شربل بعيني بين الفصحى والعامية

ISBN: 978-1-64945-947-3
طبعة أولى 2020
**

مصطفى الحلوة في سطور ...
ـ حائز دكتوراه في الفلسفة من جامعة ليون-3- فرنسا 1983.
ـ حائز إجازة في الآداب وإجازة في الحقوق (الجامعة اللبنانية).
ـ أستاذ الفلسفة في ملاك الجامعة اللبنانية - الفرع الثالث
(طرابلس).
ـ أستاذ علم السياسة في معهد العلوم الاجتماعية- الفرع الثالث
(طرابلس).
ـ رئيس الاتحاد الفلسفي العربي.
ـ منسّق "لجنة المتابعة" للبناء الجامعي الموحد في الشمال.
ـ أحد مُدِيْرَيْ تحرير مجلة "منارات ثقافية"( لبنان) مجلة محكّمة.
ـ له عدة مؤلفات، أبرزها:
أـ مقابسات زُريقية بين شاعر الفيحاء سابا زريق وسابا الحفيد 
2017.
ب- موسوعة بحثية "80 كتاباً في كتاب/ مراجعات في الحراك الفكري 
العربي المعاصر"، صادر عن دار جروس- برس (لبنان) 2018.
ج- عبد المجيد الطيب الرافعي/ قضيتُهُ الإنسان- رسالتُهُ العروبة- 
وجهتُهُ فلسطين، صادر عن الدار العربية للعلوم – ناشرون (لبنان) 
2019.
ـ له مشاركات مُتعددة في مؤتمرات فلسفية وأدبية وفكرية عامة.
ـ له عشرات الأبحاث المنشورة في دوريات محكّمة.
ـ له قيد الإنجاز أربعة كتب، سيصدر أحدُها قريباً .
العنوان البريدي: mostapha-helwe@live.com
**
مقدمة
قصتي مع البعيني .. والطريقْ إليه!


   في شهر تشرين الأول2016، دعاني "نادي الشبيبة- بيادر رشعين" (زغرتا- الزاوية)، كي أُداخِلَ في ندوة حول ديوانين بالمحكية اللبنانية "عناقيد شعر" و"كاس نبيد"، للشاعر المهجري روميو عويس، وقد قدِم من إستراليا لهذه الغاية، فيكون توقيعٌ لهذين الديوانين، في مسقطه (بيادر رشعين)، وليعقب ذلك توقيعٌ آخر في سيدني، حيث إقامتُهُ الدائمة... استجبتُ لسببين، أولهما العلاقة الودِّيّة التي تربطني بالقيِّمين على النادي، وثانيهما أن دخولي إلى الشعر المحكي، سوف يُعرّفني إلى عالمٍ شعري، لا أعرف عنه الكثير، وبذا لا أكونُ عدوّاً لما أجهل!
   هكذا كانت تجربة أولى مع الشعر بالمحكية اللبنانية، بل يومٌ مشهودٌ في قاعة مطعم جسر رشعين (الجمعة 21 تشرين الأول 2016)، بمشاركة كثيفة من أبناء المنطقة، ومن النخب الفكرية والشعرية. وقد كان لمداخلتي صدى إيجابي، مما شجّعني على المضيِّ قُدُماً في تعرّف الأدب المهجري في المغترب الأسترالي. علماً أنني نشرتُ هذه المداخلة في موسوعتي النقدية: " 80 كتاباً في كتاب/ مراجعات في الحراك الفكري العربي المعاصر – الجزء الثاني".
   ... تمضي سنتان، وإذا بالشاعر روميو عويس يُهاتفني من سيدني (شتاء 2018)، متمنيّاً عليَّ، وقد غدوتُ موضع ثقته، أن أضع تقديماً لديوان له جديد، سيصدر في لبنان، عنوانه "وَيْنْ الخطيّة"، وهو يُزمع توقيعه في مسقطه (بيادر رشعين) حالَ إنجاز طباعته، فامتثلت، وليغدو روميو "زبوناً" لديَّ، في غيرِ أيام الكساد، إذْ لا يشهد "سوقي" كساداً!
   هذه الدواوين الثلاثة حفّزتني، بعد إدراكي أهمية الشعر بالمحكية، على أن استزيدَ إحاطةً بالأدب المهجري بعامة، والأدب المهجري الذي يأتي به أدباء عرب، لا سيما اللبنانيين ، في المغترب الأسترالي.
   هكذا وجدت ضالتي في أديب موسوعي، لا تتوقف عقارب ساعته الأدبية عن الدوران، عنيتُ الأديب شربل بعيني، الذي ذاعت شهرته في ذلك المغترب، وتعدّت إلى ما وراء قارة أوقيانيا!.. ففي رصيده أكثر من خمسين ديواناً شعرياً، بالمحكية اللبنانية وبالعربية الفُصحى، إلى مسرحياتٍ (عددها 14)، إلى سلاسل كتب تدريس للغة العربية، تعتمدها بعض المعاهد التربوية في أستراليا.. وإلى حضورٍ بارز في الحراك الأدبي، على الساحة الاسترالية!
   .. قبل أيام من مغادرة روميو عويس إلى سيدني (كانون الأول 2019)، دار حديث بيني وبينه حول الشاعر شربل بعيني ودوره الأدبي، وتطرقنا إلى المنتديات الأدبية المهجرية التي تؤدي دوراً وازناً في المغترب الاسترالي، لا سيما المنتدى الذي ترعاه المحامية د. بهية أبو حمد، فأمدّني بفيضٍ من المعطيات حول هاتين الشخصيتين اللتين تحملان على عاتقهما قضية الأدب العربي، وتمضيان بها لتحتلَّ الموقع الذي تستحق، على صعيد استراليا، وفي إطار الحراك الأدبي الاغترابي بوجه عام!
   وإذْ قدَّمتُ للشاعر عويس موسوعتي، آنفة الذكر، (80 كتاباً في كتاب/ جزءان 1115 صفحة)، مع كتابي حول شاعر الفيحاء سابا زريق، عنوانه (مقابسات زُريقية بين شاعر الفيحاء سابا زريق وسابا الحفيد)، فقد طلبَ إليَّ مجموعتين أُخريين كي يُقدِّمهما إلى الشاعر بعيني وإلى د. أبو حمد، فتكون الكلمة سبيلي إليهما! 
   .. مضت أسابيع معدودة، على مغادرة روميو عويس إلى أستراليا، فوصلني ، عبر الماسنجر، كتابا شكر من قبل الشاعر بعيني ود. أبو حمد، أثنيا فيهما على هديتي المتواضعة! 
   .. صيف العام 2019، تأتي د. أبو حمد إلى لبنان لإحياء حفل توقيع، مشفوعٍ بندوة حول كتاب لها، عنوانه "شربل بعيني منارةُ الحرف"، برعاية وزارة الثقافة، وذلك في القصر البلدي- جديدة المتن (الخميس 14 حزيران 2019). وقد تواصلتْ معي د. أبو حمد، داعيةً إيّاي إلى حضور هذا الحدث الأدبي، الذي يعنيني من قريب ومن بعيد! 
   بعد ثلاثة أيام من حيازتي الكتاب (شربل بعيني منارة الحرف) موقَّعاً من قِبل مؤلفتِهِ، أنجزتُ مراجعة نقدية مُسهبة حوله، وبعثت بها، عبر الـE-mail إلى كل من د. أبو حمد (كانت لا زالت في لبنان)، وإلى الشاعر البعيني، وهو في أستراليا، يُتابع وقائع حفله المشهود!.. وقد أبديا دهشتهما، إذْ كيف لكتاب من 228 صفحة (من القطع الوسط) أن يُقرأ قراءة متأنِّية وتُوضع حوله مراجعةٌ نقدية، بين ليلة وضحاها؟!
   .. كان لهذه الدراسة، فاتحة علاقتي الأدبية مع البعيني- وهو الذي لم ألتقِهِ وجهاً لوجه حتى تاريخه- أن توثّق عُرى الصداقة مع شاعرنا... هي علاقة شبه يومية، من طريق الفايسبوك، فالبعيني من "الفسابكة" النشطين، إذْ يتحفنا كل يوم بقصيدة، أو "طقطوقة"، من محكيتِهِ الشعرية أو فُصحاها، إلى خبرية، إلى استعادة لموقف أو لديوان الخ...
   لعل تلك الدراسة عن "شربل بعيني منارة الحرف"، وقد استفاق عليها مؤخراً، أثارت شهيته، فإذا به يطلب إليَّ، مطلع آذار 2020، أن أضع تقديماً لديوانه الشعري "أحبُّكِ"، فكانت من لدُنّي مراجعة نقدية، وقعت منه موقعاً حسناً، فطمع في تقديمٍ آخر لديوانه "مجانين"، وهو ينطلق في هذا الطمع "المحمود" من قول الإمام علي (ع):" منهومان لا يشبعان: طالبُ علم وطالبُ مال!". وإذْ ثنّيتُ، أعلمتُهُ بأن حظَّهُ لديَّ ، بل حِصّتُهُ قد نفدت، لأنني آخذٌ عهداً على نفسي بألاّ أضع لأحد الكتّاب أو الباحثين ثلاث مراجعاتٍ، إلاّ استثناءً!
   وتعليلُ ذلك- وهذا ما لم أقُلْهُ له- أن البعض قد يتوهّم أن ثمة قطبةً مخفيةً في الأمر، مما يدفع إلى تقوّلات وإلى تفسيرات، ليست في مصلحة الكاتب ولا في مصلحة الناقد كليهما! 
   .. بيد أن إلحاح البعيني "الرقيق واللطيف"، دفعني إلى مُتابعة مسيرتي النقدية معه، من منطلق "أن الضرورات تُبيح المحظورات!".
   هكذا وضعت مراجعتين نقديتين أُخريين لديوانيه:" نجمة الشعر" و"خماسيات حب"، وليغدو في جعبتِهِ خمس مراجعات ، تتجاوز 250 صفحة من القطع الوسط! 
   وإذْ تنزّل الوحيُ على البعيني- ولا أحسبُ ذلك وحياً- فقد عرض عليَّ أن يضمَّ كتابٌ هذه المراجعات، عنوانه :" شربل بعيني بين الفصحى والعامية"، وعلى أن يصدر في سيدني، بصيغتين : الكترونية وورقية.
   لا شك أن ما دفعني إلى قبول هذا العرض، ليس ظفري بكتابٍ، يصدرُ باسمي، لولا أنني مُزمعٌ النظر إلى هذا الكتاب كمنصةٍ أنطلقُ منها لوضع "موسوعةٍ" عن أدب المهجر الاسترالي، سيما أن لديَّ حالياً، إلى مراجعات البعيني الخمس، سبع مراجعاتٍ هي على الوجه الآتي: ثلاث مراجعاتٍ للشاعر روميو عويس-سبق ذكرها- إلى مراجعتين لصديقي الفنان والشاعر الاسترالي/ اللبناني الراحل- رحمه الله- غسان علم الدين، أولاهما لديوانه "أخضر في سهول الجراد"، وثانيهما لديوانه "شمسٌ مختبئة في صدري/المدن"، إلى مراجعة نقدية للأديبة السورية المقيمة في استراليا أمان السيد، حول كتاب لها عنوانه :" نزلاء المنام- مجموعة قصص"، إلى مراجعة للإعلامية الاسترالية- اللبنانية نادين الشعار، حول ديوان شعري لها ذي نزوع صوفي ، عنوانه:" محاريب العشق".
   ولسوف يكون توسُّعٌ، خارج هذه الأسماء، لا سيما من أبناء الجيلين الثالث والرابع للجالية اللبنانية، وللجاليات العربية، حيث يحتلّ بعضهم مواقع مؤثِّرة في بعض الجامعات الاسترالية، وفي ميدان الإعلام الأدبي.. وسوى ذلك من مواقع. 
   ... هي الطريق التي أوصلتني إلى البعيني، ودليلي الأول روميو عويس، وليبقى السؤال: لماذا شربل بعيني؟!
ـ شربل بعيني لأنه، إلى كونه مُتجذّراً في المغترب الاسترالي منذ خمسين عاماً  مُتتالية، يحمل قضية وطنه الأم (لبنان) في عقله، ويحملها جرحاً مُنغرساً في قلبه، ووجعاً يُؤلمه حتى الرمق الأخير! 
ـ شربل بعيني لأنه المتقدّم، بل المتصدّر أقرانه من شعراء "الصفّ" الأول في المغترب الاسترالي، على جبهة الشعر، فصيحه ومحكيِّه!
ـ شربل بعيني لأنه المتأجِّج أبداً في الدفاع عن قضايا الأمة، ولا سيما قضية فلسطين وعن سائر قضايا العرب، في وجه أعداء الأمة الذين يتناوشونها من كل حدب وصوب!
ـ شربل بعيني لأنه "شاعر الغربة" من دون مُنازع، مثّل شعره شلاّلاً هادراً دافقاً في خضم شعر المنافي... ولمّا يزلْ، بعد خمسين عاماً، دائم التدفُّق! 
ـ شربل بعيني لأنه ذلك "الجبراني" و"النزاري" (نسبة إلى جبران خليل جبران ونزار قباني) الثائر على الحلف الجهنمي بين تجار الهيكل والساسة الفاسدين الذين باعوا أوطانهم وأفقروا شعوبهم، وذرّروا الكثير منها في أربع جهات الأرض!
ـ شربل بعيني لأنه الداعية إلى العيش الوطني اللبناني الواحد، والمعترف بالآخر المختلف: عقدياً ودينياً.. فما يهمّه الانسان والإنسان وحده، بريئاً من كل انتماء فئوي أو جهوي أو عرقي!
ـ شربل بعيني، إذا أخفى إسمه، فإنك لا تعرفه، إذْ يتكلّم، إلى أي طائفة أو دين ينتمي، فهو عابرٌ الطوائف والأديان إلى الإنسان الإنسان! 
   ... وشربل بعيني لأنه باقٍ ذلك "الطفل" المحب، طيّب القلب والسريرة، الذي لا يُماري ولا يُداهن، المتواضع الذي لا يُصعِّرُ خدَّهُ للناس، ولا يمشي في الأرضِ مَرَحاً، من مُنطلق إيمانه" أن الله لا يُحبُّ كُلَّ مختالٍ فخور" (القرآن الكريم: لقمان/18).
   ... وشربل بعيني أخيراً لأنه ذلك المجدّ المنهمّ، العاكف، ليل نهار، وحتى "الجنون"، على وضع نتاجه، لوجه العلم، بين يدي الناس، لا يرتجي جزاءً ولا شكوراً، اللهمّ إلاّ خدمة قضية الأدب العربي في المغترب الأسترالي، وما وراء وراء ذلك المغترب!
   ... وإذْ نأتي إلى "شربل بعيني بين الفُصحى والعامية" لنُلقي بعض ضوء على فصوله الخمسة، فقد استُهِلَّ بمراجعةٍ نقدية حول ديوان البعيني "أُحبُّكِ"، جاءت بعنوان:" شربل بعيني يُعلنُ الحب المرأة.. ولا يُهادن!".
   عَبْرَ هذه المراجعة، كان تحليلٌ وتفكيكٌ لتسعٍ وأربعين قصيدة، أربع وثلاثون التزمت الفُصحى وجاءت على الوزن الخليلي العمودي، في حين راحت خمس عشرة إلى قصيدة النثر. وقد نعت البعيني هذه القصائد الأخيرة بـ"غرامٌ خارج الوزن" . ولقد خلصنا إلى أن هذا الديوان "أحبّكِ" هو سِفرُ الحب الجامع المانع!
   ... عن المراجعة النقدية الثانية التي أكبَّت على ديوان "مجانين"، فقد أدرجت تحت العنوان الآتي:" عَبْرَ ديوان مجانين، شربل بعيني يشهد لزمنه وينتصر للوطن!".
   لقد كان للبعيني، من خلال هذا الديوان، الذي التزم برمّته المحكية اللبنانية، أن يتصدّى بالكلمة والصورة للحرب الأهلية اللبنانية التي عصفت بوطنه الأم بين عامي 1975 و1976، ودُعيت بحرب السنتين، ولتستمر عبر جولاتٍ مدمِّرة حتى العام 1989. وقد حصدت هذه الحرب العبثية مئات آلاف القتلى والجرحى والمعوّقين، إلى تدمير المرافق الخدمية والبنى التحتية.. ولا زالت تلك الحرب تُرخي بثقلها على اللبنانيين! .. في هذا الديوان ينتصر البعيني للشعب اللبناني ويصبُّ جام غضبه ولعناتِهِ، من كل "العيارات الثقيلة"، على الحكام الطواغيت والفاسدين.. كل أولئك من موقع نضالي، بما ينمُّ عن وعي سياسي وعن تعالٍ عن الطائفية البغيضة، التي توسَّلها تجار السياسة ومجرموها لإيجادِ شرخٍ بين اللبنانيين، لا يمكن ردمه، وجروحٍ لا تندمل! 
   .. أما واسطة عقد المراجعات، ثالثُ الفصول:" شربل بعيني منارةُ الحرف"، فقد كانت مراجعةٌ، أطللنا فيها على خمسة عشر ديواناً للبعيني، أحد عشر بالمحكية اللبنانية، وأربعة بالفُصحى. وقد رصدنا، عبر هذه المروحة الواسعة من الدواوين، ما دعوناه بـ"المانيفستو" (Manifeste) البعيني، أو الخطاب (Discourse)، فتعرّفنا سيرته الذاتية ومساره الأدبي الطويل، من خلال حوار افتراضيّ شيّق بين مؤلّفة الكتاب د. أبو حمد وبين شاعرنا. فقد طفق يُفضي إليها بمحطات من حياته، مُنطلقُها مسقطه مجدليا وعبوراً إلى سيدني، حيث هو اليوم، في إقامة دائمة!
   وقد رُحنا إلى جلاء أطروحة الفُصحى والعامية لدى شربل بعيني، ولنتعمّقها ونؤصِّلَ أبعادها ومرتكزاتها، في مراجعاتنا الأربع التي يضمّها كتابنا هذا.
   .. عن "نجمة الشعر"، وقد قاربناه من خلال مراجعتنا النقدية:" نجمةُ الشعر.. بأشرعة الفُصحى يمخرُ بحراً بلا ضفاف!"، فقد توسّل العربية الفصحى. وإذْ أراده البعيني قوس قزح شعرياً، فقد أدرج فيه أربعاً وأربعين قصيدةً، استلّها من بعض دواوينه، فغدا هذا الديوان "كشكولي" الطابع، لا يمكن عزوُهُ إلى لون شعري واحد. فقد ترجّحت القصائد بين الشعر الوجداني، والشعر السياسي، وطنياً وعروبياً، إلى الشعر التمجيدي لمدنٍ وعواصم عربية، وشخصيات عربية، أدّت أدواراً بارزة، في ميادين مُتعدّدة.
    .. آخر المراجعات، حول ديوان "خماسيات حب"، اتخذت العنوان الآتي:"خماسيات حب شهادة للمحكية شعراً.. لا تقبلُ الدحض!"، فقد رُحنا فيها إلى تأصيل أطروحة الحب لدى شاعرنا، من خلال كتاب ابن حزم الأندلسي "طوق الحمامة في الأُلفة والأُلاّف"، ناهيك عن رصدِ مسيرته "العشقية"، بمحطاتها الثلاث:" بدءاً بـِ "مراهقة" (1968)،  عبوراً إلى "معزوفة حب" (1989) وانتهاء بهذه "الخماسيات" (بين عامي 2018 و2020)، التي هي بمنزله "طقاطيق" شعرية، بالمحكية، وقد بلغت مئة وثلاثاً وخمسين. وهي تنتمي بمجملها إلى الغزل المتعفّف المشوب بشيء من روحانية، كما إلى الغزل الشهوي الشبقي، ولكن بمنسوب منخفض"!
   ... إذا كان من علامةٍ فارقة لهذا الكتاب، بمراجعاته الخمس، فهي تتمثّل في إشكالية الفصحى والعامية (أو المحكية) لدى شربل بعيني.
   لقد احتلّت المحكية اللبنانية المساحة الأكثر اتساعاً من شعر البعيني، حتى أنه في إطلالاته اليومية "الفايسبوكية"، سواءٌ أكان ذلك من قديم شعره أو من جديده، يذهب أكثر ما يذهب إلى قصائد ومقطوعاتٍ بهذه المحكية. إشارةٌ إلى أن هذا التوجُّه لديه، لا ينتقصُ البتّة من نتاجه الشعري، فالمحكية، كما الفُصحى، لها جمالاتها التي تُضارع جمالات الفُصحى، وقد تزيدها أحياناً. ودليلُنا الحاسم ديوان "مُناجاة علي"، وهو بالمحكية، فقد جاز إلى العالمية، كما ذكرنا في مواضع من الكتاب. وقد كان للبعيني أن يُسفر عن قدراتِهِ، في الفصحى والمحكية، فكانت رائعته "المربدية" التي زاوج فيها بين الفصحى والعامية وبعض فنون الزجل، وقد ألقاها في المهرجان الثامن للمربد، فكان لها صدى كبير! ناهيك عن دواوين أخرى بالمحكية، جازت إلى لُغاتٍ مُتعدّدة! 
   لن نُطيل في هذه العُجالة حول أطروحة الفصحى والمحكية، فقد وفّيناها حقها، في مراجعاتنا الخمس، وكانت من لدُننا كلمة فصلٌ، فحواها أن البعيني بقدرِ ما أبدع في فُصحاه شعراً، فقد أبدع في محكيتِهِ!
   ختاماً، من طرابلس (لبنان).. من وطني لبنان المعذّب، من وراء البحار، أبعث بهذه المراجعات إلى قادري الفكر في المغترب الاسترالي، ولي في هذا المغترب أهلٌ وأصدقاء، علّ كتابي يُضيف لَبِنَةً إلى البناء الأدبي المهجري، الذي نتطلّع إليه مُتشامخاً! 
                                                    المؤلِّف
                                               مصطفى الحلوة
**
ـ1ـ
شربل بعيني 
يُعلنُ "الحبّ" على المرأة.. ولا يُهادن!

