Alwahj alinsani fi “MONAJAT” Charbel Baini
The human glow in Charbel Baini's "Monajat”
**
صورة الغلاف تمثّل اللوحة الرائعة "للمناجاة"، التي رسمها الفنان أنور يوسف، وأهدتها الجمعية العلوية في سيدني، بشخص رئيسها آنذاك السيد صبحي حميد، للشاعر شربل بعيني يوم تكريمه على مناجاته عام 1992.
**
كلمة شكر
لجريدة "البيرق" المهجرية الغراء، التي نشرت دراستي هذه على حلقات.
للأساتذة نعيم خوري، كامل المر وفؤاد نمور، ولكل من مدّ لي يد العون للحصول على المراجع المطلوبة.
نجوى
**
المناجى
سيرته، أدبه، فلسفته
إسمك، رسمك، جسمك.. عندي
تالوت مقدّس.. منجلّ
مفكّر، عالم، واعظ، جندي
سيّد.. ما في كلمه تدلّ
شربل
**
اجتمعت كافة المصادر على أن ولادة علي بن أبي طالب (ع) في البيت الحرام، يوم الثالث عشر من رجب الحرام، وسمي "حيدرة".
أبوه من أشراف قريش، وشيخها الجليل، أبو طالب بن هاشم، وأمه من أسرة نبيلة، هي فاطمة بنت أسد بن هاشم، فكان أول هاشمي ولد لهاشميين.
كانت ولادته بشرى عظيمة تزامنت مع هدم الأصنام بلا عودة. تربى في حجر النبي الكريم (ص)، وتعلم على يديه، ولم يفارقه إلا حين انتقاله الى الرفيق الأعلى، أو خلال مهمات قصيرة، كذلك استقى معرفته من القرآن الكريم فقال:
"والله لو ثنيت لي الوسادة لحكمت بين أهل التوراة بتوراتهم، وبين أهل الإنجيل بإنجيلهم، وبين أهل الفرقان بفرقانهم، وما من آية في كتاب الله أنزلت إلا وقد علمت فيما أنزلت وأين أنزلت، إن ربي وهب قلباً عقولاً ولساناً سؤولاً".
فكان أفقه أهل زمانه بأحكام القرآن وآياته، ويقول مشيراً الى علمه ومصدره:
"والله، لو شئت أن أخبر كل رجل منكم بمخرجه ومولجه وجميع شأنه لفعلت، ولكن أخاف أن تكفروا فيّ برسول الله (ص)، والذي بعثه بالحق واصطفاه على الخلق ما أنطق إلا صادقاً، وقد عهد إليّ بذلك كله، وبمهلك من يهلك، ومنجى من ينجو، وما آل هذا الأمر، وما أبقى شيئاً يمر على رأسي، إلا وأفرغه في أذنب، وأفضى به إليّ".
وهذا ما يجعلنا ندرك مكانته من النبي، فيقول:
"علّمني رسول الله (ص) ألف باب من العلم، كل باب يفتح لي ألف باب".
وهاتان المكانة والمنزلة الخاصتان من الرسول (ص)، لهما أصدق دليل على مدى قرباه من الرسول (ص) فيقول موضحاً ذلك:
"ألله لقد علمت تبليغ الرسالات، واتمام العدات، وتمام الكلمات، وعندنا أهل البيت ـ ابوب الحكم وضياء الأمر".
في مناسبات عديدة آخى النبي (ص) بينه وبين علي، الى جانب كونه ابن عمه، وصهره، وصفيه، ووزيره، ويقول صفي الدين الحلي واصفاً تلك القربى:
أنت سر النبي والصنو وابن
العم والصهر والأخ المستجاد
لو رأى مثلك النبي لآخاه
وإلا فسأخطأ الانتقاد
أما أبو تمام فيقول في نفس المعنى:
أخوه إذا عدّ الفخار وصهره
فما مثله أخ ولا مثله صهرُ
إن النبي محمد (ص) قد وصف فضائل أمير المؤمنين علي فقال:
"لو أن البحار كانت مداداً، والأشجار أقلاماً، والجنّ والانس كتاباً لما أحصوا فضائل علي بن أبي طالب.
أنا مدينة العلم وعلي بابها.
أنت تعلم الناس من بعدي ما لا يعلمون.
أقضاكم علي.
أفقهكم علي.
أعلمكم علي.
علي مع الحق والحق مع علي.
علي مني وأنا منه.
فال سليم بن قيس:
"حدّثني سلمان والمقداد، وحدثنيه بعد ذلك أبو ذر، ثم سمعته من علي بن أبي طال. قالوا ان رجلاً فاخر علي بن أبي طالب، عليه السلام، فقال رسول الله (ص) لما سمع به، لعلي عليه السلام: فاخر العرب، فأنت فيهم أكرمهم ابن عم، وأكرمهم صهراً، وأكرمهم نفساً، وأكرمهم زوجاً، وأكرمهم أخاً، وأكرمهم عماً، وأكرمهم ولداً، وأعظمهم حلماً، وأكثرهم علماً، وأقدمهم إسلاماً، وأعظمهم عناءً بنفسك ومالك، وانت أقرأهم لكتاب الله، وأعلمهم بسنتي، وأشجعهم لقاء، وأجودهم كفاً، وأزهدهم في الدنيا، وأشدهم اجتهاداً، وأحسنهم خلقاً، وأصدقهم لساناً، وأحبّهم الى الله وإليّ".
وهكذا على امتداد أربعة عشر قرناً، لم يعرف التاريخ شخصية عظيمة مالامام علي بن أبي طالب، رجل تقوى وعبادة ومحباً لله، عاشقاً للصلاة. يقول في هذا المعنى: "ما عبدتك خوفاً نمن نارك، بل حباً بك".
فأي عابد وزاهد ومتواضع هو، ومن يستطيع أن يكون بشراً، ويكون بهذه العظمة إلا الأنبياء، أو ربيب الأنبياء.
أي طهارة قلب، ونقاء سريرة وتواضع إلا عند الأتقياء والخاصة مثل مثل علي، ففي كل شيء قدم لنا الأمثولة الخالصة والرائعة.
أي متواضع هو حتى لقّب بأبي تراب، وها هو يحدثنا عن تواضع الأنبياء، فيقول عن عيسى بن مريم:
"كان يتوسد الحجر، ويلبس الخشن، وكان أدامه الجوع، وسراجه بالليل القمر، وظلاله مشارق الأرض ومغاربها، وفاكهته وريحانه ما أنبتت الأرض للبهائم، ولم يكن له زوجة تفتنه، ولا ولد يحزنه، ولا مال يلفته، ولا طمع يذله، دابته رجلاه، وخادمه يداه".
هي نفس أكبر من الدنيا، وأسمى من المطامع. حب الله وخدمة الانسانية هما كل ما يطمع إليه، فكان دائماً يحذّر من حب الدنيا، فيقول:
"الدنيا دار ممر إلى دار مقر، والناس فيه رجلان: رجل باع فيها نفسه، فأوبقها، ورجل ابتاع نفسه، فأعتقها".
فلنستمع إليه وهو يحدّنا عن الشجاعة، وكان أشجع الفرسان على الاطلاق، فقد خلع باب خيبر بعد أن عجز عنه الناس مجتمعين، فسأله سائل:
ـ بأي شيء غلبت الأقران؟
فقال عليه السلام:
ـ ما لقيت رجلاً إلا أعانني على نفسه.
ونستطيع أن نتصوّر ذلك العصر الذي نشأ فيه الإمام، فكان جهاده مضاعفاً. فبالاضافة الى أنه رجل عقيدة. كان مجاهداً على الصعيد الاجتماعي الاجتماعي لرفع شأن الانسان في زمن كان القوي يحتقر الضعيف، وصاحب المال هو صاحب النفوذ الذي يحوز على الاحترام. وكان الناس صنفين: غني فاحش الثراء، وفقير معدم لا يجد قوت يومه. لكن الامام في نصيحته للأشتر يشعرنا ان الانسان بعمله لا بماله، فيقول:
"أشعر قلبك الرحمة للرعية، والمحبة لهم واللطف بهم، ولا تكونن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم، فإنهم صنفان: إما أخ لك في الدين، وإما نظير لك في الخلق".
وهكذا يدخل الى النفوس فيعرفها. عرف نفوس ىالعامة، وغاص في ضمائر الحكام واحساس الولاة، ليكون لهم مثلاً في العدالة على الأرض، فكانت مواعظه تشمل كل ما يمت الى الانسان بصلة، مهما صغر أو علا شأنها، فرفض المبررات في إضفاء صفة الشرعية على الظلم، كما رفض أن تكون تلك المبررات ثابتة لا تتغيّر، وجاهد في سبيل تبديلها، خاصة انها ليست قوانين وأحكاماً من عند الله. فأحكام الله هي دائماً لخير البشر. وها هو يكتب إلى معاوية ينهيه عن الظلم والاستبداد:
"غرّك عزّك، فصار قصار، ذلك ذلك، فاخشَ فاخشَ، فلعلك فعلك، تهدأ بهذا".
وها هو الأديب روكس بن زائد العزيزي، يصف لنا في كتابه "الإمام علي أسد الإسلام وقديسه" عصر الإمام، فيقول لنا عن لسانه:
"إنهم كانوا في شرّ دار، منيخون بين حجارة خشن، وحيات صم يشربون الماء الكدر، ويأكلون الجشب، ويسفكون دماءهم، ويقطعون أرحامهم، الأصنام فيهم منصوبة، والآثام بهم معصوبة".
ويتابع وصفه مستعيناً ببلاغة سيد البلاغة:
"والناس في فتن انجذم فيها حبل الدين، وتزعزت سواري اليقين، واختلف النجر، وتشتت الأمر، وضاق المخرج، وعمي المصدر، فالهدى خامل، والعمى شامل، عصي الرحمن، ونصر الشيطان، وخذل الإيمان، فانهارت دعائمه، وتنكرت معالمه، ودرست سبله، وعفت شوكته، أطاعوا الشيطان فسلكوا مسالكه، ووردوا مناهله، في فتن داستهم بأخفافها، ووطئتهم بأظلافها، وقامت على سنابكها، فهم فيها تائهون، حائرون، جاهلون، مفتونون في شرّ دار، وشرّ جيران، نومهم سهود، وكحلهم دموع بأرض عالِمُها ملجَم، وجاهلُها مكرّم..".
هكذا كان العصر الذي عاش فيه الإمام. لا مكان للانسانية فيه. ولقد عني الإمام عناية فائقة بالانسان، وخصّه باهتمام كلي وشامل. ولم يترك أمراً من أمور الحياة إلا واهتم به، لأنه كان مؤمناً أن الشر صناع التاريخ، يعبّدون طرقاته، يبنونه، تتقاذفهم مشاعر شتّى من الاحلام والآمال، فدعاهم للعمل وكان أولهم، فكان يسقي نخيل اليهود، ويتصدّق بأجره، فشرّف بعمله العمل، ورفعه حد القداسة.
خاطب الإمام عقل الانسان الحاكم الفعلي لتصرفات البشر، كذلك خاطب الوعي العريزي عنده، كي يدفعه ليتحوّل تدريجياً الى وعي إيجابي وواقعي، وبذلك ينتقل من مرحلة اللامبالاة الى مرحلة التفكيرالعملي والفعلي، وجاهد في سبيل احداث هذا التغيير، فقال:
"رحم الله امرءاً سمع حكماً فوعى، ودعي الى رشاد فدنا. هذا الجهاد وهذا الحب كانا من أهم الأسباب لاستشهاده، لأن هناك من يهمه تدمير هذا الحق: حق الانسان في العيش، وحثّه على تحقيق حلمه بالاستقرار والأمل في حياة آمنة مطمئنة، والاستمتاع بها، على أن يكون هذا الاستمتاع وتلك الحرية تغلّف حياته بالفضيلة والعفة، وبما يحفظ كرامته، وواضح ان هذا لن يكون بدون الالفة والمحبة فقال: "ليتأسَّ صغيركم بكبيركم، وليرأف كبيركم بصغيركم"..
وقف الإمام علي دائماً بجانب المضطهد والمظلوم، وآزر صاحب الحق، يقوّم ما اعوج بالكلمة الطيبة، والموعظة الحسنة أولاً، ثم بالسيف إذا لزم الأمر. كل ذلك كي لا تسلب من الانسان انسانيته ، فأوصاهم قائلاً:
"خالطوا الناس مخالطة ان متم معها بكوا عليكم، وإن عشتم حنّوا إليكم".
حين رأى الإمام الفساد الاجتماعي والسياسي مستشرياً بكثرة في ذلك العصر الجاهلي المتخلّف، وضع دستوره الذي يعالج فيه الصراعات القبلية وانعكاساتها بين الفرد والفرد، وبين الحاكم والمحكوم، كذلك الصراع الطبقي، وكل همه خير الانسان وراحته تحت ظل القانون. كما أراد أن يكون دستوره للعدالة والحق، وان تكون العدالة لغة بين أبناء البشر، فبدأ بتطبيق هذه النظرية أولاً على ولاته، الذين عيّنهم حكاماً على ألأمصار، وأشهر رسائله تلك التي أرسلها الى الأشتر النخعي، يوصيه فيها بالأدب والحلم والأخلاق والمعاملة الحسنة حتى على الحيوان، كما يوصيه بالصدق فيقول:
"ان الرجل الذي يجروء على قول الحق لهو أكبر من الدنيا".
هذا هو الإمام العظيم، الذي كان يقول الحق، فكان أكبر من الدنيا، لذا حاربه الكثيرون، لأن منهاجه الانساني ضد مصالحهم، لكنه لم يهتم وواصل حربه وجهاده لإعلاء كلمة الحق، ورفع شأن الانسان بمواقفه الجوهرية القاطعة، التي لم يهادن فيها أبداً، كي يكون الإنسان حراً لا عبداً، ولا فرق بين غني وفقير، غايته أن يتساويا، وأن يكون هناك تفاعل بين أبناء البشر، منطلقه العدالة للانسان والارض، ولقد شدّد الإمام على القيمة الاخلاقية، لأنها أساس المجتمع السليم، ولأن سلوك الفرد لا بد أن ينعكس على المجتمع، كما أحب أن يتكامل الفرد والمجتمع، ليعيشا حياة مطمئنة، وأن يعم التجانس والتآلف بين السلطة والشعب، لتغمر الرفاهية وجه البشرية، ويستوطن السلام قلبها.
رغم كثرة مشاغله، كان رجل علم، بل أعلم العلماء، وكان يقول:
"سلوني قبل أن تفقدوني، فهنا علم جم" وضرب على صدره.
لم يترك أثراً من آثار الأولين إلا وسار عليه، فقد قال:
"وسرت في آثارهم".
ومن خلال المهام الاسلامية، والمعارك الحربية التي شارك فيها، وأثناء ولايته كان قد زار معظم البلدان الاسلامية آنذاك، واطلع على تاريخها. وطوال حياته الكريمة وضع أسس شتى العلوم، وأوجد "النحو".
"روي أن أبا الأسود الدوؤلي، كان يمشي خلف جنازة، فقال له رجل: من المتوفي؟ فقال: الله. ثم أخبر انه أخبر علياً (ع) بذلك، فأسس، فعلى أي وجه كان دفعه الى أبي الأسود؟ قال: ما أحسن هذا النحو احش له بالمسائل. فسمي نحواً.
قال ابن سلام: كانت الرقعة "الكلام ثلاثة أشياء: إسم وفعل وحرف. جاء المعنى، فالاسم ما أنبأ عن المسمى، والفعل ما أنبأ عن حركة المسمى، والحرف ما أوجد معنى في غيره. وكتب: علي بن أبو طالب. فعجزوا عن ذلك، فقالوا: أبو طالب اسمه "لا" كنيته. وقالوا: هذا تركيب مثل "حضرموت"، وقال الزمخشري: في الفائق ترك في حال الجر على لفظه في حال الرفع، لأنه اشتهر بذلك وعرف، فجرى مجرى المثل الذي لا يغيّره".
كذلك أسس السنة الشمسية والقمرية: ففي كتب أصحاب الرواية انه قالت اليهود لما سمعت قوله سبحانه في شأن أصحاب الكهف: "ولبثوا في كهفهم ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعاً".. ما نعرف التسع. فذكرها رهط من المفسرين كالزجاج وغيره، ان جماعة من احباراليهود اتت المدينة بعد رسول الله (ص) فقالت: ما في القرآن يخالف ما في التوراة، إذ ليس في التوراة إلا ثلاثمائة سنين، فأشكل الأمر على الصحابة، فبهتوا، فرفع الى علي بن ابي طالب (ع) فقال: لا مخالفة، إذ المعبر عند اليهود السنة الشمسية، وعند العرب السنة القمرية، والتوراة أنزلت عن لسان اليهود، والقرآن العظيم عن لسان العرب، والثلاثمائة من السنين الشمسية ثلاثمائة وتسع من السنين القمرية.
أما في الفلسفة، فعلي أبو الفلسفة، قال:
"أنا النقطة، أنا الخط، أنا الخط، أنا النقطة، أنا النقطة والخط".
فقال جماعة: ان للقدرة هي الأصل، والجسم حجابه، والصورة حجاب الجسم، لأن النقطة هي الأصل، والخط حجابه ومقامه، والحجاب غير الجسد الناسوتي.
وسئل عن العالم العلوي فقال:
"صرر عارية من المواد، عالية من القوة والاستعداد، تجلى لها فأشرقت، وطالعها فتلألأت، وألقي في هويتها مثاله فأظهر عنها أفعاله، وخلق الانسان ذا نفس ناطقة، ان زكاها بالعلم فقد تشابهت جواهر أوائل عللها، واذا اعتدل مزاجها وفارقت الأضداد، فقد شارك بها السبع الشداد".
إن أول من خاض في الكيمياء هو الامام علي بن أبي طالب، فقد سئل عن الصنعة، فقال:
"هي أخت النبوة وعصمة المروة، والناس يتكلمون فيها بالظاهر، وإني لأعلم ظاهرها وباطنها، هي والله ما هي إلا ماء جامد، وهواء راكد، ونار جائلة، وأرض سائلة".
وسئل أثناء خطبته، هل الكيمياء تكون؟ فقال:
"الكيمياء كان هو كائن وسيكون"
فقيل له: من أي شيء هو؟ فقال:
"إنه من الزيبق الرجراج، والاسرب والزاج، والحديد المزعفر، وزنجار النحاس الاخضر الحبور الأعلى عابرهن"
فقالوا: فهمنا لا يبلغ الى ذلك.. فقال:
"اجعلوا البعض أرضاً، واجعلوا البعض ماء، وافلجوا الارض بالماء، وقد تم".
فقالوا: زدنا يا أمير المؤمنين، فقال:
"لا زيادة عليه، فإن الحكماء القدماء ما زادوا عليه، كيما يتلاعب به الناس".
