير جان ألفا؟..
أرشيف شربل بعيني متخم برسائل وصلته من صديقه سامي، ولكنني سأكتفي بنشر مقاطع من رسالة أرسلها بتاريخ 28/12/1995، وفيها يقول:
"الكلمة يا عزيزي شربل هي سبيلنا الوحيد إلى التعبير عمّا يجول به خاطرنا، وما يضيق به صدرنا. الكلمة التي عرفتها هي تعبير صادق حي لأفكارنا ومشاعرنا، نوصل بها نداءاتنا وآراءنا إلى كل من له آذان تسمع وتعمل وتناضل من أجل الحريّة والكرامة الإنسانيّة. ومع طلّة ليلى، يطل من جديد قمر الكلمة ليضيء دروب مغتربينا في أستراليا العظيمة..".
وبعد المقالات الأدبيّة، والرسائل الشخصيّة الحميمة، أترككم مع شاعرية سامي مظلوم، المتفجّرة كأدبه، القويّة كنبرات صوته، الناعمة كطلته الإغترابيّة، الحميمة كرسائله، والمنشورة في عدد التلغراف الصادر بتاريخ 13/12/1989:
الحب عهدو بينك وبيني
باقي عطر فوّاح بجنينه
يا شاعر الإبداع.. شو بكافيك
كبيره عليّي كتير هـ الدّينه؟
كل ما حملت معزوفتك رح قول:
يا ربّ خلّي شربل بعيني
من فمك لباب السماء يا سامي.. لأن شربل بعيني يستحق منّا كل المحبّة وكل التقدير.
**
جوائز تقديرية
عام 1987، منحت رابطة إحياء التراث العربي جائزة جبران العالميّة للشاعر شربل بعيني، وكان من أوائل الذين فازوا بها.. وها أنا أنقل من أرشيفه قصّة فوزه بالجائزة، كما دوّنها بقلمه:
"سنة 1985، كنت أطبع ديوان الغربة الطويلة في مطبعة الثقافة التي يملكها كامل المر، فدار بيني وبينه حديث غلّفه بخيبة أمله بمعظم الذين تعامل معهم في الرابطة، وأنهم لا يصلحون لشيء، وأن الرابطة تراوح مكانها، فقلت له:
ـ لماذا، يا كامل، لا تنشىء الرابطة جائزة أدبيّة تحمل اسمها إلى كافّة أقطار العالـم؟
فأجاب:
ـ قديماً أجرينا مباراة باسم "جبران"، كانت جائزتها من نصيب السيّدة وداد الياس والأستاذ إيلي ناصيف.
فقلت:
ـ عظيم.. فليكن اسم الجائزة "جائزة جبران".
قال:
ـ وكيف سيتمّ هذا؟
قلت:
ـ أنا أصمّم البراءة وأنت تطبعها.. ويقوم صبري رمضان بتصميم الميداليّة.
وهكذا صار، ولكن المفاجأة الكبرى كانت عندما منحتني الرابطة الجائزة، ولـم أكن قد انتسبت إليها بعد. فقلت لكامل، واللـه يشهد على ذلك:
ـ يا كامل.. أنا لـم أصمّم الجائزة، ولـم أطلب منك إنشاءها كي أحصل عليها.
فقال:
ـ لا أحد غيرك يستأهلها.. أرجوك أن لا تفتعل خضّات في بداية توزيع جائزة أنت تعبت وسهرت من أجلها.
وبعد عودتي من المربد الشعري في بغداد، علّقت الرابطة أوّل جائزة جبرانيّة على صدري.."
كما أترككم مع ما كتبه الصحفي الأديب جوزاف بو ملحم في التاسع من شباط 1988 في جريدة صدى لبنان، عن الذي كل "البروجكتورات" مسلطة عليه:
"يوم باشرت صدى لبنان نشر أضواء على الحائزين على جائزة جبران، كان قصدنا تعريف القرّاء على أدب الذين استحقّوا الجائزة من الرابطة، ومعرفة لماذا استحقّوها؟.. وطالما أن الأديبة أنجال عون والأديب نعمان حرب شبه مغمورين لدى الأكثريّة، قرّرنا أن ندعو الزاوية "أضواء" أملاً بتسليط الضوء على ما عتم..
وإذا كان الزميل كامل المر قد وجد المهمّة شاقّة بعض الشيء، كون الدكتورة سمر العطّار معروفة جدّاً في أوساط الجالية من خلال كتاباتها ونشاطاتها، أراني اليوم محرجاً في مهمّتي المستحيلة. وكيف لي أن أسلّط الضوء على من كل "البروجكتورات" عليه؟! ثـم إن أنا فعلت هكذا ألا أكون أردّد ما سبق لغيري أن قاله، فأقع في الرتابة وأستحق لعنة القرّاء.. ولكن..
لقد وجدت الخلاص في ديوان شربل أللـه ونقطة زيت، الذي سيصدر حديثاً باللغة العاميّة، فتمسكّت باللـه خوفاً من الزحلقة على الزيت.. وأرجو المعذرة إن أنا كتبت بالعاميّة، فهي في الواقع لغة الديوان..".
عام 1990، منحت جمعيّة الفنون والتراث العربي في العاصمة الأسترالية كانبرا "جائزة كتابة الأغنيّة" للشاعر شربل بعيني. كونه كتب العشرات من الأغنيات المهجريّة الرائعة التي غنّاها فنانون مهجريون كشربل صعب، وريما الياس، وهند جبران، ووفاء صدقي، وسمير بدر وغيرهم.
قدّم الجائزة للشاعر بعيني الأديب المهجري المرحوم مصطفى البدوي، بعد أن ألقى هذه الكلمة المعبّرة:
" سيّدي الأستاذ شربل
كلّفت أن أقدّم إليك هذه الهديّة المتواضعة تقديراً لما لك من عطاءات أدبيّة في حقلي النظم والنثر. ولو كلّفت أن أهدي إليك عنقي لأزجيته إليك معقوداً بصكّ الإسترقاق. فأنت فينا من كبار المجلين والمبدعين، وللمجلّي حقّ على الآخرين في استرقاق القلوب منهم والعواطف.
فإليك يا من رفعت للوطن الحبيب مداميك من مجد وفخار.. إليك يا من تذلّ الكلمة وفق مشيئتك، وتقدّمها لقرائك بجزالة يغبطك عليها أمراء البيان والقريض.
إليك أقدّم هذه الهديّة المتواضعة مع عميق حبّي، وخالص تقديري، وفائق احترامي".
وفي العام 1992، منح مختار بلدة مجدليّا السيّد الياس ناصيف أبي خطّار درع البلدة لابنها البار شربل بعيني، وقد سلّمه الدرع إبن المختار السيّد ناصيف أبي خطّار في إحدى زياراته لمدينة سيدني.
وكان المختار السابق للبلدة السيّد الياس أبي خطّار قد زار أستراليا، وشارك بيوم الأديب السوري الكبير محمد زهير الباشا، على دراسته الشهيرة شربل بعيني ملاّح يبحث عن اللـه. وقد ألقى خطاباً رائعاً في المناسبة، ضمّنه مفاجأة حلوة، ألا وهي وضع اليد العامّة على البيت الذي ولد فيه شربل بعيني ليتحوّل فيما بعد إلى متحف يضمّ نتاج شربل وباقي شعراء وأدباء المهجر.
وعندما عاد شاعرنا إلى وطنه الأم لبنان، كرّمه السيّدة الياس ناصيف خطّار وعائلته تكريماً مجدلاويّاً رائعاً، فجمع حوله رئيس البلديّة، والمختار، والكهنة، والأدباء، والشعراء، وفعاليّات البلدة، والعديد من أقرباء الشاعر الذين لـم يرَهـم منذ هجرته عام 1971. وقد نقلت صحفنا المهجريّة الخبر باهتمامٍ بالغ، وأفردت له الصفحات الكاملة. وها أنا أثبت للذكرى ما كتبته جريدة المستقبل في عددها 48 الصادر في 9 شباط 2002:
"عندما وصل الشاعر المهجري شربل بعيني إلى دار مختار مجدليّا السابق السيّد الياس ناصيف أبي خطّار، لـم يكن يعلم أن الدار تغصّ بالمدعوّين من أبناء قريته، وأن المختار وعائلته قد أعدوا مفاجأة حلوة له ولزوجته ليلى، بغية تكريمه في مسقط رأسه مجدليا.
فلقد أبى المختار إلاّ أن يفتح داره الرحبة العامرة لتكريم الشاعر المجدلاوي العائد إلى وطنه، فأولـم على شرفه، وأشرقت الكلمات والقصائد.
والمختار أبي خطّار عرفته الجالية العربيّة في أستراليا من خلال مشاركته في مناسبتين أدبيتين، ألا وهما: يوم محمد زهير الباشا عام 1989، وتكريم شربل بعيني عام 2001، من قبل رابطة الجمعيّات اللبنانيّة في السانت جورج.
التكريم كان مفاجأة لشاعرنا المهجري، إذ أنه دُعي وزوجته لمشاركة الياس وفروسين وناصيف أبي خطّار طعام الغداء دون أن يعلموهما بما خبّأوه لهما، وعندما وصلا إلى مكان الدعوة بصحبة الأستاذ بدوي سمعان، وجدا العشرات من أبناء مجدليّا بانتظارهما، فصاح شربل بصوت عالٍ: ماذا فعلت يا مختار.. إنه أجمل يوم في حياتي؟.
كل شيء أعدّ بإتقان، إن كان من ناحية التوقيت.. فالمناسبة أقيمت في العشرين من شهر كانون الثاني عام 2002، أي قبيل رجوع الشاعر بعيني إلى مغتربه بعدّة أيّام فقط. أو من ناحية التخطيط، إذ أنها جاءت غاية في الروعة والسخاء.. وهل عرف بيت الياس وفروسين أبي خطّار غير السخاء؟. أو من ناحية المدعوين، فلقد ازدانت بهم الدار العامرة واشرأبت.
وحيد الدار ناصيف، كان مثل أم العروس، يرحب بهذا ويجلس ذاك، والفرحة تغمر كيانه. كيف لا، وهو يستقبل في بيته جاراً عزيزاً، ورفيق طفولة. إنه اليوم الذي انتظره بفارغ صبر، ليقول لابن قريته شربل: أهلاً وسهلاً بك في بيتك مع أميرتك ليلى. كما أنه عرف كيف يدير المناسبة الحاشدة، فطلب من كل عائلة أن تأخذ صورة تذكارية مع شربل وليلى، قبيل التوجّه إلى طاولات الطعام، فكانت الوجوه تشرق تحت أشعّة آلات التصوير، وابتسامات الفرح تتطاير في أرجاء القرية الآمنة المضيافة.. وصوت السيّدة فروسين يدغدغ الأسماع: تفضّلوا الأكل جاهز.
ولكي لا تمرّ المناسبة بدون كلام، وقف سيّد الدار الياس أبي خطار، وقال:
"يسرّني، باسمي وباسم زوجتي فروسين وابني ناصيف وجميع أفراد عائلتي، وباسم كل فرد منكم يا أبناء مجدليّا الكرام، أن أرحّب بأمير الأدباء والشعراء في عالـم الإنتشار اللبناني، إبن مجدليّا البار شربل بعيني وزوجته الأميرة ليلى، اللذين يزوران لبنان زيارة خاطفة، رفضنا أن تمر دون أن نجمعه بكم، أنتم الذين عرفتموه طفلاً وشاباً قبل سفره إلى أستراليا.
لقد كرّمت الجاليات اللبنانية والعربية في أستراليا إبننا شربل عدّة مرّات، وكان من حسن حظّي أن أكون في أستراليا لأشارك في مناسبتين عزيزتين على قلبي، الأولى: يوم محمد زهير الباشا عام 1989، وبه أعلنت عن عزمنا بتحويل البيت الذي ولد فيه شربل إلى متحف. والثانية: تكريم شربل من قبل رابطة الجمعيّات اللبنانيّة في السانت جورج عام 2001، بمناسبة فوزه بلقب أمير الأدباء والشعراء اللبنانيين، من قبل المجلس القاري للجامعة اللبنانية الثقافية في العالـم، قارة أميركا الشمالية، الذي يرأسه الدكتور جوزيف حايك، حماه اللـه وسدّد خطاه بغية رفع شأن أبنائنا المغتربين في العالـم.
مجدليّا تفتخر بأبنائها أينما كانوا.. فلقد رفعوا رأسها عالياً في كافة المجالات الأدبيّة والعلميّة والإجتماعيّة، وخير دليل على ذلك تتويج إبنها البار شربل على عرش إمارة الشعر والأدب في عالـم الإنتشار مدى الحياة، فأهلاً وسهلاً به أميراً متوجاً في قلوبنا، وأهلاً وسهلاً بأميرتنا ليلى، وبكل فرد منكم.. وشكراً".
بعده، ألقى الأستاذ بدوي سمعان، صاحب النظريات الإقتصادية والمؤلّفات العديدة عن كيفيّة تطوير الإقتصاد اللبناني ورفعه إلى أعلى مستوى، قصيدة رائعة جاء فيها:
بالمجدِ كُلّلتَ أم بالغارِ يا شربلُ
ليلى الأميرةُ حسنٌ زانه خجلُ
رمتَ المناهلَ في الدنيا فكان لكَ
أدبٌ وشعرٌ صرحٌ راسخٌ جبلُ
عشقتَ الخليقَة من نوح إلى "كوكٍ”
ليلى وشربل نجمٌ ساطعٌ زُحلُ
طاف اليمام على دوحٍ مجلَّلةٍ
عزٌ وفخرٌ وحبٌ رائعٌ جللُ
ضاء سماء الشرقِ يومَ ولدت بهِ
وأشرقتْ أستراليا يومَ الأحبة رحلوا
لا تحسبنَّ الأرز خابَ فأله
طيفُ الأميرة شهبٌ لامعٌ وجلُ
ملاعبُ مجدليّا تذكر طفولتكم
وطلاّب موئلكم من علمكم نهلوا
بيت الرعيّة مضيافٌ لكوكبةٍ
دينٌ ودنيا وعلمٌ خير من عملوا
للشرق والغرب درّة وسط لبنان
مرتكزٌ للسلم.. منطلقٌ بالحب يشتعلُ
باللـه يا ابن الأرز سطّر في مجلّتكم
القدس لؤلؤةٌ.. مَن قالَ: مُعتقلُ
بيروت شامخة في مجدها أبداً
رمز الحضارة.. أعداؤها ذهلوا
أيا أميرة.. لبنان الغد بلدٌ
يهوى نسائمَك.. والحسنُ والخجلُ
أمّا الشاعر شربل بعيني، الذي فاجأه التكريم المجدلاوي، فلقد شكر أصحاب الدعوة، وارتجل هذه الأبيات:
يا مجدليّا.. بحبِّك عْبادِه
رغم الضّياع بغربة المجهول
يا أم.. مجدِكْ طافح زْيادِه
إسمِكْ علمْ.. بالعاطفِه مغزولْ
المجدلاوي بينعطى شْهاده
إنسان مخلص بالتقى مجبولْ
بالمُغترب: بيشرّف بلادي
وبالوطن: قيمِه.. وحكي معسول
رايق كتير.. مهذّب وهادي
بمحبّتو.. رَسْمَلْ عْيَالْ كْتِيرْ
وْبِيطلّتو.. عم تندوَخْ الِعقولْ
الياس وفروسين وناصيف أبي خطّار عرفوا كيف يرحبّون بجارهم، بصديقهم، بابن بلدتهم شربل بعيني. وأثبتوا للجميع أن الأنبياء يكرّمون في بلدانهم، وأن مجدليا الأم لـم تنسَ، ولن تنسى أبناءها المغتربين مهما تكسّرت الأيّام، وبعدت المسافات".
وفي عام 1992، حمل المغترب المجدلاوي طوني أنيسة درعاً آخر من مغتربي بلدة مجدليا في كندا، قدّمه للشاعر شربل بعيني.
عام 1993، وبمناسبة صدور ديوانه قرف، قدّمت جمعيّة بنت جبيل الخيريّة ـ سيدني "درع المركب الفينيقي" للشاعر شربل بعيني، وقد سلّمه الدرع رئيس الجمعيّة يومذاك الدكتور قاسم مصطفى. وأذكر أنني كتبت ونشرت خبر تسليم الجائزة في جريدة البيرق الصادرة بتاريخ 31 تموز 1993، وإليكم ما كتبت:
"أبناء بنت جبيل، البلدة الجنوبيّة الصّامدة، أمّوا دار الشاعر شربل بعيني، مساء السبت الماضي، لتقديم الشكر له على قصيدته الخالدة قرف. وكم كانت فرحتهم عظيمة عندما وجدوا في استقبالهم نخبة من كبار أدباء وشعراء ومثقفي المهجر الأسترالي الأحرار.
تـمّ التعارف بين الجميع، وساد اللقاء جو مفعم بالود والمحبّة، كأنهم أصدقاء قدامى، ومن ثـمّ وقف الدكتور قاسم مصطفى رئيس جمعية أبناء بنت جبيل، وطلب من الحضور المعذرة، ليقدم لحبيب الشعب الشاعر المجدلاوي شربل بعيني لوحة نحاسيّة تمثّل "المركب الفينيقي" الذي حمل الحرف والحضارة إلى العالـم أجمع.
وفي كلمته المختصرة قال الدكتور مصطفى إن قصيدة "قرف" إكليل غار يتوّج رؤوس أبناء بنت جبيل المقيمين والمغتربين.
كما قال الدكتور علي بزّي: إن أبناء بنت جبيل باتوا يرددون قصيدة "قرف" عن ظهر قلب، لأنها تعبّر عن واقعهم المرير.
أما الدكتور خليل مصطفى، فقد سمّى هذا الزمن بزمن "القرف" نسبة إلى القصيدة الإنسانيّة الرائعة.
كما قدّم السيد صعب سبحة عاجيّة للشاعر شربل بعيني صنعت في بنت جبيل. وجرت في اللقاء مداخلات سياسيّة وأدبية كثيرة، بين الشاعر نعيم خوري وأبي طارق وإيلي ناصيف ونجوى عاصي من جهة، والدكتور قاسم وخليل مصطفى وكامل المر ورفيق غنّوم من جهة ثانية، أجمعوا فيها على أن الشعب العربي يعيش حالة من "القرف" قد توصله إلى مرحلة الإحباط اليائس، لولا يقظة الشرفاء والأدباء والمفكرين الذين ينادون بالتمرّد والثورة لتغيير واقعنا المقرف.
بادرة بنت جبيل تجاه شربل بعيني، جاءت عربون وفاء للكلمة الحرّة الهادفة، التي تذكي فينا شعلة الثورة والانتفاضة لبناء غد مشرق وضّاء".
وفي العام 1994، منحته مدرسة الشرق الأوسط، التي كان يرأسها الأستاذ المرحوم داود أبي إسبر، "جائزة التقدير الأولى للأدب المهجري"، بحضور العديد من الرسميين الأستراليين واللبنانيين، وأصحاب الكلمة المسؤولة في عالـم الإغتراب، كالشاعر المرحوم نعيم خوري، والأستاذ الجامعي عصمت الأيّوبي وغيرهما. وإليكم بعض ما جاء في جريدة صوت الجالية ـ 1994 حول الجائزة:
"أقيم يوم الأحد الماضي، الواقع في 11/12/1994، مهرجان أدبي كبير تخليداً لمئويّة المرحوم جرجي سليم أبي إسبر، بحضور حشد كبير من الجالية الشرق أوسطيّة، يقدّر عددهم بخمسمئة شخص، تحت رعاية وزير الضمان الإجتماعي السيد بيتر بيدوني، والنائبين لوري فرغسون وكيم يودن، وممثل Board of Study السيّد غراهام سميث، وممثلين عن دوائر الهجرة، والسيّدة ماري رايكا مسؤولة المدارس الإثنية والإسكان، ورؤساء بلديّات، ومدراء مدارس أسترالية، وشعراء، وفنانون، وفاعليات الجالية، وأهالي الطلاب. وأقيم الإحتفال في باحة المدرسة وفي الهواء الطلق".
وبعد أن يعدد المقال أسماء الذين تكلّموا في المهرجان، يوصلنا إلي بيت القصيد:
"ثـم اعتلى المنبر شربل بعيني، فألقى قصيدة عصماء، وهنا ألقي قرار المجلس الذي تضمّن إعطاء "جائزة التقدير الأولى للأدب المهجري" للشاعر شربل بعيني".
أما باقي الجوائز فسأعددها عندما أتكلّم عن المناسبة التي قدّمت بها، كي يأتي الشرح وافياً ووثائقيّاً أكثر.
وبعد كل هذا، أحبّ أن أسأل جميع الذين منحوا شربل بعيني جوائزهم، إذا كان شربل قد سعى، من بعيد أو قريب، للحصول عليها؟
أنا أعرف شربل بعيني جيّداً، وقد لمست عزّة نفسه وكبرياءه يوم كنت رئيساً لتحرير جريدة صوت المغترب.. إذ أنه لـم يدخل مكتب الجريدة ولا مرة واحدة، رغم السنوات التي قضيتها فيها، والصداقة التي ربطتني به.. كما أنه لـم يطلب منّي أيّ خدمة إعلاميّة مهما كانت بسيطة. وها أنا أسأل جميع رؤساء تحرير الصحف المهجريّة إذا كان شربل بعيني قد دخل مكاتب صحفهم، أو سألهم عن أي خدمة، إن كان حبّاً بالشهرة أو لإبراز قصائده أو مقالاته.. أو في أقل الأحوال، لمراجعتها؟. وأجزم أن أجوبتهم ستكون كأجوبة الذين منحوه جوائزهم: لا.. وألف لا.