    مدخل/ وأمّا بالحبّ... "وأمّا بنعمةِ ربِّكَ فحدِّثْ" (قرآن كريم).
   في إطار جدل الحب/المرأة، يتموقع هذا الديوان "أُحبُّكِ"، يأتينا به شاعرٌ لبنانيٌ عربي، ذاع صيتُهُ في المغترب الأوسترالي، وبات مُتقدِّماً بين أقرانه من الشعراء المهجريين. 
   "أحبُّكِ"، عنواناً، يتصدّر، مشفوعاً بغلاف لفنانةٍ بارعةٍ صَناع، من الدوحة "البعينية" (رندى بعيني)، يُؤشِّران على ذلك الجدل الخلاق بين الحب والمرأة، مما يأخذنا إلى صُدقية المقولة المُشتهرة "الكتاب من عُنوانه يُقرأ"! بل إن ديواننا يُقرأ من عنوانين - كلمةً وصورةً - متضامنين متكافلين، يضعانِنا بإزاء الرسالة التي ابتغاها الشاعر شربل بعيني، هي رسالة الحبّ، بكل مفرداتِهِ والدلالات والإيحاءات، معلناً، من دون هوادة، الحبْ على  المرأة معشوقته! 
   كيف لا يتخيَّر البعيني "أُحبُّكِ" كلمةً/ رسالة لديوانه، وَقْتَ يرى إلى معشوقته أجمل من خَلَقَ الله من النساء:
".. وإني أخترتُ أجمل نساءِ الأرض
 لأُسمِعَها كلّ صباح:
 أُحبُّكِ... أجل ، أُحبّكِ!"
 (من قصيدة: ابنة مصر)؟! 
   بل كيف لا يفعل، وهو في قصيدته "ارتعاشات الهوى"، يذهبُ إلى أن:
 "الحبَّ أسمى نعمة حلّتْ بنا
 فيه هناءُ القلبِ أو فيه الغذا". 
   وإذْ يغدو الحبُّ نعمة، فهو يكتسي سِمةً من التقديس، ذلك أن النِعمِ تتنزَّلُ من لَدُن الله، مما يُوجبُ الشكر، عَبْرَ اللهج بهذه النعم: "وأما بنعمة ربِّكَ فحدِّثْ"! هكذا راح شاعرنا البعيني يُحدِّث بنعمة الحب، فكان "ديوان الحب"، ناهداً إلى استمرار هذه النعمة، إذْ بالشُكر تدوم النعم، على ما يذهب الإمام علي بن أبي طالب (كرّم الله وجهه). 
   إغراقاً في قُدسية الحب- والمرأةُ موضوعُهُ- يُطلقها الشاعرُ صرخةً مدوِّيةً:
"الحبُّ إلهٌ يتجسّد في القلوب
الحب هو الذي خلقنا" 
من قصيدة: "وريقات اعتراف"، 
مُرتقياً به إلى مصاف الألوهة، وما ينجلي عنها من خلق! 
   ولقد شفع هذه الشهادة بشهادة أخرى، يتوجَّهُ بها إلى معشوقته:
"حُبكِ، يا حبيبتي، مقدّسٌ عندي
حُبُّك إلهٌ أعبدُه
 وقمر استلهم منه كتاباتي".
 (قصيدة: وريقات اعتراف)... 
   هذه الشهادة التي تُشرك مع الله إلهاً آخر، هو الحبّ، تجد تخريجاً لها، عندما ندرك، وفق المنظور المسيحي أن "الله محبة"، وليكون، بلغتنا الفلسفية، تماهٍ بين جوهرٍ (الله) وبين عَرَضٍ (الحب)!  
   وقد كان حسمٌ للمسألة، إذْ يُقرِّرُ شاعرنا، في موضع من الديوان..
"إن الهوى، مُنذُ الهوى
صِنُو الإله.. فاشهدوا" 
من قصيدة : (مستعبد). 
   وإذْ أراد البعيني أن يُعزِّز من حضور أطروحة الحب، فقد استهلّ ديوانه، بقصيدة "أُحبكِ"، وهي التي اتخذها عنواناً لهذا الديوان. كأننا به يستجيب للمثل الشعبي القائل: "أوّلْ نزولو، شمعة على طولو".  
   ناهيكَ عن أن عناوين القصائد جميعها هي بمنزلة روافد، تصبُّ في نهر حبّه الطامي! 
   ..في عودةٍ إلى جدل الحب/المرأة، بل جدل الحب/الجمال- إطارُهُ فن الغزل- فإن هذا الجدل، يخترق الديوان، بقصائده التسع والأربعين، ولنجدَنا أمام مشهديات مُترعةٍ: هوىً، وصبوةً، وشغفاً، ووجْداً، وكَلَفاً، وعشقاً، ونجوى، وشوقاً، ووصباً، واستكانةً، وودّاً، وعِشرةً، وولهاً وهُياماً.. هي درجات الحب الأربع عشرة، التي تتدرّج، من أدنى إلى أعلى، قالت بها العرب، وجاء شربل بعيني ليلتزمها عن آخرها، فكان ديوانه بحق "سِفْرُ الحب"، مُحلّقاً بمعشوقته الحقيقية أو الافتراضية، إلى درجاتٍ في الحُب عُلَى! 
   في الديوان/ لوناً شعرياً وأطروحاتٍ ورسائل.. 
   تسعةٌ وأربعون نصاً، أربعة وثلاثون منها، تنتمي إلى الشعر العمودي الخليلي، في حين انضوت النصوص الباقية (عددها 15) إلى قصيدة النثر، وقد وسمها شاعرنا بأنها "غرامٌ خارج الوزن". إشارةٌ إلى أن النصوص الأخيرة هي نتاجُ سياحةٍ "سندبادية"، اصطحب فيها الشاعر محبوبته إلى قارات أوروبا وآسيا وأميركا (الوسطى) وأفريقيا (العربية)، فكان استعراضٌ لأهم ما في بعض العواصم والمدن (لندن/ سويسرا/ إيطاليا/ هولندا/ فرنسا/ ألمانيا/ جزيرة بالي- أندونيسيا/ المكسيك/ مصر/ دبي/ هونغ كونغ- الصين/ بلجيكا/ سنغفورة). 
   عن البحور الشعرية التي التزمها الشاعر، فقد كان طغيان لبحر الرجز، تاماً ومجزوءاً (19 قصيدة)، واستأثر بحر الرمل، تاماً ومجزوءاً بست قصائد، وكذلك الكامل، تاماً ومجزوءاً (6 قصائد)، في حين كانت قصيدة واحدة لكل من بحر الطويل وبحر الخبب وبحر الوافر. 
   ..وإذْ نروح إلى الديوان، تفكيكاً وتحليلاً، فإننا متوقفون بداءةً عند اللون الشعري الذي ينتمي إليه، ولنعبُر بعد ذلك إلى أطروحاتٍ ورسائل، قُطباها الحبيبة والشاعر، بل هما طرفا المعادلة العشقية التي تخترق الديوان، من ألفه إلى يائه، مع أرجحيةٍ لافتةٍ لهذه الحبيبة، إذْ تستهلك المساحة الأكثر رحابةً للقصائد، بشقّيها: موزوناً وخارج الوزن. علماً أن ثمة غياباً لصوت الحبيبة، فينوب عنها "ضمير الغائب"، بمعنى أنها لا تظهر إلا من خلال صوت الشاعر، وعبْرَ مرآته!  
   تأسيساً على ذلك، سوف نستعرض مسألتين جوهريتين، تتمثّلان في رؤية الشاعر لذاته وبصوته، وفي رؤيته الحبيبة، وهما رؤيتان تتكاملان فصولاً، بحيث يكون كل منهما لقرينه ولبعضهما بعضاً بمنزلة السبب والنتيجة، طرداً وعكساً!  
   وإلى ذلك فثمة مسائل أخرى، لا يمكن أن نضرب عنها صفحاً، إذْ لا تُستوفى دراستنا إلا من خلال الإطلال عليها. ولا بد أن تكون لنا وقفةٌ خاصة، عند قصيدة شاعرنا "وريقات اعتراف"، وهي من بواكيره، ففيها من عمق المعاني ما يضعها عند أعتاب الفلسفة! 
   وإذْ يمثل الأسلوب الوجه الآخر للعملية الإبداعية، فإن خطاب الأسلوب، في هذا الديوان، سيشغل المساحة التي يستحق. 
أ- في اللون الشعري للديوان 
   عن اللون الشعري، فإن الديوان برمته ينتمي إلى فن الغزل، ولتترجَّح النصوص بين غزلٍ حضري صريح وبين غزلٍ عُذري عفيف، وليكون تداخُلٌ أحياناً بين هذين النمطين، في القصيدة الواحدة. ومما يُعزِّز من المنحى العُذري في الديوان، تلك المعاني والمواقف المأثورة لدى الشعراء العُذريين الذين عرفهم الأدب العربي، من مكابدة ومعاناة وتشكٍّ واستعطاف وتظلّم بإزاء المحبوبة..الخ. 
   وإذا شئنا تحديداً جامعاً للون الشعري للديوان، فإن له من النسيب بعضاً من مشهديات، ومن التشبيب، بعضاً آخر، بحيث يُفسح للمرأة، جسداً، وصفٌ مُغرقٌ في المادية الشبقية "المتأدِّبة"! 
   ولقد كان لشاعرنا أن يُوفّر علينا مشاق التعريف بديوانه، لوناً شعرياً، فإذا به يُعلنُ جهراً، في مُفتتحِهِ قصيدة: (أُحبّكِ): 
"يا حلوتي هذا أنا
أحيا بأبيات الغزل". 
   وإذْ نُلقي القبض على شاعرنا بتُهمةِ التشبيب، فإن قصته مع الشفاه والنهدين، تتكشَّف عبر الكثير من المواقف، التي لم يبرأ منها أيّ من الشعراء الغزلين، على مرّ التاريخ، وهاكم بعضاً من "خيوط" هذه التهمة التي تأتينا بالخبر اليقين:
"قبلتُها حتى ارتوت محبوبةٌ
 خبّأتُ ألف قبلةٍ في عُبِّها
 طولُ الليالي دونها لا ينتهي
 أحلى الليالي عشتُها بقربها" 
قصيدة: (أجل أحبّها). 
"أحببتُ تقبيل الشفاه الحُمر، هل
أنهي لهيباً كُنتِ أنتِ المضرمة؟
هل أنتهي من ليلة محمومةٍ
روّضتُ فيها النهد، أشعلتُ الفما
 فوق النهودِ السُمرِ علّقتُ الأنا
.. 
اني زرعتُ الصدر ألفي قبلة" 
قصيدة: (يا حلوتي). 
   هكذا فإن هذه القصة مع الحبيبة ذات فصولٍ، تضجُّ بليالٍ حُمر، وقد وضع الشاعر رحيق شفاهها والنهدين نُصبَ شفتيه، ينهل من هذا الرحيق ما ينهل، ولا ارتواء! 
"كم قبلةٍ أودعتُها شفة" 
قصيدة: (شفتاكِ).. 
"قبِّليني واحضنيني
لستُ أرضى عن سنيني
ثم هاتي يا حياتي
قبلةً تمحو أنيني
 كلما أدنيتُ ثغري.. 
قبّليني.. قبّليني" 
قصيدة: (قبّليني). 
   كأننا بشاعرنا في حالةٍ من جوعٍ "عتيق!" إلى التقبيل وإلى اعتصار النهدين، فيستجدي الحبيبة، كلما أدنى ثَغره من ثغرها! 
   وفي موضع آخر لنا أن نقرأ: 
"ريقك المعسول أضحى نعمةً
ثغري العطشان زيدي جُرعتي" 
قصيدة: (رقّصيني).. 
  أفلا نقرأ في تعبير "جرعتي" ما يشي بأن طقس التقبيل غدا حالةً من إدمان، لدى شاعرنا؟! 
   وإذْ نستزيد، يُطالعنا على الوتيرة نفسها: 
"قبَّلتُها، والقلبُ يحكي قصتي" 
قصيدة: (رِوى).. 
"وأريد تقبيل الخدود" 
قصيدة: (محبوبتي).. 
   وفي توصيف القبلة بطعم السفرجل، ولكن من دون غصص: 
"والله، كانت قبلة
كنكهة السفرجل
سريعة كغمزة
كأنها مستقبلي
اني أقبّل زهرة
أحلى من القرنفل" 
قصيدة: (أنتِ لي). 
   في موقفٍ ملؤه الغيرة، إذْ يخشى على ثغر المحبوبة من أن يقع في شَرَكِ أحد الشرهين، فيعبث فيه إيذاءً، نقرأ: 
".. أخشى عليها حلوتي
من طيش ثغر مهمل
إنْ عاث فيها ليلةً
أسنانُهُ كالمنجل" 
قصيدة: (أنتِ لي). 
ب- في رؤيةِ الشاعر نفسَهُ 
   من خلال "مسح" شاملٍ لجميع قصائد الديوان، يرتسم أمامنا الشاعر، بكل ما يتسم به من تشكيل فكري ونفسي، وما يُراوده من انتظارات وما يكابد من آلام، لا سيما آلام الحب، وإذا به: 
   ذلك العاشق الذي يُعاني، والذي تفضحه عيناه، ولا يعرف بمن يلوذ طلباً للنجدة: 
"العين تُفشي حُبّها
قولوا بمن استنجدُ!" 
قصيدة: (مُستعبد). 
   لعل هذه الاستغاثة تجد تلبيةً لها من محبوبته، فتكون حارسة قلبه: 
"قلبي عليلٌ بالهوى
كوني لقلبي حارسه" 
قصيدة: (يا آنسة). 
   هو من يُعاني محنة الصدّ، لا حدّ لهمومه، وأُغلقت دونه أبواب الحبيبة: 
"تحملْتُ صدّاً لا تُعدُّ فصولُه
وأخفيتُ همّاً لم تسَعْهُ حقائبي" 
قصيدة: (سلامٌ عليها).  
   من هُنا كان يرى إلى نفسه مهزوماً، يرفع رايته البيضاء أمام سحر عينيها: 
"السحرُ يُدجِّجُ جفنيها
 وأنا مهزومٌ أو أعزلْ" 
قصيدة: (عبلى). 
   هو المحبّ المستعطف، يُناشدُ حبيبته أن تُؤويه، فيكون عيالاً عليها: 
"خبّئيني تحت شالِكْ
 واجعليني من عيالِكْ"، 
وإذْ هي شغفه الوحيد، فهو في جوعٍ إلى خيراتها.. 
"اشبعيني من غِلالكْ". 
   وفي هذا السبيل، يُروِّجُ لنفسه، فهو، في حبه لها، وبحسب زعمه، مختلفٌ عن الآخرين: 
"صدّقيني لن تُلاقي
 مثل حبي في رجالكْ
 قربيني منكِ جهراً
 أجلسيني عن شمالكْ" 
راجع، قصيدة: (خبّئيني). 
   ما يلفت أن شاعرنا المولّه غير طامع في الجلوس عن يمين محبوبته، إذْ يرتضي جهة اليسار، مع ما لهذه الجهة من دلالةٍ، تنتقص من قدره! 
   ..وإذْ يبلغُ الذروة في استعطاف الحبيبة، فهو يستصرخها علّها تُشفق عليه، فتنتشله من جنونه، بل من الوحدة القاتلة التي يتردّى فيها: 
"أنقذيني من جنوني
من صُراخي من أنيني
 كلما أظهرتِ صدّاً
 من ثيابي تطردني
 ارحمي قلبي وعقلي
 طار عقلي يا عيوني
 بتُّ كالمجنون أمشي
 ساحباً خلفي ظنوني" 
قصيدة: (جنون).
   ..ولأن الحب مملكتهُ الأثيرة، ويُريد أن يبقى مُتوّجاً عليها، يروح شاعرنا إلى "مُطالعة" في الاستعطاف، فيرى أن عطف المحبوبة عليه يُمثل له ثروة كبيرة. وفي حال أنقذته مما يُكابد من أوجاع الحب، فإن ذلك يكفل تبدلاً لديه إلى حال أفضل: 
"الحبُ مملكتي... وعطفكِ مالي
 مُدّي اليدين وحققي آمالي
قولي: أحبكَ، غيِّري أحوالي
شعّي كشمسٍ أرهقتها ليالي
آن الأوان لتلتقي بهلالي" 
قصيدة: (رُدّي عليَّ). 
   هكذا يدعو شمسها لكي تلتقي بهلاله، وما درى أنه "لا الشمسُ ينبغي لها أن تدرك القمر، ولا الليلُ سابقُ النهار، وكلٌّ في فلك يسبحون" (قرآن كريم)، فليكنْ مسرح عبث، وليكن شاعرنا "في انتظار غودو" صموئيل بيكيت، الكاتب الإيرلندي الشهير. 
   استكمالاً لما سبق، وفي مجال استجداء الحب، يدعو الحبيبة إلى الاعتراف به حبيباً على الملأ! وقد حصل ذلك أثناء وجودهما في ألمانيا.. ولكن من أسفٍ، ووفق القول الشعبي: "لا تندهي ما في حدا!" قصيدة: (غريب في ألمانيا).
   وهذا ما جسّدهُ في قوله: 
"ردّي عليَّ إذا ندهتُ: تعالي
فالوردُ دوماً يستجيبُ لحالي
كل القيود نزعتُ بالأفعالِ
إلاّ بقلبي لم تزلْ أغلالي" 
قصيدة: (ردّي عليَّ).. 
ولعلّ سجن القلب أشدّ السجون قهراً وأعتاها! 
   هو المتشكّي من قساوة قلب الحبيبة، يأسى لعدم مبالاتها، إذْ لا تُعيرهُ أهمية. وبإزاء هذا التجاهل المتعمّد، راح يُجاهر بتمرّده، معلناً بأنه سيُحرز الفوز نهاية المطاف: 
"لكن قلبكِ جامدٌ
لا نبضَ فيه ولا ألقْ
تمشين قربي صخرةً
 القلبُ فيها من  ورق
وأنا الفقيرُ الى الهوى
تغتالني نارُ الأرقْ
لا لستُ أرضى نكسةً
سأفوز في هذا السبقْ" 
قصيدة: (سَبَق). 
   هكذا ستكون له الغلبة، طالما هو متشبِّثٌ بحبها، ولا فكاك: 
"إن قلتِ: لا، أو ألف لا
عن حبِّنا لن أنثني" 
قصيدة: (ألفُ لا). 
   إذْ غدت المحبوبة (عبلى) أمسهُ وحاضره وغدهُ، مُجسِّدةً بذلك لُعبة زمنه، مثلّثة الأبعاد، فهو عاشقٌ طهارتها، ولتبقى سيدة حبِّه الأبدي، بحيث نسي حبه الأول: 
"بالأمسِ عشقتُ طهارتها
وأراها اليوم غدي الأفضل
هي سيدةُ الحب الباقي
أنستني ما الحبُّ الأول"
قصيدة: (عبلى). 
   لعل لخاصيّة الاسترهان، استرهان شاعرنا من قِبل الحبيبة، مطرحاً واسعاً، يتبدى في العديد من محطات الديوان، وليستحيل هذا الاسترهان ضرباً من الاستعباد! 
   فهو رهينُ محبوبته، بمعزلٍ عن تبدّل الأوضاع: 
"مهما جرى يا حلوتي
أنتِ الغرامُ الأوحدُ" 
قصيدة: (مستعبد). 
   هو أسيرُ حبها، يضع نفسه بتصرفها، ساعة تشاء، يرى إلى أصفاده أصفاداً من ذهب: 
"هذا أنا، أصفاديَ ذهبٌ
سلّمتُكِ الأصفادَ فاحتجزي" 
قصيدة: (شفتاكِ).. 
إنه مُنتهى الإذعان والاستسلام!  
   كأننا بشاعرنا يُحاكي ما قاله شوقي، أمير الشعراء: "مولاي وروحي في يده/ قد ضيّعها سلمتْ يدُه". 
   ولم يبق إلا أن يُعلنها شاعرنا صريحةً، لا تحتملُ تأويلاً، فالحب سيّده وهو المستعبدُ لديه، واستطراداً لدى الحبيبة: 
"الحبُّ عندي سيِّدُ
لكنني مُستعبدُ" 
قصيدة: (مُستعبد). 
   على رُغم ما حاق بشاعرنا من حالات القهر والاستعباد، فإن رهانه باقٍ على حبيبتِهِ، يطمع في رعايتها له، فتُلاعبه وتُراقصه وتكفكف دموعه، وكأننا به طفلٌ صغيرٌ، يُعوزه احتضان! هكذا يدعوها إلى أن تكون هدايته في ليله المدلهم: 
"رقِّصيني كي تُزيلي دمعتي
ذابتِ الشمعاتُ كوني شمعتي
يا حياتي، واحضني خصري الطري".. 
   ولا يكفيه ذلك، بل يلتمسُ منها تحديقاً وتطريباً، فيبلغ حالةٌ من جنون السعادة: 
"حدّقي بالوجه، صيري فرحةً
تخطفُ الآهات، تشفي لوعتي
موسقيني.. أعزفي لحني أنا
جنِّنيني" 
قصيدة: (جنّنيني).
   وإذْ يجدُ شاعرنا نفسه عند مفترقي طريقين مُتباينين، يروح إلى حيرة، تتمثل في هذه المعادلة: هل يستمر في لهو الحب وعبثه، أم يلتزم نداء العقل، فيعود إلى رشده؟: 
"قلبي يتوسَّل أن ألهو
والعقلُ يناديني: إعقلْ" 
قصيدة (عبلى). 
   ولكن كيف له أن يبقى على هذا العبث، والأرقُ يُضنيه، فلا يغفو له جفن، وليغدو ليله طويلاً، كما سائر العُشّاق: 
"أرقُ العُشّاق أكابدهُ
 وأعاني من ليلٍ أطول" 
قصيدة: (عبلى). 
   ..بعد كل ذلك، وإذْ لم يُنصت إلى نداء العقل، أضاع عقله والحواس، وفشل في حُبِّهِ فشلاً ذريعاً:
 "أضعتُ الحواسَ والعقل قصدَ وِصالها
 فلم تجرِ كالمعتادِ خيلُ تجاربي" 
قصيدة: (سلامٌ عليها). 
ج- المحبوبةُ بعدسةِ الشاعر وفي مرآتِه! 
   شأن المحبين جميعاً أن يُرى المحبوب، أذكراً كان أم أنثى، بعينٍ "ذاتية" مُتحيِّزة، تذهبُ، غالب الأحيان، إلى تعظيم قدره وإعلاء شأنه، وإلى التغاضي عن معايبهِ، إذا وُجِدتْ، وإلى تبرير أفعاله وسلوكياته.. ذلك أن الحبّ، إلى كونه أبا العجائب، فهو قد يُصيبُ البصر والبصيرة ببعضٍ من زوغان أو عماء! 
   تأسيساً على "ذاتية" النظرة تلك، وعلى رُغم المعاناة التي يكابدها شاعرنا- وقد تبيّناها في ما سبق من قول- طفق يرتقي بمحبوبته ويُصعِّد بجمالها المادي والمعنوي، وليراها بعدستِهِ على الوجه الآتي:  
   هي "حلوةُ الحلوات"..
"لا البدرُ يُضاهيها حُسناً
والشمسُ، أؤكدُ، قد تخجلْ" 
قصيدة: (عبلى). 
بل هي "البدرُ الذي شعّ في نيسان الشاعر ووردةٌ يحلو بها الخدّان"... وهي الجوهرة وجهاً مُشرقاً راجع: (أنتِ الحبيبة). 
   هي نجمةٌ، بل نجمةُ شاعرنا، "من أجلها كان الضيا"، عيناها رُمحٌ قاتلٌ، ومن الثغر للعاشقين شفاء:
 "شكَّت بصدري رُمحها
والرمح لحظٌ قاتل
والثغرُ فيه الأدوية" 
قصيدة: (نجمتي).. 
وفي موضع آخر عن عينيها الدبّاحتين، فهما تمارسان فعل القتل الجماعي، ولتكون مجزرة! : 
"إقرأ عيوني لا تخفْ
أخفيتُ فيها المجزرة" 
قصيدة: (عنترة). 
   عن كرزِ الشفاه، "إني أرى نوعاً من الكرز" قصيدة: (شفتاكِ)، فحدِّثْ ولا حرج، فهي السعيرُ ذو لهب!: 
"أحببتُ تقبيل الشفاه الحمر هل
أنهي لهيباً كنتِ أنتِ المضرِمة؟" 
قصيدة: (يا حلوتي). 
   وإذْ هي "أنثى بخدّيها جمالٌ ساحرٌ" قصيدة: (يا حلوتي)، فقد أراد الشاعر التقاط الفجر فوق هذين الخدّين! قصيدة: (سلامٌ عليها). 
   إمعاناً، في توصيف هذين الخدين، فهي قوس- قزحية الخدين، تقاطعت عندهما كل ألوان الثمار، مع غلبة للأحمر القاني: 
"كل الثمار فوق خديها ارتمت
ما العيبُ لولا الخوخُ بالخدِّ استوى؟" 
قصيدة: (رِوى). 
   لقد كان لسُمرة الحبيبة وسحرها أن يرفعاها إلى جنون الجمال مرتبةً: "سمارٌ وسحرٌ كالجنون جميلةٌ" قصيدة: (سلامٌ عليها). 
   هي "عربيةُ أمجادٍ غبرت"، لا يُدرجُ اسمُها في تذكرة، لا يحتضنه حرفٌ ولا يصنعهُ شاعر، فهو خارجُ الأبجدية المألوفة والمتداولة، فيعصى على التهجؤ به والتسمية!.
   هي من لوّن ثغرها الشفق، وصاغها الذهب، فعجزت عن عدّ أوصافها الكتب! بل هي "الحياة كلها وابتداء الزمن" قصيدة : (الف لا). 
   عن القوام الخيزراني، فما كان له أن يلتوى، وهو ".. مثل الحور في عليائه"، أو كسُنبلةٍ، لم يدغدغها الهواء، فبقيت على استقامتها قصيدة: (رِوى). 
   في تصويبٍ على غوايتها، يجعلها شاعرنا في مقام أم البشرية حوّاء، التي أخرجت آدم من الجنة، فيطلب إليها أن تُعيدَه- وهو هنا يعني نفسه- إلى جنان النعيم: 
"كل الثمار أكلتها في جنة
 إنْ كُنتِ حواءً.. فرُدّي آدما"
قصيدة : (يا حلوتي). 
   يجعل من العرق المتصبب من جبينها ما يُحيي أزهار العشاق، بعد موات: 
"يا ابنة الشرق
يا حفيدة الشعر والسهر
هولندا ستحتفظُ بحُبيبات العرق
المتصبِّبة منك
لتُنعش بها أزهار العاشقين
ساعاتِ الجفاف"
 (درجات أمستردام).  
   إشارةٌ، في هذا المجال، إلى أن هولندا (عاصمتها أمستردام) هي بلدُ الزهور من دون منازع!. 
   هي من تحتفي بها الطبيعة المطبوعة والطبيعة المصنوعة، إذْ تخرجان، في حضرتها، من عالم الجمادِ إلى عالم الأحياء: 
"القرميد السويسري
سمّر ألوانه على السطوح
واشرأبَّ لرؤيتكِ
جبالُ الألب خلعت عباءتها الثلجية
وانحنت لالتقاط أنفاسكِ
ساعات اللونجين الشهيرة
ضبطت وقت وصولك
كما تضبط السنةُ فصولها" 
قصيدة: (قرميد جبال الألب). 
   يرى إليها ملكةً، فيتوجها على بلاد الضباب (بريطانيا): 
"أحذيتك المطعمة بورود سيدني
ستغزو امبراطورية لم يغزُها ابن امرأة" 
قصيدة: (حب في لندن).     
   هكذا يضفي على محبوبته بعضاً من "كرامات" وأعجوبات، بحيث تدفع عقارب "بيغ بان" إلى التراقص، مُعيدةً إياها إلى الحياة.. ولكن شرط ذلك أن تتوجه إلى شاعرنا، هاتفةً: "أُحبُّكَ"!. 
   إذْ لم تكنْ كل أيام شاعرنا مع الحبيبة مفروشةً بالورودِ والقُبل، فكان صدٌّ وعدمُ وصال- على غرار ما يكابده جميع العُشاق- فقد اتهمها بالغدر، وهدّدها بصرم العلاقة بينهما. ولكن من أسفٍ ليس له سُلطانٌ على قلبه: 
"لو كان قلبي في يدي
لرميتُهُ في الموقدِ
كي ينتهي عهدُ الهوى
عهدُ الجحيم الأسودِ
.. لكنها غدّارةٌ
طعنت بحبي الأوحدِ
.. والله إني مُتعبٌ
 كُفِّي الأذى وتبدّدي". 
بيد أن هذه التهديدات جميعها تبدّدت، إذ لا يستطيع  من حبها فكاكاً: 
"والقلبُ يهتف عالياً
هيا املكي واستعبدي" 
قصيدة: (غدّارة). 
   لعلّها من المواقف النادرة "الإيجابية"، والحالات المفارقة، بل من خارج السياق المعهود، تودُّد الحبيبة إلى الشاعر، معبِّرةً عن ولعها به، بحيث تركع أمامه، وتتخذه سيداً لها! : 
"..أنتَ الحبيبُ الأروعُ
وأنا بحبكَ مولعُ
متكبِّرٌ لكنني
قُدّام عرشكَ أركعُ
إني أريدُكَ سيدي
مثل الشذا تتضوّعُ
فالحبُ أدمى مهجتي
وبصيرتي تتصدّعُ
لكن صوتك غارقٌ
في صمتِهِ لا يشفعُ
أحببتُ فيك رجولةً
ما خلتُها تتدلَّعُ
.. خُذني إلى حضنِ الهنا
من حقنا نتمتَّع
آتيك كالحلم البهي
ما السرُّ لا تتطلّعُ.." 
قصيدة: (أنتَ الحبيب). 
   ..ويبقى السؤال: هل لهذه القصيدة- وهي من خارج السياق الذي عهدنا- أنْ تجبَّ (بلغة فقهاء الدين)، أي أن تُلغي أو تُعطِّلَ مفاعيل سائر القصائد التي يُجسِّدُ فيها الشاعر معاناته، أم أن "سُنونوةً واحدةً لا تصنع ربيعاً"!. 
د- .. ومحطّاتٌ أخرى ذات شأن! 
   إذْ نُغادِرُ جدل الحب/ المرأة، وقد تبيّناهُ، بشكل جليّ، من خلال رؤية الشاعر نفسَهُ ومقاربته معشوقته عبرَ مرآة ذاته، فإننا نستعرض بعض القضايا التي حفل بها الديوان، متوقفين عند أكثرها حضوراً، وفي مقدّمتها:  
   عن سريان العمر المتسارع والهواجس التي تستبدُّ بالشاعر، وقد غدا عند مشارف السبعين، فقد أفرد لها قصيدةً، يأسى فيها لما آل إليه أمره من كآبةٍ وعجزٍ جسدي: 
"إذا السبعون نادتني قريبا
 سأُنهي عمريَّ المُرَّ الكئيبا
عجوزاً صرتُ عكازي طويلٌ
وخطوي صار من ثقلي صليبا" 
قصيدة: (سبعون). 
   هكذا يتحسَّر شاعرنا، إذْ تُدير له السنون المتعاقبة ظهر المجنّ، فيغزو المشيبُ رأسه، داقاً ناقوس العمر الآيل إلى أفول: 
"حرامٌ أن تُعاديني سنيني
حرامٌ أن يرى شعري المشيبا".. 
جرّاء هذا الوضع المستجد، الذي يؤلمهُ، طفق الضجر يستبدُّ به وتتأكّلُهُ الوحدة، وليُمسي معزولاً في هذا العالم:
"أعيشُ العمر ضجراناً بحالي
غريبٌ عاش في دُنيا غريبه".
   ثمة مسألة تمسُّ المشاعر في الصميم، متمثِّلةً في شاعريته، وهي الدينامية الباقية له على الزمن، تُمدُّه بسلاح الكلمة، وما أشدّها الكلمة سلاحاً، لمن فقدوا سائر عناصر القوة! 
   من هُنا، في ظل معاناته، مُتعدِّدة الأوجه، راح يُفاخر بفعل الكلمة لديه، مقدِّماً "أوراق اعتماده" لحبيبتِهِ، سفيراً للكلمة الشعرية، فتتعرفه على حقيقته!: 
"هل تعلمين أنني
أظهرتُ كل تفنّني
كي تعجبي بشاعرٍ
ليس العظيم والغني
هذا أنا يا حلوتي
معطّرٌ بالسوسنِ
بالشعر زيّنتُ المدى
روّضتُ كل الألسُنِ" 
قصيدة: (ألف لا). 
   حول الشرق المتخلّف عن ركب العصر، المحبوس في قفص العبودية، والذي يخشى سطوع شمس الحق وهواء الحرية، والغارق في فكره الغيبي والمؤسطر، والذي لا يرى من المرأة إلا الجانب الجنسي، مُهملاً سائر الجوانب الإنسانية والملكات لديها، كأمٍ للبشرية وكمحركة للعالم بيسراها، كان لشاعرنا، بعينٍ ثاقبة، أن يعكس في قصيدته (ارتعاشات الهوى) هذا الواقع "الشرقي" المظلم: 
   "شرقٌ تعيسٌ لا يُجاري عصره
يخشى الهوى بالنور والتلذّذا
الجنس، أفتى، مُرعبٌ مُستهجنٌ
لا الدينُ يرضاهُ ولا ربُّ الشذا
لكنه بالسرّ يستقوي على
أنثى اشتراها كي يُدمِّيها الأذى
عن فُحشِهِ تحكي المرايا قصةً
قد تخجلُ الأبوابَ والنوافذا
... أهلُ الورى كلٌّ يُلاقي خِلّهُ
وشرقُنا لما يزلْ مشعوذا"!. 
هـ- محطةٌ للإبداع المبكِّر خارج المسار الأوسترالي! 
   "وريقات اعتراف".. هي من بواكير شعره، لم يكن قد شبّ عن الطوق، وقبل الارتحال إلى أستراليا، أدلى بها في السادسة عشرة من عمره، فكانت من الشعر الحلال! وبقدر ما كانت هذه القصيدة العصماء تتسِمُ بعفويتها، فقد كانت تُنبئ بأن أيام مجدليا تحمل إلينا شاعراً سيكون له شأنٌ، وأيّ شأن! 
   ولا ريب أن ما يدفعنا إلى هذا التوصيف، قصيدةً وشاعراً، أن القصيدة تستبطنُ أبعاداً صوفية وخواطر فلسفية، كان مُقدّراً لها أن تتطوّر وتنحو بصاحبها إلى مسار الأدب الفلسفي!.. وهاكم بعضاً من هذه النزوعات الصوفية والفلسفية لدى شاعرنا الفتيّ: 
   بإنتقاله من حالتِهِ "السرابية" إلى عالم الحقيقة الحسية المادية، أي إلى تشكُّل ناجز، وهو يرصُدُ ولادته الجديدة، أفلا نقرأ في ذلك التحول أو التجسُّد ما يقول به الفلاسفة حول تشكُّل الأشياء، وهي تنتقل من حالة "الهيولي" إلى حالة التشكُّل الواقعي المادي؟!: 
".. كنتُ كالسراب
كالخيال
والآن أصبحتُ حقيقةً
أصبحتُ إنساناً يشعر
يعطف ويُحبُّ"، 
ولنُضيف، أوليس الحبّ هو في أصل الخلق- وقد تطرّق شاعرنا إلى ذلك في إحدى قصائده- بحسب الفلاسفة الإغريق، بحيث كان من عشق ذرّاتٍ لبعضها بعضاً أن يتفجَّر هذا الكون (Big Bang).
   وإلى ذلك، بحسب المتصوّفة، بل وفق كبيرهم جلال الدين الرومي، الذي سُئل عن الحب، فردّ قائلاً: "..الأفلاك التي تدورُ في سماواتها، إنما تُحركها أمواج الحب، ولولا الحبّ لكانت كالجليد تتجمّد، وتمضي الأفلاك في مداراتها لأن عرش الله يغمرها بانعكاسات الحب!". وفي موضع آخر يذهب هذا االمتصوّف الفذّ إلى القول: "..سأخبرك كيف خلق الله الإنسان من طين؟ ذلك أنه، جلّ جلاله، نفخ في الطين أنفاس الحب". 
   وإذْ نعود إلى "وريقات اعتراف"، فإن شاعرنا "المجدلاوي"، إذ يحلم كل ليلةٍ بحبيبته، ينقله طيفها إلى عالمٍ لا يصله إلاّ من يُحبّ! أوليس هذا العالم هو عالم المتصوفة الذين يعبرون إليه من ضفة إلى ضفة ليلاقوا وجه الله، وسيلتهم الحب اللامُتناهي، وهم يدعونه "العشق الإلهي!".
   ..وإذْ نعبُرُ إلى محطةٍ أخرى، وهذه المرّة، حول تماهي الحبيبين في بعضهما بعضاً، فيغدوان واحداً:
".. كل شيء فيَّ لكِ
أنتِ أنا يا حياتي"، 
أفلا نجدُنا بإزاء مرتكزٍ من مرتكزات الفكر الصوفي، حيث الحلول الذي نُصادفه في تضاعيف الشعر الصوفي، على مرّ تاريخه؟ 
   ..وعن جدلِ الموت/ الحياة، في معرض الكلام على الحب، وإذ يستحضر شاعرنا محنة قيس العامري (مجنون ليلى) وأسطورة روميو وجولييت، حيث:
"جميعهم ماتوا ليحيوا بالحب"، 
وليلتحق هو بهذا الركب:
"أما أنا فحيٌّ
 وحبك يُميتني شوقاً إليكِ"،
   أفلا نقع، عبر هذه الأطروحة، على أطروحة الفناء والبقاء، لدى المتصوفة، إذْ يفنى أحدهم في المطلق لتُكتب له الحياة من جديد!؟ 
   وإذْ يرتقي شاعرنا بالحب مغالياً إلى أعلى الدرجات "إياكِ أحبُّ، وإياكِ أعبدُ"، فقد نصّبها إلهاً على عرش الحب، مُشركاً إياها بربِّ العالمين، خالق هذا الكون، وبارئ الإنسان، والذي يتعبَّد له المؤمنون دون رب آخر، وبلغة المسلمين يتردّد: "إياكَ نعبُدُ، وإياكَ نستعين". 
   ..وفي مُطلق الأحوال، فإن هذه القصيدة العصماء- كما وصفناها- والتي هي أكبرُ "عُمراً" من عُمر ناظمها: عمقاً ونُضجاً ورؤىً في البعيد البعيد، تخلعُ قيمةً إضافيةً  على هذا الديوان، ولتغدُوَ إحدى علاماته المميزة والفارقة. 
في خطاب الأسلوب/ في جدل المعنى- المبنى! 
   لقد أسلستْ اللغة قيادَها لشاعرنا، فراح يتحكَّم بها، يُطوِّعُها، ويمضي بها إلى حيث يبتغي من معانٍ ومواقف! 
   ولعل الإنسيابية هي أبرز ما تُوسم به قصائد الديوان، فتخفّفت من كل ما يُثقل التعبير من فجاجة القول، فراح كلُّ بيت من كل قصيدةٍ يتنزّل بَرْداً وسلاماً على القلوب! بل غدت القصائد من أرقّ ما تتلقاهُ الأسماع وتتلقّفه. 
   وإذْ جهدَ شاعرنا في مُجانبة اللغة الموات، "لغة القبور"، وفي إطِّراح اللغة الخشبية، كما يدعوها الفرنسيونLangue du bois، فقد توسّل لغةً متوهّجةً، تنبضُ بالحياة، يعضدها خيال خلاق، فكان دفقٌ من معانٍ غير مسبوقة، ومن صور مبتكرة، هي نسيج وحدها! 
   علماً أن شاعرنا، وإن ذهب إلى بعض المعاني والمضامين المطروقة من قبل شعراء آخرين، ولا سيما السابقين، فقد عمل على إخراجها خلقاً جديداً، وفي حلّةٍ مُتجددة، بل عَبْرَ "توزيع" جديد، إذا جاز القول!  
   هكذا نأى الشاعر بنفسه عن التقليدِ الأعمى، مما يدرجُهُ في عداد الشعراء النيوكلاسيكيين. 
   ..في تمثّلٍ ببعض المعاني والصور المبتكرة، نستلّها شواهد من مختلف القصائد، وهي غيضٌ من فيض، إذ لا يتسع المقام لها جميعاً، نتوقف عند الآتي: 
"هل أنتهي من ليلةٍ محمومةٍ
روّضتُ فيها النهد، أشعلتُ الفما!"
قصيدة: (يا حلوتي)... 
   عبر هذا البيت الرائع، يأخذنا شربل بعيني إلى ليلةٍ مع محبوبته حمراء، فإذا به يعمل على ترويض نهديها الجامحين المتمرّدين، بكل ما أُوتي من قوة مُلاطفة ومداعبة وحوارٍ بالفم! وفي المقلب الآخر من الصورة، يُلهب شفاه الحبيبة بشواظٍ من نارِ عشقه.. وهكذا، بين إطفاء لهب وإشعال لهب يكونُ لكليهما شفاء! 
   هي مُفارقةٌ، لا يُؤتاها إلاّ أمثالُ البعيني من الشعراء الملهَمين، المنصتين إلى جنّيات وادي عبقر، يوسوسن لهم ما يوسوسن من آيات البوح البيّنات!  
   عن قلب الشاعر المهزوم/ المتعالي ، والذي "قد ينحني مُتعالياً" قصيدة: (نجمتي)، ثمة مُفارقة أيضاً، جسّدها في ذلك الطباق الذي يؤشِّر على أن الانحناء أمام الآخرين، فيه شيءٌ من ذُلّ، في حين أنه قُدّام الحبيب فهو تعالٍ! وما أشبه هذا التعبير بتعبير لابن الرومي، يهجو فيه أحدهم، قائلاً: "..رفعه اللهُ إلى أسفل!". 
"كل الثمار أكلتُها في جنةٍ
إن كنتِ حوّاءً، فردّي آدما" 
قصيدة: (يا حلوتي) 
   لم يكتفِ شاعرنا بأكل التفاحة، على غرار ما فعل أبو البشرية، بل التهم ثمار الجنة جميعها، فيعظم ذنبه، بل خطيئته، وليدعو أمّنا حواء مُتحدياً، إلى إخراج آدم من جحيمِ الأرض، حيث أُنزل، فتُعيده إلى جنان الخلد، فتعود الأمور سيرتها الأولى!  وشاعرُنا هُنا هو آدم المطرود من جنة الحبيبة! هكذا ذهب الشاعر إلى معنى مبتكر، مستوحياً واحدةً من محطات مسيرة البشرية الطاعنة في الزمن، بل المواكبة لأسطورة الخل!
"إقرأ عيوني لا تخفْ
أخفيتُ فيها المجزرة" 
قصيدة: (عنترة)!.. 
   لاحظْ فعل إقرأْ، بصيغة الأمر، بمعنى اكتشف أو ما شابه من معنى، ليتكشّف ما اقترفت المحبوبة من جريمة، تُنبئ بها لغة العيون، وما أدراك ما لغة العيون!  
   فإلى جمال التعبير، حيث تُسند إلى الشاعر مهمة قاضٍ محقق (أو مستنطق)، يلفتنا ذلك ا لتكثيف في المعاني، حيث ثلاث مشهديات، تتضّمنها بضع كلمات (البُعد البلاغي): الشاعر وهو يهمّ بقراءة ما تخفيه عينا الحبيبة/ تردّد الشاعر وهو يستطلع ما في العينين فيلقى تشجيعاً من الحبيبة/ المجزرة بكل هولها، والتي تجهدُ هذه الحبيبة في إخفاء معالمها! 
   وإذْ نكتفي، تحليلاً وتفكيكاً، بهذه الشواهد كعيِّناتٍ نموذجية، نُحيل إلى بعض المعاني والصُور لكي يتم تدبّرها، وفق النهج الذي اعتمدنا: 
"شفتاها معبدُ آلهةٍ
وفمي يتخشّع إنْ قبّلْ" 
قصيدة: (عبلى). 
"هذا أنا، أصفاديَ ذهبٌ
سلّمتكِ الأصفادَ فاحتجزي" 
قصيدة: (شفتاكِ). 
"لو كان قلبي في يدي
لرميتُهُ في الموقدِ" 
قصيدة: (غدّارة). 
"إن نمتِ في خيمي
 سيعزفُ القصبُ
وإنْ غزوتِ فمي
يلفّكِ الذهبُ" 
قصيدة: (قمري). 
"دقّاتُ قلبي صرخةٌ
أخشى بها لومَ النيامْ" 
قصيدة: (يا قلبُ). 
"جمالُكِ الساحرُ كبَّلهم
سمّرهم بالشوارع كعواميد الكهرباء
أجبرهم على التخلّي عن عيونهم
التي أهدوها لكِ
ولم يتبقَّ على وجوههم غير النظّارات" 
(قصيدة: (لقد استعمرتِ هونغ كونغ) الخ... 
   وإذْ نعبُر إلى تلك المروحة من البحور الشعرية التي توسّلها شاعرنا، في القسم الأول من الديوان، فقد كان للرجز- كما أسلفنا- تاماً ومجزوءاً السيادة (19 قصيدة)، فهو بحرٌ ذو إيقاع جميل، يُحمَّلُ ما لا تستطيع حمله سائر البحور الشعرية، وذلك لتكرار تفعيلاته (مستفعلن لست مرات)، مع تعدُّد جوازاته، وقد دُعي بحق "حمار الشعر"! 
   وأما عن الرمل- تاماً ومجزوءاً- فهو من أجمل بحور الشعر، لجمال نغمتِهِ وسلاسة النسج عليه، لا سيما المجزوء، ولجمال الإيقاع، سيما إذا عرفنا أن الرمل، لُغةً، يعني الهرولة، أي ما فوق المشي ودون العَدو. وهذا ما أسهم في تلك الآنسيابية التي توقفنا عندها، كإحدى الميزات الفارقة للديوان. 
   وعن الكامل، كذلك، تاماً ومجزوءاً، فهو من أكثر البحور الشعرية استعمالاً ، كونه أُحادي التفعيلة (مُتفاعلن) لست مرات، وبما يُسهل على الشاعر عملية النظم. 
   وبالانتقال إلى مرتكز رئيس من خطاب الأسلوب، يلفتنا ذلك الدفق من المحسنات البيانية والبديعية، التي أحسن الشاعر توظيفها، في تجويد المعاني وابتداع الصور وفي عمليات التشخيص   (Personnification)  التي نمّت عن خيالٍ مُبدعٍ خلاّق! 
   وعن الحقل المعجمي الأكثر بروزاً في الديوان، فهو يتمثل في قدرة الشاعر على استدعاء بضع مئاتٍ من المفردات المنتمية إلى الحب. وهذا ما دفعنا، في موضع من هذه الدراسة، إلى وسْمِ الديوان بأنه "سِفرُ الحب": مضامين وتعابير ومفردات. هكذا، إذا ابتغى أحدهم أن يذهب إلى معجم الحب، فليس له إلا الحفر في كنوز هذا السِفر الرائع! 
   وإذْ نُنهي حول جدل المعاني/المباني، وقد أفلح شاعرنا، في هذا المجال، نستقي من الباحثة والناقدة الأدبية د. زهيدة درويش جبور: "..الشعر لغة الرؤيا، أو التجربة التي تولدُ فيها رؤيا (..) اللغة الشعرية ليست مجرّد وسيلة تعبير عن أفكار وأحاسيس ورؤى واضحة، بل هي محاولة لالتقاط المعنى الهارب، الذي يُشرق كالبرق، ثم لا يلبث أن تبتلعه العتمة من جديد" (راجع ، مجلة "منارات ثقافية"- الكتاب السابع، تشرين الثاني 2019- جروس برس- ناشرون، دراسة، عنوانها: الشعر العربي وآفاق النقد وحدوده، ص 71. 
   ..هكذا، يتحصّل من كل ما أدرجنا من شواهد، وما عمدنا إليه ، تفكيكاً وتحليلاً، لمجمل ما حوى الديوان من قصائد، أن شاعرنا، تمكّن في محطاتٍ عدة، من التقاط المعاني الهاربة، فكانت التماعاتٌ براقةٌ تُنير دروب العاشقين الناهدين إلى إعلان الحبّ على المرأة، في كل زمان ومكان. وإلى ذلك، وبما يخصّ هذه المعاني الهاربة، فقد اقتنصها شاعرنا، بيُسرٍ وسهولة، وكأننا به يعيش حالة أبي الطيب المتنبي، إذْ تأتيه القوافي عفواً:  
أنامُ ملء جفوني عن شواردها
ويسهر الخلقُ جرّاها ويختصم! 
   ..ويبقى أن "أحبكِ"، ديوان الحب، بل سِفر الحب الجامع، لا يُقرأ قراءةً عاديةً متعجِّلة، بل يُقرأ عبر طقوسيةٍ، لا يعلمها إلا المبتلون بالحب!.  
**
ـ2ـ
عَبْرَ ديوان "مجانين"، شربل بعيني يشهد لزمنه وينتصر للوطن!