أما ما جاء في خطبة "الأشباح"، وهي من الخطب العظيمة، وفيها يتحدّث الإمام عن جغرافية الأرض، فيقول:
"ولو وهب ما تنفسّت عنه معادن الجبال، وضحكت عنه أصداف البحار من فلذ اللجين والعقيان". ومنها أيضاً: "كبس الأرض على مور أمواج مستفحلة، ولجج بحار زاخرة تلتطم أواذي أمواجها، وتصطفق متقاذفات أثباجها، وترغو زبداً كالفحول عند هياجها، فخضع جماع الماء المتلاطم لثقل حملها، وسكن هيج ارتمائه إذ وطئتهبكلكلها، وذل مسيخذياً إذ تمعكت عليه بكواهلها، فأصبح بعد اصطخاب أمواجه ساجياً مقهوراً، وفي حكمة الذل منقاداً أسيراً، وسكنت الارض مدحوة في لجة تياره، وردت باوه واعتلائه.. الخ".
لن نستطيع مهما بلغنا من الجهد والبحث والاستقصاء، أن نحدد علم الامام، فما من علم إلا وخاض فيه، وعندما قال: "سلوني قبل أن تفقدوني"، كان يثق بما أعطاه الله من قدرة على الخوض بكافة العلوم الدينية والدنيوية، ومهما تقلبت الايام فلن نجد عالماً كالإمام علي، بل انه أبو الحكماء، وكبير المهندسين. فماذا يقول عن الهندسة؟.. عن كعب الأحبار قال:
"قضى علي عليه السلام قضية في زمن عمر بن الخطاب، فقالوا: انه اجتاز عبد مقيّد على جماعة. فقال أحدهم: ان لم يكن في قيدهكذا وكذا، فامرأته طالق ثلاثاً، فقاما فذهبا مع العبد الى مولاه، فقالا له: اننا حلفنا بالطلاق ثلاثاً على قيد هذا العبد، فحلّه نزنه. فقال سيده: امرأته طالق إن حل قيده، فطلق الثلاثة نساءهم، فارتفعوا الى عمر بن الخطاب، وقصّوا عليه القصة، فقال عمر: مولاه أحق به، فاعتزلوا نساءهم، قال: فخرجوا وقد وقعوا في حيرة. فقال بعضهم لبعض: اذهبوا بنا أبي الحسن (ع) لعله يكون عنده شيء في هذا، فأتوه فقصوا عليه القصة، فقال لهم: ما أهون هذا، ثم انه عليه السلام، أخرج جفنة، وأمر أن يحط العبد رجله في الجفنة، وان يصب الماء عليها، ثم قال: ارفعوا قيده من الماء، فرفع قيده وهبط الماء، فأرسل عوضه زبراً من الحديد الى أن صعد الماء الى موضع كان فيه القيد، ثم قال اخرجوا هذا الحديد وزنوه وزن القيد، وكان كذلك".
إن مجموع الكتب التاريخية التي قرأناها، وقرأها غيرنا، لم تذكر لنا عظيماً أو عالماً أو فيلسوفاً حوى عقله كل هذه العلوم إلا علي بن ابي طالب. فماذا يقول الامام في علم النجوم؟
روى سعيد بن جبير انه استقبل امير المؤمنين عليه السلام دهقان، وفي رواية قيس بن سعد انه مرخان بن ساشوا. استقبله من المدائن الى جسر يوزان، فقال له امير المؤمنين:
"تناحست النجوم الطالعات، وتناحست الصعود بالنحوس، فإذا كان مثل هذا اليوم وجب على الحكيم الاختفاء، يومك هذا يوم صعب، قد اقترن فيه كوكبان، واكفافيه الميزان، وانقدح من برجك النيران، وليس الحرب لك بمكان".
فقال امير المؤمنين عليه السلام:
"أيها الدهقان المنبيء بالآثار، المخوف من الأقدار، ما كان البارحة صاحب الميزان، وفي أي برج كان صاحب السرطان؟ وكم الطالع من الأسد والساعات من الحركات؟ وكم بين السراري والزراري؟".
قال: سأنظر في الاسطرلاب. فتبسم أمير المؤمنين عليه السلام وقال له:
"ويلك يا دهقان، انت مسير الثابتات أم كيف تقضي على الجاريات، وأين ساعات الأسد من الطالع؟ وما الزهرة من التوابع والجوامع؟ وما دور السراري المحركات؟ وكم قدر شعاع المنيرات؟ وكم التحصيل بالغدوات؟".
فقال: لا علم لي بذلك يا أمير المؤمنين.
والامام علي لم ينسَ الشعر أيضاً، فكان أشعر الشعراء. يقول الجاحظ في كتاب "البيان والتبيين" وفي كتاب "فضائل بني هاشم" أيضاً، والبلازي في "أنساب الأشراف" أن علياً أشعر الصحابة، وأقمعهم وأكتبهم.
ومنهم العروضيون، ومن داره خرجت العروض. روى أن الخليل بن أحمد أخذ رسم العروض عن رجل من أصحاب محمد بن علي الباقر، أو علي بن الحسين، عليهما السلام، فوضع لذلك أصولاً، ومنهم الوعاظ، وليس لأحد من الأمثال والعبر والمواعظ والزواجر ما له نحو قوله:
ـ من زرع العدوان حصد الخسرا.
ـ من ذكر المنية نسي الأمنية.
ـ من قعد به العقل قام به الجهل.
ـ يا أهل الغرور ما ألهجكم بدار خيرها زهيد، وشرها عتيد، ونعيمها مسلوب، وعزيزها منكوب، ومسالحها محروب، ومالكها مملوك، وتراثها متروك.
كما لم يترك الإمام موضوع الطب دون أن يتحدث فيه. وأنا شخصياً اتصلت بعدة أطباء لأسألهم عن مسائل معينة فرأتها عن علم الامام في الطب، علني أستطيع تدوينها في دراستي هذه، أو أثبتها حسب السنة التي اكتشفت فيها. وهل قبل عصر الامام أم بعده، ولكنني فوجئت أن هناك مسائل لم يعرفها الطب حتى الآن. أورد منها هنا المسألة التي دوّنها النيسابوري:
"روى الحاكم التيسابوري عن شريح القاضي، قال: كنت أقضي لعمر بن الخطاب، فأتاني يوماً رجل فقال: يا أبا أمية، إن رجلاً أودعني امرأتين، إحداهما حرة مهيرة، والأخرى سرية، وكلتاهما تدعى الغلام، وتنتفي من الجارية، فاقضِ بينهما بقضائك.
قال: فلم يحضرني شيء فيهما، فأتيت الى عمر، فقصصت عليه القصة فقال: فما قضيت بينهما؟ قلت: لو كان عندي قضاؤهما ما أتيتك. فجمع عمر جميع من حضر من أصحاب النبي، صلى الله عليه وآله وسلّم، وأمرني، فقصصت عليهم، فشاورهم في ذلك، فكلهم رد الرأي إليه وألي، فقال عمر، لكني أعرف حيث مفزعها، وأين منزعها. قالوا: :انك أردت ابن ابي طالب. قال: نعم، وأين المذهب عنه. قالوا: فابعث إليه يأتك. فقال: لا، له شمخة من هاشم، وآثرة من علم، يؤتي لها ولا يأتي، ومن بيته يؤتي الحكم، فقوموا بنا إليه، فأتينا إليه، فرجدناه في حائط يركل فيه على مسحاة ويقرأ: أيحسب الانسان أن يترك سدى؟ ويبكي. فأمهلوه حتى سكن، ثم اسأذنوا عليه، فخرج إليهم، وعليه قميص قد نصف اردانه. فقال: يا أمير المؤمنين ما الذي جاء بك؟ فقال: أمر عرض.
وأمرني، فقصصت عليه، فقال: فيم حكمت فيها؟ قلت: لم يحضرني فيها حكم. فأخذ بيده من الأرض شيئاً ثم قال: الحكم أهون من هذا. ثم استحضر الامرأتين، وأحضر قدحاً، ثم دفعه الى إحداهما، فقال: احلبي فيه، فحلبت، ثم وزن القدح ودفعه الى الاخرى، فقال: احلبي فيه، فحلبت. ثم وزنه، فقال لصاحبة اللبن الخفيف: امضي وخذي ابنتك، ولصاحبة اللبن الثقيل: خذي ابنك. ثم التفت الى عمر فقال: أما علمت ان لبن الجارية على النصف من لبن الغلام، وان ميراثها نصف ميراثه، وان عقلها نصف عقله، وان شهادتها نصف شهادته. فقال عمر: أرادك الحق يا أبا الحسن، ولكن قومك أبوا..".
وفي مسائل أخرى قال عليه السلام:
ـ يشب الصبي كل سنة أربع أصابع بأصابع نفسه.
ـ يعيش الولد لستة أشهر ولسبعة ولتسعة ولا يعيش لثمانية أشهر.
ـ لبن الجارية وبولها يخرجان من مثانة أمها، ولبن الغلام يخرج من العضدين والمنكبين.
سبق علي كل العصور بفكره، وأكثر ما اشتهر فيه بين العامة: أدبه وبلاغته. ذلك الأدب الذي أدهش الكتّاب والشعراء وأصحاب الأقلام. وكتاب نهج البلاغة يحتوي على الآلاف من أدب الامام، قلّ أن تجد نظيراً له. وفيه أيضاً الكثير من الأقوال الفلسفية والخطب العظيمة، التي تعتبر من جلائل الخطب. خطبة خالية من حرف الألف، عدد كلماتها 673 كلمة، بالاضافة الى خطب الوصف، كوصف النملة والخفّاش مثلاً، ونقتطف هنا خطبة خالية من النقط:
"في المناقب عن ابن شهر أشوب والكلبي وابن باببويه باسناده عن الرضا عليه السلام، حتى نقل لهم هذه المعجزة الخالدة، ألا وهي الخطبة المباركة العارية عن النقطة، فقال:
"الحمد لله الملك المحمود، المالك الودود، مصور كل مولود، ومالك كل مطرود، ساطع المهاد، وموطل الاطواد، ومرسل الامطاء، عالم الاسرار ومدركها، ومدمر الاملاك ومهلكها، ومكور الدهور ومكررها، ومورد الأمور ومصدرها، عم سماحه وكمل ركامه، وهمل، وطاع السؤال، كما وحد ألا وهو الله، لا إله للأمم سواه. أرسل محمداً علماً للاسلام، واماماً للاحكام، مسدداً الرعام، ومعطل أحكام ود وسواع اعلم وحلم وحكم وحكّم وأصّل الأصول ومهّد. والد الوعود وأوعد اوصل لله له الاكرام، واودع روحه السلام، ورحمه الله وأهله الكرام، ما لمع ودال، وطلع هلال، وسمع اهلال، اعملوا رعاكم الله لأصلح الأعمال، واسلكوا مسالك الحلال، واطرحوا الحرام ورعوه، واسمعوا امر الله وعوه، وصلوا الارحام وراعوها، وعاصوا الاهواء واردعوها، وصاهروا اهل الصلاح والورع، وصارحوا رهط اللهو والطمع، ومصاهركم أطهر الاحرار مولداً، واسراهم سؤدداً، واحلاهم مورداً، وها هو امكم وحل حرمكم مملكاً عروسكم المكرمة وماهرها كما مهر رسول الله ام سلمة، وهو اكرم صهر واودع الاولاد وملك ما أدى دوماسها، ولا وكس ملاحمه ولا صم، أسأل الله لكم احماد وصاله، ودوام اسعاده، وألهم كلاً اصلاح حال، والاعداد لما له ومعاده وله الحمد السرمد والمدح لرسوله أحمد..".
هكذا تكون نفوس العظماء، اصحاب السمو الانساني، ورغم هذا البحر الزاخر من العلوم، غادر الدنيا فقيراً، لكنه ترك كنوزاً من العلم والمعرفة.
ظلمه الناس ولم يظلم أحداً.
قاتلوه على الاستبداد وقاتل على الحق.
حاربوه على السلطة وحاربهم على العدل.
تألبوا عليه كرهاً وصفح عنهم حباً.
أحبوا المال وكان أزهد الناس به.
يسكنون القصور ويسكن أحقر بيت.
يترفعون ويتواضع.
يصلون تزلفاً ويصلي حباً لله.
يظلمون وينصف. يجورون فيعدل.
كانوا أصحاب دنيا وكان صاحب دين.
أوليس هو القائل للدنيا: غرّي غيري.
هذا هو أمير البررة، وقاتل الكفرة، أخو الرسول، وزوج البتول، وابو السبطين الحسن والحسين، علي بن أبي طالب.
**
إمام العباقرة
وعباقرة الإمام
قبلي اللي غنّوك كتار
جمعت غنانيهن كلاّ
بكتابي باقة أشعار
بركي بيرحمني ألله
شربل
**
هناك جمع غفير من الأدباء والكتاب والشعراء الذين كتبوا عن السيرة العطرة، ومن كافة الطوائف والأديان، ففكر علي لم يكن لطائفة معيّنة بل لكل الناس، خاصة طلاب الحقيقة والمعرفة. ومن المؤرخين "مسلم" الذي أفرد في صحيحه صفحات أسماها فضائل علي بن أبي طالب عليه السلام.
أما الامام الشافعي فقد قال شعراً، نقتطف منه:
أهل النهي عجزوا عن وصف حيدرة
والعارفون بمعنى كنهه تاهوا
إن قلت ذا بشر فالعقل يمنعني
وأختشي الله في قولي هو الله
أما المتنبي فقد قال:
أبا حسن لو كان حبّك مدخلي
جهنم كان الفوز عندي جحيمها
وكيف يخاف النار من بات موقناً
بأن أمير المؤمنين قسيمها
والسيد رضا الهندي قال في القصيدة الكوثرية الشهيرة:
أمفلج ثغرك أم جوهر
ورحيق رضابك أم سكر
قد قال لثغرك صانعه
إنّا أعطيناك الكوثر
وقال ابن اسحاق الموصلي كما روى البيهقي في المحاسن والعيان في الاسعاف:
عدي وتيم لا أحاول ذكرهم
بسوء ولكني محب لهاشم
وما يعتريني في علي رهطه
إذا ذكروا في الله لومة لائم
يقولون ما بال النصارى تحبهم
وأهل النهي من أعرب وأعاجم
فقلت لهم اني لاحسب حبهم
سرى في قلوب الناس حتى البهائم
وها هو عبد المسيح بك المسيحي الانطاكي يغني علياً شعراً وأدباً في ملحمة الامام علي، أو القصيدة العلوية المباركة سنة 1918 أي منذ خمسة وسبعين عاماً، وتمتاز الملحمة بسرد روائي وشعري في سبعمائة وخمسين صفحة من الحجم الكبير، تحتوي على 5595 بيتاً. أخذت منها نموذجاً بسيطاً، صفحة 10/11:
نظمت سيرة مولانا ابي حسن
فيها على قدر ادراكي خوافيها
فما عرفت له في الدين مأثرة
إلا وكنت مع الاخلاص راويها
وبعض آثاره ما جئت أذكره
ولم أزل عاجزاً عن ذكر باقيها
تحصى النجوم ولا تحصى مناقبه
فكيف لا يدرك الاعياء محصيها
من يرجُ أن يتولى قدح حيدرة
بغر آثاره وصفاً وتشبيها
رجا المحال وأعيا من بلوغ أمانيه
من المرتضى أو ما يدانيها
نكتفي بهذا القدر من الشعر والشعراء، وإن استثنينا بعض العمالقة، كالفرزدق ودعبل بن علي الخزاعي، والهمذاني وغيرهم، لننتقل الى ما فاله الأدباء. يقول الأديب والشاعر سلامة موسى في مقدمة كتابه علي والحسين:
"في عنق الشاعر العربي دين للإسلام، سواء كان الأديب مسلماً أو مسيحياً، إذ أنه لم يجرِ قلم بالفصاحة إلا وعليه رشاش من غيث القرآن الكريم، ولم يكتحل جفن بسحر البيان إلا وقد أشرف من باب رحب على هذه المروج الخضر التي تعهدها الاسلام بالماء والظلال. وأول من يطل عليك من هذه الجنان بعد الرسول سيد البلغاء وفارس الاسلام وسدرة النتهى في الكمال الانساني علي بن أبي طالب".
لا يسعنا ونحن نذكر الأدباء، إلا أن نذكر الاديب والشاعر والرسام جبران خليل جبران:
كتب الفيلسوف جبران خليل جبران، فيلسوف لبنان، حول الصورة التي رسمها للإمام بريشته، ما نصه:
"في عقيدتي ان ابن ابي طالب هو أول عربي لازم الروح الكلية، وجاورها وسامرها، وهو أول عربي تناولت شفتاه صدى أغانيها، فرددها على مسمع قوم لم يسمعوا بمثلها من ذي قبل، فتاهوا بين مناهج بلاغته وظلمات ماضيهم. فمن أعجب بها كان اعجابه موثوقاً بالفطرة، ومن خاصمه كان من أبناء الجاهلية.
مات علي بن أبي طالب شهيد عظمته. مات والصلاة بين شفتيه. مات وفي قلبه الشوق الى ربه، ولم يعرف العرب مقامه ومقداره حتى قام من جيرانهم الفرس أناس يدركون الفارق بين الجواهر والحصى.
مات قبل أن يبلّغ العالم رسالته كاملة وافية، غير انني اتمثله مبتسماً قبل أن يغمض عينيه عن هذه الارض.
مات شأن جميع الأنبياء والباصرين الذين يأتون الى بلد ليس ببلدهم، والى قوم ليس بقومهم، في زمن ليس بزمنهم، ولكن لربك شأن في ذلك وهو أعلم".
أما الامام محمد عبده، فقد كتب في مقدمة نهج البلاغة، ومن المعروف أن الامام عبده هو شارح نهج البلاغة، يقول:
"وبعد، فقد أوفى لي حكم القدربالاطلاع على كتاب نهج البلاغة مصادفة بلا تعمد. أصبته على تغير حال وتبلبل بال، وتزاحم أشغال، وعطلة من أعمال، فحسبته تسلية، وحيلة للتخلية، فتصفحّت بعض صفحاته، وتأملت جملاً من عباراته من مواضع مختلفات، وموضوعات متفرقات، فكان يخيل إلي في كل مقام ان حروباً شبّت، وغارات شنّت، وان للبلاغة دولة، وللفصاحة صولة، وان للاوهام عرامة، وللريب دعارة، وان جحافل الخطابة، وكتائب الذرابة، في عقود النظام، وصفوف الانتظام، تنافح بالصفيح الأبلج، والقويم الأملج، وتمتلج المهج برواضع الحجج، فتفل من دعاره الوساوس تصيب مقاتل الخوانس، والباطل منكسر، ومرج الشك في خمود، وهرج الريب في ركود، وان مدبر تلك الدولة، وباسل تلك الصولة، هو حامل لوائها الغالب، أمير المؤمنين علي بن أبي طالب.