عام 1993، أجرت جريدة العالـم العربي استفتاء لاختيار أبرز المؤسسات والجمعيّات والأشخاص المتفوقين والناجحين في الجاليات العربيّة. وفي الحادي عشر من شباط سنة 1994، نشرت الجريدة نتائج استفتائها، فكان أبرز شاعر اختاره قراؤها في العام 1993، هو شاعرنا شربل بعيني. وأعتقد أنه الأبرز في كل عام. وخير دليل على ذلك مقالان كتبهما الصديق محمد العمري في جريدة صوت المغترب سنة 1985. الأول يطلب فيه من الشاعر شربل بعيني الإعتذار على ذلّة لسانه في قصيدة مجانين، فيقول:
"خطأ غير مقصود وقع به الأستاذ شربل بعيني، وأتوقّع أن يعتذر الأستاذ عن ذلّة اللسان هذه، حيث أن ردود الفعل على ما ورد في خزانة الشاعر الشعبي شربل، فقرة 3 من العمود الثاني، تمثّلت بالمكالمات الهاتفيّة والمداولات الجانبيّة بين صفوف البعض ممن يحرصون على قراءة صوت المغترب من صفحة (1) لصفحة (16).
والذين انتقدوا بعض ما ورد في قصيدة الاستاذ شربل بعنوان "مجانين"، كانوا على حق لأنهم يملكون معنا الحجّة والبرهان على خطإه العفوي، وهذه هي المرّة الأولى التي لـم يسعفنا الحظّ ونراجع فيها كلمته قبل أن تأخذ طريقها إلى النشر، حيث أن الشاعر بعيني لـم يسجّل في تاريخ كتاباته على صفحات صوت المغترب أية مغالطة من هذا القبيل.
ونشكر الأخوة الغيورين الكثر الذين لفتوا انتباهنا إلى ذلك، ونعدهم خيراً في المرّات القادمة، لأنهم يريدون أن يخطوا بجريدتهم المفضّلة نحو الأفضل والأحسن".
هذا المقال نشر في 7 شباط 1985، وفيه يحتجّ الصديق العمري على هذه الأبيات التي وردت في قصيدة "مجانين" لشربل بعيني، والتي يثور بها شربل على زهق أرواح الناس الأبرياء في وطنه الحبيب لبنان، لا لشيء، سوى لانتمائهم لطوائف دينية مختلفة:
يا يسوع المصلوب
ويا رسول المؤمنين
ما عرفتوا ربّيتوا شعوب
عرفتوا ربّيتوا مجانين..
ولكي تعرفوا ردّة الفعل الشعبيّة العارمة على المقال، وكيف التهبت خطوط الهاتف طوال الأسبوع دعماً للشاعر شربل بعيني، أنشر المقال الثاني الذي صدر بعد أسبوع فقط من نشر المقال الأول، أي بتاريخ 14 شباط 1985، وعنوانه "هل أصبح شربل بعيني يمثّل تيّاراً أدبيّاً في المهجر؟":
"تلقّت صوت المغترب طيلة الأسبوع الماضي العشرات من المكالمات الهاتفيّة ورسائل التأييد لما جاء في زاوية الشاعر شربل بعيني حول قصيدة "مجانين"، كلها تظهر مدى التأييد الذي يتمتّع به الشاعر الشعبي شربل بعيني..
وصوت المغترب، التي تفخر وتعتز بكتّابها وقرّائها ونقّادها، تعتبر صفحات الجريدة هي ملك لهم لما فيه مصلحتهم ومصلحة الوطن.
فشربل بعيني لـم يعد شاعراً فحسب، بل أصبح يمثّل تيّاراً من المعجبين بشعره وأدبه. فالمكالمات الهاتفيّة والرسائل التي تلقّتها صوت المغترب بخصوص زاوية شربل وقصيدته "مجانين" تؤكد جميعها على تقدير الأستاذ شربل، واحترام شعره، ودعم زاويته، وهذا فخر لنا.
ولكثرة الردود التي تلقّتها الجريدة من مؤيدي الأستاذ بعيني، فإننا نعتذر عن نشرها جميعاً، ونكتفي بنشر هذا القدر من الرسائل التي إن دلّت على شيء، فإنما تدل على مدى التأييد الشعبي الذي يتمتّع به الشاعر الشعبي وزاويته "من خزانة شربل بعيني".
وبالطبع، فالشاعر شربل بعيني لـم يعتذر على أبياته الرائعة المعبّرة تلك، كما أن رسائل القرّاء التي نشرتها صوت المغترب تحت المقال السابق، كانت كلّها تطالبه بعدم الإعتذار.
السفير لطيف أبو الحسن والتكريم الدبلوماسي
لـم يحدث بتاريخ الجالية اللبنانية أو العربيّة في أستراليا، أن فتحت سفارة عربيّة أبوابها لتكريم أديب عربيّ، كما فتحتها، عام 1987، سفارة لبنان في كانبرا لتكريم الشاعر شربل بعيني العائد من مربد الشعر في العراق.
ولكثرة ما تناقلت وسائل الإعلام المهجريّة خبر التكريم، سأكتفي بمقاطع من مقال بحجم صفحة كبيرة أوردته جريدة صدى لبنان بعددها الصادر بتاريخ 12/1/1988:
"تكريماً للشاعر شربل بعيني الذي رفع إسم لبنان في مربد الشعر في العراق، دعا السفير اللبناني السيّد لطيف أبو الحسن وعقيلته سميرة إلى مأدبة أدبية في دار السفارة في كانبرا، ضمّت السفراء العرب: أنور الحديثي "العراق"، عبد الرحمن العوهلي "السعوديّة"، علي كايد " قائـم بأعمال السفارة الأردنيّة"، ومنصور عبد اللـه "سكرتير السفارة اللبنانية"، إلى جانب نخبة من أهل القلـم والتربيّة في طليعتهم راهبات العائلة المقدّسة في هاريس بارك، الأخوات كونستانس باشا، مارلين شديد، ومادلين أبو رجيلي.. والأساتذة: كامل المر، فؤاد نمّور، نعيم خوري، عصمت الأيّوبي، جرجس طوق.. وغيرهم..".
إذن، وكما قرأنا في بداية الخبر، نجد أن السفير اللبناني لطيف أبو الحسن قد خطّط لتكريم شربل بعيني، فدعا السفراء العرب والراهبات والأدباء والشعراء ومسؤولي الجالية في كانبرا، وأجلس الشاعر بعيني تحت صورة رئيس الجمهوريّة اللبنانيّة يومذاك السيّد أمين الجميّل، زيادة في تكريمه.. وإليكم بقيّة الخبر:
"السفير اللبناني أبو الحسن ارتجل كلمة بالمناسبة، مرحبّاً بسفراء وممثلي الدول العربيّة، وبراهبات العائلة المقدّسة المارونيّات، وجميع الذين لبّوا دعوته لتكريم الشاعر شربل بعيني. كما تحدّث عن دور الأديب، وعن الأدب المهجري في أستراليا "الذي لا أراه أدباً مهاجراً بل أدباً متمدداً أو منتشراً، لأن أدبنا المهجري يحتفظ وبكل فخر بجذوره الممتدة في أعمق أعماق تربة الوطن.
وتحدّث سعادته عن دور الأديب في وطنه الجديد، وإسهامه في بنائه، ورفع حصون حضارته، معتبراً أن الأديب، أي اديب، والشاعر، أي شاعر، هو سفير لبلاده ولحضارته الأم، وأن على عاتق مثل هؤلاء السفراء تلقى مسؤوليّة التعريف بالوطن الأم وحضارته العريقة.
وتمنى في ختام كلمته للشاعر شربل بعيني ولرابطة إحياء التراث العربي في أستراليا، ولجميع الأدباء والشعراء الذين يحملون لواء مسؤوليّة الكلمة كل تقدّم وازدهار، متمنياً عليهم مزيداً من العطاء".
ولكي يجيء التكريم على مستوى الوطن العربي، أعطى السفير لطيف أبو الحسن الكلمة لسفير المملكة العربيّة السعوديّة السيّد عبد الرحمن العوهلي، الذي "شكر فيها لسعادة سفير لبنان إتاحته الفرصة للسفراء والدبلوماسيين العرب للقاء الشعراء والأدباء، مؤكداً أن بلاده وسائر البلاد العربيّة تبارك خطوات الأدباء والشعراء العرب في الديار الأسترالية، ولا سيما الشاعر شربل بعيني الذي عاد مؤخراً من مربد الشعر في العراق "وقد سبقته شهرته مما أثار الشوق في نفوسنا لسماع قصيدته المربديّة".
وقبل أن أنقل إليكم مقاطع من كلمات وقصائد الشعراء المهجريين الذين شاركوا بالتكريم، أحب أن أخبركم أن السفير العراقي أنور الحديثي لـم يكن أكثر حظاً من السيّدة سامية زوجة السفير جان ألفا، أو من البطريرك الماروني مار نصراللـه بطرس صفير، اللذين بكيا وهما يستمعان لقصائد شربل بعيني. بل أن صدى لبنان تخبرنا أنه لـم يتمالك نفسه عن البكاء وهو يستمع لقصيدة شربل المربديّة:
"أما شربل بعيني فقد ألقى قصيدة المربد الشهيرة التي قوطعت بالتصفيق مراراً، وكان لها وقعها الخاص لدى السفير الحديثي، الذي لـم يتمالك نفسه عن البكاء تأثّراً".
أول المتكلمين كان رئيس رابطة إحياء التراث العربي الأستاذ كامل المر، فقال:
"أصحاب السعادة.. إن صح لي أن أتقدّم إخواني الشعراء بالكلام، فلأشكرنّ سعادة سفير لبنان الأستاذ لطيف أبو الحسن، أولاً: لأنه أعاد السفارة اللبنانية كما يجب أن تكون بيتاً لكل اللبنانيين. وثانياً: لأنه أتاح لنا الفرصة، فرصة اللقاء بكم، بمناسبة تكريمه الشاعر شربل بعيني. وثالثاً: على هذه الإلتفاتة الكريمة لتكريم واحد من طليعة شعرائنا في المهجر الأسترالي الذين بهم نفتخر ونعتز".
بعده، ألقى الشاعر المكرّم شربل بعيني قصيدته المربديّة، وقصيدة ثانية باللهجة اللبنانيّة أختار منها:
إسمو لطيف.. وبو الحسن عيله
التاريخ شكشكلا الصدر إلماس
الميله اللي فيها.. بترجح الميله
ع كتر ما بتلتـم حولو الناس
بيشهد عليي الربّ حبّيتو
من يوم ما دقّ الهوا ع الباب
ووقت اللي صفّى بيتنا بيتو
منزعل إذا بينقلّنا غيّاب..
وكعادته، زمجر صوت الشاعر المرحوم نعيم خوري بقصيدة هي البركان بعينه، تساءل فيها عن أحوال لبنان:
"ولماذا حرب ضروس عليه
تتلظى وكل فكر بليدُ!
يا أبا الحسن في ظلالك تنمو
شعلة الوعي والوفاق الوطيدُ
أنت تسقي مطارح الفكر عطراً
نرجسياً لكي يثوب الجحودُ
هذه دعوة التواضع فيها
من مزاياك رونق وشهودُ
وفي ختام التكريم، ألهبت قصيدة الشاعر المهجري عصمت الأيّوبي الأكف، فكانت بحق مسك الختام، ولقد اخترت منها:
الضّاد تفرح أن يكرّم شاعرٌ
فيكرم الإنسانُ في الإنسانِ
ما "شربل" إلا فتى أحلامنا
حمل الرسالة داخل الوجدانِ
كبراعم الزهر الندي يصونها
ويصوغها في أجمل الألحانِ
فتذوب حيناً رقّةً ولطافةً
وتثور، حين يثور، كالبركانِ
وعند رجوعه إلى سيدني، وفي مقال نشرته جريدة النهار في عددها الصادر بتاريخ 14/1/1988، صوّر الأديب عصمت الأيّوبي التكريم، كما لـم تصوّره كاميرا الفيديو، فقال:
"الثلاثاء، الثاني والعشرون من كانون الأول 1987، كان يوم شربل بعيني في كانبرا، العاصمة الفيدرالية للبلاد، حيث يقيم سعادة السفير أبو الحسن، تقرر أن يكون مكان التكريم، إلى جانب مأدبة غداء يقيمها سعادته على شرف المحتفى به، ويحضرها السلك الدبلوماسي العربي وأعضاء الوفود المشاركة.
منذ الصباح الباكر غادر المدعوون الولاية الأولى متوجهين إلى كانبرا، وقد سلكوا لغايتهم خطّين: واحد بري والثاني جوّي..
مسافة الثلاث ساعات الفاصلة بين ولاية نيو ساوث ويلز وكانبرا، مرّت كلمح البصر، أو كحلم جميل كان لا يزال مستبدّاً بنا في نشوة الفرح والغبطة، إذ سرعان ما وجدنا أنفسنا على أبواب كانبرا نحاول معرفة الشارع المؤدّي إلى مقرّ السفارة اللبنانيّة، الذي أهدانا إليه بلهفة وشوق علم بلادنا المرفرف بعزّة وإباء على ناصية دار السفارة..".
هكذا صوّر عصمت الأيّوبي رحلته الأولى إلى كانبرا للمشاركة بتكريم صديقه ـ صهره الآن ـ شربل بعيني، وأعترف أنني اخذت من المقال عبارات قليلة، وكان عليّ أن أنشره بكامله، نظراً لأهميّته، لولا ضيق المجال. وفي الختام قال عصمت:
"مع فنجان القهوة بعد الغداء، كانت كلمة ترحيبية رائعة ألقاها سعادة السفير أبو الحسن، شملت جميع المدعوّين، وتمحورت بخاصّة حول رابطة إحياء التراث العربي، ودورها في خدمة الأدب المهجري، الذي اقترح سعادته تسميته بأدب التمدد والإنتشار، لكي تظلّ الصلة بالوطن قائمة، متينة، بعيداً عن معنى المهجر، وما ينطوي عليه من معنى الغربة والإقتلاع. ثـم هنّأ الزميل شربل بعيني على مثابرته ومقاومته لمغريات الحياة الماديّة، متمنياً له استمرار التقدّم والإزدهار، واطراد النجاح في المهمة التي يضطلع بها.
حوالي الثالثة انفضّ المجلس، وأخذت الصور التذكاريّة، وكان يوم شربل يوم الجالية، يوم الوطن، يوم الأمّة العربيّة".
بعد هذا التكريم، توطّدت العلاقات الأخويّة بين شربل بعيني والسفير لطيف أبو الحسن، وأصبحا أكثر من صديقين.. فكرّمه شربل في بيته عدّة مرّات، ومدحه بقصائد عديدة ضمّها ديوانه أحباب.. كما أنه دافع عنه دفاع المستميت كلّما حاول أحدهم التطاول عليه أو على السفارة اللبنانية.. أو نظر للسفير أبو الحسن بمنظار طائفي.. في وقت كان التقاتل الطائفي على أشده في وطن الأرز لبنان.
عام 1992، كرّمت الجمعيّة الإسلاميّة العلويّة في سيدني، بالإشتراك مع الأديب اللبناني الكبير جورج جرداق، وفعاليات الجالية الأدبيّة والإعلامية، شاعرنا شربل بعيني، وكان بين المتكلمين سفير الأدب والأدباء الدكتور لطيف أبو الحسن، فكانت كلمته رائعة كإلقائه وكحضوره. وبما أنني سأتكلّم عن هذه المناسبة لاحقاً، أستميح القرّاء عذراً، إذا استبقت الأحداث ونشرت كلمة السفير لأهميّتها وصدقها، وإليكم ما قال:
"كلّما دخلت منزل شربل بعيني تطالعك ظاهرتان تمتلكان فيك القلب والعقل. الظاهرة الأولى، هي تلك الإبتسامة المشعّة على شفاه أهل الدار، المشفوعة بكلمة (يا أهلا وسهلا) الصادرة من القلب. وما هذه الإبتسامة إلاّ مرآة تعكس ذلك الكنز الثـمين من المحبّة والصداقة، الذي يجمعه شربل بعيني وذووه بين حناياهم. تشعر بأنك واحد من أهل البيت، والدة عطوفة أعطت العالـم ما في المحبّة من رونق عندما ولدت شربل بعيني.
والظاهرة الثانية، التي تمتلك حواسك وعقلك، هي ذلك الشعار ـ الرمز المعلّق في أبرز مكان على جدار قاعة الإستقبال، ليراه القاصي والداني، ولو نطق لسمعته يقول: الخلق كلّهم عيال اللـه. إنه رمز وحدة الأديان والطوائف اللبنانية، جمعها شربل في بيته وقلبه وعقله، وجسّدها في مناجاة علي، ونطق بها في مزموره السابع:
دينك ديني.. دين الحبّ
الحبّ اللي بيجمع أكوان
وعلى مبدأ المحبّة، توحّدت الأديان في عالـم شربل بعيني.
في مناجاة علي تلتقي المحبّة والإيمان على مبدأ سمو الأديان، ونبذ التفرقة والتعصّب، فاللـه، كما قال السيّد المسيح، محبّة: (من أقام في المحبّة أقام في اللـه وأقام اللـه فيه)، والشرعة الوحيدة التي يتحتّم على الإنسان أن يعيش بها ولها، كما قال ميخائيل نعيمة، هي شرعة المحبّة، محبّة كل الناس، وكل الكائنات.
فلا عجب، إذاً، ولا غرو أن ينهل شربل بعيني من ينبوع عليّ، يغرف منه ما شاء، ويرتوي من حكمته وطهارته ليؤسّس معه علاقة فكريّة روحيّة، تنطلق من هذه الشرعة السرمديّة، شرعة محبّة كل الناس والكائنات.
عندما يناجي شربل بعيني عليّاً، تشعر بأنك أمام معزوفة موسيقيّة تشابكت فيها تعاليـم الأديان السماويّة بتناغم عذب، تنقلك من محيط الإيمان إلى محيط المحبّة، ومن عالـم الإنسان الأرضي إلى مجرّة الإنسانيّة، وفوق هذا وذاك ينكشف لك بأن (الخلق كلّهم عيال اللـه، أحبّهم إليه أنفعهم لعياله).
مناجاة علي، بالإضافة إلى كونه عملاً أدبياً رائعاً، هو وجه مشرق في حياة شربل بعيني، استحوذ على المزيد من إعجابنا وتقديرنا، إذ أنه تطرّق إلى موضوع يلامس حياتنا الواقعيّة، ويعكس أبهى ما في العلاقات الإجتماعيّة بين مختلف المذاهب من مزايا إنسانيّة وروحيّة، وهو بعمله هذا يعيد إلى ذاكرتنا روائع بولس سلامة وجورج جرداق وغيرهم من الذين عرفوا قدر الإمام علي بن أبي طالب.. وقَدَرَه.
قيمة هذا العمل هي في ذاته، ونزداد انبهاراً به كونه أنتج في المهجر، ليكون نبراساً للأدب المنتشر، وقدوة في التلاحم الديني. إنه رسالة المهجر إلى الوطن، أو بالأحرى، دعوة إلى نبذ العصبيّة الطائفيّة والتعصّب الأعمى، اللذين كادا أن يفتّتا الوطن. إنه رسالة إلى أولئك الذين يأخذون من التعصّب ستاراً، لا بل حصناً يبثّون من ورائه سموم التفرقة، تارة باسم الدين، وطوراً باسم الوطن، والدين والوطن منهم براء.
إبن لبنان البار هو من حمل راية التلاحم والتلاقي والمحبّة والإنصهار. بهذه الأقانيم تبنى الأوطان. فهنيئاً لشربل بعيني بهذا التكريم، وهنيئاً للبنان الواحد الموحّد، وللجالية اللبنانية الواحدة الموحدة، بشربل بعيني".
أعتقد أن كلام السفير هذا، كان وسيبقى سفير الكلام في هذا المغترب البعيد، فهو يشرح نفسه بنفسه، وتتسابق معانيه لتفسّر بعضها البعض بدقّة بالغة. كما أنه يدعو اللبنانيين، من خلال مواطن واحد اسمه شربل بعيني، إلى نبذ الطائفيّة، وبناء الوطن الواحد الموحّد، الذي يحضن أبناءه، كلّ أبنائه، ليصبح، فيما بعد، الوطن الأجمل، وطن الأحلام المعشّشة فيه، والعائدة إلى ربوعه.
وعندما أحيل السفير أبو الحسن إلى التقاعد، ودّعه شربل بحفلة تكريميّة مؤثرة، ألقيت بها القصائد والكلمات، وعلّقت صور "اللطيف" بالمئات في كل أرجاء القاعة. كما خصّه بعدد من مجلة ليلى، نشر فيه كل الكلمات التي ألقيت في وداعه. فالمسافر ليس إنساناً عادياً بنظر شربل بعيني: إنه "مكرّمه الأوّل" عام 1987.. إنه صاحب "الفضل العظيم" الذي يعجز عن إرجاعه.. إنه صديقه وأخوه.. إنه سفير بلاده.. إنه لطيف أبو الحسن وكفى.
وإليكم مقتطفات من الكلمة التي ألقاها السفير أبو الحسن ليلة وداعه، ونشرتها مجلة ليلى كافتتاحية في عددها الثاني والعشرين، الصادر في شهر آب 1997:
"أشعر اليوم أنني في قلب (بتخنيّه) وفي قلب (مجدليا)، وفي قلب لبنان.. إذ أن هذه العواطف الجيّاشة جعلتني عاجزاً عن مجاراتكم في اللغة والبلاغة والمبنى.