   مدخل/"مجانين"... بتوقيع شاعر وبريشة براعم في عمر الزهور! 
   لأنهم لا زالوا على "عفويتهم"، التي فطروا عليها، لا يأتيهم الباطلُ من بين أيديهم، ولا توسوسُ لهم شياطين الإنس والجن، فقد كان للأطفال، بل لعالمهم أن يشغل مساحةً واسعةً من شفافية الرؤيا وطبعيّة الإحساس ونقائه، بما يفضي إلى صُدقية القول والخبر اليقين!
  ولِمَ العجب، أفلا نعمدُ أحياناً إلى الأطفال نستفتيهم ونستبينُ حَدْسَهم، بوحي من القول الشعبي المأثور:" خذوا الفال من الأطفال"؟!
   .. عالم الطفولة، عالم البراءة، الذي يُنبئنا بما قد لا يجرؤ عالم الكبار على البوح به، لهُ مع شربل بعيني جولاتٌ وصولات! فمن موقعه مربّياً ومعلّماً، في المغترب الأسترالي، أجرى على شفاههم أغنيات رائعة، ضمّها كتابٌ له، عنوانه: "غنّوا يا أطفال". كما دفع بهم إلى خشبة المسرح، ليؤدّوا أربع عشرة مسرحية، تُزاحم جودةً مسرحيات عالم الكبار، وليشهد كل أولئك على ما يختزن الأطفال من طاقات خلاّقة ومواهبَ ، لا يستطيع إخراجها من مكامنها إلاّ من كان على حظٍّ من كشف، كالبعيني وأمثاله من مُتعهّدي الإبداع ورُعاته! 
   هكذا كان لشاعرنا- عَهْدَنا به- أن يستدعي إلى "مجانينِهِ" أحد عشر طفلاً (ثماني إناث وثلاثة ذكور)، أكبرهم في الثانية عشرة من عمره... عقد معهم شراكةً، من موقع الندِّية، ولنجدَنا بإزاء أحد عشر رسماً، بقدر ما زيّنت "الديوان"، وخلعت عليه قيمةً إضافية، فقد نمّت عما يختزن هؤلاء الأطفال من رؤى ثاقبة، ومن تطلّعات وانتظارات، وليتكامل هذا الديوان فصولاً، بما شفّت عنه أحاسيسهم، وما نطقت به ريشتهم الصناع!
   .. هي رسومٌ/ لوحاتٌ، أكثرها مغموسٌ بالدم اللبناني الطاهر الزكي، وبعضها يُطِلُّ، عبر كوىً، على ساحاتٍ من أمل ورجاء موعودين!
   ... نصر عطيّه، ومشلين إسحق، وجورج (من دون شهرة عائلية)، وأمال جعيتاني، ونانسي (من دون شهرة عائلية)، ونتالي أبي عرّاج، وجورجينا يونان، وانطوني رومانوس، وبرناديت آصاف (تسع سنوات ونصف!)، وسيلفانا أبو ملحم، وآميلي آصاف... أحد عشر فنَّاناً/ فنانةً،.. غدوا / غدونَ شركاء/ شريكات لشربل بعيني، يتقاسمون/ يتقاسمن معه شرف الانتصار للبنان الذبيح، ولتبقى أسماؤهم/ أسماؤهن إلى جانب اسمه، مثنى وثلاثَ ورُباع وخُماس وسُداس وسُباع.. وكلما أطل "مجانين" بطبعةٍ جديدة، وإلى يوم الدين!
   أحد عشر طفلاً عبّروا عن أساهم لوطنهم، عن تقديسهم لعلم بلادهم، يَرْشَحُ دماً، وقد تجسّد قلباً ينفطر... وكانت شجرة أرزٍ متدلية من مشنقة، إلى حمامة السلام تحمل بمنقريها علم الوطن، إلى هلالٍ يُعانقُ صليباً، بما يرمز إلى العيش الوطني الواحد، إلى توابيت رُصفت تحت اقدام شجرة أرز دهرية، إلى طفلة تسقي فسيلة أرز ستتشامخ مع الزمن، إلى عين مفتوحة عن آخرها، بؤبؤها أرزة.. وانتهاءً بالعلم اللبناني، وقد شُكَّ في أرزته مخرز!
   هكذا من طريقين.. من طريق الشعر الحلال، ومن طريق أيدٍ مُبدعة، كان لنا "مجانين"، الذي راح يتصدّى بالكلمة وبالصورة للحرب "الأهلية" (!) المدمّرة، التي عصفت بلبنان، بدءاً من 13 نيسان 1975، وقد عُرفت بحرب السنتين (1975- 1976)، ولكنها استمرت لعقد ونصف من الزمن، ولم تتوقف إلاّ عقب "اتفاق الطائف" في العام 1989. علماً أن تداعياتها لا زالت تعملُ نخراً بالكيان اللبناني، على مختلف الصُعد، وتتهدّده في وجوده!
 "مجانين"... حين يُجَنُّ جنونُ شاعر!
   لأن ولادة كل قصيدةٍ، في عُرف البعيني، هي ولادة له جديدة، بحيث يتماهى الوالدُ بالمولود.. ولأن الحلم الذي ما فتئ يُراوده، عابراً من عالم الحلم إلى عالم التجسُّد.. ولأنَّ في البدء "كان الكلمة"، والكلمة، إلى الله، تعني  الوطن.. ولأن الكلمة إذْ تُنزَّلُ منازلَهَا، تُنفحُ روحاً.. كان لشاعرنا أن يندبَ نفسه لوطنه، أن ينتصر له على كل الطواغيت، الذين أعملوا فيه تدميراً وتخريباً، وتذريراً لشعبه في أربع جهات المعمورة! ... هكذا، كانت من أطفاله الرسوم الناطقة، الشاهدة على جريمة العصر، ومن لدُنْهِ، كانت الكلمة/ الرصاصة... وكان "مجانين"!:
كل ما بتُوْلَدْ قصيدهْ
بُولَدْ بدنيي جديدهْ
الحُلْمْ بيصفّي حقيقهْ
بتسكُنْ الكلمهْ خليقهْ
بيْنها مسافِهْ بعيدِهْ
الكلمِهْ وطن.. عَمْ إرسمو بإيدي
(قصيدة: الكلمة وطن).
   وإذْ يُسفِّه الشاعر من يتهمه بالجنون وتعب الأعصاب، فهو يكشف عن العذاب الذي يكابده، مما يدفعه إلى المواجهة، وبذا يُكتب له عمر جديد!:
افتكروا إنّو جنوني قرّبْ
وأعصابي من الدقِّ بتتعبْ
وما عرفوا وقت ال بتعذّبْ
بيتجدَّدْ عُمري بعذابي
 (وآخرتها شو؟!).
   هكذا، والحال هذه، لن يهدأ، ولن يخفت منه الصوت، وليغدو الكون ساحة المواجهة التي يخوض:"
رح إبقى الصوت العالي
ومجال الكون مجالي
(الصوت العالي).
   ... وإذا كان لبعض ضَعاف النفوس والغيارى أن يتهموا شاعرنا بالغرور وطلب الشهرة، فهو يُسفههم، ويُبيِّنُ خطل موقفهم، وما دروا أنه يكتب كي يدفع شعبه إلى الثورة ويحضّهُ على مواجهة جلاّديه:
لا تقلِّي: شاعرْ مغرورْ
طالب شُهرة ومجدْ قصورْ
عَمْ بكتُبْ تا شعبي يثورْ
ويدبح بـِ ضفرو مجانين
(كلُّن متفقين).
   هذه المهمة، التي يفجّرها شعراً، لن تبلغ غايتها ما لم يتكرّس العيش المشترك بين أبناء شعبه:
كرمال يبقى الجارْ حدّ الجارْ
بدِّي بيوتْ الشعرْ فجّرْها
وخلِّصْ من الويلات أحبابي
(دياب الشعب).
   ولا شك أن اقتناع شاعرنا بأن حياة جديدةً تُكتب له، دفعه إلى إسقاط كل الحسابات الصغيرة، فطفق يهدر بالكلمة الحرة، علّ يُكتب على شاهد قبره : مات في سبيل شعبه:
ما همّني لو يطعنو صدري
وما همّني لو صار جسمي رمادْ
الـ بيهمني... ما ينفتح قبري
إلاّ ببلادي... وينكتبْ فوقو: 
مات تا يفدي شعب وبلادْ
(دياب الشعب).
   في تفصيل للمهمة التي يتصدّى لها الشاعر، وهي تبلغ حدود التضحية بالنفس، يجهدُ بإنقاذ بلاده من الحكّام الفاسدين، وتحرير الأرض من الغُزاة المحتلّين، وإخراج شعبه من عباءة العشيرة، عبوراً إلى رحاب الوطن:
يا ريتْ فيني خلِّصْ بلادي
مِنْ كلْ آلاما
وتدجيلُ حكّاما
وتبويس الأيادي
ويا ريت فيني اشتري بدمي
امن الشعب كلّو
وبدْل العشيرهْ يقدِّسْ الأمّهْ
ويوحِّدْ الكِلمِهْ
وما يعودْ يقدِرْ جيش يحتلّو
(وآخرتها شو؟!).
   ... عبر هذه المهمة، فهو يُعلي الصوت ليبلغ عنان السماء ويستلُّ من السماء نجمة، يشقُّ بها دروب العتمة التي يغرق فيها شعبه، فتُفضَحُ  المؤامرة وتتهافت، ويظهر الحق ويزهقُ الباطل، "إن الباطل كان زهوقاً":
عالي صوتي عالي
يا وطني الجريح
عم يهدُرْ بالليالي
اللي مجرّحهْ تجريح
(..) 
عَمْ جرِّبْ حوِّشْ نجمِهْ
 يا وطني لبنانْ
 تا بنورا شقّْ العتْمِهْ
المزروعَهْ وينْ ما كانْ
وخلّي الناسْ تشوفْ
اللي مخبّى ع المكشوف
(الصوت العالي).
   إنها ذروة التضحية، أن يبقى الوطن، ولا يأبه الشاعر بمصيره الشخصي، فيُغادِر هذه الفانية، ماسحاً بدمه آثار العار عن جبين بلاده:
ولو مُتْ كرمالا أنا... معليشْ
المهم يبقى موطني لبنان
 وإمسح بـِ دمي عن جبينو العار
(بلادنا).
   وإذْ يُسأل- ونحنُ من نسأل- من أنت شاعرَنَا، حتى ندبت نفسك لهذه المهمة، التي دونها الموت وشرُّ العاقبة؟!
   للشاعر أن يُجيب، وهو مدجَّجٌ بأسلحة، أعدها، يُرهب بها أعداء الله، من لصوص الهيكل، وأعداء الداخل، من الساسة اللصوص، كما أعداء الخارج... وكلهم يتناوشون الوطن، من كل فجّ عميق!... وعن شاعرنا، حسبما يُعلن: إلى إيمانه بوحدة شعبه المتحابّ، فهو ذلك المؤمن بالله، منه المدد، والله حسبُهُ ونِعم الوكيل... وهو المؤمن بالمسيح عيسى، المؤمن بالنبيّ محمد، وبالانجيل والقرآن... كل أولئك خيرُ زادٍ وأشدُّ عُدّةٍ في المواجهة التي يخوض: 
بؤمن بالله... وعيبْ أكِّدْ هـ الإيمان
بؤمن بعيسى وبالرسول كمان
بؤمِنْ بإنجيلي وبالقرآنْ
وبؤمِن بوحدة شعبْ
عاش برضى وبحُبّْ
ع أرضْ لبنانْ
(إيمان).
   وإذْ كشف الشاعر عن سريرة إيمانه، فهو يستهجن، ويعيبُ على من في قلوبهم مرضٌ! إذْ يستفسرون عن دينه وطائفته:
وبتسألوني إنتْ شو دينك
وما بتستحوا؟!
قلبْ الله بتجرحوا
(شو دينك).
   لقد غدا لبنان عشقه، ويخشى عليه أدنى حدثٍ يضيرُهُ:
لبنان الـ دِبتْ بحبّو
وغِرْتُ عليه من النسمِهْ
(خانوا الوطن).
"مجانين" / في اللون الأدبي
   من حوار مع الأديبة العراقية وداد فرحان (منشور في 17 آذار2011، في جريدة بانوراما الاسترالية الالكترونية- سيدني)، يُؤشِّر الشاعر شربل بعيني عَرَضاً على اللون الأدبي للديوان الذي نعالج، فيقول: "في لبنان نشرت ديوانين (مراهقة) و(قصائد مبعثرة)، عن لبنان والثورة، أوصلاني إلى الغُربة، بسبب ثورتهما المرفوضة هناك، فما كان من الغُربة إلا أن أرجعت لي حريتي وكرامتي، فكتبت (مجانين) و(لعنة الله علينا) و(شعب حمار)، وغيرها من القصائد الثورية، دون أن تطير شعرة من رأسي".
   هكذا، بحسب شاعرنا، فإن "مجانين"، إلى دواوين أخرى، يندرج تحت الشعر الوطني السياسي ذي النزوع الثوري. وهو لونٌ أدبي يُلجأ إليه في أوقات الأزمات التي تعصف بالشعوب والأمم، لا سيما الأزمات السياسية والأمنية والاقتصادية، ناهيك عن تعرّض بلدٍ ما لاحتلال أجنبي أو لعدوان خارجي، وإلى آخر السلسلة من الاحتمالات التي قد تعرّض هذا البلد لخطر وجودي. وفي أحايين كثيرة قد تكون الطبقة المهيمنة، بما تمارس من قهر وظلم وتجويع للشعب، أشدّ وطأة من الاحتلال الأجنبي!
   وإذْ يُعبِّر الشعر الوطني عن موقف، فهو بالضرورة شعر ملتزم، طالما أنه يرفع لواء التغيير، وصولاً إلى حضّ الشعب على الانتفاض والثورة.
   إذْ أكببنا على "مجانين"، متعمّقين نصوصه، التي بلغت ثمانية وثلاثين، فقد تحصل لنا أن الحرب اللبنانية (1975- 1976)، استغرقت، في طبعة الديوان الأولى، كل النصوص، في حين أنه في الطبعات اللاحقة، عددها خمس، تم استدخال قصائد أخرى، فبعض القصائد تعود إلى العام 2014، أي بعد مضي ثمانٍ وثلاثين سنة، على صدور الطبعة الأولى (1976).
   ما همّ، طالما أن القصائد المستدخلة لا تخرج عن السياق العام لسائر النصوص.
   وإذا كان شاعرنا قد توسَّل المحكية اللبنانية لُغة لديوانه، فذلك أنه يتوجه إلى الشعب اللبناني، مُقيماً ومغترباً، بالدرجة الأولى. هذا الاختيار الصائب للمحكية ينبع أيضاً من عفوية هذه اللغة وتفاعل المتلقين معها أكثر مما يتفاعلون مع العربية الفُصحى.
   عَبْرَ هذا اللون الأدبي راح شربل بعيني، يُسدّد ضربات موجعات إلى خاصرة المتحكّمين برقاب الشعب، والمتسلّطين عليه، من خلال أوجهٍ وأقنعةٍ مُتعدّدة! 
   تأسيساً على هذا النهج الذي اعتمده سبيلاً في عملية المواجهة، يُحمِّل نفسه عبء قضية، يسير بها حتى آخر الشوط. من هُنا لطالما كان شاعرنا يُردّد بأن شعره، وتحديداً السياسي الوطني، هو "شعر غائي وليس غوغائياً" بعيدٌ عن الأدلجة التي تُحيل الأدب إلى خطاب سياسي خشبي خالٍ من الروح. ولعل من ابرز ميزات هذا اللون الأدبي تعبيرياً، تلك السمة الخطابية، التي تتلاءم مع تركيبة شاعرنا الفكرية والنفسية، وهي تركيبةٌ، لها مع الحرية تاريخٌ طويل.. ، تأبى الظلم، بل تواجهه، لا تخشى في الحق لومة لائم! من هُنا رصدنا تلك النزعة "العُنفية" التي تطغى على عددٍ وافٍ من قصائد "مجانين".
   وبحسب المفكر والشاعر أدونيس، فإن الشعر الثوري ليس هو الشعر الذي يواكب الثورة، وإنما هو الشعر الذي يثور، ويُوجر الثورة في قلوب ناسهِ ومجتمعه.
   تعقيباً ، فإن الشاعر المشتغل بالشعر الثوري لا يكتفي بدور "المسجّل" – إذا جاز القول- لأحداث الثورة وواقعاتها، بل ينزل إلى الميدان بشعره، ويبني موقفاً تحريضياً. وبذا يكتسب الشعر الثوري بُعده الوظيفي. 
   من وحي هذا التوصيف، فإن شربل بعيني كان صوت الثورة المزلزل، وهو ما فتئ يدعو إلى المقاومة، والانتفاض على الواقع المتردّي الذي كان يثقل على الشعب بأعبائه الجسام.
   "مجانين"/ "مُطالعات" نارية ورسائل في اتجاهات مُتعدّدة
   كما المحامي، إذْ يُدلي بمطالعة أمام قوس المحكمة، فقد راح شاعرنا شربل بعيني إلى تلبُّس هذا الدور ، في شقِّه الرسالي، فكان محامي الشعب، وكان قاضي الشعب، يصدر الأحكام، باسم الشعب أمام محكمة الثورة!
آلمت شاعرنا الحرب "الأهلية" اللبنانية، القذرة، وهو يتقصّى أخبارها ويترصد ويلاتها، في يومياتها الدامية: قتلاً  وسحلاً للأبرياء، وتهديماً لمدن، ونهباً لقرى، وتقسيماً للبلاد: أرضاً وشعباً ومؤسسات... كل أولئك يضعه برسم طبقة سياسية فاسدة، كان لها إيصال البلاد إلى الدرك الأسفل، وأسهمت عن وعي أو عن جهل، في رهن لبنان للأجنبي، بمختلف تلاوينه!
   ولقد ساء شاعرنا استهداف البلاد من قوى خارجية مُتناحرة في ما بينها، ولكنها متفقة على ابتلاع لبنان، تعضدها أيادٍ لبنانية آثمة، ولنغدوَ بإزاء "حرب الآخرين على أرض لبنان" ، حسبما يصفها الصحافي الراحل غسان تويني. وقد رآها شربل بعيني "حرب الآخرين على لبنان" !
   ... وإذْ تدبّرنا هذا الديوان، وتعمَّقنا جميع قصائده، فقد خرجنا بثماني مطالعات، هي جوهر خطاب شاعرنا (Discourse) السياسي الوطني، يبعث عبرها برسائل مُتعدّدة. وقد تبدّى لنا ذلك المقاتل "الثوري" الذي لا يلين، ذا الصوت المرنان المدوّي في وجه الطغمة الحاكمة التي أدمنت الفساد بحق شعبها واقترفت فعل الخيانة. كما تبدّى صوتاً صارخاً في مسامع "لصوص الهيكل"، الذين سعرّوا نار الفتن الطائفية، وكانوا "يدرون ماذا يفعلون"!.
   وإلى ذلك برز شاعرنا في صورة الواعظ الحكيم، الذي يبصّر شعبه بأبعاد المؤامرة الخبيثة التي تستهدفه كما تستهدف الوطن، فيدعوه إلى "كلمة سواء". وفوق كل ذلك، كان ذلك المتفاني بحب وطنه، إلى حدّ العبادة!
   من خلال جميع المواقع التي أطل منها شاعرنا، والمواقف التي أعلنها على الملأ، والمهام التي نُدِبَها، تحصّلت لنا هذه المطالعات، التي ندرجها بشكل متسلسل، ولتأتي على الوجه الآتي:
أولاً- "وما الحربُ إلاّ ما عرفتُم وذقتُمُ!"
   هي الحربُ قدرٌ من أقدار الشعوب، على مدى تاريخها، ذلك أن تاريخ البشرية ما هو إلاّ سلسلةٌ من حروب مُتتابعة، فصلت بينها هدنٌ، شكّلت فسحاتٍ زمنية قصيرة، استعداداً لحربٍ، تعقب حرباً!
   ولقد أدرك حكيم الجاهلية، زُهير بن أبي سُلمى، ويلات الحروب، إذْ عايش حرب "داحس والغبراء" التي نشبت بين بني عبس وبني ذبيان، مُخلِّفةً مآسي مُدمِّرة:
وما الحربُ إلاّ ما علمتُمْ وذُقتُمُ
وما هو عنها بالحديث المرجَّمِ!
   فاستيحاءً من هذا الشاعر الحكيم، كان العنوان الذي تخيّرنا لمطالعة الحرب، لـِ"حكيمنا" شربل بعيني، الذي ساءته وأمضّته حرب لبنان- أو الحرب على لبنان-، فكانت هذه المطالعة الأولى. وها هو، يُبصِّرنا بتداعياتها، من مادية ونفسية:
يا ناس، والله طوّلِتْ هـ الحربْ
الـ شرّدتنا بألف دربْ ودربْ
سقينا الدنى من دموع عينينا
وبالوقت ذاتو النار جوّا القلبْ
وما عادْ في مطارِحْ بـِ ايدينا
اهتريتْ ايدينا من مسامير الصلبْ
(دياب الشعب).
   .. هي الحرب التي أحالت نعيم لبنان جحيماً:
وضلّوا يغنّوا روابيها
تاصارتْ حُلمْ
وبالآخرْ شكّوا فيها
رايات الدم
(قفا لبنان).
   .. في تصعيد لسوء الأحوال وتردّيها، كان للالتزامات الدينية أن تفقد حضورها، جرّاء تزعزع الإيمان وطغيان حالة من العبثية أو العدمية، ولم تعُدْ أجراس الكنائس لتُقرع، ولا الأذان يصدح من منائر المساجد فجراً:
قرفنا نأدّن بالفجر
أو نحضر القدّاس
قرفنا نكمّلْ هَـ العُمرْ
الخالي من الإحساس 
(وآخرتها شو؟!)
   .. وإذْ يُشير شاعرنا إلى أخطر ما أفضت إليه هذه الحرب، فهي قد شرذمت الشعب، فكانت معازل طائفية، وباتت تتردّد على الأسماع "شرقية/غربية"! وقد شكّلت الأولى بغالبيتها تجمّعات بشرية لمسيحيين، في حين تضم الثانية غالبية إسلامية، وكان جدار بين المنطقتين، هو جدار العار! هذا الواقع البائس أفضى، في ما أفضى، إلى إجهاض الوحدة الوطنية، وإلى الإجهاز على الاستقلال الذي كان قد مضى عليه حوالي ثلاثة عقود!:
وين صرنا؟ وليش بلعتنا الدروب
وغبارها محّى أسامينا
(...)
قسمّونا شوارعْ وساحاتْ
ورميوا البُغضْ بقلوبنا الحلوهْ
استقلالنا الـ لحق يخلقْ.. مات
صلبوه فوق حناكُنّ الرخوِهْ
وصفّى التعايش كومة نفايات" 
(دياب الشعب).
   هذه الأوضاع المأساوية خلّفت حالة من السويداء، لدى اللبنانيين، مما جعلهم- كما أسلفنا- يسلكون سبيل الإحباط والنظرة العبثية والمواقف العدمية! هي حالاتٌ قد تُفضي- كما يذهب علماء النفس- إلى الانتحار:
ضعنا بزوايا العتم
لا الشمسْ بعدا شمسْ
ولا نورها بيلمعْ
حتى غناني الامسْ
بالكاد نتسمّعْ
صِرنا عذابْ النفسْ
وصِرنا التنهيدات
(وآخرتها شو؟!).
   .. وإذْ يُعرِّج شاعرنا على مشهديات أخرى من تلك الحرب الضروس، فهو يتوقف عند الطبقة السياسية التي باعت البلاد من الأجنبي، مُهرقين دموع الشعب الذي عضَّه الجوع بنابِه، في حين يرتع المتآمرون في رغدٍ من العيش:
باعوا دمّكْ بالدولارْ
وعبّوا دموعكْ بمحارِمْ
وعندن تُخمه من الكفيار
وإنتَ من القلّة صايمْ
(قاوِمْ).
ولعل من أبشع صُور الحرب، تلك المجازر التي خلَّفت مئات آلاف القتلى والجرحى والمعوّقين والمخطوفين "على الهوية!" وليبلغ السيلُ الزُبى، في بعض عمليات الخطف، حيث كان يواكبها هتك للأعراض واعتداء على عفاف النساء، والتنكيل بهن، وصولاً إلى القتل! وهاكم إحدى هذه "اللوحات" التي تقشعرّ لها الأبدان:
بسّْ ... بسّْ
هيدا كذب... مُشْ معقولْ
بنتْ قتلوها وصاروا
يتبادلوا عليها المغولْ
شو ذنبا... يا سامِعْ قُولْ
(...) 
رجعوا قصّوها بالنص
(مغول).
ثانياً- "لصوص الهيكل" والساسة اللصوص.. بئس حلفهم الجهنمي وما يفعلون!
   لطالما كان، في غابر العصور، حلفٌ بين المؤسستين السياسية والدينية، وهي عصور اتسمت بالطغيان والتنكيل بالطبقة الدُنيا، التي كان يُطلق عليها نعوتٌ مختلفة، من العوام، إلى الدهماء، إلى العامة، وهي طبقة مستضعفةً مهمّشة. 
   هذا الحلف الجهنمي، الذي عفّى عليه الزمن، في غالبية بلاد العالم لا زال فاعلاً في المجتمع اللبناني، وفي سائر المجتمعات العربية والشرقية. علماً أن هذا الحلف لدينا يُوفِّر المصالح الفئوية المشتركة للصوص الهيكل، كما يدعوهم شاعرنا، كما للطبقة السياسية المهيمنة، الغارقة في الفساد ونهب الشعب حتى أذنيها، وقد قال البعيني ، في هاتين الفئتين، ما لم يقُلْهُ مالكٌ في الخمر!
   وإذْ يُميط شاعرنا اللثام عن هذا الحلف، أمُعلناً كان أم مستتراً، ومسلطاً الضوء على سوء ارتكاباته، وما يُخلّف من تداعيات سلبية على الأمن الاجتماعي، فهو يُحمّل المسؤولية، في جانب كبير منها، للشعب المخدوع الذي لا يُحرِّك ساكناً: 
وحقّ السما والأرضْ مغشوشين
ومتلْ شي قطعانْ منقادينْ
لرجال سمّوهن رجال دين
لأهل السياسة الكذّابين النصّابين
دمنا باعوه بملايين
وعلّبوا لحوماتنا متل البقرْ
متل سمك الطون والسردين
(قلبي وطن).
   استكمالاً، فإن شاعرنا يذهب إلى أنَّ المؤسسة الدينية تتحمَّل العبء الأكبر في ما آلت إليه أوضاعنا، إذْ تعمل على تنصيب حكّام مستبدّين، بل تُسهم في "صناعتهم"، وجُلّهم من المجانين الذين يسومون شعبهم قهراً وعذاباً:
وبتذكَّرْ الماضي
إيامْ كان الدين
يُعاني من رجالو
اللي قرقطوا ديالو
تا يفبركوا سلاطين
تلتينن مجانين
ودماغهن فاضي
(...) 
وبعدو باسم الدين
عم يخلقْ سلاطين
شكلا شكل إنسان
وفعلا فعل شيطان
ولها السببْ لبنان
عم تحصدوا النيران
وتستملكو شياطين
(شياطين).
  .. وعن كلا طرفي ذلك الحلف، لصوص هيكل وساسةً لصوصاً، فإن الإيمان لم يعرف طريقاً إلى قلوبهم المتحجِّرة، فهم مستبدون كفرة، لا يأبهون ليوم تسودُّ فيه وجوهٌ وتبيضُّ وجوه! :
هودي جماعة موحّدين
كلُّن يا ربي ظالمين
كلُّن طغاة
لا بيؤمنوا بإنجيل
لا بيؤمنوا بقرآن
حتى ولا بتوراة
ولا حاسبين حساب يوم الدين
(قلبي وطن).
   .. وإذْ يستفيض شاعرنا، على مدى "الديوان"، في "الفوكسة" على ارتكابات الطبقة السياسية، أو الزعامات، بحسب تعبيره، فإننا سنستلْ بعض الشواهد التي تفي بالغرض!:
هيدي الزعامة قلوبها متحجّرة
بتركع تصلِّي كذِبْ ساعاتْ النهارْ
ومن دون شفقهْ بليلها عم تعدمكْ
(دياب الشعب).. 
   هذه الإزدواجية، بل هذا الانفصام المتمثِّل في تضادٍ بين ظاهر سلوكيات الزعامات السياسية، من تعبّدٍ لله، وبين ما تقترف من إجرام بحق الشعب، يأخذنا إلى قول المتنبي:
شيخٌ يرى الصلواتِ الخمسَ نافلةً
ويستحلُّ دمَ الحُجَّاج في الحَرَمِ! 
   في إطار هذه الازدواجية المخادِعة، فإن الزعيم يتظاهر بالحِرص على خيرات البلاد، ويعمد إلى نهبها بسريّة، ويكون تسترٌ على ما يقترف، ولينطبق عليه القول الشائع "حاميها حراميها!":
وين صِرنا؟!.. وليش بلعتنا الدروبْ؟
(...) 
العامل ناطور الأرض والكرمَاتْ
وبالسِرّْ عَمْ يسرقْ دوالينا
(دياب الشعب).
   لا ريب أن ما يعني هذه الزعامة من "قطعان" الشعب- كما ترى إليه!- توسّلها سلالمَ، ترتقي بها إلى ما تطمح وتطمع، وتتوسَّل الدين طريقاً معبّداً لمراكمة الثروات:
كرمال تفني بعضها زعامات
الشعبْ عندا... سلالم ودَرْجاتْ
والدين أقربْ دربْ... للثروة
(دياب الشعب).
   ولا يتورّع الزعيم، ذو النزوع "النيروني" (نسبة إلى نيرون حارق روما)، عن نشر الفتن بين صفوف الشعب ، فتسري، كما النار في الهشيم، ويستدفئ على لهب سعيرها!:
ومُطلقْ زعيم بفردْ كلمة مفتنِهْ
بيزرع بلدنا جوع وجنون ودِما
وبيصير يتدفى ع لهبةْ نارها
(دياب الشعب).
   وعن الزعيم الأشدّ هولاً وأبلسةً من الشيطان الرجيم، فقد أعدّ شاعرنا لائحةً بمآثمه، مُشيراً إليه بالإصبع، وهو يُردِّدُ الضمير " هوّي"، كفاتحةٍ لكل مأثمة وخطيّةٍ، بما يُعزِّز من مضبطةِ اتهامه! :
هوّي اللي خلاّ بلادنا تعيش بجحيمْ
وهوّي اللي حرقْ ع مدبحو شموعَكْ
وهوِّي اللي هَدَمْ عن قصْد جنّات النعيمْ
وهوِّي اللي سرقْ تا تموت من جوعَكْ
وهوِّي اللي منّو خاف شيطان الرجيمْ
(...)
 ومَنْعَكْ يا خييّي تحقّقْ رجوعَكْ
(دياب الشعب).
   لعل المأثمة الأخيرة هي أكثر ما يُؤلم شاعرنا وسائر المغتربين اللبنانيين المنفيين في أرجاء المعمورة، فالزعيم، ومن خلفه نظام الفساد والإفساد، هو من يقطع الطريق على عودة مغتربينا إلى مساقطهم!
   وفي رأس خطايا الزعامات السياسية بث الطائفية، السُمّ الزعاف، مما زاد في تشظي المجتمع وقطع جسور التواصل بين العوائل الروحية، بحيث لا تقوم للبلاد قائمة:
سمومها نعرات دينية
وزهور سودا مزيّنه دربا
(دياب الشعب).
   وكان هان الأمر لو اقتصرت المآثم على ما تم استعراضهُ، فقد منعت الزعامة السياسية الخبز، أدنى مقوِّمات العيش ، عن الأطفال:
سرقوا عن طاولتي الخبزْ
وتركوا طفالي عم بتصرِّخْ
قالولي: طعميهنْ عزّْ
تاعزَّك بالبطن يفرِّخ
(فخّار يكسِّر فخّار).
   وإذا كان في رأس المآثم ما لا يغتفر، وهو الكُفر، حيث يتردّد في المأثور الديني :" ليس بعد الكُفر ذنب"!، فقد جنحت الزعامة السياسية بعيداً في كُفرها، حين باعت الوطن والشعب في المزاد العلني!:
والنار... يا استقلال
بالقلب شعلانِهْ
من ناسْ عبدوا المالْ
وعَ بيدرْ خيانِهْ
جمعوا وطنْ وعيالْ
تا يدلِّلْ الدلاّلْ
ع شعب لبناني
(وين إنتَ وين؟!).
   .. وإذْ يرمي شاعرنا الزعامة السياسية، بما رمى، وقد جرّدها من القيم، ولتغدو مُترعة بالعُهر، من أعلى الرأس حتى أخمص القدمين، محمّلاً إياها تعطيل المرافق الخدمية، كما تعطيل الحياة الدستورية، بكل هيكلياتها ومؤسساتها، وواضعة الجيش اللبناني بين إشداق التنين.. فهو لا يُبرئ الشعب الذي لا يُحرِّك ساكناً ولا يرفّ له جفن:
عنّا زعامة ملفلفهْ بالعهر
وعنا شعب بمحبتن سكران
عايش سنينو بالبكي والقهرْ
ورغمْ العذابْ... بعيشتو فرحان
من دون رئيس... وطقّْ يا هالقصر
والبرلمان متختخ... وخربانْ
وجنودنا عَمْ ينحروهنْ نَحَرْ
وما رفّْ جفنْ فلانْ وفليتان
(...) 
لا كهربا... ولا ميّْ للعطشانْ
(أنا وبيّي).
   ... بإزاء هذه الأوضاع الخربة الآخذة في تردّيها بوتائر مُتسارعة، يبقى السؤال "الكلاسيكي": ما العمَل؟ وما السبيل للخروج من عُنق الزجاجة؟... هاكُمْ ما يقترح شاعرنا:
رَحْ قولها عَ السطحْ... تهدرْ هَدَرْ
لبنان بدّو رجالْ... مش خصيانْ
أطخنْ شنبْ... ما عاد عندو شَعَرْ
يا ريتْ مرّه... بتحكُمْ النسوانْ! 
(أنا وبيّي).
   تعقيباً نرى أن المسألة، بل معضلة الطبقة المستأثرة لدينا لا تتمثَّل في انتفاء الرجولة "من فوق" (الشوارب المعقوفة على طريقة قبضايات القرى)، ولا الرجولة " من تحت" (عُنّة العضو الذكري وعدم القدرة على الإنجاب)، بل تتمثّل في ذلك العطب البنيوي الذي يسِمُ نظامنا، والقائم على الطائفية والزبائنية، وسائر الموبقات والمفاسد التي تقطع الطريق على قيام دولة المواطنة، دولة القانون والمؤسسات والعدالة الاجتماعية وتكافؤ الفُرص.
ثالثاً- الثورة ... الثورة، عبوراً إلى برّ الأمان!
   لا بديل من النضال، بمختلف أشكاله ومستوياته، تُباشره الفئات الشعبية المتضرّرة من الأوضاع المتردية... إنه الاقتناع الذي تشكَّل لدى شاعرنا البعيني، وهو يعاين فساد النظام السياسي والزعامات التي تتحكّم بمفاصل البلاد ومصائر العباد، وتقف سداً منيعاً في وجه عملية الإصلاح والتغيير الناجز. علماً أن التغيير يقتضي تآزر اللبنانيين المخلصين من جميع الطوائف والمشارب السياسية، كي تتخذ عملية التغيير المبتغى طابعاً شاملاً وغير فئوي.
هكذا راح شاعرنا يُطلقها صرخةً مدويّةً، داعياً إلى امتشاق السلاح:
قاوِمْ... يا شعبي قاوِمْ
مُشْ حقّ تضلّْ مسالِمْ
(...) 
حَمالْ بإيدَكْ سيف النارْ
ووقّف ع الشمسْ سلالِمْ
وقلاّ: يا بلاد الأحرارْ
رحْ اهديكِ تاجْ الغارْ
وباقِةْ موسيقى وأشعارْ
بتقلِّقْ عينْ الحاكِمْ
(قاوِمْ).
   وإذْ يُحذِر شاعرنا من الوقوع في شرك أية مغريات، قد تتوسَّلها الطُغمة الفاسدة، يدعو الشعب إلى عدم التهاون ، فيُصلي هذه الطغمة ناراً وسعيراً:
أوعا... اوعا شو ما صارْ
تمشي مع زمرة تتارْ
لازِمْ تحرقها بالنار
بقلبْ محجَّر ما بيلين
(كلهم متفقين).
   ولا شك أن البعيني، إذْ يصدر عن هذه الدعوة، فذلك من مُنطلق معاينتِهِ التبعيّة العمياء للزعامات السياسية، من مدينيّة وإقطاعية، فيحرِّض الفئات المقهورة على الخروج من عباءتها، والتموضع حيث ينبغي أن تكون:
وآخرتها شو؟!
وبعدنا بلبنانْ
مننحني لفلانْ
ومِنألّهْ فليتان
وندورْ بمدارو!
(وآخرتها شو؟!).
   ولقد تعزّزت المخاوف، لدى شاعرنا، إذْ رأى فئة من المتعلمين، كانت تعلَّق عليها الآمال للارتقاء بالوطن، فإذا بهم يخونون الوطن، وينتصرون لطوائفهم، فبئس ما يفعلون!:
وهـَ  الشباب اللي تربّوا
تاحتّى يقودو الأُمِّه
خانوا الوطنْ وتخبّوا
خلفْ الدينْ الـ مش محبوبْ
(خانوا الوطن). 
   ... وإذْ يُعلِّل شاعرنا الجنوح إلى الثورة، فذلك لأن الزعامات ارتكبت من الإجرام ما لا يُوصف:
دبحوك... ودهنوا جزماتُنْ
باعوك... وعبّوا خزناتن
وبعدك عم تِسمَعْ حكياتُنْ
قاتلهنْ... يا شعبي.. قاتِلْ
(فخّار يكسِّر فخار)
 ... وهو ينصح للثوار، إذا عجزوا عن إيجاد السلاح، بأن يصنعوا من أظافرهم خناجر، يغرزونها في صدور المجرمين الذين أحكموا أيديهم على خُنّاق الشعب:
فبرِكْ من ضافيرَكْ خنجرْ
شِكّوا بصدرُنْ لا تتأخّرْ
ايديهن خنقتْ أنفاسكْ
وإجرامُنْ عم يقوى أكتَرْ
(...) 
قدّام الماردْ يا شعبي
ع طولْ الحكّامْ بتزغَرْ
(فخّار يكسِّر فخار).
   ... في عملية المواجهة يدعو شاعرنا إلى عدم التمييز: بين الساسة من يمين ويسار، فكلّهم في الإجرام سواء:
كلُّن... كلُّن متفقينْ
باليسار وباليمين
يتسلّوا بأرواح الناس
ويقضوا عَ الشعب المسكين
(كلُّن متفقين).
   ولكي تأخذ الثورة مداها الأوسع، لا بد أن ينهض الشعب من سُباتِهِ، وأن تُعقد الخناصر، في مواجهة الزعامات الفاسدة:
فيق دخلكْ، فيقْ من جهلكْ
وهاتْ إيدَك حِطّها بإيدي
منشانْ نطفّي نار فتنتها
(دياب الشعب).
   هذا التآزُر بين أفراد الشعب، المبارك بقوة إلهية، سوف يُطيح الزمرة المتحكِّمة برقاب الشعب، وليكون البحر مثواها:
هات إيدكْ هات... يا خيِّي
(....) 
تنيناتنا بقوهْ إلهيّهْ
منقضي عَ زمرهْ مضيّعهْ ربَّا
(...) 
عجِّل بقا تا نحملا سويّهْ
وببحر ما إلو آخرْ نكبَّا
(دياب الشعب).
   ... لعل من أهم ثمار هذا النضال أنه يتجاوز الزمن الراهن، فيتعدّى إلى المستقبل، وبما يحمي الأجيال القادمة من التشرّد ويوفّر لها مستقبلاً آمناً:
إنت وأنا.. الـ منخلّص الأجيالْ
من ظلم شتّتنا بـ هَـ الغُربهْ
(...) 
إنت وأنا... لبلادنا رسمالْ
وكنوزنا حبّات هـَ التربهْ
(...) 
يللا سوا تا نحقّقْ الآمال
(دياب الشعب).
رابعاً- ... هو الضمانة... ولا درعَ إلاّهُ للوطن!
   في عتمةِ ليالينا المدلهمة، ويومياتنا اللبنانية الحافلة، بكل ألوان المعاناة، من سياسية واقتصادية معيشية، واجتماعية، وخَدَميّة... يبقى الجيش معقدُ الرجاء وفسحة الأمل التي ترتسم أمام ناظري لبنان!
   كيف لا يكون معقِد رجاء، وهو الذي يُروِّي بدماء شهدائه الزكية أرضَ الوطن، ماضياً وحاضراً!... يزود عن أرضنا في مواجهة العدو الغاصب وفلول الإرهابيين المتطرفين:
دم الشهيدْ متل القمح بالأرضْ
بينمى تا يعطي للشعوب طحين
بينمى تا يقضي عَ جيوش البغض
الـ دعسِتْ بإجريها رقابْ الآمنين
لولا الشهيد ما انسقيتْ أْراضي 
(...)
كنا صفر ع هامش الأيامْ
ومنستحي نحملْ أسامينا
(...) 
وما في شعب باقي بأرضو يوم
من دون شهادهْ وتضحيةْ أبطال
(دم الشهيد).
   أجل! بشهادة جنودنا البواسل، تُفتح قبورهم، فتفترُّ السماء عن ابتسامة، وسعها وسع السماء!:
عَ طولْ عَمْ شُوفْ القبرْ مفتوحْ
أبطال عَمْ يفدوا الوطن بالروحْ
تا يرجعّوا الضحكهْ السماويِّهْ
(أنا وبيّي).
   ... ذلكمْ هو الجيش وشهداؤه، في مرآة شاعرنا، ولتتكامل "الجردة" ، بل المشهدية الجامعة، مع جندي استشهد في جرود عرسال، على أيدي مُتطرفين، فبعث برسالةٍ مؤثّرة إلى أمه، منها :
لا تفزعي عليّي
الوديان تختي واللحاف جبالْ
سهران عَ بلادي
ع ضحكةْ ولادي
وَحَدِّي يا ماما رجالْ
البيموت... ما بينقال عنّوا ماتْ
لدَمْ الشهيدْ بتركعْ الكلماتْ
وبتزلغط الإمّات
لجنودنا الأبطال
(أنا وبيي).
   .. وحدِّث، بكل اعتزام وفخار، عن ذلك الاحتضان الشعبي للجيش اللبناني، يوم خاض حرباً ضارية ضد تنظيم "فتح الإسلام" الإرهابي، في مخيم نهر البارد (شمالي لبنان)، استمرت من 20 أيار حتى 12 أيلول 2007، وقد سقط للجيش فيها 158 شهيداً، فتهافتت جموع المواطنين على المستشفيات للتبرع بالدم للجرحى من جيشنا الوطني، وكان لأحد الجنود أن يُسجِّل هذه الواقعة عبر لوحةٍ، مُعجزةٍ في إبداعها، تمثّل شهادة للعيش الوطني الواحد، ناهيك عن تلك العُروة الوثقى بين الشعب والجيش:
ما عرفتْ مينْ تبرَّعْ بدمو
مسلمْ.. مسيحي.. ما حدا همُّو
تا صار دمي شعبْ
عَمْ يمشي بالشريانْ
تا صار دمي قلبْ
واسم القلب... لبنان
(رسالة جندي لبناني شهيد).
   هكذا، من خلال ما تمَّ استعراضُهُ من عظيم دور للجيش اللبناني، وللمؤسسة التي ينضوي إليها، والتي لم ينخرها سوسُ الفساد والطائفية ومختلف الموبقات التي حفلت بها بُنى الدولة... حُقَّ لشاعرنا أن يخلص إلى:
إنْ ما كان عنّا جيش يحمي الأرضْ
وخلفو الشعب.. بالطول أو بالعرضْ
رح ضلّ أبكي عَ الوطنْ لبنان
(انا وبيي).
    خامساً- العيشُ المشترك قدرُ اللبنانيين وليس منه فكاك!
   تحتلُّ أُطروحة العيش المشترك مساحةً واسعةً في هذا الديوان، إذْ يرى إليه شاعرنا قدراً، كُتب على اللبنانيين، مسيحيين ومسلمين!
من هُنا كان تشديدٌ من لدُنهِ في الحرص على الصيغة التشاركية، بما يُعلي من شأن الوطن، فتبقى رايته خفّاقة:
ونتفقْ إسلام ونصارى
وبالجوّ نرفع راية بلادي
(دياب الشعب).
   وإذا كان العيش المشترك لا يقوم إلاّ بجناحيه، المسيحي والمسلم، فإنه، بحسب شاعرنا، لا يُسوّغُ لأحدهما أن يتكلّم طائفياً أو يتصرّف طائفياً ، فيدّعي حصريةً ذاتيةً للوطن، أو يستأثر بموقع مُتقدِّم على شريكه:
مشْ همّ مسلمْ كنتْ
أو كنتْ نصراني
لبنان ملكك إنتْ
ما بتملكو ديانِهْ
(تبرَّعْ).
   من هُنا، كان شاعرنا يأنف من "تفييشه" طائفياً، فهو، إذْ يتكلَّم، لا يصدرُ عن "نصرانيتِهِ" ولا عن "إسلاميتِهِ"، بل يُشهرُ "لبنانيته"، مُعلناً بملْء الفم أنه لبناني ابن لبناني! :
وقتْ اللي بحاكيكنْ
لا تقولوا هيدا نصراني
وقت اللي بحاكيكن
لا تقولوا هيدا قرآني
أنا ما بحاكيكن
ولا الحكي بيطلع عَ لساني
إلاّ ما حاكيكن
لبناني ابن لبناني
(مجانين).
   ولا ريب أن شاعرنا، بنزوعه اللبناني الوطني، كان يصدر عن اقتناع مؤدّاهُ أن المسيحية والإسلام يربآن بنفسهما عن النزوعات التعصبية البغيضة، ويتبدّى ذلك جلياً عبر الإنجيل المقدّس والقرآن الكريم، المتنزلّين على البشرية من مصدر واحد.
   من هُنا، كان لزاماً على اللبناني، أمسلماً كان أم مسيحياً، أن يُخاطب أخاه اللبناني، فيدعوه إلى "كلمة سواء":
هاتْ إيدَكْ هاتْ
تا اشبكا بديّي
عهدْ التعصُّبْ مات
فيقْ يا خيِّي
الانجيل والقرآن
ما فسّروا الأديان
نعراتْ دينيّهْ
...
وتأكّدْ... الإسلام 
خيّ المسيحية
(شياطين).
   تأسيساً على هذا الفهم لجوهر الديانتين، ما فتئ الشاعر يدعو إلى الوئام بين اللبنانيين، مُستحلفاً إياهم بالإنجيل والقرآن، بأن لا يعرف الخصام إليهم سبيلاً:
رح إرفع راسي بالجوّ
وإسألكنْ باسمْ الدينْ
وبالانجيل والقرآن
ذا كنتوا زعلانين
تراضوا... وإذا متفقين
حرام تسيبوا لبنان
(مجانين).
   ... وإذا صدَفَ أن كانت ساعةُ تخلٍّ، فإنحرف بعض اللبنانيين عن جادة الصواب، فما ذلك إلاّ "رِجسٌ من عمل الشيطان"، ولن يُؤثِّر على جوهر العيش المشترك، الذي يرقى إلى عهد سحيق:
جيران عاشوا العُمرْ
ما بيسألوا عن دين
دينُنْ إيمانْ وفخر
بالأرزْ وبصنّين
لكِنْ بساعةْ قهرْ
مشيوا بطريق الغدرْ 
مع زمرةْ شياطين
(وآخرتها شو؟!)
   هكذا، عبثاً تجهدُ الزعامات الفاسدة، في تبديد شمل اللبنانيين وتفريق جمعهم، فلبنان باقٍ لكل بنيهِ، ولكل عوائله الروحية: 
مهما الزعامة تغرق بجهلا
لبنان باقي لكل سكَّانو
دروز ونصارى وحدُّن الإسلام
(بلادنا).
   ... وما أحلاهُ شاعرنا، وهو يُشْهدُ خالد كحول، الجندي المسلم الذي رفض، إبان الحرب الأهلية القذرة، أن يتخلّى عن رفاق السلاح، حين اعترض حاجز ميلشيوي مسلّح شاحنةً لجنودٍ لبنانيين، فأوعز للمسلمين بمتابعة طريقهم، في حين احتُجز المسيحيون، فما كان من ذلك الجندي المقدام إلا أن خاطب المسؤول عن الحاجز المسلّح، قائلاً:
اقتلوني... منّي خايفْ
مع اخواني المسيحيين
نحنا ما عنّا طوايفْ
نحنا جنود لكل لبنان
الـ رَحْ يبقى عالي ومنصان
مهما قويتْ العواصف
(خالد كحّول).
   ... هكذا، بهذا الموقف الشجاع، أُسقِط بيد مسؤول الحاجز، وكان لخالد أن يحمي رفاقه جميعاً، وهو الذي نشأ في كنفِ مؤسسةٍ وطنية، هي أحد أصِمَّة الأمان للعيش المشترك!
   بإزاء هذا الموقف المغرق، في وطنيتِهِ، كان لشاعرنا أن يُكرِّس خالداً شفيعاً للمغتربين! :
باسمي... باسم المظلومين
بقلَّكْ يا خالد كحّول
يتمجَّدْ اسمك عَ طولْ
يا مبلسم قلب الأمّاتْ
ويا شفيع المغتربين
(خالد كحّول).
   ... وعن دور المغتربين، في هذا المجال، فهم، وفق شاعرنا، لئن كانوا قد انسلخوا عن أرض الوطن، لا زالوا أمناء على ذلك العيش الوطني الواحد... يتفاعلون مع لبنان المقيم، الذي لا يُغادرهم:
ونحنا اللي انسلخنا
عن أرضك المغزولهْ بدمعاتنا وصريخنا
بالغُربهْ رسمناكْ
وطنْ وسكنّاكْ
وصِرنا فيك نسعَدْ
ونفرحْ ونتهنّى
شربل وأحمد
ومعروف وحنّا
(زينة الأسامي).
   ولقد كان للمحبة، السياج المنيع، الذي ما فتئ المغتربون يعلونه، أن يصونِ الوحدة الوطنية والعيش المشترك، بما شكّل دعامةً إضافية للبنان المقيم:
يا وطني.. يا هدفي السامي
(...) 
بعدك بغُربتنا
مسيّج بمحبتنا
وبوحدة كلمتنا
مهما الدني جارتْ أو قامتْ القيامِهْ
(زينة الأسامي). 
   سادساً- عن شبّ اسمو "جنوب" بعد مِتْلُو ما إنخلَقْ!
   الجنوب هو  الخاصرة، غير الرخوة، التي أوجعت الوطن، ولا تزال تُوجعه، منذ عشرات السنوات جرّاء ما شهدت أرضه من انتهاكات واحتلالات، أشدُّها خطراً وجودياً الاحتلال الإسرائيلي لأجزاء من تُرابه، وقد كان له أن يدفع الضريبة الأعلى عن لبنان كله... يدفعها من خيرة شبابه، الذين ضرّجوا أرضه بدمائهم الزكية، كما يدفعها من خيراتِهِ ومن مياهه!
   ولا شك أن مواقف الجنوبيين مدعاةٌ للاعتزاز، إذْ استطاعوا دحر العدو الصهيوني، وإخراجه من معظم الأراضي اللبنانية التي انتهك حرمتها لثلاثة عقود مُتتالية. 
   هكذا كان للجنوب أن يشغل مساحةً في وجدان شاعرنا، فطفق يُثني على البطولات التي سُطِّرت، وراح يرى إليه شاباً، خلع عليه اسم "جنوب"، وكأننا بهذه الأرض الطيبة تُنفحُ حياة،   فيتقمّصها كل جنوبي مُقاوم!
   أجل ! الجنوب، هو ذلك الشاب الأسمر، النديّ الوجه، المارد الذي خلقه الله، و"كسَرَ القالب"، ولم يخلق له شبهاً!... وهو، لما قاساه، في جلجلتهِ المديدة، ذلك المصلوب على خشبة أوجاعه، يُبعثُ، كل مرة حيّاً، وقد كُتب عليه الدمار والخراب، ما استمرت عملية صلبه:
وشو بخبّرك عن شب اسمو (جنوب)
عن شب اسمر متل طربين الحبق
عن شب مارد بعد متلو ما إنخلقْ
مليون ضربِهْ بيضربوه
ومليون جلدِه بيجلدوه
وبيخلقوا منّو ألف (مصلوب)
شو بخبّرك يا ربّ... يا جبّار
عن وحشنة كفّار
ختموا ع تذكرتو اسم (مغضوب)
وكتبوا ع صدرو جُملتين زغارْ:
محكوم إنّو يشوفْ بعيونو دمارْ
ويفلح ويزرع كل أرضاتو حروبْ
(قلبي وطن).
   بإزاء هذه الجلجلة، التي تُثقل على جنوبنا، راح شاعرنا يحضُّ الجنوبيين على المقاومة، معلناً بأن اللبنانيين جميعاً، يقفون من ورائهم داعمين. كيف لا يفعلون، والجنوب هو النسمة التي يتنفسون، والشمس التي تغزل لهم من على الجبال، شالاً ولا أجمل؟:
ضلَّكْ قاوِمْ مهما صارْ
أحبابك بالدنيي كتارْ
انت النسمة الـ عَمْ اتنشّقْ
والشمس اللي عم تتسرّقْ
فوق جبالي
ومن وبرات الغيم الأزرقْ
تغزُل شالي
(جنوب لبنان).
   ... وإذْ يغدو الجنوب ذلك الحُلم في ليالي اللبنانيين الجميلة، وليبقى الدم الساري في عروقهم، آيةً من آيات الحياة، والصامد المعاند، في وجه المحتل الصهيوني:
إنت الحلم بليالينا
والدم الـ عم يجري فينا
يا جنوبي الـ رح تبقى صامد
مهما قسيوا عليك الكلْ
...
من دونك شو نفعْ الأرضْ
اللبنانية بطول وعرضْ
(جنوب لبنان).
   .. في حمأةِ حماسةِ شاعرنا، فهو يدعو إلى القضاء على الإسرائيلي، واعداً بأن يصنع له تابوتاً من لعنات الأطفال الذين روّعتهم حروبه المتمادية، وما خلّفت هذه الحروب من خراب وما سفحت من دماء:
بدّي ع أرضكْ يموتْ
الغازي الـ بعدو محتلاً
واعملّو بإيدي تابوت
من لعنات ولادْ زغارْ
شبعوا حروب ودم ونار
واشتاقوا لرحمة الله
(جنوب لبنان).
   .. وكم كان يشتهي شاعرنا أن "يُسلِّح" الجنوبي، لو قُدِّر للكلمة أن تستحيل بندقية! :
لو كان الشعر بواريدْ
كنت بشعري سلّحتك
ورسمتلَّك مليون إيدْ
تا تدافع عن مصلحتك
(جنوب لبنان).
   سابعاً- ... وللهجرة أوجاعُها دائمةُ الحضور!
   الهجرة.. الغُربة.. المنفى.. التشرّد.. مفردات أليمة الوقع على شاعرنا، تتناوب عليه، ليل نهار، تعصف بأحاسيسه، ولتغدُوَ وطأةُ الابتعاد عن الوطن مُثقِلةً على صدره، أيّما إثقال! فعلى مدى خمسين عاماً، لم يتوقف، أمام ناظريه، زوغان هذه المفردات بمحمولاتها: إلتياعاً وشوقاً جارفاً إلى وطن، غادره في الجسد، ومخلِّفاً فيه قلبه.
   ... من أوّل الطريق، دونما لُبس أو تأويل، أطلقها شاعرنا صرخة في أسماع الوطن:
أرضك فراشي/ وجوّك لحافي
وهمّك صليبْ مكسَّر كتافي
نحنا إذا فرحنا بتاريخ هجرتنا
لا تفتكِرْ منحبّْ غربتنا
يا وطني المتشرّد وحافي
(تاريخ هجرتنا) 
   وليُضيف بأن الحنين إلى ذلك الوطن لا زال مُستعراً في صدور المغتربين:
ونحنا اللي هجرنا من سنين
وبقلوبنا بعدو الحنين
عَمْ يكوينا ليل نهار
(خانوا الوطن).
   ... قبل العبور أكثر إلى ما باح به شاعرنا، في "مجانين"، لا بد من تسليط الأضواء على حوار، بل مناظرة موجزة (Debate)، دارت بينه وبيني، منذ أسابيع معدودات، نشر وقائعها على موقع الغربة (Al- ghorba Media) ، بتاريخ 31 آذار 2020. وإذْ أتوقف عند مقتطفات مما جاء في ردّه عليّ، فذلك بهدف التدليل على أن وجع الغُربة لا زال ساكنه، ولم تخفت ناره:
 ".. تجد المغترب اللبناني- يقول شاعرنا- ولو فرشت له الغربة ذهباً، سيظلّ يحنّ إلى مسقط رأسه (..) فأنا لم أعلم أن جاري الأسترالي، الذي شباكه على شباكي، قد مات إلاّ بعد شهر أو أكثر. فلقد لمحت أرملته صدفة وسألتها عنه، فباحت بسرّ وفاته.. تصوّر! وتصوّر أيضاً أني بعد نصف قرن من اغترابي ما زالوا يُنادونني بإبن مجدليا، التي عشت فيها عشرين سنة فقط من عمري، ولم أسمع أحداً يُناديني بإبن ماريلاندز، المنطقة التي سكنتُها خمسين سنة، وبنيتُ فيها مسكناً. سأخبرك ، يا عزيزي د. مصطفى، قصة، لم أُخبرها لأحد من قبل، ولا كتبتُ عنها: بعد أسبوعين من وصولي إلى استراليا، أحسستُ بحنين حارق وجارف إلى الوطن، وأن استراليا ستدفنني، وأنا حيّ، فقرّرتُ الهروب بأية طريقة كانت، وكانت محطة القطار قريبة من مسكني، فركبتُ أوّل قطار وصل المحطة، بُغية العودة إلى مجدليا، ونسيتُ أن أستراليا جزيرة معلّقة بكعب الأرض لولا صُراخ امرأة أخي وتحذيري بأن القطار سيرميني في البحر لا محالة. أستراليا بالقلب.. ولكن القلب في لبنان. وهذا الإحساس لا يشعر به إلاّ المغتربون (...) هذه هي حالنا يا عزيزي، أبعد الله عنك الغُربة وعن كل لبناني".
   ولعلّ وجع الغربة، بل داؤها دفع شاعرنا إلى أن يتأسَّى النواسيّ (وداوني بالتي كانت هي الداءُ)، فأطلق تسمية الغُربة على أذرعه الإعلامية الثلاث: تلفزيوناً وإذاعة ومجلّةً!... هكذا كان صوت مغتربينا، وشاعر الغربة من دون مُنازع! 
   ... لولا أن المقام يقتضي بالضرورة الوقوف على أطروحة الغُربة ، عبر الديوان، لكنا اكتفينا بهذه المطالعة، وهي آخر مطالعه" طازجة" لشاعرنا- إذا جاز القول!- ... هكذا، فإن العودة إلى "مجانين" هي من لزوم ما يلزم!
   ويبقى السؤال الكبير، الذي تنضوي إليه تساؤلات مُتعدّدة، مُتجسِّداً في الآتي: ماذا تعني الغُربة لشربل بعيني؟ وماذا يعني الوطن / الأم؟ وماذا عن الوطن الرديف استراليا، وليس البديل من وطنه؟!
   ... والذكريات صدى السنين الحاكي، بل هي لدى شاعرنا، حنينٌ يُشارف حدود الموت، حنين إلى قريته مجدليا، عَبْرَ مشهديات، تشغلها أمّه:
وبتذكّرِك يا ميمتي موقِدْ
بتذكَّرِك تنّورْ/ بتذكَّرِك مسنِدْ
وبيت من دون سور
بتذكَّرِك قلب وعطا وزهورْ
وبتذكَّرِك وبقول:
يا ريتْ كان الموت أقربْ من التذكارْ
(ميمتي).
   وماذا عن الوطن الذي يرقى تَركُهُ إلى مرتبة " العيب"؟!:
عيبْ إني إتركوا وإرحَلْ
هـ الـ كان ملوى الكونْ
ولونْ أبهى لون
وأجملْ من الأجملْ
ما نسيت خيراتو... وصعب إنسى
(...)
بشوفو وقتْ ما ينامْ
(عيب إني إتركو). 
   ولأن لبنان مُترسِّخٌ في شاعرنا، فهو يُمجِّدُهُ يومياً في غُربته:
ومهما الغُربة تغيِّر الإنسانْ
وتزرع بـِ فكرو خبارْ وهميِّه
بتبقى إلك: آيات من لبنان
تمجّدك بالهجرْ يوميِّهْ
   ومن هذا المنطلق، يبقى الوطن قُونة على صدور المهاجرين:
بحلّفك بالأرز.. مهما صارْ
لا تيأسْ من النصر... لا تنهارْ
بعدك عَ صدر الـ هاجروا... قُونِهْ
(يوم لبنان).
   جرّاء ما يشعر به المهاجر من لوعة لا تُفارقه، فهو يتمنّي العودة إلى وطنه وأهله:
ويا ريت بيرجع ماضينا
والتهجير يصفّي ذكرى
تركنا محارمنا عَ المينا
بركي بتستقبلنا بُكرا
تركناها بيارق مرفوعة
تحكي حكايتنا بدموعَا
(فخّار يكسّر فخّار).
   هكذا، راح شاعرنا، "يدبُّ" الصوت بين المغتربين:"أنْ عودوا":
يا أهلي... يا مغتربين
(...)
ارجعوا يا أغلى محبين
(إرجعوا).
   وهل من الوطنِ بديل بل هل من قريته مكانٌ في الدُنيا أكثر جمالاً، يُغري بالعودة إليه؟!:
اشتقنا يا بلادي اشتقنا
لبرودات الصبحية
وللشمس الـ بتفيقنا
بجدايلها السحريّة
للطير الـ عَمْ يسرقنا
وينتُف تينَهْ حميرِيّهْ
اشتقنا ترفّْ بيارقنا
فوق الأرض المحميّهْ
اللي فلحناها وعِرقنا
اللي حرسناها ليل نهار
تا تبقى لبنانيِّهْ
(إرجعوا).
   في تعليل لغربة شاعرنا، فهي بدفعٍ من الطبقة السياسية الفاسدة، التي ملكتْ كل شيء، ولم تُبقِ له ولسائر المهاجرين سوى الغُربة!:
شو بدّي إعمل يا ربي
ملكوا الأرض... ملكت الغُربهً
(فخّار يكسِّر فخّار).
   على رُغم وجع الغُربة، واللهج دائماً بالوطن، فإن شاعرنا، من موقع العرفان بالجميل، يُثمِّن عالياً ما قامت به استراليا، من عظيم فعال، فقد استضافت اللبنانيين، ووفرّتْ لهم الملاذ، وأطعمتهم من جوع وآمنتهم من خوف! :
وبنجاحنا أوّل ما هنّتنا
واستقبلِتْ بالشكر خدمتنا
استراليا... الـ إسما على شفافي
أرضا الحرّة المضيافِهْ
(تاريخ هجرتنا).
   ... وإذْ نُغلِقُ على أطروحة الغُربة، ولما يُشفَ غليل القلم، فبكلمةٍ مُترعةٍ وجعاً، اقتطفناها من حوارٍ مُسهبٍ بين شاعرنا والأديبة وداد فرحان، سبقت الإشارة إليه والاستقاء منه:
"... ألا تبكين- يقول البعيني متوجِّهاً إلى الأديبة فرحان- وأنتِ تتذكّرين أهلك الذين هجرتِهم، ومسرح طفولتك، الذي كنتِ تقفين عليه بطلة، دون مُنازع، فإذا بك تحملين أمتعتك وتغادرين الحلم الذي لوَّنْتِهِ كقوس قُزح، وتهدمين المسرح الذي كنتِ تُطلّين منه على الدنيا؟! (...) هذا ما حصل معي ومعك ومع الملايين من المغتربين المطرودين غدراً من ديارهم، وما زالوا يحتفظون بمحارم السفر التي لوّحوا بها لأحبّتهم" (...)، وليُضيف، عمّا أخذت منه الغُربة وماذا أعطته: "لقد أخذت مني عمري، ألا يكفي ذلك؟ قد تكون أعطتني الحرية في التعبير، ولكنها، في نفس الوقت، رمتني في الشيخوخة، وأنا ما زلتُ أحلُمُ بالعودة، والعودة تبتعد عني (..) أجل، أنا مُصاب بداء الحنين إلى تلك الربوع التي أنبتتني، ولكن لا الغربة تسمع ولا الوطن يحنّ، وأنا عالقٌ على شفير هاوية الانتظار"!
ثامناً- للبنان الأسطورة والقداسة ربّ يحميه... وهو باقٍ.. باقٍ!
   كما طائر الفينيق، ينبعث من رماده إثر موتٍ، فتُكتبُ له حياةٌ جديدة! ذلكم لبنان، تهبّ عليه الأعاصير، من كل فجّ عميق، فتزلزله شرَّ زلزلةٍ، وكان، كل مرّةٍ، يُبارحُ جلجلتِه، سليماً معافى!... هو قدره أن يُدمِنَ الذهاب إلى الموت ابتغاء بقاء! وكأننا  بالأرز، أرز الربّ، يُعلن جهرةً أن من كان في حمى الرب هو باق، بقاء أرزه، والربُّ حسبُهُ ونِعم الوكيل!
   من هُنا، كان لشاعرنا أن يجأر بالدعاء إلى الله كي يحفظ لبنان الذي يُمجّده، عَبْرَ أرزه الدهري:
يا ربّ خلّي عينك علينا
نحنا الـ زرعنا فوق بالعالي
الأرز اللي اسمو اليوم... أرز الرب
(دياب الشعب).
   .. هذا الأرز الدهري الخالد هو صوت العصور، الآتي من البعيد البعيد، يحكي أسطورة لبنان الطاعنة في الزمن:
رح تبقى خالد ومنصان
ويبقى الأرز الـ ع حفافيك
يحكي أسطورة لبنان
(خالد كحّول).
   كيف لهذا البلد أن يزول، وهو أرض الله، كما أرض الإنسان الذي سوّاهُ الله على صورته، ليكون خليفته في هذه الأرض؟!:
مهما غرابْ البينْ
طيَّر واغتنى
بتضلّك أرض تنين
الله والإنسان
يا وطني لبنان
(ليل نهار).
   ... في حالةٍ من التفاؤل غامرة، يرى شاعرنا أن ارض لبنان، التي تتزيّا أجمل الزهور، باقيةٌ على ألقها، لا ترتضي من زيِّها بديلاً، ولن يعرف اليأس إلى قلبها سبيلاً:
الأرض اللي لبست مشلحْ من الفلْ
مهما كويتا بنار
ورميتا بدمار
ما تبدلو بتوب الأسى
(ليل نهار).
   ... في موقف حاسم، لا جدال فيه، يُعبِّر الشاعر عن ثقته بأصالة اللبنانيين، كما عن عنادهم وصمودهم! تسقط عروش وتتهاوى تيجان، ويبقى لبنان راسخاً ، عالي الجبين!:
مهما غراب البين
بالبين يشلحنا
نحنا شعب لبنان
بتتغيّر البلدان
بتتطاير التيجان
ومنضلَّنا نحنا
(وين إنت وين؟).
   ... تجسيداً لصمود لبنان، لا تُستثنى منه منطقة، لا ساحلاً ولا وسطاً ولا جبلاً، يجول بنا شاعرنا في مختلف المناطق، فيُشهدها على تجاوز المكاره، وكل الأصوات الناعبة المبشِّرة بالخراب:
مهما يجرّحنا الأسى
ومهما البوم ينقّ
بتضلّ شمس الحقْ
ونحنا بنورك ماشيين
تا نُوصل لصنّين
لجبيل مهد حروف
لشطوط ناقوره
لزيتون بالكوره
لصور أم النور
لصيدا... للدامور
لبعلبك المقلع
لجنوب ما بيركع
(وين انت وين؟).
   ... هذا اللبنان باقٍ لجميع بنيه، لجميع عوائله الروحية، مهما تألّبَ عليه الطامعون، ومهما تآمرت عليه الزعامات الفاسدة:
مهما الزعامة تغرق بجهلا
لبنان باقي لكل سكَّانو
دروز ونصارى وحدّن الإسلام
(بلادنا). 
   وإذْ يُعلّل شاعرنا النفس بالآمال، فهو غيرُ قانطٍ، ينهدُ إلى الخير الذي سيُطيح الشر، فيسودُ الشعب بديلاً من حكّام يأنف منها الدود، فكيف بالبشر:
لسبدّ ما تتراجع الأيام
عن ظلمها المقصود
وتتغيّر باسم الشعب حكّام
قرفان منها الدود
(وآخرتها شو؟!).
   المحكيَّةُ بجمال التعبير والتصوير/ إبداعٌ على إبداع!
   بقدرِ ما أجاد شربل بعيني، في فُصحاهُ شعراً، فقد أجاد في محكيتِهِ الشعرية، وهو يخوض فيها، عبر بضعة عشر ديواناً، تقوم شاهداً عَدْلاً على ما للمحكية، من جمال التعبير والتصوير! ولقد كان لديوانه "مُناجاة علي"، وهو بالمحكية، خاطب فيه الإمام علي بن أبي طالب، بلغة المزامير، أن يجوز إلى العالمية، إذْ تُرجم، من العربية، إلى الإنكليزية والفرنسية والإسبانية والفارسية والأوردية، ومُنح عليه جائزة الشاعر المبدع جورج جرداق. ناهيك عن دواوين أخرى، أول بواكيرها، "مراهقة" (1968)، إلى رباعيات (في طبعته الرابعة 2016)، إلى "الله ونقطة زيت"، (في طبعته الثالثة 2016)، وهو من أجمل الدواوين، نصح شاعرنا للأديبة المحامية د. بهية أبو حمد بأن تقرأه لأنه " غير شكل"، بحسب تعبير شاعرنا!.. وإلى دواوين، لا يتسع لها المقام في هذه العُجالة.
   ... هذه التجارب الشعرية، بالمحكية اللبنانية، - جميعها على حظٍ من النجاح كبير- يرفعها البعيني في وجه "اكليروس" العربية الفُصحى المتشدِّد، مسقِطاً الذرائع المتهافتة، التي يُحاجّون بها، في إلقائهم الحُرم على المحكية!
   وإذْ أراد شاعرنا أن يُسقط إحدى أهم الذرائع لدى هذا "الإكليروس"، فحواها أن لجوء بعض الشعراء إلى المحكية دليلٌ بيّنٌ على عدم إجادتهم الفُصحى، فقد نظم "المربدية" (أرضَ العراق أتيتُكِ)، وألقاها في المربد الثامن (1987)، ولتحتوي ألوان الشعر العمودي والحر والعامي والزجلي، وكانت موضع إعجابٍ منقطع النظير!
   ولا شك أن المحكية تُوسَمُ بأنها "قوت الشعوب اليومي"، كونها تعكس حركة الحياة بصُدقية عالية، وتجسِّد الوجدان الشعبي بمحمولاتِهِ، كأحسن ما يكون التجسيد. وهي ليست النِدّ المنافس للفصحى، ولا الساعية إلى إقصائها لتكون بديلةً منها، إذْ لكلّ من اللغتين ملعبها، ولكل واحدة نطاقُها الذي تبدعُ فيه! وغالباً ما يُردِّد بعض الألسنيين المنفتحين أن العامية/ المحكية هي الخزّان الاستراتيجي الاحتياطي للفُصحى، تمدّها ، على مرِّ الأيام، بدفقٍ من الكلمات والتعابير، من منطلق أن اللغة كائنٌ حيّ خاضعٌ لسُنن التطور!
   وإذْ نعبُرُ إلى "مجانين"، وإلى محكية شاعرنا البعيني، فقد أوجَدَ لنفسِهِ محكيته اللبنانية "المجدلاوية" (نسبة إلى مسقطه مجدليا): تقعيداً (قواعد لغوية)، وبياناً، وبلاغةً وفَصْلَ خطاب! 
   في مقاربة هذه المحكية، نتوقف عند مقال للأديبة والباحثة د. نجمة خليل حبيب، إذْ جاء فيه، وهي تقوّم محكية شاعرنا أن " ... اللغة المحكية امرأةٌ غجرية حُرّة، جريئة، صريحة، لا تُوارب، منطلقة على سجيّتها، تُمتعُ وتشتهي بأكثر ما تفعل أختها الفُصحى، ربة الصون والعفاف، المترفّعة في برج عاجي" (المقال منشور على موقع الغُربة- سيدني في 28 تشرين الثاني 2019)".
   ولقد كان لنا، في مقاربتنا كتاب الأديبة المحامية د . بهية أبو حمد، عنوانه "شربل بعيني منارةُ الحرف" (صادر في العام 2019)، كما في تقديمنا ديوانه الشعري "أحبُّكِ" (صدر في العام 2020)، وقد جاء التقديم بعنوان: "شربل بعيني يُعلن الحب على المرأة "ولا يُهادن".. كان لنا أن نجلُوَ أطروحة المحكية، لدى شاعرنا، ولنخلص إلى أنه امتلك ناصية اللغتين، حتى لتحار في أيِّهما كان أكثر إبداعاً وأكثر أخذاً بمجامع القلوب! 
   وإذْ نكِبُّ على الخطاب التعبيري، في "مجانين"، ومرتكزه اللغة المحكية، فإننا، من منطلق البحث المنهجي والمتسلسل، سوف نتوقف عند عناوين مُتعدّدة، مدعّمة بشواهد من مختلف النصوص، فتكون عيِّنات نموذجية وغيضاً من فيض!:
   أ- الانسيابية "الرقراقة"!، حيث تكرجُ الكلمات مُتهاديةً أحياناً، وذات خطوٍ سريع، أحياناً أخرى، تقرعُ الأسماع، وهي تُبلّغُ رسالةً لا تحتمل التأجيل! وفي كلا الحالين، فهي كلماتٌ وتعابير تتنزّلُ بَرْداً وسلاماً على القلوب:
وما همّني لو يطعنوا صدري
وما همّني لو صار جسمي رْمادْ
الـ بيهمني... ما ينفتح قبري
الاّ ببلادي.. وينكتبْ فوقُو:
مات تا يفدي شعبْ وبلادْ
(دياب الشعب).
   وفي إطار هذه المحكية المتهادية، كأننا بشاعرنا، كما الشاعر جرير، "يجرفُ من بحر ولا ينحتُ من صخر"!، لنا أن نقرأ :
وهاتْ إيدَكْ هاتْ
تا إشبكا بديّي
عهد التعصُّب ماتْ
فيقْ يا خيّي
الانجيل والقرآنْ
ما فسّروا الأديانْ
نعرات دينيِّهْ
(شياطين).
   عن المحكية، في انسيابيتها مُتسارعة الخطو، المدفوعة إلى أمام، بتفعيلات من بحر الخبب في بعض الشطور، نجدُنا أمام هذا المقطع الرائع:
قاومْ... يا شعبي قاوِمْ
مش حقْ تضلّ مسالِمْ
باعوا دمَّكْ بالدولار
وعبُّوا دموعك بمحارمْ
وعندُن تُخمِهْ من الكفيارْ
وانتَ من القِلّهْ صايمْ
لا تصدّقهنْ مهما صارْ
(...) 
حْمَالْ بإيدَكْ سيفْ النارْ
(قاوِمْ).
   لعل قصيدة "مغول" ، بكامل فقراتها، تأخذنا، بشكل  نموذجي، إلى تلك الانسيابية "الرقراقة"، حيث تتراقص الكلمات، كتفاً إلى كتف، وكأننا بإزاء جوقة من جُوقات الدبكة اللبنانية الأصيلة، تؤدي طقساً فولكلورياً راقصاً ولا أجمل!
   ب- انسيابية ذات إيقاع موسيقي، بما يُقرِّب المحكية من فضاء الشعر، وليؤدِّي تكرار بعض العبارات دوراً في تكريس البُعد الإيقاعي للنصوص. علماً أن الموسيقى هي الفيصل ما بين الشعر والنثر:
مشْ رحْ صدِّق، مُشْ رحْ صدِّقْ
إنّو بلادي صارتْ غابِهْ
وإنّو شعبي تحوَّلْ طابِهْ
وإنّو ملح الحبّْ الصافي
فَسَدْ، وبعدو الغافي غافي
(مش رح صدِّقْ)
   والسؤال: أوليس في هذا النص نفحة شعرية طاغية؟!
   ومن قصيدة أخرى ، تصبّ في هذا المصبّ:
وبتذكَّرِك يا ميمتي موقدْ
بتذكَّرَكْ تنوّرْ
بتذكَّرِكْ مسنِدْ
وبيتْ من دون سورْ
بتذكَّرِكْ قلب وعطا وزهورْ
وبتذكَّرِكْ وبقول:
يا ريتْ كان الموت أقربْ من التذكَارْ
(ميمتي).
   ج- في عفوية التعبير وبساطته، فالشاعر، من منطلق الوفاء لمحكيتِهِ، يقطفُ عباراته والكلمات من شفاه الناس العاديين البسطاء، حيث لا تعقيد ولا تقعُّر، وإذا بحقلِهِ المعجمي يكتسي طبعيةً لافتة:
وإن كان شي مرّة القمر ضجران
وحاسِسْ بنتفةْ قهر
بينزلْ يقطّفْ زَهَرْ منْ بستانْ
غافي عَ حفّةْ نَهَرْ
ويقعِدْ يألف عن جبلْ لبنان
أحلى  قصايدْ شِعِرْ
(قلبي وطن).
   .. هذا الكلام البسيط، بل السهل الممتنع على شعراء كثيرين - ولدى  البعيني منه الكثير الكثير- يفهمه المتعلّم (بالطبع)، وأنصاف المتعلمين، وحتى التلامذة في مراحلهم التعليمية الأولى... مما يجعل المحكية أكثر ديمقراطيةً من الفصحى التي تتوجه إلى النخبة، وليس إلى الجمهور الواسع!
   د- المحكية حين تنطق صُوراً!.. لأن المحكية- كما أسلفنا- مقطوفة من أفواه الناس، فهي لا تغادر نطاق مشهدياتهم، كيفما أجالوا البصر. هذه المشهديات، في غالبيتها، مُغرقةٌ في حِسِّيتِها، لا تحتاج إلى جهدٍ فكري كي يُفقَهَ ما ترمي إليه أو تشي به. علماً أن أكثر أفكار شاعرنا تتزيّا تلك الصُور الحسيّة، ولتغدو أكثر إفصاحاً، بما يجعل الأفكار تنطق صوراً، إذا جاز القول:
كرامة وطن عملوه مرجوحَهْ
ورِكبوا ع ضهرو... وطوّلوا زيادِهْ
(دياب الشعب).
   أفلا تردّنا هذه المشهدية إلى أعيادنا- نحن اللبنانيين- حيث كانت تُنصب أرجوحات في ساحة عامة، فنركب فيها، ويُردِّد صاحبها، وهو يدفع الأرجوحات، بكلتا يديه:" قوموا نْزَلُوا، ونُجيب بصوت واحد: ما مننزِلْ! ، ويُتابع مهدّداً: مندهوركِنْ.. فنُعيد الكرّه: ما مننزِلْ.. وإلى آخر هذه الأهزوجة، من عهد جميل مضى!؟
   ومن نص آخر، في المسار عينه،:
كرمال تفني بعضها زعاماتْ
الشعب عندا... سلالم ودرجات!
(دياب الشعب).
   هـ- الخطابية المباشرة المفصِحة عن رسالة! ، لا سيما في القصائد السياسية الصِرفة، حيث تُقال الأشياء كما هي، وتُبلّغ الرسائل بكل فجاجة. فعلى سبيل المثال، في قصيدة "دياب الشعب"، وهي أطول قصائد الديوان وأكثرها إيغالاً في منعرجات السياسة، نتوقف عند هذا المقطع، حيث يُوجَّه الاتهام إلى الزعيم الذي يسوم شعبه القهر والظلم، فيتردّد على الأسماع الضمير هو (هوِّي) لمراتٍ خمس، مُتصدّراً، بل مُفتتحاً كل شطرٍ من شطور هذا المقطع. إشارةٌ إلى أنه لا يخفى على من يُلِمُّ بعلم المعاني ما يشي به تصدير كلمة أو تأخيرها في الجملة (المسند والمسند إليه):
هوّي اللي خلاّ بلادنا تعيشْ بجحيم
وهوِّي اللي حرق ع مدبحو شموعك
وهوِّي الـ هَدَمْ عن قصدْ جناتْ النعيمْ
وهوِّي الـ سرقْ تاتموتْ من جوعكْ
وهوِّي اللي مِنّو خاف شيطانْ الرجيم"!
   و- التعابير المبتكرة وغير  المسبوقة:... حدِّثْ عنها ولا حَرَج، فهي تجتاح صفحات الديوان، من ألفِهِ إلى يائه، وليصل بعضها إلى ما هو مُعجزٌ في فنون القول! 
   .. تمثيلاً لا حصراً، هاكم بعضاً من هذه التعابير:
   حول ما اقترفت الزعامات الفاسدة وفعلت باستقلال لبنان الوليد:
صلبوه فوق حناكُنْ الرخوِهْ
وصفّى التعايش كومة نفايات"!
   هي صورة مبتكرة بوجهيها: عملية الصلب غير المأنوسة فوق حنكهم الرخو، وذلك كنايةً عن إهمال التكلم بالاستقلال، وعن التعايش المرمي والمتجمّع كما أكوام النفايات!
   "سمومها نعرات دينية" (دياب الشعب).. ذلك ما تعمد إليه الزعامات السياسية، فتبث النعرات الدينية القاتلة كما السموم!
   .. وهذا التعبير الرائع، على لسان جندي شهيد، من أرض المعركة ضد الإرهابيين:
أرضك فراشي
وجوّك لحافي
(تاريخ هجرتنا).
   ونعبُرُ إلى صورة تخطف القلب لسِمتِها الإعجازية، وهي من الصُور التي لا يؤتاها إلاّ شاعرٌ من طينةِ البعيني وعجينتِه! فعلى لسان جندي لبناني شهيد يُصوِّر حملة تبرّع بالدم لجنودٍ جرحى:
ما عرَفت مين تبرّعْ بدمّو
مسلم... مسيحي ما حدا همّو
تاصار دمي شعب
عم يمشي بالشريانْ
تا صار دمي قلب
واسم القلبْ لبنانْ
(رسالة جندي لبناني شهيد).
   ... عَبَرَ الدمُ إلى جسد الجندي، فكأننا بهذا الدم يعدِلُ الشعب، وليجري الشعب اللبناني في شريانه! هل ثمة صورة أكثر تجسيداً لهذا التلاحم بين الشعب وجيشه، فطفقا يتماهيان في بعضهما بعضاً، وقت الشدّة والأزمات؟!
   هذه المشهدية يحق فيها القول: ما لا عينٌ رأتْ، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر! 
   ... وإذْ نكتفي بهذه النماذج، فذلك لأن الكلام على المعاني والصور المبتكرة حديثٌ يطول، ذو شؤون، لا يتسع لها المقام!
   ز- الجنوح إلى الطرافة، تعبيراً وتصويراً، ونأتي بهذا الشاهد تمثيلاً:
رح قولها عَ السطح... تهدر هَدَرْ
لبنان بدّو رجال.. مش خصيان
أطخن شنبْ ما عادْ عندو شَعَرْ
يا ريتْ مرّه بتحكم النسوانْ
(أنا وبيّي).
    .. في الواعية الشعبية، لا سيما القروية منها، أن الرجولة، يتقاسمها الرجل نصفين: نصف "من فوق" (أي الشنبات المعقوفة التي قد يقف عليها النسر)، ونصف " من تحت"، (أي العضو الذكري وعملية الإنسال المتصلة به)، فإذا فقدهما أحدٌ خرج من صفوف الرجال! ولعل شاعرنا، بإزاء هذه الحالة الدراماتيكية، تمنّى لو تحكم النساء، ولو لمرة واحدة، وبما يردّنا إلى الشاعر خليل مطران، في قصيدته بزرجمهر، حيث تخلع إحدى النسوة خمارها وتصرخ بأعلى الصوت:
ما كانت الحسناء ترفع سترها
لو أنّ في هذي الجموعِ رجالا!
   ح- المحكية المترعة محسناتٍ بيانية وبديعية، عمادُها التشبيه والاستعارة والكناية، ناهيك عن البديع بشقّيه: اللفظي والمعنوي. ولا تكاد قصيدةٌ تخلو من الصناعة البلاغية، التي لا تعسُّف فيها، بل جاءت لتكرِّس البعد التشخيصي التصويري لمشهديات الديوان.
   ... وإذْ نختم، فإننا نوصي خيراً بهذا الديوان "مجانين" ، الذي ما زال يحتفظ بألق راهنيتِهِ. فبعد مضي أربع وأربعين سنة على صدوره، بصيغته الأولى (1976)، ها هو يضعنا، عبر نصوصه الأولية (أي القديمة) ونصوصه المستدخلة عليه، خلال سنوات مُتعاقبة، بإزاء المشهديات المأساوية التي يكابدها اللبنانيون حالياً. فالطبقة الفاسدة التي أخذت لبنان إلى الحرب الأهلية القذرة، وأنزلت به شتى أنواع القهر والعذاب، لا زالت هي هي مُتربّعة على عرش الحكم، تعود إلى إنتاج نفسها، بصورة أكثر وحشية وأكثر إيغالاً بدم الشعب.
   .. يكفي شربل بعيني فخراً أن "النهار العربي والدولي"، أدلى بشهادة معتبرة ( 9 حزيران 1986)، عند صدور الطبعة الثانية لهذا الديوان، فآنس فيه نفحة الصدق القوي، تهدر هدراً، ولم يصطفّ الشاعر مع فريق ضد فريق. بل انطلق في معاناته وفي تعبيره، من كون ما حلّ بالوطن حرباً على الجميع وشراً ضد الجميع، ومن كون الإنسان هو الغاية، لا دينه ولا حزبه!
   وإذْ نتوجَّه إلى شاعرنا، (من وحي كلامٍ له) نأمل أن تستمرّ عصافير الشعر في النقرِ على شباكه، تدعوه إلى مزيد من التغريد، وكانت قد فعلت، وهو في التاسعة من عمره، فأوحت إليه بما أوحت، وطفق من حينِه ينطقُ شعراً! كما نأمل أن تعجز جميع المصحّات العلاجية عن شفائه من لوثة الشعر، وأعظِمْ بها من لوثة!
**
ـ
د. بهية أبو حمد: شربل بعيني منارة الحرف