بل كنت كلما انتقلت من موضع الى موضع احس بتغيير المشاهد، وتحول المعاهد فتارة كنت أجدني في عالم يغمره من المعاني أرواح عالية، في حلل من العبارات الزاهية تطوف على النفوس الزاكية، وتدنو من القلوب الصافية، توحي إليها رشادها، وتقوم منها مرادها، وتنفر بها عن مدتحض المزال، الى جواد الفضل والكمال.
وطوراً، كانت تتكشّف لي الجمل عن وجوه باسرة، وأنياب كاشرة، وارواح في أشباح النمور، ومخالب النسور، قد تحفزّت للوثاب، ثم انقضت للاختلاب، فخلبت القلوب عن هواها، وأخذت الخواطر دون رماها، واغتالت فاسد الأهواء وباطل الآراء.
وأحياناً، كنت أشهد أن عقلاً نورانياً لا يشبه خلقاً جسدانياً، فصل عن الموكب الموكب الالهي، واتصل بالروح الانساني، فخلعه عن غاشيات الطبيعة وسما به الى الملكوت الاعلى، ونما به الى مشهد النور الأزلي، وسكن به الى عمار جانب التقديس، بعد استخلاصه من شوائب التلبيس، وانات كأني اسمع خطيب الحكمة ينادي يا علياء الكلمة، واولياء أمر الأمة، يعرفهم مواقع الصواب، ويبصرهم مواضع الارتياب، ويحذرهم مزالق الاضطراب، ويرشدهم الى دقاق السياسة، ويهديهم طرق الكياسة، ويرتفع بهم الى منصات الرئاسة ويصعدهم شرف التدبير، ويشرف بهم على حسن المصير".
ويتتابع سيل الادباء والكتّاب، الذين تأثروا بالسيرة العطرة، كما تأثروا بفكر الامام وما زالوا ينهلون من ينابيع علمه وعبقريته التي ما زال صدى معانيها يتفاعل في داخلنا، وأريجها يعبق حتى الساعة، وممن تأثّروا بفكر الامام علي الشاعر والاديب جورج جرداق، الذي أتحفنا بمؤلفات عديدة في السياسة والشعر والفن والأدب، كما له دراسات قيمة نختار منها صوت العدالة الانسانية لصلته بموضوعنا، وهي مجلدات خمسة عن فكر وعدالة وفلسفة علي بن أبي طالب.
من المعروف ان الاستاذ جرداق تبنّى قيماً فكرية انسانية لموضوعاته، فكتب الكثير في سياق العلاقة والثقافية الممزوجة بالحركة التاريخية، ثم ترابطها بالمضمون الاخلاقي، وقلم الاستاذ جرداق ليس مجرد قلم عادي، انما هو سيف مسلط ضد كل ما يمت الى التفاهة بصلة، فحارب الفساد والامسؤولية بكل أشكالها، وجعل من تدني المستوى الاخلاقي مادة للسخرية، فأطلق كلماته اللاذعة بجرأة قل نظيرها على من يهدرون الكرامة الانسانية لاذلالها ثم تدميرها، ولا بد ان نشعر بقوة كلماته، اذ استطاع ببحوثه العمبقة هز الجدار مرات عدة، محاولاً أن يصدعه، ذلك الجدار الذي يفصل بين الانسان والواقع. كما تطرق في دراساته الشاملة والهامة للأوضاع الطبقية وظروفها ومشاكلها، وبالتأكيد كانت معرفته العلمية اساسها المعايشة العقلية والتحليل الصائب، وهو تفاعل يومي على مختلف المستويات الاجتماعية والفكرية، والانسانية، تفاعل مبدأه الأخذ والرد، ولم تكن بحوثه وأدبه لبيتنا الاجتماعية فحسب، انما في البنية العالمية أيضاً.
لقد أكد لنا الأديب جورج جرداق ان العدالة الانسانية مطلب هام وحيوي للبشرية جمعاء، لأنه صورة للتماسك بين المجتمعات، وطبيعي ان يؤدي هذا الى الالتحام بين الناس، وما اذا كنا نريد الانتقال الى هذه الحركة، لن يكون بمقدار شخص واحد بل مجتمع بأكمله. اننا جميعاً في وضع مقلق، ونتمى ان نتلمس مخرجاً، فهل هناك مخرج والاحداث تتوالى سريعة لاهثة؟. ان الاستاذ جورج طرح هذا السؤال ووجد الاجابة عليه عند فكر الامام علي، منهجاً جاهزاً للتطبيق، ودستوراً يمكن العمل به، ذا اشكال ثابتة ترفع من مستوى البشر، وتحقق لهم السمو الانساني.
فماذا يقول الأديب جورج جرداق عن الامام علي في المجلد الاول من صوت العدالة الانسانية؟ قال:
"هلا أعرت دنياك أذناً صاغية فتخبرك بما كان من أمر عظيم، ما أعطت الدنيا أن تحدثك عن مثله إلا قليلاً بين جيل وجيل.
هلا أعرت دنياك أذنا وقلباً وعقلاً فتلقي الى كيانك جميعاً بخبر عبقري حملت منه في وجدانها قصة الضمير العملاق، يعلو ويعلو حتى لتهون عليه الدنيا وتهون الحياة، ويهون البنون والأقربون والمال والسلطان ورؤية الشمس المشرقة الغاربة. وحتى يندفع بصاحبه ارتفاعاً فما هو من الآدميين إلا بمقدار ما يسمون بمقياس الضمير والوجدان.
هلا لأعرت دنياك هذه الأذن وهذا القلب وهذا العقل، فتروي لك مع المعري مع الطيبين من الأقربين الأبعدين قصة الشهادة تصبغ الفجر والشفق بدم العدل والحق الصريعين، فإذا دماء الشهيد في آخر الليل فجران، وفي أولياته شفقان.
هلا ضربت بعينيك حيث شئت من تاريخ هذا الشرق، سائلاً عن فكر هو من منطق الخير نقطة الدائرة، تشد إليها آراء جديدة في الحياة والموت، ونظرات عميقة في الشرائع والانظمة والدساتير وقوانين الاخلاق، وفي مكانها من المجموعة البشرية على صعيد التعامل والتعاطي وربط الانسان بالانسان في مجتمع هو من الكل وللكل على السواء."
ويستمر الاديب جرداق بأسلوبه الرائع فما نستطيع إلا متابعة القراءة بشغف، فيقول:
"هل عرفت من الخلق أميراً على زمانه يطحن لنفسه، فيأكل ما يطحن خبزاً يابساً يكسره على ركبتيه، ويرقّع خفّه بيديه، ويا لشرف القول: أأقنع من نفسي بأن يقال أمير المؤمنين، ولا أشاركهم مكاره الدهر؟.
هل عرفت في موطن العدالة عظيماً ما كان إلا على حق، ولو تألّب عليه الخلق في أقاليم الأرض جميعاً. يبلغ به حبّهلصفة الانسان في مقاتليه، ويبلغ عطفه عليهم أن يوصي أصحابه، وهو المصلح الصالح الكريم المغدور به، فيقول: لا تقاتلوهم حتى يبدأوكم، فإذا كانت الهزيمة بإذن الله، فلا تقتلوا مدبراً، ولا تصيبوا معوراً، ولا تجهزوا على جريح، ولا تهيجوا النساء بأذى.
ثم تجليه عن الماء عشرات الألوف المؤلفة من طالبي دمه على غير حق، ويبلغونه انهم سيمنعون عنه الماء الجاري حتى يموت عطشاً، فيزلزلهم عن الماء ويحتله، ثم يدعوهم الى هذا الماء، ثم يقول: ما المجاهد الشهيد في سبيل الله بأعظم أجراً ممن قدر فعفّ، لكاد العفيف ان يكون ملاكاً من الملائكة. حتى إذا طالته اليد الآثمة فقضت عليه، قال لصحبه بشأن قاتله: لأن يعفو أقرب الى التقوى.
هل عرفت من الخلق أميراً توافرت لديه أسباب السلطان والثروة كما لم تتوافر لسواه، فإذا هو منها جميعاً في شقاء وحسرة دائمين، وتوافرت لديه محاسن الحسب الشريف، فقال: لا حسب كالتواضع. وأحبه محبوه فقال: من أحبني فليستعد للفقر جلباباً. وغالوا في حبه فقال: هلك فيّ محب غال.
لم يتوقف الاعجاب بشخصية الامام علي (ع) عند الكتّاب والمؤرخين والشعراء العرب، بل تعدّاهم الى الغرب وكتابه وفلاسفته، لأنهم تأكدوا ان هذه الشخصية هي حقاً ادنى من الخالق وفوق المخلوق!.
يقول الفيلسوف الانكليزي كارليل:
"أما علي، فلا يسعنا إلا أن نحبّه زنتعشّقه، فإنه فتى شريف القدر، عالي النفس، يفيض وجدانه رحمة وبراً، ويتلظى فؤاده نجدة وحماسة، كان أشجع ليث، ولكنها شجاعة ممزوجة برقة ولطف، ورأفة وإحسان، جديرجدير بها فرسان الصليب في القرون الوسطى. وقد قتل بالكوفة غيلة، وانما جنى ذلك على نفسه بشدة عدله، حتى انه حسب كل انسان عادلاً مثله، وقال قبل موته حينما أومر في قاتله:
ـ إن أعش فالأمر لي، وإن أمت فالأمر لكم، فإن آثرتم أن تقتصوا فضربة بضربة، وإن تعفوا أقرب الى التقوى".
أما الباحث الفرنسي البارون كارديفو، فقد قال:
"وحارب علي بطلاً مغواراً الى جانب النبي، وقام بمآثر معجزات، ففي موقعة بدر كان علي ، وهو في العشرين من عمره، يشطر الفارس القرشي شطرين اثنين بضربة واحدة من سيفه. وفي أحُد تسلح بسيف النبي ذي الفقّار، فكان يشق المغافر بضربات سيفه يخرق الدروع. وفي الهجوم على حصون اليهود في خيبر، قلقل علي باباً ضخماً من الحديد، ثم رفعه فوق رأسه متخذاً منه ترساً مجناً".
أما النبي، فكان يحبه ويثق به ثقة عظيمة، وقد قال ذات يوم، وهو يشير الى علي: من كنت مولاه فعلي مولاه.
فما عسانا ان نقول بعد الذي قاله وكتبه هؤلاء الكتاب والفلاسفة.
**
الإنسانية
في شعر شربل بعيني
بحبّن كلّن، كلّن، كلّن
يهود، نصارى وإسلام
بحبّن كلّن، كلّن، كلّن
مهما تفرّقنا الأيام
شربل
**
قال شيللي:
"الشعر هو سجل أرقى اللحظات وأسعدها لأسعد العقول وأرقاها".
ان الهدف الذي يصبو اليه رسول الكلمة، أديباً كان أم شاعراً أم إنساناً ذا طبيعة خلاقة، هو أن يبحث دائماً عن الحقيقة الكامنة في النفس، فإذا استطاع أن يخرجها الى حيّز الوجود، فهذا يساعده على الوصول الى مسلكية وأحاسيس تتدفق مه هذه الحقيقة، دون مصادمة أو معارضة.
والوصول الى النفس الانسانية ليس قاعدة للبحث فحسب، ولا هو بعيد عن متناول اليد، إنما هو من صميم الواقع، له قيمته، وإن يكن بطريقة أو بأخرى، لأن الشعراء هم أكثر الناس تأثيراً بهذه الوضعية.
والشعر ان لم يكن شعوراً وفكراً وعملاً، لا تبدو منه ظاهرة ذات قيمة، ولا يصبح عاملاً إبداعياً مميزاً. والشاعر الخلاّق يحس بوقائع حياتنااليومية، وأحياناً برغباتنا وميولنا، وأحياناً أخرى بحزننا وبكائنا، وعندها يلتقي الشاعر بالمتلقي عند مفهوم معين، أو صورة واضحة المعالم والحدود، ومن الممكن أن لا يلتقي جميع القراء مع الشاعر، ولكن يكفي أن تتجاوب معه الغالبية العظمى لتصبح الصورة واقعاً حياً في عالمنا.
والشعر الجميل تستطيع أن تعيش معه في عزلة آثرة أو صحبة مؤثرة. فالنفس الانسانية تتسع لآفاق مختلفة وعديدة من المشاعر، لأن الانسان الذي يخلو من موهبة أدبية لا يرى إلا صورة واحدة. بينما الشاعر يجعلنا نستمتع بصور متعددة في مقطع واحد، فتحس باللين والشدة، اللطف والقساوة، اللهفة والتردد، الرقة والظلم، الغموض والصفا، درجات تبدأ عند الشاعر وتنتهي عند القارىء، فتصل إلينا بالغة الدقة والعمق، فإذا كانت رقيقة نهدأ، أو عنيفة نثور، أو بين هذا وذاك تهمل، أو تمر على الوجدان وتستقر لرقة صفائها، وجمالها وقوة معانيها.. أما إذا جمعت ألفاظاً ثقيلة تقع على القلب والأذن كالحجارة فتؤذيهما.
ان الشاعر يتخيّل ولا حدود لخياله، ويحلم ويتمثّل هذا الحلم في تصوراته، ثم يترجمه الى واقع، وقد يستعين بخياله في محاولة لتحقيق هذا الحلم، فإذا تحقق ولو جزء يسير منه، يشعر أنه ارتقى وانتشى، بمقدار ما استطاع أن يتخيّل ذلك الأمل الذي ينشده، حتى وان تخيّل لمجرد الخيال، أو لمتعة شعرية، أو ساعات السفر عبر الأثير، ولحظات الهروب مما يحيط به، فلا بد أن يصل إلى نتيجة ترضيه بين خياله وواقعه، ويصب هذا الخيال في قالب إبداعي وجداني شاعري متصلاً اتصالاً وثيقاً بالقيم والعواطف والأحاسيس.
ونحن القراء نقتات من الأعمال لنشبع خيالنا، ويبقى الخيال والواقع توأمين لا ينفصلان أبداً، لأن الشاعر مارس هذا العمل بتلقائية، هو يريد ممارسته ولم يفرضه أحد عليه، فالميل لموضوع ما، فيه التزام من جانب الشاعر، اختاره لنفسه، وألزمها به، وأول هذه الالتزامات التحرر من الضغوط، كأن يفرض عليه موضوع معيّن، فإذا فرض عليه وتجاوب معه، جاء عمله نظماً خاوياً أجوف، أما إذا احتوى على التزام ذاتي فقد جاء عميقاً رائعاً، وهذا بالحقيقة ما يجعلنا نصل دائماً الى نوع جديد من الشعر الراقي.
ثم ان الشاعر يستخرج من اللغة كنوزها، وينشىء من الأحرف معايير جديدة يجمّلها بالمشاعر والأفكار بعقل واع مدرك، وهذا الاسلوب هو حد للشعر نفسه، لا قيد عليه. الحد الذي يخدم الشعر ولا يضر به. إنه تجسيد ملموس ومحسوس أمام الناس، يخلق فيهم الوعي والارتباط كأنهم اخوة وعائلة واحدة، وهذه درجة عالية من درجات السمو الشعري.
والشاعر الملتزم بالقضايا الانسانية يتوخّى ان يقدم لنا أجمل ما في القيم والمثل الانسانية من ريادة أولاً، ومن ثم الابداع الشعري ثانياً، فيربط القارىء ربطاً عميقاً ووثيقاً لتتحوّل طواعية الى العقل والقلب والنفس، أو ليدفع القارىء الى أبعد من هذه الحدود، كالعملقة الشعرية مثلاً، وهو تصوّر منطقي ومعقول خاصة إذا أضفى على شعره بعض الرعشات الانسانية المتولدة من أعماق النفس، والطالعة ضوء رجاء، ولهب حلم يعلنقان ابعاد الحياة.
رقة الاحساس صفة ملازمة للشاعر، وله فورات خاصة، وموهبة فذة، وهو الوحيد الذي يستطيع أن يعرض لنا قضايانا في أحسن حال. إذن لا شيء يبرر ابتعاد الكتاب والشعراء عما يخرج من أفكار داخل الانسان وعنه، مما يفتح باب التفاؤل في جوهر الشعر نفسه، لذا فإن شهرة الشاعر لا تأتي عبثاً بل هي نتيجة وصوله الى شيء جديد في فن الشعر، أوله انتقاء الموضوع، واختيار كلمات نقية صافية وأنيقة، يحتويها بين أحضانه شوقاً ولهفة، بعد أن ينقيها من التعقيدات، وهنا تكمن صعوبة مهمة الشاعر، لأنه في بحث دائم عما هو جديد في ذلك العالم السحري، وقد يكون هذا البحث معقداً، إذ أثناء التنقيب تمر على حواس الشاعر صور متشابكة ومتضاربة، فيغربلها بدقة في محاولة منه لكشف ما هو سري أو علني وابرازه أمام القارىء. كما ان على الشاعر القيام بدراسة التجارب الحياتية اليومية، ذات المعطيات الانسانية على ارض الواقع، كذلك عليه درس نفسية الانسان، والوسائل البسيطة والمعقدة القريبة من أحاسيسه، بشكل تنسكب فيه مستويات الانسان كي تصبح الدراسة تعبيراً عنه وله نابعة من مجتمعه وطريقة تفكيره، لأنه يصور لنا دقة المراحل الحية التي يمر فيها نمونا وتطورنا.
وللشاعر مهمة أخرى الى جانب مهامه كشاعر، وهي مواجهة مدعي الشعر، لأنهم يهذون بكلام يسمونه شعراً، وهو بالحقيقة مجرد إرهاصات وسفسطة لا قيمة لها، كما أن لا علاقة له باللغة وبمفرداتها ولا بقوانينها. فلماذا يريد البعض اعتقال الشعر، ووضعه تحت الاقامة الجبرية، ومحو العلاقة الوثيقة بين الشاعر والقارىء.
ولا بد للشعراء من إثارة هذا الموضوع الهام والحيوي، خصوصاً ان هناك أعمالاً ظهرت، ولتفاهة لغتها وخرافة موضوعها، وسطحية صورها، رفضها المجتمع، ولم يتقبّلها احد على الاطلاق، ومع ذلك تراهم يلصقون العيب بالقارىء!.. فما ذنب القارى اذا كانت أعمالهم تصل إليه فجة، مفسدة لذوقه، وثقيلة على حواسه.
إذن، فالعيب كل العيب في مدّعي الشعر الذين يتوهمون انهم يكتبونه، والشعر منهم براء.
انني أطلق نداء من القلب، أوجهه الى الشعراء أن "أعيدوا الى الشعر إبداعه، فهو إما أن يكون غنائياً، مثقلاً بالفضائل الانسانية، وإما أن يكون غوغائياً، جاراً أسمال خيبته أمام أعين الحق".
كتبت كل هذا كي أصل الى بيت القصيد، صاحب "المناجاة"، شاعرنا المبدع شربل بعيني، إبن مجدليا، القرية الشمالية الوادعة، ذات الطبيعة الساحرة، والمناظر الخلابة، على أرضها المعطاء ولد ونشأ، فأحبها كما أحبته، وأعطته من سمرة ترابها لون بشرته، ومن طبيعتها ووداعتها اكتسب وداعته وطيبته، كما وهبته براءة في النفس، وطهارة في القلب.