يطيب لي، وأنا محاط بهذه الباقة الفوّاحة من الأصدقاء، أن أسترجع ذكريات مرّ عليها إثنا عشر عاماً. ففي السنة الأولى لوصولنا إلى أستراليا، تكرّم الأستاذ شربل بعيني وأقام لي حفلة استقبال في دارته العامرة، وأوّل ما لفت نظري لوحة معلّقة في البهو الرئيسي من المنزل، تتضمّن شعائر الأديان السماويّة كلّها، فأكبرت فيه ذلك، وقلت في نفسي إنني أمام ظاهرة فريدة تجسّد لبنان، تجسّد الإنسانيّة في لبنان.
وبعد أن تناهى إلى سمعي، بعد سبع أو ثـماني سنوات، إنه مارس قناعته فعلاً، واقترن بليلى إبنة أخي عصمت الأيّوبي وأم مصباح.. قلت: لا شك ان هذا الرجل، بما يمثّل ويؤمن ويعتقد، هو تجسيد للقيم والأخلاق اللبنانيّة، التي يجب أن يبنى الوطن عليها.
أخي وصديقي شربل.. لقد أكرمتني مرّتين: المرّة الأولى عندما منحتني صداقتك، والمرّة الثانية عندما نبذت الطائفيّة قولاً وفعلاً، وكأني بك توجّه رسالة تقول بها: هكذا تبنى الأوطان".
وقد نشر كلارك بعيني، في الجزء الثالث من كتابه شربل بعيني بأقلامهم ـ 1988، صورة تجمع بين السفير أبو الحسن وشربل بعيني، وعلى الصفحة المقابلة أبيات لشربل تشرح أبعاد الصورة:
العمر مأكّد كزدوره
وعم تمشيها المعموره
مهما تبعّدنا الأيّام
منبقى جُوّات الصوره
أنّى للأيّام أن تبعد صديقين عزيزين كشربل ولطيف
سمكة الشعر الإغترابي خارج محيطها
عام 1987، خرجت سمكة الشعر من محيطها الإغترابي، لتسبح في محيطها الأم. فلقد لبّى الشاعر شربل بعيني دعوة وزارة الثقافة العراقية للمشاركة بمهرجان المربد الشعري الثامن، وكانت المرّة الأولى التي يعود بها إلى وطنه العربي بعد هجرته الأولى عن لبنان عام 1971.
وبما أنني أدوّن تاريخاً أدبيّاً في الإغتراب، وجب عليّ أن أذكر أن الأديب جاد الحاج قد يكون أوَّل من لفت أنظار المشرفين على مهرجانات المربد الشعريّة إلى شعر شربل بعيني، فقد كتب في مجلّة الدستور اللندنيّة الصادرة في 7 أيلول 1987، ما يلي
"إلتقيت شاعراً في سدني ـ أستراليا إسمه شربل بعيني. ذكّرني بجنس من الملائكة اعتقدته مفقوداً من زمان. شاعر دائم الإقبال والبشر والتفاؤل. برغم غضبه وحنقه ليس حاقداً، وبرغم غربته أليف، طيّب، وصاحب معشر
ويكتب شربل بتلقائيّة وكيفما أراد، بدون هواجس ولا ذرّة تردد. كأن الشعر فمه، وهل رأيت من يجامل فمه؟
أقترح على المشرفين على مهرجانات الشعر العربي دعوته للمشاركة، فلديه لون يذكّرنا بزمن الهجرة الأولى وعصر النهضة
ونظراً لأهميّة شربل بعيني في الأدب المهجري، فقد ودّعه كبار الأدباء والشعراء بكلمات مؤثرة لا تقدر أن تمحوها الذاكرة، مهما تلاعبت بها عواصف الغربة. فلقد كتب الأديب عصمت الأيّوبي في جريدة النهار ـ العدد 565، الصادرة في 12/11/1987، ما يلي
"السندباد مسافر إلى بغداد، إلى بلد الرشيد ومنارة المجد التليد. هوّذا الشاعر شربل بعيني يثوثّب، يستعدّ، يتهيّأ، يخاف، يتهيّب، لأنه ليس في زيارة عادية. إنه على موعد مع مهرجانات المربد الشعريّة، والدعوة، وإن كانت باسم شربل بعيني، إلاّ أنها لا تعنيه وحده، إنها تعني جميع أبناء الجالية العربية في هذه القارّة. وبالأحرى، فإنها موجّهة إلى أدبنا المهجري في الصميم، إلى كرامتنا القوميّة، إلى حركتنا الثقافيّة في هذه البلاد".
وكتب الأستاذ كامل المر، رئيس رابطة إحياء التراث العربي في أستراليا، في جريدة صدى لبنان، العدد 573، الصادرة في 24/11/1987، ما يلي:
"في البدء كان الكلمة، وقد كانت الكلمة مثقلة بالمسؤوليّة منذ مهدها، منذ طفولة الكلام على لسان البشر. هذه المسؤولية التي ارتقت بالإنسان ليصبح "إلهاً" في "القمط"، وعهدنا بك يا شربل خير من يحمل مسؤوليّة الكلمة المسؤولة.
هناك في "المربد" يا صديقي، حيث الكلام يغربل وينخل ويوزن بموازين أدق من موازين الذهب، سترجح كفّة الكلام الصادر عن ذات قيمة مسؤولة لـم يمنعها التشرّد، أو الإغتراب، أو السجن، عن أن تكون الذات القيّمة التي إليها تشخص أنظار الناس، ومن وهج لهيبها تستمد الشعوب نار ثورتها".
أمّا الشاعر المرحوم نعيم خوري فقد حمّله وصايا كثيرة إلى الأمة العربيّة، في مقال نشره في جريدة صدى لبنان، العدد 572، الصادرة في 17/11/1987، اخترت منها ما يلي:
"يا شربل.. في طريقك إلى المربد تذكّر أنك شاعر بساط الريح طوع جناحيك، وقباب السماء قناطر لقدميك. لعينيك تتراقص النجيمات، وفي حناياك تتغلغل الشمس. على كفّيك تنبسط الأبعاد، وفوق كتفيك ينشلح تاريخ طويل. كما في طيرانك، كذلك في شعرك، أنت دوماً تحلّق. تطلّ من دنيا ليست كدنيانا، وتنسكب شلالات لـم تخطر ببال، وتسرح في أخيلتنا كما لـم يسرح خيال، تشيع فيها الحب والثقة والتمرّد.
يا شربل.. في طريقك إلى المربد تذكّر أنك لست من النخبة المصابة بمرض الطليعة، أو ظاهرة الريادة، ولوثة الإنحراف، بل أنك صوت يدوي كما الرعد، ويقظة تتوثّب كما البرق، وأنك أنت ضمير هذه الجالية المتوهّج، وقلبها الذي يحبّ الحياة لأنه أقوى من الموت".
ولكي لا أطيل عليكم سأنهي كلمات الوداع بأبيات زجليّة للشاعر المرحوم زين الحسن، نشرها بتاريخ 24/11/1987، في جريدة صدى لبنان، العدد 573:
يا شربل بعيني بهالمشوار
وحياة سر محبّتك يا جار
مش وحدك مسافر على بغداد
اللي مرافقينك بالتمنّي كتار
منهم نعيم وكامل وفؤاد
وعصمت وزين العاجز الختيار
والوالده.. وإخوانك الأمجاد
والصّحافه وعصبة الشعّار
يا بن مجدليّا الوفي المعتاد
تغازل عروس الشعر ليل نهار
بهالمرحله خلّي الغزل ع حياد
وعالج قضيّة شعب مجدو انهار
مش رايح تغنّي بفرح وعياد
ولا رايح تأمّن عروس الدّار
رايح على المربد رسول بلاد
شعبها معلّق مصيرو فيك
يا إبن تربتها الأمين البار
إذا قلت إن شربل بعيني هو أول شاعر مهجري في أستراليا يدعى إلى أعلى قمّة شعريّة في العالـم العربي، لا بل في العالـم أجمع، أكون قد ردّدت ما قالـه غيري في ذلك الحين.
وإذا قلت إن قصيدة شربل "أرض العراق.. أتيتك" قد هزّت المربد الشعري، أكون قد ردّدت ما قالـه الشاعر العراقي الأب يوسف السعيد، ونشرته جريدة صدى لبنان في عددها الصادر في 15/12/1987:
"مبارك هو شربل الذي هزّ اليوم ألفي شاعر في مربد بغداد الثامن".
وأعتقد أن التركيبة "الشربليّة" للقصيدة هي التي ساهمت في هزّ المربد الشعري، فلقد حاك أبياتها الرائعة باللغتين الفصحى والعاميّة، ضارباً عرض الحائط بكل التنبيهات التي سمعها من أن الشعر العامي مرفوض تماماً في "المربد"، ومع ذلك طعّم قصيدته بأبيات زجلية من التراث اللبناني، دون أن يصيب بناء قصيدته أي خلل موسيقي أو لغوي.. ودون أن تتنافر المدارس الشعرية المختلفة التي استعان بها. فبعد أن ناجى، كمغترب، أرض العراق، قال لها:
فيا أمّي..
بغربٍ ضمّني طفلاً
تركتكِ أنتِ "سيّدتي"
ونشر الضَّاد أمنيتي
وفوقَ شراعِ أسفاري
كتبتُ كلامَ أغنيتي:
هيهات يا بو الزلف
عيني يا مولَيّا
بغداد هيّي القلب
ولبنان عينيَّا..
وبطريقة فنيّة رائعة، دمج شربل الشعر الفصيح المموسق بالزجل العامي وبالشعر الكلاسيكي الموزون المقفّى على الطريقة الخليليّة، دون أن ينشّز موسيقيّاً، وكأنه يريد أن يثبت صحّة كلامه: "الشعر هو الشاعر لغة وموسيقى":
لبنانُ، يا بغدادُ، كَم سنةٍ
يقتاتُ من أكباده الألـمُ
هل ينتهي الإنسانُ في وطنٍ
كانت تناغي أرضه القيَمُ
أعداؤه الأوغادُ همّهُمُ
أن يُسكِرَ المستنقعاتِ دمُ
أوصافهُم، إن شئتِ أكتبها
كي تعلمي كم يخجلُ القلـمُ
إلى أن يسخر من الأوزان الشعريّة في زمن ضاعت به كل الأوزان الإنسانيّة والثقافيّة والقوميّة والأخلاقيّة:
مستفعلُن مستفعلُن فَعِلُنٌ
تفعيلةٌ ترديدها سـأَمُ
تجترّنا الأوزانُ حاديَةً
والشّعبُ في أبدانه السّقَمُ
مَنْ ذا يقيسُ الشعرَ في زمنٍ
يرتابُ من ألوانهِ العلـمُ
القصيدة طويلة جداً، ومن يريد الإطلاع عليها، أدلّه على ديوان كيف أينعت السنابل؟، إذ أن المجال ضيّق لنشرها كاملة.
وكما قال الأب الدكتور يوسف السعيد، فلقد هزّت هذه القصيدة المربد الثامن، وراح التلفزيون العراقي يعمل على بثّها يوميّاً بعد نشراته الإخباريّة، كما انهالت على الشاعر بعيني تعليقات كبار النقّاد والشعراء العرب التي نشرتها جريدة صدى لبنان بتاريخ 15/12/1987، وما زال يحتفظ بها بأرشيفه، وبخط أيديهم أيضاً.
عن أسلوب القصيدة وموضوعها، قال الشاعر الموريتاني عبد اللـه بونه: "القصيدة قمّة في الروعة، أسلوباً وموضوعاً".
وعن تفرّد شربل بلونه الشعري، قال الصحفي اليمني أحمد الأشول: "شربل بعيني.. أثبت حقاً أن لونه الشعري يختلف ويتفرّد بميزة ما هنا في المربد".
أمّا عن إلقاء شربل المميّز، فقد قال الشاعر العراقي عبد الخالق سرسام: "الشيء الرائع حقاً أن شربل بعيني ألقى القصيدة مرّتين في آن واحد، مرةً بيديه ومرةً بلسانه".
ولكي يعطي الناقد اللبناني المرحوم نسيب نمر القصيدة حقّها، شبّهها بلؤلؤة نادرة: "قصيدة الشاعر المهجري شربل بعيني في المربد الثامن من القصائد الرائعة الجامعة بين الحنين والحب، وبين الواقع والتخييل، ما يجعلها لؤلؤة في الشعر المهجري المعاصر والشعر العربي الحديث بأسره".
ورغم أن الشاعر الموريتاني محمد ظافر ولد أحمدو لـم يستمع إلى إلقاء القصيدة، إلاّ أنه أبدى رأيه بها بعد أن قرأها منشورة في مجلّة المربد، وأعجب بتركيبتها الشعرية الفريدة التي تكلّمت عنها سابقاً: "قصيدة الشاعر شربل بعيني، التي لـم يتح لي حضور إلقائها، ولكني قرأتها مكتوبة، كانت، في نظري، ذات شفافيّة رائعة، وهي تتوفّر على موسيقى داخليّة هامسة. والملفت للنظر فيها هو هذه التركيبة الطريفة المتأتيّة من المزج بين التفعيلة والبحر الشعري وبكارة العاميّة وجمالات الفصحى..".
ومن القصيدة الأولى، اكتشف البروفسور اليوغسلافي المستشرق رايد بوزوفيتش أن "شربل.. هو الشاعر الصارخ والمصارع من أجل الحقّ". كما أن الشاعر اللبناني سليمان أبو زيد اعترف أن "شربل بعيني يرفع رأس لبنان في أستراليا وفي كل مكان، وقد رفعه أمس بقصيدته العصماء في مربد بغداد أمام ألوف المستمعين المعجبين". وفي نفس الوقت اعتبره المثقّف العراقي إياد الزاملي "فاكهة المربد الوحيدة". واعترفت المسؤولة المربديّة أسيمة التويجري أنه "أجمل شخصيّة شاهدتها في حياتي، وألذ وأطعم شخصيّة شاعرية". كما همس الشاعر العراقي أبو تمام في أذنه: "لقد ملكت قلوب العراقيين يا شربل بعيني".
فإذا كانت قصيدة شربل قد أصابت الدكتور عصام حدّاد "عندما تحدّث عن غربته وقهره واحتراقه"، نجدها قد أصابت أيضاً الصحفي اليمني أحمد الأشول، فأجرى لقاءً مطوّلاً مع شربل، نشرته جريدة الثورة اليمنيّة بتاريخ 16/12/1987، تحت عنوان "القصيدة التي كلّفت أربعة آلاف دولار"، ومن عبارات شربل التي أبرزتها الثورة اليمنيّة كعناوين رئيسيّة في اللقاء، أختار:
ـ الشعر المهجري تعمّد بالألـم، وانصهر في أتون غربة أعطته الحريّة.
ـ لغة المعاجم مرفوضة في زمن يصعب فيه التقاط الأنفاس.
ـ كي يصبح الوطن العربي نموذجيّاً يتوجّب عليه استرجاع جميع أبنائه.
ـ المربد.. منبر الكلمة الحرّة، والشاعر يصبح محظوظاً متى دعي إليه.
ـ من حقّ الشعر المهجري أن يمثّل بوفد أدبي كامل.
ـ لا أتوخّى خيراً من نقّادنا الأشاوس لدفع أدبنا المهجري.
ـ أجبرت على الرحيل بعد أن بدأت أحذّر من الحرب الآتية.
وكما يقول المثل الشعبي: "من الصعب جدّاً أن تكتمل فرحة أحد"، فما أن حطّت طائرة عودته في مطار سيدني، حتّى حدث ما لـم يكن بحسبان شربل، فلقد صادر الإنتربول الأسترالي حقائبه، وطلب منه التوجّه إلى مكتبه المختص بحماية أمن الدولة. هناك، تطلّع أحد الضبّاط الكبار بشربل وسأله:
ـ هل حزمت أمتعتك بنفسك في بغداد؟
ـ أجل..
ـ هل أنت متأكّد من ذلك؟
ـ لقد زارني العديد من المودّعين، ولكن حقائبي كانت مقفلة.
ـ إذن، عليك أن تقول لنا من درّبك في العراق.. نحن نعرف أن القنّاص المحترف لا يقتل طريدته إلاّ إذا ارتدى بذلته العسكريّة.. فمن هي الشخصيّة التي تنوي اغتيالها في أستراليا؟..
ـ ماذا تقولون؟!.. أنا معلّم مدرسة ولست قنّاصاً كما تعتقدون.
هنا، مدّ الضابط يده إلى حقيبة شربل، وأخرج منها بذلة عسكريّة كانوا قد أهدوها له كتذكار من الجيش العراقي، وصاح:
ـ وهذه البذلة العسكريّة من أين جئت بها؟
ـ إنها هديّة من الجيش العراقي. وبإمكانكم أن تحتفظوا بها.
ـ أتريدنا أن نصدّقك؟
ـ هذه صورتي وأنا أرتديها في العراق.. فإذا أردتـم أن تحتفظوا بالصورة أيضاً لا مانع عندي، ولكن دعوني أخرج، فلقد تأخّرت كثيراً، وأمّي تنتظرني على أحر من الجمر.
ويعترف شربل أن تأخّره ثلاث ساعات عن الخروج من مطار سيدني، هو الذي سبّب داء السكّري لوالدته. وهو الذي منعه من المشاركة بأي مهرجان أدبي في الوطن العربي قد يدعى إليه. وكيف يشارك، وقد بقي هاتفه تحت المراقبة مدّة طويلة من الزمن؟!.
بقي أن أذكر أن شربل هو الّذي افتتح بث إذاعة "المربد" باسم ألفي شاعر وناقد، وشكر الحكومة والشعب العراقي لاستضافة أكبر مهرجان أدبي تحت عين الشمس.
جورج جرداق ونديم نعيمة.. ومناجاة علي
في السابع من شهر تشرين الثاني عام 1992، دعتنا الجمعيّة الخيريّة الإسلاميّة العلوية ـ سيدني أستراليا، بالإشتراك مع الأديب الكبير جورج جرداق ـ لبنان، وفعاليات الجالية الأدبيّة والإعلاميّة، للمشاركة بتكريم الشاعر شربل بعيني ، بمناسبة صدور ديوانه مناجاة علي. وقد طبعت الدعوة على الغلاف الأمامي لمجلّة أسموها المناجاة، جمعوا فيها معظم المقالات والقصائد التي قيلت بشربل وبمناجاته، باللغتين العربيّة والإنكليزيّة.
كثيرون هم الذين شاركوا بالتكريم، كسفير لبنان، آنذاك، الدكتور لطيف أبو الحسن، وفضيلة الشيخ كامل وهبة، والشاعرة الأستراليّة آن فيربيرن، والأديب الأسترالي مايكل هولنغورث، ورئيس رابطة إحياء التراث العربي الأستاذ كامل المر، والأستاذ عصمت الأيّوبي، والممثلّة الأديبة نجوى عاصي منسّقة الإحتفال، والأستاذين رفيق حمّودة وعبد اللـه خضر مترجم المناجاة إلى الفرنسيّة، والآنسة ليلى الأيّوبي، التي أصبحت اليوم زوجة المحتفى به، كما قرئت رسالتان من الأديب محمد زهير الباشا ـ أميركا، والدكتور عصام حدّاد ـ لبنان.
بقي اثنان لـم أذكرهما سابقاً، كانا، بنظري، فاكهة التكريم الشهيّة، ألا وهما: الأديب اللبناني الكبير جورج جرداق، والبروفسور نديم نعيمة، إبن شقيق الفيلسوف ميخائيل نعيمة، وذلك لبعدهما عن مهجرنا هذا، وتعاملهما لأول مرّة مع إنتاج أدبي يصدر لنا في الإغتراب، أضف إلى ذلك سمو مكانتهما الأدبيّة في عالمنا العربي. وكلّنا يعلم أن هذين العملاقين لا يتملّقان أحداً، وأن كلّ كلمة تصدر عنهما، إنما تصدر عن اقتناع وتفكير مسبق.
فماذا قال حفيدا أبجديّة جبيل؟.. وماذا قال الباقون؟
أوّلاً، أديبنا الكبير جورج جرداق غني عن التعريف، مؤلّفاته النثريّة والشعريّة أكثر من أن تحصى، ويكفي أن تكون كوكب الشرق السيدة أم كلثوم قد غنّت قصيدته التحفة "هذه ليلتي"، إحدى أجمل روائعها الغنائيّة على الإطلاق، لندرك مدى عمق وأصالة وخلود هذا الإنتاج الجرداقي. ثـم لا ننسى أن شاعرنا شربل قد استلهم "مناجاته" من مؤلّف جورج الخالد الإمام علي صوت العدالة الإنسانيّة، الموزّع على خمسة مجلّدات، ولهذا جاء إهداؤه للديوان، على الصفحة السابعة، اعترافاً أدبيّاً صريحاً لـم يسبق له مثيل، أعاد لصاحب الفضل فضله، فلقد أهدى المناجاة: "إلى الأديب العربي الكبير جورج جرداق، الذي غنّى عليّ بن أبي طالب صوت العدالة الإنسانيّة، كما لـم يغنّه أحد من قبل".
إذن، فكتابة جورج جرداق عن الإمام علي، هي التي أملت على شربل مزاميره العشرين، أو بالأحرى، هي التي مدّته بنسغها السحري كي يكتب ما كتب. ومن عظمة قلـم جورج استمد قلـم شربل عظمة "مناجاته"، فما كان منه إلاّ أن اعترف بأن جورج جرداق قد غنّى عليّاً كما لـم يغنّه أحد من قبل.