   مدخل/ صدقتْ الآيامُ وعدَها.. فكانت "ستّ البهاء" وذات الحضور الأدبي الآسر!
   ما كان الأستاذ ألبير وهبه مجانباً الصواب، يوم تنبّأ لطالبتِهِ بهية أبو حمد، وهي على مقاعد الدراسة في معهد سيدة لبنان، بمستقبلٍ باهر، في عالم الأدب والشعر اللبناني. فقد "كانت تحفظ- والقول له- معظم اشعار خليل روكز، وكانت تُبدي اهتماماً منقطع النظير وشغفاً في ملاحقة شعراء الزجل اللبناني"، ولطالما كان يُردِّدُ في سِرّهِ أن هذه الطالبة ستكون شخصية مميزة في الحياة العملية" (راجع مقدمة الكتاب، ص ص : 6-7).
  ها هي السنونُ تمضي، فترتقي تلك الطالبة سُلّم المجد، عابرةً من نجاحٍ إلى آخر، فإذا هي المحامية المُشتهرة، وصاحبة الصالون الأدبي في سيدني، بما يُعيد إلى الأذهان مي زيادة مُتقمّصةً في بهيّتنا!.. وإذا هي تحوز، منذ أيام معدودات وسام الملكة إليزابيت الثانية..!
   ولعل آخر مآثرها ولوجها عالم التأليف الأدبي، فكانت باكورتها "شربل بعيني منارةُ الحرف".. هو مؤلَّفٌ يُقاربُ عميدَ الحركة الأدبية في المغترب الاسترالي، يُسلّط الضوء على مشهدياتٍ مُتعدِّدة من مسيرته الشعرية الظافرة، التي ترقى إلى خمسين سنة خَلَوْنَ.
   أن تكتب د. أبو حمد عن شربل بعيني، حيث لا يجرؤ كثيرون، فهي تغورُ على منجمٍ، ذهبُهُ أربعة وعشرين قيراطاً... تستحضر ذلك "الشاعر الذي ارتشف رحيق الشعر، ودغدغ أريجَ الحرف، ونهل عبير القافية، وأزهر دواوين شعرية قيّمة، أغنت المكتبات، وتأرجحت على خدود الورد لتُناجي الحب وتداعب العشق" (راجع الكتاب، ص 59).
"منارة الحرف"/ عندما يُطْبَقُ الحصار على البعيني، أديباً من طراز رفيع!
   على مدى 228 صفحةً، أحاطت المؤلفة د. بهية أبو حمد بالأديب الشاعر شربل بعيني إحاطةً شبه شاملة، على رُغم ضخامة نتاجه الأدبي الذي يملأ بطون عشرات الدواوين والكتب التي وضعها بين أيدي قُرائه، والمسيرة لما تنتهِ، بل هو مُصعِّدٌ في مراقي الإبداع، إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً!
   فشربل بعيني لا يعرف الراحة، بل ليس في قاموسه مصطلح الراحة، طالما يتنفس الإبداع، ملء رئتيه، شهيقاً وزفيراً!
   على مدى 228 صفحة، ومن خلال خمسة عشر ديواناً شعرياً، أحد عشر بالمحكية اللبنانية، وأربعة بالعربية الفُصحى، كان للمؤلِّفة د. أبو حمد أن تُوثّق مسيرة البعيني، مُتوسِّلةً لونين أسلوبيين، أولهما حوار افتراضي، بصوتها وصوت شاعرنا- والصوتان صوتها نهاية المطاف- وثانيهما عبارة عن مُناجاة، يتلو علينا البعيني مزاميره، صيخ إليه السمع، فيأخذ بمجامع القلوب!
   تضعنا الكاتبة بإزاء أديب عملاق، عركته الحياة، وزادته الغُربة نضجاً على نُضج، فأتحفنا بآراء، لا تُغادر قضية من قضايا الحياة والوجود!
   هكذا يشفُّ الكتاب عن "المانيفستو" (Manifesto) البعيني- إذا جاز القول- فنتملّى من دواوينه المُترعة حكمةً وفصل خطاب! 
   وإذْ تعمّقنا دواوينه الأربعة، التي صاغها بالعربية الفصحى، فقد أسفر عن شاعرٍ لا يقل إبداعاً عمّا باح به بالمحكية في الدواوين الأخرى، وليحتلّ مرتبةً رفيعة بين الشعراء الكلاسيكيين العموديين، الذين توسّلوا البحور الخليلية! ولا عجب، فالعبقرية تتبدّى، تكشفُ عن نفسها، في أية حالةٍ وفي أي لبوسٍ تتزيّاهُ، وفي تقلّباتها المتعدّدة والاختبارات!
   "شربل بعيني منارة الحرف".. سيرةٌ ذاتية، بل مسيرةٌ حافلةٌ، بمحطات من حُلو الحياة ومُرِّها.. التزمت المؤلِّفة، في استعراضها، أسلوباً أدبياً ممتعاً شيقاً، يتسم بحيوية لافتة، كونها لجأت إلى حوار افتراضي، مادتُهُ مادةٌ حقيقية وليس من بنات أفكارها، إذْ أفادت من مجموعة دواوينه، مُفردةً بضع صفحات لكل منها، مُثبتةً صورة لغلاف كل من الدواوين، مع تعريف موجز به، ولتنتقل بعدها على اختيار مقتطفات شعرية، تعمل على إثرائها وتقديمها بحلّةٍ جديدة.
   وإذْ يتخذ الكتاب صيغة السيرة الذاتية بل المسيرة- كما أسلفنا- فإن المؤلِّفة تعود القهقرى إلى يوم ترك البعيني قريته مجدليا، فتتوقف عند الوالدة "بترونله"، مصوِّرةً أساها، وهي ترى فِلذة كبدها يُنتزع منها، انتزاع طفلٍ من بين أحضان أمه (ص ص : 10- 12).
   .. تُطوى هذه الصفحة، صفحة الهجرة في بدايتها، ولتُشرَّعَ صفحات وصفحات على تلك الغُربة المتطاولة التي ترقى إلى خمسة عقود، ولتكون المرحلة الأسترالية، عبر هذا العنوان "وابتدأ المشوار الثقافي في أستراليا!".
   إبّان تلك الغُربة، تتوثَّق أواصر الصداقة بين أديبتنا المحامية د. أبو حمد وبين البعيني، يوم زفّها بشارةً ولا أجمل: ".. لك عندي بشارة سارة.. لقد وقع الاختيارُ عليك من بين عدة مرشحين، قرّرنا أن نمنحكِ جائزة الشاعر شربل بعيني، تقديراً للجهود الثقافية الجبّارة التي تقومين بها، وبالأخص الجهود المبذولة للحفاظ على الأدب المهجري من الاندثار" (ص 16).
   .. هي أمانةٌ، تُشفِقُ الجبالُ من حملها، وحملتها د. بهية! هي أمانةٌ بين يديها، فراحت ترفع من وتيرة حرصها على إكمال الرسالة الثقافية، في الحفاظ على الأدب المهجري، وكان الجواب الحاسم: ".. لك مني العهد، على أنني سأصونُ الأمانة" (ص 17).
   ... وإذْ تلِجُ الكاتبة إلى صُلب أطروحتها، فَعَبْرَ مدخل تمهيدي عنوانه "الأدب المهجري" (ص ص : 19- 28)، يضعها على أبواب الدواوين الخمسة عشر، كي تُقاربَها من منظورٍ وجداني حميم، إنطباعي تفاعلي، نائيةً بنفسها عن جفاف البحث الأكاديمي، الذي يُضعِفُ، بقدرٍ، من حرارة الروح التي يختزنها الشعر!
   .. تسألُ شاعرنا عن غيبةٍ له طالت، فيردّ بأنه لا يغيب إلا إذا كان منهمكاً في كتابةِ ديوان وإصداره.. ويُستكمل الحديث بينهما، فيخبرها عن لوعة الاشتياق إلى مسقطِهِ التي تستبدّ به: " لقد اقترنتُ بالغُربةِ الموحشة، أتوقُ شوقاً إلى قريتي مجدليا، إلى أصدقاء الطفولة، إلى أجراس الكنائس إلى رائحة الأرض الطيبة، إلى الهواء العليل المنعش، إلى عنقود العنب الأشقر، إلى البيت والجدار، ورائحة أمي وأبي" (ص، 24).
   في هذا المدخل التمهيدي، تتوجه كاتبتنا بالدعاء إلى السيد المسيح، مُلتمسةً من لدُنه العون والمدد، وهي تُعِدُّ نفسها للرسالة التي نُدبت لها: "اعطني السلام، يا إله السلام/ أعطني القوة والصبر لأتابع المسيرة/ مسيرة الثقافة والشعر والتراث/... لقد أتيتُ إليك، فاستجِبْ ندائي" (ص 28).
في "منارة الحرف"/ محطات ومشهديات ورؤى!
   خمسة عشر ديواناً شعرياً، تحتلّ المساحة الأكثر اتساعاً من الكتاب، وهي على التوالي: مراهقة/ رباعيات/ الله ونقطة زيت/ عبلى/ مناجاة علي/ اشتقنا/ أوزان/ ظلال/ قصائد مسلية/الغربة الطويلة/ ابن مجدليا/ جنيّة الشعر/ مشِّي معي/ قصائد ريفية/ أُغنية حب إلى أستراليا.
   إشارةٌ إلى أن عدداً من هذه الدواوين طبع عدة مرات (لمرتين ولخمس مرات)، مما يُؤشِّر على نفاد الطبعات الأولى، بسبب أهمية القضايا التي تُثيرها، ناهيك عن شهرة صاحبها!
   وقد أتبعت الكاتبة هذه الدواوين بدراسة تحليلية مُبسّطة، سلّطت فيها الأضواء ساطعةً على أسلوب شاعرنا الفكاهي، عَبْرَ عناوين فرعية ثلاثة: قصائد مسلية، إضحك ببلاش ومن كل ذقنٍ شعرة!
   وقد أُقفل على الكتاب بخاتمة ، جاءت بعنوان: "وأُهدي لكم بكل فخر واعتزاز عُصارة دراستي هذه" (ص ص : 225- 228).
   * استهلالاً بباكورة شعره "مراهقة"، فقد أبدع شاعرنا هذا الديوان، في العام 1968، وهو في حداثة سنّه (14 عاماً)، مُترِعاً إياه رائحة عشقٍ، راحت تفوح في الأرجاء، وليغدو "الحب- بحسب الكاتبة- الدواء الوحيد الذي توسَّلهُ البعيني لإطفاء النار التي لفحت كيانه" (ص 39)، وكان له، جرّاء هذا العشق الجنوني أن يبني لمحبوبتِهِ "منزلاً من ضلوعه" (ص 41).
   * وإذْ نأتي إلى "رباعيات"، المستوحى تسميةً من "رباعيات الخيام"، فإن شاعرنا يُبشِّر، عبره، بالمحبة والسعادة، ويدعو إلى التآخي، ويثور على اللئام وناكري المعروف (ص 54).
   في مقلب آخر، بقدر ما يأسى شاعرنا لزمن الشعر الجميل ولفطاحله الذين غابوا، يُعلنها ثورة على الجهلة، أدعياء الأدب:
كُلْ واحِدْ صار بالغُربة أديبْ
وأستاذْ ناقِصْ يحملْ بإيدو قضيبْ
( ص 49).
   * "الله ونقطة زيت"!.. حقاً، هو أروع دواوينه الخمسة عشر، كما تحصّل لنا، وأوفاها تجسيداً لنضجه الفكري والاجتماعي، وأكثرها التصاقاً بقضايا الحياة وإشكالياتها! ففي هذا الديوان، يتبسّط الشاعر في تعليل علاقته غير النمطية مع الله، مُعلناً على الملأ موقفه العدائي ممّن نصّبوا أنفسهم وكلاء لله على الأرض.. يتكلمون باسمه، وهو منهم براء!
   لقد كان لتجّار الهيكل، بل لسائر تُجّار المعابد والمساجد والكنُس نصيبٌ من شواظِ ناره!ّ كيف لا وقد زوّر هؤلاء التجار حقيقة الله، وجيّروه، باسم الدين، لمصالحهم الشخصية الضيقة، مُفترين عليه كذباً وبُهتاناً! 
   وإذْ يُدركُ شاعرنا أهمية هذا الديوان، فهو ينصح د. أبو حمد بقراءتِهِ، كونه من نمطٍ أدبي غير معهود: "إقرأي هذا الديوان، يا صديقتي، كتبتُهُ عن قناعة (اقتناع) شخصية، وبصراحة مُطلقة، معتمداً  على الأمور والمستجدات التي تدور حولنا كل يوم". وهو يسمُ نفسه بالجرأة، ليُواجه الظلم والكفر اللذين يُمارسان من حولنا! (راجع ص 58). 
   في هذا الديوان، يُناجي البعيني خالقهُ، بشكل مباشر، فهو أقربُ إليه من حبلِ وريده! يُناجيه بشفافية مطلقة، ناقلاً إليه ما يكابدُ من ألم، يعتصر فؤاده، وهو يُعاين السلوكيات غير السوية بل المنحرفة، التي يمارسها بعض رجال الدين، مُستغلين الثوب الكهنوتي! فهم يأكلون أموال الناس بالباطل، ويكدّسونها لتحقيق مآرب شخصية:
تجاره.. تجاره صفّى الدينْ
بايدَيْنْ رجالْ ملاعينْ
شيوخْ وكهنهِ وحاخاماتْ
عَ شفاهن مطبوعة الـ(هاتْ)
وبجيوبُنْ خبُّوا ملايينْ
... 
برمتْ الدنيي طُولْ وعرضْ
تا أعرِف ليش الكفّارْ
انقرضوا من شوارِعنا قَرْضْ
وصفّوا بمعابدنا كتارْ
(ص ص : 63- 64).
   .. ولآن الله غدا ذات الشاعر بل مرآته، يتوجه إليه بالقول:
وحياتكْ يا الله عارفْ
إنّكْ مِتْلِي عمْ تتألّمْ!
(ص 65).
   لقد زالت الحُجُب بين شاعرنا وبين باريه، بما يردّنا إلى  المتصوّفة العارفين السالكين، سبيلُهُم الحبّ بل العشق الإلهي:
ومهما الشهوة تغرّ شبابي
بستبدلْها بكلمة حُبْ
حتى لو زتّوني بغابِه
(ص 66).
   وإذْ يقفُ شاعرنا على باب الله، مُتوسِّلاً ، لا يرتجي سواه، كي يشمله برعايته ورضاه، يُحذّره من الفرّيسيّين السارقين الذين لم يُقدّر لهم أن يُهدوه إلى سبيل ربه:
خِدْني وارميني عَ جريكْ
يا ما تاجَرْ فيك حرامي
يا الله فتِّحْ عينيكْ
(ص 72).
   .. تسقُطُ "الكلفة" بين الله وشاعرنا، فيتطارح معه إشكالية الخطيئة، متمثلةً بارتكاب الزنا، ومثالُهُ: أم تعمد إلى هذا الخيار، وليس إلاّهُ بين يديها، كي تطعم أبناءها الجياع، وَقْتَ تخلى عنهم ربُّ الأسرة والمجتمع! 
   يستفتيه الشاعر، بصيغة تجاهل العارف، ويُنكرُ أن يُحتسبَ عملها خطيئةً!:
والأم ال زوجا قمّرجي
وما بتشوفو للصبحيه
جاعوا طفالا.. كرجِتْ كرجَهْ
وفتحتْ بابْ البيتْ وصارْ
الجنسْ يطعمي ولادْ زغارْ
هيدي رح تحسبها خْطِيّهْ؟!
(ص 68).
   .. وفي حُمّى تعلُّقِهِ بالله، يُجسِّدُ حبه الخالص له، لا يبتغي جنة، بل نور الله الذي يُضيءُ دربه ويهديه إلى سواء السبيل:
ما بدّي إطمعْ بالجنّهْ
بدّي كونْ بقربك بسْ
تاحتى انواركْ مني
تسطعْ وتصيِّرني شمسْ
(ص 75).
  أفلا يردّنا هذا الموقف المترفع عن كل غاية إلى المتصوفة رابعة العدوية التي أحبّت الله، لا طمعاً بجنةٍ ولا خوفاً من نار، بل كان حبها لوجهه الكريم ولأنه أهلٌ لهذا الحب:
أُحبك حُبيّن، حُبَّ الهوى
وحُبّاً لأنك أهلٌ لذاكَ
عرفتُ الهوى مُذْ عرفتُ هواكَ
وأغلقتُ قلبي على من عداكَ"! 
   .. في هجمةٍ جديدة.. وإمعاناً في تعرية تجار الهيكل وفضح أحابيلهم، ها هم يعلّقون الصلبان على الصدور، من مقاساتٍ كبيرة، ليوهموا الناس بعظيم تديُّنهم المزعوم، وستراً لما يُبطنون من شرور!:
وبيعلّقوا الصلبانْ عَ صدورُنْ
وبيكبّروا القياسْ
تا يستّروا بصلبانُنْ شرورنْ
عنْ عيونْ الناسْ
(ص 76).
في مقلب آخر وضّاء، من "خطاب" البعيني الديني، يستحضر شاعرُنا عدداً من القديسين أصحاب المعجزات والكرامات وعلاماتٍ على تجلّيه في الأرض، اصطفاهم الله، فاتحتهم القديس شربل مخلوف، إلى القديسة رفقا، إلى القديس نعمة الله الحرديني.. ويتوقف عند العذراء مريم، ذات المكانة الكبيرة في حياة البعيني، وصولاً إلى القديس مارون، أبي الطائفة المارونية، والقديسة فيرونيكا، وانتهاءً بالطفل يسوع، طفل المغارة، الذي علّم شاعرنا المحبة، فإنزرعت في كيانه إلى يوم يُبعثون! (ص ص : 86- 94).
   * نروح إلى "عبلى"، فنجدُنا بإزاء أبياتٍ شعرية رقيقة، يتغنّى بمحبوبتِهِ، فتنسابُ في خبايا الروح! وثمّة في الديوان ثورةٌ على الإنسان الشرير، فيرى إليه ذئباً يعوي! ولَكَمْ تمنّى البعيني أن يُؤدِّي دور الله، ولو لبرهةٍ، كي يُحقّق ما ينهدُ إليه من آمال وأحلام، في عِدادها طمرُ جهنّم بالورد والحب، ومحو الخطيئة المعشِّشة في القلب، وإلغاء الموت، وإعدام زارعي الفتنة بين الأديان! (ص ص : 96- 97).
   .. في مجال الحب، ثمة مفارقة اختصَّتْ بالشعراء، فهم لا يشيخون مهما طعنوا في السن! هكذا ما فتئ شاعرنا مُقيماً على عشقه، وهو في الخامسة والستين من عمره:
صِرتْ بالخمسة وستينْ
وبتحومْ عليّي فساتينْ
انتي بقلبي ليلْ نهارْ
وما بعشَقْ غيرِكْ حلوينْ
(ص 97).
   وإذْ يرتدُ إلى "عبلاه"، ، فهو يجولُ بها في أرجاء الوطن، وقد تزيَّت طرحةً بيضاء... يزوران سويةً ضيعته مجدليا.. يشتري لها الذهب والألماس من مدينة طرابلس، يصحبُها في جولاتٍ على البترون والكورة وإهدن وأميون وبشري وزغرتا، فيُذيقُها أشهى ما في هذه البلدات، ويُمتِّع ناظريها بأبهى ما تحوي من طبيعة خلاّبة!
   لقد كان للهاجس الطائفي المقيت الذي يُؤرق شاعرنا، أن يُطلَّ برأسِهِ، في هذا الديوان! فها هو ذي شاعرنا يتوقف عند معاناة الشرق الذي يحترب أهلوه من أجل الدين (ص 104).
   .. يُقفلُ الديوان على مأساة حبّ الشاعر، فقد تركته عبلى وحيداً، وارتحلت إلى البعيد البعيد، غير مكترثةٍ بعواطفه النبيلة تُجاهها!
   * في "مُناجاة عليّ" ، يُطِلُّ شاعرنا، بلُغة المزامير النبوية، لُغةِ الكتاب المقدّس، مثمّناً التعايش الإسلامي المسيحي، وذلك من منطلق التقاء الأديان جميعها عند حقيقةٍ جوهرية واحدة:
دينك ديني دينْ الحبْ
الحبّ اللي بيجمع أكوانْ
(ص 110).
   في هذا المجال، ينمُّ شربل بعيني عن رؤيا إيمانية غائرة في أعماقه، نتبيّنُها جليّةً عند كبار المتصوّفة، وفي مقدّمتهم الشيخ الأكبر محي الدين بن عربي، إذْ يتلو علينا "خطاب وحدة الأديان"، إذْ تتمحورُ جميعها حول أطروحة الحب. من هُنا نقرأ في "ترجمان الأشواق":
لقد صار قلبي قابلاً كل صورةٍ
فمرعى لغزلانٍ وديرٌ لرهبانِ
وبيتٌ لأوثانٍ وكعبةُ طائف
وألواحُ توراة ومصحفُ قرآنِ
أدينُ بدينِ الحبّ أنّى توجهتْ
ركائبُهُ، فالحبُّ ديني وإيماني"!
   * عَبْرَ " إشتقنا"، يذهبُ شاعرنا إلى فكرة مُبتكرة، إذْ يتناغمُ الفنُ والحجرُ ليُنشِدا الحب، فيُقدّمان بذلك أمثولة لبني البشر- وهم من لحم ودم: 
الإزميلْ لمَّنْ بوّسْ خدودْ الحجَرْ
صاروا البشر يتباوسوا متلو
(ص 113). 
   وكأننا بشاعرنا يتوجّه إلى بني قومه قائلاً: "واعتبروا يا أُولي الألباب!".
   .. هي ثورة عارمةٌ على حكام لبنان يُعلنها البعيني، مُطالباً ببُدلاء أخيار منهم، فهم ليسوا أهلاً للمواقع التي يشغلون:
أطخنْ شنبْ.. ما عاد عندو شَعرْ
يا ريتْ مرّهْ بتحكم النسوانْ
(ص 115).
   في هذا الديوان، لعمالقة من لبنان حضور، من صاحبِ الحنجرة الذهبية الفنان وديع الصافي، إلى الشحرورة صباح، إلى الشاعر الملهم سعيد عقل، إلى صديق شاعرنا بطرس عنداري، وصولاً إلى أمه "بترونله"، وانتهاء بمثلّث الرحمات سيادة المطران بولس صليبا.. كما كانت لبيروت مكانة خاصة في قلب الشاعر.
   * في "أوزان"، تغدو بيروت عروساً جميلةً، تذوب حُبّاً وغراماً. وما يلفت أن الشاعر، إذْ كتب هذا الديوان باللغة الفُصحى، فقد أسفر عن عُلوّ قدمٍ في لغة الضاد، على عكس بعض الشعراء المهجريين الذين ضُعفت لديهم اللغة الأم، هذا ما يُدلِّل على استدامة تواصله مع الفُصحى، ناهيك عن تعلُّقِهِ بها.
   وعن بيروت التي عشق، فهي باقيةٌ وشماً على يده، لا يمكنُ لعوامل الزمن أن تُغيِّبَهُ: 
بيروتُ يا بيروتُ لا تتردّدي
...
كلُّ المدائنِ ضيّعت عُنوانَها
إلاّكِ يا بيروتُ، يا وشمَ اليدِ
(ص ص : 123- 124). 
   وقد التزم شاعرنا بحر الكامل ، في نظمه هذه القصيدة.
   .. هو الشعر الحلال، من لدن شاعرٍ له صِلةُ قُربى بجنيّات وادي عبقر، أوحينَ إليه ما أُوحين.. هو حقاً الشعر الحلال ما نقرأ، ولتشفَّ قصائدهُ عن شاعرٍ، حَجَزَ لنفسِهِ موقعاً مُتقدِّماً في الشعر العربي، فصيحِهِ ومحكِّيهِ!
   وكما بيروت، فلبعض العواصم والبلاد العربية موضعٌ أثيرٌ مُنحفرٌ  في قلب شاعرنا وفي عقله... لبغداد ومصر وعمَّان ودمشق الشام وتونس الخضراء وللقدس الجريحة!
   .. في هذا الديوان، يُعاوده الحنين إلى "عبلى"، تُدغدغُ أحاسيسه المرهفة... هي طائرهُ الساكِنُهُ ولا ارتحال! :
قد يرحلُ طيرٌ عن عُشٍّ
لكنّ طيوري لن ترحل
(ص 131).
   وإذْ يثور شاعرنا على جبران خليل جبران، بل يُعاتبهُ عتاباً رقيقاً، فلأنّه صامتٌ بإزاء تدهور الحرف والشعر ويباس الزرع وهجر الأرض والكروم ( ص ص : 131- 132). وكأننا به، عبر هذا العتاب الرقيق، يحثُّ جبرانه على إعلانها ثورةً، لا تُبقي ولا تَذَر!
   * في "ظلال"- هو ديوان بالفُصحى أيضاً- يستهلُّ شاعرنا بالثورة على الحكّام والزعماء (اللبنانيين بالطبع وليس الأوستراليين!) الذين جنوا على البلد، وجرّوا عليه الويلات والخراب. وبالمقابل يُشيد بالجيش اللبناني، حامي الوطن، مُعلّقاً عليه آمالاً عريضة، لانتشاله مما يتردّى فيه من سوء عاقبة ومصير مشؤوم! 
   وعلى غرار ما خلصنا إليه آنفاً، فإن شاعرنا يبدو، عبر هذا الديوان، سيّداً من أسياد الشعر العربي، لا يُشقُّ له غُبار! وحدِّث عن تلك الإنسيابية والرقة اللتين تطبعان قصائده، إلى عُمقِ معانٍ، تتواءم والأسلوب التعبيري، وليخرج النص الشعري من بين يديه خَلْقاً سويّاً! 
   .. في "ظلال"، واستكمالاً لخطاب المدن، يُعبِّر البعيني عن حُبّه للرباط (المغرب)، للعراق وشهدائه، لبيروت، مُقيماً صلة رحم بين بيروت الحزينة وبين بغداد الجريحة التي اجتاحها الغُزاة الأميركيون (2003):
هذه بيروتُ يا بغدادُ تبكي
امسحي الدمعاتِ إنّ الدمعَ أحمرْ
إن بكيتِ اليوم نبكي كُلَّ يومٍ
كلُّ شبرٍ منكِ يا بغدادُ جوهرْ
(ص 136).
   .. في "ظلال"، يُناجي البعيني أبا الطيب المتنبي، مالئ الدُنيا وشاغل الناس.. يُنبئه عن الكفر العميم الذي يملأ دُنيانا:
يا أبا الطيب مهلاً
هاهنا الكفرُ يسودُ
نحنُ نحيا كلَّ يومٍ
دمعُنا للحزنِ عيدُ
(ص 138).
   .. ولعهد التميمي الطفلة الفلسطينية البطلة حضورٌ أيضاً، وهي التي تحدّت الاحتلال الصهيوني بشجاعة فائقة، لهج بها العالم من أقصاه إلى أقصاه: 
عهد التميمي أصبحت أملاً
بنتُ النشامى هزَّتِ الجبلا
...
والقدس قالت: هذه فرحي
مثل التميمي لم أجد رجلا
(ص ص : 138- 139).
   * في "قصائد مسليّة"، ديوانٌ بالمحكية، يثور شاعرنا على الزواج، مُبدياً رغبةً بالبقاء عازباً، مؤْثِراً التنقُّل، كما النحلة، من زهرة إلى زهرة، يعتصر منها الرحيق! وهل لمتنقِّلٍ من معشوقةٍ إلى أخرى أن يُطيق صبراً على الانحباس في قفص الزوجية؟!:
وأعزَبْ متغنّج ضِليتْ
تا قطِّع عمري فرحانْ
...
الجازه فيها خرابْ البيتْ
إن ما ظبطِتْ بتصيرْ عريانْ
...
الله بيعرِفْ مهما عطيتْ
مُشْ ممكِنْ ترضي النسوان
(ص ص : 144- 145).
   .. في هذا الديوان، من باب الثورة على حكّامنا، ثمة ثورةٌ ضد النائب الذي ينتخبه الشعب، واصفاً إياه بالسارق والكاذب:
الشعب انتخبوا وقلّلو: كونْ
ممثّلنا بمجلس هـَ الشعبْ
تاري هـَ النائبْ ملعونْ
معوَّدْ عَ السرقه وعَ الكذبْ
(ص 146).
   * عن "الغُربة الطويلة"، فهو يُناجي، عبر هذا الديوان، الوحدة الموحشة، جابلاً من تُرابها إنساناً، ليُشاركه في حياته ويُؤْنِسُ وحدته.
   وقد كان لمعاناة شاعرنا، جرّاء غربته المديدة وهجرانِهِ مسقطه، أن تُرسِّخ لديه هاجساً يُعاوده في كل حين، فيؤرِّقُهُ أيّما تأريق:
يا غُربة الأيام الطويلة
يا غُربة الشقا والضنى
قبلْ ما تحكيلُنْ حكيلي
شو اللّي متخبّالي أنا؟!
( ص 150).
   وفي مواجهة هذه الغُربة، بل تلك "التغريبة"، طفق البعيني يُغنّي للبنان، زارعاً اسمه على شفتيه، وحاملاً صليبه على كتفيه، علَّه بذلك يردُّ له بعضاً من فضلٍ سبق:
صوتي مبحوحْ.. وإيماني
فيكي يا بلادي خلاّني
إرفع الصوت وغنّيلِكْ
رح إزرعْ إسمك عَ شفافي
وإحملْ صليبك عَ كتافي
وإطفي بالدمعة غليلكْ
بركي يا بلادي الحنونهْ
بصوتي وبدمعات عيوني
بردِّلكْ نتفِه من جميلِكْ
(ص ص : 152- 153).
   في وقفة ذات اعتبار، ومن منطلق واقعي، بل تشاؤمي، لم يَرَ البعيني في الحياة سوى "مشوارٍ يُزنِّرهُ الألم والظلم والشرّ":
مشوارْ جينا.. وكيف رحْ نرجَعْ
وكل ما ضحِكنا.. العين عَمْ تِدْمَعْ
( ص 155). 
   فهو، عَبْرَ هذه الرؤيا المتشائمة، يأخذنا إلى أبي العلاء المعري، في موقفه من الحياة:" تعبٌ كلها الحياة..."!
   وإذْ يُبدي البعيني حُبّه الجارف لمسقطِهِ، بل لوطنه الأم، فإن هذا الوطن لم يُبادله حُباً بحب ووفاءً بوفاء، وهو لا يرغبُ بعودة ابنه إليه!:
رجوعْ الوطن متل الهموم تقيلْ
ولبنان مُش عَمْ يشعر بجوعي!
( ص 158). 
   إشارةٌ إلى أن شاعرنا لا يعني هُنا وطن النجوم، وطن الأرز، بل يعني الوطن الذي أحكم عليه الساسةُ الفاسدون قبضتهم وملأوه من بشاعاتهم والارتكابات!
   * عَبْرَ "ابن مجدليا"، يُجسِّد البعيني حُبَّه الجمّ لمسقطِهِ مجدليا، تلك القرية الوادعة، التي تستبطنُ اسم المجد والحنان، فتذكرها التوراة، إذْ شُيِّدت قبل أن يبني الملك سُليمان قصره من أرز لبنان:
قالوا: انبنيتْ قبل ما سليمانْ
قصرو يعمِّرْ من خشبْ أرزاتْ!
( ص 160).
   لقد وصل عشق الشاعر مجدليا إلى حدّ التقديس والعبادة، فأشركها بعبادة ربه، وليغدُوَ لديه ربّان!:
يا مجدليا.. بحبِّك عبادهْ
رغم الضياعْ بغُربةْ المجهولْ
المجدلاوي بينعطى شهادِهْ
إنسانْ مخلِصْ بالتقى مجبولْ
بالمُغترَبْ بيشرِّفْ بلادي 
(ص 160).
   وإذْ يهيج في قلبه حُبّ مجدليا، يُبدي رغبةً في العودة إلى أحضانها:
ما عادَ بدّي عيشْ بالهجرانْ
قِرفانْ من كلمة هجرْ قرفانْ
إبنكْ أنا ومشتاقْ تا شوفِكْ
عايشْ وحيدْ بغربتي ضجرانْ
مشتاقْ إرجَعْ بوِّس حروفِكْ
واوقفْ عَ باب كنيستِكْ ندمانْ!
(ص ص : 162- 163).
   ولم يكتفِ البعيني بالتعبير عن رغبةٍ جارفةٍ للعودة إلى مجدليا، بل يرى أن على المجدلاويين جميعهم أن يعودوا إليها من مغترباتهم، فهي أرض الجود، وهي الجميلة جداً:
يا غايبْ يلْلاَ تا نعودْ
عَ الضيعه عَ ارض الجودْ
وكلّ ما عمّرنا عامودْ
صوتْ بيصرخْ: آويها
(ص ص : 165- 166).
   * في "جنيِّة الشجر" – ثالث الديوان بالفُصحى- يستهلّ شاعرنا، بصوتٍ صارخٍ للحب والعشق والهُيام، لامرأةٍ استهوتْ القلوب وسحرت الأبصار!
   ولقد إنماز "الديوان" بجرأة ملحوظة، حين عبَّر شاعرنا عن حُبِّه العارم، من خلال صورة جنسية، يُهديها لعشيقتِهِ "فافي" (اسم الغنج والدلع)، التي لا ينساها:
أخبرتُها عن حبِّي
تطايَرَ الشَررْ
وجلستْ بقُربي
تناستِ الحذَرْ
امسكتُها
قبَّلتُها
حبستُها في قلبي
أهديتُها احترافي
بعالم التجافي
هنا فقط يا "فافي"
سنقتُلُ الضجَرْ
وتقطفُ الثمرْ
جنيّةُ الشجَرْ
(ص ص : 168- 169).
   * "مشِّي معي"، في هذا الديوان، يذهب البعيني إلى أن شعره هو إيمانُهُ، نامّاً بذلك عن شاعر ملتزم. ففي عُرفِهِ، الشعر، إلى كونِهِ بوحَ وجدانٍ وعاطفة، فهو ثورةٌ عارمةٌ على الظلم والبغي والعدوان ومفاسد المجتمع:
الشعر عندي.. دموع بيّ وأمْ
وثورة شعبْ بـِ وجُّ ظلاّمُو
...
الشعرْ منّو وزنْ.. مهما يصيرْ
نِحنا الـ خلقنا الوزنْ وعبدناهْ
(ص ص : 172- 173).
   .. في وقفةٍ عند آلام الغُربة المبرِّحة، ها هو البعيني يعود إلى الوطن، مُتأبِّطاً "حبّه القديم"، يلتقي الأصدقاء القُدامى، يُشاركهم الدبكة:
رجعتْ من الغُربه
زَلغِطْ يا قلبي
بكرا رحْ إرجَعْ اتلاقى
مع حُبّي.. وقدّملو باقهْ
وقلّو يا حُبّي
يقطعْ الغُربهْ شو صعبهْ
يقطعْ الغُربهْ 
... 
والضيعهْ اللّي بعدا هيِّي
راجعْ تاحوشا بعنيِّي
وخبِّيها بقلبي
(ص ص : 177- 178).
   وقد كان للشاعر أن يستذكر أمه، مُستعيداً أقوالها له والدُعاء، غير ناسٍ فضلها عليه حتى الممات، وبذا يُجسِّد المحبّة البنوية خير تجسيد، مُرتقياً بهذه المحبة إلى حد التقديس والعبادة:
أمي.. يا أمي.. يا فكرْ شارِدْ
طول الليالي ساهِرْ وساجدْ
ما بتنسى ساعة الـ كنتي تقولي
إلهي يحرسكْ من عينْ حاسِدْ
...
لا تفكّري رح ينتسى فضلِكْ
مهما يا ماما بالدنى بيصيرْ
...
يا أم متلا ما انوجَدْ
يا جفنْ فايقْ للأبدْ
تاغمِّضْ العِنينْ
بعُمري عبدتْ تنينْ
الله الساكنْ بالسَّمَا
وانتي يا نور العينْ
(ص ص: 180- 181).
   * في " قصائد ريفية"، رابع الدواوين بالفُصحى، يُناجي الشاعر والدته بحنانٍ وألم. وإذْ تُعاوده موجةُ حنين، فهو يتمنّى العودة إلى بلاده، بسُرعة الضوء الأكثر سُرعةً من الصوت:
إحملني أيها الضوءُ إلى ربوعِ بلادي
فأنت أسرعُ من الصوتِ
وأخفُّ من الهواءِ
مُشتاقٌ أنا لتلك الأرضِ الطيبةِ
التي زرعتُها بأشجارِ الزيتونِ الخضراءِ
(ص 187).
   .. أما عن الحبيبة، فمهما بعدت فإن صورتها ستبقى ساكنةً عينيه، ولحناً وابتسامةً على شفتيه، في وحشة تلك الغُربة القاتلة:
مهما بعُدْتِ
وابتلعتِ المسافاتُ آثارَ قدميكِ
فلسوف تبقين في العينين صورةً
وعلى الشفتينِ لحناً وابتسامةً
تتتلمذُ عليها ثُغورُ الفتياتِ
(191).
   * عَبْرَ "أغنية حب لأستراليا"- مسك ختام الدواوين- يتغنّى شاعرنا بموطنه الثاني، الذي شرّع له الأبواب واسعةً، فابتنى فيه مجداً، وأيَّ مجد! يُحدِّثنا عن بلادٍ يُحترمُ فيها الإنسان، بخلاف ما نعهده من أسفٍ في بلادنا! :
شو بخبِرِّكْ عن أرضْ أبعد من خيالْ
عن شعب عندو للبشر قيمه
حبّيتها والهجرْ أتقلْ من جبالْ
بصخرةْ همومي زرعْتْ  الآمالْ
وسِهْرِتْ ليالي تزيد تعليمي
(ص : 195- 196).
   وإذْ يروح شاعرنا إلى التبسُّط في "المزايا" التي تتمتع بها أستراليا، يتوقَّفُ عند مشواره الغرامي مع "عبلى"، وهما يَعْبُرانِ "سيرفس برادايس"، الذي يُعدّ من أجمل وأطول الشواطئ في العالم:
اسمك جنّهْ.. وشطّك جنّهْ
وشمسك عَمْ بتغازِلْ شمسْ
...
زرتكْ مع عبله مشوار
ما حبِّتْ ترجَعْ عَ البيتْ
انغرمتْ فيكْ!.. وقلبي إنهارْ
وما عادتْ تنفَعْ "يا ريت"!
( ص 197)
   هكذا، فإن جمال هذه البلاد يُنسي المرءَ حبّه، فتغدو معشوقةً بديلةً من معشوقٍ أو عشيقة!
   .. وعن المدن الاسترالية، فلكل واحدة صورةٌ رائعةٌ في الديوان، من بريزبن، إلى أديلاد، إلى تازمانيا، إلى بورت ماكواري، إلى بونداي، إلى مالبورن، إلى فيكتوريا، إلى نيوكاسل... وصولاً إلى داروين وبحورها، وانتهاء ببرث، يمسحُ الوجع عن مدمعها!
   أستراليا هي الطبيعة المطبوعة الباهرة، زادتها الطبيعة المصنوعة جمالاً على جمال!
"شربل بعيني منارةُ الحرف" في عيونِ النقد وميزانه!
   .. وبعد ماذا تبقّى في الجعبةِ، وقد تتبّعنا الكتاب، خطوة خطوة، أكببنا عليه، استعراضاً وتحليلاً، وتفكيكاً للكثير من مفاصله ومشهدياته والمحطات!
   وإذْ وضعناه في ميزان النقد الأدبي، فإننا نرى إليه مُنجزاً إبداعياً من طراز رفيع، وضعته مؤلِّفتُهُ بلغةٍ إبداعيةٍ وجدانية خلاّقة، فأضفتْ على شاعرية البعيني شاعريةً من لونٍ جديدٍ، وبتنا أمام ديوانٍ للدكتورة بهية أبو حمد، يحتوي خمسة عشر ديواناً، ولنغدو أمام شاعرين، وإنْ لَم تحشرْ مؤلفتنا نفسها بين الشعراء! لغتُها، وإن جاءت في إطار النثر، ففيها من روح الشعر وتوهجه ما يرقى بها إلى لغة الشعر!
   هو مؤلَّفٌ "نوعي" غيرُ نمطي، لا يُشبه سواه من كُتب السِيَر، وإن جاء في قالِب سيرةٍ ذاتية، بلسان واضعتِهِ وبلسان الشاعر، يُؤرّخ لمحطاتٍ ويُبرزُ مشهدياتٍ مضيئةٍ من حياة شربل بعيني، الذي ملأ دُنيا الاغتراب اللبناني الأسترالي، وبات نجماً لا يخفتُ له ضوء! 
   عَبْرَ مروحةٍ من المعطيات، أحسنت المؤلّفة استلالها من خمسة عشر ديواناً شعرياً، هي من عيون دواوينه ونتاجه الأدبي، استطاعت د. أبو حمد أن تُقدِّم لنا شاعرنا، في أحسن صورة وأبهى حضور. 
   وقد التزمت الموضوعية، ما وسعها الجهد، على رُغم البُعد الوجداني التفاعلي الذي يسِمُ أسلوبها التعبيري!
   وبخلفيةِ المحامي البارع- وهي المحامية والحائزة دكتوراه في القانون- راحت إلى استنطاق شاعرنا، برقةٍ وسلاسة، من دون أن تضعَهُ في قفصِ الاتهام، وراح يُفضي بكل ما لديه، من دون زيادة أو نُقصان!
   ولقد كان للحوار الافتراضي الكموني، الذي هندستهُ د. أبو حمد ببراعة فائقة، دوره الفعّال، في إضفاء حيوية على مسار الكتاب، مُخرجاً إياه من مطبّ السردية المملة التي يعتمدها أكثر كُتّاب السِيَر!
   هكذا، والحال هذه، ينتمي المؤلَّفُ إلى الأدب التفاعُلي، حيث يتم إشراك الكاتب ومَن يكتب حوله أو عنه، في عمليةٍ يكون لكليهما صوتُهُ ورؤيته، بما يزيد من صُدقية ما نقرأ!
   كتابٌ، بأسلوبه المتفرِّد، يغدو بمنزلة سياحة أدبيةٍ جميلة، في ربوع شاعرنا، وما أجملها تلك الربوع، وفق ما ذهب إليه الأستاذ يحيى السماوي، في تقويمه المقتصد لهذا الكتاب!
   بهذا الكتاب، فإن "بهية أبو حمد، سفيرة السلام العالمي، وصاحبة الصالون الأدبي المميِّز في سيدني، "وست البهاء" ، والحائزة ميدالية الملكة إليزابيت الثانية، منذ أيام معدودات، ها هي اليوم تضيف لقباً جديداً إلى ألقابها، فتغدو سفيرة "فوق العادة" إلى فضاء الأدب الاغترابي اللبناني والعربي، ونجمة وضاءة من أنجمه الزُهر!
   .. وإذا كان البعيني شربل، في موضع من "رباعياته"، قد دعانا إلى تدبُّر شعره وقراءته من جديد:
قريتْ شعري.. بحبّ إنكْ تفهمو
وترجعْ تعيدْ قرايتو من جديدْ
   فقد قُدِّر لنا، عبر هذا المؤلَّف، أن نقرأ شعرك، بل أن نقرأكَ بكُلّيتِك، فأسفرت عن شاعرٍ شاعر، أُعطيت نصيباً وافياً من مجدِ الشعر اللبناني الاغترابي، إلى أن يرثَ اللهُ الأرضَ ومن عليها!
***
* - من وحي اللقاء الذي عُقد حول كتاب د. بهية أبو حمد "شربل بعيني منارةُ الحرف"، في القصر البلدي- جديدة المتن (لبنان)، يوم الخميس الواقع فيه 14/6/2019، وقد تكلّم فيه، إلى المؤلِّفة، مدير عام وزارة الثقافة د. علي الصمد وثُلّةٌ من الشعراء.
**
4
" نجمةُ الشعر" ... بأشرعة الفُصحى يمخَرُ بحراً بلا ضفاف!