على طرقات مجدليا ودروبها، وبين روابيها تعلّم الحرف، وعلى موسيقى جداولها دوزن أولى قصائده، أما طيورها فقد علمته أول درس في فن الحياة المضمخة بعطر الحب والحق والخير والحرية.
تأثّر شربل بتلك البيئة الطيبة، فشارك الناس همومهم ومتاعبهم، وعاش معاناتهم، واكتسب من ملاحظتهم عمق ملاحظته وشموليتها، ثم غاص في خصوصياتهم، فمد عبر شعره جسوراً نقلت إليهم أفكاره وتوجهاته.
كان أكثر ما يعذبه، أن تكون حياة الانسان في وطنه متعذرة، وهذا أمر في مفهومه، أشد من القتل، مما عكس على ملامحه قلقاً دفيناً، وأضفى على تصرفاته، ونبرات صوته حزناً عميقاً، فالمرارة التي أحسها، أكسبته صلابة أخلاق، ولطافة معشر، كما منحته قوة احتمال، وإحساساً كبيراً بالمسؤولية. أليس هو القائل:
"سخّرت مالي في خدمة حرفي، وجنّدت حرفي في خدمة الانسانية، فساعدني يا رب كي أمتلك الحقيقة".
وأعتقد أنه امتلك الحقيقة، لذلك بدأ شعره يعرف الطريق إلى قلوب الناس، ويحمل إليهم هموم الوطن والارض، ويلقي على كاهله عبئاً ثقيلاً: كإنسان وكشاعر.
ولكثرة الصراعات الدائرة حوله، حاول أن يكتشف كنه هذه الصراعات، وتحديد طبيعتها وإبرازها، وتوضيح خفاياها، لأنه يدرك تماماً مدى تأثير الكلمة الصادقة التي كانت وستبقى الوسيلة الفعّالة لإيقاظ الوعي الجماهيري وتوجيهه، طالما أن لها مدلولها وتأثيرها، اللذين اما أن يشعلا حرباً، واما أن يبسطا سلاماً، لذا رأى أن من واجبه خوض المعركة من أجل السلام الانساني الشامل لا غير.
ولأن شربل بعيني ابن البيئة نفسها، أراد أن يبرز قضايا الانسان، وان يتبناها، ويدافع عن حقوقها، بل ويدعو لها، فقد باشر بدراستها والدخول الى عمقها، إلى أن فجّر غضبه شعراً على اللاإنسانيين والطائفيين وتجار الدين.
لقد رفض الشاعر سياسة الامر الواقع، وبدأ يحث الناس على تغيير اوضاعهم بواسطة الكلمة النابضة، لأنها تستطيع أن تزيد من احتمال المآسي الاجتماعية، وبالتالي تغييرها ليصبح الانسان أكثر رسوخاً ومتانة في حقّه في الحياة، كما ان اهمية الكلمة ايضاً تكمن في التعبير عن حالة المجتمع ككل، وانسجامها مع الهدف للتقارب بين الناس، بتلقائية قادرة على هدم الحواجز الاجتماعية والسياسية والدينية، وجعلها ضعيفة واهية.
ولقد عمّق شربل شعره حتى لامس الجذور، فامتصّ منها مفاهيم واسعة، لطيفة دافئة، وخاطب الوجدان بفضل احتضانه واحتوائه مشاعر انسانية عميقة، ليوْثّر في مشاعرنا كلما اقتربنا منه، وحلّقنا في أبعاده لدرجة نستطيع معها، ونحن نقرأه، أن نتخيّل أحداثه، وأن نجسدها، ونعيش في صميمها، ونتعرّف على شخصياته الانسانية المنتزعة من واقع الحياة، ومعنى هذا بالنسبة للشعر تأريخ ونموذج جديد في العطاء الشعري، أتيح لأول مرة للشعراء. قد تصدم أشعار شربل البعض بادىء ذي بدء، وهذا ما يحدثه الجديد دائماً، لكننا لو أمعنّا النظر بدقة لوجدنا انه بفضل شربل بعيني سيكون هناد نموذج لمدرسة جديدة في الشعر العامي، ويكون شربل قد حفر للشعر روافد هامة لم يعد باستطاعتنا الاستغناء عنها.
لقد تناول في شعره النفسية والعقلية أيضاً للفكرة القائلة بان الفرد نتاج حتمي للبيئة المحيطة به. إنه فن جديد ورداء مغاير لما ألفناه. قال بريخت:
"ان الزمن الذي يصل فيه الاضهاد ذروته، هو الزمن الذي يكثر فيه الحديث عن الاشياء العظيمة والسامية".
هذا صحيح لأننا في عالم ننام فيه وأعيننا مفتوحة، خوفاً ورعباً من المجهول، والانسان هو أكثر الكائنات هماً وقلقاً، والانسانية اليوم في قمة الاضطهاد والظلم، وأي قانون اجتماعي لا معنى له ان لم يكن لمصلحة الفرد، ومنه الى الجماعة، وكلنا يحلم بمستقبل ينعم فيه الإنسان بالحرية والمساواة.
وهذا ما حلم به الشاعر شربل بعيني، كما حلم الكثيرون قبله، وسيحلمون بعده، فدعانا لنبدل واقعنا المرير، ونخلق مجتمعاً جديداً، ويبدو انها لم تكن فكرة برقت في ذهنه في لحظة مفاجئة، بل هي نتيجة عمل طويل وشاق لا يتوفّر إلا عند القلّة من أصحاب الفكر والابداع، وطبيعي جداً ان يكون الادباء والشعراء الأشد حساسية طالما ان مسؤولية التوعية تقع على عاتقهم قبل غيرهم، لأنهم العين التي ترى ما لا يراه غيرها، فمن خلال أفكارهم وأشعارهم ينقلون إلينا مختلف التيارات والصراعات الاجتماعية حولنا. نعم، ان مهمتهم شائكة وصعبة، ولكن لا بد منها، وقد يجدون راحتهم فيما يكتبون، فيتكوّن عندهم من جراء ذلك معيار انساني حي لكل التجارب.
من هذا المنطلق، أيقن شربل ان عليه تحطيم قيود الشعر العادية، والانطلاق بشعره نحو الحياة اليومية المشحونة بالمعاناة والاحداث والمفاجآت، التي تفجر طاقة الانسان، وإلا فما جدوى الشعر إذا كان لا يقدّم شيئاً، وكيف يمكن أن تكون للشعر جدواه اذا لم ينفعل ويتحوّل الى تيار يؤثّر ويتأثّر.
ولا يريد شربل لشعره ان يكون هامشياً بلا صدى او مدى، مجرد شعر لفظي، بل يريده شعراً يتواصل مع الناس ليحقّق شيئاً، ويصمد أمام تقلبات العصر.
لقد تمرّد وثارعلى فقدان العدالة في وطنه، فتحدّى، وغامر بحياته، وحارب الظلم وبشاعته، ومن هذا الاطار ولدت أفكاره ومفاهيمه، بغية تحقيق العمل الجماعي المشترك للمجتمع ككل.
ثم جاءت رحلة الاغتراب فراراً من الظلم، وبحثاً عن القليل من العدالة لتزيد من شفافية نفسه، فوسّعت أفقه وأعطته خبرة ومراناً لا بأس بهما في الحياة، كما أكسبته نضجاً فكرياً، وصيراً على الآلام العظيمة.
وإذا ألقينا نظرة أوسع مدى على شعر شربل بعيني، ثبت لدينا انه حصيلة تجارب عميقة صقلت شخصيته كإنسان وكشاعر. القيم والمبادىء التي آمن بها، ودافع عنها، وهاجر بسببها، لعبت دوراً حاسماً في نشأته وتربيته، وفي بنيته الفكرية، مما أضفت كثيراً من الخطوط العامة في شعره، من حيث القيمة الأدبية، لأنها، كما قلنا، صقلت بالتجارب المتواصلة، ثم تبلورت لتحمل إضافات جديدة ذات فعالية، وفعالية هذا العمل تكمن بمصداقيته في كيفية طرح القضايا الاجتماعية الهامة، فانتقى مواضيعه بأسلوب شيّق الاداء، وتنسيق رائع للعرض الموضوعي والأدبي، كما قدمها بصورة وجدانية صادقة، بنفس المقدار الذي خبره وتعايش معه.
ان شاعرنا رجل ثائر على الانظمة الطاغوتية التي تمتص دم الانسان، وعندما نقرأه ندرك معنى ثورته واخلاصه لهذه الثورة، لا من خلال رأي مجرد عفوي، بل من خلال تشخيص عملي تأسس على قيم انسانية متينة، لقّحته ضد التظاهر والنفاق الفكري.
إذن، فالشعر لديه ليس لغة أو سلعة او عملة كلامية، بل وسيلة اتصال فعالة، ومضمون ثقافي، ونشاط خلاّق، يريدها مجتمعة أن تفجّر أقصى عطاء لدينا، ولا حرج اذا قلت ان شربل بعيني استحدث ظاهرة شعرية انسانية اجتماعية فريدة، حقّق بها لنفسه هوية فكرية، ووضع منهاجاً واضحاً طبقاً للتقدم العصري، وأسنطيع القول ان شعره ينقسم الى طابعين أساسيين حدّد بهما هويته الشعرية، اولهما: الطابع الانساني الذي لا ينفصل فيه الشاعر عن هموم الناس. وثانيهما: الطابع الفكري وهو سمة ملازمة لشعره.
لقد تجاهل شربل الصخب الذي قد يثار حول أشعاره، بل أثير فعلاً، لكنه لم يهتم به، بسبب ايمانه المطلق بما يقدم، كما انه ليس أول أديب أو شاعر تشحذ الالسن والاقلام ضده، لمجرد اعتناقه لمبادىء ما يتمنى تحقيقها، ليعم السلام أبناء البشر كافة.
حبّذا لو قرأنا مناجاة علي بروية وامعان، لوجدنا ان الشاعر يدعو الناس بطوائفهم المتعددة للتآخي الصادق، وصوته يجلجل قائلاً:
بحبّن كلّن، كلّن، كلّن
يهود نصارى واسلام
بحبّن كلّن، كلّن، كلّن
مهما تفرّقنا الايام
ألا يستحق هذا الشاعر وقفة تأمل واحترام؟.
ألا يستحق منا التقدير لهذا الحب اللاطائفي في زمن فاض بتجّار الطائفية؟.
أعتقد أن له علينا حق التصفيق والتحية والاعجاب، للأصالة، وللبحث الجاد الذي قام به ليظهر نمطاً جديداً من أنماط الشعر المشحون بخصوبة المعنى، الغني بالحوار، والممتزج امتزاجاً رائعاً بالعلم والفلسفة والفن، فوضع بذلك الارضية السليمة للشعر العامي، بعد أن استلهم شعره وصوره التعبيرية وآراءه من القاعدة الشعبية، أي من البشر أنفسهم، وهذا حسب رأيي من أعمق وأهم المدارس الشعرية على الاطلاق، لأننا لم نعد في عصر غزليات قيس وليلى، ولا في عصر الفروسية وشهامتها، ولا في عصر القبائل والتباري في نسبها.
ان الاحداث التي رافقت الشاعر في مراحل عمره، حفرت ذكريات طفولته في أعماقه بعد أن تمنطقت بالألم الذي يكوي أضلعه، وبالظلم الكامن في حنايا وطنه، لتعطي هذه الأهمية لأشعار قدّمها لنا بإنسانية رائعة، مستعرضة مراحل تجاربه، منفعلة بكل عناصر الحس الشعري، فانبثق الصدق من جنباتها، وكأنه ألوان تسطع لتضيء لنا سبل هذا العالم.
لا شك ان تجربته الجديدة ستكون محطة مميزة على طريق الشعر العامي الحديث، لأنك وأنت تقرأ مناجاته تشعر ان تلك المزامير فصّلت على مقياس وإطار معينين، فأصبحت كاللوحة التي يقف أمامها المتفرج مبهوراً من شدة جمالها، وعمق معناها، وتناسق ألوانها، فتتأكّد بعدها أن الشاعر كتب ورسم في آن واحد.
وسوف يدوّن التاريخ في سجله الذهبي إسم شاعر لم يسء فهم الأمور على حقيقتها، بل أعطاها بعداً إنسانياً مثالياً، ترجمه الى شعر مضيء عشق العدالة وتدلّه في هواها بعفوية وشفافية.
**
الشعر رسالة
أضواء على شعر ونثر شربل بعيني
بفتح قلبي تا حاكيك
بلاقيك بقلبي موجود
بأسها كلمات بناجيك
تا يحفظ كلماتي وجود
شربل
**
من حسن الحظ ان شربل بعيني ابتعد عن الروتين الشعري السائد، فقد عرف كيف يجعل الكلمة العامية مطواعة ومتناغمة، رقيقة حيناً، وعنيفة أحياناً أخرى، ولقد أحسست وأنا أسافر عبر مناجاته ان الكلمة تأتيه وكأنها قادمة الى احتفال، لأنه يعرف في أي مقام يوظفها، بعد أن يخضعها بكثير من الذكاء لتصوراته، وكأن في عمله تلقائية مدهشة، تتخطى القواعد الجامدة، لتجعل الصورة تتوضّح، مع تناغم شكل التعبير في أفق الشاعر من جهة، والمضمون من جهة أخرى، وهذا ما يجعلنا نكتشف اننا امام حصيلة باهرة من المفاهين والمعايير، التي تحلل مختلف الاوضاع والقضايا الآينة والمزمنة، في محاولة لايجاد الحلول لها، لذا حدّثنا شربل بما أحسّ به، بوحي من ضميره، وبدافع من معاناته، مبتعداً عن الغش والخداع، ومتمسكاً بالحقيقة المطلقة.
يقول شربل في ديوان معزوفة حب:
"قبل أن ترضي وأنت تكتب أحداً من النقاد، ارضِ نفسك، لأن الكتابة التي لا يصاحبها ارتياح نفسي تظل عقيمة وتافهة. المصيبة ليست في أن يقولوا عنك كذا وكذا، بل المصيبة في أن تتخلى أنت عن ثقتك واقتناعك المطلقين بما تكتب".
ويقول منبهاً القارىء:
"قريت شعري بحب إنك تفهمو"
إذن، هو مقتنع تماماً بكل كلمة كتبها، لا يخاف لومة لائم، فعندما كتب عن المواطنين في دوائر الدولة، لم يخف أحداً:
"ماذا تفضّل: الذهاب الى جهنم، أم الى دوائر الدولة؟
لو طرحنا هذا السؤال السخيف المحرج، لا بيني وبينكم لا يطلع أحد عن روحه، على سكان لبنان المقيمين والمغتربين، والذين على أهبة الولادة، لأجابوا كلهم بصوت واحد: "وجهنم بالعز أفضل منزل".
هذا هو شربل الساخر، وقد يدخل سخريته في أشد المواضيع وأهمها، لأنها تنبع من ألم الموضوع نفسه. وشربل بعيني الشاب اليافع المفتون بالحسناوات نراه يجمع بين الحب والسياسة بسخرية لاذعة بعد أن استجمع أعصابه لينال موعداً يسعد قلبه، لكن الحسناء تضعه في امتحان سياسي، فتحاوره، ويسترسل معها آملاً أن ينجح بالامتحان، ويفوز بلقائها. قال:
"وقعت يا شربل، أجل وقعت في أقل من دقيقة واحدة، وعرّضت نفسك لشماتة الشامتات والشامتين، ووشوشة الهامسات والهامسين، وذلك إثر موعد فمرض..
جميلة رأيتها كضوء القمر المنسكب فوق بحيرة ماء، وخلتها بادىء ذي بدء، حملاً وديعاً له فم يأكل، وليس له فم يتكلّم".
وينجح شربل في التحدث الى الحسناء، فتفاجئه قائلة:
"من تحب من رجال السياسة عندنا؟".
هكذا تدخل السياسة في كل شيء لتفسده، حتى في مواعيد شربل الغرامية!.
كتب شربل في شتّى المجالات والمواضيع، كالأسرة، والأمومة، والوطن. التربية والغربة. وكان في كل هذا شاعراً ثائراً لا يعرف حلاً وسطاً، ولا يهادن في الأشياء الجوهرية كالإيمان بالله. فإيمانه بلا حدود، وهو مبهور بالقدرة الالهية، وفي اعتقاده ان الانسان مهما عاش فلا بد من النهاية الحتمية: الموت.
ويشرح لنا إحساس الانسان بضعفه إزاء جبروت الخالق، فيفتح لنا بقوة إيمانه نوافذ نور تاغفران، فيقول:
متل الصخر بتكون يا إنسان
ومتل الورق بتصيبك الرعشه
يعني الخليقه الخالقا الديّان
تراب رجع تراب.. وتراب عم يمشي
أما الصداقة فلها مكان خاص في مشاعر شربل، من اقترب منه أحس بها، وتنعم بمشاعره الأخوية الصادقة التي يكنها لمن حوله، النابضة بتعامله وتصرفاته، واعتقد ان السجايا جاءت من صميم الاجواء التي عاشها، وهو المعروف عنه انه السبّاق دائماً بمد يد المساعدة لأصدقائه، إيماناً منه بمبدأ الصداقة أولاً، وبواجبه تجاه صديقه ثانياً، فيقول في هذا الصدد:
إيدي مدّيتا لصحابي
القصدوني ووقفوا ع بوابي
عرفوني "بقدّس" أحبابي
الخيانة صعبة، خصوصاً إذا كانت من صديق، لكن شربل رغم حبه الشديد لأصدقائه، قد يغفر مرات، لكن قلمه في النهاية لا يرحم من خان، فيقول:
كيف بدّو يرفع عيونو
ويتطلع بوجّي
وخانّي من دون ما خونو
ووسخ ضميرو بغبرة جنونو
وتاه خلف مواقفو الحرجه
وشربل الهربان من خيانة الناس والاصدقاء إلى من يلجأ؟ وإلى من يشكو؟ إنه يبحث عمن يبلسم جراحه، وبصدق غريزي مشبوب بالعاطفة البريئة، يلجأ الى صدر أمه، تلك التي أعطته الحياة، فاحتضنته طفلاً، وسددت خطاه رجلاً، أفليس بقليل أن يهمس في أذنها:
بدّي قلّك كلمه زغيره
بحبّك.. بحبّك
يا عيوني.. من عيون الغيره
خبّيني بقلبك
ويغضب شربل الطيّب عندما يرى حقوقاً تغتصب، وبشراً يئنّون من الظلم، فلا يتمالك نفسه، وقد ضاق ذرعاً، إلا أن يصرخ بشعبه:
ثور..
ثور..