ويوم تكريم شربل أرسل جورج كلمة لتقرأ بالمناسبة، فقرأها، نيابة عنه، الأستاذ عصمت الأيّوبي، الّذي قدّم الكلمة بكلمات أدبيّة رائعة، أخبرنا فيها أن كلمة "جرداق" تعني الرغيف، فنِعْمَ الإسم، ونِعْمَ المعنى. وإليكم ما جاء في كلمة "رغيفنا" الأشهى:
"في مثل هذه المناسبة مجال واسع لكلام كثير. غير أني سأوجز، ففي الإيجاز ما ليس في الإسهاب من خفّة الوطأة على القارىء أو السامع:
عظماء الخلق الحقيقيّون هم عظماء كل زمان ومكان. وهم شرف للإنسانيّة كلّها، لا يستطيع احتكارهم أحد من هنا أو هناك، لأنهم كالضياء الذي ينتشر على الجميع.
ولأن الإنسانيّة في النتيجة واحدة، ولأن التفريق بين قوم وقوم، أو بين طائفة من البشر وطائفة، هو عمل هامشي لا جوهري، وآني وطارىء على الحقيقة وعلى الخصائص الإنسانيّة بأصولها ومجاريها وغاياتها، فإن سيرة كل عظيم في الفكر والخلق والمسلك، أياً كان زمانه ومكانه، وأياً كان قومه، ومهما حاول هؤلاء أو هؤلاء احتكاره، هي ملكي وملكك وملك الناس، كل الناس، البيض والسود والصفر والمجاورين لك والغائبين عنك وراء البحار السبعة.
وفي طليعة عظماء الفكر والخلق والسيرة، منائر الأزمنة، هداة الناس جميعاً: الإمام الأعظم علي بن أبي طالب.
وإذا كان الجمال السامي لا يستشفّه فيراه ويهواه إلاّ صاحب النظر الصائب، والمخيّلة الكاشفة، والروح الصافي، والذوق الرفيع.
وإذا كانت القيم الكبرى لا يدرك معانيها فينتشي بعبقها ويحيا لها وفيها إلاّ من أودعه اللـه القدرة على الإتحاد بجوهر الأحياء والأشياء على السواء.
وإذا كان أصحاب الجمال السامي، والقيم الكبرى، لا يستظلّهم ويدفأ بوجودهم، فيطمئن من خلالهم إلى خير الوجود ونعمة الحياة الواحدة والعدالة المنبثقة من قوة الكون المركزيّة التي هي اللـه، إلاّ الطيّبون الخيّرون المهيّئون فطرياً لأن يكونوا رسلاً للإخاء والمحبّة والرحمة، لا بالأحياء وحدهم بل بأشياء الوجود الصامتة كذلك.
إذا كان الأمر على هذه الصورة، فلا بدّ من أن يكون شربل بعيني من أصحاب النظر الصائب، والمخيّلة الكاشفة، والروح الصّافي، وممن أودعهم اللـه القدرة على الإتحاد بجوهر الأحياء والأشياء جميعاً، ومن الطيّبين الخيّرين المهيّئين فطرياً لأن يكونوا رسلاً للإخاء والمحبّة والرحمة، لكي يتمكّن من أن يستشف جمال الروح السامي في عبقري المعاني الإنسانيّة علي بن أبي طالب، وأن ينتشي بعبق القيم التي يمثّلها الإمام الأعظم، ويستظلّه ويدفأ بوجوده، ويطمئن من خلاله إلى نعمة الحياة الواحدة في خلق اللـه.
هكذا هو، وهكذا كان كتابه الشعري مناجاة علي، الذي آثر أن ينظمه بلغته المحكيّة لتأتي أوثق صلة بحقيقته، وأدق تعبيراً عن مشاعره، وأقرب إلى العفويّة الخالصة.
في هذا الكتاب ما يدلّ على رغبة الإنسان الحقّ في العودة إلى الينابيع الصافية، التي لـم تعكّرها الهموم الآنية الهامشية، التي طالما أبعدت المرء عن أصوله، وحجبت عن عقله وقلبه ووجدانه غاية وجوده. والآنيّ قد يدوم ألوف السنين، ولكنه يظل آنيّاً بالنسبة لعمر الزمان السرمدي.
لبناني آخر ينضم إلى جملة اللبنانيين المثاليين، الذين كان طليعتهم جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة، ويشير إلى إحدى المنائر الكبرى في ظلمات التاريخ، ويقول لك: هذا هو علي بن أبي طالب، فاستنر أنت أيضاً بنوره، وامشِ على ضوئه في طريق العدالة والمحبّة والرحمة والخير، أو اختصر وقل: في طريق الحياة الصافية الواحدة التي لا تتجزأ إلاّ هامشياً وآنيّاً.
تحيّتي إلى الشاعر شربل بعيني تصحب تحيّة لبنان إلى الخيّرين من أبنائه المهاجرين، وإلى كل من سعى منهم إلى حقيقة، وأبرز قيمة، وكرّم صاحب جهد كبير.. وشكراً لكم جميعاً".
وبعد هذا الكلام العملاق من جورج جرداق، وبعد تحيّته وتحيّة لبنان إلى شربل، وإلى الخيّرين من أبنائه المهاجرين، وإلى كل من سعى منهم إلى حقيقة، قدّم سفير لبنان الدكتور لطيف أبو الحسن للشاعر شربل بعيني هديّة رمزيّة باسم الأديب جرداق، تمثّل شاعراً يحمل حقيبته ويتّجه نحو المجهول.. نحو غربة جديدة، رماه بها جور أنظمتنا العربيّة، واضطهادها لكل "من سعى إلى حقيقة" في شرقنا العربي التعيس.
كما قدّم رئيس الجمعيّة العلويّة السيّد صبحي حميد لوحة مستوحاة من ديوان مناجاة علي، رسمها الفنّان المهجريّ القدير أنور يوسف، وأعطاها بعداً إنسانيّاً لا تحدّه حدود، ولا تمتلكه طوائف.. وقد لا أذيع سراً إذا قلت إن مترجم "المناجاة" إلى الأورديّة، الباكستاني علي سلطان، قد جاء خصّيصاً من باكستان لالتقاط صورة تذكاريّة له وهو يقف تحت لوحة الفنان أنور يوسف في منزل شربل بعيني.
ثانياً، البروفسور نديم نعيمة، الأستاذ المحاضر في الجامعة الأميركيّة ببيروت، وصاحب المؤلّفات العديدة باللغتين العربيّة والإنكليزيّة، الذي كان وجوده في حفل تكريم شربل بعيني صدفة جميلة، فلقد جاء قبل أسبوعين من موعد التكريم لاستلام جائزة جبران العالميّة التي منحته إيّاها رابطة إحياء التراث العربي في أستراليا، وكان شربل أمين سرّها في ذلك الوقت، فما كان من البروفسّور نعيمة إلاّ أن لبّى الدعوة لحضور التكريم.
وقبل أن أطلعكم على ما قاله البروفسور نعيمة، أحب أن أخبركم هذه الحادثة الطريفة: عندما ذهب أعضاء الرابطة لاستقبال البروفسّور في مطار سيدني لـم يكن أحد منهم يعرفه، أو يحمل صورة له، فاحتاروا في أمرهـم، وراح كل واحد منهم يتطلع بوجوه القادمين دون جدوى. وفجأة صاح شربل:
ـ يا أهلا بالبروفسّور نديم نعيمة..
وراح يقبّله على وجنتيه، والدهشة تعلو وجوه الجميع، بما فيهم البروفسّور نعيمة، الذي سأل شربل:
ـ .. وكيف عرفت أنني البروفسّور نديم نعيمة؟
فضحك شربل وأجاب:
ـ إنّك صورة طبق الأصل عن المرحوم عمّك ميخائيل نعيمة.
والآن، لنعد إلى التكريم، وإلى كلمة صديقنا البروفسّور، التي ارتجلها، بعد أن فوجىء بدعوته للكلام.. وصدقّوني أن أجمل الكلام هو الكلام العفوي المرتجل، وإليكم ما قال:
"لـم أكن أدري، منذ تركت لبنان، وذلك منذ أسبوعين، أنني أترك لبنان إليه!!. إنني، هذه الليلة، وكأنني في لبنان، إلاّ أنّكم، وصدقوني، لبنان الأجمل.
أشعر لأول مرّة، منذ ستة عشر سنة، أنني أنتقل من لبنان الممزّق إلى لبنان السوّي. تركت لبنان الجريح، فإذا بي هنا معكم في لبنان المعافى. تركت لبنان الطائفي، فإذا بي معكم في لبنان المرتفع فوق الطائفيّة. تركت لبنان الغائص في مشكلاته السياسيّة وفي مختلف ما شوّه وجهه من قذارات، فإذا بي معكم في لبنان الجميل، الذي عرفناه جميلاً قبل كل هذه القذارات.
غريبة هي الغربة!.. غريبة: لأنها تجعل واحدكم يحن بشوق محرق، ويخرج مجلواً نظيفاً معافى، كما تخرج عشتروت من الصدفة، وإلاّ فما معنى هذه المناسبة اليوم؟.. شاعر مسيحي أو ماروني يتغنّى بعلي بن أبي طالب، وعلي بن أبي طالب يتحوّل في ناظريه وأنظارنا جميعاً إلى مثل من الخير والحق والجمال.
في الآية الكريمة: {أما الزبد فيذهب جُفاءً، وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض}. زبد كل هذا الذي حلّ بلبنان من حرب وتشريد وقتل وانقسام. إنه زبد سيذهب جفاء. زبد أيضاً، ربّما التاريخ، إذا لـم يستنر بهذه المنارة الكبرى.
كم تبدو الحياة برقعاً مفزعاً ومخيفاً من غير هذه المناسبات الإنسانيّة، التي أنارتنا عبر العصور.
لولا هذه المنارات، وأبرزها وجه علي، لكانت الدنيا كلّها بلا قيمة، على حدّ تعبيره: "أتفه من قشّة في فـم جرادة".
أهنّئك يا أخي شربل على هذه الأغاني التي غنّيتها لعلي. ما قلته جميل وجليل جدّاً، وأجمل منه أنك قدوة رائعة للذين، من مثقفينا، سيستطيعون أن يعرفوا أولئك الذين نفعوا الناس في التاريخ، وجعلوا هذه الأرض أهلاً لأن يسكنوا".
فإذا كان الأديب جرداق قد شبّه شربل بلبناني آخر ينضم إلى جملة اللبنانيين المثاليين، الذين كان طليعتهم جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة. وإذا كان البروفسور نعيمة قد جعله قدوة للذين سيستطيعون أن يعرفوا أولئك الذين نفعوا النّاس في التاريخ. نجد أن السفير أبو الحسن قد شبّهه بابن لبنان البار الذي حمل راية التلاحم والتلاقي والمحبّة. وقد نشرت كلمته كاملة في فصل سابق. كما نجد أن فضيلة الشيخ كامل وهبه قد وصف شربل "بصاحب الوجدان الصافي، والعقل المتّزن، والضمير المعتدل لتطويع قلمه في التعبير عمّا انفعل له، إيماناً باللـه وحبّاً لشخصيّة الإمام عليه السلام.
فهنيئاً لك يا شربل بما أحببت، ومرحباً بك وبقلمك وبشعرك وأدبك في ساحة الإنسانيّة".
الشاعر الأسترالي مايكل هولينغورث قال، بعد قراءته للمناجاة باللغة الإنكليزيّة: "إن شعر شربل بدأ يخاطب العالـم، فتختلج قلوبنا بهذه المخاطبة، لذلك وجب علي الإعتراف أن كلماته ما هي إلاّ معبر للسعادة".
الشاعرة الأستراليّة آن فيربيرن لـم تكن أقلّ اقتناعاً بشعر شربل بعيني فوصفته "بالجميل جدّاً"، وترجمت بعضه إلى الإنكليزيّة، وقرأت مقاطع منه في المكتبة الوطنيّة ـ كانبرا، وتغنّت به في حلم شعري تحت ظلال الأرز (2000) كما أدخلته في أنطولوجيا الشعر الأسترالي (2002).
الأستاذ كامل المر أخبرنا، في كلمته، أنه ما كان ليشارك بالتكريم لو لـم يكن "الذي يُكرّم أخي وصديقي ورفيق الدّرب"، ولكنه رمى، كعادته، تساؤلاً، هو أشبه ما يكون بتأنيب لنا جميعاً، فلقد قال: "هل كان على شربل أن يكتب مناجاة علي ليُكرّم؟!". بالطبع لا، إذ أن شربل يستحقّ منّا التقدير على جميع كتاباته.. لماذا؟.. لأنه، كما قال عنه الأستاذ رفيق حمّودة، في مقال نشره في مجلّة المناجاة: "من القلائل الذين كتبوا الشعر لإصلاح ذلك الخلل النفسي والإجتماعي عند الإنسان، بأسلوب تحليلي راقٍ". أو كما قالت عريفة الإحتفال السيّدة ليلى الأيّوبي بعيني: "في هذه المناسبة المضيئة، أطلّ شربل بعيني على دنيا الإنسانيّة، وبهذه الصبغة البيضاء الناصعة صبغ شعره، وسكب عليه من ذاته وسيرته خصائص الشعر الحي المتجدّد المنفتح على تيّارات الخير والحبّ والجمال".
وبما أنني أتيت على ذكر مجلّة المناجاة، أجد نفسي ملزماً بالإستشهاد ببعض ما كتبه شعراء وأدباء من خارج أستراليا، وسأبدأ بالأديب السوري الدكتور عبد لطيف اليونس، الذي نشر مقالاً، في 9 أيار 1992، على الصفحة الأولى من جريدة الثقافة، أنقل منه ما يلي:
"ديوان الشاعر بعيني، هو شعر حقاً، بصرف النظر عن لونه باللغة العاميّة وليست الفصحى. ولا أحب أن أعود لتكرار ما قلته عن معارضتي الكتابة بغير الفصحى، ولكنّي أحب أن أؤكد بأن أي شعر فصيح لا يمكن أن يسمو على شعور هذا الشاعر باللغة العاميّة..
مزيداً من العطاءات والإبداع، أيّها الشاعر المحلّق المبدع شربل، فمثلك وحده يعمل لوحدة أمّته، ويسعى لرفع الحواجز من بينها، وإعطاء فكرة خيّرة نبيلة عنها.
أنت وجرداق وجورج زيدان قد دخلتم التاريخ من أوسع أبوابه، وخلدتـم في محرابه، فمرحى، ثـمّ مرحى".
وفي مجلّة غربة التي كانت تصدر في واشنطن، كتب الأديب السوري محمد زهير الباشا دراسة مطوّلة عن مناجاة علي، أقتطع منها:
"وشربل، أيضاً، بحث وتعمّق، وتأصّلت نظراته في تاريخ البشريّة المعذّبة، فكان التأمّل والتعاطف والبصيرة. ليس في نظراته الأغوار المبهمة ولا المضامين الرمزيّة، وإنّما جاء بتحليق إلى قمم الإنسانيّة بالإستدلال تارة وبالمواقف تارة".
كما نشر الدكتور عصام حدّاد، في جريدة النهار المهجريّة، دراسة راقية حول الديوان، أختار منها:
"ومن يصدّق أن شربل بعيني الأهزوجة الدائمة يضمّ في شرايينه هذا الضجيج المحشو بالتشاؤم والمرارات. هل في أعماق أعماقه نزف جرح خفي؟! أم أن لصراحته المعهودة وعفويّته يقشعّر لأي طارق عليه، كما تقشعر إبرة الحاكي من أي نشاز؟!".
في نهاية الإحتفال، وقف الشاعر شربل بعيني ليشكر الجميع، وليهدينا هذه الحكمة البليغة، التي استوحاها من قراءاته الكثيرة المتنوّعة، على حدّ تعبيره: "إنّ القلـم الذي يَشْتُمُ يُشْتَم، والقلـمَ الذي يُكَرِّمُ يُكَرَّم".
مناجاة علي.. هو الكتاب المهجري الوحيد، الذي نشر، حتّى الآن، بالعربيّة والإنكليزيّة والفرنسيّة والإسبانيّة.. وما زال يترجم إلى لغات أخرى. كما أن المقالات التي كتبت عنه كثيرة جداً، وجميلة جدّاً، ومن المستحيل أن أستشهد بها كلّها، أو أن آتي على ذكر أصحابها، كي لا أغبن أحداً منهم، في حال تلاعب بذاكرتي النسيان، لذلك أدلكم على مجلّة المناجاة، وعلى أرشيف شربل بعيني، ففيهما أجمل ما قيل بمناجاة علي.
**
يوبيل شربل بعيني الفضّي
يوبيل شربل بعيني الفضّي عام 1993، كان عرساً أدبيّاً إغترابيّاً قد لا يتكرّر أبداً، فلقد دعت إليه، بحضور سعادة سفير لبنان الدكتور لطيف أبو الحسن، معظم الجمعيّات والإتحادات والروابط الثقافيّة في الجالية. وكانت بطاقة الدعوة إلى الإحتفال أشبه ما تكون ببطاقات الأعراس المخمليّة. على الصفحة الأولى أسماء الجمعيّات الداعيّة، وعلى الصفحة الثانية أسماء المتكلّمين في الإحتفال، وما أن تقرأوا أسماء الدّاعين والمتكلّمين حتّى تدركوا مدى الإلتفاف الديني والوطني والإنساني واللبناني والعربي حول شعر شربل بعيني، في وقت كانت أرواح الأبرياء تزهق بالمئات على الحواجز الطائفيّة والسياسيّة البغيضة في وطن الأرز لبنان، وكانت الدول العربيّة تتحارب من أجل حفنة من الدولارات وبرميلين من النفط. فلقد تكلّم في الإحتفال كل من: سيادة المطران يوسف حتّي، مفتي المسلمين في أستراليا الشيخ تاج الدين الهلالي، الشاعر نعيم خوري، الدكتور قاسم مصطفى، الأستاذ نبيل قدّومي، الشاعر شوقي مسلماني، الأديبة كارولين طاشمان، المهندس رفيق غنّوم، والدكتور علي بزّي. وتغيّب سعادة سفير لبنان الدكتور لطيف أبو الحسن لوجوده في لبنان.
ولنعرف كيف كان الإحتفال وماذا جرى فيه، ومن دعا إليه، أختار من تغطيات الصحف العربية الصادرة آنذاك، مقتطفات مما كتبه الشاعر والمربّي ألبير وهبه في جريدة العالـم العربي، العدد 81، الصادر في 21 كانون الأول عام 1993، تحت عنوان "إجماع على شاعريّة شربل وإنسانيّته وأخلاقيّته المعطاءة":
"بمناسبة مرور 25 سنة على صدور أوّل ديوان شعر مراهقة ـ 1968 للشاعر شربل بعيني، دعت جمعيّة أبناء بنت جبيل في أستراليا، إتحاد عمّال فلسطين ـ فرع سيدني، رابطة إحياء التراث العربي، جمعية تضامن المرأة العربيّة في ملبورن، مثقّفو الجالية العربيّة السوريّة، الرابطة القلميّة للنساء العربيّات في المهجر، الملتقى الثقافي الإجتماعي، جمعيّة المغترب الجنوبي، وأصدقاء شربل بعيني، إلى مهرجان أدبيّ كبير احتفالاً باليوبيل الفضّي لـ مراهقة، برعاية سعادة سفير لبنان الدكتور لطيف أبو الحسن، الذي اعتذر عن الحضور بسبب سفره المفاجىء إلى لبنان، ونقل عبر رسالة تحيّاته إلى المحتفلين، وتمنّى للشاعر شربل بعيني مزيداً من العطاء.
أقيم الإحتفال مساء السبت الماضي، في قاعة بلديّة غرانفيل، بمشاركة سيادة المطران يوسف حتّي راعي أبرشيّة أستراليا ونيوزيلاندة للطائفة المارونيّة، فضيلة الشيخ تاج الدين الهلالي، الأخت كونستانس الباشا رئيسة مدرسة سيّدة لبنان لراهبات العائلة المقدّسة، ترافقها الأخت مدلين دو لاكروا مديرة القسم الإبتدائي، جمعيّات لبنانيّة وعربيّة، مسؤولين عن الصحافة المهجريّة، شعراء وأدباء ومهتمين بالحركة الأدبيّة المهجريّة، وجمهور عريض غصّت به القاعة الكبيرة.
قدّم الدكتور علي بزّي الإحتفال بكلمة شفّافة والمتكلمين بباقات من الشعر، غالبيتها للشاعر المحتفى به.
أجمع المتكلّمون على شاعريّة شربل وإنسانيّته وأخلاقيّته المعطاءة، وتمنّوا له يوبيلاً ذهبيّاً، وشدّدوا على أهميّة متابعة مسيرة العطاء الأدبي عنده".
التغطيّة طويلة وشاملة، لذلك سأكتفي بما نشرته منها، لأنتقل إلى ما قاله المتكلّمون في المهرجان، وما أرسله المهنّئون باليوبيل من أستراليا والخارج. وسأبدأ بكلمة سيادة المطران حتّي، التي تكلّم فيها عن شربل المربّي والمسرحي، ومنها أختار:
"..وقد يفاجأ البعض إذا قلت: إن شربل بعيني الشاعر، في يوبيله الفضّي، لا يهمني، بقدر ما يهمّني شربل بعيني المربّي، واضع العديد من الكتب المدرسيّة، التي تبنّتها الحكومة الأسترالية، وتناقلتها أيدي الطلبة العرب في المغتربات. ومؤلفاته المدرسية هذه، سدّت فراغاً تعليمياً هائلاً، بعد أن شحّت، بسبب الحرب، الكتب العربيّة المستوردة، وعجز البعض منها، عن استمالة الطالب المغترب، وترغيبه النطق بلغته الأم، لو لـم يتدارك شربل بعيني الأمر، ويتفرّغ كليّاً لإعداد كتب مدرسيّة حديثة، قد لا يخلو صفّ أو مدرسة منها.