مدخل/ "القباني" إذْ هداهُ إلى فصيح الشعر.. فكان إبداع!
   "... حُبُّهُ لنزار (قباني) حبٌ أعمى، نما في قلبه، منذُ لقائه الأول 1968، يوم ذهب إلى بيروت، برفقةِ أخيه جوزاف لتقديم نسخة من ديوانه بالمحكيّة (مراهقة) لمعلّمه نزار. كان في السابعة عشرة من عمره، ومع ذلك استلم النسخة من يد شربل، وراح يتصفّحها، وبعد دقائق التفت إليه قائلاً: أنت شاعر يا شربل، ولكنك تكتبُ باللغة العاميّة اللبنانية، التي لا يفهمها أكثر من ثلاثة ملايين نسمة. دَعْكَ من لغة سعيد عقل، فسعيد عقل سيتخلّى عنها قريباً، وسيعود للكتابة باللغة العربية الفُصحى، التي يقرأها أكثر من مائة مليون نسمة. عليك، يا صديقي، أن تتوجَّه للكثرة لا للقلَّة. فما كان من شربل إلاّ أن أجابه: طالما أنني عاجزٌ عن منافستك بالشعر الفصيح، الذي أنت سيّده دون مُنازع، سأكتفي الآن بالكتابة باللغة العامية، فأُعجبَ نزار بجوابه، ودعاه لتناول الغداء معه!" 
"... سأكتفي الآن بالكتابة باللغة العامية..."... بإستعراضنا هذه العبارة، من الحوار بين الشاعرين، نخلصُ إلى مضيّ البعيني في طريق المحكية اللبنانية شعراً، مُبقياً الباب مشرّعاً على خيارٍ آخر، مُرجأ التنفيذ، مآلُهُ الخوض في خضم العربية الفُصحى، بعد حين من الدهر، أطال أم قصُر!
هكذا عمد شاعرنا إلى "ربطِ نزاع"، بحسب لغة الحقوقيين، يتوسَّلونَه عندما يستأخرون البتّ في قضيّة خلافية، فيتم "ربطها" زمنياً، لتبقى محتفظةً بمفاعيلها، وتكون عودةٌ إليها لاحقة.
عقب ذلك اللقاء "التاريخي"، بل المفصلي في حياة شربل بعيني ومساره الأدبي، بما قد يُنبئ بتحوّلات دراماتيكية بنّاءة، راح شاعرنا "يُجوجلُ" في فكره تلك النصيحة التي أُسديت إليه، من قبل قامةٍ عملاقة، بل من قبل مرجعيّة عربية شعرية، وطفق يدورُ في خَلَدِه أن "القبّاني" ما كان ليحمِّلَه أمانة الفصحى, لولا أنه آنس فيه شاعراً، أو "مشروع شاعر" ، وهو لم يتردّد، إذْ خلع عليه لقب شاعر!
في هذا المقام، نجزم بأن شاعرنا لم يذُق طعم النوم تلك الليلة، وقد كُرِّم مرّتين:" مرّةً بخلع القباني ذلك اللقب عليه، ومرّةً ثانية إذْ تشارك الشاعران الطعام!... وما أدراك ما تعني "الممالحة"، في القاموس العربي!
مما يلفت ايضاً تلك الذريعة التي طَلَعَ بها البعيني للتملّص "آنياً" من الموقف الذي حُشِر فيه:" .. طالما أنني عاجزٌ الآن عن منافستك بالشعر الفصيح، الذي أنت سيّده.." ... فإلى حُسن التخلّص- وهو بابٌ من أبواب البديع المعنوي- وضع شاعرنا نفسه على سُكّة التحدّي مع نزار قباني، في الآتي من الأيام، فيترسَّم نهجه الشعري، مع اعتراف مُسبق بل تسليمٌ بأن "معلمه" هو سيد الشعر من دون مُنازع!
لعلّ خاصِيَّة التحدّي، التي أُوتيها شربل بعيني: طبعاً (والطبعُ لديه غالبٌ التطبُّع) وتركيبةً نفسيةً، كانت ولمّا تزلْ تمدّه بطاقةٍ لا تنفد! وفي هذا المجال، تحضرنا شهادة المهندس رفيق غنّوم، صديق الشاعر وأحد قادريه، حيث يقول: "شربل بعيني.. ديك نزار قبّاني الرائع" هذا (أي شربل) الذي ملأ الدنيا وخوّف قارة (أستراليا) بأكملها، بشجاعته وفتكه ومروءته.. هو الذي قال عنه الأديب الرئيس جوزيف حايك: إنّ كبير أدباء موطن الأرز، الأستاذ شربل بعيني، قد فتح صفحات التاريخ وترك تلك الصفحات تتكلّم، فأصبح موسيقى العذارى، على فم الأنبياء، الذين حنوا الجبين، أمام عظمة الأدب والفكر والكلمة" .
يكفي شاعرنا، مجدَ غارٍ، ما خصَّه به نزار قبّاني،  عَبْرَ رسالتين/ شهادتين، رداً على رسالة البعيني إليه، في يوبيله الذهبي وغداة تكريمه (تكريم قباني) ونيله جائزة جبران العالمية. فقد كان لهاتين الرسالتين (نهاية 1993 ومطلع 1994) أن تبثّا الروح في شاعرنا وتُوجرا الدينامية التي يختزن، وهي من محفّزات نجاحه وإبداعه الدائمين!
... أجل! هي النصيحةُ / العبء، بل الأمانة- والأمانة شديدة الوطء على من تُودعُ بين يديه!: "إنّا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال، فأبينَ أن يحملنَهَا، وأشفقنَ منها وحملها الإنسان" (القرآن الكريم/ سورة الأحزاب: 72) - حملها شربل بعيني، وفى بالوعد، وإذْ حان وقتُ تأديتها، طفق يمخَرُ عباب بحر مُتلاطم، ولتُلبِّصَ أشرعةُ سفينِهِ عند برّ العربية الفصحى، فكان من المفلحين!
لقد راح البعيني يُسائل نفسه: لِمَ لا أسلكُ طريق الفُصحى شعراً، من دون التخلّي عن المحكية، التي فُطرتُ عليها، فأفوز بالحُسنيين، وبمجد اللغتين؟! كيف لا أفعل، وقد اتخذتُ من ذلك "النزار" قدوةً ومثلاً أعلى؟!
هكذا كان إقدامٌ، فاستحق شاعرنا "نزاريتهُ" الشعرية، كما موقع التلمذة من معلّمه، وهو ما فتئ يُردِّدُ، في كل مواقفه، بأن نزاراً هو مثله الأعلى، على الصعيد الأدبي. ففي حوارٍ، أجرته معه الناشطة الأدبية هدى الصباغ، يُجيبُ رداً عن سؤال، حول مثله الأعلى في الحياة، فيقول من دون تردّد: "اجتماعياً والدي، وأما أدبياً، فنزار قباني، لأنه أُعتُبِرَ أوّل من ثار على الشعر ثورة قوية، وجعل الناس تحبّ الشعر أكثر"، وليضيف بأن القباني "أنزل الشعر من ابراجه العاجية وقصوره الفخمة، وزيّن به أكواخ الفقراء!"  
وإذا كان البعض يُسلّم بأن الله يخلق من الأشباه أربعين، من حيثُ الشكل خَلْقاً، وليس من حيث الإبداع الفكري، فإننا نذهبُ إلى أن للبعيني كبير شبهٍ مع معلّمه ومثار وحيه، يتمثّل برقة اللغة وبلّوريتها، وطبعية القول والانسيابية الشعرية الدافقة، التي تدغدغ الأسماع، وتتنزّلُ، على القلوب، بَرْداً وسلاماً! وبذا يغدو شاعرنا بحق من "مريدي" المدرسة الشعرية " النزارية": موضوعات وخطاباً تعبيرياً.. وهذا ما سوف نُفردُ له حيّزاً واسعاً، لدى مقاربتنا المحاور التي تتنازعُ "نجمة الشعر"، والرسائل التي يبعث بها إلى القراء، على امتداد الساحة العربية!
في معرض الجدل حول إشكالية المحكية والعربية الفصحى، وبما يتصّل بموضوعنا تخصيصاً، فإننا، إذْ نوافق الشاعر نزار قباني فيما يعود إلى حثُ البعيني، كي يتوجّه إلى الكثرة من العرب وليس إلى القلّة، نلفتُ إلى أن المحكيّة اللبنانية ليست مقطوعة الجذور عمّا حولها من محكيّات بعض البلدان العربية، فهي إحدى المحكيّات الشامية (بلاد الشام)، يفقهها، إلى اللبنانيين، السوريون والفلسطينيون. وقد كان لهذه المحكية أن تلقى انتشاراً في الأميركيتين، الشمالية والجنوبية، منذ بدايات القرن الماضي، حيث حلّ المهاجرون اللبنانيون بخاصة، والعرب "الشوام" بعامة. فقد كان يُرى إلى القادمين من لبنان أنهم سوريون، ويوسمون بهذه الصفة من قبل أهل تلك البلاد. ولا يعني ذلك أننا نضع المحكيّة، من حيث رقعة انتشارها، في مقام العربية الفُصحى، التي تمثِّل لغة جامعة وقاسماً لغوياً مشتركاً، على امتداد البلاد العربية. كما أننا لسنا من دُعاة إحلال المحكيات اللهجية العربية مكان الفُصحى، سيّما أن صراعاً مشبوهاً قد ذرّ قرنه، بداية القرن العشرين وحتى منتصفه، بين تيار هؤلاء الدُعاة إلى العامية وبين المتشدّدين من حُرّاس الفصحى. وقد شكّلت مصر، ومن ثم لبنان، مسرحاً لهذا الصراع، الذي تزعمّه لبنانياً الشاعر الراحل سعيد عقل (1912- 2014). علماً أنه من كبار الشعراء المبدعين بالفُصحى إبداعاً مُنقطع النظير! فهو من غنّى " مكة وأهلها الصيدا" ، وهو من غنّى القدس "زهرة المدائن"، وهو من قال في الشام، ما لم يقُلْهُ شاعر قبله ولا يُقال بعده!
بيد أن تحوّلاً طرأ على مسار هذا الشاعر العملاق، فقد انقلب على الفُصحى وراح إلى العامية اللبنانية، بل ذهب بعيداً حين دعا إلى استخدام الأبجدية اللاتينية، إضافةً إلى بضعة أحرف، صُمّمت حديثاً لتناسب علم الأصوات اللبناني، وقد دُعيت هذه الأبجدية، التي ضمت ستة وثلاثين حرفاً، "أبجدية عقل اللبنانية"!
إشارةٌ إلى أن شربل بعيني وأقرانه، من شعراء المحكية، أرادوا أن يتكلموا بلغتهم المحلية، وبلسان قومهم، اقتناعاً منهم أن اللغة هي أحد مكوّنات الهوية الوطنية والثقافية، والانتماء إلى الحيِّز الجغرافي ذي الخصوصية الأصيلة. وإذا كان من ميزة فارقة للمحكية، فهي، وفق الباحثين في علم اللغات، "القوتُ اليومي للشعوب!" 
.. وإلى ذلك لم تكن ثمة خلفيات أو دوافع تبعث على الريبة في انتهاج شعراء المحكية هذا النهج، وفي عداد هؤلاء الشعراء من لم يُغادروا دائرة المحكية، مُغلقين على أنفسهم، إما اختياراً واقتناعاً، وإما عن عجزٍ وقصور، إذْ تُعوزهم إجادة العربية الفصحى والتمكّن من علم العروض والعلوم البيانية. أما من  جنحوا إلى الفُصحى ، فبعضهم حققوا نجاحاً بيِّناً، يأتي في مقدّمتهم الشاعر شربل بعيني. ولقد توقّفنا عند ذلك النجاح المزدوج، في مقاربتنا ديوانه الرائع" أُحبُّكِ"، الذي صدر، في سيدني، منذ أسابيع معدودة! 
لقد اراد البعيني أن يُثبتَ "كفاءته" وعُلوّ كعبِهِ في كِلا اللونين الشعريين، فكان أن ألقى شباكه عند "مجمع البحرين"، بحر العامية وبحر الفُصحى الدافقين، فحاز مجدَ الشعر اللبناني والعربي الكلاسيكي الموزون، وهما، نهاية المطاف، من أرومة لغوية واحدة . وتدليلاً على ذلك النجاح المزدوج، ومن منطلق أن موهبته الشعرية هي هي في كليهما، أتانا بـ"المربدية"، وهي من روائع قصائده، ضمّنها الشعر العمودي الخليلي، إلى الشعر الحر، وإلى الزجل، ولتكون تلك القصيدة العصماء حُجَّةً له، لمرّة واحدةٍ وفي وقفة شعرية واحدة، تشهدُ على فلاحه في فنون الشعر: فصيحِهِ وعامِّيْهِ. هكذا تماهى اللبناني "المجدلاوي" بالعربي النِجار، وكان خلقٌ في أحسن  تقويم! 
.. وإذْ نتعمقُ هذه الإشكالية، إشكالية المحكية والفصحى، لما لها من حضور في نتاج البعيني الشعري، فإن المحكية اللبنانية شعراً، المنضوية إلى الشعر الشعبي، تمثّل عنصراً من عناصر التراث اللبناني، على تماسٍ مع الشعر الفصيح سوى أن لغتها مختلفة عن الفصحى، في حدودٍ مُعيّنة.
وعن أهم ميّزاتها، يرى الأديب المُغترب جميل الدويهي، أنها أكثر ثراءً في قدرتها، على تجسيد التقاليد والموروثات الكلامية، إذْ نجد بين طيّاتها معطيات عن حياة الأجيال التي سبقتنا، وطرق عيشهم وطقوسهم وسلوكياتهم، في مختلف المناسبات، من أعياد وأعراس ومآتم.. ناهيك عن لكنتهم المتميزة وأمثالهم الشعبية التي كانوا يتوسلونها في منطوقهم. ويضيف الدويهي أن المحكية اللبنانية تتشارك والفصحى، في بعض الأوزان الشعرية، مما يعني أن هذه المحكية لا تفتقر إلى الإيقاع الموسيقي، وهو من ركائز الشعر، وهو ما يمثّل العلاقة الفارقة بين الشعر والنثر!
وعن ذلك التواصل بين المحكية اللبنانية وبعض المحكيات العربية، فإن المتتبّع لأنواع الشعر المحكي في البلاد العربية المجاورة للبنان، سيجد بوضوح أن بعضها قد دخل إليها، من خلال عملية التفاعل بين المثلث الشامي (لبنان- سوريا- فلسطين)، وهو ما ألمعنا إليه آنفاً. فقد كان بعض الشعراء اللبنانيين يحيون مناسبات وحفلات في سوريا، وفي فلسطين (قبل نكبة 1948)  .
.. استزادةً حول المحكية شعراً، لا سيما ما يعود إلى البُعد التراثي الذي تُجسِّد، يذهب الشاعر محمد علي شمس الدين، في مقاربته كتاب د. ميشال خليل جحا "أعلام الشعر العامي في لبنان"، إلى أنه خال نفسه يتعرّف "لأول مرّة على الوردة والنسيم، والنبع الصافي، والعصفور، ووجوه الفلاحين المقدودة من صخر الجبال.. هذه التي كاد ينسينها الزمان، الزمان الملوث والرثّ"، وليضيف بأنه في هذا الشعر، يفوح عبق الجبل، وتشرئبُّ فيه صخرة أو يرنّ معول، أو تختال شمس على شجرة، أو يكرّ عصفور كرّاتِهِ الحبيبة الساحرة".
وعن المفاضلة بين العامية شعراً وفصيح الشعر، يُنسبُ إلى الشاعر المصري أحمد فؤاد نجم أنه يُفضّل بيرم التونسي على أحمد شوقي، وصلاح جاهين على صلاح عبد الصبور. ويُروى، في هذا المجال، أن أحمد شوقي ما فتئ يقول: أخاف على الفصحى من بيرم التونسي. أما في لبنان، فإن رشيد نخلة، كان في المطالع المهيبة لأزجاله، تلك التي يمزج فيها بين العناصر الكونية الكبيرة، كالشمس والجبال والرياح والبحار وعناصر ذاته الشعرية القوية، أشبه ما يكون بأحمد شوقي ذاته!   
وعن الأثر الذي يخلِّفه الشعر بالمحكية، يقول الأديب مارون عبود: "إذا أنشد الشاعر العامي قصيدة في حفلة، تهتز المقاعد والكراسي استحساناً، وتموجُ الرؤوس كالأغصان، تحت أذيال النسيم الولهان"  .
.. وإلى كل ما ذكرنا، فإن ما يُسجَّل في خانةِ الشعر المحكي، الواقعية والطرافة والتعبير عن الأحاسيس وطرق التخاطب، وهذا ما لا يقدر عليه أكثر الشعر الفصيح!
في رسالة الشعر، كما يرى إليها شربل بعيني!
"الناس يبحثون في الشعر عن خلاصهم، ويعتبرونه مسيحهم المنتظر!"...عبارةٌ بتوقيع نزار قباني، إذْ يرى إلى الشعر باباً وسيعاً ، مشرّعاً على الرجاء والخلاص! وإذْ يصدر البعيني عن عين هذه الرؤيا، فهو يتشبّثُ بثابتةٍ، إلتزمها في شعره: "شعري غائي وليس غوغائياً!"، بل ليلتزمها في سائر نتاجه الأدبي، سحابة نيفٍ وخمسين عاماً، فلم يحِدْ عن دربها، ولم يخطئ مرّةً الحساب!
هكذا راح شاعرنا، في محكيتهِ الشعرية، كما في فصيح شعره، إلى توسُّل الشعر رسالة نبوية، فكانت مواقف جريئة، جهرَ بها غير هيّاب، فشارف جرّاءها حدود التهلكة! هي وقفاتُ عزّ، لا يتنكّبها إلاّ ذوو الرسالات، الناذرون أنفسهم لبني قومهم وأمتهم ولمجتمعهم، كما للانسانية جمعاء!
ولا جَرَمَ أن رسالة الشعر والشاعر، لا يدركُ مراميها، ولا يعي أبعادها إلاّ من أُوتي حسّاً إنسانياً رهيفاً، والغائر عميقاً إلى جراح الأمة ومآسي مجتمعه، وأوجاع البشرية على حد سواء!
... إنها الرسالة التي ندبَ نفسه لها شاعرنا، من منظوري الموقع والدور... هي رسالة نضالية، تنْهدُ إلى أن تكون الغلبة لقيم الحق والخير والجمال!
وفي استكناهٍ لدور شاعرنا النضالي، الذي تموضع فيه، كما لتوجّهات شعره، لنا أن نستنطق نصوص "نجمة الشعر"، فنتقصّى تلك الغائية التي يتلبّسها شعره، ولتغدو على جسد قصائده وروحها وشماً فرعونياً، لا يحول ولا يزول! 
إمساكاً بطرف خيط المسألة، يتبادر إلى الذهن بداءة جملةٌ من الأسئلة، أبرزها: ما الشعر؟ ما هي مرتكزاته التي يقوم عليها؟ ما دوره، وما هي المجالات التي يُغطّيها، والفضاءات التي يبلغها؟.. في إجابةٍ عن هذه الأسئلة، هل يكفينا أمير الشعراء شوقي مؤونةً، فتكون لديه بعض إجابات، كثّفها في أحد أبياته الشعرية:
والشعر، ما لم يكن ذكرى وعاطفةً
أو حكمةً فهو تقطيعٌ وأوزان"؟!
على رُغم أهمية هذه المرتكزات، فهي تبقى منقوصة، كونها لا تلحظ، بل لا تحسب حساباً لواحدٍ من أبرز أبعاد الشعر، عنينا البُعد النضالي، بما هو بُعدٌ وظيفيٌ بإمتياز! 
... الشعر ذكرى وعاطفة وحكمة، أقانيم ثلاثة، غير وافية، كونها تُغفل التزام قضايا الموجوعين المكلومين والمقهورين، من أبناء الأمة والوطن!
هكذا، من موقع نضالي، يجهرُ شربل بعيني برسالة الشعر الحقّة، مستكملاً ما فات شوقي:
فالشعر منذ البدء ثورة أمة
جاءت لتُزكي في النفوس مطالبا
والشعر ما بالشعر من مُتخلِّدٍ
إلاّ إذا قتل الطُغاةُ مواهبَهْ 
(من قصيدة: جبران).
عَبْرَ هذه الرؤيا "الثورية"، يكتسبُ الشعر صُدقية عالية التوتّر، فيُخرج ما في نفوس الشعب من لهب قضايا، ولا يُخلَّدُ شاعرٌ إلا إذا تعرّض للقمع، على أيدي الطُغاة الذين يجهدون في كبتِ أنفاسِهِ، وبذا تكونُ إجازتُهُ خير إجازة... 
هناك في ميدان النضال يكون نزال الشعر الحقيقي وظهوراتُهُ، وليس من على المنابر، وفي القاعات المغلقة وبين النخب الجالسة في مقاعد وثيرة!.. وليس المعلمون وحدهم هم من يُجيزون، بل إن للجلاّدين خرّيجيهم، من مدارس القهر والاستبداد، وأعظِمْ بهم من خريجين!
في هذا المجال، أَلَمْ يُثمّن شاعرنا دور نزار قباني، مثله الأعلى، كونه "أوّل من ثار على الشعر ثورة قوية، وأنزله من أبراجه العاجية وقصوره الفخمة، وزيّن به أكواخ الفقراء؟!"
من هُنا، فإن الشاعر لا يصيغ عباراته بالأبجدية المعهودة، بل يصيغها من نارِ سعيره:
قلبي أنا بالهجرِ منتفضٌ
بالنارِ صُغتُ الشعر والجُملا
(عهد التميمي).
تأسيساً على هذا الفهم لأبعاد الشعر الحقيقية، نذر شاعرنا نفسه، من موقع رسالي، لمهمة ذات قداسة:
ونذرتُ نفسي للقداسة شاعراً
(يوم رحيلنا).
ولا شك أن قدسية هذه الرسالة لم تأتِ من فراغ، بل هي من صُنع الإله، ومُباركةٌ من لدُنه:
يا شاعراً، صاغ الإلهُ حروفَه
أنِّبْ لتردعَ شعبَكَ الأقوالُ
أنت القويُّ، عبارةً وعزيمةً
وإليك يرنو، في العشية، بالُ
(ظلال).
.. هذه الرسالة المضمَّخة قُدسيةً، تُشكّل المعيار الذي يُقايسُ عليه، فإما أن يفوزَ الشاعر فوزاً عظيماً، وإما أن يسقط سقوطاً مدويّاً. من هُنا، كان شاعرنا، يومَ الاحتفاء بفوزه بجائزة جبران العالمية، قد توجّه إلى جبران في لحده، مُخاطباً:
صدِّق، أيا جبران، مُطلقُ شاعرٍ
يجترُّه فكُّ الغباءِ يزولُ
إنّا بأرض الهجرِ، نُلهبُ شعرنا
لتموت في أرضِ الجدودِ فلولُ
ولقد كتبتُ قصيدةً عن موطن
سيُزغردُ الأحبابُ حين أقولُ:
لبنان، في الآفاق، شيّد مسكناً
غنّته (سدني) واصطفتهُ عقولُ
(قصيدة جبران).
.. وبقدر ما يكون الشعر ذا سمةٍ نضالية، ينبغي أن يُجانبَ تافه القول، وكل ما يشي بابتذال ورُخص! هكذا كانت دعوةٌ إلى إعادة الاعتبار للشعر، فيعود إلى أيامه الخوالي، حين كان له سلطانٌ وسطوة!: 
ردّوا للأشعار أياماً خَلَتْ
أكثر الأشعار من صُنع الغباء
يحسبون الشعر حكياً تافهاً
ثرثراتٍ داخ منها العقلاء
(يا رُعاة الشعر).
في هذا المجال، بهدف تحصين الشعراء من أية مخاطر تتهددهم فرادى، وإذ يتعرضون لإغراءات الزعامات، التي تتقن فن بيع الذمم وشرائها، يدعو شاعرنا إلى إيجاد أُطُر لهم جامعة: 
الشعر ما لم تحتضه روابطٌ
أضحى لكافور الزعامة كاتباً
وتبلبلت أفكاره وتضاربت
وتسلّقوه، مآرباً ومناصبا
(جبران).
في تسليط الضوء على الدور الذي يؤديه الشعر الاغترابي، يُثمِّن شاعرنا إسهام الإعلام الاسترالي، في إيصال صوت الشعراء، بكل حرية، ومن دون أن يتكبّدوا أكلافاً مادية، وذلك بخلاف ما هو قائمٌ في وطنه الأم، وفي سائر بلاد الشرق العربي، حيث قمع الحريات والتنكيل بأصحاب الكلمة:
تعبنا كي يظلّ الفكر مسؤولاً
عن الشعب الذي دُنياه مسبيّهْ
عن الشعب الذي في السجن مرميٌّ
كما الأحكامُ بالأوحال مرميَّهْ
هنا الإعلامُ يُعطينا بلا غدرٍ
ليغدو الشعر أبياتاً عصامِيه
(عراقيهْ).
... ويبقى ، أن رسالة الشاعر- كما الشعر- التي تبسّطنا فيها، لا تعرف السكينة، ولا الاستكانة، ولا يعرف النومُ إليها سبيلا:
أتنامُ عينُ الشعر ملء جفونها
وعلى الرموش مصائبٌ تختالُ؟!
(ظلال).
"نجمة الشعر"/ لوناً شعرياً ومحاورَ ورسائل تحت المجهر!
"نجمة الشعر"، إذْ شاءهُ صاحبهُ قوسَ قزح شعرياً، فقد استلّ قصائد مختارة من بعض دواوينه، ولتخرج من بين يديه "نجمةٌ"، تُضيء فضاءات شعره المغزول بالفصحى! هكذا يصعب إدراج هذه القصائد، كشكولية الطابع، تحت فن شعري واحد!
في رصدِنا الألوان الشعرية الطاغية، في هذا الديوان، فهي تترجّح بين الشعر الوجداني، تُترِعُهُ غربة الشاعر بدفقٍ من وجع وحنين وذكريات، وبكل آلام "النوستالجيا" التي تفيض عن نفسه.. وبين الشعر الوطني ذي المرتكز السياسي، حيث يحمل الشاعر، في قلبه ووجدانه، همَّ وطنٍ تتألّب عليه المحنُ، تُمسك بخُنَّاقِهِ طبقة سياسية فاجرة، أدمنت الفساد والإفساد، وأودت بالبلاد إلى شرّ مصير.. وبين الشعر "العروبي"، إذْ تُثقل شاعرنا همومُ الأمة التي تتردّى إلى الدرك الأسفل، في مختلف المجالات.. وبين الشعر المكرّس للعيش المشترك والاعتراف بالآخر المختلِف، لا سيما لجهة الانتماء الديني.
وإلى هذه الألوان الأربعة، ثمة لونٌ شعري تنضوي إليه ثلاثون قصيدة، تُغطّي ثُلثي مساحة الديوان (30 قصيدة من أصل 44)، هذا اللون الشعري الطاغي يروح إلى المديح والاحتفاء "المناسباتي"، عبر سرديتين شعريتين- كما يحلو لنا أن نُطلِق عليهما- تتوجه أولاهما، من خلال اثنتي عشرة قصيدة، إلى عشر مدن/ أو عواصم عربية (تمجيد بغداد في قصيدتين)، يُضاف إليها قصيدة حول "مزرعة الشوف"، مهد "البعاينة"، في حين تُشيد السردية الثانية (18 قصيدة) بإحدى وعشرين شخصية، لعبت أدواراً، على قدر كبير من الأهمية، كل واحدةٍ من موقعها، منهم من غادرنا إلى الأبدية، ومنهم لا زالوا فاعلين، وعلى قيد الحياة!
وإذا كانت هذه القصائد الثلاثون تتسم ظاهراً بسمة احتفائية تمجيدية، فهي قد شكّلت ، بمجملها منصّاتٍ، أطلّ الشاعر منها على مواقف ورؤى، على تماسٍ مع أطروحة الغربة، ومع الشعر السياسي الوطني، كما العروبي، إلى فنون شعرية أخرى. وخارج هذه الألوان الشعرية جميعها، ثمة فسحةٌ للشعر الحكمي ولخواطر، نمّت عن تجربة حياتية عميقة ورؤيا ثاقبة في تقلّبات الدهر وشجونه!
... توازياً مع الفنون الشعرية التي استعرضنا، يُسوَّغ لنا العبور إلى المحاور التي تتوزّعُها قصائد "نجمة الشعر"، فنضعها تحت المجهر وعلى مشرحة التحليل، فنتقصّى أطروحاتها، وما تُؤشِّر عليه من أبعاد واستهدافات ورسائل: 
أ- محور الغربة: هو التمزُّق.. 
هو الاغتراب بمدَييه، الاغتراب عن الذات ببُعدها النفسي المدمِّر (Aliénation)، والاغتراب الجغرافي/ المكاني.. بل هو الجرح النازف، عبر كلا الاغترابين، لا التئام له، ويبقى، ليلَ نهار،  مفتوحاً على وجع مبرِّح ومتجدِّد! ذلك ما يكابده المغترب، منذ أن تطأ قدماه أرضاً غير أرضه، وبيئةً لا تمتُّ بصلةٍ إلى بيئتِهِ.. وتبدأ آلام الحنين، ويغدو وقع الزمن، صراعاً ماثلاً بين الذاكرة والواقع:
كم منزلٍ في الأرض، يألفُهُ الفتى
وحنينُهُ أبداً لأوَّلِ منزلِ"!
قد يشعر المغترب بنوعٍ من السكينة، وليس الراحة، بعد مضيّ فترة زمنية من ترحُّله عن وطنه الأم، فيكون تأقلم " قسري"، على قاعدة" إذا لم يكن ما تُريد فأرِدْ ما يكون! ".. هذا التأقلم قد يكون أكثر فعاليةً، لدى المغتربين من رجال الفكر، إذْ توفِّر لهم البيئة الجديدة فسحةً رحبةً من حرية، وتستقبل فكرهم "الثوري" المجهض في أوطانهم – الأم.. هكذا ، والحال هذه، يُعوِّض الوطن البديل المؤقت عن الوطن الأصيل، وقد يغدو هذا الأخير أصيلاً عند الذين حققوا نجاحاتٍ استثنائية، فيكون تماهٍ بين الاثنين وعبورٌ إلى وطن" كوسموبوليتي"، يتفلَّتُ من أسار الجغرافيا المحلية/ الوطنية  إلى رحاب المعمورة، في ظل العولمة الفاردة جناحيها على الكون برمته!.. ذلك بعض ما جادلتُ فيه شاعرنا البعيني، عبر المناظرة (Debate) التي نوّهتُ عن جزء منها، في تقديمي ديوان "مجانين"، الذي صدر ، الكترونياً وورقياً، في سيدني، منذ أسابيع معدودة. ولقد خالفني البعيني نظرتي "المعولمة"، إذْ لا زال يرى إلى نفسه، ويُرى إليه، أنه ابن "مجدليا"، وليس ابن ماريلاندز، المنطقة التي يسكنها، في سيدني، منذ خمسة عقود. وإلى عملية النبذ- إذا  جاز التعبير- التي يعيشها شاعرنا، بين الفينة والفينة، يبقى وجع الغُربة مستحكماً لديه، كما تبدّى من تلك المناظرة، التي أتينا على ذكرها! بل إن الغربة غدت خبزه المرّ الذي يقتاته يومياً، كما وجعه اليومي، دائم النغر فيه!
استتباعاً لمقاربتنا أطروحة الغربة، عبر "نجمة الشعر"، يتبيّن أن ثمة قصائد، تدور برمّتها حول هذه الأطروحة، وثمة قصائد تترجح بين أكثر من لونٍ شعري، أحدُها الغربة. يُضاف إلى ذلك خواطر اغترابية مبثوثةٌ في تضاعيف السرديتين، المدينية (نسبة إلى المدن التي أُحتُفي بها)، وتلك التي راحت إلى امتداح بعض الشخصيات- الأعلام، ولتُشكل هاتان السرديتان- كما اسلفنا- منصّتين، أطل منهما شاعرنا على هذه الأطروحة وعلى مسائل شتى.
.. الوطن هو ذلك الوجع الساري في شرايين شاعرنا، فهو، إذْ يتوجَّه إلى ثلاثة من أعمدة الزجل اللبناني (النقيب جورج أبو أنطون، والياس خليل وأنطون سعادة) تم تكريمهم في سيدني، يُحمِّلُهم رسالة وجعٍ إلى الوطن الذي خلَّفه وراءه، والذي لا زال ساكنَهُ:
إنْ رجعتم أرضنا، قولوا لها:
هي تجري في الشرايين دماء!
(يا رُعاة الشعر).
.. وإذْ يُخاطب آخر الشعراء العمالقة الكلاسيكيين، محمد مهدي الجواهري، يُفضي إليه بذلك الوجع الملازمِهِ، أينما حلّ وارتحل: 
كنت البعيدَ عن دياركِ هل
تدري بأنِّي حاملٌ تعبي؟
أنَّى اتجهتُ، غربتي وجعٌ
يا حبّذا، لو جئت مغتربي
(محمد مهدي الجواهري).
ولعل شاعرنا، في دعوته الجواهري إلى زيارتِهِ في مغتربه الاسترالي، يُريده أن يُعاين وجع البعيني عن كثب، فالعيانُ أصدقُ من الخبر! 
... في مخاطبة شاعرنا سعيد عقل، يشكو إليه حال وطنه الأم، الذي يحكمه الكَفَرة والفاسدون، كما يُعبِّرُ عن اليأس الذي يستحكم به، جرّاء التشرّد، والعمر يمضي به، وقد غزاهُ الشيب!:
لبناننا، يا عقلُ، أنت له
درعٌ، لماذا يحكم الصنمُ؟
انظر إليه وجههُ قرفٌ
وتثورُ في أحناكِهِ الحِممُ
إنّا يئسنا من تشتّتنا
قد لفّنا في الغُربة السأمُ
انظرْ إلينا شيبنا ندمٌ
رُحماك.. قد لا ينفع الندمُ
(قصيدة سعيد عقل).
.. ومهما تباعدت المسافات، بين وطن الشاعر وبين مغتربه ، يبقى ذلك المشتاق إليه، فزمنُ وطنه الجميل، لا زال يحتلُّ منه الوجدان ويُفجِّرُ المشاعر! وإذْ لا يُعيرُ المسافات شأناً، فهو يمنّي النفس بالعودة إليه. ولكن من أسفٍ، كيف له أن يُواجه سريان العمر المتسارع في خطاه، والذي يأخذه إلى شيخوختِهِ، مما يمنعُ تلك العودة المُبتغاة؟!:
أرضي، وإن بعُدت
تشتاقها قدمي
أعدو... فيسبقني
قبرٌ من العدمِ
(عَلَمِي).
هكذا، فإن الحُلم بالعودة إلى الوطن يتأجَّج في صدره اشتياقاً مؤلماً: 
غربتي.. نارُ اشتياقٍ مؤلمٍ
ورجوعي بوح أحلى موعِدِ
(نجمةُ الشعر).
.. هذا الاشتياق الدائم شكّلَ، لدى  شاعرنا، حالة عشقٍ، في أعلى درجاتها، فوطنُهُ ولِفُهُ، والولفُ إذا ارتحل عن ولفه، يغدو الموت مصيرهما (عاشق ومعشوق!).
فقد أحبَّ وطنه، سحابة عُمرين: مرحلة الحداثة والمرحلة التي يمضيها هذه الأيام، ويتساءل معاتباً، لماذا لم يصُن وطنه ذلك الحب، وماذا دهاه؟!:
عيني رأتكَ الوِلفَ.. لا عجبٌ
إذا هوتك وانتشتْ أُذُني
أحببتُك العُمرين.. هل ولهٌ
أهداكَ عمراً، جالَ في البدنِ
صانتهُ روحي منذُ تنشئتي
ماذا دهاك الحُبَّ لم تصُنِ؟
خُذْ عُمريَ الباقي، فلا وطنٌ
يحلو.. ولم يحضنْ ثرى كفني
(ماذا دهاك).
هكذا، إلى هاجس العودة، فإن ثمة هاجساً آخر يُؤرقُ شاعرنا، يتمثّل في احتضان تراب وطنه لجدثه- أطال الله عمره- وإلاّ لن يحلو هذا الوطن في عينيه!
.. بعد هذه العقود الخمسة من التشرّد القسري، الذي يُمرجحُ الشاعر، برياحه الهُوج، يحق له أن يبقى مُقيماً على أمنية العودة إلى ربوع الوطن: 
أمضيت عمري كالرياح مشرّداً
لكن وجهك كان دوماً مقصدي
(بيروت) .
.. وكان هانَ الأمرُ، لو أُقتصر وجعُ الغربة على المغتربِ المشرّد، بل ثمة طرفٌ آخر، أشدّ إحساساً بذلك الوجع، هم الأهل الذين خلّفهم وراءه، لا سيما الأم، فهي ترى أن حبلَ السُرَّة الذي كان يربطها بابنها، منذ ما قبل الولادة، وهو جنين، قد قُطع، ففقدت من رعت وأنشأت، حين تخطّفهُ القدرُ منها، عَبْرَ جريمةٍ موصوفةٍ، "دُبِّرت في ليلٍ"، فطفق يموت ، في هذه الأم، بعض شيء منها!
في هذا المجال، ثمة قصيدتان، إحداهما خصّ بها شاعرنا أمه، أما ثانيتهما، فقد توجه بها إلى جميع الأمهات المفجوعات بغربة أبنائهن!.. هما قصيدتان، من أجمل قصائد الديوان، تنضحان ألماً ما بعده ألم!
ففي قصيدة "إلى أمي"، يستهلها، مُستغيثاً، يُنادي أمه، إذْ دمّره الرحيل، وفعل بقلبِهِ ما فعل، فغدا ذلك العليل، يبكي تشرّده، وليغمر وجهه الدمع، حين تشتد وطأة الليل عليه، فيتفجّر بكاءً، إلى حدّ العويل.. ثم يُعبّر شاعرنا عن اشتياقه إلى دفء صدر أمه، إلى اليدين اللتين تحتضنانِهِ حناناً، جاعلاً من تلك الأم الموجوعة إلهاً آخر، يتعبَّدُ في محرابه:
أيا أمّاهُ.. ما برح الرحيلُ
يدمّرني.. أنا قلبي عليلُ
أعيشُ الهجرَ سكراناً بدمعي
ظلامُ الليل، أرّقهُ العويلُ
(..) 
أُريدُ الزند يغمرني بعطفٍ
ودفءَ الصدرِ، غفواتي يُطيلُ
(..) 
شعوبُ الأرض، قد أهدتكِ مجداً
شبيهُ الأم، يا أمي، قليلُ
(..) 
إذا قلتُ الإلهَ، أقولُ أمي
فعندي حبُّها ربٌ جليلُ
وعندي حضنُها جناتُ خلدٍ"... 
وبعد هذه المطالعة الآسرة، في ما تكابده الأم من آلامٍ، والارتقاء بها إلى عليّين، يبلغ الشاعر بيتَ قصيدِهِ، فيجأرُ بالدعاء إلى الله، كي يُعيده إلى وطنه، بل إلى أمّه (والوطن، في نهاية المطاف، أم، كما أن الأم وطن!)، بعد أن أثقل عليه الهجرُ: 
لماذا الهجرُ، يا ربِّي طويلُ؟
أعدني.. لا تُطِلْ فيَّ اشتياقاً
جميلٌ قُربها منّي.. جميلُ
( إلى أمّي).
.. أما عن القصيدة الثانية " دعوة أم"، الأكثر إثارةً للشجن، جرّاء وجع الغربة الذي يجتاح كل أمّ، باعدت بينها وبين أبنائها المسافات "المكانية" والزمنية، فهي مثار شفقة على هذه الأم المفجوعة، التي تتشبَّث بالحياة، رُغم تهالك جسدها، بُغية تكحيل عينيها برؤية الأحفاد، إذ "ليس أعزّ من الولد إلاّ ولد الولد"، أو كما يذهب الإمام علي بن أبي طالب (ع)، إذْ يقول: "حفيدي هو ابني مرّتين!" 
.. ها هي هذه الأم المفجوعة.. فلنستمع إليها، وهي تتوجَّه إلى فِلذات الأكباد بمطالعةٍ، تتفطّر لها القلوب!:
ضاقت  دروبُ العمر من ترحالكم
والهجرُ يُخفي دمعكم في مقلتي
(..) 
ألم تروا شيبي يُعادي مفرقي
(...) 
ألم تروا سيري بطيئاً متعباً
(...)
عودوا لحضنٍ، لن تلاقوا مثله
الاّ إذا جئتم ربوع جنّتي.. 
على أن ما يُفاقم أساها حرمانها من رؤية الأحفاد، كما أسلفنا، وهم روحها وأمل غدها، كما تُعلن ، في هذا الخطاب/ المطالعة:
حلمي الوحيد أن أرى أطفالكم
(...) 
أطفالكم روحي وآمالُ غدي
(...) 
لا تحرموني من عطايا خالقي
لا تحبسوني في مرايا وحشتي
وكم يعصف بالجدة الاشتياق، حين تنظر إلى ما خلّفه الأحفادُ لديها، إثر زيارتهم إلى لبنان، من رسومٍ "مشلوحةٍ" في كل مكان من البيت الأم، فتقف على هذه الرسوم، كما الشعراء على الأطلال:
رسومهم أنمتُها على يدي
لترتوي من عِطرهم وسادتي
وتزدهي بظلِّهم شراشفي
وتنتشي أناملي وقبلتي
(دعوة أم).
.. هكذا ، بعد هذا الاستعراض الوافي، يتبدّى لنا أن لبنان شكّل ولما يَزَلْ لحظة عشقٍ، اختارها شربل بعيني، حتى الرمق الأخير، هي لحظة يرحل نحوها، غريباً منفياً مشرّداً.. يكتوي بنار الشوق، وتنبِّهه دائماً لهفة اللقاء، بل أوانُ اللقاء الذي لم يأتِ، وقد لا يأتي! وهُنا مكمنُ فجيعتِهِ!
لا شك أن هذه اللحظة من العشق "الوجودي"، أدمنتها غالبية الأدباء المنفيين، شعراء وكتّاباً، ولكنها بدت أظهرَ ما تكون لدى شاعرنا، مما جعله يستحقُّ، عن  جدارة، لقب "شاعر الغربة"، لا يُنازعه أحدٌ على هذا اللقب، الذي يُفاخر به! 
.. شربل بعيني "المعلِّم" والمثقف، المهاجر إلى استراليا، مطلع شبابه، كان يحمل في جعبتِهِ بعض زاد من الشعر، وبخلاف كثيرين من المهاجرين، توفّرت له أدوات الإبداع الشعري، في ظلال بلدٍ، لحرية التعبير فيه مطرحٌ وسيع!
قد يكون سواه من المهاجرين غير المتعلمين، كتبوا غربتهم دموعاً، وهم لا يُحسنون إلاّ البكاء والنحيب، في حين أن البعيني، كتب غربته دموعاً وخطّها على القرطاس، كأبدع ما يُكتب في النفي والتشرد.. كتبها، بدمِ القلبِ، خمرةِ الأقلام، مُستجيباً لدعوة الشاعر الرومنطيقي الياس أبو شبكة:
إجرحِ القلبَ واسقِ شعرك منه
فدمُ القلب خمرةُ الأقلام!".
هكذا نرصد، عَبْرَ مختلف دواوينه، مضموناً وحقلاً معجمياً، ما يُؤشِّر، من دون لُبسٍ، على الهزيمة والانكسار وحُلم العودة إلى وطنٍ اقتُلع منه، وليتخلل أولئك صراعات "وجودية"، لا حدّ لها، في رأسها: صراع الثقافات والحضارات، وصراع العادات والتقاليد... وكلها تنضوي إلى صراع الهُويّة!
في تجسيدٍ للحالة البائسة التي يعيشها المغترب/ المنفي عن وطنه، يذهب أدوار سعيد، أحد كبار المفكرين العرب في المغترب الأميركي (الشمالي)، في وصفِهِ المنفى، بأنه " من أكبر المصائر إثارة للحزن" (من كتابه: تمثيلات المثقف)، وليُضيف ، في إحدى مقالاته، عنوانها "تأملات في المنفى" بأن "المنفى مكانٌ يُشجِّع على التفكير، ولكنه أمرٌ مرعب!"، ذلك أن الصدْع، الذي يُحدثه لدى المنفي، غيرُ قابلٍ للشفاء!
إنها الحالة الوجودية المصيرية (والمصير أحد الركائز العائدة لكيانية الإنسان) بكل تجلياتها، عاشها البعيني عن آخرها ولما يزلْ قابعاً فيها، مُقدِّماً للأدب العربي، هذه المرّة- وهي مرّة من مرّات- عَبْرَ ديوانه "نجمة الشعر" نتاجاً شعرياً رفيعاً حول الغربة، وليوسِّده هذا الديوان المنتسج بالعربية الفُصحى وبلسانٍ مُبين، مرتبةً عليّة، بين أقرانِهِ شعراء المغتربات، في أربع جهات الأرض!
ب- في المحور السياسي- الوطني
المحور السياسي- الوطني، لدى  البعيني، هو المحور "الشقيق"، المتفاعل ، في حركة جدلية، مع محور الغربة، ذلك أن الغربة، في جانب كبير منها: خلفياتٍ ودوافع، هي من تجليات الأوضاع السياسية المأزومة والمتردّية، التي تُعاني ويلاتها غالبية اللبنانيين.. ثمة طبقة سياسية "مُلفلفة بالعهر" ، بحسب تعبير شاعرنا، دأبت على قهر اللبنانيين وممارسة شتى أنواع التعسف ضدهم. وهي لم تتورّع ، في ذروة فسادها وعُهرها، عن إفقار الشعب، حتى حدود المجاعة، كما عن بيع الوطن، بعد رهنِهِ للأجنبي والغريب، بمختلف أشكالهما وألوانهما. ولم يكفِ هذه الطبقة ما تمارسه من ظلم، إذْ دفعت بمئات آلاف اللبنانيين إلى هجرة قسرية، عبر موجاتٍ مُتتالية، لا سيما في فترة الحرب الأهلية القذرة، التي كان لها فيها أيادٍ سود. وإلى ذلك، فهي تمنع هؤلاء المهاجرين المتشبّثين بوطنهم من العودة إليه، إذْ أحالت البلاد قاعاً صفصفاً، ومساحةً للجوع، وتعطيل الحريات العامة، والتنكيل بأصحاب الكلمة، ووأد الإبداع في رمال جهالتها الجهلاء وضلالتها العمياء! 
هكذا ، كان لشاعرنا أن يُعرّي هذه الطبقة المتحكّمة وليس الحاكمة- فالحكم والسياسة في جوهرهما، يتمثّلان في تدبير شؤون الناس- وأن يفضح سوء أعمالها، وما تقترف من آثام وانتهاكات بحق شعبها، معطِّلةً عملية التغيير الجذري، عَبْرَ إشهارها سلاح الطائفية الفتّاك، كوسيلةٍ "ناجعةٍ" لتفريق شمل اللبنانيين وزرع الشقاق بينهم، وهو سلاحٌ أثبتَ، من أسفٍ ، فعاليته، قاطعاً الطريق على قيام دولة القانون والمؤسسات والعدالة الاجتماعية وتكافؤ الفُرص!
بإزاء هذه الأوضاع البائسة، التي خبرها شربل بعيني وعايشها من قرب، قبل الهجرة إلى أستراليا، مطلع سبعينيات القرن الماضي- وكان قد اصابَهُ بعضٌ من شواظِ نارها، حين أصدر ديوانيه في لبنان:" مراهقه" و"قصائد مبعثرة" (1968)- من خلال متابعتِهِ اليومية لهذه الأوضاع في مغتربه، والتي طفقت تتفاقم، بوتائر مُتسارعة، كان له أن يدخل المعمعة، فراح، من دون هوادة، يُصْلي الزعامات، بسعير شعره: محكيّاً وفصيحاً، وهي التي أفنت الزرع وأجهزت على البشر، وراحت إلى تأبيد تحكّمها بالناس، حتى غدت كالخلّ المعتق الذي يُلهب جراح الوطن!: 
جالوا.. فأفنوا زرعنا وعِيالنا
وبزقِّنا خلَّ الزعامة عتّقوا
(أديب غريب).
.. وإذْ يرمي شاعرُنا الحكّام الفاسدين بأبشع النعوت، فهو، عبر "طيرِهِ الأبابيل"، يرميهم " بحجارةٍ من سجِّيل" ليجعلهم " كعصفٍ مأكول!".. هكذا حدِّث، لديه، عن المسترئس الدجّال، الذي يرهن أعمار شعبه كي يتأبَّد على كرسيّ الحكم، وعن زعماء كَذَبَة، شيمتُهُم الغدر، يحثّون الخُطى في دروب الخيانة، ويقودون شعبهم إلى سبيل الضلال:
اعمارنا رهنٌ بحفظ مراكزٍ
يطغى بها مسترئسٌ دجّالُ
(...) 
زعماؤنا دربُ الخيانة دربُهُم
(...) 
إنْ صمّموا فالغدرُ في تصميمهم
وتكلّموا، فلُعابهم يحتالُ
(ظلال).
.. يرى البعيني أن وطنه لبنان، خارج الزمن، فيأسى لحاله، بل تنزُّ جراحُهُ دماً، كيف لا يأسى، وهو يرمق التاجر الجشع يختال لا يردعه دينٌ ولا تكبحُ سلوكياتِهِ قيم، يُتاجر بلقمة الفقير!.. وإلى أولئك ، فثمة الحكّام، الذين جيء بهم من مُتحف الكفرة، لا قلب لهم ولا ضمير!
وبقدر ما يمضُّه هذا الواقع، فهو يأخذ  على الشعب استكانته، بل استنكافه عن مواجهة حكامه الطُغاة، وما يحيق به من بؤس شديد:
ماذا دهاك، اليوم، يا وطني
تحيا زماناً خارج الزمن
(...) 
شيطان أرضي تاجرٌ جشعٌ
(...) 
دولارهُ جوعُ الفقير به
تباً له من تاجرٍ بطِنِ 
وعن حُكّام بلده، الصُمّ البكم:
حُكّامه من متحفٍ وثني
(...) 
غرقى ببحرِ الكفرِ والعفن
(ماذا دهاك؟).
.. جرّاء هذا الواقع الشعبي الاستنقاعي، ليس بمُستغربٍ، بحسب شاعرنا، أن يُقاد الشعب كالقطيع، من قبل مُتحزِّبٍ متغطرس، وَقْتَ يكتفي الشعب بالثناء على هذا اللص الكاذب والغدّار، بل إن كلّ ما فيه يفضح سريرته وينمّ  عن غدرٍ.. هذا المتحزِّب لا ترويه سوى دماء الناس، يعيش عيش الملوك، في حين يُعشِّش الفقر والعوز في الأكواخ! ومن المفارقات أن الشعب مدركٌ تقصيره، فبدل أن تُصبَّ اللعنات من قبله على هذا اللص الذي يتنفّس الكذب، شهيقاً وزفيراً، تُرفع راية التسامح!: 
مثلَ النعاج، يقودُنا مُتحزِّبٌ
مترئسٌ متغطرسٌ، متذبذبٌ
إنّا نحيِّي، كل يوم، لصّنا
ذاك الذي شرفَ التحيةِ يسلُبُ
هو كاذبٌ.. والغدرُ في أوصالِهِ
حتى شهيقُهُ من كلامه أكذبُ
(...) 
غير الدماء الحمر لا لا يشربُ
مثلُ الأمير مُرفّهٌ في قصره
والفقر في أكواخنا يتعذّبُ
في عُرسِهِ كل الخلائق تنتشي
وبموتنا ما من شريفٍ يندبُ
(...) 
لكنّ شعبي طيبٌ مُتسامحٌ
والموتُ يأتي كي يُعاني الطيّبُ
(رئيس الحزب).
... لعلّ عشق شاعرنا لوطنه عمل على رفع منسوب غضبه، تُجاه الزعامات والحكّام، الذين عاثوا فيه فساداً، وأوقفوا عقارب زمنه الجميل! وقد تبدّى هذا العشق إبداعاً في وصفِهِ علم بلاده، بإسباغه عليه أجمل الصفات، إلى الافتخار بأجداده، بُناة مجد وطنه، منذ القدم:
فالأحمرُ الباكي
لوّنتُهُ بدمي
والأبيضُ الشاكي
قدّستُهُ بفمي
(...) 
أجدادُنا زرعوا
مجداً من القِدَمِ
(عَلَمي).
.. في إطار جدل السياسي/ الاجتماعي، فإن هذه الأوضاع المغرقة في تردّيها، على الصعيد السياسي، لا بد أن تنعكس انحداراً على الصعيد الاجتماعي (انتشار الجريمة واقتراف الموبقات، وانقلاب المعايير الاجتماعية الخ..)، مخلِّفةً منعكساتٍ سلبيةً على منظومات القيم،والتي غدت نسيّاً منسيّاً!: 
كل الدروب فوقها محنٌ
أنّى ذهبنا شبَّت الفتن
فالقتل صار اليوم هاجسنا
تحلو به الأعمالُ والمهنُ
(...) 
أخلاقنا، أفكارنا يبستْ 
مثل الذي قد لفّهُ العفنُ
(...) 
حتى حليبُ الأم مكتئبٌ
من حقدنا قد بزّهُ اللبنُ
يا حبّذا لو ينتهي زمني
حتى أرى ما يتركُ الزمن
(زمني).
ج- في المحور العروبي
بقدرِ النزوع الوطني المتأصّل لدى شاعرنا، فقد كان على نفس السوية في نزوعه العروبي. علماً أن عروبته ليست عروبة "القومجيين" المتاجرين بها وناحريها على مذبح أنظمة القمع والاستبداد، بل هي  عروبة حضارية، تسعى إلى خير الأمة وبلوغها مصاف الأمم الراقية.