شو ناطر يا شعبي.. ثور
فبرك من ضافيرك سيف
ومن آهات ولادك ثوب
ما بتحرق خيطانو النار
ويصب جام غضبه على من يسمون انفسهم ممثلي الشعب. أولئك الذين خانوا الثقة التي منحهم اياها الشعب، فلم يفعلوا شيئاً، يعملوا لمصلحته، فبمجرد وصولهم الى الكرسي، وتربعهم عليه، تنتهي علاقتهم بالناس، فيقول شربل ساخراً:
وبدّك الكرسي تكون من قدّام
تا تعرّم وينقال عنّك بَيْك
أكبر شرف بتنال لو بتنام
تا نقعّد الكرسي شي مرّه عليْك
ويحاول شربل أن يوقظ الضمائر النائمة، علّها تنهض وتدافع عن حقوقها، وهو مقتنع تماماً ان الحل لن يأتي إلا من داخل أنفسنا:
فتّح يا ضمير
فتّح يا ضمير
الناس اشتاقوا عليك
وع تفتيحة عينيك
وما بيسوى تنام كتير
مواقف شربل الوطنية، وحبه لوطنه احتكرت وقته، وكانت همه الأكبر فلم ينسَ للحظة واحدة انتماءه لبلده لبنان، ولا أنكر فضله عليه، وعندما وقع صريع الحرب، تساءل شربل أين الدول العربية؟ وماذا فعلت لإنقاذ لبنان؟:
قد تساءلت ملياً أين إخواني العرب؟
أين الذين شاركوني المنّ والسلوى
بليلات الطرب؟
أين الذين غامروا،
وقامروا،
وساهروا الإفرنج في العِلبْ؟
أين الذين فجّروا اللذات في أقبية المساء
وشربوا الخمور من أحذية النساء
وصدّروا البترول كي يستوردوا البغاء؟
أين الذين هجّروا الأقلام ثم أحرقوا الأدب؟
يمزّقت أرضي ولم يدرِ بموتاها العرب!
وبصدقه المعهود يؤكد لنا الشاعر ان اسباب الحرب في لبنان سياسية وليس طائفية، كما ادعى من يهمهم تدميره، وينبه الى أخطار تجار الطائفية، وكيف كان البعض من رجال الدين يشعلون نار التعصّب ويزكون الفتنة بين الناس الأبرياء، فيحذرنا شربل من تصديقهم، ويهددهم بالعقاب الأليم، ان لم يكن على الارض، ففي السماء حيث البكاء وصريف الأسنان:
تجاره تجاره صفّى الدين
بإيدين رجال ملاعين
شيوخ وكهنه وحاخامات
ع شفافُن مطبوعه الـ هات
وبحيبُن خبّوا ملايين
إلى أن يقول في نفس القصيدة:
مفكّر إنّو بهالدجيل
رح يرضيك ويرضينا
وما بيرضي غير الشيطان
ويتعب شربل، ويكاد يصل الى حدود اليأس، لولا ايمانه الكبير بالعدالة السماوية، وبأن الخلاص لن يكون إلا بمعجزة إلهية، وبكل الصفاء الروحي يتوجّه الى الله متضرعاً:
بعرف إنك ما بتتركني
مهما تسوَدّْ الايام
ماشي وإيدك بتباركن
انت العين الما بتنام
وبكل الحب ينادي جميع الطوائف لتتكاتف وتتضامن لمصلحة الوطن وابعاد شبح الحرب عن الأرض، والعرض، فيمد يديه نحو المجهول، ويصرخ بأعلى صوته:
هات إيدك هات
تا إشبكا بديّي
عهد التعصّب مات
فيق يا خيي
الانجيل والقرآن
ما فسّروا الإيمان
نعرات دينيه
وتأكّد الاسلام
خيّ المسيحيّه
وبآخر الايام
القوّه الإلهيه
اللي مسيّره الأكوان
ع ذوقها هيّي
بتوحّد الإنسان
بجنّه سماويه
ويعود الأمل الى قلب شربل، مبشراً إياه بغد أجمل، يعلمنا كيف تكون الحياة ولو بالحلم:
جايي انتْ جايي
يا مركب البدايه
من أحلام ولاد
خلقوا بقلب حكايه
ما بتعرف نهايه
تا يعيشوا ببلاد
مراجيحا بالعالي
ونجوما دوالي
وسنينا أعياد
وها هو العيد قد هلّ، بعد أن أشرقت أنواره السماوية من وريقات ديوان جديد، أصدره شربل بعيني بعنوان مناجاة علي، ضمّنه كل فلسفته الشعرية، التي حصدها من حقول انسانيته الواسعة التي قضى عمره وهو يحرثها ويبذرها وينميها.
فماذا قال شربل بمناجاته؟
**
المناجاة
موضوعنا الأساسي
منّك كان البدّو يكون
ومن دونك ما كان الكان
شربل
**
.. ونصل إلى موضوعنا الأساسي مناجاة علي، ديوان مؤلف من 136 صفحة، من الحجم الصغير، طبعة أولى 1991، يضم عشرين مزموراً، ويمكنك حمله في جيبك، أو إيداعه مكتبتك.
صمّم الغلاف والرسوم الداخلية الفنان جورج الحداد، فأجاد كل الاجادة بتلك الرسوم، وخاصة الغلاف، فجاءت الشمس بشعاعها الذهبي لتدل على علوم الامام علي بن أبي طالب، التي تسطع في دنيانا، وننهل منها كنبع لا ينضب، وهل من شيء يطغى على نور الشمس؟.
أما اللون الأسود المحيط بالشمس، فهو لون الحزن الذي يحكي لنا سلسلة المآسي والنكبات والاضطهادات التي تعرّض لها الامام علي وأهل بيته،عليهم السلام. ولو شئنا لقلنا انه يفتح الحزن على استشهاد المثل العليا، التي يقوم باغتيالها ثعالبة العصر، فتأتي المزامير سمفونية تداوي جراحنا المزمنة، تسافر معها عبر النسيم الى البعيد البعيد، لأنها نسيج من الصدق الفكري، والروعة الفنيّة الممزوجة مزجاً رائعاً بالفلسفة، بحيث تضيء الصور البراقة عتمات الذات، فتحسّ وأنت تقرأها انك تعيش النقاء والصفاء، تتماوج فيها درر من الكلمات الحديثة الراقية، بانسجام تام مع الفكرة، ولغة قوية مشرقة وغنية، محاطة بغزارة في المعنى، تسكب على مسامعك تموجات حانية من الألحان، ثم تنتقل بحرية داخل مسام الجلد لتلامس شغاف القلب، وتمر عبر أحاسيسك لتستقر في وجدانك.
في العشرين مزموراً ينشد الشاعر نوعاً جديداً من الشعر، يتضوّع منه طيب الانسانية كنهر سخي صاخب، لا يمكنك أن تبعد ناظريك عن مجاري سطوره، ولا تملك، وأنت تسافر عبر ترانيم تدفقه، إلا أن تشارك الشاعر مشاركة فعلية بكل كيانك، فتارة تشاطره البكاء، وتشرب معه كؤوس المرارة، وطوراً تستريح تحت ظلال وارفة من الحب والأمل والايمان، وأنت تشعر بالحقيقة تسطع من قلمه وما كابده، فتعيش معه دقائق الرحلة لحظة بلحظة، وتصل الى قناعة ان ذلك كله صدى لصراع الانسان الداخلي ومعاناته يصورها الشاعر تصويراً دقيقاً مغايراً للمألوف، فتتمايل طرباً لدقة التصوير مع سحر البيان. وليست المزامير رحلة واحدة، بل انك تجد ان لكل مزمور مذاقاً خاصاً به، ورحلة منفصلة عن الأخرى، ترتدي فيها رداء الشفافية لرقة الكلمة، ويسهل لك الانتقال الى حياة جديدة، تعيشها وتستمتع بها، راضياً زاهداً في الدنيا من شدة الايمان، مما يجعلك تشعر بالظمأ والشوق الدائمين الى تلك الحياة التي تقترب من أسطورة الكمال.
ثم لا تدري إلا وقد أعلنت التمرد والعصيان، بانفعال، نحو ثورة طاغية عنيفة، لعلها نحقق لك دنيا جديدة خطط لها الشاعر، وتتأكد ان الشعر عند شربل له نكهة مميزة، تمتع حسّك ونبضاتك في لحظة واحدة بأسلوب خاص وبعد في المعالجة، لدرجة تصل معه فيها الى الماورائيات، تكتشفها، تلامسها، وتتيقّن ان المزامير أصبحت ملجأً ومتنفساً لك بتأثير مباشر لا يرتبط بظرف تاريخي معيّن، بل هو مرتبط بكل أبعاد التاريخ.
وتراه، في مزمور آخر، مستسلماً، تتقاذفه أفكار اليقظة، وهذا شيء حتمي، ثم تؤاتيه الفرصة ليجعل من الكلمة مصيراً، موطناً أبدياً للإنسان الذي يرى في الشعر حياته، بحلاواتها ومرارتها.
بين حروفه يسترجع أحداثاً تثير طاقتنا، وتتوالى هادرة مدوية، همّه أن يدخل شعره الى قلوب الناس، كما اراد للفكرة ان تكون شاملة وعامة، فيعتمد على انتقاء الصورة النقية بعد أن يموسق كلماتها.
تصدم وسط هذا كله، وانت مسترسل في رحلة تعيش أحداثها بكل انفعالاتك الى نهاية المزامير، وتتمنى لو أن الرحلة طالت، وكأن شربل تآمر على حواسنا، واستكثر علينا تلك الرحلة الممتعة التي عشنا لحظاتها بانبهار تام، فاختصر المسافات واختزل أحداثها.
حبذا لو كان الديوان الذي استرحنا على أرائكه، وتوقفنا في محطاته، أكبر حجماً، والمزامير أكثر عدداً، لتطول لحظات الاستمتاع. ولكن ما حيلتنا اذا كان لكل شيء نهاية؟
يبدأ الشاعر أول مزاميره بسؤال يحيّره:
سألتك عن حالي جاوبني
كيف بخلّص حالي.. وكيف
بهرب من عالم تاعبني
ما بيتلاقى فيه نضيف
شربل يبحث عن شيء ما، ضاع منه منذ زمن طويل، وهذا الشيء الهام الذي افتقده هو في داخله، ويتساءل في حيرة عن النفس البشرية التواقة الى عالم من الشفافية، فيسأل الامام الذي يمتلك معاني الفلسفة أن يمنّ عليه بجواب، أي جواب. تساؤل عفوي، يكتنفه شعور متأجج يجول في أعماقه، ولا يخرج الى عالم النور.
ترى عن أي نظافة يبحث؟ هل هي نظافة الجيوب؟ أم نظافة اليد؟ أم الأخلاق..؟
لا بد انه يبحث عن كل ذلك، فالجيوب امتلأت من التجارة بالشعوب وابتزازها، والأيدي ملوثة بالسموم، وملطخة بدماء الابرياء، والاخلاق صارت عملة نادرة نتوق الى وهجها، فتخنقه المساوىء والمفاسد والموبقات.
ويتألّم شربل لمصير الانسانية، ويرى ان الانسان الذي خلقه الله على صورته ومثاله بات رخيصاً، وأصبح يستخدم ذكاءه وعقله للقتل والتدمير، والانسانية تباع وتشترى في كل مكان كأرخص سلعة، والشاعر يبحث عبثاً عن طفولة بريئة تخدم ذات الانسان ونشأته ونموه.
ويعلو صوته حاملاً أحاسيس الناس، فيقول:
كل شعوري بمزاميري
ومزاميري شعور الكل
الشعور، الحب، الإلفة، الرضى، كلها استهدافات معينة لا تتجزأ، طالما أن الغاية الاساسية خدمة المجتمع الواحد، والمصير الواحد.
ويمتلك الامام تفكير شربل:
يا علي المالك تفكيري
من تفكيري فيك تطل
فإذا أطل فكر الامام من فكر شربل، تطل معه المثالية في مجتمع متكامل لا فرق بين طبقاته.
ويتباهى شربل بإعجابه بالامام:
بحبّك يا أكبر من حبّي
با نور الفايض بالنور
لو ما توجّتك ع قلبي
تتويج اللي مرقوا.. زور
تحرّك الصمت في إنسانية شربل بعيني ليعلن حبّه. يحبّ الامام بكل جوارحه، ويتوّجه على قلبه، ليتوّج بذلك كل ما هو جميل ونظيف وعادل، ويحس بالسعادة لهذا الحب، ويستريح إذ يدرك أنه في حياته الماضية، وقبل معرفته بالامام، كان يعيش في مجتمع موبوء، نبراسه الغش والخداع والتزوير، لذا هو سعيد جداً باكتشافه هذا الحب الذي يقاوم به لسعات الزمن.
وإعجاب شربل بالامام ليس له حدود، فيناجيه قائلاً:
إسمك رسمك، جسمك، عندي
تالوت مقدّس منجلّ
مفكر، عالم، واعظ، جندي
سيّد.. ما في كلمه تدل
ولا يجد شربل الكلمة التي تنصف الامام، وتدل على نبوغه وعلمه وفكره، فيحيطه بهالة من الاحترام والمهابة، تضفي على كلماته لمسات من الحنان والنبل، تارة يلجأ الى الابداع مستعيناً بكل هذه الصور الشعرية الرائعة، وطوراً يرغب بوصول صوته الى عنان السماء، لترقص الطبيعة معه فرحاً، ولتشاركه هذا الحب الكبير:
صوتك حقل، وكتبك غيم
بيسقوا مواسمنا ع طول
تا نشبع بليالي الضيم
تا نقوى ونلم فصول
وتشاطر الارض شربل غناءه، فتزغرد فرحاً لحنان السماء عليها، تلك التي بعثت غيومها تروي مساحاتها العطشى، تماماً كفكر الامام، كثير المواسم، يغني أيامنا بالمعرفة، التي ليست لشخص معيّن، بل لكل الناس.
ويترك شربل نفسه على سجيتها ، يبوح بكل ما يجول في داخله، لدرجة يجبرنا معها ان نتساءل كيف صاغ هذا القول من المزمور الأول، وعلى أية قاعدة ارتكز، ليقول وبكل ثقة:
يا مكمّل حالك بحالك
يا سر.. وحافظ أسرار
من فلسفتك.. من أقوالك
شعّت شمس، وطلع نهار
قد يقف البعض أمام هذا المزمور، والدهشة ترتسم على وجوههم، ليتراءى لهم السؤال: كيف يمكن للامام أن يكمّل (حاله)، وما هي تلك الأسرار التي يحفظها؟ نقول في هذه النقطة:
اولاً: استناداً إلى آيات كثيرة من القرآن الكريم، وإلى احاديث الرسول في الامام، كذلك أقوال الامام نفسه، الذي قال:
"ولدت مسلماً ولم أعبد إلا الله".
وأيضاً:
أنا عبد الله وأخو رسول الله.. أنا الصديق الأكبر لا يقولها بعدي إلا كذّاب، صليت قبل الناس سبع سنين".
رواها ابن ماجة، والطبري، والحاكم.
كما يقول الامام في إحدى خطب نهج البلاغة:
"ما وجد لي كذبة في قول، ولا خطلة في فعل".
كذلك قوله:
" كنت أرى نور الوحي والرسالة وأشم ريح النبوة، ولقد سمعت رنة الشيطان، فقلت يا رسول الله: ما هذه الرنة؟ فقال هذا الشيطان قد يئس من عبادتك، انك تسمع ما أسمع وترى ما أرى، إلا انك لست بنبي، ولكنك الوزير، وانك لعلى خير".
وهناك قول مشهور للامام:
"علمني رسول الله ألف باب من العلم. كل باب يفتح في ألف باب".
إذن، فتح الرسول (ص) للامام ألف باب، وأكمل بنفسه باقي الطريق، فأتمّ شخصيته وأخلاقه، وحافظ على سر الدعوة الاسلامية قبل إعلانها، عندما كان الخطر يحدق بها من كل جانب. فإذا أدركنا كل هذه المزايا والعطايا ذهبت الدهشة.
وتتلألأ أشعار شربل كبرياء ووقاراً، خاصة عندما يقول في المقطع الأول من المزمور الثاني:
بيصلّوا تا يرضى عليك
ألله..
ويرفض الشاعر قول الناس للإمام (رضي الله عنه)، لأنه لا يحتاج إلى دعائهم، فهو متأكد من رضى الله عنه، لأنه أول من لقّب بالامام لسبقه الى الاسلام، فما سجد الى صنم منذ كان جنيناً. ففي نظر الشاعر ان الامام كان أتقى الناس، واكثرهم عبادة لله، يلفّه الحب والشوق للقائه، مجاهداً في سبيله، مفسراً لكتابه، ومن كان في تقى الامام وعبادته، فالله يرضى عنه.
ويلوم شربل من ينسى فضله، فيقول:
وبينسوا مينك
مرسل.. والصوت بدينيك
هذا يعني أن أفعال الامام كانت كلها بأمر إلهي. الى أن يقول:
باقي.. وانتهيوا سنينك
صوت شربل هنا، كصوت الناي الحزين لرحيل الامام. سنوات العمر انتهت، لكن ما تركه من آثار وأفكار ومنهج باقٍ ما دامت الدنيا باقية.
ويلقي شربل الضوء على شخصية الامام:
مش جايي للصحرا بس
لناس بيحكوا بلسانك
جايي تكحّل عين الشمس
وتلوّنها بإيمانك
من حق الانسان ان يعيش بسلام، هذا ما يريد أن يقوله لنا الشاعر، وان أفكار وعدالة الامام لم تكن لسادة القصور، بل لكل الناس، وفي أي مكان وجدوا. كما ان فكره أمل الفقراء والمسحوقين الذين مهر العذاب قلوبهم، وسحق القهر أبدانهم، فوطئتهم خيل الظلم والظلام، ولسعتهم أفاعي الايام، ثم داستهم حوافر التجار:
كل الناس اعترفت فيك
ومتلك ما عرفت هالناس
اختلف مع العزيز شربل في هذا الاطار، فكثير من الناس لا يعترفون بالامام، انهم كثيرون جداً، كالطائفيين، والسفهاء، والطامعين بالمناصب، الذين يكرهون عدله وحلمه وانسانيته، وأكثر ما يكرهون سيفه المسلط على رقابهم، وما أكثرهم في مجتمعنا. الى أن يقول:
بتسامح يللي بيؤذيك
وبتعطي من دون قياس
ويقصد شربل استشهاد الامام على يد ابن ملجم، وكانت وصيته الى ابنائه (ع):
"ان عشت فأنا كفيل به، وان رحلت، فضربة بضربة، لا تمثلوا بالرجل، اطعموه من طعامكم، واسقوه من شرابكم".
وحين قدّم له اللبن، لم يرضَ أن يشربه قبل أسيره. هكذا سامح من أذاه أذى عظيماً كان فيه انتقاله الى رحمة الله.
أما عن عطائه اللا محدود، فقد شهد له فيه أعداؤه قبل محبّيه. قالوا:
"لو كان ابن ابي طالب يملك بيتاً من تبر وبيتاً من طين، لأنفق بيت التبر قبل بيت الطين". بلا قياس ولا حساب.