شربل بعيني في مسرحه الطفولي، أقرب ما يكون لابن المقفّع، هذا استعان بالأطفال، وذاك استنطق الحيوان، والإثنان معاً، نحجا، أيّما نجاح، في تنقيّة المجتمع من فساد، قد لا تتفاوت تأثيراته الإنسانيّة والسياسيّة والإجتماعيّة بين زمن إبن المقفّع وزمننا هذا.
فإذا كان الأدب لا يستقيم بدون قارىء، والقارىء لا يستقيم بدون مدرسة، والمدرسة لا تستقيم بدون معلّم، وجب على هذا المعلّم أن يكون مثل شربل بعيني".
ومن كلمة وقصيدة مفتي المسلمين في أستراليا الشيخ تاج الدين الهلالي أنقل الآتي:
"أن نرى رجالاً ونساء وشباباً يقدّرون الأدب والأدباء، وحضروا في هذه الأمسيّة السعيدة، من أجل وقفة وفاء مع أديب أعطى. إنه شاعرنا وشاعركم الذي أحببتموه من قلوبكم الأستاذ شربل بعيني.
لا أملك من كلمات الشكر والإمتنان على من ملّكه اللـه، تبارك وتعالى، زمام البديع والبيان، فأعطى لأمته في نظمها ونثرها وشعرها المقفّى الموزون ما جعله يتربّع على عرش الشعراء:
ـ1ـ
بدأت مقالي مستعيذاً مبسملا
وأحمد ربّي رغبةً وتوسّلا
ومنّي صلاةٌ مع سلامٍ لأحمدَ
رسولاً من الرحمن للخلق أُرسلا
فهذا قريض للطويل مقلّداً
فعولن مفاعيلن ومرّتين تكمّلا
توخّيتُ أمراً لـم يكن من سجيّتي
ولست له قبلاً أرى متأهّلا
ولست لبحر الشعر أدري سباحة
ولكنني دخلته متطفّلا
وإني لدى النقّاد أرجو قبولها
على نقصها ولا أبالي بمن قَلا
لأن كريم القوم يستر عيبَها
وذا حسدٍ إن لـم يجده تقوّلا
فقد جئت في شوق حنينٍ وهمّةٍ
على أملٍ كي أحيّي شربلا
ـ2ـ
تبسّم الروض بالأزهار يحيينا
وشربل الشعر بالتغريد ينشينا
يا ما أحيلاه تغريداً لشربلنا
وشدوِ من بقريض الشعر يشدينا
ـ3ـ
إنّ ذا يومٌ سعيد
هلا يا أحبّةَ عيني
إن ذا يومُ الوفاء
لك يا شربل بعيني
إن هنّأك الجمعُ مرّه
لأهنّأنَّكَ مرّتينِ.
إذا راجعنا جيّداً كلمات سماحة المفتي، نجده قد سبق المجلس القاري للجامعة اللبنانية الثقافيّة في العالـم ـ قارة أميركا الشماليّة بسنوات عديدة، وأعلن للتاريخ أن شربل بعيني قد "تربّع على عرش الشعراء"، تماماً كما فعل سيّادة المطران يوسف مرعي في رسالته التي وجهها إلى شربل بعيني "أمير الشعر في المهجر"، أو كما أعلن الأديب السوري نعمان حرب، وعلى الصفحة الأولى من الثقافة، أن شربل بعيني "شاعر العصر في المغتربات". وصدّقوني، وبعد معرفتي الطويلة بشربل، أن كلّ هذه الألقاب لا تعني له شيئاً، سوى أنها تنمّ عن احترام مطلقيها لشعره، ومحبّتهم له، وهذا يكفي للتمسّك بها، والدفاع عنها.
رئيس إتحاد عمّال فلسطين، والمسؤول الإعلامي لمنظّمة التحرير الفلسطينيّة، السيّد نبيل قدّومي، ركّز، في كلمته، على الثّورة في شعر شربل بعيني، وخاصّة في ديوانه قرف، وإليكم بعض ما قال:
"هل حدّة كلمات قصيدة (قرف) أقوى من حدّة قتل كمال جنبلاط ورينيه معوّض؟
هل حدّة هذه الكلمات أقوى من حدّة المواقف التي تعرّض لها الشاعر الأستاذ محمود بيضون، الذي قيلت هذه القصيدة في مناسبة وداعه يوم غادر هذه البلاد؟
إنّي أهنّىء شربل وأقول: إن الشعوب تحتاج إلى كلمات فيها شدّة أكثر من كلمات قصيدة (قرف).
في هذا اليوم، يوم اليوبيل الفضّي للشاعر شربل بعيني، يجب علينا أن نعتز بشاعر قدّم للإنسانيّة، للمجتمع، للعلم، للأدب، للشعر وللشعراء مدى عقدين ونصف من التعب والعطاء. فإنّي أهنّئكم، أهنّىء والدته، وأهنّىء لبنان بالشاعر شربل بعيني.
فتحيّة لشربل باسم فلسطين بهذه المناسبة الغالية على أمل أن نلتقي، بإذن اللـه، في يوم شربل الذهبي هنا في سيدني، أو في الوطن الذي أحبّ".
الشاعر المرحوم نعيم خوري استهلّ قصيدته بكلمة طويلة وبليغة، ولكنني سأكتفي بنشر بعض الأبيات من قصيدته الرائعة، الّتي هي أشبه ما تكون بشلاّل من الورد، تفوح منه رائحة المحبّة الغامرة، التي لـم يتسرّب إليها الحقد أو الحسد إطلاقاً:
يا أنت.. يا وطني! ساعي البريد هنا
سئمت أصابعه من رنّة التّعبِ
مرحى طلائعك.. استفتي طلائعنا
يا شعلةَ الشرقِ.. هذا شربلٌ عربِي
صبّاً، أتى الكونَ، غنّاه، وأسكره،
وشمخةُ الشّعرِ زلزالٌ من الغضبِ
جنيّةُ الشّعرِ ربّته على يدها
وليس كالشعر مدعاةٌ إلى العجبِ
ومجدليّا التي ما زال يحفظها
صوتاً يضيء على أوتار مغتربِ
غداً يعودُ قناديلاً مشرّعةً
ميناؤه الحلمُ.. يا لبنان فالتهبِ
هذا البعيني حداثته، وطلّتُها
من مطرح الشّمس ما انهارت ولـم تغبِ
يوبيله الفضيُّ بالعينين نكتبه
حتّى يشعَّ، غداً، يوبيله الذّهبي.
رئيس جمعيّة أبناء بنت جبيل الدكتور خليل مصطفى ناب عن أخيه الدكتور قاسم الذي انتقل للعيش في لبنان، وألقى كلمة الجمعية التي أنتقي منها:
"ها أنا أيّها الشّاعر الكبير أقف أمامك في يوبيلك الفضّي، لأنقل إليك تحيّات أبناء بلدتي بنت جبيل، التي كان لها القسط الوافر من ديوانك الأخير، حاملاً إليك كمشة من تراب باحة جامعها مغمّسة ببخور كنيسة مجدليّا.
أحمل إليك رسالة شكر من قبر الشاعر الوجداني الكبير موسى الزين شرارة.
أجل، أيها الحضور الكريم، أحمل كل هذا كعرفان بسيط للجميل، لما خطته أصابع الشاعر شربل بعيني في سبك كلمات قرف، الذي اعتاد أطفال ونساء وشباب وشيوخ بنت جبيل أن يسموها درراً".
كلمة صاحب ورئيس تحرير مجلّة أميرة، الشاعر شوقي مسلماني، سلّطت الضوء على شربل الطفل والثائر، وإليكم بعض ما قال:
"نعم، لقد عرفت شربلاً منذ وصولي إلى هذا البلد المتحضّر، أي منذ ستة عشر عاماً تقريباً. عرفته وقرأته، ومنذ اللقاء الأوّل تكشّفت إلماسة حياته بكل لمعانها وصفائها: طفل شبّ وكبر دون أن يتخلّى لحظة عن ملائكيّة الأطفال فيه، وثائر محرّض على كلّ متخثّر وبالٍ، دون أن يفقد الخيط الفاصل بين الثورة والفوضى".
الشاعرة كارولين طاشمان ألقت كلمة الرابطة القلميّة للنساء العربيّات في المهجر، فكان لكلمتها وهج أنثوي فوّاح، ومن هذا الوهج أختار:
"إننا في الرابطة القلميّة للنساء العربيّات في سيدني نرى أن من حق الشاعر شربل بعيني أن يفرح بيوبيل كلمته الفضّي، ولكن من يحقّ لها أن تفرح أكثر، هي الأم التي أنجبت وتعهدت ورافقت درب الشاعر في كل مسالكها الصعبة، فسهرت تهذّب كلمات ابنها الشاعر، وتسدي إليه النصح، وتسدد خطاه ليصل إلى ما وصل إليه، وحتّى يكون لكلمته وقع يدفع هذا العدد من مؤسسات الجالية لإقامة هذا الإحتفال التكريمي".
وأخيراً، أعطيت الكلمة لي، لأعلن، منذ سنوات عديدة، كما أعلن اليوم "أن شربل بعيني طوال ربع قرن من العطاء المتجدّد، رفض إلاّ أن يكون صوت الناس المظلومين المقهورين المشتتين مثلنا على طرقات المنافي. وهذا هو سر ديمومته وتكريمه المتواصل من قبل شرفاء الكلمة في كل مكان".
كما أنني لا أنسى صيحتي في آخر فقرة من الكلمة، تلك الصيحة التي ما زلت أردّدها بيني وبين نفسي: "هنيئاً لنا، كوننا نحيا وشربل بعيني في منفى واحد".
وقبل أن أنتقل إلى مختارات من المقالات والقصائد التي نشرت حول اليوبيل، أود أن أنهي كلامي بما بدأته به، أي بالتغطية الإعلامية التي كتبها الشاعر ألبير وهبة، والتي يقول في نهايتها:
"في نهاية الكلمات وقبيل الكوكتيل بالمناسبة، تسلّم الشاعر شربل بعيني هدايا تكريميّة باليوبيل. فسلّمه رئيس جمعيّة أبناء بنت جبيل، باسم الجمعيّات والتنظيمات المشاركة بالإحتفال، لوحة فنيّة.
الدكتور عبد اللـه خضر قدّم له ترجمة مناجاة علي باللغة الفرنسيّة. الأديبة نجوى عاصي قدّمت له كمشة من تراب مجدليّا أوصى الشاعر أن تنثر فوق قبره إذا وافته المنيّة في هذه الديار. كما تسلّم هديّة من شقيقه جوزيف، وأخرى من الطالبة أوليفيا شينا.
وقطع الشاعر قالب الحلوى بالمناسبة، وإلى جانبه سيادة المطران يوسف حتّي وفضيلة الشيخ تاج الدين الهلالي.
وكان الكوكتيل مناسبة لقاء أدبي، والجدير بالذكر أن القيّمين على هذه المناسبة وزّعوا كراريس تحمل كلمات قيلت بالمناسبة، ومجموعة من دواوين شربل بعيني.
العالـم العربي تهنّىء مجدداً الشاعر شربل بعيني بهذه المناسبة، وتهنّىء اليوبيل به، لأنه يرتاح على صدر ما عرف غير الحب والعطاء، وبيد ما عرفت غير المصداقيّة والشعر طريقاً إلى اللـه".
واللوحة التي أهديت لشربل، تعتبر من أهـم الأعمال الفنيّة التي نفذّها الفنان المهجري المعروف علي حبيب، فلقد حفر على الجلد رسم الشاعر بعيني، وهو يرتدي بذلته السوداء، ويحمل بيده ديوان مراهقة، وحوله يلتف العديد من أبناء الشعب كالجندي، والفلاح، والمعلّم، والعامل، وربّة العائلة، والطفل، وما شابه، وخلفه تتعملق جبال لبنان الشامخة المتوجة بأرز الربّ الخالد.
الإحتفال الخارجي بيوبيل شربل بعيني الفضي كان على مستوى الإحتفال الداخلي الذي أقيم في القاعة، كي لا أقول: بزّه انتشاراً!!. فلقد وصلته العشرات من المقالات والقصائد والرسائل من العديد من الأدباء والشعراء المهجريين والمقيمين في البلدان العربيّة، منها ما ضمّته الكتيّبات التي أصدرتها لجنة الإحتفال، ومنها ما بقي طي الأرشيف. واعذروني إذا استشهدت بالقليل القليل منها، فهناك العديد من المواضيع الهامة التي لـم نتطرّق إليها بعد في مسيرة شربل بعيني الأدبيّة.
أول المقالات الهامّة التي سأستشهد بها، مقال كتبه الأديب السوري الكبير نعمان حرب عام 1993، ونشرته مجلّة الثقافة السوريّة على صفحتها الأولى، تحت عنوان بارز: "مهرجان أدبي كبير في أستراليا بمناسبة اليوبيل الفضّي للشاعر الكبير شربل بعيني"، وفي هذا المقال أعلن نعمان أن شربل بعيني هو شاعر العصر في المغتربات. وإليكم بعض ما جاء فيه:
".. والشاعر المبدع شربل بعيني أغنى المكتبة العربيّة بمؤلّفاته الأدبيّة من شعر ونثر، وبجميع الألوان والأوزان، حتّى بلغت إصداراته الأدبيّة سبع عشرة مطبوعة، وأربعة كتب مدرسيّة، أعيد طبع بعضها ثلاث مرّات، وكتب عنه الأديب المهجري كلارك بعيني سلسلة شربل بعيني بأقلامهم بلغت سبع دراسات. وكتب عنه الأديب الكبير كامل المر مؤسس رابطة إحياء التراث العربي في أستراليا دراسة شاملة. وكتب عنه الأديب العربي السوري محمد زهير الباشا دراسة بعنوان شربل بعيني ملاّح يبحث عن اللـه. كما نشرت له مجلّة الثقافة في دمشق العديد من القصائد الوطنيّة ذات النهج العربي الإنساني والوطني والإجتماعي.. وما زال الشاعر الغرّيد يعلو بصوته في أعلى الأجواء المهجريّة، وينشد الملاحم المتميّزة من الإبداع في كافّة المجالات الأدبيّة.
إنّني على صلة دائمة بأدباء وشعراء المهجر في كافّة أنحاء المعمورة، وأرى أن الشاعر شربل بعيني هو شاعر العصر في المغتربات، لا يوازيه أي أديب مهجري بغزارة الإنتاج الأدبي، ووضع مجهوده، وعبقريته، وماله، رهناً لإعلاء الأدب والفكر، وغرس الكلمة العربيّة في القلوب والنفوس، وبذل الذّات للحفاظ على ألق الحضارة العربيّة، وشدّ العلاقات والأواصر بين أبناء المغتربين وإخوتهم المقيمين.
شربل البعيني، شاعر الغربة الطويلة، وأمين سرّ رابطة إحياء التراث العربي في أستراليا، ينبوع متفجّر بالعطاء الإنساني والأدبي، وعربي متميّز بالبذل والكرم والسخاء، وبيته ملتقى الأدباء والكتّاب، وكأنّه (سوق عكاظ)، يجد فيه الزائر العربي، من أيّ مرتبة رسميّة وشعبيّة، الترحيب والعناية والنور المتفتّح من جوانبه، وهو كما قال عنه بعض الأدباء: "يحارب المجزرة بضمير ومثاليّة، يفتّت سيف شهريار بعبره ومروءته، يمتلك الحقّ في روايته الفنيّة، وتشدو صوره الشعريّة لخير البشريّة، وليتعمّد الإنسان وحده في صلاته باللـه".
دخل الشاعر شربل في سفره الطويل في مواكب القريض، إلى داخل الإنسان العربي، وأصبح ذلك المسافر الأزلي في النفس البشريّة، وسوف يبقى صوته مدويّاً، ليس في سماء أستراليا وحدها، ولا في سماء البلدان المهجريّة، بل سيبقى مدويّاً في أرجاء شاسعة من المعمورة.
إنّ هذا المهرجان الأدبي الكبير، الذي تقيمه الجالية العربيّة، بكافة منظماتها وهيئاتها المختلفة، لتكريم الأدب في شخص شربل بعيني، مساء يوم السبت في 18 كانون الأول 1993، هو مهرجان لكل أديب ينطق بالضاد في العالـم، وهو وسام شرف على صدر كل أديب عربي، ووشـم على غلاف القلب العربي، أينما كان، لا يمّحى ولا يزول.
فألف مرحى للقائمين بهذا الإحتفال، وتحيّة إلى شاعر الغربة الطويلة، وتهنئة من الأعماق ترسلها دار الثقافة في سورية العربيّة".
أعتقد أن كلاماً كهذا ليس بحاجة إلى تفسير، أو إلى تعليق، فكل حرف فيه يخبرنا عن محبّة نعمان لأدب شربل، وأن الأدباء الكبار، دائماً وأبداً، يعرفون الحقّ والحق يعرفهم.
ومن الولايات المتحدّة الأميركية أرسل أديبنا المهجري الكبير محمد زهير الباشا كلمة لتقرأ في المهرجان، ولكن كثرة المتكلّمين حالت، وللأسف، دون ذلك، وهذا ما أدركه الباشا بحسّه المرهف قبل وقوعه، فاستهلّ كلمته بهذه العبارة الواعيّة: "إذا نالت الموافقة، فأهلاً. وإن كثر الخطّاب، فأخجل، وأنصت إلى الحضور بقلبي، ولو كنت على شاطىء الأطلسي!!". ومن كلمته أختار:
"وها هوذا الشاعر شربل بعيني ينادي بسقوط الباستيل، فترتفع في شوارع مدينة النور أغنيات الحبّ، وتلتهب الأنفاس، فتحنو على الصدور آهات المعذّبين، خاصةً وهو الذي قطف من رؤوس (المجانين) موسماً، رصّع به خزانته، التي أثـمرت الريف، وأينعت أوراق السنابل.
بإباء السيف المرهف، رفض أن ينصب خيمة لاجىء، ولمّا احتجّ عمر الخيّام على ازدحام الجائعين، ضاعت منه شعرة من ذقن أبي نؤاس، فطالت غربة النفس.
ولجأ الشاعر إلى كلّ ريف، ومعه قطرات من زيت مقدّس يشفي به الهائمين نحو الحريّة والحبّ، ليبعد عنهم الإغتصاب لكل جسد، والإستلاب لكل ثروة.. وظلّ الوطن دمعة وأملاً.
لكن الشاعر تسامى، بعد أن قبض على قطرات الزيت، وناجى عليّاً، كرّم اللـه وجهه.. ونحن ما زلنا نستنير بالشعر، وإن قتلتنا في الوطن مجازر الشعارات".
ومن سوريا، أرسل له عضو إتحاد الكتّاب العرب الصحفي الشاعر مفيد نبزو هذه الأبيات:
أنت لحنٌ من ينابيع الأزلْ
زفّ، يا شربل، أشعاراً إليّا
كرمةُ العاصي عروساً لـم تزلْ
تعشقُ الأرز الّذي في مجدليّا..
كما أرسل صاحب ومدير معهد الأبجديّة في جبيل ـ لبنان، الدكتور عصام حدّاد، كلمة كبيرة كقلبه الكبير، يقول فيها:
"أعضاء لجنة تكريم الشاعر شربل بعيني المحترمين
إن تكريمكم الشاعر الكبير شربل بعيني، هو تكريم الشعر والوطنيّة والأمّة ولبنان.
منذ ربع قرن، وهو يذوب قرباناً على مذبح الغربة في هيكل الفكر، حاملاً في قلبه وروحه وعينيه همّ الفكر والأمّة، وهمّ لبنان، وهمّ الإنسان، بشفافيّة إطلالات الصباح على تلالنا، وطيبة نفحات عبير الأرز في رحابنا، وحنين رقرقات الينابيع في وهادنا، وبعنف زفير النّار وثورة الإعصار على كلّ دمار، للتقويم والتثقيف والبناء.
آتانا اللـه دوماً رجالاً ذوي أصالة وإبداع وفداء، رسل الكلمة والحب والعطاء.. فبمثلكم تحيا الأمم ويعزّ الفكر".
ومن الرابطة الثقافيّة في معهد الأبجديّة ـ جبيل، وصلت هذه التهنئة:
"حضرة الشاعر الكبير شربل بعيني المحترم
بمناسبة اليوبيل، الذي تنادى أهل الفكر في أستراليا، من كل وطن وأمّة، لإحيائه، تقديراً لشاعريتك المبدعة، ووطنيّتك الرائدة، وثورتك على الإعوجاج والطغيان في كل كتبك، التي تربو على العشرين، لإعادة الإنسان إلى أصالته.
يطيب لنا، بكل فخار واعتزاز أن نبعث إليك بأصدق التهاني وأحرّ الأمنيات، متمنين لك دوام الصحّة والعطاء، خدمة للإنسان والفكر ولبنان".
رئيس تحرير جريدة النهار المهجريّة الأستاذ أنور حرب، جاءت تهنئته مذهّبة، ومزيّنة بباقة من الأزهار لـم ينجبها سوى ربيع كفرزينيّ الطلّة والإشعاع والبهجة، وإليكم ما كتب:
"أخي شربل..