لقد كان لشاعرنا أن يعاين ما مارسته الأنظمة العربية القمعية بحق شعوبها، لا سيما ما يُطلق عليها، في التعبير السياسي، "أنظمة بورجوازية الدولة"، إذْ أنزلتْ بهذه الشعوب شتى أنواع القهر والتجويع والإذلال، ناهيك عن جلب الهزائم، وأبرزها ضياع فلسطين، والإنهزام في كل الحروب التي تلت نكبة 1948، واحتلال القدس الشريف، بشكل كامل من قبل العدو الصهيوني!
هكذا، راح شربل بعيني إلى رفع الصوت مدويّاً، آسياً للحال شديدة الإنحدار التي بلغها العرب، في كل دولهم، وما تُعاني الشعوب، بشكل مطّرد، من بؤس وشقاء. ومن المفارقات- وهي خصيصةٌ عربيةٌ!- أن هذه الأنظمة، في عزِّ هزائمها، ترفع أصابعها بعلامة النصر (Victory)، إذْ أن النصر يعني، في عُرفها، سلامة الأنظمة والمتربعين على سُدّاتها، ولو فنيت شعوبها وحلّ الخراب بالبلاد!
... وإذْ وسمنا أدب المنفى بأنه أدب ذو رسالة نبوية، فلكونِهِ يسعى إلى فهم الواقع العربي والتعبير عنه بلا خوف أو تردّد . إنه يمتلك الرؤيا، كما الإمكانيات، لإنضاج ثورة في الأدب العربي كله، من منطلق قدرته على استيعاب هذا الواقع، وعدم الغرق في التفاصيل المضلّلة، علماً أن الأدب، في الداخل العربي، تتهدّده الرقابة البوليسية، كما تتهدّده السلطات الدينية، على اختلاف مشاربها. 
وإلى هذه السمات، التي تطبع الأدب المهجري المعاصر، فهو، بحسب الناقد الأدبي د. محمد مندور، أدب مهموس (بعيد عن الجعجعة)، لأنه عميق وواقعي، ومرتبط بالحياة، وليس فيه الخطابية والسطحية الثقافية.
.. في إكبابنا على "عروبيات" شاعرنا، نتوقف عند هزيمة الأنظمة العربية، على رُغم ادعاءاتها الكاذبة بالنصر، أو بالنصر الموعود. علماً أن أشدّ هزائمها مضاضةً ضياع القدس الشريف، ثاني القِبلتين وثالث الحرمين . بل هي أرضُ قداسة، تتقاطع عندها الإسلام والمسيحية، عَبْرَ عناقٍ تاريخي بين هلال وصليب!
وكم آلم شاعرنا احتلال العدو الإسرائيلي هضبة الجولان السورية، ويتساءل كيف ترتضي الشعوب العربية انتهاك أراضيها، محمِّلاً القيمين  على الأنظمة العربية مسؤولية استرجاعها من يد غاصبيها الصهاينة:" 
آهِ يا شعبي الحبيبْ
حين يغزوك النحيبْ
(...) 
هل تضيعُ القدسُ منا
ليس فينا من مجيبْ
قِبلةُ الأقداس كانت
من هلالٍ أو صليبْ
هضبة الجولان ليست
خيمةً تأوي الغريب
هذه الأرض الحبيبة
كيف نرضاها تسيبْ؟
لا رئيسٌ قال: كفّوا
من بعيدٍ أو قريبْ!
(آهِ يا شعبي).
... في قصيدة "مارسيل خليفة"، يوم تكريمه في برلمان ولاية نيو ساوث ويلز (سيدني) 2019، يأخذ البعيني على الزعماء العرب أن ضياع القدس لم يُؤرّق أي واحد منهم، وكأن الأمر لا يعنيهم! وحبَّذا لو انتصروا مرةً على عدوهم، لكان قبّل منهم الرأس، ولكنهم كَذَبَةٌ مُنافقون:
القدس ضاعت.. لا تسلْ عن قِبلةٍ
ما من زعيم أرّقتهُ قدسُنا
(...) 
يا ليتهم أضنوا عدوِّي مرةً
حتى أبوسَ الرأس من أعرابنا
لكنهم بالكذب قد غطّوا المدى
والكذبُ ملحٌ.. آهِ من أملاحنا!
.. وَلَكَمْ آلَمَ شاعرَنا ما آل إليه العراق، ذلك البلد العربي الناهض، والذي بلغ مرحلةً من التقدّم العلمي، لم تُضارعه أي بلد عربي، مما شكَّل خطراً محتملاً على الوجود الإسرائيلي، فكان أن تمّ حصاره، منذ العام 1992، وحتى العام 2003 حين غزاه التحالف الدولي (أميركا وبريطانيا..)، فكان تدميرٌ لكل إنجازاته ولكل معالمه الحضارية، ودفعه في طريق الشقاق بين طوائفه وقومياته!
هكذا راح البعيني يتألّم لألم العراق الجريح:
بغدادُ أنتِ الحرفُ والقلمُ
رُحماكِ... كيف اجتاحكِ الأَلمُ
(بغداد الإعلام)
ولشدّة المحبة التي يكنّها شاعرنا للعراق، ولعاصمته بغداد، فقد أفرد له قصيدتين في سرديتِهِ المدينية، في حين خصَّصَ قصيدةً واحدة، لكل واحدة من المدن والعواصم العربية التي ضمّتها هذه السردية. إضافة إلى إفراده قصيدتين أُخريين، هما "عراقية"، و"شعب واحد"! 
... في قصيدة " شعب واحد"، ها هي بيروت تبكي بغداد دماً، ذلك أن شعب العراق غدا شهيداً، فراح يدعو إلى التكبير من أجله! كيف لا تبكي بيروت، وقد أفنت العرب حروبٌ، لعل أشرسها ما حلّ بالعراق وشعبه، حيث تم اجتياح الأرض من قبل مجموعة غادرة، هي أكثر شبهاً بالشيطان، فقتلت الأطفال وسبت النساء المُحصنات: 
هذه بيروت يا بغدادُ تبكي
إمسحي الدمعاتِ، إنَّ الدمعَ أحمرْ
إن بكيتِ اليوم نبكي كلَّ يومٍ
كلُّ شبرٍ منكِ يا بغدادُ جوهرْ
شعبُكِ الإنسانُ قد أضحى شهيداً
كبِّري من أجلِهِ.. فالله أكبرْ
(...) 
مات شعبي حين افنتنا حروبٌ
أخبريني إن سمعتِ القبْرَ أشعَرْ
(...) 
زُمرةٌ غدّارةٌ تجتاح أرضي
تُشبه الشيطان، بل بالشرِّ أشطرْ
تقتُلُ الأطفالَ، تسبي طاهراتٍ
إن وصفنا الطُهْرَ.. قُلنا: هُنَّ أطهرْ
ففي قصيدة "عراقيهْ"، إلى بكائه العراق، فقد بكى مصر، وليُترع النيلُ من دمع مآقيه:
فكم في النيلِ دمعٌ من مآقينا
وكم في الحَلْقِ آهاتٌ فراتيهْ؟
وقد استغلها البعيني مناسبةً، كي يروح، عبر هذه القصيدة أيضاً إلى مختلف ألوان المعاناة التي تعيشها الشعوب العربية، من أميّةٍ، ومن عقليةٍ غيبيّةٍ خرافية، واطّراح العروبة جانباً، ناهيك عن التشبّث بالتراث البالي، وليس بأصالة التراث:
إذا كانت شعوب الضادِ أُميّهْ
ستغزوها مطبَّات جنونيَّهْ
وتنمو فوق أعناقٍ وأبدانٍ
فقاقيعٌ وأدرانٌ خُرافيّهْ
(...) 
وكل العار أن تحيا بأخلاقٍ
جنونٌ ان نُسمّيها تراثيّهْ
أيا أرضاً هجرناها زُرافاتٍ
محونا الاسم كي نُلغي العروبيَّهْ
(...) 
تركناها،ولم يبق سوى باغٍ
وقطعان من الإهمال منسيَّهْ
(عراقيّة)
ولا شك أن هيمنة العقلية الغيبية جعلت من الشعوب العربية شعوباً قدريّة، فشُلَّت إرادة التغيير لديها والانقلاب على أوضاعها الزريّة. من هُنا، بإزاء هذه الاستكانة، يسِمُ شاعرنا الشعوب العربية بالغنم، بل إن الغنم قد تخجل منها، وهي تراها على هذه الحال!:
القدسُ ضاعت، شعبنا غنمٌ
من خوفِهِ، قد يخجل الغنمُ!
(قصيدة سعيد عقل).
وفي موضع آخر، يذهب إلى معنى مُشابه، إذْ ينعتُ شعبه بغنمٍ يُساق إلى الذبح، وهو مرتعبٌ مفزوع: 
شعبي.. وهل شعبي سوى غنمٍ
للذبحِ، كالصرصورِ مرتعبِ
(قصيدة محمد مهدي الجواهري).
.. وإذْ تتكرّر، لدى شاعرنا، المواقف التي تدين الطبقة الحاكمة المتسلطة على الأمة، وكذلك الأمة التي ارتضت الخضوع والخنوع أمام هذه الطبقة، فهو يبلغ بالمسألة بعيداً، في قصيدته "محمد مهدي الجواهري":
يا أمةً يقتادها وثنٌ
من رحمةِ الديّان إقتربي
ما من شعوبٍ لم تذُقْ الماً
لكنها قامت من اللهب
تاريخها... أمجادهُ أدبٌ
الاّكَ، يا تاريخنا العربي
.. وفي مخاطبته المتنبي، فهو يُنبئهُ بالواقع العربي المزري، يُحدِّثه عن الكفر العميم، عن الحرب المتمادية، عن العبيد الذين يسيدون ويميدون، عن الحزن المقيم، عن هدمِ كل ما بنينا، في حين يمضي الغرب مصعِّداً في نهضتِهِ وتقدّمه.. والبعيني، إذْ يتمنَّى، يتطلّع إلى شعبٍ عربي عظيم، لا تفصلُ بين بلدانه حدودٌ ولا سدود!: 
ها هنا الكفرُ يسودْ
(...)
ها هنا الحرب تمادت
ها هنا الموتُ العنيد
(...) 
عاث في الأرضِ العبيد
(...)
نحن نحيا كل يوم
دمعنا للحُزنِ عيدْ
قد هدمنا ما بنينا
بينما الغربُ يَشيد
(...) 
أبتغي شعباً عظيماً
لا تدمِّيهِ السدودْ
ليس يخشى من حدودٍ
وحدةُ الأرض الحدود
... تبقى مسألة أخيرة، نُميط فيها اللثام عن الموقف المتسم بالعنف الصادر عن شاعرنا تجاه الزعامات والحكام الفاسدين، وقد رماهم بأقذع النعوت.
في هذا المجال، لنا أن نتساءل: هل تسلّلت هذه المواقف إلى شعره، تأسِّياً بمعلمِهِ الشاعر نزار قباني؟! لنا أن نقرأ هذه الشهادة للمهندس رفيق غنوم، إذْ يُمدُّنا بهذه الواقعة التي عاينها بنفسه: "... وقد لا أذيع سرّاً إذا قلت: إن نزار قباني كان يشتم الزعماء العرب، ألف مرّة في الدقيقة، خلال مكالماتِهِ الهاتفية مع شربل بعيني. ولكم شعرتُ باليأس الذي يجتاح كل خليةٍ من خلايا جسمه وعقله ، وأدركتُ للحال لماذا كتب رائعته (متى يعلنون وفاة العرب؟)، التي أقامت الأرض ولم تُقعدها!" 
د- في الدعوة إلى العيش المشترك والاعتراف بالآخر المختلف
لأن الشاعر الحق... الناطق بالحق- لا شاعر البلاط ولا شاعر السلاطين، بمختلف درجاتهم ومواقعهم- هو ذلك المستغرق في إنسانيتِهِ والمتفلّت من اسارِ العشيرة والقبيلة والطائفة والمذهب ، تسقط عنده كل الاعتبارات الفئوية والجهوية، فيغدو لسان الحقيقة البريئة من كل دنس، والمنتصر لأخيه الإنسان، رافع لواء الإنسانية الجامعة بديلاً من كل البيارق التي تُؤشِّر على جماعاتٍ مُنغلقة على ذاتها!
.. بهذه السمات، التي تُشارف حدود المثالية  الطُهرانية، يُطلُّ علينا شربل بعيني، من خلال جميع دواوينه الشعرية وسائر نتاجه الأدبي، فإذا هو الإنسان قبل كل شيء،وإذا هو اللبناني الصِرف، الذي يرفض أن يتكلم نصرانياً أو إسلامياً، بل يتكلّم لبنانياً، إذْ هو "لبناني ابن لبناني!" (مراجعة ديوانه "مجانين").
.. ها هو شاعرنا، من منطلق نزوعه الإنساني، وإذْ يُدعى إلى إفطار رمضاني من قِبَل جمعية النهضة العراقية، يرى إلى رمضان شهر صومِهِ هو، كما شهر صوم المسلمين! وقد انتهزها مناسبةً إيمانية، فطفق ينعى أمته، التي لم يرسخ الإيمان في قلوب أتباعها، فراحت تتجاهل قيم الصوم، وسائر الشعائر الدينية والفرائض الإسلامية، من حجّ البيت الحرام وتأدية الزكاة للفقراء والمساكين:" يا خالق الأكوان هذي أمتي/ تمشي بعكس الخلقِ والأكوانِ/ هذي العروبةُ أنهكتها حروبُها/ لم تُحسن التفسير بالأديانِ/ فالطائفيُّ الذئبويُّ لسانُهُ/ يُعوي، فيغدو الشرّ كالطوفانِ"... وإذْ يدينُ ذلك الطائفي المتعصّب الذي لا يعترفُ بالآخر المختلف عنه، عقيدةً دينيةً، يُقدِّمُ مطالعةً وازنةً في العيش المشترك، وفي وحدة الأديان، كما في وحدة الإيمان جوهراً، علَّ هذا الطائفي يرعوي ويعود إلى سواء السبيل:" إنْ كنتَ للتقوى، فبالتقوى أنا/ قد أغلبُ الشيطان يا ديّاني/ ما الفرقُ بيني وبين أهل آمنوا/ إنجيلهم لله كالقرآنِ!".
هكذا، كان لشاعرنا أن يُقارب أطروحة  الأديان من منظور أن "الخلق كلهم عيالُ الله"، وأنهم جميعاً لآدم، وآدم من تراب وإلى التراب يعود!... ويبقى المعيار الوحيد، والكلمة الفصل أن اكرم الناس عند الله أنفعهم للناس:" ما الفرق بيني وبين جارٍ مخلصٍ/ قد شرَّفَ الإنسان بالإنسان/ ما الفرقُ بيني وبين كل خليقةٍ/ إنْ لَم أُحاكِ لسانهم بلساني/ إنْ كان نسلي نسلَ آدم ويحهم/ كيف الخصامُ ونحنُ كالأخوان؟"، .. وليرى ، تتويجاً لهذه النظرة المنفتحة على الإنسانية جمعاء، دونما تفريقٍ بين الأديان التوحيدية، أن شهر الصوم "الإسلامي"، هو شهره، بل شهر صومِهِ، كونه صادراً عن مرجعية الهية واحدة:
شهري أنا.. شهرُ المحبةِ والتُقى
في نوره لم يختلفْ إثنانِ
شهرٌ كأنَّ الله فيه مجسَّدٌ
هذي شهادةُ مؤمنٍ نصراني!
(رمضان .. شهري أنا)
فنِعمَ الشاهد، وأعظِمْ بهذه الشهادة!
.. إذا كان الشيء بالشيء يُذكر- كما يُقال- فإن شاعراً قد يُحيلُنا إلى شاعر آخر، وهما من نسيجٍ فكري واحدٍ، يتشاركان فلسفة حياتية واحدة، ورؤيا فكرية متماثلة، ونظرة إنسانية تجمعهما على مبادئ ومنظومات قيم سامية، مارساها سلوكياً، ولم تبق لديهما حبراً على ورق!
تأسيساً على ذلك نرى أن ثمة تقاطعات، إلى حدّ التطابق بين شاعر الغُربة، وبين شاعر الفيحاء سابا زريق (1886- 1974)، وهما ينتميان إلى منطقة واحدة، اتسمت بالعيش المشترك، فسابا زريق إبن طرابلس الفيحاء، وشربل بعيني ابن مجدليا (قضاء زغرتا- الزاوية)، التي تقع على مرمى حجر من طرابلس.. ولطالما كان تفاعلٌ بين عاصمة الشمال اللبناني طرابلس وبين مختلف الأقضية الشمالية، وعلائق من الأخوة والتبادل، على جميع الأصعدة!
.. سابا زريق، الطرابلسي المسيحي الأرثوذكسي، كما وصفتُهُ، في كتابي "مقابسات زُريقية بين شاعر الفيحاء سابا زريق وسابا الحفيد" (صادر في العام 2016، عن مؤسسة شاعر الفيحاء سابا زريق الثقافية)، هو ذلك الشاعر الذي تماهت لديه المسيحية والإسلام، فلا تعرف إلى أي الديانتين تنسِبهُ!
في استلالٍ لبعض شواهد، من كتابي، ومن (الآثار الكاملة لشاعر الفيحاء سابا زريق، ستة مجلدات، ط1، 2012)، يتحصّل لنا أن حقيقة الشعر الحق هي حقيقةٌ واحدة، وأن الشعراء- والمفكرين بعامة- غير المصادرين من طوائفهم ومذاهبهم، وغير المرتهنين لقبائلهم وعشائرهم وزعاماتهم، ينطقون بلسان واحد، ويجهرون بكلامٍ، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ولا من قُدّامه!
عن الاعتراف بالآخر المختلف، وعن تعاطي اللبنانيين وسائر أتباع الديانتين، المسيحية والإسلامية، من منظور قومي، يذهب شاعر الفيحاء إلى القول: 
متى أعيشُ وجاري ليس يعلم أنْ
لمسلم هو جارٌ أم لنصراني
متى أرى النسب القومي رابطةً
أقوى على الدهرِ من أركان ثهلانِ
متى تثوبُ إلى الرحمن طائفةٌ
تجني بتفسير إنجيل وقرآنِ؟! 
وقد عقّبت على هذه الأبيات، بلسان د. سابا زريق الحفيد (الكتاب جاء في قالب حواري بين الجد والحفيد)، فيتوجه إلى جدّه:" حقاً، متى تُنكَّسُ، يا جدي، ألوية الطوائف التي ترفرفُ خفّاقةً بين هامات أتباعها؟ ومتى يُشطبُ من قيودِ قلوبنا النسب، أو قُلْ الولاء الطائفي الأعمي، وتكون الغلبة لنور الولاء الوطني؟ ومتى تثوبُ العقولُ إلى رشدها، فلا يُتّخذُ الإنجيل والقرآن مثاراً لاستغلال وتأجيجاً لنزاعات واحترابٍ بين أتباع الطائفتين، وقد خلقنا الله جميعاً من تُراب وإليه نرجع".
.. هذا التعقيب الذي أدلينا به، بلسان الحفيد د. سابا زريق، نتوجه به إلى شربل بعيني، كون الشاعرين (البعيني وزريق) ينهلان من حقيقةٍ إيمانية واحدة! إستزادةً من شاعر الفيحاء، وبما يُؤكِّد على ذلك التقاطع بل التطابق بين الشاعرين، من خلال تبنّيهما وحدة الأديان، هاكم ما يبوح به:
هذي يدي للمسلمين أمدّها
باسم النصارى هازجاً أترنّمُ
ديني ودينك يا موحِّدُ واحدٌ
طه سبيلك أم مسيحي السُلَّمُ
أنا  عيسويٌّ ما تشاءُ عقيدتي
لكنني، في شرعِ حُبّكَ، مُسلِم؟! 
.. في قصيدة "أديب البعيني"، يروح شاعرنا إلى نفس المعاني، التي يتطارحها شاعر الفيحاء، الداعية إلى العيش الواحد، من منطلق أننا شعبٌ واحد، مسيحيين ومسلمين.. نتعبَّدُ لإله واحد، هو ربُّ العالمين جميعاً! 
هكذا يتوجَّه إلى أديب بعيني "الدرزي"، حيث يجمعهما نسبٌ واحد، بما يسقُطُ عامل الانتماء الطائفي:
نحن شعبٌ واحدٌ، لله نجثو
كلنا في موطني جارٌ حبيبُ
لا دروزٌ، لا نصارى، لا شقاقٌ
اسألِ الإسلامَ عنا، قد يُجيبُ
(...) 
آهِ، يا ابن الشوفِ، هل يكفيك شعري
أنت مني، أنت روحي.. والنسيبُ
(أديب البعيني).
... شربل بعيني، إذْ يصدرُ عن هذه القيم، التي تضعُ نُصب أعيُنها الإنسان، دونما النظر إلى دينه وطائفته ومعتقده، ما كان ليمضي في هذا السبيل، لولا انه المؤمن بربه، يكلّمهُ وجهاً لوجه، من دون وسيط، يستدرُّ عطفه ورضاه، وليجد لديه البُعد الحقيقي لحياته في هذا الوجود: 
رُحماك ربي إنني
قُدّامَ عرشك أنحني
مترسملاً في غربةٍ..  
بالحب والعيش الهني
لا لستُ أبغي ثروةً
حلمي بعطفك أغتني
عمري بدونك كِذبةٌ
مُدَّ اليدينِ وضمَّني
(رُحماك ربي).
هـ- في السرديّتين "المدينية" التمجيدية، والمدحية "المناسباتية"
أولاً- في السردية "المدينية" التمجيدية: عشر مدن/ عواصم عربية، تصدّى لها شاعرنا، عَبْرَ لونٍ من الشعر، يُجانبُ المديح "الكلاسيكي"، وإن كان له من هذا الفن ظاهره. من خلال هذا اللون يتوجّه شاعرنا إلى "جماد"، يمدّه بالحياة اجتماع بشري، يحتويه ذلك الجماد، مؤشِّراً على مشهديات تاريخية وحضارية، بما يخلع على المكان حياةً! وإذا نحن بإزاء بيروت، التي يعشقُ عشقاً لا حدود له!.. عبوراً إلى القدس، أرض الأنبياء، وثاني القبلتين وثالث الحرمين، إلى مكة، مُنطلق الدعوة الإسلامية ومهد الرسول العربي محمد (ص) وموضع الكعبة المشرّفة، أبرز المعالم المقدّسة.. إلى بغداد (لمرّتين)، عاصمة الرشيد وعاصمة الدنيا في العصور الوسطى.. إلى دمشق بني أمية، التي أحبّها الشاعر، منذ أن وُجدت، وهي أقدمُ مدينةٍ مأهولةٍ في التاريخ!.. إلى دُبي الحلم ودُرّة المدن، إلى تونس الخضراء التي لن يعلقها عاشقٌ مثله.. إلى مصر، أم العرب، بعظمة إهراماتها والنيل التي هي هبتُهُ.. إلى عمّان زينة الأمم. وليُتبع، البعيني، بهذه المدن والعواصم، مزرعة الشوف، حيث مهد البعاينة"، المتوزعين بينها: دروزاً، وبين مجدليا: موارنة.. وكلهم من أرومةٍ عائلية واحدة! 
... هذه السرديّة المدينية"، لم يتفرّد بها البعيني، بل سبق لشعراء عرب معاصرين أن طرقوا هذا الفن، مع سعيد عقل، الذي غنّى مكة وأهلها الصيد، كما غنى زهرة المدائن (القدس)، وغنى الشام، في عددٍ من أجمل قصائده.. إلى بلاد وعواصم عربية أخرى. ناهيك عن بدر شاكر السيّاب، الذي أبدعَ رائعته "تموز جيكور"، التي لم تكن مجرد استغراق لجغرافية مسقطه، بل كانت حريقاً اندلع في أعماقه، يوم غادرها، لتتلقفه دروب الغربة الموحشة... فلقد كانت ولادة متجدّدة لقريته الحبيبة داخله  .
.. إشارةٌ إلى أن سردِية البعيني، في "نجمة الشعر" هي ثاني اثنتين، فقد أتحفنا شاعرنا بواحدة أخرى، عبر ديوانه "أحبكِ"، حيث إصطحب حبيبته "الافتراضية" ، في رحلة سندبادية، فجال وإياها عواصم عالمية، في أوروبا وأميركا (الشمالية والجنوبية)، وإفريقيا، يُضاف إليها بالطبع استراليا ولبنان، عرّفنا من خلال هذه الرحلة إلى معالم مشهودة، مُتوقفاً عند الكثير من مشهدياتها الحضارية والعمرانية...
لقد اتخذ البعيني من عواصم وبلدان سردّيتيه، لا سيما السرديّة العائدة للديوان الذي نُعالج "نجمة الشعر"، معشوقاتٍ بثّهن روحاً من روحه، ولينضممن إلى معشوقاتِهِ الإنسيّات، سواءٌ أكُنَّ افتراضيات أم حقيقيات!.. علماً أن ما يشي بهذا العشق الغامر، تلك العاطفة الحرّى التي أسبغها على هذه العواصم/ البلدان، ناهيك بالحقل المعجمي الحافل بمفردات الحب وعباراته! 
ولعلّ ما دفع شاعرنا إلى تعلّقه بالمدن/ العواصم، بمعزلٍ عن  جغرافيتها أن " في حياة كل شاعر مدينة (أو عدة مدن) يحلم بالإقامة فيها جسدياً ولغوياً.. جسدياً ككيان إنساني، في فضاء مكاني محدّد جغرافياً أو هندسياً.. لغوياً، بالكتابة الشعرية، حيث يسعى الشاعر، من خلال القصيدة، أن يجعل من المدينة حلماً يُعايشه ويعيشُه"، بل إن الشاعر " يحلم بالمدينة، مثلما يحلم بامرأة منفلتة زئبقية هلامية (عبر) الذاكرة الاسترجاعية بالحلم، كطريق لفعل الكتابة الشعرية، المنفتحة على السؤال والقلق والحيرة" .
... تأسيساً على ما سبق، وفي استعراض للمدن/ والعواصم، التي مجّدها شربل بعيني، نرى أن لديه قوة التقاط شعرية الأمكنة، بعيون فاحصة ومخيلةٍ خصبة، تُؤسِّسُ لغتها الإبداعية الخاصة، عن طريق المزج بين حرارة القصيدة، في وهجها الأول، وبلغة المكان الحُلمي، في الدرجة الثانية... هي لغة بصرية، ما يذهبُ إليها، تطفح موسيقى وافتتاناً وأملاً ورغبةً، وهاكم بعض تفاصيل: 
   في قصيدة "بيروت"، يدعوها الشاعر إلى أن تُعرب عن حبها له، فالبعد يُؤرِّقه.. يدعوها إلى احتضانه وإنقاذه من تشرّده، سيما أن وجهها كان مقصده الدائم، بل هي قصيدتُهُ، منذ أن احترف النطق:"بيروت، يا بيروت لا تتردّدي/ قولي: أُحبّكَ.. كي يُعانقني غدي/ (...) أمضيتُ عمري كالرياح مشرّداً/ لكن وجهكِ كان دوماً مقصدي/ واعدتِني!.. ما زلتُ أنتظرُ اللقا/ وتتوقُ نفسي لاحتضانِ الفرقدِ/ (...) منذُ احترفتُ النطق انتِ مقصدي/ (...) كل المدائن ضيّعت عنوانها/ إلاّكِ، يا بيروت، يا وشمَ اليدِ".
 وعن القدس، فهي رجاؤه، بل الطبُّ الشافي إذا ما حلَّ به بلاء.. هو بها، بزهرة المدائن، مغرم، ويعاني في حبه الشقاء..:" آهِ، يا ترنيمة القلب النقي/ مغرمٌ فيكِ، وفي الصدر شقاء/(...) قد مسحتُ الدمع عن خدّيَّ كي/ لا تقولي أنني أهوى البكاء / أنا ابن القدسِ مَنْ مثلي أنا /  يتغنّى بوجودي العظماء".
   وإذْ يجيءُ مكّة بقلبه سكناً، يدعوها إلى أن  يكون قلبه سكناها، وهو لن يُغادرها، لينهلَ منها بعض قداسة:".. ما أن سجدتُ فوق أرض المصطفى/ حتى تباهى العمر وانسابَ الهنا/ (...) هيا أسكني يا قِبلةٌ في قلبنا/ من قال أنأى عنكِ يا بيت الهدى/ لا لستُ أنأى، إني باقٍ هاهنا".
   أما دمشق المجد والعزّة، فهي لديه الحب والألق، دمشق الورد والحبق، علِقَها قلبُهُ منذ أن وُجدت، فغدا ذلك الغارق في بحر حبّها، ولتبقى حلمه الجميل والنجوم التي تضيء عتمة الليالي:" يا شامُ.. لم أعشق سوى وطنٍ/ سكانه الأمجادُ لو نطقوا/ (...) أنتِ النجومُ البيضُ في غسقٍ/ لولاكِ لا لم ينجلِ الغسقُ/ والشمسُ أنتِ الشامُ يا بلدي/ من قال إن الشمس تحترقُ/ البحرٌ حبّكِ، والحبيبُ أنا/ وَلَكَمْ غرقتُ وعافني الغرقُ".
   وعن الرباط، فهي عشق قلبه، مدّ لها اليدَ كي تنقش هذا العشق عليها:" أخبرتها سرّاً" عيوني قد تشي/ هذي الرباط حبُّ قلبٍ عاشق/ (...) أحببتُ اسمك، والحروفُ شواهدٌ/ إني مددتُ الكفَّ حتى تنقشي".
   أما دُبيّ ، فهي التي أحبّها وأسماها وطنه، وإليها تتوجه أشرعة سفنه:" هذي الإمارة من روائعنا/ أحببتُها، أسميتُها وطني/ (...) الموجُ عاتٍ والشراعُ أنا/ مَنْ غيرُها.. تشتاقها سُفني/ (...) النجمُ أنتِ، وأنتِ قِبلتنا/ فتشاوفي يا دُرّة المدن".
   تونُس الخضراء، أودعها قلبه، فغدا تونسياً، إليها ينتسب، ولن يُحبَّها عاشقٌ، كما أحبّها شاعرنا:" أنتِ الأميرةُ والمنى/ والعرش قلبي.. فاجلسي/ لا لن يحبك عاشقٌ/ مثلي.. فهذا محبسي".
   وعن بغداد، فهي حبيبةُ الشاعر، منذ الأزل، وهي لم تُخلق إلاّ له، أحبَّ وجهها، وقد بكت حُبّه حكاية تُروى:" بغدادُ أنت حبيبتي لا تخجلي/ منذ الوجودِ، خُلقتِ، يا بغدادُ، لي/ أحببتُ وجهكِ.. والغرامُ  حكايةٌ/ مثل الدماء تدفقت بمفاصلي/ لا لستُ أنسى يوم  جئتك مغرماً/ وتراقصت قرب الفراتِ جداولي/ (...) إني أُصدِّقُ بيت شعر رائع: / ما الحبُّ إلاّ للحبيبِ الأوّلِ" (بغداد).
   وأما مصر - الأم، التي ترك قلبه فيها، فقد راح يبكيها، ولتنهلَّ دموعُهُ في النيل:" لو باحتِ الأهرامُ بالحبّ النقي/ لعلمتِ أن القلبَ لم يرحل معي/ (...) ها قد سكبتُ الحبَّ عطر قصيدةٍ/ فتنعّمي بالحبّ ثم تدلّعي/ (...) كلُّ البلابلِ في ربوعكِ أنشدت/ والكونُ يُصغي في الجهاتِ الأربع".
   وعن عمّان (الأردن)، فهي أجملُ الأسماء على شفةِ شاعرنا، شعبها شعبه:"... خبِّرْ.. أنا آتٍ إلى مُدُنٍ/ أحببتُها.. أودعتُها قيمي/ آتٍ إلى عمَّان من تعبي/ قولي: هلا.. يا زينة الأُممِ".
   أما مزرعة الشوف- خارج نطاق المدن/ العواصم-، مهد "البعاينة"، فربوعها الخُضر مزرعتُهُ، وهي التي خلعت على شاعرنا اسم عائلته، هكذا:" إني بُعينيّ الهوى أبداً/ أودعتُ فيها قُدسَ أتربتي/ يا مجدليا.. سجِّلي فرحي/ إلاّ لها لم تعْلُ قبعتي!"
  ثانياً- في سردية الأعلام المدحية "المناسباتية":  
في هذه السردية، التي تتكامل مع سابقتها، يتوجّه شاعرنا إلى شخصيات وأعلام، يتوزّعون على عصور مختلفة، بعضهم لا زال في عالم الأحياء، وآخرون طواهم الردى.. وكل واحد من الفئتين له موقعه ، كما دوره، في بيئتِهِ، مُخلّفاً أثراً بيِّناً .. فمن المناضل ضد الاستعمار الفرنسي (سلطان الأطرش)، إلى المناضلة ضد العدو الصهيوني غاصب أرض فلسطين (الشابة عهد التميمي)، إلى المناضلتين المكرّستين حياتهما وجهدهما لتنشئة الأجيال في استراليا (الراهبتان كونستانس الباشا ومدلين أبو رجيلي)، إلى فيلسوف لبناني وعالمي، غدا كتابه النبي بمنزلةِ انجيلٍ ثانٍ (جبران خليل جبران)، إلى الأديب والفيلسوف اللبناني (الشاعر سعيد عقل)، إلى عالِمٍ عراقي كبير (الأب يوسف جزراوي) ... 
إلى ثُلَّةٍ من أعاظم الشعراء، قُدامى ومعاصرين.. من عملاق الشعر العربي في كل العصور (أبو الطيب المتنبي)، إلى أحد أعظم الشعراء العرب المبدعين (عبد الوهاب البياتي)، إلى آخر عمالقة الشعر الكلاسيكي (محمد مهدي الجواهري)، إلى شاعر من بلاد النيل، أجيالُ سيدني غنّت قوافيه (رفعت عبيد)، إلى شاعر عراقي، خلع على الحروف مجداً (أحمد الياسري)، وإلى ثلاثة من رُعاة الشعر المحكي، أبدعوا في فن الزجل أيّما إبداع (النقيب جورج أبو أنطون، والياس خليل وأنطون سعاده)، إلى عبقري الزجل اللبناني، مضموناً وصوتاً ملائكياً (زغلول الدامور).. وإلى الأديب النسيب، من الدوحة "البعينية" (أديب البعيني).
... إلى نُخبةٍ من الفنانين، تصدّرت المشهد الفني العربي وقدّموا خدماتٍ جُلّى للفن الأصيل الراقي.. من الفنانة المطربة الخالدة، بنتُ جبل العرب (أسمهان)، إلى من تداولت الألسن أغانيه الثورية وصفّقت لإبداعه في أرجاء الوطن العربي وعلى مسارح العالم (مارسيل خليفة)، إلى الموسيقي المصري المبدع، ذي الأنامل الماسية (مجدي بولس)، وإلى الفنان المصري المتجلِّي في مجال العزف والموسيقى (مجدي الحسيني).
   ... لا شك أن الدخول، في تفاصيل كل شخصية من هذه الشخصيات التي خلّفت بصمات لا تُمحى في سجل الذاكرة العربية، على صعيد النضال السياسي وفي المجالات الفكرية والأدبية والشعرية والفنية، يقتضي منا تسويد عشرات الصفحات، لا يتسع لها المجال في مقاربتنا. وإذا كان لنا الاكتفاء ببعض شواهد، من نصوص هذه السردية، فهي لن تفي بالغرض ، وقد لا تُشبع نهم البعض إلى مزيد! من هنا اكتفينا ببطاقة تعريف موجزة، وليس للقارئ إلاّ العودة إلى "الديوان"، إذْ شتّان بين من يقصدُ البحر ليغبّ منه ما يشاء وبين من يكتفي بقطرات لا تروي عطشاً!
   ... ثمة مسألة، بما يخصّ السرديتين، آنفتي الذكر، لا يمكن أن نضرب عنها صفحاً، إذْ قد يذهب بعض قصيري النظر من النقاد إلى إدراجهما تحت فن المديح، بُغية الانتقاص من قيمتهما الأدبية، من منطلق أن هذا الفن قد نما، وراجت سوقه في البلاطات، واكتسب صفة التكسُّب! هؤلاء النقاد لم يفقهوا المدى الوجودي العميق للفن الذي تنضويان إليه! فأن نمجّد مدينةً أو عاصمة، فذلك من موقع البُعد التاريخي والحضاري والثقافي الذي تشي به.. وأن نمجِّد شخصية، فليس لذات هذه الشخصية، بل للدور الذي أدّته في خدمة الفكر ورفدهِ، وفي خدمة الوطن والأمة، كما في خدمة الإنسانية جمعاء!
 في الخطاب التعبيري... زِدْنا من فُصحاكَ عِشقاً!
" هكذا يجعلك الشعرُ مزروعاً في فضاءات هذا العالم، ويعطيك مفاتيح كل البيوت، ويجعلك نغمةً في إيقاع الكون!"... هي العبارة- الشهادة، التي تضمّنتها الرسالة الثانية التي بعث بها الشاعر نزار قباني إلى صديقه شربل بعيني (31 كانون الثاني 1994)، غداة تكريمه (تكريم القباني)- كما أسلفنا- وفوزه بجائزة جبران العالمية، مثمِّناً فيها دور شاعرنا، لا سيما كلمته في تلك الاحتفالية المشهودة. علماً أن نزاراً، كان قد كتب في رسالته الأولى (1 كانون الأول 1993)، في معرض ثنائه على مكرّميه، في الاحتفالية عينها:".. المبدعون العرب، ينتظرون أن يأتي تكريمهم من الصحراء.. ولكنه يأتي من جهة البحر، فالبحرُ يعرف متى يطرح اللؤلؤ والمرجان والقصائد الزرقاء" .
بقدرِ ما تُؤشِّرُ هاتان العبارتان على امتنانٍ وعرفانٍ بالجميل، بإزاء تلك اللفتة، فهما تمثّلان شهادة، بل قُلْ اعترافاً بأهمية الحركة الأدبية العربية في المغترب الاسترالي بعامة، وتنويهاً بالدور الذي يُؤدّيه شربل بعيني في مسار هذه الحركة، مُتصدّراً الصفوف الأولى، فيستحق لقب "شاعر الغربة" من دون مُنازع! 
هذه المرتبة الأدبية الرفيعة، التي بلغها البعيني، ارتقاها من طريقين: من طريق الشعر بمحكيتِهِ اللبنانية، ومن طريق الشعر بالعربية الفُصحى،  حتى ليحار المرء، وهو يتقصى، عشرات دواوينه، في أيهما كان أكثر تجلّياً، ناهيك عن آثاره النثرية، في مختلف الألوان الأدبية التي طرقها.. كل أولئك بصبرٍ وجلدٍ، قلّ نظيرهما، إذْ كان يحفر جبل شعره بإبرةٍ، ويمضي فيه مُصعِّداً حتى يبلغ قمّته!
في هذا المجال، ليس لنا إلاّ صديقه المهندس الراحل رفيق غنوم، إذْ يُشخِّصْ بدقةٍ سِمة الجلد والتحدي، لدى شاعرنا، خير تشخيص:".. لا يستسلم للمصاعب بسهولة. من هُنا أيضاً، نقدر أن نعرف سرّ تفوّقه على الآخرين، وسرّ امتلاكه لزمام الأمور، وسرّ تغلّبه الدائم على كل من يُهاجمه. إنه صريح العبارة، يُخطّط للفشل، كما يُخطّط للنجاح! ولهذا بقي ناجحاً، كل هذه المدة، وبقي حُسّادُه يلهثون، للتعلّق بأطراف ثوبه، ولو لثوانٍ معدودة، دون جدوى!" 
لا ريب أن ذلك النجاح، الذي حقّقه البعيني، لا سيما في فضاء الشعر، يدين به لأسباب عديدة، في عِدادها، بل في مقدّمتها راهنيةُ الموضوعات التي طرحها، وتضمّنتها جميع دواوينه. فقد راح إلى تطارح القضايا اللصيقة بهموم وطنه وشعبه، إلى شؤون الأمة وشجونها، فكان له في كل "عُرس" من هذه المسائل "قرص"، وأيَّ قرص! 
وإلى هذا العامل الأساسي، فقد كان للخطاب التعبيري، الذي صبَّ فيه خطاب المعنى، أثر كبيرٌ بالارتقاء بنتاجه الأدبي، شعراً ونثراً، ولتكون لهذا النتاج سيرورةٌ، في المهجر وفي البلاد العربية، حيث نسج شاعرنا علاقاتٍ وثيقة مع كبار الشعراء وعمالقة الأدب، في مشرقنا العربي، وكان- إذا صحّ القول- سفير العرب الأدبي "فوق العادة" في المغترب الاسترالي، وليغدو منزله محجّةً لكل أديبٍ قادم إليه من الشرق!
... وإذْ عرّجنا، في كتبِهِ،التي قاربنا، من ديوان "أحبُّكِ"، إلى ديوانه "مجانين"، عبوراً إلى كتاب د. بهية أبو حمد، حول أدب شاعرنا "شربل بعيني منارة الحرف".. وإذْ تقصّينا، في هذه الكتب ثلاثتها، خطابه التعبيري المترجّح بين المحكية وبين العربية الفُصحى، فإننا في " نجمة الشعر"، الذي أفرده للفصحى، سنستجلي خطاب الفُصحى من حيث مرتكزاته وعلاماته الفارقة، بما يجعله أحد " النزاريين"- وهو شرفٌ يدّعيه!- إذْ ما فتئ شاعرنا يرى إلى " معلّمه"، بل أحد مُلهميه الكبار، وقد أمسك بيده ليدلّه على طريق الشعر الحلال، وكان خير قدوة!
.. في تقصّينا لغة البعيني الشعرية، تستوقفنا الميزات الآتية:
أولاً- لقد غدت لغته الرحِمَ التي سوّر نفسه داخلها، لا انغلاقاً، ولكن مخافة أن تتسرّب إليها عناصر الفساد، فراح ينسج من أبجديتها تلك القصائد المبدعة! وإذْ شكّلت اللغة وطناً له، فقد كان انزياحٌ لديه، عبر عملية مركبة خلاّقة، من اللغة الوطن، إلى اللغة رحِماً، إلى اللغة ولاّدةً.. فإلى اللغة شعراً! 
.. إنه ذلك التماهي بين جسد القصيدة- بما هو خطاب تعبيري- بكل ما يكتنز هذا الخطاب من جمالات، وبين خطاب المعاني، دفينة هذا الجسد الحيّ.. وكل من الخطابين، يخلع على قرينِهِ ما يمتلك من عناصر القوة والبهاء، فلا يُدرى أيُّ الخطابين عالٌّ قرينَه، وأيٌّ الخطابين هو المعلول عن قرينه!
هكذا طفق خطاب المعنى وخطاب المبنى، في "نجمة الشعر" يتواكبان مسيرةً، جنباً إلى جنب، بل ينتسجان في بعضهما بعضاً، كما في أكثر الدواوين التي نظمها بعربية "نزارية" فُصحى!
.. كشواهد على هذا الرقي معنىً، حيث يتواكب لغةً وتعبيراً، مع أرقى ما يصل إليه التعبير.. وكل ذلك من "نجمة الشعر" ، لنا أن نقرأ ونتبصّر! :
- " لن يُقال الهرُّ أضحى أسداً/  ولو اختالَ بجلدِ الأسدِ/ كم شريفٍ خلتُهُ أمثولةً/ كان ذئباً خلف بابٍ موصدِ/ جسدُ الأنثى إذا عرّيتَهُ/ لن ترى فيه جمالَ الجسد!" (نجمة الشعر).
- فإلى الحكم المتتالية، التي تحفل بها هذه الأبيات الثلاثة، يبعث بها شاعرنا لتكون موضع اعتبار... إلى جمالية التعبير وسهولته ورقته، كما الإيقاع الرائع لبحر المديد (فاعلاتن فاعلن فاعلاتن)- وهو قرين بحر الرمل... كل أولئك يُثبت، بما لا يدع مجالاً لجدل، بأن البعيني يتفوّق على نفسه معاني، كما يتفوّق لغة شعرية، من كُتَّاب اللسان العربي المُبين!
- وكمثال آخر، بل كمثالين "قصيدة: إلى أمي" و"قصيدة: دعوة أم"، فهما لا تقلاّن، بكل أبياتهما، قدرةً تعبيرية وعمق معانٍ، وتعضدهما لغة آسرة، هي أفضلُ ما يُقال في ذينك الموقفين لأم مفجوعة بارتحال الأبناء عن مسقطهم، فتسودُّ الدُنيا في وجهها، وتربَّدُ أجواءُ نفسها.. إلى تلك الانسيابية، التي لطالما توقفنا عندها، وغدت "ماركة مسجّلة" حصرية لدى البعيني!
ثانياً- لقد نمَّ شاعرنا، في "نجمة الشعر" عن مُتضلِّع من لغة الضاد، فكان ذلك المتحكِّم بقيادها! ومما يلفت أن غربته الاسترالية المديدة، التي استغرقت  حتى اليوم اثنتين وخمسين سنة، لم تُؤثّر سلباً على سلامة فُصحاه، وجودة الصياغة لديه، ومتانة السبك. ولعل ممارسته التدريس في " معهد سيدة لبنان سيدني"، لسنوات عديدة، أبقته على تماس يومي مع لغته الأم، وعملت على تطويرها، وذلك من منطلق أن اللغة تقوى بالمران والمداومة على استعمالها. وإلى ذلك نمّ شاعرنا أيضاً عن تضلّع، في علم العروض، وهي مسألةٌ أعرناها أهميةً، وفصّلنا فيها لدى مراجعتنا ديوانه "أحبكِ".. إلى إلمامٍ بعلوم البلاغة والبيان والبديع، فجاءنا بأربع وأربعين قصيدة، هي من نجوم شعره، تنضح غالبيتُها بأرقى المضامين وأرقّ أساليب التعبير وأبهاها!
ثالثاً- لقد كان لتركيبة شاعرنا النفسية أثرٌ بيِّنٌ في خطابه الأسلوبي التعبيري. فمن مراجعتنا لباكورة دواوينه الشعرية "مراهقة" (1968)، وقد باح به، وهو ابن سبع عشرة سنة، نلمس تلك النزعة "العُنفية" التي تستبدُّ به، فطفقَ يُفجِّرها في قصائد تنتمي إلى الغزل الشهوي الشبقي الإباحي!
ولقد رصد الأديب ميشال حديِّد، واضع مقدمة (مراهقة)، هذه الخاصّية، إذْ يقول:" إن شعر شربل بعيني يبقى ثرثرة متى أفرغناهُ من ثوريتِهِ الجامحة الملتهبة!"، وكان حديِّد قد توقف ملياً عند تلك النزعة الشهوية، لدى شاعرنا.
.. من بابٍ آخر، نرى أن شاعرنا، إذْ يتلبَّسُ الشخصية الزغرتاوية، اكتساباً، فهي تتجسّد، عَبْرَ سرعة الإثارة، وإبداء ردات فعل غير محسوبة.. هو ما يدفعه إلى مواقف تتسم بالعنف، لا سيما في مواضع المواجهة مع الزعامات والطبقة السياسية الفاسدة.. 
وثمة تعليلٌ آخر، لا يقل أهميةً، ذلك أن عُنفه هو صرخة المشرّد الذي يعيش قهر الغُربة، وهو قهرٌ لا يُبارحه، بل يأكل كل يوم من عمره!... كل أولئك- إلى نهجه النزاري الذي يتسم به، في غير دواوين الغزل بمواقف عُنفية متهوّرة- راح ينسحبُ على لغتِهِ ، ذلك أن اللغة، في جانب كبير منها، تنطبع بأحوال النفس، بل هي لسانُ حالها الأمين!
ذلك البعيني، إذْ شئنا "تفييشَهُ"، فهو نزاري النهج، "جُبراني" الثورة! 
.. مع كل هذه الثورة "النزارية- الجبرانية" ، فإن شاعرنا- كما معلمه نزار- يذوبُ ولغته رقةً، حتى يكادا أن ينفلقا، من منطلق أن لكل مقام مقالاً.. وكثيرة هي الشواهد التي يمكنُ استلالها والتمثل بها من هذا الديوان! 
رابعاً- في الصور المبتكرة والمشهديات غير المسبوقة، حدِّث ولا حرج عن براعة الشاعر، الذي أوتي قدرة عجيبة في اجتراح صور وتعابير، غير معهودة لدى كثيرين من الشعراء، مما يُؤشِّر على خيال خلاّق، لا يتوفّر إلا لمن كان على حظٍ عظيم من شفافية رؤيا... إلى ثقافة واسعة، مما جعله يشعر صوراً (أي يقول الشعر صوراً)! كأننا بكل بيت أو مجموعة أبيات من شعره لوحة، تنضاف إلى سائر لوحات القصيدة، ولنغدُوَ أحياناً أمام معرض صور متناسقة، ترتصفُ إلى جانب بعضها البعض، في مشهدية أو مشهديات جدّ معبِّرة! 
.. في تمثُّلنا بمجموعةٍ من ذلك الإبداع التصويري/ المشهدي، نتخيّر هذه الشواهد النموذجية:
- " في رُبى لبنان روّضتُ المدى/ بعدما خطت ثلوجي موردي" (نجمة الشعر).. فالثلوج هي التي تؤشِّر على مسيرته، وذلك من دوس أقدامه عليها، عابراً إلى وطنه ليروِّض المدى!.. والمدى معنويٌ، لا يمكنُ القبضَ عليه، فكيف بعملية ترويضه؟ سَلْ شربل بعيني وأنداده من المبدعين، فيفيدوك بما يفعلون في هذا المقام! 
- عن لقائه بيروت، الذي يرتقبه بفارغ الصبر، فلننعم البصر في هذه الصورة الشعرية المتجاوزة إلى ما وراء المعنى الحسّي:" تحنو إلى لمس النجوم أناملي/ هل في الفضاء يكون أوّل موعِدِ؟" (بيروت).. هل يُريد شاعرنا أن يعرج وحبيبته إلى السماء ، لترتيب هذا اللقاء الموعود، وليكونا على مقربةٍ من سُدرة المنتهى؟!
- " كل المدائن ضيّعت عنوانها/ إلاّكِ، يا بيروت، يا وشْمَ اليدِ"(بيروت) هل ثمة صورة أكثر تعبيراً، تستطيع أن تُجسِّدَ ارتباط شاعرنا بعاصمة موطنه الأم، بيروت أم الدُنيا، إذ يضعها وشماً على يده، تلازمه، كدليلٍ دامغٍ على حبه لهذه المدينة؟!
- وعن هذه المشهدية البديعة، التي تجتاحُها "مراعاة نظير"- كبابٍ من ابواب البديع المعنوي- ولتضعنا أمام مجموعة صورٍ، تتكامل في ما بينها ، لتخلص إلى المعنى المراد والأظهر تعبيراً:" الموجُ عاتٍ، والشراعُ أنا/ من غيرُها تشتاقها سُفُني" (دُبي).
- .. وما أجملها صورة، حين تتدفق بغداد في مفاصل الشاعر، وهو يخبرنا عن حكاية عشقه مع عاصمة الرشيد، هي حكايةٌ من عالم الأساطير: "أحببتُ وجهكِ.. والغرامُ حكاية/ مثل الدماءِ تدفقتْ بمفاصلي" (بغداد) الخ... 
... أما بعد.. وبعد كل ما قيل وما قد يُقال.. يبقى شاعرنا البعيني أحد حُرّاس الشعر العمودي، في المغترب الأسترالي، ومن الحرصاء الأشداء على لغة الضاد، كما من أعاظم أركان المحكية اللبنانية المشوبة بما ينضوي إليها من فنون تراثية شعبية متعدّدة! وسواءٌ أكَتَبَ بالمحكية أم بالعربية الفُصحى، فهو المُجيد في اللغتين، وهو شاعرُ قضية، شعره "غائي" مُلتزم، من دون أدلجة، يمضي به إلى آخر الشوط، وهو يتنكَّب هم وطنه وأمته! وإذا كان قد بلغ شأواً بعيداً في فُصحاه، فإن محافظتهِ على "محليّتِهِ"، بل على الوشائج التي تربطه بوطنه لبنان وبني قومه وأبناء جلدتِهِ، تُسجّل له ولا تُسجّلُ عليه، ذلك أن " من ينكر أصله، لا أصل له!".. وأعظم الأدباء هم الذين حافظوا على هذه المحلية "الوطنية"، وإن أمضوا ردحاً طويلاً من عمرهم في بلادٍ غريبة!
... إذا كان ثمة ما يزينُ " نجمة الشعر"، ويُضفي عليه بعضاً من رونق، فهو يتمثّل في إبداع الفنانة التشكيلية رندى بعيني، التي صمّمت رسم الغلاف الخارجي، ودسَّت، من جميل أناملها، اثني عشر رسماً بين صفحات الديوان، مُستوحاة من الطبيعة المطبوعة والطبيعة المصنوعة!... ولعلّ الرسم الأخير، بحسب خبرتنا الفنية المتواضعة، ينتمي إلى التشكيلية الحروفية.
.. هكذا، يخرج الديوان إلى النور " بعينيّاً" صِرفاً: قصائد ورسوماً، إلى غلاف خلفي، تحتله إحدى كبيرات "البعاينة"، والدة شاعرنا- رحمها الله- تغمرها السعادة، إذْ تُشارك شربل، وهو يحمل بيده درعاً تكريمية، هي من أوائل الدروع التي حصدها، في مسيرته الأدبية الظافرة!
**
 الحواشــي:

* ديوان بالعربية الفُصحى للشاعر شربل بعيني، يضم قصائد مختارة من بعض دواوينه، الغلاف والرسوم الداخلية للفنانة رندى بعيني، صدر في سيدني (أستراليا) 2020.

[1] - راجع كتاب "أجمل ما قيل بأدب شربل بعيني" للمهندس الراحل رفيق غنوم، منشور على صفحة شربل بعيني على الفيس- بوك، بمناسبة الذكرى الثانية والعشرين لرحيل الشاعر نزار قباني (كان الدخول على الصفحة في 2 أيار 2020).

[2] - " أجمل ما قيل بأدب شربل بعيني"، مرجع سابق، (منشور في مجلة " ليلى"- سيدني، العدد 33 ، تموز 1998، ومنقول عن صفحة شربل بعيني على الفيسبوك- الدخول 2/5/2020).

[3] -  راجع، هدى الصباغ، حديث نشرته جريدة البيرق (الاسترالية)، 1986، العدد الرابع، منقول من كتاب المهندس رفيق غنوم " أجمل ما قيل بأدب شربل بعيني".

[4] -  راجع، جميل الدويهي "الأشعار الشعبية اللبنانية/ لمحة عامة" ، (منبر عكاظ)، (موقع Farah news on line: الدخول عليه 5/5/2020)

[5] - محمد علي شمس الدين، من مقاربة كتاب "أعلام الشعر العامي في لبنان" للكاتب د. ميشال خليل جحا، عنوان المقاربة:" الشعر اللبناني بالعامية هناك، حيث تخشخش أصابع الحياة"، (على صفحة الشاعر شمس الدين، على الفيس بوك، الدخول إلى الصفحة في 6/5/2020).

[6] - مارون عبود، "الشعر العامي"، دار مارون عبود، بيروت، 1960، ص 63(منقول عن صفحة محمد علي شمس الدين، آنفة الذكر).

[7]  - راجع لطفي حداد، "خواطر في الأدب العربي المهجري المعاصر"، على موقع Syrianstory ( تم الدخول إليه في 2/5/2020).

[8]  - راجع، "أجمل ما قيل بأدب شربل بعيني"، مرجع سابق.

[9]  - راجع، مصطفى الحلوة، "مقابسات زُريقية بين شاعر الفيحاء سابا زريق وسابا الحفيد"، صادر عن "مؤسسة شاعر الفيحاء سابا زريق الثقافية"، ط 2016، ص 95.

[10] - راجع، "الآثار الكاملة لشاعر الفيحاء سابا زريق"، طبعة أولى 2012، من دون دار نشر، إعداد د. سابا قيصر زريق، جزء 2، ص ص : 96- 98).

[11]  - راجع، محمدو لحبيب، "جيكور.. قرية نبتت من جرح السيّاب" ، مقال على (موقع "ملقى الخليج الثقافي" khaleej.ae الدخول : 6/5/2020.

[12]  - راجع ، منصف الوهايبي، "شعرية تمجيد بلاغة المدن"، (موقع مجلة نزوى الإلكتروني 2009، De nizwa.com، الدخول 30/4/2020).

[13]  - راجع، الرسالتان منشورتان في مجلة ليلى (استراليا)، العدد 33، تموز 1998.

[14]  - راجع، رفيق غنوم، مرجع سابق.
**
ـ5ـ
خماسيّات حبّ"* شهادةٌ للمحكيةِ شعراً.. لا تقبلُ الدحض!