ويدهش شربل لاختلاف الناس حول الانجيل والقرآن، فيقول:
شو الانجيل؟ وشو القرآن
كتب ونزلت كرمالي
فسّرتا.. قلت: الديّان
واحد، تا تريّح بالي
انها كتب سماوية أنزلت لخير الناس، فلماذا نختلف وكلها تدعونا الى طاعة الله؟
مثل ناسك في محراب الحب الإلهي، يتساءل شربل، ويرغب في إقناعنا، ان الكتب المقدسة، وجدت لخيرنا، ومسرتنا، وراحتنا، وليس للاختلاف عليها، إذ انها تصب مجتمعة في محيط سماوي لا يدركه التفسير.
وشربل بعيني يحب الله، ويؤمن به على طريقة الإمام، ويتمثل بقول الامام:
"ما عبدتك خوفاً من نارك، ولا طمعاً في جنتك، ولكني وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك".
ويقول مخاطباً الامام:
مش خايف من نارو.. كنت
ولا طمعان بجنّاتو
شفتو محبّه.. متلك إنت
حبّيتو هوّي بذاتو
هكذا يحب شربل، لا طمعاً في جنة، ولا خوفاً من نار، لأنه مؤمن بأن الله محبة.
ويتمسّك شربل برفقة الامام، فيخاطبه قائلاً:
انت رفيقي وين ما بروح
طيفك عن عيني ما غاب
ساكن بالقلب وبالروح
بآيات انكتبت بكتاب
ويغمض عينيه، مسروراً بحلم سيبقى طيفاً رائعاً في بؤبؤ العين، مطبوعاً في قلبه، كما الأحرف في الكتب، ساكناً روحه أبد الدهر، رغم ان خيال الشاعر، في هذا الشطر، يذهب الى أقصى ما يمكن الوصول إليه، إلى أن يتحوّل الى مرحلة الجهاد عند الامام، فيروي لنا قصة كفاحه:
قاتلت الباغي وربحت
تا تريّحنا بجهادك
ما فهموا الصيحه اللي صحت
قتلوك.. وقتلوا ولادك
وتحت وطأة الوجع، يستطلع الشاعر ذكريات الماضي، ويتذكر ما سجله التاريخ على صفحاته من ملاحم الانتصارات التي قادها الامام ضد الظلم، وكان النصر حليفه، وما سلّ سيفه إلا وأطاح برؤوس الظالمين.
وعندما دوت صرخته بوجه الظلم، قاتلوه، وحاكوا مؤامرة لقتله، ليقتلوا القيم المتمثلة فيه، فكان استشهاده واستشهاد أبنائه من بعده، دفاعاً عن تلك القيم.
وتفيض مقلتا الشاعر بدموع الحزن، ويزيح الستار عن أكبر المآسي التاريخية، وأكثر الجرائم فظاعة، تلك التي تعرّض لها أئمة البيت النبوي الشريف، ويقرأ لنا صفحات من التاريخ الأسود.
ها هي جعدة بنت الأشعث بن قيس زوجة الامام الحسن، تدس له السم بإيعاز من معاوية، طمعاً بالمال وبالزواج من يزيد، كما وعدها معاوية، بغية اخلاء الطريق لفسق وفجور يزيد.
وها هو الابن الثاني، الامام الحسين شهيد كربلاء، التي يخجل التاريخ من سرد وقائعها، ويتمنى لو لم تسجل في صفحاته، فيقول شربل واصفاً المأساة:
يا بو الحسن إبنك مات
وإبن التاني بكّاني
تلاته ضحّوا بالدمّات
كرامة حقّي الإنساني
هذه هي النظم القبلية تنفّذ مؤامراتها على الشرفاء الذين ضحوا بأنفسهم كي لا تسلب حقوق الانسان، ويصف النا الشاعر النساء، وحفيدات الرسول بقوله:
زينب تبكي!.. وين العدل؟
زينب الحنون الثكلى تذرف الدموع على حسينها، ولكنها في قصر يزيد بطلة جريئة صامدة، تنظر اليهم بعيون الاحتقار، تقرعهم بخطبتها البليغة، ولِمَ لا، وهي ربيبة الايمان والبلاغة، ووالدها الامام سيد البلاغة:
"الحمد لله، والصلاة على أبي محمد وآله الطيبين الاخيار. أما بعد، يا أهل الكوفة ، يا أهل الختل والغدر!!
أتبكون؟ فلا رقأت الدمعة، ولا هدأت الرنة.
إنّما مثلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً تتّخذون أيمانكم دخلاً بينكم.
ألا وهل فيكم إلا الصلف النطف؟ والصدر الشنف؟ وملق الإماء؟ وغمز الأعداء؟
أو كمرعى على دمنة؟ أو كفضة على ملحودة؟
ألا ساء ما قدمت لكم أنفسكم أن سخط الله عليكم وفي العذاب أنتم خالدون.
أتبكون؟ وتنتحبون؟
إي والله، فابكوا كثيراً واضحكوا قليلاً.
فلقد ذهبتم بعارها وشنارها، ولن ترحضوها بغسل بعدها أبداً.
وأنى ترحضون قتل سليل خاتم النبوّة؟ ومعدن الرسالة، وسيّد شباب أهل الجنّة، وملاذ خيرتكم، ومفزع نازلتكم، ومنار حجّتكم، ومدرة سنّتكم؟؟
ألا ساء ما تزرون، وبعداً لكم وسحقاً، فلقد خاب السعي وتبت الأيدي، وخسرت الصفقة، وبؤتم بغضب من الله، وضربت عليكم الذلّة والمسكنة.
وَيلكم يا أهل الكوفة !
أتدرون أيّ كبدٍ لرسول الله فَرَيتُم؟!
وأيّ كريمةٍ له أبرزتم؟!
وأيّ دم له سفكتم؟!
وأيّ حرمةٍ له هتكتم؟!
لقد جئتم بها صَلعاء عَنقاء سَوداء فَقماء، خَرقاء شَوهاء، كطِلاع الأرض وملء السماء.
أفعجبتم أن مطرت السماء دماً، ولعذاب الآخرة أخزى، وأنتم لا تُنصَرون. فلا يَستَخفّنكم المُهَل، فإنّه لا يَحفِزُه البِدار، ولا يَخافُ فَوتَ الثار، وإنّ ربّكم لبالمرصاد».
حفيدة الرسول (ص) تسأل عن العدل الذي طبّقه جدّها ووالدها وأخواها، ثم اسنشهدوا في سبيله:
وجدّا الرسول المختار
يللي بإسمو اغتالو النسل
زغيره.. لو ينزتّوا بنار
لا، لا يستطيع شربل أن يمحو الجريمة البربرية من خياله.
لا يستطيع أن ينسى الحسين، شهيد كربلاء، الذي قال فيه جدّه انه سيد شباب أهل الجنة. ويتخيله وهو يحمل بين يديه طفله الرضيع، الذي يشكو العطش، فيرمونه بسهم حاقد أسود، ليصبح جثة هامدة في حجر أبيه الحسين.
ترى كيف كان احساس الاب ساعتئذ؟ وهل تمكن من الصمود أمام الفاجعة، لولا ايمانه بقضاء الله تعالى وعدله؟
وها هو الرأس الشريف يفصل عن الجسد، ويوضع على أسنة الرماح، يطاف به شوارع دمشق، ويلعب الفاسقون بفم الشهيد الذي قبله النبي (ص) مرات كثيرة، والذي قال فيه: "حسين مني وأنا من حسين". والجسد الطاهر هناك في كربلاء، تدوسه سنابك الخيل، والبطلة زينب، بطلة كربلاء، تتلقى بين ذراعيها أهلها الواحد تلو الآخر، وشربل الذي أراد أن يسترجع الفاجعة ويعايشها بكل تفاصيلها يشير الى يزيد، وأمثال يزيد، ويقول ما معناه: ان جهنم ونيرانها لهي صغيرة امام جرائمكم.
ولا يخجل شربل من البكاء على شهداء الانسانية والعدل، في كل زمان، فالدمع الصادق حين يسكب من أعين الرجال لهو دليل رقة القلب وصدق العاطفة، وان اي انسان يمتلك ذرة شعور واحساس، ليقف شعر رأسه هولاً من فظاعة الجريمة.
سلسلة الاستشهاد لا تتوقف، أحد عشر إماماً من سلالة النبي (ص) يستشهدون من أجل المبادىء ذاتها: العدل بين الناس.
ويتمالك الشاعر نفسه، ويتذكّر قول الامام:
"لا بد من العودة الى الحق، لأن الحق هو المنتصر في النهاية".
فيحاوره من خلال أقواله:
قلتلي: لا تصارع حق
الحق بيربح مهما كان
وبعد سنين الماضي انشق
وحقّك متل الشعله بان
فالشاعر يتغنى بكرامة الإنسان، يطرز كلماته بوشلئح نقيّة، تخفي بين حروفها ألماً وشكوى، ويفوح منها عبير البساطة، ثم يغدق عليها صدقه بدون مواربة، ويغلفها بالحماسة كي يجعلنا داخل الصراع الحقيقي، بل جزءاً من الصراع نفسه:
وقلتلي: الباطل مغلوب
ومغلوب الغالب بالشر
مشْيِتْ فوق الكلمه شعوب
أكلولا حقّا بالسر
فالإمام يقول:
"من سلّ سيف البغي قتل به، وفاعل الخير خير منه، وفاعل الشر شر منه".
هذا المسير، وهذا الخوف المرتجف، يشعراننا اننا مسجونون في شرنقة لا يمكننا الفكاك منها. لذا علينا ان نقلب الموازين، ونكافح من أجل حقوقنا، نطرد الخوف، نعبر الى سلوك آخر، نقتل الصمت حتى لا نعود الى نقطة الصفر.
ويعود شربل بعيني الى استعارة اقوال الامام، ليصنع منها أساس بنائه الشعري:
لا تتعصّب.. قلت.. وزدت
تعصّب لمكارم أخلاق
لكن لمّا نتفه بعدت
شبعنا من الجهّال نفاق
التعصب الطائفي هو البلاء الأعظم، وهو الذي يدمّر كل الجمال في حياتنا. هذا المرض الذي يأكل سنيّ العمر، هذه الآفة المرتبطة بظروفنا وما يترتب عنها من معاناة، فكيف يكون الحل الجذري لهذه المشكلة؟. لذلك نرى الشاعر يدعونا لأن نكون شديدي التماسك ضد هذا التيّار الجارف المدمر، نحاربه بكل ما نملك من وسائل وإمكانيات، ونتمسك بالاخلاق والعادات الاصيلة، وإلا ستنفجر براكين الطائفية البغيضة، وتقضي على جمالات الخالق فينا، وعلى إنسانيتنا كبشر، جاؤوا ليعيشوا سني عمرهم ويرحلوا:
لا تتلوّن بحياتك
ولا تخدع خيّك تا تعيش
سمحلي فسّر كلماتك
دراويش الناس دراويش
على الانسان ان يكون واضحاً، لا يتلوّن بألف وجه ووجه، ليخدع اقرب الناس إليه، وينسى الروابط العائلية والدموية والاجتماعية.
هذا ما يرفضه الشاعر، ويحذّرنا من الوقوع فيه، ويتمنى علينا أن نكون واضحين كما تفرض علينا انسانيتنا ان نكون، أي كا قال الامام:
"عاتب أخاك بالإحسان إليه".
وتتوالى نصائح الشاعر المقتبسة من كنوز الامام، فيقول:
الحقد اللي بصدرك تقيل
شيلو.. بتشيلو من الناس
وبعّد عنّو مليون ميل
ولا تلبس للشر لباس
وتخرج الآه من فم شربل مقرونة بالألم، الكذب.. ما أبشع هذه الكلمة، وكم يكرهها الشاعر، ككل إنسان حر الضمير، ويتمنى علينا القضاء على الكذب في ممارساتنا، والابتعاد عنه، لأنه مصدر الشر، ومتى طردناه من نفوسنا، استمتعنا بمباهج الحياة، فالكذب لا يعرف الجمال:
لا تصاحب واحد كذّاب
ولا البيعانوا من بخلُن
وعود الكذّابين سْراب
والبخلا.. اغتنيوا بجهلُن
لا يستطيع شربل السكوت في هذه الحالة، ولا ان بأخذ دور المتفرّج اللاجم قلمه، لكنه انبرى ليوضح كل هذا، مخافة أن يقوى الزمن علينا، ويقبض على الحقيقة، وتصبح الكارثة واقعاً ملموساً، فيتقمّص الشاعر ضمير الناس:
كون منيح وضحّي المال
لخيّك يللي بتوثق فيه
ومدلّو إيدك بالحال
حتّى تآخيه.. وتحييه
ترفّعوا عن الصغائر حين يتوجّب عليكم التضحية بالمال من أجل أخ لكم في الانسانية، عليكم ان تمدّوا له يد المساعدة، ففي انقاذ اي انسان متعة روحية يهون في سبيلها كل شيء مادي:
ولما بيرق نصرك طلّ
وكان الربح كتير كتير
زعلوا منك.. كيف الكل
بيتساووا بعدلك يا مير
اذن، هو مقتنع تمام الاقتناع ان النصر في النهاية للعدل، للناس المسلوبة حقوقهم، ويعطينا مثلاً على ذلك ما قاله الامام نفسه (ع) حين ساوى بين الناس، غنيهم وفقيرهم، حتى غضب الكثيرون منه لعدله، وبعضهم كان ذا رابطة عائلية به.
ولا يقف غضب شربل عند حدّ معيّن، بل يسلط قلمه ضد كل من يحاول تدمير الانسان، لا فرق عنده بين رجال دين ورجال دنيا:
رجال الدين ل عنّا جناس
بقولا.. وقلتا.. وبرجع عيد
زرعوا الفرقه بين الناس
ووعدوا الناس بعمر جديد
صدق شربل، فرجال الدين أجناس، فريق منهم يعمل لله بنية خالصة، وهم الأقلية، ومنهم من يزرع التفرقة في قلوب البشر، والتاريخ حافل بقصصهم، واستبدادهم، واستعبادهم للناس، يستغلون الدين لمصالحم الشخصية، وليس فيهم من مزايا الدين سوى لباسهم.
البعض منهم، كما روى التاريخ، كانوا يبيعون صكوك الغفران، يضحكون على البسطاء، ليملأوا جيوبهم بنتاج عرق الفقراء، ومنهم من يملك الأرض والضياع، يجبر الناس على العمل عنده بالسخرة، مستتراً بالدين، لينال أغراضه.
لكن شربل بعيني يكشف عيوبهم، يعريهم من خبثهم، لتبدوا لنا حقيقتهم عارية، وهنا يكمن شعره، فلا يهمه حاكم ولا سلطان، ما دام الحاكم والسلطان ورجل الدين يتمادون في غيّهم وظلمهم، ويتمنى في قرارة نفسه اسقاطهم عن كرسيهم، لينصب الشعب حكاماً بدلاً عنهم. هذه هي عظمة الشعر والشعراء. ببيت واحد من الشعر يصبح الظالم عرضة للتعليقات الساخرة واللاذعة في آن معاً، فلا أسرار بين شربل والناس، انه يكشف كل شيء أمامهم.
ويغوص شربل في خصوصيات الامام، ويرى أحقيته بالبيعة، فيتألم لمصير المسلمين، ويندهش لاختيارهم الطريق المضاد للإمام، مع العلم انه كان يريدهم لله خالصي النيّة:
بدّك يانا لألله نكون
فايض فينا حب الخير
استحيت من بيعتها عيون
باعت دمعاتا للغير
شاعر جريء، لا يستحي من التأنيب، ويعرف كيف يهز عصاه، لكل من ابتعد عن جادة الحق، والحق كل الحق، يكمن في اتباع طريق الامام، لذلك نراه يشمت بالضالين من الناس، شماتة نابعة من إيمانه بأنهم لو ساروا على درب الامام لكانوا هم الفائزين، وينبه حواسنا الى حقيقة أكيدة لا جدال فيها. إن من يزحف خلف جنون المال، مهما جنى من ثروات، سيترك كل شيء ويرحل:
ما بدّك يانا نزغر
ونزحف خلف جنون المال
أعمار الكل بتقصر
وما بيبقى غير الأعمال
فما دام الموت مصير الانسان في النهاية، فلماذا لا نبني حياتنا على أسس من التفاهم ولو بنسبة بسيطة؟
ويدخل شربل مدخلاً جديداً في هذا المزمور، إذ يحدّثنا عن الامام بإعجاب شديد، فيقول:
وصفت النمله والخفّاش
وصف الخالق للمخلوق
وصفت منافق عم يعتاش
من كذبو.. ويفتحلو سوق
المقصود هنا، خطبة الامام التي يصف فيها النملة، تلك الحشرة الصغيرة التي يصفها وصفاً دقيقاً يعجز عنه فطاحل الادباء والشعراء. ثم وصفه للخفّاش بلغة أدبية رفيعة المستوى، يصعب على غير الامام ان يخوض فيها.
كذلك دقّة وصفه للمنافق الذييتطاير الشر من فمه كرذاذ لعابه. أي أن الامام لم يترك أمراً من الامور إلا وحدّثنا فيه وعنه، ولا ينسى الشاعر بلاغة الامام في الصيغ الوصفية التي استمدها من قوة ايمانه بالله، ويقينه بإبداعه في خلقه.
ويدهش شربل، كيف كان الامام يجد الوقت الكافي للحديث عن كل شيء في زحمة مشاغله وجهاده ومتاعبه:
وصفت جْراده عيونا حمر
وصف بيعجز عنّو العلم
كيف شفتا بزحمة هالعمر
كيف صوّرتا.. وكان الفِلم
ونحن ندهش أيضاً، كيف وجد الامام الفرصة للحديث عن كل الأمور التي صوّرها لنا، وكأننا نشاهد فيلماً سينمائياً في غاية الدقة.
ويزداد شربل دهشة، كلما تعرّف أكثر، وتعمّق أكثر، حتى يصل الى علم الجغرافيا عند الامام، وطبيعة الارض ودوارنها وقوانينها:
يا علي اللي بتعرف سرّ
الأرض.. ومخلوقاتا كْمان
بعيش الفرحه لمّا بقرّ
إنك أكبر من إنسان
ويرى أن من يعرف هذه العلوم الدقيقة، وهذه الأسرار، هو أكبر إنسان، إذ لا يمكن أن تتجمّع لدى إنسان واحد كل هذه العلوم. والشاعر بتلقائيته، طالب علم، وبحاجة ماسة لكل علم، وأي علم، ويتمنى فوق ذلك ان يتعلّم كيف يمارس تواضعه، كي يكون جديراً بالانسان والمبادىء الانسانية، وكي يقلع عن التفكير في الانتقام ممن يسيء اليه، خاصة انه لا يميل بطبعه الى مبادلة الشر بالشر:
علّمني سامح أعدائي
ل طعنوني بخنجر مسموم
ويطلب المزيد، فيذكرنا بقول الامام (ص):
"منهومان لا يشبعان، طالب علم وطالب مال".