كلمتك في أبعادها أسمى من الأصفر الرنّان، أو من لون الفضّة. كلمتك متحرّرة من روزنامة الزمان، قد تتمثّل بربع قرن أو نصفه، لكنّها لن تعلّب في عيدٍ، أو تتحجّم في مناسبة.
شربلنا.. يوبيلك والجمال توأم في عالـم الكلمة. وأنت، أنت رسّامٌ بالكلمات، وشاعر بالألوان.
هنيئاً لليوبيل بكلمة اسمها شربل بعيني. هنيئاً لشربل بعيني بكلمة خطبته دون أن تتزوّجه، فظلّ الحبّ بينهما جسر عبور بين البعد والجمال".
رئيسة جمعيّة تضامن المرأة العربيّة في ملبورن، الأديبة نجاة فخري مرسي، كانت كلمتها أولى الكلمات التي زيّنت أحد الكتيّبات التذكارية التي أصدرتها لجنة التكريم، ومنها أختار:
"كنت، بالأمس، أقرأ في مجلّة الحوادث اللبنانيّة ـ عدد أكتوبر الماضي ـ فاستوقفتني في باب (من المحرّر) عبارات حول الإقتباس والتقليد تقول: (في الفكر والأدب والصحافة لا مزاح ولا أنصاف مواهب، بل إنّه الجدّ حتّى تفضّل العين أختها، كما يقول المتنبي، وحتى يكون اليوم لليوم سيّدا). فإن العين لا يمكن أن تشبه العين مائة بالمائة، وكذلك نقطة الندى، وقطرة الماء. فمن قال إذن، إن كل شاعر يستحقّ التكريم؟!
وبما أن لشاعرنا شربل بعيني موهبته الكاملة، وله مستواه المتميّز بالصفاء والنقاء، الذي يؤثّر ويتأثّر، ولكن دون نقل أو تقليد، استحقّ تكريمكم وتكريمنا، وجعلنا نحتفل معاً بيوبيله الفضّي، بعد ربع قرن من العطاء، بعيداً عن الطائفيّة والعنصريّة، قريباً من قلوب قرّائه، بل كان ولا يزال إبن وطنه البار، وإبن جاليته المعطاء".
الدكتور أنيس مرسي، زوج السيّدة نجاة، لـم يرد أن يشاطرها كلمتها، بل أرسل لشربل كلمة وقصيدة في آن واحد، ولسان حاله يقول: "لا البعد، ولا المسافات تقدر أن تفرّق بين قلبي وقلبك في هذه الليلة التاريخيّة. لذا قرّرت أن أكرّمك بلغتك الشعريّة، مع أنني لست بشاعر. لا، ولكن شاعريتك أصابتني بالعدوى المحبّبة".
والظاهر أن شاعرية شربل قد أصابت حقاً صديقنا الدكتور مرسي، لأن قصيدته تثبت ذلك، وبوضوح تام:
ينبوع شعرٍ لا يجفّ فينضبُ
يشدو به قلبٌ كبيرٌ طيِّبُ
قرض المعاني في إطارٍ محكمٍ
بالصدقِ والإيمانِ فَهْوَ مذهّبُ
قد طار في دنيا الحقيقة مؤمناً
لـم يثنِهِ لومٌ حقودٌ غاضبُ
الحبّ مبدأه يدين بدينه
والحقّ في جنبيهِ دوماً مَذْهَبُ
ناجى عليّاً في قصيدٍ مشرقٍ
يحويه سفرٌ في المديح مبوّبُ
جمع البلاغة حكمةً وفصاحةً
يشفى بها القلبُ السقيمُ المتعبُ
أعطى الكثيرَ بروحه وفؤادهِ
فالكلّ ينهلُ من نداه ويشربُ
أدعوك ربي أن يظلّ مؤيّداً
تشدو (بشربلها) القلوبُ وتطربُ.
لقد استجيب دعاؤك يا دكتور أنيس، فشربل ما زال مؤيّداً، وما زالت القلوب تشدو بأدبه وتطرب، وخير دليل على ذلك تتويجه أوّل أمير أدبيّ في دنيا الإنتشار اللبناني، من قبل المجلس القاري للجامعة اللبنانية الثقافيّة في العالـم ـ قارة أميركا الشماليّة.
أما أنا، ورغم مشاركتي بالإحتفال الداخلي، فلقد أبيت إلاّ أن يكون لي صوت في الإحتفال الخارجي، فنشرت كلمةً في أحد كتيّبات التكريم، أختار منها:
"الشاعر شربل بعيني الذي نحتفل بذكرى مرور خمسة وعشرين عاماً على صدور مراهقة، كان فناناً مبدعاً في تجسيد المفاهيم الإنسانيّة بأشعاره، التي حملت في طيّاتها مضامين إجتماعيّة ووطنية خالدة".
الشاعر ألبير وهبه، نشر في جريدة العالـم العربي مقالاً رائعاً بمناسبة اليوبيل، أنتقي منه:
"يوم كتب شربل بعيني مراهقة ـ أول عمل شعري له ـ كان، آنذاك، لـم يزل ذلك الفتى الذي تشدّه بيادر مجدليّا، وكروم العنب والتين، ويلاحق تنانير الفراشات ومراجيح الشعر على طريق مجدليا ـ القبّة، مساء كل يوم على مدارات أيام السنة.
لـم يكن يعلم أن البحر سيناديه، وستحمله رياح الأحلام إلى جزيرة بعيدة، خلف المحيط الكبير، يزرع سهولها بيادر شعر، ويطوّف أنهارها تيارات محبّة، ويزيّن حدائقها صداقات متينة، ويساهم في زرع أول نواة للأدب المهجري الموثّق في أستراليا.
قبل شربل، مرّ على سطح هذه الجزيرة شعراء وأهل أدب وفكر، وبعده نزل فيها شعراء أفذاذ، وأدباء مشهود لهم، شغلتهم الغربة، وحكايات مغاور الزمرد والياقوت التي ترصدها الحسان، فانشغلوا عن الشعر والأدب بفك رصدها.
وحده شربل بعيني، ترهّب في صومعة الشعر والكلمة ثائراً، عاشقاً، متعبّداً، مناجياً. إلى هذا، وشربل لـم يكن يعلم أنه سيصبح (بحاراً يبحث عن اللـه)، أو (مشواراً) على دفاتر الأدباء، وفي قلوب الأصحاب والأحباب، ويوبيلاً هو فضّته وذهبه وعقيقه.
هذا هو شربل بعيني الشاعر والإنسان والمربي.. سواء أحببت شعره أم لا، فلا تستطيع أن تنكر عليه حقّ الأسبقيّة في إغناء المكتبة المهجريّة بالعطاءات الغزيرة، وبتفعيل الحركة الأدبيّة العربيّة في المغترب الأسترالي".
بربّكم قولوا: أليست شهادة ألبير وهبه بألف شهادة؟.. وكما قلت سابقاً، لا يعرف الحقّ سوى أصحابه، وألبير نطق بالحق، وشهد شهادة أدبيّة جريئة، تعجز أفواه كثيرة من النطق بها، رغم صدقها.. إذ أن الحقيقة لا تكون إلاّ صادقة.
وفي حديث إذاعي أجرته معه السيّدة ماري مرسي قبيل الإحتفال، أخبرنا الدكتور علي بزّي قصّة اليوبيل، وكيف نبتت في غربة صحراويّة لا تعطي سوى العوسج، فقال:
"نحن، في جمعيّة أبناء بنت جبيل، فكّرنا في تكريم الشاعر شربل بعيني بمناسبة صدور ديوانه قرف، الذي أهداه لبنت جبيل. وفي اجتماع ضمّنا مع بعض فعاليّات الجالية العربيّة، طرحنا الفكرة، فقالوا: لا.. يجب أن يكرّم شربل بعيني على مستوى الوطن العربي ككل، وعلى مستوى الجمعيّات العربيّة الموجودة في أستراليا، ونشأت فكرة اليوبيل الفضّي، بعد مرور 25 سنة على صدور أول ديوان للشاعر شربل بعيني، وهو مراهقة 1968".
هذه هي حكاية يوبيل شربل بعيني الفضّي، حكيتها باختصار زائد، رغم كثرة التغطيات الإعلاميّة، ولكن بقيت كلمة واحدة لـم أستشهد بها، ألا وهي كلمة الشاعر المحتفى به أخي وصديقي ورفيق دربي الإغترابي شربل بعيني، فإليكم بعض ما جاء فيها:
"أيها الأحباء الكبار
أتحتفلون بيوبيلي الفضّي، أنا المغمّس بالفقر وبالتشرّد؟ الضّائع بين وطنين أرى منهما وفيهما دنياي؟
أتأتون بالعظماء متحدّثين، وبالأحباب، من سيدني وملبورن وباقي الولايات، مشاركين، ووبيني وبين العظمة منأى؟!
غريب وضعي بينكم، وأنتم من أنتم، مركزاً، قداسة، أدباً ومحبةً.. أفيكرّم مَنْ تكريمكم واجبٌ عليه؟!.
يا ذهب الجالية، يا ماس الكلمة، يا إعلام الحق، يا منظمي هذا اليوبيل، ماذا فعلتم بي؟.. ماذا فعلتم بابن مجدليّا؟.. لقد فضحتموني، وقطعتم بنصيبي بعدَ أن بيّنتم عمري الحقيقي أمام الحلوين!.. فأنّى لي أن أجد نصفي الثاني بعد اليوم، وأنّى للصبغة أن تستر شيبتي.. سامحكم اللـه.. سامحكم اللـه".
**
كل (البروجكتورات) عليه
ما من شاعر مهجري كُرِّم من قبل شعبه، أو أقيمت الندوات حول أدبه، أو سلّطت عليه كل (البروجكتورات)، على حدّ تعبير الصحفي جوزاف بو ملحم، كالشّاعر شربل بعيني. فما من عمل أدبي قام به، إلاّ وهزّ الأوساط الأدبيّة والدينيّة والإجتماعيّة. ومن منّا ينسى ذلك الضجيج الأدبي الذي سبّبته، في أستراليا، قصائد مجانين، وأللـه ونقطة زيت، وكيف أينعت السنابل؟ ومناجاة علي وقرف، وغيرها وغيرها..
كما أن قصاصات الصحف والمجلاّت اللبنانيّة التي تنام قريرة العين في أرشيف شربل بعيني، تخبرنا أن قصائده الأولى في لبنان أحدثت ضجيجاً إعلاميّاً أعلى من الضجيج الذي سبّبته له قصائده المهجرية، ويكفي أن تكون السبب في نفيه من لبنان عام 1971.
من أحد ردود شربل القليلة، والقليلة جدّاً، على نقّاده، أختار الآتي:
"إنّها ليست المرّة الأولى التي أشكَّك بها وأُرجم، فلقد شُكِّكت مرة بأخلاقي، إثر صدور ديواني الأول مراهقة سنة 1968، عندما كتب الناقد توني سابا ـ بالتاء ـ (هذا إسم مستعار، عمل صاحبه مستشاراً لأحد رؤساء الجمهورية اللبنانية)، في مجلّة السّاخر مقالاً دعاني به إلى الإلتحاق الفوري بمسرح فاروق، وكلنا يعلم ما مسرح فاروق!.
وشكّكت بديني، مرّة ثانية، عندما انتقد الأب نعمة اللـه ك. قصيدتي (القدر كذّاب.. القدر مجرم)، في مقال نشرته له جريدة البيرق الييروتيّة في ملحقها الأسبوعي، العدد 166، سنة 1969.
وها هي المرّة الثالثة، تأتي بعد سبعة عشر عاماً لأُشَكَّك بوطنيّتي!!".
إذن، لـم يسلم أدب شربل بعيني من النقد الشديد، ومن التجريح الشخصي في بعض الأحيّان.. ولكن شربل، في كلّ مرّة يتعرّض بها للتجريح، كان يخرج من المعركة منتصراً، ويتنادى العديد من شرفاء الجالية لتكريمه ودعمه، وفي كثير من الأحيان، للدفاع عنه.
ومن حفلات التكريم التي لا ينساها شربل، تلك التي أقامها له أبناء بلدته مجدليا في صالة الليالي الذهبيّة في بانكستاون عام 1991، بإشراف السادة حنا ويوسف وألبير أبي خطّار، وشليطا وحنا كرم، والدكتور جوزيف لويس بعيني، وآميل أبي خطّار، وأنطوان وجوزاف ومرسال سركيس بعيني وغيرهم.
قصّة هذا التكريم طريفة للغاية، كان قد أخبرني إيّاها شربل عدّة مرّات، والبهجة تعلو تقاسيم وجهه. وأجد لزاماً عليّ أن أطلعكم عليها:
ذات يوم، اتصل به رجل الأعمال المجدلاوي السيّد يوسف أبي خطّار، وطلب منه أن يرتدي بذلته الرسميّة بأسرع وقت ممكن، بغية اصطحابه إلى اجتماع ضروري، فصاح به شربل:
ـ أخبرني يا يوسف.. هل مات أحد أعرفه؟
ـ لا سمح اللـه.. أنت إلبس بذلتك، وضع ربطة عنق، وانتظرني.
وبعد نصف ساعة من المكالمة الهاتفيّة، كانت سيّارة مرسيدس فخمة، يقودها يوسف بنفسه، تتوقّف أمام منزل شربل بعيني، وليس بداخلها أحد على الإطلاق، فخاف شربل أن يركبها، وتراجع إلى الوراء وهو يستحلف يوسف أن يخبره الحقيقة، وإلى أين سيذهب به؟!
وطار الغبار من تحت دواليب المرسيدس، ويوسف أبي خطّار يهدّىء من روع شربل، ويمازحه طوال الطريق، دون أن يخبره عن المكان الذي سيأخذه إليه، أو أن يلمّح له بأي شيء. لقد كان ينفّذ خطّة مدروسة بإتقان بالغ، وقلب شربل ينبض بسرعة، والأفكار تتقاذفه في كل اتجاه، ما عدا اتجاه تكريمه من قبل أبناء مجدليا.
وفجأة، توقّفت السيّارة أمام مطعم "الليالي الذهبيّة"، فالتفت شربل إلى يوسف وقال:
ـ ماذا جئنا نفعل هنا؟
فردّ عليه يوسف ببرودة زائدة:
ـ سأخبرك داخل الصالة..
وفي الداخل كان العديد من المجدلاويين المغتربين بانتظار وصول شربل، وقد أُعدَّت له طاولة أشبه ما تكون بتلك الطاولة التي يجلس عليها العروسان وأشابينهما وإشبيناتهما في أعراس الجالية.
ولأنني لا أعرف ماذا قيل لشربل في هذا التكريم، سأتركه وأعود إلى موضوع يتعلّق بالضجيج الذي تحدثه الأعمال الأدبيّة التي يقوم بها، أو التي تقام حول نتاجه، وأكثر الندوات التي أحدثت ضجيجاً كانت تلك التي دعت إليها رابطة إحياء التراث العربي في أستراليا عام 1986، "لدراسة نتاج شاعر الغربة الطويلة الأستاذ شربل بعيني"، كما ورد في بطاقة الدعوة.
إشترك في الندوة كل من الدكتورة سمر العطّار، الأستاذ فؤاد نمّور، الصحفي بطرس عنداري، الأستاذ إيلي ناصيف، رئيس الرابطة الأستاذ كامل المر، وعرّيف الندوة الشاعر شوقي مسلماني.
في هذه الندوة ألقى شربل بعيني قنبلته الشعريّة (لعنة اللـه علينا)، فأحدثت هزّة أدبيّة وسياسية لـم تحدث من قبل في هذا المهجر البعيد. كيف لا، وقد ثار بها على الجميع دون استثناء.. وطالبهم بإيقاف المجازر البشريّة التي يقترفونها بحق الأبرياء في لبنان، وفلسطين، والعديد من الدول العربية.
ولنعرف ماذا حدث بعد الندوة، سأنقل إليكم ما كتبه الأستاذ بطرس عنداري (أبو زياد) في النهار، في زاويته الشهيرة (كي لا ننسى) بتاريخ 25 أيلول 1986، تحت عنوان: "شربل بعيني والتعقّل والهوس":
"من مشاكلنا الحضارية أننا شعب فوّار العاطفة، قريب من الضحك والبكاء والغضب والتسامح في لحظة واحدة. وهذه صفات إنفعاليّة تتركنا دائماً في السجلاّت المتدنيّة للمدنيّة والوعي.
لقد أقيمت ندوة ثقافيّة حول إنتاج الشاعر الشاب شربل بعيني، وما قيل فيها كان واضحاً، وبلغة عربية مفهومة المعاني والعبارات.
ولكن الشارع الذي لـم يحضر الندوة، أو حضر بعضه، ولـم يشأ أن يفهم ما قيل، خلق نوعاً من التشويش الواسع النطاق، قلّما وصل إلى هذا الحد سابقاً.
الإشاعات تملأ أوساط الجالية عن حملة تبخير ومديح لشربل بعيني، وعن إعطائه مركزاً شعرياً أكثر ممّا يستحق. وإشاعات أخرى تقول إن المشاركين بالندوة ـ أو بعضهم ـ تحاملوا على شربل بعيني، وأقوال أخرى حول عدم أهميّة الندوة وشاعرها والمشاركين فيها.
وقد وجّه الأستاذ جبران مخايل رسالة إلى رئيس تحرير هذه الصحيفة يقول في صدرها: هناك لغط قويّ في أوساط الجالية بأنّك شتمت الشاعر شربل بعيني، واتهمته بنقل قصائده عن نزار قبّاني حرفاً حرفاً. ويقول جبران مخايل أيضاً: من الأقوال التي سمعتها أيضاً، أن شربل ألقى قصيدة شتم فيها الجميع، بما فيها المقاومة اللبنانية البطلة.
إن كلام السيّد جبران مخايل تعبير صادق عن موجة التلفيق، ولكنّه يبرّىء نفسه حين يقول: الخطيئة خطيئتي لأنني لـم أحضر الندوة.
إننا لا نستغرب موجة الإشاعات هذه في جالية ترى الأمور الثقافيّة والأدبيّة جديدة عليها، وترى قضيّة النقد الأدبي حالة مثيرة تعني الشتم أو المديح فقط، وهذا بسبب محدوديّة مستوى الوعي في أوساطنا.
إن ندوة رابطة إحياء التراث العربي حول إنتاج شربل بعيني، كانت ناجحة وقيّمة بمواضيعها، وخاصّة الموضوعين اللذين قدّما من قبل الدكتورة سمر العطّار والأستاذ كامل المر.
لقد أعطي شربل بعيني حقّه: شاعر أصيل قادر على التحليق وتصوير المشاعر بالصناعتين الزجليّة والفصحى.
.. وإذا قال أحدهم أن الشاعر تأثّر بنزار قبّاني في شعره المبكر، الذي نظمه في سنّ المراهقة، فهذا ليس بعيب!.. وإذا قيل إن الشاعر قادر على إنتاج القصيدة المتكاملة، أو أن بعض قصائده تمتاز عن الأخرى، فهذا مديح لشاعريته وليس شتماً. وإذا قيل إن بعض أوزانه الشعريّة تحتاج إلى صياغة أفضل، فهذه قالها أحمد شوقي للأخطل الصغير والياس أبي شبكة ولـم يعتبر قوله شتماً!.
فالذين يريدون الإطلاع على ما قيل، عليهم الحصول على نصّ الكلمات من مراجعها، وليس من إشاعات الشارع. ونقول للأستاذ الأديب جبران مخايل: إن تساؤلك حول تلاعب الصحف المهجريّة بقرّائها، يجب أن يتحوّل من تساؤل إلى اتهام، لأنه واقع مؤلـم.
إن التعقّل والهوس أمامنا، وعلينا أن نختار بينهما".
هذا ما كتبه بطرس عنداري عام 1986، وهذا ما يحدث اليوم، وسيحدث غداً، لأننا لـم نميّز بعد بين التعقّل والهوس، ولـم نفاضل بينهما، وهذا ما يرجعنا إلى الوراء مئات السنين، بينما الأمـم الأخرى في تقدّم مستمر، ومن يدري فقد تستوطن المريخ، بينما نحن لـم نعتد بعد على تقبّل الآخر بقلب منفتح، وتطلّع إنساني.
وفي جريدة النهضة، نشر الشاعر شوقي مسلماني، بتاريخ 25 أيلول 1986، ردّه على منتقدي شربل بعيني، غير عابىء بلومة لائـم. وإليكم بعض ما كتب:
"بعد قصيدته (لعنة اللـه علينا)، وبعد ندوة رابطة إحياء التراث العربي الأخيرة، تضاربت الأقوال في شعر شربل بعيني، وفي مصادره ومراميه. فقائل بيمنيّته وانهزاميّته، وقائل بيساريّته وثوريّته، وقائل بعدميّته وفوضويّته، وإلى ما شاكل.
الثابت الوحيد، وهو لا شكّ فيه، أن الحرب قد أدمت الشاعر بويلاتها وأهوالها، وربما أصابت به الناس في عيالهم، وأرزاقهم، وأمنهم، وسلامهم، ووحدة وطنهم. ثـم ان الحرب قد أتت أيضاً على ما تبقّى من سعادة بني وطنه، ورغد عيشهم من جهة، وأوصدت الأبواب كليّاً بوجه المغتربين منهم، الذين يودّون العودة حنيناً إلى تراب البلاد، بعد هجرة وتهجير قسريين. والحال هذه، فإن الشاعر أراد أن يكون مرآة عاكسة وحسب لآلام هذا الشعب وعذاباته، فما كان منه إلاّ أن صرخ، وأول ما صرخ: أوقفوا هذه الحرب. وما كان منه إلاّ أن لعن، وأول ما لعن الحرب. وما كان منه إلاّ أن استنكر بشدة، وأول ما استنكر أن يقسّم الوطن ويجزّأ بين قبيلتين أو أكثر.