لكن شربل طالب علم، وآخر شيء يفكّر به هو المال، طالما ان مصير الانسان معروف النهاية، فلا ثراء ينفعه ولا مال:
علّمني إتواضع أكتر
كنت ورح إبقى من تراب
مسكين العا خيّو تكبّر
مش حاسب للموت حْساب
الصدق صفة جميلة في الإنسان، وكم يلذ لنا التعامل مع الصادقين، كشربل بعيني وأمثاله من الرواد الغارقين حتى آذانهم، بهموم الناس:
علّمني اصدق مع نفسي
تا اصدق مع كل الناس
يا علي.. وع مْشارف أمسي
علّقلي فجري نبراس
ما أروع الانسان الصادق مع نفسه، لأنه سيكون صادقاً مع كل الناس.
ويصرخ شربل، فتشق صرخته الصمت، ليعترف بالضياع حقيقة صريحة لا تبارح مخيلته المشحونة بالألم، يبحث عن شيء مفقود:
ضايع وحدي وبدّي إحكي
تعبان من وجودي وجود
بتذكّر شو صابك ببكي
الساعات الما إلها حدود
إنه حائر، يختزن في صدره ألماً هائلاً، وكأنه يعبّر عن معاناة عميقة، تهز كيانه، وتفجّر دمعه، كلما تذكر ما أصاب الامام، وما أصاب المسيح، وكل الخيّرين الطيبين، ففي عرفه ان المأساة تجسّد آلام الانسانية كلّها. يريد المثالية، لكنه لا يتمناها لنفسه فقط، بل لكل الناس، اسقاطاً لجدار الوهم، فهل يمكن ان يجد مطلبه إلا في دستور الامام، حيث الغاية التي يبحث عنه؟:
انت الغايه وحدك وحدك
يا رفيق العايش مقهور
دستوره.. دستور المقهورين والمظلومين ومسلوبي الحق، فحين يسقط الانسان فريسة الجوع والقهر والاضطهاد، تراه يتمسّك أكثر فأكثر بالوصول الى حقّه. لهذا يقول شربل للامام: يا علي.. انت غاية الفقراء، رفيق كل مقهور ومسحوق، وفي دستورك راحتهم.
متعب شربل الى حد الارهاق، يعترف انه مهزوم، وطريقه مسدود، وقبل أن يتعثّر، يناجي الامام، ليمد يد رأفته وينقذه:
خدني بإيدك.. صوتي فحّم
(صوتي فحّم).. تعبير رائع يجسّد بكلمتين فقط كثرة الرفض والاحتجاج والمطالبة عند الشاعر، بغية انقاذه من مضطهديه.
ويحاول الشاعر ان يتخطّى أزمته، ويعض على جراحه، ليستبعد توازنه، ثم ينتفض، إذ لا بد من الاستمرار بقوة وتصميم. وما الأزمة الحقيقية إلا الطائفية، التي يعاني منها، ولا يخفي كرهه لها ومحاربتها:
دينك ديني.. دين الحب
الحب اللي بيجمع أديان
ما بيظلم مخلوق الرب
اللي بيظلم هوّي الشيطان
ألله محبة وعطف وحنان، لا يظلم أحداً. الظلم من عمل الشيطان، وبعض أبناء الشيطان من البشر. وشاعرنا صريح، وصراحته مكشوفة، عارية من الكذب والتزلف، يرى في اسلام علي (ع) وتقواه اسلاماً حقيقياً:
إسلامك هوّي الاسلام
الحق.. الما تشوّه وجّو
فسّرتو.. جبرت الأحلام
ع الكعبه يروحوا يحجّوا
زد على إسلام الامام وعقيدته، الفكر والعلم، فيتجمّل إسلامه بكل المعاني الرائعة، فما بدرت منه غلطة في حق الاسلام، ولا في حق أحد، حتى ولا أعدائه. كان عطوفاً مع الذين فرشوا رحلة عمره بشوك الأذى والنميمة والتنكيل بكل من وما يدور في مداره.
ويصل شربل الى قمة الأدب في هذا المزمور، لقد استعمل حرف (ك) ست مرّات في بيت واحد من الشعر، نال منها فعل (كان) الناقص أربعاً، فأبدع الشاعر في اشتعماله لما له من دلالة فلسفية، فهو يرمز الى الكائن والكون والكمال، وهذا يعني ان الامام وصل في كينونته الى منتهى الكمال الانساني، فيناجيه قائلاً:
منّك كان البدّو يكون
ومن دونك ما كان الكان
ولا ينسى شربل ايمان الامام العميق، ودفاعه عن كتاب الله، بسيفه ذي الفقّار، الذي كان لهم بالمرصاد. ويتعب الشاعر من الانتظار على رصيف الحياة، ما دام الزمن يدور، وعجلة الايام تهشّم على صخورها آمالاً كثيرة:
رجّعنا.. تعبنا من النطره
ع مْفارق إيّام جداد
يا شايف بعيونك بكرا
بماضيك البكرا بتنعاد
ها هو شربل بعيني يهود لحلمه من جديد، يطوي أوهامه، ويرمي بقاذورات الزمن وراءه، لعله يتخلّص من كابوس بشع، ويحمّل الايام القادمة أملاً جديداً بغد جديد، وكأنه يقول ما أحوجنا اليوم الى الامام وسيف الامام.
ويقدم الشاعر أشعاره الموشحة بالحب، هدية للامام، لعل خطاياه تغتفر بها، ويرحمه الله إكراماً للامام:
قبلي اللي غنّوك كتار
جمعت غنانيهن كلاّ
بكتابي باقة أشعار
بركي بيرحمني ألله
ولا ينسى الخيّرين والطيبين من أنبياء الله:
يسوع ل علّمني حبّ
يا علي.. متجسّد فيك
شاركتو بألام الصلب
وخفّفت عْذابو يا شريك
نتوقّف عن هذا المقطع من المزمور الثامن للضرورة التي اقتضتها معاني المزمور نفسه، فقد تعرّض هذا المزمور للنقد من قبل البعض، نذكر منهم، على سبيل المثال لا الحصر، الدكتور عصام حداد، مدير معهد الأبجدية ـ جبيل، ومؤسس جائزة شربل بعيني الأدبية، الذي انتقد معاني المزمور في مقالة نشرت له في جريدة "النهار" الصادرة في سيدني، العدد 730، الصفحة 14، تاريخ الخميس 5/12/1991.
نأسف لهذا الخطأ الذي وقع فيه الصديق عصام، إذ يبدو لنا انه قرأ المزمور بلا تدقيق، فلو انه أمعن النظر قليلاً لأدرك قصد الشاعر من وراء ذلك.
عتبي على الدكتور عصام حداد كبير، بقدر احترامي لأدبه وعلمه، وكنت أتمنى ان يعطي المزمور حقّه من الدرس والاستنتاج، فرسول المحبة غيسى المسيح قدّم للبشرية أعظم درس في المحبة والتضحية، تماماً كما نادى جميع الأنبياء بالحب والاخاء والمساواة والعدل وبالطاعة لله أولاً وأخيراً.
ويخطىء خطأً جسيماً من يظن أن الشاعر أراد تجسيد الامام بالمسيح، فالتجسيد كان للكلمات وبالكلمات، لأن ما نطق به الأنبياء والمسيح وعلي، عليهم السلام، يصب كلّه في خانة واحدة: الانسان والعدالة الانسانية.
فهل شارك الامام المسيح بالصلب؟ بالطبع: لا. فالصلب بمعناه الأدبي هو العذاب والاستشهاد. لأن تضحية المسيح الكبرى اصبحت على مرّ العصور رمزاً لكل ما هو نقي وشريف. والصلب أيضاً فداء. فالمسيح دفع حياته الطاهرة ثمناً لانقاذ البشرية من الضياع. وهل كان موته نهاية لعذابه؟ كلا. لأنه كان يتألّم في كل لحظة من حياته. مارسوا عليه كافة انواع العذاب، وهو صابر، صامد. اضطهدوه بقسوة وفظاعة فما انحنى ابداً، ليقدم لنا بعظمته أعظم أمثولة في الفداء. أما ما قاله شربل عن الصلب:
شاركتو بآلام الصلب
وخفّفت عْذابو يا شربك
فإنه يدل على العذاب المشترك بين العظيمين:
ـ المسيح صلب وسمّر وسال دمه الشريف من أجل الانسان.
ـ علي ضرب بسيف مسموم ، وسال دمه الشريف للسبب نفسه.
ـ المسيح اضطهد في حياته، واضطهد تلاميذه وأتباعه من بعده.
ـ علي أيضاً اضطهد في حياته على خمسة وستين عاماً من عمره، حتى بعد استشهاده استمر شتمه على المتابر ستين عاماً، وتعرّض محبّوه وأتباعه للذبح والقتل والتشرد. واستشهد أبناؤه وأحفاده.
والآن، ألا نستطيع أن نقول ان هناك مشاركة في العذاب، وتجسيداً لنفس التعاليم الالهية؟
إني أستغرب أن يكون الاديب الدكتور عصام حداد قد فهم المزمور على غير حقيقته، لأن التجسيد هنا يعني بصورة لا تقبل الالتباس، تجسيد الصيغة لتعاليم السيد المسيح، لا تجسيد الصيغة المادية التي لم يأتِ على ذكرها الشاعر شربل بعيني. فليس خفياً على أحد أن المسيح قد سبق الامام علياً الى الشهادة بما يزيد على ستمائة سنة.
التباس آخر في التفسير وقع فيه الاستاذ عصمت الأيوبي، المحاضر في جامعة مكارثر الاسترالية، حيث قال:
"ان المقصود بقول الشاعر في الشطر الخامس من المزمور الثالث:
قاتلت الباغي وربحت
تا تريّحنا بجهادك
هم جماعة الخوارج..".
وأنا متأكّدة تماماً ان المقصود هو معاوية بن أبي سفيان، استناداً الى حقائق تاريخية، نعرفها جميعاً، والحصيلة التاريخية تقول: معاوية حارب الامام وحاول تمرير عشرات المؤامرات لقتله، ولكن الأخيرة هي التي نجحت.
صحيح أن عبد الرحمن بن ملجم ينتسب الى الخوارج، إلا أنها أموال معاوية، نفس الأموال التي دفعها الى جعدة لتسميم الامام الحسن، والى عبد الرحمن لقتل علي، وبما ان الابن صورة لأبيه فقد قتل يزيد بن معاوية سيد شباب أهل الجنة الحسين بن علي.
حصيلة الامر، ان الحكم الشيطاني الفاسد لا يقوم إلا بإزاحة عباد الله الشرفاء عن طريفه.
ما أروع الايمان الخالص المجرّد من كل غاية، ذلك الذي لا يحتاج الى تفسير، وهل يحتاج الايمان بالله وبرسله الى تفسير؟:
مش رح فسّر.. حكيي مفسّر
سيدنا محمد شو قال:
انت بتشبه عيسى أكتر
بينو وبينك وحدة حال
قال الرسول (ص) لعلي إن فيك لشبهاً من المسيح، وكان النبي (ص) يعلم بما سيتعرّض له الامام من مآسٍ، كما تعرّض المسيح لكافة أنواع العذاب والاضطهاد. انها وحدة حال ومشاركة بالآلام.
ـ قال المسيح: أنا ابن الانسان.
ـ قال النبي (ص): إنما أنا بشر مثلكم.
ـ أما الامام فيقول: إنما أنا رجل منكم.
وهل من إنسان لا يدرك معنى الفداء الذي قام به عيسى بن مريم؟.. وقصّته صبغت الوجود بالدم النقي، وروت على مرّ الدهور أروع قصة للشهادة من أجل الإنسان.
وعلي قاتل واستشهد في سبيل عقيدته وايمانه ومبادئه سنوات من الكفاح والجهاد لم تتوقّف لحظة واحدة، فمن اليتم الأول، الى اليتم الثاني، عندما انتقل النبي (ص) الى الرفيق الأعلى، ثم وفاة السيدة فاطمة، رفيقة عمره وشريكته، ولولا شدة ايمانه بالله، لما استطاع ان يتحمّل تلك الصدمات الكثيرة. وبعد كل هذا، أليس هناك وحدة مشتركة من العذاب بين العظماء؟.
ويجد الشاعر راحته في القناعة، إذ ان حب المال إذلال للنفس، وعلى الانسان أن يختار بين ذل الغنى أو القناعة بما أعطاه القدر:
بالقناعه غلبت الفقر
وما انذلّيت لسحر المال
ترقّع بالصرمايه العقر
تا تعلّم كل الأجيال
ويفدّم لنا شربل مثالاً على تواضع الامام، كيف انه كان الحاكم المطلق، وبين يديه أموال المسلمين، ومع ذلك يرقّع خفّيه بيديه، رافضاً أن تمتدا الى أموال المسلمين.
ولا يهتم شربل لما سيقال عنه، فكلنا خلق الله، وعبيد الله:
شو ما قالوا يقولوا عني
المذهب ما بيعمل تغيير
ماروني، شيعي أو سنّي
الإسم زغير وألله كبير
ويرى الشاعر ضرورة احترام معتقدات الناس جميعاً، طالما ان المذهب لا يغيّر في تكوين الانسان، ويدعونا الى التعامل على أساس انساني وليس على أساس مذهبي. هذا هو المطلوب من أبناء البشر على أقل تقدير.
ويغضب الشاعر غضباً شديداً من تجّار الأديان والطائفية، ويصرخ بوجههم:
ألله ل الباعوه التجّار
ع مْنابر كرتونيّه
ما بيرضى بكل اللي صار
بشْعايرنا الدينيه
ويشكوهم الى الله قائلاً: هؤلاء تاجروا باسمك يا رب، قتلوا، ذبحوا، وشنوا الحروب لإبادة الجنس البشري.
أليس هذا كافياً ليتأكد شربل، بكل الايمان الذي يغمر كيانه، أن الله لا يرضى عن أفعالهم، عن جرائمهم التي ارتكبوها باسمه، ثم أمعنوا تبديلاً وتشويهاً بالشعائر التي أرسلها الله لخير الانسان؟.. وكأن شربل يهددهم بالانتقام القريب، الذي سيكون عظيماً وكبيراً لأنه آت من السماء، ثم يشكو للإمام الحال التي وصل إليها العالم:
يا علي.. العالم مغرور
كذّاب، منافق، محتال
ساعدني أقضي ع شْرور
تنفسّها عبر الأجيال
ويدعو كل الطيبين الشرفاء، ليقضوا على الشر والنفاق والاحتيال، لعل الأجيال القادمة تكون أوفر حظاً، وأحلى أياماً، وأصفى زمناً، ويشمئز من موجات الجنون اللا أخلاقية التي تجتاح مجتمعاتنا باسم الحرية، فيقول:
جنون العالم عم يتعبني
حريتو.. كوجات ذنوب
خايف لا تجرفلي إبني
وتزتّو ع شطوط حروب
ويخاف شربل، وسط هذا الجنون البشري، على مصير الأجنّة، التي ما زالت تنعم بدفء "جنة حواء"، ولم تعانق بعد أشعة الشمس، ولا يجب أن ينجب أطفالاً خوفاً من أن يصبحوا عرضة لكل الشرور، لذلك نراه يطلب المساعدة من الامام:
مدّلي إيدك.. ساعدني
ويشتهي أن يخلق عالماً جديداً مختلفاً، عالماً قوامه المثالية:
لازم إخلق عالم تاني
يفهم كلماتك كلاّ
يوحّد أديانو بديانه
بترفض نتقاسم ألله
وللمرأة نصيب في مزامير شربل بعيني، وهناك قول مشهور للامام، قد لا يدل على رأيه الكامل بالمرأة. يقول الامام:
"المرأة شر، وشر ما فيها أن لا بد منها".
ويقول الشاعر في ذلك:
قالوا قلت: الحرمه شر
ونكروا اللحظه ل فيها حكيت
فيؤكد لنا ان الامام قال هذا القول في مناسبة معيّنة، وخصّ به امرأة معيّنة، وليس كل النساء، كما قد يتبادر للذهن. فلنسمعه يقول في خطبة له في نهج البلاغة حول هذا الموضوع:
"معاشر الناس: ان النساء نواقص الايمان، نواقص الحظوظ، نواقص العقول.
فأما نقصان ايمانهم فقعودهن عن الصلاة والصيام في ايام حيضهن.
واما نقصان عقولهن فشهادة امرأتين كشهادة الرجل الواحد.
فاتقوا شرار النساء، وكونوا من خيارهن على حذر، ولا تطيعوهن في المعروف حتى لا يطمعن في المنكر".
فهل في قول الامام هذا موقف معيّن ضد المرأة ككل؟ بالطبع لا.. إذ انه قال: فاتقوا شرار النساء، ولم يقل كل النساء.
أما قوله: المرأة شر.. فهو يقصد فتنتها التي تستغلها لاغراء الرجل. وهناك خطب كثيرة يوصي فيها بالاحسان الى المرأة، ويكمل شربل:
فاطمتك.. بوداعا المر
بوّست ترابا وبكيت
السيدة فاطمة الزوجة، الأم، الابنة، المثل الأعلى لكل النساء، ذرف الامام الدمع لفراقها، ومع ذلك نرى ان بعض الجهلة اتخذوا من قول الامام ذريعة لاهانة المرأة واذلالها، ولم يحاولوا ان يتبيّنوا قصد الامام على حقيقته كما تبيّنه شربل:
الحرمه عندك منبع خير
ومصدر للجيل الجايي
كرّمتا.. خلّيت الطير
يحكيلا أحلى حكايه
ألله، سبحانه وتعالى، جعل الجنة تحت أقدام الامهات، ليكرمهن ويحسن إليهن. والامام كان أفقه الناس بآيات واحكام القرآن الكريم، فهل يمكن أن يظلم المرأة من عدله أبعد من إدراكنا؟:
كنت العدل الما بينزاح
تعطي للمظلوم القوت
ثم يصف لنا شربل، نبل أخلاق الامان وسموها، ولو أراد لكان من أغنى الناس:
يا متوّج بحروف الكلمه
ركعت ع جريك التيجان
دحرجتا.. دحرجت الظلمه
تا يشرق فينا الإيمان
لو رغب الامام، لركعت عند قدميه تيجان الملوك، لكنه ركلها متأنفاً، ورفض بيع دينه بدنياه. هكذا يكون الايمان المطلق.
كل انسان يخطىء، والشاعر مهما سما بأخلاقه ليس معصوماً عن الخطأ، كونه بشراً. وشربل يعترف بتحكّم غريزته فيه وبأسباب الفتنة التي تغريه، ويقف حائراً بين غريزته وانسانيته:
الخطيّه الحمرا الملفوفه
بشهوات عيون الشيطان
يا ما لعبتلي بظروفي
وعرفتني إني إنسان
ويتمنى لو يستطيع السمو فوق تلك الخطايا، ولكن أنّى له ذلك:
مش قادر حارب شهواتي
ومش قادر رد المكتوب
طرقاتي بعيده وحياتي
ذنوب وعم بتجرّ ذنوب
إلى أن يصل الى قمّة الابداع والتهكم الكاريكتوريمن أولئك الذين يصلّون ومن ثم يستبيحون المحرمات، ويفعلون المنكر، ولا يتورعون عن قتل الأبرياء، تارة باسم السياسة، وطوراً باسم الدين وحماية العقيدة، وما شابه من شعائر كاذبة، تؤدي بصاحبها الى الثروة والوجاهة:
بركع صلّي.. بينشف ريقي
وبقتل بعد الركعه عيال
بعبّي دمّاتا ببريقي
تا يسكر ع كفوفي المال
هذه هي شهوات الانسان التي تخضعه لسيطرتها، والشاعر هنا يصف لنا حال الناس الانفصاميين الذين يعيشون بشخصيتين متناقضتين، يصلون مرة ويمارسون آثامهم مرات ومرات.
طموحات الشاعر كثيرة، ومطالبه لا تتوقّف، كونه يريد الوصول الى أدنى درجة من السمو الانساني، فهو يطمح الى الايمان الكلي، ويرغب بالهروب من كل ما يعانيه، وان كان فيه استشهاده، ككل الاتقياء والصالحين:
صيّرني الكامل بعلومو
بإيمانو.. سمّيني حسين
ونوّرلي عقلي بنجومو
تا إستشهد.. مدري وين؟
ويصوّر لنا بشكل خاص وحزين استشهاد الامام الحسين (ع) على أرض كربلاء، وللمرة الثانية ينقلنا الى تلك الواقعة الموجعة:
كربلاء انرجعت فيي
بكتب فيها استشهادي
بلمّ تراباتا بعينيي
بخّور.. بيحميلي ولادي
ويفكّر بعمل هام مقدس، لعلّ خطاياه تغتفر به، ويحوله الى قربان محبة وسعادة وتضحية:
وحّد فيي كل الماتوا
لا لن يستطيع شربل محو كربلاء من خياله، فهو متأثّر فيها غاية التأثير، فيروي قصتها فيقول: يطأطىء التاريخ رأسه خجلاً عند ذكر وقائعها.
ولا بد أن الشاعر قرأ التاريخ جيداً، فعلم أن جراح الحسين كانت ثلاثاً وثلاثين طعنة رمح، وأربعاً وثلاثين ضربة سيف، عدا السهام.
كيف لا يتأثّر، وهو يرى بعين خياله، كيف أن الوحوش البشرية انتزعت من آذان الصغار أقراطهم لتسيل الدماء على صدورهم؟.
ويذكرنا بما قاله رضى الهندي الذي اهتزت مشاعره لهول الجريمة، رغم مضي ثلاثة عشر قرناً على تلك المأساة:
فغدوا حيارى لا يرون لوعظه
إلا الأسنة والسهام جواباً
حتى إذا أسفت علوج أميّة
أن لا ترى قلب النبي مصابا
وها هو صوت الشاعر بشر بن حذلم ينعي الشهيد:
يا أهل يثرب لا مقام لكم بها
قتل الحسين فأدمعي مدرارُ
الجسم منه بكربلاء مضرّج
والرأس منه على القناة يدارُ
إنها قصّة مؤلمة تهز قلوب أعتى الرجال صلابة. يصفها الشريف الرضي بقوله:
لم يذوقوا الماء حتى اجتمعوا
بحدى السيف على ورد الردى
إلى أن يقول:
يا رسول الله لو عاينتهم
وهم ما بين قتل وسبا
من رميض يمنع الظل ومن
عاطش يسقى أنابيب القنا
لرأت عيناك منهم منظراً
للحشى شجوا وللعين قذا
ليس هذا لرسول الله يا
أمة الطغيان والبغي جزا
جزروا جزر الأضاحي نسله
ثم ساقوا أهله سوق الاما
وبعد كل هذا، هل يمكننا أن نلجم مشاعرنا، وهل نلوم شاعراً مثل شربل بعيني على انسانيته؟
أليس له الحق أن يرى تراب كربلاء بخوراً يحمله في عينيه؟
كم يحترم هذا الشاعر آدميته، في زمن يعيش أزمة ضميرية، نتيجة لواقعه المتأزم، فجاء فجاء احساسه نقياً طاهراً مفعماً بالتقوى:
ما بدي إخطى وإتعذّب
بدي إتطهر بكلامك
إتقدّس فيك وإتهذّب
وإيامي تصفي إيامك
وكي لا يلطّخ غبار الخطيئة خطواته، نراه ينجذب إلى عالم من الكمال الانساني. ثم يستدرجنا إلى عالمه النقي هذا، بكل صفائه وبهائه لنصبح ترنيمة يتغنّى بها وجودنا:
ألله واحد.. واحد بس
اختلفوا عليه لصوص الدين
افتكروا فيهن يطفوا الشمس
بكذبُن.. وبغشّوا مْساكين
يذكّرنا الشاعر شربل بعيني بالفيلسوف جبران خليل جبران، الذي صبّ في وجدان القارىء كل ما يمتلك من حجج قوية، كي يؤجج غضبه على الاشرار من رجال الدين، الذين مزّق شربل أقنعتهم، وأمطرهم بلعناته، ولعنات العالم أجمع، لدرجة جعلنا نشعر معها بالقرف والاشمئزاز من هؤلاء الرجال الخبثاء المقنعين بأقنعة الخبث والرياء:
قرفنا.. قرفنا من وعظات
بين حروفا حقد وويل
لازم نرجع للكلمات
ل ضوّت بمحبتها الليل
أجل، وعظاتهم تنطوي على الحقد والويل، تشعل النار في حقول التأمل ومراعي الايمان، لذلك يتمنى علينا الشاعر أن نعود الى الاصالة الفطرية، الى طريق الله، لنبحث عن أنفسنا بين كلمات تنير دروبنا، وتضرم فينا الثورة لمحاربة النفاق الاجتماعي والغش والخداع، ولتطهير المجتمع من الفساد:
كذبوا علينا.. لا تسامحهن
هنّي القتلوك وقتلونا
ودّي سيفك ع مطارحهُن
يقطع نسل اللي غشّونا
رغم أن الشاعر معجب بتسامح الامام اللامحدود، نراه يلجأ الى الكي، ويطالب الامام بإرسال "ذي الفقّار" لابادتهم حتى لا يتوالد نسلهم وينفث الضغينة والفوقة في قلوب الأخيار والابرياء.
للفلسفة مكانة خاصة عند شربل، يصل في مزموره الثالث عشر إلى قمّتها، فيحدّثنا أولاً عن جغرافيا العقل والايمان عند الامام، وعن فلسفته، فنسافر معه عبر اللوحة الشعرية الرائعة الى عالم قد لا نصله إلا بالحلم:
يا علي الفلسفتك قونه
بتزيّن صدر المسكونه
كيف الأرض العايش فيها
بقدر من نظره خليها
بسهولا، بصخر روابيها
ببحورا، برمل شواطيها
تتجمّع كلاّ بعيوني؟
كيف تستطيع عدسة العين الصغيرة رؤية الصورة الكاملة للأرض بدورانها، بشواطئها، ببحورها، بسهولها وروابيها؟.
أسرار هذا العالم المرئية واللامرئية شغلته، فاستعان بالفلسفة ليسأل الامام: كيف يتوالى الزمن على أديم كرة تستقر على حالها مدى الأزمان؟.. وكيف تتجمّع المياه داخل الغيوم، وكأنها محيطات من صنع الخيال؟:
بيدلق خزّاتو عليها
الغيم.. وبيغسّل إجريها
وبعد أن يصوّر لنا الفصول الأربعة، يتوقّف عند الشتاء بوصف دقيق، وكلمات عذبة. فيجعلنا نرى الطبيعة تغتسل بالمياه السماوية، وكأنها تتطهّر بدموعها. ويتأكّد من للكون أسراره. ويسأل الامام أن يطلعه على تلك الأسرار، التي ما زالت خافية على الانسان، مستخدماً في هذا المزمور كلمات ومعاني لغوية وفلسفية تشد انتباه القارىء، متمماً محاورته عن الحياة وأسرارها:
كيف الموجات بتتحوّل
غيمات.. من دموعا نملّي؟
ثم يتابع تصويره الرائع:
وكيف البحر بيرخي مدّو
ع الشط.. شْراشف مكويّه
بيرجع جزرو بياخد حدّو
وبينخّ يجمعلو هيّي؟
لو لم يكتب الشاعر هذا المزمور، لجاءت مزاميره مبتورة. ففي هذا المزمور الرائع بلغ شربل بعيني درجة عالية من الفلسفة والبلاغة:
والشمس الما انطفيت مرّه
من وين بتاخد مونتها؟
طلّت.. شعلّت.. ضوّت برّا
غابت.. ما انسمعت أنّتها
ويقول أيضاً عن البراكين:
وكيف التلّه ل تمّا واسع
من تمّا بتنفخ بركان
بيقدف نيرانو بالطالع
وبيرجع يخفي النيران؟
ولا ينسى الطائر. من يمسك به؟ كيف يطير؟ وأية قوة تجذبه إليها؟:
وكيف الطير انرفوا جناحو
بيعلا.. وبتعلا تراتيلو
صورة أخرى يصورها الشاعر باتقان ملفت:
وكيف الريح بتجدل حالا
وبتزنّر خصر المعموره
انفرحت!.. بتريحلا بالا
انزعلت!.. يا ويلا من شرورا
الريح تزنّر خصر فتاة يافعة اسمها المعمورة، تراقصها بمحبة وانسجام، فإن غضبت تحولت الى وحش كاسر يهشّم صباها، ويشوّه جمالها.
ويصل شربل في هذا المزمور الى حقيقة تثبت أن الانسان مهما تعمّق في فلسفة هذا الكون، يظل بحاجة الى تعمّق أكثر والى روحانية لا محدودة تقرّبه من صانع الاسرار ومسيّرها.. خالق السماء والارض، له المجد والوقار.
ينقسم المزمور الخامس عشر الى عدة اقسام، وعدة مواضيع، كل شطر فيه يحتوي على موضوع مختلف عن الاخر تماماً، فماذا يقول الشاعر؟:
شفتُن حدّك عم يتمشّوا
وعينيهُن تضوي قدّامُن
لا فزعوا مرّه ولا انغشّوا
فرحت بوجودًن إيّامُن
من هم السائرون الى جانب الامام وأعينهم تشع بإيمان قوي، لا يخافون قول الحق، وان كانت حياتهم ثمناً لهذا الحق.
ولنتابع القراءة لنتعرّف إليهم أكثر فأكثر:
بوهج نجومك صاروا يوشّوا
ليلُن.. وتزهّر أحلامُن
ومل ما الاعدى كذبُن رشّوا
يسنّوا ع الصفحات قلامُن
هل هم أهل بيته وارثو علمه وفكره، اللذين ورثهما عن الرسول؟ أولئك الذين حاولت القلوب المملؤة بالحقد تزوير حقيقتهم الناصعة البياض، بغية تمرير ألاعيبها السياسية، وطمس الحقيقة التي لا يمكن تغييرها:
عاشوا كبار.. وماتوا كبار
هاماتُن ملعب للشمس
بسفراتُن لو مرّ نهار
بيتكحّل بغبارُن أمس
يا علي.. مرقوا زوّار
وبقيوا بالأقطار الخمس
هل هم الأنبياء صوت الله على الارض؟.. أولئك الذين تركوا آثارهم الجليلة لتكون لنا نبراساً ينير ينير دروبنا، فلما لا نتخذهم مثلا، ونترك مثلهم آثاراً طيبة، وأخلاقاً حميدة، ومعاملة انسانية، طالما اننا في نهاية الامر.. سنرحل؟
ما أصدق شربل بعيني حين يتحدّث عن غربته، التي تركت في نفسه ألماً لا يمحى:
الغربه دموع.. ووطني بعيد
يا علي.. صوّرلي رجوعي
ما شافت ايامي العيد
ولا نشفت بالليل دموعي
يعيش الغربة رغم صعوبتها وواقعها الحنظلي الطعم، وهو يختزن في صدره حباً لوطنه ولقريته مجدليا، يضرم فيه الحنين، ويثور على واقع مليء بالخيبة، لا تعرف أيامه العيد:
لا الماضي بعدّو من الماضي
ولا الحاضر قادر يشفيني
عشت الغربه ومنّي راضي
قللي شي كلمه تراضيني
حاضره امتداد لماضيه، لذلك نراه يتلوّى على لظى غربتين معاً: غربة رحيله القسري عن وطنه، وغربة البقاء خارج حدود ذلك الوطن الحلم، ويتمنى الهروب من شعور يلاحقه كظلّه، فيستنجد بالامام راجياً إياه أن يمدّه بكلمة واحدة تمدّه هي ايضاً بالامل، ويدهش من رد الامام:
"الوطن مطرح ما بترتاح"
يا علي.. شو عم بتقول؟
كلامك منبع للأفراح
رح بيغيّر فينا عقول
يقتنع الشاعر بقول الامام، ويعلم انه الحقيقة، وان كرامة الانسان متى حفظت في بقعة ما من الأرض، تكون تلك البقعة وطناً له، إذ أن الغربة ليست في البعد عن الوطن، بل في البعد عن الله، وعندما يصل الانسان الى هذه القناعة يستريح كما استراح شربل:
يا علي.. يا مريّح بالي
بالكلمات ل فيها تجلّى
ألله.. تا توسعلي مجالي
واستوطن هالدنيي كلاّ
بعد الرضى والقناعة، ينتقل شربل الى العمق، الى مزيد من المعرفة، فيطرح تساؤلات كثيرة: لماذا يخلق الانسان؟ ولماذا يموت؟ وهل حياته مقسمة الى قسمين: قبل الموت وبعده.. أم الى ثلاثة؟
1ـ قبل الحياة "الأجنة".
2ـ الحياة "الناس".
بعد الموت "الملائكة".
تسع شهور منبقى جوّا
أكل وشرب وحلم بعيد
وكل ما نودّع جنّة حوّا
بترجع تحملنا من جديد
جنّة الأمومة، كما يسميها شربل، هي عالمنا الأول، الذي يسير وفق نظام مستمر، بدون أدنى خلل:
جنّه.. لا شمس ولا نجوم
الناس الفيها ضجرانه
بتتلبّد ع شطوطا غيوم
من حمولتها تعبانه
مائتان وسبعون يوماً تقريباً، الجنين في رحم أمه يكبر، ينتفض، يجوع، يتغذى، ويتأهّب للخروج، فكيف لعقل الانسان أن يدرك هذا النظام الخارق، وهذا الخلق؟ انه لعمري سر احتفظ به الخالق لنفسه كاختفاظه بسر بدايتنا ونهايتنا:
مش مسموح نعيش كتير
يومين تلاته.. ومنموت
لا نعرف أين نولد ولا في أية أرض نموت. رحلة الحياة قصيرة، كأنها أيام نقطعها ونحن في حيرة من أمرنا.
في المزمور الثامن عشر، يعيش الشاعر حالة قرف شديد من نظرات الحقد، فيشعرنا ونحن نقرأ، ان هناك شيئاً غامضاً، إذ انه يصف تظرات طرشاء، وهل يمكن للنظرات أن تطرش!؟. انه والحق أقول، تصوير رائع لم يسبقه إليه شاعر من قبل، نقدر أن نستشفّ منه حالة الكره التي يتعرّض لها الشاعر من أصحاب تلك النظرات الحاقدة:
قرفت من النظرات الطرشا
من الحقد الأتقل من دمّن
من الكذبات البنيت عرشا
بالريق الطاير من تمّن
لساناتن عم تفرش فرشا
وتهديدُن عم ينفخ سمّن
ويتطاير رذاذ لعاب الطائفيين سموماً، بغية تدمير كل ما هو جميل ومبدع وخلاّق. لكن شربل يتغلّب عليهم بقوة ايمانه، ويعود الى براءته، الى طفولته، بكل الحب الذي يتملكه.. ورغم تعرضه للتهديد، كما توضح أبيات هذا المومور، فالشاعر الشاعر لا يخاف التهديد والوعيد طالما أن الايمان بالله يغمر قلبه، ويدفعه لقول كلمة الحق:
ما فزعت من النادوا بقتلي
فزعت يشوّه فكرك جاهل
وبعد أن يسخر شربل من مهدديه، يقف منتصب القامة، ليرد كيد الحاقدين، ويخيب ظنونهم:
افتكروا فيهن يطفوا العيد
الزارع خيراتو بهمومي
يا همومي رشّي مواعيد
هم شربل الوحيد، كيف سيكون المستقبل؟ وهل سينظر الى السماء بعيون الفرح:
للحلم الجايي من بعيد
رغم تهديداتهم، رغم أظافرهم المسمومة التي تحاول تشويه الحقيقة، يتصدى الشاعر لهم، فينقل للناس ما خفي من كلام مبغضيه:
يا بتخنق نبرات الصوت
يا منخنق صوتك بالموت
الظاهر أن بعض الطائفيين الحقودين، لم يفهوا ماذا يريد الشاعر أن يقول من خلال المناجاة، فحاولوا تخويفه بشتى الوسائل علّه يتوقّف عن نشرها في الصحف المهجرية، لأنها دعوة صريحة للمحبة، والمحبة متى وجدت كفيلة بتدمير عروشهم، فيشتكيهم للامام ويشهده عليهم.
ويودعنا الشاعر وداعاً مؤثراً، لا نملك حياله الا الاحساس بغصة في حلقنا، وبفيض من الرقة والحنان:
آخر مزمور بصفحاتي
كتبتو بدمعاتي العطشانه
وهل تعطش الدموع؟.. أجل، متى كان الوداع مؤثراً وحزيناً، تتفاعل فيه مشاعره، في حيرة بالغة، بين البقاء في رحاب الامام، وبين الرحيل الذي لا بد منه:
اشتقتلك.. ناولني إيدك
لاقيني.. بلسملي جروحي
ويؤكد الشاعر على ان الفرح رافق كل كلمة كتبها في المناجاة، وهو مرتاح النفس والضمير، بل ويجزم انه شعر بسعادة بالغة عندما دوّنها في سجل حياته، وحاك من كلماتها طرحة، ألبسها للزهور والورود، ليعطيها من حبّه جمالاً فوق جمالها:
نصراني.. ونادر غنيلك
غنيّه.. لحنا معروف
غنّوها الكل مقابيلك
دقّوا كلماتا ع دفوف
ويفي بنذره، إذ غنّى كلمات رقص لها العالم طرباً، شمل بها الانسانية والعدل والمحبة، وطلب منا أن نغني معه، لكل المذاهب، لكل الأديان، ولكل الناس، لأنه كتب للكل، ونزف قلمه من أجل الكل:
بحبّن كلّن، كلّن، كلّن
يهود، نصارى واسلام
بحبّن كلّن، كلّن، كلّن
مهما تفرّقنا الأيام
فهل يتحقّف حلم من أول من طبع ونشر كتاباً عربياً في أستراليا، شاعر الأستاذ شربل بعيني؟
هذا ما ستبديه الايام.. ومن يعش يرَ.
**