من هذه الناحية، فإن غضبة شربل بعيني، ودعوته للكف عن الحرب والقتال، غضبة ودعوة إيجابيتان، فليس منّا من دعا إلى الحرب واحتكم للعنف، وليس منّا من ناصر شريعة الغاب، وليس منّا من لا يسعى لوقف هذه المجزرة، بعدما تفاقمت نيران الحرب، وتحوّلت في اتجاهاتها لتصير حرباً طائفيّة بامتياز.."
وأخيراً ينهي شوقي مقاله بهذه الفقرة الجريئة:
"في هذه العجالة، يمكن الردّ على منتقدي بعيني العفويين، ويمكن القول بضرورة الأخذ بيده، فيرقى بشعره شكلاً ومضموناً، ومساعدته على تمزيق الغيوم الكثيرة المتلبّدة حول عالمه الخاص، ورائدنا بذلك قولنا: أن نضيء شمعة خير من أن نلعن الظلام".
جريدة صدى لبنان الصادرة في السادس عشر من أيلول 1986، نشرت مقالاً تحت هذا العنوان الساخر: "ندوة نقّاديّة حول نتاج شربل بعيني"، ومنه أختار:
"مجال النقد كان واسعاً أمام الخطباء، كون الموضوع نتاج شربل بعيني، من البداية حتى اليوم، فراح كل منهم ينزله على مشرحة أهوائه الخاصّة، وعقائده القوميّة، ونظريّاته الجماهيريّة، ناهيك عن العقد النفسيّة أيضاً، فغاب عن الندوة جو النقد الشعري الذي توخيناه.
حبّذا لو تعمد الرابطة، في المستقبل، إلى تحديد مواضيع النقد ومدّتها، فتحصر الندوة في كتاب، أو قصيدة، أو بيت واحد من الشعر. وحبّذا، مرّة أخرى، لو يدور البحث في ميزة معيّنة من مزايا شعر شربل بعيني، كاختيار المفردة، وسبك العبارة، وحبك الصورة، وشقع القصيدة، واستلهام الفكرة، وبدع الجمالية في الشعر، أو الثورة فيه، أو الإقذاع والبشاعة.
إنه لإجرام أن يقاس شربل بعيني اليوم، من خلال نتاج أعطاه قبل سبعة عشر عاماً. فالشاعر إنسان يتطوّر، وعلى النقّاد تقييم آخر قصائده، إذا ما شاؤوا لهذا الشعر شأواً، أو للشاعر تحليقاً. فقد آن الأوان لشربل أن يكتب للنوع لا للكميّة، وما قصائده التي ألقاها في الندوة إلاّ خير دليل على نضوج خامته الشعريّة. فلنشجّعه ليكمل من هذا المنطلق".
لقد كان شربل بعيني صادقاً بكل ما كتب، فلا اليمين اللبناني أخافه ولا اليسار، فلقد ثار عليه الإثنان معاً، وبقي على موقفه، واضعاً نصب عينيه مصلحة أبناء وطنه لبنان وأمّته العربيّة. وهذا ما أدركته مجلّة النهار العربي والدولي، فلقد أعطت ديوان مجانين صفحتين كاملتين، نشرت فيهما مقدّمة الأستاذ كامل المر، وأشد القصائد مرارة في الديوان، كقصيدة "قفا لبنان"، التي يقول فيها شربل:
.. وكانوا يقولوا بلاد الخير
هيّي بلادي!!
بلاد النسمه.. بلاد الطّير
وجو الهادي
.. وكانوا يقولوا إنّو بلادي
قطعة سما
أللـه.. لولا وفا جدودي
ما تقاسـما!!
وضلّوا يْغَنُّوا رْوابِيها
تا صارت حلم
وبالآخر شكّوا فيها
رايات الدّم!!
والناس الـ ماتوا صاروا
حكايات كبار
يحكيها الجار لجارو
عن "شعب حمار"
رضي يحرق دياروا
بقلب غضبان
ورضي يفوّت مسمارو
بقفا لبنان!!
وكان تعليق النهار العربي والدولي على قصائد شربل الناريّة، عكس التعليقات التي سمعها في أستراليا، فلقد كتبت في عددها الصادر بتاريخ 9 حزيران 1986، ما يلي:
"في سيدني أستراليا، صدرت الطبعة الثانية من ديوان مجانين بالعاميّة للشاعر شربل بعيني، مع مقدّمة لكامل المر، وكلمة على الغلاف لنعيم خوري.
وقبل أن ننقل هنا المقدّمة وبعض القصائد، نشير إلى نفحة الصدق القوي التي تهدر في الديوان، وهو من الشعر المتألّـم لما حلّ بلبنان، من غير أن (يصطفّ) مع فريق ضد فريق، بل هو ينطلق في معاناته وفي تعبيره معاً، من كون ما حلّ بالوطن حرباً على الجميع، وشرّاً ضدّ الجميع، ومن كون الإنسان هو الغاية، لا دينه ولا حزبه".
صدق شربل بعيني القوي مع نفسه وقرّائه، هو الذي أوصله عام 2000، ليصبح أوّل أمير للأدب في عالـم الإنتشار اللبناني.
أخبرتكم عن الضجيج الذي سبّبته عام 1986، ندوة رابطة إحياء التراث العربي حول نتاج الشاعر شربل بعيني، وما أن أطلعكم على ما قيل في الندوة حتى تدركوا أن الضجيج الذي أثير سببه أشعار شربل، وليس ما قاله المتكلّمون، إذ أنّهم أشادوا بشعره كما لـم يشد أحدٌ من قبل.
لنبدأ أوّلاً بعريف الندوة الشاعر شوقي مسلماني، ولنختر من تقديمه للمتكلمين باقة من أزهار كلامه، فلقد قال عند تقديمه للإستاذ إيلي ناصيف، الذي ألقى كلمة الرابطة:
"وإذ يكون محور ندوة اليوم شاعر معتبر، طالما قرأتـم أشعاره في الصحف المحليّة، فإن رابطة إحياء التراث العربي يهمّها أن تؤكّد على شاعريّة شربل بعيني، ورهافة حسّه، وموهبته الأصيلة، وقدرته الكبيرة على استنطاق واسترجاع الماضي صوراً حيّة تحاكي الحاضر، فتودعه كنوزها وحكمتها وعبرتها، كما تؤكد على أن الشاعر يعيش حقّاً حاضره بالتمام، وحاضر بلاده كلها، ومأساة أبناء جلدته المتعاقبة منذ العام 1975 حتى اللحظة".
قبل أن أكمل رحلتي مع كلمات شوقي، دعوني أتساءل: لماذا كل هذا التأكيد من الرابطة على شاعريّة شربل بعيني، الذي لـم يكن قد انتسب إليها بعد، لو لـم تكن تدري أن هناك من يحاول أن يقلّل من شاعريته، بغية إطفاء وهج قصائده قبل وصولها إلى أسماع الناس، فلا اليمين اللبناني ولا اليسار كانا يحبان أن يسمعا شربل بعيني وهو يصرخ بأعلى صوته كلمات هذه القصيدة التي لحنها وغنّاها الفنان المهجري سمير بدر:
أنا ما بفهم يمين
أنا ما بفهم يسار
أنا بفهم إنّو النّار
لازم توقف مهما صار
بحيث الـ عم بيموتوا هيك
ما انوجدوا بخاتـم لبّيك
ولا بقنديل علاء الدين
هودي أهلي الِمحبّين
هودي ربيوا جار وجار
يعني مهما الدولاب دار
وحكيوا وفبركوا أخبار
رح يبقوا لبنانيين
رح يبقوا لبنانيين
رح يبقوا لبنانيين
وقد أثبتت الأيّام أن شربل بعيني كان على حقّ، فلقد انتهت الحرب اللبنانيّة اللعينة، وبقي اللبنانيون لبنانيين، كما أطلقها مثلثّة، وكما يجب أن يكونوا: أهلاً وأحباباً.
ومن تقديم شوقي للدكتورة سمر العطار أختار:
"لسنا نقرظ شربلاً لو قدّمناه على شعراء المهجر عندنا، وهو الأحقّ بالتقديم، لأنه المرهف بأحاسيسه فعلاً، ولأنه الإنسان الذي يواكب مأساة شعبه فيبكي لأحزانه، ويثور ثورة كريم على جلاّديه، ويقول كلمته بأعلى صوته، فلا يخاف لائـماً، ولا يخاف فريسيّاً، ولا يخاف عسكراً، ولا يخاف إلاّ أن يقول بنو وطنه: كنّا نموت جوعاً وويلاً وظلماً، وكان شربل يغضّ طرفاً، وكان مساوماً، وكان صامتاً.
كلمة نقولها، وما تفي شاعر الغربة حقّه، ولكن حقّه علينا أن نقول في شعره ما يجب أن يقال لا ذماً ولا مديحاً، ولكن قولاً نقدّاً يصوّب بوصلته، ويوجّه سيره في الإتجاه الصحيح".
هذا ما أراده شوقي المسلماني، وهذا ما حصل فعلاً، فلقد ابتعد جميع المتكلّمين عن الذمّ والمديح، وساروا في طريق الحقّ، رغم تشعّباتها ومشاقها، ليهدوا أدبنا المهجري أجمل ندوة أدبيّة على الإطلاق.. وليقدّموا شربلاً، كما قدّمه هو، على غيره من شعراء المهجر عندنا.
والآن، ألا تقولون قولي أن "تقديم" المسلماني لشربل، منذ سنوات طويلة، على غيره من الشعراء، "وهو الأحقّ بالتقديم"، يعكس الصورة النقيّة الجليّة لصوابيّة اختياره أميراً للأدب في كافّة بلدان الإنتشار اللبناني، لعام 2000، من قبل المجلس القاري للجامعة اللبنانيّة الثقافيّة في العالـم ـ قارة أميركا الشماليّة. بلى واللـه!..
المربّي فؤاد نمّور، رحمه اللـه، اعتبر أن موضوع الندوة حسّاس شائك بالنسبة له، "لأن كتاب شربل مجانين كتاب حديث، بل هو، على ما أظن، أحدث كتبه، ولذلك فإن الأقلام لـم تتناوله كما يجب، وإن قرأت تقريظاً له في النهار الدولي مؤخّراً، ولـم تتداوله الأيدي كذلك، أي أنه لـم يُقرأ كثيراً بعد.
ومنها أن الشاعر شربل بعيني، صاحب الكتاب، صديقي، فإن أنا ركبت رأسي ـ كما يقولون ـ وقسوت في النقد، قد أفقد، لا سمح اللـه، صداقته، كما فقدت صداقة غيره، وإن أنا أنصفته وقلت في الكتاب ما يجب أن يقال، كانت شهادتي، بسبب صداقتي، مجروحة، سيّما وأنه احتاط للأمر فرشاني سلفاً، وأهداني أربعة كتب من كتبه أعتزّ كثيراً باقتنائها. لكنني، بالرغم من كل شيء، قبلت الإشتراك في الندوة على أن أقول رأيي سلباً أو إيجاباً، وسيّان عندي غمزت شهادتي أم لـم تغمز".
بعد هذه المقدّمة المرعبة جداً، التي يهدّد بها ويتوعّد، نجد أن فؤاداً، وبعد دراسته الإيجابيّة جداً جداً لـ مجانين، لـم يقصد بتهديده هذا صديقه شربل بعيني، بل أولئك الذين يتهامسون في الخفاء، ويخطّطون لإفشال الندوة، بعد أن لقّبهم شربل بالمجانين، وعرّاهـم من أوراق توتهم، وكشفهم على حقيقتهم أمام أعين الناس الطيّبين الذين يتلاعبون بهم، كما تتلاعب الريح بوريقات خريفيّة اقتُلعت من شجرتها الأم، وتطايرت في بلدان اللـه الواسعة. وهذا ما اعترف به فؤاد في الندوة حين قال:
"لقد وصل به الإدراك مرحلة ما عاد يرى فيها غير أوضاع مترديّة منهارة، يأس ممزوج بالحسرة والسخرية، جعل الشاعر يدعو قومه دعوة صريحة إلى الجنون. كما حمّل الزعماء، على اختلاف نحلهم ومعتقداتهم، مغبّة ما آل إليه الوطن الجريح بسبب أنانيّاتهم وجشعهم اللا محدود، ولذا لـم يجد بدّاً ولا مفرّاً من اتهامهم بالخيانة.
إن شربل في مجانين قد قدّم لنا صوراً للضياع والفراغ والظلم وخيبة الأمل والسخرية، وراح من خلال هذه الصور جميعها، يسرد قصّة المأساة اللبنانيّة، مشيراً إلى نواحي الضعف وقصور الوعي والإنسياق وراء الزعامات الباطلة المضلّلة.
وأخيراً، فإن شربل شاعر ثائر متمرّد جريء، يتفجّر شعره بطاقات جديدة لـم نألفها من قبل، وشعره معاناة شخصيّة صادقة، وهذا ما يعطيه زخماً معبّراً أجمل تعبير. وفّق اللـه شربلاً إنساناً وشاعراً، والشعر نعمة لا يُعطاها إلاّ من يستحقّها".
وأعتقد أن المربّي المرحوم فؤاد نمّور، بكلامه هذا، قد قال بالزعامات الباطلة المضلّلة وبأذنابها في أستراليا، ما لـم يقله شربل بعيني في ديوانه مجانين، لا بل أعطاه الضوء الأخضر ليقول فيها ما لـم يقله المتنبي في كافور الأخشيدي.
الأستاذ بطرس عنداري اعترف في بداية كلامه أن الوقت لـم يسمح له للقيام بجولة شاملة على كلّ ما كتب الشاعر شربل بعيني، "ولكنني سأحاول، في هذه الأمسيّة الممتعة، أن ألقي نظرة، وأقدّم رأياً بإنتاج هذا الشاعر الشاب، صاحب القلـم الدفّاق المتواصل العطاء".
ولكي لا يطيل الشرح كثيراً، نرى أن العنداري أعطى شهادة مبكرة صادقة بشربل بعيني، لـم يعطها أحد من قبل، حين قال في بداية دراسته:
"لقد أصبح شربل بعيني ظاهرة مميّزة في مغتربنا بتعدّد دواوينه، في جالية كانت، حتى الأمس القريب، قاحلة أدبيّاً وفكريّاً.
في البداية، كنت أظنّ أن شربل بعيني شاعر عدديّ بين مجموعة كبيرة من ناظمي الشعر الشعبي، الذي نعرفه باسم الزجل اللبناني، ومع مرّ السنين، ومواكبة إنتاجه، تعرّفنا عليه وعلى دنياه الشعريّة الواسعة الشفّافة الضاحكة أحياناً والواجمة الجامدة أحياناً أخرى".
ورغـم استشهاد بطرس ببعض قصائد شربل بعيني (الميكانيكيّة)، على حد تعبيره، أي التي كتبها وهو في حالة انسلاخ عن شاعريته وأحاسيسه كشاعر، نجده يبرّر تركيب شربل لبعض قصائده الميكانيكيّة، بكلمات واعية ومتفهّمة وصادقة أيضاً:
"وقلّما نجد شاعراً، قديماً وحديثاً، إلاّ وتعرّفنا عنده على قصائد مركّبة ومطرّزة ومزخرفة، وخاصّة في أشعارنا العموديّة ذات النبرة الموسيقيّة المثيرة".
وطالما أن شربلنا واحد من هؤلاء الشعراء، القدماء والمخضرمين والجدد، الذين تكلّم عنهم بطرس، فلا عجب إذا ركّب قصيدة أو طرّزها أو زخرفها، ألـم يقل أحدهم: يحقّ للشاعر ما لا يحق لغيره؟.. ولكن، يبقى شربل، بنظر بطرس، شاعراً خارج العدديّة في مغتربنا هذا، وهذه شهادة تاريخيّة لـم يحصل عليها شاعر مهجري من قبل.
رئيس رابطة إحياء التراث العربي الأستاذ كامل المر، كانت دراسته طويلة شاملة، لأن الدراسة، كما قال، لا بد أن تحصي على الأديب أو الشاعر أنفاسه. فلنقرأ ونحكم.
من ديوان مراهقة، باكورة أعمال شربل، إنتقى كامل هذه الأبيات:
عوينات سود كبار
خفيت عيون كبار
غطّت مساحه وصار
وجّك عتم ونهار
وراح يفسّر عبارة (عتم ونهار) على أنها "تشبيه رائع بلغة سهلة، لا أظن أن أحداً سبقه لمثل هذا التشبيه إلاّ الشاعر الذي اختصر آيات الحسن ببيت قال فيه:
قدّ وشعر وخدّ
غصن وليل وورد".
وبعد أن يغوص كامل في معظم مؤلفّات شربل، ويصطاد من دررها الكثير الكثير، يصل إلى نتيجتين، الأولى تتعلّق بنثره:
"نثر الشاعر شربل بعيني، نثر ساخر جميل، ما أحوج الأدب العربي المعاصر إلى مثل سخريته".
والثانية تتعلّق بشعره:
" شعر شربل بعيني، أيّها السيّدات والسّادة، شعر معمّد بالألـم، لكنّه متفائل. شعر يؤمن بمن كُتب له، مؤمن بالشعب. ولعلّ أهمّ كتب شربل بعيني في الشعر العامي مجانين، وفي الشعر الفصيح كيف أينعت السنابل؟، الذي يعدّه للطبع الآن.
أمّا في الشعر العامّي، فللشاعر مدرسة خاصّة به، تمرّدت تمرداً مستساغاً مستحبّاً على ما هو معروف من أوزان هذا الشعر، وسيكون لها، ولا شك، أثرها في تطوير هذا الفن الشعري، الذي لا يقل أهميّة عن الشعر الفصيح، والمواضيع الأدبية الأخرى، على حد تعبير الأديبة المهجريّة أنجال عون ـ البرازيل، وإن لـم يكن بنفس الشمول. وإذا كان للشاعر شربل بعيني مدرسته الخاصّة في الشعر العامّي، فإننا نتوخّى أن تكون له مدرسته الخاصّة أيضاً في الشعر الفصيح، فهل نرى تباشير مثل هذه المدرسة في ديوان كيف أينعت السنابل؟".
ورغم أن المرّ قد أعلن "أن أسلوب المدرسة القبّانيّة واضح البصمات على شعر البعيني الفصيح"، إلاّ أنه استشفّ، في نفس الوقت، "بذور مدرسة قائمة بذاتها".
الدكتورة سمر العطّار أعطت النقد الإغترابي دراسة أكاديميّة، أقلّ ما يقال فيها أنها رائعة، فلقد تكلّمت عن المرأة والحرب في المجتمع الأبّوي، من خلال ملاحظات عن أعمال شربل بعيني.
وبما أنّه من الصعب اقتطاع فقرة واحدة من دراسة العطّار، دون أن يُشوّه محتواها، أو أن يُهدم بنيانها المتكامل، أطلب المعذرة سلفاً إذا أخفقت في توصيل رسالتها.
لقد أخبرتنا، في دراستها، أن "فكرة القتل لـم تروع الإنسان الجاهلي"، وأن معظم الشعراء العرب في الجاهلية بكوا أجدادهم، وآباءهم وإخوتهم، "وقلّما نجد وصفاً لإنسان يبكي على أخيه الإنسان". وأن زهير بن أبي سلمى هو الوحيد الذي شذّ عن القاعدة، ولـم يبكِ لفقد أبيه، أو أخيه، أو قريبه، "بل بكى لغباوة الإنسان الذي يوقد نار الحرب، جالباً الضرر على نفسه وعلى أبنائه".
كما أخبرتنا أن زهيراً مدح (الحارث بن عوف) لأنه أصلح بين عبس وذبيان، واحتمل ديّات القتلى في ماله، "وكان من الأحرى بالشاعر لو مدح بهيسة بنت أوس زوجة الحارث، والسبب الرئيسي في إيقاف الحرب الدامية، كما تقول الروايات".
ولهذا اعتبرت العطّار أن زهير بن أبي سلمى لـم يكن أوسع أفقاً من زملائه الشعراء، لأنه خصّ الرجل بمديحه، وتناسى (بهيسة)، تلك المرأة التي قالت له:
ـ أتفرغ يا حارث بن عوف لنكاح النساء والعرب تقتل بعضها!
وكانت بهيسة قد تزوجت الحارث، ولكنها رفضت أن تنام معه قبل أن يوقف الحرب بين عبس وذبيان.
وبما أن شربل بعيني قد خصّ هذه المرأة العربية البطلة بقصيدة أسماها: صدّقيني يا بهيسة، فلقد اعترفت الدكتورة العطّار أن شربل قد سبق الآخرين في مديح بهيسة، فقالت:
"واليوم، بعد أربعة عشر قرناً يأتي شربل البعيني، لا كناطق باسم قبيلة، كما كان يفعل الشاعر الجاهلي، بل كصوت متفرّد، ليرسم لوحة مرعبة عن الحرب القبليّة في لبنان، وليبعث بهيسة حيّة في أذهاننا: بهيسة التي لـم يكتب عنها الشعراء العرب، قدماء أم محدثون، بالرغم من أنها كانت مفتاح السلام.
الحرب شيء مرعب عند البعيني، تماماً كما كانت عند زهير بن أبي سلمى، وقتل الإنسان للإنسان لا يجلب إلاّ مزيداً من القتل، وليس هناك من فارق بين مقتل حبيب أو عدو، وليس هناك من داعٍ لرثاء فلان، أو للتفاخر بقتل فلان. فالبعيني رفض دور الشاعر القبلي ـ ذاك الدور الذي يفرض عليه أن يبكي لقتل أقربائه، وأحبابه، وبني عشيرته، وأن يفرح لقتل أعدائه ـ واختار أن يكون إنساناً يخدم مصالح الإنسان. ولقد دفعته رغبته بتغيير المفاهيم القبليّة التي تحض على الغزو والإنتقام، إلى استخدام لهجة (القبائل) اللبنانيّة المتحاربة في وصف أهوال الحرب، وضرورة إيقافها. فاللهجة العاميّة قد تصيب الهدف أكثر من اللغة الكلاسيكيّة، وقد تنتشر انتشار النار بين فئات المتقاتلين، ففيها، قبل كل شيء، يتكلّمون، وفيها يحبّون ويكرهون، وفيها يَقتُلون ويُقتَلون".
وبعد أن حلّلت الدكتورة العطّار عالـم البعيني من خلال ديوان مجانين، توصّلت إلى هذه النتيجة:
"الرجل في عالـم البعيني مجنون وقاتل (باستثناء خالد كحّول الجندي الذي رفض أن يسلّم رفقاءه المسيحيين للدوريّة المسلّحة، التي استوقفتهم وهم في طريقهم إلى مقرّ القيادة العسكريّة، وقال: نحن جنود لبنان، وليس بيننا مسلم أو مسيحي، فإذا أردتـم قتلهم فاقتلونا جميعاً). خالد كحّول هو صوت متفرّد كصوت الشاعر في مجانين. أما الرجال الآخرون الذين نلقاهم فهم (دياب الشعب)، كما يسمّيهم البعيني، ولقد صمّموا على أن يحرقوا كل شيء، وأن يقتلوا كل من يقف في طريقهم".
وفي ختام دراستها، أعلنت الدكتورة سمر العطّار أن "صرخة شربل البعيني لبهيسة بأن تنبعث من قبرها من جديد، لَتأكيد على أن المرأة هي أساس المجتمع في عرف الشاعر، وتعبير ضمني على رغبته الملّحة بأن يصبح النموذج الجاهلي نموذجاً معاصراً حقيقيّاً".
وبعد كل هذه الإستشهادات التي اخترتها لكم من كلمات المشاركين في الندوة، نجد أن كل المتكلمين قد أعطوا شربل بعيني حقّه كشاعر، وأن قصائده الناريّة وحدها، هي التي حرّكت الجماجم الفارغة في جاليتنا، وأحدثت كل ذلك الضجيج؟
**
حبيب الشعب
طلاّت شربل بعيني الشعريّة لا تحصى. صوته بالندوات الأدبيّة والحفلات الفنيّة يشهد له. مشاركته بأفراح وأتراح الجالية تخبرنا الكثير عن إنسانيّته وحبّه لمغتربيه.. لقد كان، وما زال، (حبيب الشّعب)، كما لقّبه المربّي المرحوم فؤاد نمّور.
ومن الأمسيّات الشعريّة الكثيرة الّتي أقامها، أو شارك بها، اخترت إحدى أمسياته في ملبورن لأخبركم عنها، تلك التي دعا إليها نسيبه كلارك بعيني عام 1986، بمناسبة صدور الجزء الأوّل من سلسلة كتبه الشهيرة شربل بعيني بأقلامهم، الذي يعتبر أول كتاب وقّع في احتفال رسمي في أستراليا.
كلارك يسكن في مدينة ملبورن، عاصمة ولاية فيكتوريا. وشربل يسكن في مدينة سيدني، عاصمة ولاية نيو ساوث ويلز. ومع ذلك تمكّنا، رغم بعد المسافة، من إهداء الغربة سبعة أجزاء من تلك السلسلة، أبعدت الضياع عن مئات المقالات والقصائد التي قيلت بأدب شربل بعيني، كما سلّطت الأضواء على العديد من الأقلام المغمورة في مغتربنا هذا.. إذ تـمّ نشر كل ما قيل بأدب شربل بعيني دون المفاضلة بين أديب مشهور أو قلـم مغمور، محبّتهم لشربل بعيني أزالت الفوارق بينهم، أو بمعنى آخر، وحّدتهم، وجمعتهم تحت سقف سلسلة أدبيّة واحدة.
ولكي تعرفوا ماذا حدث في تلك الأمسيّة، سأطلعكم على بعض ما كتبته صحفنا المهجريّة الصادرة يومذاك، منها ما توقّف عن الصدور كـ صوت المغترب وصدى لبنان، ومنها ما بقي مستمراً كـ البيرق والتلغراف.
كتب الأستاذ زاهي الزيبق في جريدة التلغراف، الصادرة في 29 آب 1986، ما يلي:
"دعا الأستاذ كلارك بعيني إلى أمسية شعرية مع الشاعر شربل بعيني، بمناسبة صدور كتابه الأول شربل بعيني بأقلامهم.
ولقد لبّى العديد من أبناء الجالية هذه الدعوة، وفي مقدمتهم سيادة الراعي الصالح المونسنيور بولس الخوري، وممثلو الصحافة والإذاعة وبعض الفعاليات الإجتماعيّة والثقافيّة في ملبورن.
الأمسية، وباعتراف كل من حضرها، كانت من أنجح الأمسيات الأدبيّة، فلقد بكى الحضور إثر سماعه الشاعر يصرخ:
بْخاطرِك.. عَم قُولْها وقلبي حزين
يا أرض دمع ودم سقيُوا ترابْها
يا نجمة الصبح.. وأمل المهاجرين
يا بيوت.. بزنودي رفعت عتابها
**
كرمال عينِك بس.. يا بلادي
زرعت بالغربه شعر وزهور
وضلّيت طول الوقت عم نادي:
يدوم عزِّك.. والقلب مقهور
**
يا أرزة بلادي هانوكي كْتير
ناس نصّابين.. ما عندن ضمير
رفعوا لواكي كذب قدّام البشر
ودبحوا طفالك غدر بِـ قلب السرير
إلى ما هنالك من الأشعار الوطنيّة الرائعة، التي ألهبت حماس الجمهور على مدى الساعة والنصف تقريباً".
سأتوقّف قليلاً عن متابعة نشر الخبر، لأعلّق على ما قاله الأستاذ زاهي الزيبق، المعروف جداً في الأوساط الإعلاميّة والأدبيّة في مقاطعة فيكتوريا، والذي تبوّأ رئاسة عدة مؤسسات إجتماعيّة وأدبيّة وحتّى سياسيّة. فلقد اعترف زاهي أن الأمسيّة كانت من أنجح الأمسيات الأدبيّة، وأن الجمهور بكى وهو يستمع إلى قصائد شربل بعيني، وهذه شهادة تاريخيّة تضاف إلى سجل شربل بعيني الأدبي المشرق. بعدها، نقل إلينا زاهي كلمة كلارك بعيني بحذافيرها، فقال:
"وكان الأستاذ كلارك بعيني قد قدّم الشاعر الضيف بهذه الكلمة المعبّرة:
لن أعرّفكم على شربل بعيني، لأنني لا أعتقد أن أحداً ما في هذه الصالة لـم يقرأ لشربل، أو لـم يسمع بالألقاب المختلفة التي وصفوه بها، فمن سيف الأدب المهجري، إلى شاعر المهجر الأوّل، إلى شاعر الغربة الطويلة، وغيرها الكثير. ولكن باعتقادي أن اللقب الوحيد الذي يليق به هو لقب الشاعر المكافح، فالشاعر والشعر توأمان، ولقد أحب شربل الشعر فكتبه منذ حداثة سنّه، وبالمقابل أحبّ الشعر شربلاً، فأتى إليه في صغره، ولقّب يومئذ بالشاعر الصغير.
وبعد وصوله إلى أستراليا بأشهر فقط، بدأت مجلّة الدبّور اللبنانيّة بنقل انطباعات شربل عن هذه الديار، تحت عنوان (أستراليا الحوت ونحن النبي يونان)، ولـم يطل بي الوقت حتى وجدت نفسي لاحقاً به لأرى عن كثب كيف كان يعمل ليلاً ونهاراً، ويقسم وقته بين شاعر ملهم وبين عامل كادح يتلظّى على جمر الحياة.
شبّهته بالعديد من المكافحين الذين سبقوه، وقدّموا للبشريّة خدمات عديدة. شبّهته بأديسون الذي لولا كفاحه المتواصل لما كان هناك ضوء، ولما سطع نور. ولو لـم يكافح شربل لما صمد طويلاً أمام مشقّة أعماله في النهار، وأرق جفنيه أثناء الليل، عندما تدق الأشعار أبواب مخيّلته بأيدٍ أثقلتها هموم الناس والوطن، ولكانت تلك الأشعار قد يئست وعادت إلى فضاء كونها الواسع، أو غطست في بحر الضياع.
سيّداتي، سادتي..
لست هنا لأخبركم عن كفاح شاعرنا في غربته الطويلة، بل لأقدّمه إليكم شخصيّاً، علّه يبلّ قلبوكم، ويرطّب نفوسكم بأشعار طالما تشوّقتم لسماعها. فشكراً لكم جميعاً، وشكراً لشربل لتحمّله مشقّات السفر من أجل إحياء هذه الأمسية الشعريّة".
وبما أن زاهي اعتبر أن الأمسيّة من أنجح الأمسيات الأدبية، كان لا بد له من إعطاء رأيه بشربل بعيني، فكتب في نهاية الخبر:
"شربل بعيني شاعر رقيق وحسّاس، أثبت مرّة أخرى، وفي ملبورن بالذّات، أنه طاقة شعريّة فريدة، تجمع الموهبة والعطاء مع لوعة الفراق، وطول الغربة الحرّاقة، التي اكتوى بنارها ملاحم وقصائد ودواوين:
إنت وأنا الـ منخلّص الأجيال
من ظلم شتّتنا بْهالغربه
والهمّ فوق صدورنا أحمال
والنّار تاكل قلبك وقلبي".
مراسل جريدة البيرق الأستاذ جوزيف قرعان لـم يكن أقلّ من زميله زاهي الزيبق إعجاباً بالأمسية، فلقد أعادته إلى ليالي الشعر والأدب والفن في لبنان، فكتب في العدد الخامس من جريدة البيرق، الصادر في 30 آب 1986، ما يلي:
"بصوت صافٍ، وبحماس نابع من القلب، قدّم الشاعر الكبير شربل بعيني ندوته الشعريّة التي دعي إليها من قبل الأستاذ كلارك بعيني، يوم الأحد الماضي، وحضرها جمهور من عشّاق الشعر والأدب، ومراسلو الصحف والإعلام، يتقدّمهم سيادة المونسنيور بولس الخوري.
قدّم الأستاذ كلارك شاعرنا الوطني بكلمة شكر فيها كل من كتب أو قرأ عن شربل بعيني (لأن لولاهم لما كان هناك كتاب شربل بعيني بأقلامهم). وقال: (إن اللقب الوحيد الذي يليق بشربل هو لقب الشاعر المكافح، لأن شربل أحب الشعر منذ حداثة سنّه... ولقّب بالشاعر الصغير).
إن هذه الأمسية الشعريّة الجميلة أعادتنا إلى ليالي الشعر والأدب والفن في لبنان، حيث كانت الكلمة تخرج من فـم ناطقها، آنذاك، تحمل في معانيها حبّ الأرض والطبيعة والجمال. لكن هذه المرّة، تحمل بشعر شربل بعيني الأسى والحسرة والحماس على وطن يذوب من قلّة إدراك شعبه، واستسلامهم لمطامع زعمائهم الشخصيّة".
وبعد أن يستشهد جوزيف بعدة قصائد لشربل "تنحصر كلّها في الوضع الذي يعيشه لبنان"، يخبرنا أن شربل قال له: "لبنان في قلبي أينما كنت.. وأنا توقّفت لأنني شعرت أن الحاضرين أدمعت عيونهم، وغصّوا بالبكاء".
نقدر أن نفهم من هذا الكلام، أن شربل بعيني، وبعد ساعة ونصف من الإلقاء الشعري المتواصل، توقّف عن الإلقاء كي لا يرى بكاء الناس، وكي لا يزيد من حزنهم على وطن كان حلمهم الأجمل، وفجأة اشتعل الحلم، وتتطايرت شراراته في الهباء، وما من أحد يحرّك ساكناً. فوجدوا العزاء، كل العزاء، في قصائد شربل، فتمسّكوا بها كصوت صارخ في بريّة عالـم غارق حتى أذنيه في مستنقعات السياسة والطائفيّة والمادّة.
مراسل جريدة صوت المغترب الأستاذ مطانيوس مخّول أخبرنا أن جمعاً غفيراً من أبناء الجالية قد حضر الأمسيّة، وأن عاصفة من التصفيق هبّت لدى صعود الشاعر إلى المنبر، فكتب يقول:
"يوم الأحد الماضي في 24/8/1986، كانت الجالية اللبنانيّة على موعد مع عملاق الشعر العربي، وحامل سيف الحقيقة، الشاعر اللبناني الكبير شربل بعيني، في الأمسية الشعرية التي حضرها جمع غفير من أبناء الجالية، وفي مقدّمة الحضور سيادة المونسنيور بولس الخوري، راعي الطائفة المارونيّة في ملبورن، وعدد من الوجوه الكريمة ومندوبي الصحف العربيّة البيرق وصوت المغترب، ومنسّق الإذاعة العربية في ملبورن.
قدّم البرنامج الأستاذ كلارك بعيني، حيث شكر الجميع على تلبية هذه الدعوة، وألقى كلمة موجزة عن حياة الشاعر الكبير الأستاذ شربل بعيني. ولدى تقديم الشاعر هبّت عاصفة من التصفيق الحار، فصعد إلى المسرح وهو يحيي الجمهور، وبدأ بإلقاء أشعاره التي تعبّر عن الحقيقة والواقع، اللذين رسمهما في قلبه من حين وصوله إلى هذه البلاد.. وعن التفرقة التي يعاني منها الشعب اللبناني عامّة، بسبب حكّام تعوّدوا على المتاجرة بالدين والوطنيّة المزيّفة.. ومفجّراً طاقاته الشعريّة، ومنتقداً من باعوا الوطن. وما حضوره إلى ملبورن إلا لأجل إظهار الكلمة الحقّ، حتى تعود القلوب الضائعة إلى أصالتها ومحبّتها.
من هنا، من هذا المهجر البعيد، يحمل سيف العدالة، يدق ناقوس الحقيقة ليدوي في الآذان، وليعودوا لرشدهم، وينقذوا ما تبقّى من هذا الوطن الجريح، ويقفلوا أبوابه المشرّعة أمام كل عدو غاشم ومرتزق طامع.
نقدّم تحيّاتنا إلى شاعر المهجر الكبير، وإنه خير رسول للبنان في دنيا الإغتراب".
وبسبب نجاح هذه الأمسيّة المنقطع النظير، دُعي شربل بعيني مرّة أخرى، في العام 1988، إلى إقامة أمسيّة شعرية ثانية، كانت أنجح من الأولى. وبما أن الأستاذ كلارك بعيني هو الداعي أيضاً للأمسية الثانية، بمناسبة صدور الجزء الثالث من شربل بعيني بأقلامهم، وجدت أن لا غضاضة إذا أخبرتكم عنها. فلقد كتب الأستاذ كميل مسعود في جريدة صدى لبنان، الصادرة في 19/7/1988، العدد 605، ما يلي:
"مساء الجمعة الماضي، أقام شاعر الغربة الطويلة، الشاعر المتمرّد شربل بعيني، أمسية شعريّة في ملبورن، بمناسبة صدور الجزء الثالث من كتاب شربل بعيني بأقلامهم، مع كلمة للأديب الأستاذ كامل المر، وذلك في منطقة برنزويك.
كانت الأمسيّة مملؤة بالنقد الصادق، وقد فجّر فيها ما لـم يُفجَّر، وكشف أيضاً أقنعة جميع السياسيين واللاعبين في لبنان على الشعب المسكين..
حضر الأمسية نخبة كبيرة من أبناء الجالية ومن محبّي الشعر. يتقدّمهم سعادة قنصل لبنان العام الأستاذ مصطفى مصطفى، وسيادة المونسنيور بولس الخوري، والأستاذ سامي مظلوم، والأستاذ رياض الأسمر، وممثلو الصحف اللبنانية والإذاعة العربيّة، وغيرهم.
الساعة السابعة والنصف مساء، افتتح الأمسية الأستاذ كلارك بعيني، الذي دعا لهذه الأمسية، والذي كان له الفضل في جمع مثل هذه الوجوه الكريمة، فألقى كلمة جاء فيها:
أتخيّل أمامي الآن حلقة عظيمة، أخالها تجمع لبنان الوطن الأم بأستراليا الوطن المضياف، فطالما بقيت هذه الحلقة، بقينا على اتصال دائم بوطننا، وظلّ تاريخنا، الذي به نفتخر، متّصل الحلقات. وطالما أننا نفتخر بأصلنا، ونمجّد تاريخنا، علينا أن نكرّم أدباءنا، وكتّابنا، وشعراءنا، كما تعوّدنا على تكريم آبائنا وأمهاتنا ورجال ديننا وشهدائنا الأبطال.
الحمد للـه على أننا في هذه البلاد لا ينقصنا شيء، سوى بعد وجه لبنان عنّا. فعندنا الكنيسة، والجامع، والصحف، والإذاعة، والأديب، والشاعر. وفي هذه الليلة بالذات، يوجد معنا أديب، عرفته كبريات الصحف العربيّة، والندوات الفكريّة في لبنان وأستراليا، وكان لي شرف التعرّف به في مدينة سيدني. أقدّمه لكم الآن في هذه الأمسيّة، وهو الأستاذ كامل المر".
وكان الأستاذ كامل المر، رئيس رابطة إحياء التراث العربي في أستراليا، قد رافق الشاعر شربل بعيني في رحلته إلى ملبورن، بغية تقديمه لجمهور الأمسية. وها أنا أعود لما كتبه كميل في صدى لبنان، كي أطلعكم على بعض ما قاله المر:
"إنه لشرف كبير أن تتاح لنا الفرصة للوقوف بينكم هذه الليلة، والتحدّث إليكم، والإستماع إلى آرائكم، وإننا، والحق أقول لكم جميعاً، مدينون بهذا اللقاء إلى الأخوين شربل وكلارك بعيني.
لقد تفضّل الأستاذ كلارك بعيني مشكوراً بدعوتنا لحضور هذه الأمسية، وكم كنت أتمنى أن يصدر مثل هذا الجهد المشكور، الذي قام به الأستاذ كلارك بعيني، عن رابطة، أو اتحاد، أو مؤسسة، تأخذ على عاتقها رسالة التوعيّة الفكريّة والأدبيّة، لتعرّف أجيالنا الصاعدة بتراثها العريق، فتنشأ الأجيال ولها ملء الثقة بذاتها، لأنها تنحدر من جذور تاريخيّة عريقة، كان لها على مرّ العصور دور حضاري وفكري مرموق".
ثـمّ تابع كلامه قائلاً:
"أوصيكم بالمحبّة يا إخوتي، فالمحبّة ترفع عنّا سموم الطائفيّة، وتساعد إنساننا على تحقيق ذاته. فبالمحبّة أيضاً تُبنى الأوطان، وبالحقد والبغضاء تتشتت وتزول".
وختم كلامه بتقديم شاعر الغربة الطويلة شربل بعيني، الذي ألقى كلمة شكر فيها القنصل العام مصطفى، والمونسنيور المرحوم بولس الخوري، والحضور. ثـم انتقى عدّة قصائد من مجموعاته الشعرية كيف أينعت السنابل؟، وأللـه ونقطة زيت، والغربة الطويلة، قوطعت جميعها بتصفيق حاد، أجبر شربل بعيني على قطع التصفيق مرّات عديدة لإكمال إلقائه.
وتحوّلت الأمسية إلى سوق عكاظ شعرية أدبية، بعدما دعا شربل بعيني الحضور إلى المسرح، ليقول كل من يشاء كلمته ـ شعراً أم نثراً ـ مشيداً بهذه النوعيّة من أهل العلم والقلـم، التي جاءت تشارك في الأمسية. وكان أن شارك فيها كل من سعادة القنصل العام بقصيدة وكلمة حيّا بهما شربل بعيني، والأستاذ سامي مظلوم، والشاعر الياس قدّور، والدكتور أنيس مرسي.
وانتهت الأمسية بحفلة كوكتيل، أعدّها كلارك بعيني للحضور، الذي شكر كلارك وشربل وكامل، آملاً استمرار العطاء، وتتالي اللقاءات الأدبيّة".
إذن، فجمهور ملبورن، كما أخبرنا الأستاذ كميل مسعود، قد أعجب بالأمسية، وطالب باستمرار العطاء، وبتتالي اللقاءات الأدبيّة. كما أنه أخبرنا أن شربل بعيني قد قاطع التصفيق عدّة مرات، أو بالأحرى، أوقفه، كي يتابع إلقاء قصائده. وأنه حوّل أمسيته الشعريّة إلى سوق عكاظ، بعدما طلب من الجميع المشاركة في الكلام. فمن يحب التعليق على قصائده فليتفضّل، المجال مفتوح، وحريّة التعبير متاحة للجميع في الأمسية.
من تصرّفات كهذه، نقدر أن نستشف سمو أخلاق شربل بعيني الأدبيّة، وأنه لا يستجدي التصفيق، ولا يخاف النقد، أيّاً كان مصدره، وأنه يفسح المجال لاكتشاف مواهب أدبيّة جديدة، قد لا تأتيها الفرصة للظهور في مغترب مادي ضائع، كل ما فيه ينتهي لحظة بدايته.