مدخل/ الحب – العشق من "طوق الحمامة".. إلى "خماسيات حب". 
   "الحبُّ أوَّلُهُ هزل وآخرهُ جِدّ، دقّت معانيه لجلالتها عن أن تُوصف، فلا تُدركُ حقيقتُها إلاّ بالمعاناة (...) والحب- أعزّكَ الله- داءٌ عياء، وفيه الدواءُ منه، على قدرِ المعاناة، وسقامٌ مُستلذٌ، وعلّةٌ مُشتهاة (...) ولقد علمتُ فتىً من بعض معارفي، قد وَحَلَ في الحبّ وتورّط في حبائلهِ، وأضرَّ به الوجدُ، وأنصبَهُ الدنف (...) وما كان دعاؤه إلاّ بالوصل والتمكُّن ممّن يُحبّ، على عظيم بلائه وطويل همِّه، فما الظنُّ بسقيمٍ لا يُريدُ فَقْدَ سقمه؟! (...) وفي مثلِهِ اقول: واستلذُّ بلائي فيك يا أملي/ ولستُ عنك مدى الأيام انصرفُ/ إنْ قيل لي تتسلّى عن مودّتِهِ/ فما جوابي إلاّ اللامُ والألِفُ".
   هي شذراتٌ بيِّناتٌ، تدورُ حول توصيف الحبّ ورصد بعضٍ من أعراضِهِ- حُلوِها ومُرِّها- مُستعرضةً حالة شابٍ غاص في وحل الحب وعلق في شباكِهِ! وعلى رُغم حالتِهِ التعِسَة، إذْ يستبدُّ به الشوق ويُضنيه هجرُ الحبيبة، يدعو الله كي يعود عهدُ الوصال! كأننا بهذا العاشق، يرتضي لنفسه المزيد من عذاب الحب، فتكون حبيبتُهُ دواءَهُ، وهي أصل دائه! وإن قيل له: ستسلوها مع الأيام، كان الرفض جوابه! 
  هي شذراتٌ ، بتوقيع أحد كبار العلماء العرب القُدامى، ابن حزم الأندلسي القرطبي (994- 1064م)، اقتطفناها من مؤلَّفِهِ "طوق الحمامة في الأُلفة والأُلاّف"، الذي يُرى إليه أحد أبرز المؤلفات/ المصادر، التي أنتجها الفكر العربي- كما العالمي- في مُقاربة أطروحة الحب والعشق، بل هو موسوعةٌ، لا بديل من الرجوع إليها لمن يبتغي البحث في العشق والتملِّي من أبعاده كافة! 
    وإذْ يُعرِّجُ ابن حزم، عبر فصول هذا الكتاب (عددها ثلاثون) على علامات الحب، فإننا نتخيَّرُ بعضها، لا بهدف التوسعة لهذا الكتاب واستعراض الآراء التي تضّمنها، بل لنُفيدَ منها في مقاربتنا أطروحة الحب لدى شربل بعيني، وفي استكناه جنة العشق والمتاهات التي يلجُها شاعرنا، بما يجعل العبور إلى بحثنا مؤسَّساً على مرتكزاتٍ صلبة، ذات سمات طاعنةٍ، في زمن البشرية!
   هكذا يغدو "طوق الحمامة" بوصلتنا التي نستعينها في الكشف عن المسائل التي طرقها البعيني، وهو يخوض معمعة العشق، على مدى خمسة عقود، مدجَّجاً بأشدّ أسلحة العشق فتكاً، ومُتفنناً في طريقة استعمالها!
   ولسوف يتحصّل لنا، في مقاربتنا أطروحتي العشق، لدى ابن حزم والبعيني أن النفس الإنسانية واحدة، والمشاعر متماثلة، والإنسان المفطور على الحب هو هو، على مرّ العصور.. يتغيَّر منه المظهر ويثبُتُ الجوهر.. تتبدّل القشور ويبقى  اللُباب! 
     أجل! للحبّ علامات، كما يرصدها العالم الأندلسي: "أوّلُها إدمانُ النظر، والعينُ بابُ النفسِ الشارع (أي المفتوح)، وهي المنقّبة عن سرائرها، والمعرّفة عن بواطنها (..)، ومنها الإسراع بالسير نحو المكان الذي يكونُ فيه (أي الحبيب)، والتعمُّد للقعودِ بقربه، والاستهانة بكل خَطْب جليل داعٍ إلى مفارقته (..) ومن علاماته ومشاهده الظاهرة لكل بصير: الانبساط الكثير الزائد في المكان الضيّق، والتضايق في المكان الواسع (...) والتعمُّد لمَسِّ اليد عند المحادثة ولمس ما أمكن من الأعضاء الظاهرة، وشرب فضلةِ ما أبقى المحبوبُ في الإناء (...) نجدُ المُحِبَّين، إذا تكافيا في المحبة وتأكدت بينهما تأكّداً شديداً، كثرَ تَهاجرهما بغير معنى وتضادهما في القولِ تعمُّداً (...) فلا تلبث أن تراهما قد عادا إلى أجمل الصُحبة، وأُهدِرت المعاتبة، وسقط الخلاف (...) والسهرُ من أعراض المحبين، وقد أكثر الشعراء في وصفِهِ، وحكوا أنهم رُعاة الكواكب وواصفو طولِ الليل (...) ومن أعراضه الجزع الشديد والحسرة (...) ومن علاماته أنك ترى المحبّ يُحبُّ أهل محبوبه (...) والبكاء من علامات المحب، ولكن يتفاضلون فيه، فمنهم غزير الدمع (...) ومنهم جَمُودُ العين، عديم الدمع (...) ويعرض في الحب سوءُ الظنّ واتهام كل كلمة من أحدهما وتوجيهها إلى غير وجهها، وهذا أصل العتاب لدى المحبين (...) ومن آياتِهِ مراعاة المحب لمحبوبه، وحفظه لكل ما يقع منه" .. وعن آليات عمل العشق وأدواته- ومن ابن حزم أيضاً- فإن "الحواس الأربع أبوابٌ إلى القلب ومنافذُ نحو النفس. والعين أبلغها وأصحّها دلالةً وأوعاها عملاً" .. كأننا بإبن حزم يتبنّى نظرية المعرفة، لدى الفيلسوف اليوناني أرسطو، فحواها: مَن لا يُحسُّ حِسّاً لا يعقلُ عقلاً!
     إنزياحاً بهذه الشذرات، بل المطالعة في العشق إلى "خماسيات حب"، نجدُنا بإزاء مطالعة، من لدن شاعرنا، لا تخرج عن الأطر العامة لما تطارحه ابن حزم، في "طوق الحمامة"، مع فروقات لا يُعتدُّ بها. وإذْ نُلملم من بعض "خماسياته" ما يُؤشِّرُ على الحب: تعريفاً وسماتٍ وتمظهراتٍ وتداعيات، نخلصُ إلى المشهديات الآتية: 
  -  قديماً قيل: "الجنون فنون"! وإذا كان العشق يُدرجُ تحت الجنون، فشاهدُنا أن كثيرين من الشعراء الذين عانوا بلاء الحب، عُرفوا بالشعراء المجانين، وقد امتلأت كتب الأدب العربي بحكاياتهم وسِيرهم، ورائدهم قيس بن الملوح الملقب بمجنون ليلى.. 
   في هذا المجال لا يخرج  شربل بعيني عن سُكَّة هذا التوصيف، إذْ كابدَ بعضاً من سكرات العشق وجنونه:
تأكَّدتْ إنّو الحبّْ نصُّو خْواتْ!
 ... إثرَ مراجعة للعلاقة التي تربطه بحبيبتِهِ، يُعلن موت الحب، وقد تباعدت المسافات بينهما، وتبدّدت مشاويره واللقاءات، ولم يعُدْ ليأتي على ذكرها، بل راح إلى شطبها من ذاكرته! (خماسية: خوات).
   وإلى ذلك "الخواتْ"، فإنه قد يُفقدُ العاشق إحساسه، بل "يُسطّلُهُ"، معطّلاً قدرته على البوح، فلا ينبس ببنت شفة، لا كلاماً ولا غناءً، إذْ يُطلُّ عليه وجه محبوبته: 
حابِبْ تاغنِّي.. بسّْ ما فيِّي
صوتي إنسرَقْ.. لا تضحكي عليِّي
لمّن قبالي نور وجِّكْ طلّْ
ما قدرتْ قلِّكْ: يا صباحْ الفلّ
ولا قدرتْ رندحلِكْ شي غنِّيهْ       (غنِّيه).
    شبيهٌ بحال شاعرنا (حاشاه!) ما يُحكى عمّا يمكن أن يحصل مع عريسٍ، "ليلة الدخلة"، إذْ تتعطل لديه قدرته الجنسية، حين تدهمه، ما تدعوه العامة، "فرحة" (أو تسطيلة)! ساعتها ليس له من علاجٍ سوى سوقه إلى أحد المشايخ/ المشعوذين، كي يفكَّ "فرحته" لقاء بدلٍ مالي، وتعود غريزته إلى وضعها الطبيعي!
    ولكي تغدو دُنيا المحبين، في أحسن حالاتها، لا بد للحبيب (الشاعر) أن يُثبتَ معمودية حبّه، بل إيمانه المتأجج، فيذوب فوق صدرِ الحبيبة!: 
وسْمِعِتْ صوتِكْ قال: يا عيوني
الدنيي خرابْ بدونك ودوني
قمة إيمانكْ فوق صدري تدوبْ      (توبه).
   الحبُّ لا يعدِلُهُ شيء! فأنْ يغفو الشاعر في حضن الحبيبة الدافئ، وتجهزُ شفاهها على شفاهه، فهو مالكٌ ثروة لا تُضاهيها كنوز الذهب: 
لو خيّروني بين مال الكون
وغفوه زغيره بحضنك الدافي
المال رح بيروح.. إنْتي هونْ
حَدِّكْ بشوفْ السما بلا لونْ
كلّْ ما شفافِكْ تاكلْ شفافي     (إنتي هون).
   في هكذا أجواء حميمة، تغدو المحبوبة، في عيني شاعرنا، لحن أغنية ودموع عينيه.. وخارج أبجدية الشعر والحب لا تُقرأ الحبيبة!: 
بالشعر صوتي لحنْ غنيّهْ
وبالحبّْ إنتي دموع عينيِّي
وغير هيكْ صعبِهْ تنقرا حروفك!        (مرجله).
    ولن يكون حبٌّ حقيقي، ولن تقوى أواصره ما لم يكن خصامٌ وزعلٌ بين الحبيبين! وإذْ لا تنفع أيْ لغة في استرضاء الحبيبة، فليس للشاعر سوى القبل يطبعها على خدّيها، فنِعمت من لغة!: 
زعلتي.. وما بعرف كيف هدّيكي
بأيّا لغات الأرض احكيكي
بالعربي ما بتفهمي عليِّي
وبالإنكليزي بعرفْ شويّهْ
صفَّيت بالبوساتْ راضيكي!     (لغات الأرض).
   وعلى رُغم كل ألوان الخصام، لن تكونَ قطيعةٌ باتَّةٌ، فثمة رجعةٌ إلى الحبيبة، ولو علَّقت مشنقة الشاعر: 
طيِّبْ.. قوليلي بسّْ شو بدِّكْ
مهما بعِدتْ.. رَحْ إرجع لحدِّكْ
تا تعلقي للقلب مشنقتو       (مشنقه).
   بإزاء هذا الموقف، ومن موقع الاعتزاز، فإن الحبيبة لا تستغرب ما يرتضيه الشاعر من سوء مصير، فهي تعرف أنه يعنيها، في كل ما باح به شعراً، وأنه لم يعشق سواها.. وتكريساً لهذا الحب، المستمكن منه، تستحلفه باسم الحب، كي يُعلّق صورتها في قلبه: 
بحلّف بحبَّكْ.. كل شي بتألِّفو
بحروف اسمي بسّْ عم بتغلَّفو
وجوّاتْ قلبك صورتي عِلَّقتْ      (قالت).
   وإذا كان للحب فلسفته في مقاربة الزمن، فإن العُمر لا يُقاس بعدد السنين، بل بنبض القلب، الذي يُؤذنُ وحده بالحيوية والشباب. من هنا ترفض الحبيبة ما ذهب إليه شاعرنا، وهو ينعتُ نفسه "بالختيار"، فتدعوه إلى أن يُحبَّها ويُقلع عن ترداد "معزوفته" الممجوجة: 
لا تعشقي ختيار!.. قلتيلي!.. 
بتضلّْ تحكيلي هـَ المتيلِهْ؟!
بحبَّكْ أنا.. والعمرْ دقةْ قلبْ
ضحكاتٌ حلوه مع قصيدة حبّْ
وْلَكْ حِبّني.. ولا تربح جْميلِهْ        (متيله).
    في مقلب آخر، خارج نطاق الحب، بصيغتِهِ المتعفِّفة، وترجمةً "عملانية" له: تقبيلاً ودغدغةً وضمّاً وشمّاً، يجبهُ شاعرنا حبيبته بحجةٍ "مقنعة"، إذْ لولا التواصل جنسياً بين أبويها، ما كانت لتُبصر النور!: 
الحب بوسِه، ودغدغهْ، وعناقْ
ولو ما أبوكي للجنس مشتاقْ
كنتي بقيتي بـِ بطن امِّك      (جنس).
   ولعلّ في إشهار الحب وإعلانه على الملأ ما يضعُ الأمور في نصابها الصحيح، كون المحبوبة هي أجمل ما في حياته: 
صرتي بحياتي أجمل متيله
عم أقرِّيا للناس.. صلّيلي
تا ضلّْ إقرا.. وإنغرِمْ فيكي       (مين إنتي؟).
   واستتباعاً، فإن الحب ينفحُ الشاعر بهجةً وسعادةً ويزيدُ سنيّ عمره: 
ضلّي اضحكي تا تزيد إيّامي
بيكفِّي القلب بـ شوفتِكْ مسرورْ
وعمْ يفرش الطرقات أحلى زهورْ      (ضلِّي ضحكي).
   وإلى ذلك، فإن الحبَّ يمنح شاعرنا شجاعةً، فيُبادرُ، غير هيّابٍ، إلى رؤيتها متى أراد، ولا أحدَ بقادرٍ على منعه!: 
ما في حدا يتمرجَلْ عليِّي
ساعةْ ما بدّي شوفِكْ بشوفِكْ      (مرجَله).
   انطلاقاً من امتلاك المحب (الشاعر) هذه الشجاعة، مشفوعةً بأريحية لافتة، فهو يُضحِّي في سبيل المحبوبة بالغالي والنفيس، وهي ما فتئت مُتربعةً فوق الصدر وإلى جانب القلب.. فأعظِمْ من مقامٍ رفيع: 
كل شي بيرخَصْ.. بسّْ تا تكوني
فوق الصدر، حدّ القلب، قونِهْ
وقدَّملِكْ بهـ العيد، عينيّيِ!       (عيديِّهْ).
   وإلى العينين، تطلبهما الحبيبة، فلها القلبُ أيضاً وما بقي من عمره! : 
كيف بدِّي كيفْ إرضيكي
وكلّْ السعاده معلّقَهْ فيكي
بقدِّملِكْ العينين.. بتقولي:
بدِّي القلب.. جوّا القلب جُولي
وهللّي بقي من العمر إعطيكي      (بدِّي القلب).
   في غمرةِ سعادة المحبوبة، وإذْ "يُزكزكُ" الشاعر خصرها، فتصيح: من الضحك رَحْ موتْ"، فيُجيب: 
بقلّك أنا: قلبي إلك تابوتْ
من دونك الدقّات ما بتمشي!
هكذا، هي التي تُوقِّعُ نبضات قلبه، وتُبقيه على قيد الحياة! (زكزكْه).
   وإذْ يتجادل الحب والإيمان، فثمة جدلُ الحب/ السلام، ذلك أن الحكّام الفاسدين، عديمي الضمير والقلب، لو عاشوا نعيم الحب، ما كانوا ليسلكوا طريق الإجرام، بحق شعوبهم: 
حكّام ما عندن ضميرْ وقلبْ
لو متلنا عاشوا بنعيم الحب
لا أجرموا.. ولا شرّدوا عيالو     (نعيم الحب).. 
   فالحب، ببعده الإنساني الشامل، يعصم صاحبه من كل زلل!
 وعن جدلٍ آخر، لا يقل أهمية، حين يتناوب مسقط الشاعر والحبيبة الأدوار على قلبه، كي يسكناه ويسلبا منه عينيه! ولا عجب، فكلاهما نور من الله قُذِفَ في صدره!: 
مجدليا.. كيف رح قلّلا
إنّي انغرمتْ ببنتْ مجنونِه
سكنتْ بـِ قلبي وسرقت عيوني
هاي ضيعتي، يا بنت، شو بجلاّ
إنتي وهيي نورْ مِنْ أللهْ      (مجدليا).
   مهما صار، ومهما تتقلَّب الأحوال، ستبقى الحبيبة عنواناً كبيراً من عناوين شعره.. ستبقى ساكنةً خياله، ومالكةً عليه قلبه والأحاسيس... وهي باقيةٌ زهرةً معلّقةً على باب داره، كلما دخله ترتسمُ أمام ناظريه: 
لا تفكّري رَحْ تنتهي الأشعارْ
وما عُودْ إتغزَّلْ بـِ عينيكي
بتبقي معي.. كيف ما  خيالي دارْ
ورحْ إرسمكْ زهره عَ بابْ الدارْ
كلّْ ما مرقِتْ.. إتفرَّجْ عليكي      (زهره).
"خماسيات حب"، لوناً شعرياً، وموقع الديوان في مسيرة البعيني العشقية!
مائةٌ وثلاث وخمسون "خماسية"، تنتمي إلى فن الغزل، بشقَّيهِ: المتعفِّف المشوب بشيء من روحانية، والحسِّي الذي ينزع، في بعضٍ من محطات، إلى الشهوانية الشبقية، بمنسوب ليس عالي الوتيرة! 
   إذْ نتتبَّعُ مسيرة شاعرنا، في فن الغزل وفي المرأة، على مدى اثنين وخمسين عاماً، تستوقفنا ثلاث محطاتٍ، أُولاهما، استُهلت في العام 1968، مع "مراهقه"، الديوان الصارخ جنسانيةً وإغراقاً في الشبقية، حتى حدود الفحش - وما ذلك إلا قولُ شاعر "والشعراء يتَّبعُهُم الغاوون، ألم ترَ أنّهم في كل وادٍ يهيمون، وأنَّهم يقولون ما لا يفعلون " (قرآن كريم، سورة الشعراء: 227) - عبوراً إلى ثانية هذه المحطات، مع ديوانه الرائع "معزوفة حب" (1989)، حيث كان إرعواءٌ عن الحميّة الشبقية، مع هدوء مشهود، على جبهةِ عاطفته المشبوبة، إلى جنوح نحو صوفية نُسكية، أضفت ابعاداً من قداسة على الحب وعلى المرأة!.. وانتهاءً بالمحطة الثالثة، مع "خماسيات حب"، الذي نُظّمت قصائده بين عامي 2018 و2020، ولتترجّح هذه القصائد/الخماسيات بين الحب المتعفّف – كما أسلفنا- وبين غزلٍ "متفلّت"، بحدودٍ مقبولة، مع استدخال موضوعات، من وحي العصر وإنجازاته، متمثلةً في جدل الحب ووسائل التواصل الاجتماعي (الفايس بوك والواتساب)، والتوقف مليّاً عند الزمن الكوروني (عشر قصائد/ خماسيات)، الذي تعيش البشرية ويلاته، وكأننا بإزاء حرب عالمية ثالثة ذات سمة بيولوجية!.. كل أولئك يُضفي راهنيةً على النتاج الأدبي، لدى شاعرنا، إلى حداثية مطلوبة، فالأدب هو ابن بيئتِه وعصره، يتفاعل معهما، ويواكبهما على جميع الصُعُد.
   لقد كان للكاتب ميشال حديِّد، الذي قدَّمَ لـِ "مراهقة" (الطبعة الثالثة 1987)، أن يقبض على السِمة الفارقة لهذا الديوان، فذهب إلى القول: "إن الشاعر يتفجّر غرائزياً، ويسترسل في إنزلاقه وراء شهواته العنيفة، حتى يُعلنَ المرأة إلهاً من إثارة ولهوٍ ومجون"، وليُضيف: "ليس في مراهقة أي أثر للحب، ليس فيه سوى الغزل الإباحي، الغزل الجنسي الجارف (..) مراهق يكتب مراهقاتِهِ ومغامراتِهِ الغزلية، بلا حياءٍ أو خوف أو تلعثُم!".
   في مواجهة هذا الديوان، بما احتواه، كان للنقاد والمتزمتين، اجتماعياً ودينياً، أن يرذلوه، إذْ "اعتبروه تجاوزاً خطيراً للقيم الاجتماعية السائدة، وتهديداً مباشراً للجيل الجديد. وقد روّج هؤلاء النقاد لهذا الكتاب، من حيث لا يدرون!"
   إشارةٌ إلى أن الكاتب "حديِّد" يرى أن هذا اللون من الغزل الإباحي، الذي هجره شاعرنا، منذ زمن طويل- كان قد مضى على الطبعة الأولى تسع عشرة سنة- يُشكِّلُ مرحلة هامة من مسيرته الشعرية الطويلة.
   على رغم هجر هذا اللون من الشعر، فإن البعيني، حسبما تحصَّلَ لنا، ما فتئ يحنُّ إلى ذلك الديوان، الذي يرى إليه "بكر أولاده!"..، كما يتوقُ إلى تلك المرحلة المتأججة حيويةً، من مطلع شبابه، فها هو في 25 تموز 2018، وبدعوة من "لقاء الأربعاء"، يحتفل باليوبيل الذهبي لـِ"مراهقة" (1968- 2018). ومما يُؤشِّر على ذلك الحنين الجارف، تلك القصيدة العصماء، التي ألقاها في الاحتفال المشهود: ولِكْ بعدني عايشْ على التذكار.." و"خمسين سنه يا مراهقه/ مرقت كأنّا حُلْم/ (...)/ لا تضحِكْ عليّي/ يا بكر اولادي" (من قصيدة عُمر). ومن قصيدة "ختيار"، التي ضمَّتها الطبعة الجديدة للديوان (2018): "ومِتْلْ الفراشِهْ انتحِرْ بالنارْ/ ختيارْ، يا شربِلْ، صِرتْ ختيارْ!".
   وإذْ نتوقّف عند المحطة الثانية "معزوفة حب" – بطبعتها الأولى 1989- علماً أنها طُبعت مرتين أخريين (2010 و 2016)، فقد راح شربل بعيني يتجّه صوفياً، "مُعربشاً نحو الله"، على ما يقول الكاتب جوزاف بو ملحم، في تصديره الطبعة الأولى.. كما راح "ينقر على أوتار القلب، وعروق التراب المشغول من حنايا الضلوع". وفي موقعةٍ لهذا الديوان، يتساءل بو ملحم: "أهي جهلةُ الأربعين مقبلة باكراً؟ أم أن الشعر دار دورته الأولى، فجاءت (معزوفة حب) بكر المواسم الآتية، تماماً كما كانت (مراهقة) بكر المواسم الماضية؟"
   بخلاف "مراهقة"، التي سارت على خط واحد، وهي تقطُرُ قصائدها نحو الشهوانية الشبقية، فإن شاعرنا، في "معزوفة حب": "لا يعزف على وتر واحد، فهو مرة شديد الإباحية، برّيّ الغرام (..) وهو مرة أخرى رهباني الهوى، نُسكي اللواعج!".
   في رصدِ "بو ملحم" تلك الخاصية البعينية بشأن المرأة- وهي ظاهرة، كما نراها، تنسحبُ على جميع محبوباته وفي سائر دواوينه- أن "أجمل ما في شعره أن المرأة عنده مرأة، أفلتها من نظرة الرجل الجاهلي"، فهي، والقول له: ".. وتبقى المرأة عنده، في قصائده الطوباوية والماجنة على السواء، نهر طهر وشلاّل عاطفة. لا بل هي أطهرُ من الكتب المقدّسَة".
   وإذا كان يُسجَّل للبعيني نأيُهُ بالمرأة عن خط الجاهليين ومن تبعهم من المقلدين، فإن هذه الخاصية تجمعه مع ابن حزم، العالم المتنوّر (الفاصل الزمني بين الاثنين ما يزيد على ألف عام!)، الذي يُعلن في مقدمة "طوق الحمامة" بأنه سَيُعرض عما اختطّه شعراء الجاهلية في المرأة: ".. ودعني من أخيار الأعراب المتقدمين، فسبيلهم غيرُ سبيلنا، وقد كثُرت الأخبار عنهم، وما مذهبي أن أنضي (أركب) مطيّة سواي ولا أتحلّى بحليٍ مُستعار".
"خماسيات حب".. عندما يلجُ البعيني جنّة العشق.. والمتاهات! 
   في إكبابنا على "خماسيات حب"، حِرصنا على استعراض الخماسيات جميعها، والتمثُّل بعددٍ كبير منها، مما يمنح رؤيتنا صُدقيةً، ولا نُغادر أي تفصيل "غير مملّ"، قد يخدمُ المقاربة التي نعكفُ عليها.
   في القبض على أهم العناوين التي تُؤشّر على مسار شاعرنا، فهو بدخوله عالم المرأة المعشوقة، ولج جنان هذا العالم الغنّاء، كما دَلَفَ إلى متاهاتِهِ، فطفق يتذوّق حلو تلك الجنان، ويتجرّع مرّ المتاهات!.. كانت طريقه مفروشةً بأجمل الورود وأعطرها شذىً، ولكن دون الورود الأشواك.. بل دون جنانِهِ جلجلةٌ من الآلام والدموع والقلق والهواجس!
   وإذْ نُغادر هذا العنوان/البوصلة، إلى مُندرجاتِهِ، نتوقف عند الآتي من المحطات:
أ- في الاعتراف بالحب والجهر به أمام الملأ! 
   "ربما كان من اسباب الكشف (أي الكشف عن الحب) غلبةُ الحبّ وتسوُّر الجهر على الحياء (...) وهذا من أبعد غايات العشق وأقوى تحكّمه على العقل".
   ذلك ما ذهب إليه ابن حزم، بإزاء التحدّي الذي يُواجهه المحب، لجهة الجهر بعشقه، وبجهر محبوبته بهذا العشق. وقد أردف ابن حزم، دعماً لرؤيته هذه، أنه قرأ في بعض أخبار الأعراب "أن نساءهم لا يقنعن ولا يصدّقنَ عشق عاشق لهن، حتى يُشتهر ويكشف حبه، ويُجاهر ويُعلن ويُنوِّه بذكرهن".
   هكذا، كان لشربل بعيني أن يُواجه هذا التحدّي، فراح، غير هيّاب، يُعلن حبه جهراً، لا يُقيم اعتباراً لأهل محبوبته، إذا ما وقفوا في طريق حبهما، لا سيما الأم المتشدِّدة! 
   فهو، إذْ يبعثُ برسالة إلى الأم، عَبْرَ ابنتها، يُفهمها "بالقلم العريض"، أنه لن يرتدَّ عن حبها، ولها أن "تُبلِّط الدنيا"!: 
مش عارِفهْ حبّي أنا عن جدّ
قوليلها عنِّكْ ما رَحْ إرتدّْ
فيها تبلِّطْ هـ الدني كلاّ      (غضب).
   هذه الأم "الرابوق"- إذا جاز القول- تُشكِّل عقبة كأداء في طريق حبه، فهي تُلازم ابنتها، حين يلتقيها، مما يحرم شاعرنا الشمّ والضمّ: 
حدَّ منِّك حطِّتْ الكرسي
(...) 
ع طول حَدِّكْ قاعِدهْ إمِّكْ
وكيف بدِّي شمِّك وضمِّك      (مرسه).
   في موقفٍ غير ودِّي، من هذه الأم المتعنّتة، التي تقف في درب حبّهما مُعرقلةً مساره، يدعوها إلى أن تُسلِّم به وأن تبيعه "سكوتها": 
لازم شوف الضحكه بتمِّكْ
وترضى وتسكتْ عنّي إمِّك
إمِّك عم توقف بـ دربِك      (إمِّكْ).
   وفي تحدٍّ سافر، يدعو محبوبته إلى عدم الخوف من الناس، فهو راغبٌ بتقبيلها، في وضح النهار، كما يرغب في معاقرة خمرة ريقها، فتصبّ له ألف كاس وكأس!: 
ضوِّي اللمبهْ لا تخافي الناسْ
عَ الضوّْ تمِّكْ حابُّو ينباسْ
إنتي إلي ويصيرْ شو ما يصيرْ!    (ريقك خمر).
   كما طفق يدعو حبيبته إلى أن لا تخشى في العشق لومة لائم!: 
وقفتي معي قدّام بابْ البيتْ
وما عزمتيني ع نقطة مي
خفتي الحكي.. من حكيكْ إنسِمَّيْتْ
ومن خوفك إلـ من دون سببْ جنّيتْ
رحْ إقطعْ لساناتْ أهلْ الحيّْ      (خوف)
    فهو، بتعريضِهِ بذلك الخوف الذي حلّ بها، مخافة التشهير من أهل الحي، والتهديد بقطع ألسنتهم.. كلْ أولئك يُشكّل دعوة لها إلى إطِّراح خوفها، فتبادر إلى الجهر بحبها له!
   في هذا المجال، يدعو شاعرنا إلى رفع الصوت عالياً، ومغادرة الخجل، وعدم التهرّب من حبها، فيحضنُ خصرها سرّاً.. بل يدعوها إلى أن تبقى على طبيعتها، إذْ مهما حاولتِ التستُّر، فإن أمر حبها سيُفتضح، عاجلاً أم آجلاً: 
ليش بين الناس حكيك هَمسْ
وبتخجلي.. وبتهربي من اللمسْ
بالسِّرْ إيدي حاضنة خصركْ
لا تمثّلي .. رحْ ينفضحْ أمرِكْ
كذبِهْ زغيره ما بتحجبْ شمس    ( لا تمثَّلي).
   في موقف حاسمٍ، يدعوها إلى إعلان حبها له، بصيغة أقرب ما تكون إلى "الاعتراف"، ولتشفع ذلك بالدعاء له بطول العمر وبمزيدٍ من السعادة: 
قُولي: أنا بحبّو، أنا بريدو
عمرو سعاده ربّنا يزيدو
محظوظ هالشبّ اللي حبّيتي    (محظوظ).
   وفي السياق عينه، فإن المطلوب من الحبيبة أن تكون أكثر من شاعرنا بوحاً بحبها.. فهو يُسرُّ، إذْ تهمسُ في أذنه، بأنه حبيب الروح: 
بتمشي.. وأنا بمشي معِكْ
بتوشوشيني.. بِسْمَعِكْ:
إنتَ حبيب الروح     ( حبيب الروح).
   عَبْرَ نرجسية بادية، يطلبُ شاعرنا إلى محبوبتهِ أن تُغمض عينيها، وأن تحلم وتتمتم، مُفدِّيةً إياه بروحها، وأن يرعاه الله ويحفظه، ولتُعلِن أن الدُنيا لا معنى لها من دونه!: 
غمِّضي عيونك.. تا شوفِكْ نايمه
وعَمْ تحلمي وتمتمي: روحي فِداكْ
تا يحفظكْ الله، يا شربل، صايمِهْ
ومحبتك بالقلبْ فرحهْ دايمهْ
الدنيا شو فيها قُولْ لو كانت بلاك     (صايمه).
   واستزادةً من تلك المواقف، حيث جهر الحبيبة بعشقها، وحيث لا تكون السعادة إلاّ بجانبهِ، وحيث الغرق فيه حتى أُذنيها، فلنسمعها ممجَّدةً! : 
وقلتي: السعادة كلّها حدَّكْ
يا حبيبْ القلبْ مينْ قدَّك
وبتغرقي فيِّي على مهلك        (حبيب القلب).
ب- في ألوان المعاناة.. ولوعة الاشتياق!. 
   (سبحانه تعالى).. القاهر الذي قهر الرجال بمحبتهن (أي محبة النساء)، وإليهنّ الاستكان (أي الخضوع) والارتكان (أي الاعتماد) (...) المذلّ ، الذي أذَلَّ قلوب العاشقين بالفُرقة (الارتحال)، وأحرق كبودهم بنار الوجد، وقدّر عليهم بالذلّ والهوان والمسكنة بالتخضُّع شوقاً إلى الوصال".
   هي المعاناة، بألوانها وأعراضها، لعلها الأشدّ وطأةً على المحبّ، ولتشغَلَ المساحة الأوسع من بوحِهِ! هكذا، على غرار سائر الشعراء، الذين عانوا الأمرّين، في علاقتهم مع محبوباتهم، ها هو شاعرنا، يفرد للمسألة حوالي عشرين "خماسية"، يُعبِّر فيها عن وجعه، جرّاء ما يلقى من عَسَفِ المحبوبة، تتمثَّلُ في تصرّفاتٍ غير سويَّة.. أو تلجأ إلى هُجرانه، أو تُبارح إلى بلدٍ آخر، أو تعودُ من حيث أتت... كل أولئك يُدخل التعاسة إلى قلبه، ويجعله نهباً للهواجس والشكوك!
   لعل، في رأس المعاناة، تلك القطيعة بينهما، فلا يقدر الشاعر أن يلتقيها، فيُكابد حُرقة الاشتياق!.. فهو قد حاول عبثاً: كتب الشعر، فكان غير ذي نفع!. 
    جُنَّ جنونه، فكسَّر القلم ورماه طُعماً للنار، وطفق يُحرق أوراقه: 
معقولْ نحنا هيكْ رحْ نبقى
من دون لقا.. وبقلوبنا الحرقه؟      (بلَّشتّْ جِنّْ).
   إذْ تُغادِرُ الحبيبة إلى بلدٍ آخر، دونَهُ البحر، يأسى الشاعر لارتحالها، فيتمنّى لو أنه يستطيع إدراكها، فيرتمي على بابها، ويفرش لها زنده لتنام عليه!.. ولكن من أسفٍ ، فهو يخاف غدر البحر: 
يا ريتْ فيني أوصَلْ لعندِكْ
واشلْحْ عَ بابِكْ كومةْ سنيني
تنامي عَ زندي وتفرشي زندِكْ
(..) 
بسّْ البحر غدّارْ ما فيني     (يا ريت).
   وإذا كان هجرُ الديار، أو البين، بحسب ابن حزم، هو ما "أبكى الشعراء على المعاهد (الأطلال)، (فهم) أدرّوا على الرسوم الدموع، وسقوا الديار ماء الشوق، وتذكّروا ما قد سلف لهم فيها، فأعولوا وانتحبوا، وأحيتْ الآثار دفين شوقهم، فناحوا وبكوا"... وبإزاء هذا الواقع التعس، كان "لا بد من أن يؤول إلى حدّ السقام والضنى والنحول، وربما أضجعهُ ذلك (أي ألزمه فراش المرض".
   في هذا المجال، يتمنّى شاعرنا لو أنه يستطيع إعادة المحبوبة من السفر، فهي تركت وراءها صورة تجمعهما، فيعيش  على الذكرى، ويتلمّس خيالها الذي يغشاه! ولو قُدِّر له رؤيتها من جديد لأستوضحها ما تُريد، فيُجدِّد العهد الذي مضى: 
يا ريت فيّي من السفرْ ردِّكْ
وقلّكْ: قوليلي بسّْ شو بدّك
تا جدِّد الصورهْ المنسِّيه     (صوره).
   وإذْ سافرت المحبوبة، قاصدةً بيروت، فقد عمّ الظلامُ (سيدني)، وطفقت الصورة التي تركتها لديه، تُبدي حزنها عليه، وحسبت أنه سيموت!.. وعلى رُغم هذه المعاناة، تبقى المحبوبة في مدارِ عينيه، وفي القلب بيروت التي تحتويها!: 
سيدني انطفت وتعتَّمتْ البيوت
(...) 
بالعين إنتي... وبالقلبْ بيروت     (بيروت).
   وبارتحال المحبوبة إلى آخر الكون، فقد ذبُل الورد، الذي تركته  عنده، وكان للزهر أن يفقد عطره، ويتبدّد لونُه: 
ما ضلّ عندي ورد تا شمّو      (عطر).
   عن البعاد، عن الاشتياق، وما يُخلّفان من ألم، لدى شاعرنا، فقد عبَّر عن شوقه لفمها، لعينيها، للخدود، لمسمعها.. ومستكملاً كل حواسِها: 
لإيدين صاروا مع إيديِّي رفاقْ
وليصرخ بأعلى الصوت:
وْلَكْ صدقيني البعد ما بينطاقْ     (الوداع).
    في مجال آخر، من مجالات المعاناة، يبوح الشاعر بقهره، وقد غدا كناطورِ جرار العسل، ولكنه محرومٌ من تذوّقِهِ!: 
يا نحلتي، قلبي أنا مقهور
واقف على جرار العسل ناطور
ومحروم إنّي دوقْ عسلاتِك       (نحله).
   في مشهدية من مشهديات هذه المعاناة، وقد تجاوز الستين، راح إلى "جهلة" هذه المرحلة من العُمر، ولكن لم تعُدْ لتُفيده الخلوات بشيء.. كما كان يصدمُه ما يجري على لسان بعض النسوة من كلامٍ، يُبدينَ فيه شفقة، فينكأن جراح وجعه، وليس له إلاّ العض على هذه الجراح: 
بجرِّب تا رجِّعْ من شبابي شوي
بِسْمَعْ: المسكين كِبْرِ خُطَيْ
بصبغ الشيبهْ.. وبْبلَعْ السكّينْ      (جهلة الستين).
   وكم يأسى شاعرنا، إذْ يرى الشيبَ يدهم شعره، في حين أن الليل يستمدُّ سواده من شعر المحبوبة! وكيف له أن يقرَّ عيناً، وهو يرى الربيع، يزهرُ في عمرها، بينما تشرين يُذبلُ عمره!.. ولكن سَرعان ما يستدرك، فيطمئن المحبوبة بأنه، على رُغم شيخوخته، فهو قادرٌ على أن يُسنَدَ جبلاً (راجع خُماسية: فصل الربيع).
   في إطار تسفيه شاعريته، فقد آذاه ذلك من إحداهن، وهو الذي كتب لعينيها أجمل الأغنيات!: 
حَكْيِكْ إذيني كتيرْ يا فلانِه
قلتي بأنّي شاعر ومشعور
وشعري ع طول مفشكلْ ومكسورْ
وبعدي لهلقّ رابِط لساني       (فلانه).
   كما السيد المسيح- وعُذراً من التشبيه!- يعبُرُ شاعرنا جلجلة الحب، علّه يُحقِّقُ مراده، فإذا  بالمحبوبة الجميلة تكوي قلبه، وتزيده اشتعالاً!  وبسادية مُتشفِّية: 
وبتفرحي بآهات تنهيدي
وبتتركيني ع الدرب مصلوب      (مصلوب).
   وإذْ يُؤلِمُ شاعرَنا كذِبُ المحبوبة ويُبكيه، فلِكونها تُخلِفُ المواعيد، وتدّعي، بل تُقسِمُ بحياته أنها نسيت، وهي مُتناسيةٌ مُتجاهلة!: 
نطرتِكْ بـِ قهوة، صاحبا صيني
حلفتي بحياتي: الموعد نسيتي
لا تحلفيلي.. ولا تحبّيني
صرتي بكذبِك عَمْ تبكّيني      (لا تحلفي).
   من منطلق " شرّ البليّة ما يُضحكُ!" ، قد تبدُرُ من العاشق الولهان تصرفاتٌ ذات خفّة، كأن يمضي نهاره أو بعض ليله، وهو يكمن للمحبوبة تحت شباكها أو على مرمى أمتار من بيتها، علّها تُطلّ فيحظى منها بنظرة أو غمزة!
   هكذا، لم يبرأْ شاعرنا من هذه الممارسات، فإذا به، كطفلٍ صغير، ينتظرها، قاطعاً عليها الدرب: 
تا إلمحِكْ عَمْ ضيِّعْ نهاري
ناطر عَ دربك متلْ طفلْ زغير
وهو! إذْ يفعل، فلأنه:
خايفْ ع بعدِكْ تنطفي ناري
وتدبَلْ مع الأيام أزهاري      (نطره).
   وفي مشهدية مماثلة، يقف تحت شباكها "بطولِهِ"، علّها تفتح شبّاكها المغلق، فيتبادلان النظرات!: 
كِيْفْ بَدِّي إلمحِكْ قولي
وشبّاكِكْ مسكَّرْ يا مسطولِهْ؟
روحي افتحي الشبّاك واستنِّي
تجيكي إشاره تخبَّرِكْ إنِّي
واقفْ تحت شباكِك بطولي       (إشاره).
   تعقيب: حين سلكنا وأقراننا طريق العشق، وعانينا ما عانينا، من الصدّ.. بدرت منّا تصرّفات "صبيانية"، ولطالما كانت تدور بخلدنا تلك العبارة المشتهرة: "يا لطيف ع الحبّ شو بيذِلّْ!". بل كان بعض من عبروا هذه التجربة، يُردِّد على مسامعنا عبارةً أشدّ هُزءاً: "يلّلي إبتليتْ بالغرام بزِّقْ على حالك!".
ج- في التشكّي ... "شيمتُها الغدرُ"!.
   توازياً مع معاناة شاعرنا، وما يكابد من لوعة الاشتياق وحُرقته، فإنه من الطبيعي أن يكون دائم التشكِّي من محبوبتِهِ، التي لا ترعى عهد الحب، فتعمد إلى تصرّفات غير سويَّة، تزرع الشك في نفسه، وتستثير لديه الهواجس!. 
   فمن خُماسية "خيّال"، يذهب إلى أنها تُعرض عنه، ولا تُعيرُهُ اهتماماً – وهو ذلك الخيّال الواقف أمامها "سنكه طقْ!- بل إنها تلتفتُ إلى سواه، مما يُفاقم ألمه، ولتمطِر المحبوب المستجدّ بفيضٍ من ضحكاتها والابتسامات: 
وخيّال واقف حدِّكْ بطولو
كرمال عينِك رقّصْ خيولو
وانتي لغيرو بتشلحي الضحكاتْ!

   وكمْ يُؤلِمُ شاعرَنا حين يُحاول تقبيلَها، فتُعرضُ عنه، وتتركه من  دون التلفُّت إليه، مُعلّلاً ذلك بغنجها ودلالها، ولكنه مُدركٌ، في قرارته، أن الأمر ليس كذلك: 
جرّبتْ بوسِكْ.. بسّْ ما رضيتي
قلبي بيقللّي: البنت غنّوجي
كذّبت حالي وقت ما مشيتي
ومن دون ما تطّلعي قفيتي    (قهّاره).
   وإذْ يقتُلُهُ حبُّها ويفقده عقله، فلأنها تركته وحيداً غارقاً في همومه!  لقد تبدَّلت نظرته إليها.. كان يراها شمساً تعلو الغيوم، وملكة جمال، توّجتها النجوم، وإذا به اليوم يراها بنتاً كاذبة، جرّاء ما بدر منها : 
كِنتْ شوفِك شمسْ فوق غيومْ
ملكةْ جمال متوّجهْ بنجومْ
صرتْ شوفِكْ بنت كِذّابِه        (حظّ).
   في مسار التشكّي، الذي دأب عليه الشاعر، يرقى بفعل محبوبتِهِ إلى حدّ الجريمة! فقد حرص على أن يقدم لها باقات الزهر، تعبيراً عن حُبّه الجارف، فإذا بها لا تردّ التحية بمثلها، فتُحرق ما كتب لها من شعر، وتطرِح الزهر الذي أهداها، فيذبُل.. كأننا بها لم تشفِ غليلها من الغدرِ بهّ!: 
تغزّلتْ فيكي كتير.. ما سألتي
شلحت الزهر كوماتْ قدّامِكْ
أكبر جريمه بالهوى عملتي
حرقتي الشعر والزهر دبّلتي
وما تِعْبِتْ من الغدْر إيّامِكْ       (جريمه).
   ومن وجوه غدرها هروبها منه، تاركةً القلب المحبّ والصدر الذي لطالما احتواها!: 
ليش حتى تهربي منّي
وشوفِك بـِ عيني بنت غدّاره
تركتي القلب والصدر والجنِّه
وكل همِّك تبعدي عنِّي       (بُعد).
   كل هذه السلوكيات السيئة، التي تقترف، من غدرٍ وكذبٍ، وصولاً إلى "النطنطة" من حضن شاب إلى آخر.. ما كانت لتقوم بها لو لم تكن، بحسب الشاعر، ذات قلب قاس كالحجر!. 
   وإذْ يدينُ تصرّفاتها المُشينة هذه، ينصحُ لها بأن تُقلع عنها، فهي لن تصل إلى مُبتغاها، بمعنى أن سبيل الزواج لن يُعبَّدَ أمامها!: 
يا قاسيه.. لو كان عندِك قلبْ
كان القلبْ دلِّك عَ أحبابِكْ
من شبّ بتنطِّي لـ تاني شبّْ
لا تفكّري بتوصّلِكْ هـَ الدربْ
ما بتوصلي.. ولا بينفتِحْ بابِكْ      ( يا قاسيه).
   وإذْ تبدو كما الصخر، لا حرارة تُحرِّك الإحساس لديها، ولا استجابة، لمن يُرضيها، ولو كان الإله، يخلصُ شاعرنا إلى أنّ من يُغرم بها، يعدُّ مجنوناً بحق! كأننا به يدين علاقتهما الغرامية الخائبة: 
مجنون هللي بينغرم فيكي
متل الصخر بدّو يلاقيكي
ما في حرارة تحرِّك الإحساس
وكيف يرضيكي إبنْ هـَ الناسْ
وألله دخيلو صعب يرضيكي      (مجنون).
د- في الشكوك العاصفة.. والغيرة القاتلة!
   ما كان شاعرنا ليتردّى في مهاوي العذاب.. وما كان ليُشارف حدّ الجنون لولا تلك الشكوك التي كانت تعصف به، والغيرة التي تتأكّلُهُ!
   هكذا غدا نهباً للوساوس، تهبُّ عليه من كل حدبٍ وصوب!
   ولم يكن شاعرنا ليُخفي غيرته "المرضيَّة"، فهو يعترف بأنه يغار من ضحكاتها، من رنة هاتفها الخلوي، من مشيتها وظلّها، من ثيابها التي تلتصق، بكامل جسدها.. فيُخيَّل إليه أن هذه الثياب تُعمِلُ فيها تقبيلاً! : 
بغار، أيوه، بغار عَمْ قلِّكْ
من ضحكتِكْ.. من رنة الموبايل
من مشية اللي بيلحقا ظلِّكْ
من قماشْ عم بـِ بوسِّك كِلّكْ
وواقف أنا قبالك ما عندي حَيلْ     (بغار).
   وإذْ يسألها عن تأخّرها أو مماطلتها في اتخاذ قرار حاسم حول ارتباطهما رسمياً (الزواج)، وهو ما فتئ ينتظر ذلك منذ زمن.. فإن هذه المماطلة تُثير ريبته، فلربّما هي مُنشغلةٌ عنه بحبٍّ جديد؟.. ولو صحّ ذلك منها، فهو سيُفجِّر سيوله ويجرفها من هذه الدُنيا!: 
كتير صرلي ناطرِك.. قولي
شو مأخَّرِكْ؟ رحْ إحلفْ بألله
ن كنتي بحبّ جديدْ مشغولِهْ
بطيِّر جنوني.. بفجِّر سيولي
تا إجرفكْ من هـ الدني كلاّ!     (قولي).
   وإذْ يكابد الشاعر وهْم سلبه محبوبته، مُستحضراً ابا البشرية آدم، الذي خرج من الجنة كرمى حوّاء، فهو (أي آدم) كان ليسرق محبوبته، لو دخل بستانها ورأى صدرها المزدان رماناً وكرزاً!: 
آدم إذا بتفّاحتو فرحان
وكرمال حوّا طلَّق الجنّه
شو كان صابو لو دخل بستان
فيه الكرز ع نهود من رمان
مأكّدْ، يا روحي، بيسرقك منّي!       (آدم).
   يمضي شاعرنا قُدُماً في هواجسه، حين يستفسر من "محبوبته" عن رقمه بين المحبين، طالباً إليها ما إذا كان أحدُهم قد سلب منها القلب! على أن ما يُعزِّز هذا الهاجس أنها دأبت في الكذب عليه، منذ خمس سنين... وهو على رُغم ذلك ما زال يُمنِّي النفس بسماع كلمة "أحبُّكَ"، تخرج من فيها!: 
قولي شو رقمي بين المحبِّين
وقولي إذا غيري سرقْ قلبِكْ
مش حاسِسْ بحبِّك أنا.. تخمين
عم تكذبي عليِّي شي خمس سنين
حاببْ تا رَجِّعْ كلمة بحبِّك          (رقم).
   وكم تستبدّ الغيرة بشاعرنا حين يتناهى إليه- عَبْرَ أخي الحبيبة- أن ثمة عريساً تخيّرته الأم لابنتها! وإذا صحّ الخبر، فهو سوف يُجنّ، بل سيُبادر إلى شنق العريس العتيد، ليُزيحه من طريق حبه، ولتقُمْ القيامة بعد ذلك! : 
عندك عريس جديدْ... إمِّكْ حبّتو
وْلِكْ هيك خيِّك قال قدّامي
رح جنّ.. جايي علّقو من رقبتو
من بعد منّي تقوم القيامهْ      (قيامه).
   ومن مشهديات تلك الغيرة ما يلهجُ به الناس حول صُحبتها لأحدهم، مهّدت له السبيل، كي يعتصر منها العسل! ويُحذّرها بأن هذا العريس المزعوم سوف يتركها، مُخلّفاً جراحاً في قلبها!: 
شو هالحكي الـ عم ينحكى عنِّكْ
اسمكْ ع تمّْ الناس مرجُوحَهْ
كنتي معو.. قالوا: وضحك سنِّكْ
من بعد ما يقطفْ عَسَلْ منِّكْ
رح يتركك بالقلب مجروحَهْ     (مجروحه).
   لقد تفاقمت حالة شاعرنا، فطفق يغار من حاله على حاله، مما يؤشِّر- كما اسلفنا- على حالةٍ مَرضِيَّةٍ لديه! فعوضَ أن تغمره السعادة ومحبوبته، ها هو يحترق بنار الغيرة! ومن المفارقات أنه يرى إلى ذلك من أجمل العذاب!: 
بفيق الصبحْ تا إكتُبْ الأشعارْ
بشوفِك، يا روحي، شمس مضويّهْ
وبصير من حالي عَ حالي غارْ
وبَدْلْ السعادِهْ بحترِقْ بالنارْ
أجمل عذابْ بعيش يوميِّه      (عذاب).
   كان هان الأمر لو بقيت غيرةُ شاعرنا، ضمن ضوابط معينة، فقد تجاوزت الى رؤيا سوداوية، فإذا به يكره الدُنيا وأهلها، ولا يرى في البشر سوى أشرار!: 
مخجول إني بوحْ بالأسرار:
مِنْ كِتِرْ ما هالناسْ حبّوكي
وقالوا: أميره، وتاجك ملوكي
كرهتْ الدني.. شفت البشر أشرارْ      (أسرار).
   في تصعيد لهذه الحالة المرضيّة، فإن الشاعر إذا ما عرف يوماً أن آخر يحتلُّ قلبها، فهو سيُبادر، من فورِهِ، إلى الانتحار!: 
بركض وراكي.. بترفضيني دومْ
رحْ إنتحِرْ لولا عرفتْ شي يومْ 
إنسان تاني ساكن بقلبِكْ      (إنسان تاني).
   إذا كان للهواجس أن تعصف بشاعرنا، مُفرداً لها المساحة الأكثر اتّساعاً في "قصائد الغيرة"، فقد خصَّ حبيبته بخماسيتين، تُبدي فيهما بعضاً من زعل وشك، لا يرقيان إلى ما بلغه هو.
   ففي خُماسية "فضيحة" تعتبُ عليه لأنه لم يردّ على مكالمتها الهاتفية،  فيتذرّع بأن عطلاً طرأ على هاتفه الخلوي. من هُنا لا مبرِّر لزعلها، فهو لطالما كان "الجندي" الملبِّي، حين تدعوه: 
الموبايل مشْ عم يشتغل عندي
وعَمْ تزعلي مني على الريحهْ
كل عمري لْطَلّتِكْ جندي
كوني لعذابي، يا بنتْ، سندِه.
   ومن الخماسية الثانية "قاسيه"، يُناشدها ألاّ تكون قاسيةً معه، إذا ما خطر له رؤية النساء! فهو إذا نظر إلى امرأة، حسبما يقول، لا يرى منها إلاّ فستانها، ويخفي عن ناظريه الجسد!: 
بحلِفْ إذا بتطّلعْ شويِّهْ
بفستان مارقْ حدّ عينيّي
بخفي المرا.. وببيّن الفستان.
هـ- عشق المرأة في تجسُّداتِهِ... وملامسة الشهوانية الشبقية
   في قصيدة "هلّق"، التي قيلت بمناسبة اليوبيل الذهبي لـ"مراهقة" (2018)، يُشير شاعرنا إلى أن بعض الناس، ممن يزنون باسم الدين، لم يُعجبوا بهذا الديوان، بسبب موضوعاته الجريئة، المنتمية إلى الغزل الإباحي!
   في مواجهة هؤلاء "الفصاميين"، يُعلن البعيني، وهو في الستينيات من عمره، تبنِّيه "مراهقة"، بل أبُوَّته، وليُضيف بأن شعوره لا يزال، كما كان في مطلع شبابه!: 
وهلق بعدما كبرت، يا كتابي
لبست الدهبْ بسنينك الخمسين
في ناس ما حبّوكْ.. نِصّابه
بالسرّْ عم تزني باسم الدين
قالوا: حكي.. ما بينحكى بغابِه
قالوا: الجنس بيفرَّخ شياطين
هيدا شعوري بزهرة شبابي
وبعدو شعوري بشيبة الستين.
   ويبقى السؤال، بعد هذا التبنّي الحاسم لـ"مراهقة"، ونحن نُقارب "خماسية حب": هل لا زال شربل بعيني منحازاً إلى اللون الغزلي الإباحي، في صيغتِهِ الجنسانية الشبقية؟ أم ثمة تحوّل جذري شهده شعره في المرأة؟
   ذلك ما سوف نتبيّنُهُ، عبر مجموعة من خماسياته، ولتكون مقارنةٌ بينها وبين بعض قصائد – شواهد، من ديواني "مراهقة" و"معزوفة حب"، كون الدواوين ثلاثتُها، وهي متباعدةٌ زمنياً بين بعضها بعضاً، تشكل محطاتٍ/ معالم من مسيرته الشعرية الغزلية.
   في قصيدة، من "خماسيات" ، عنوانها "إنتي هون"، هناك ملمحٌ شهوي، إذْ يروح الشاعر إلى غفوةٍ صغيرة، في حضن محبوبته الدافئ، تنبري شفاه هذه المحبوبة إلى التهام شفاهه!: 
لو خيّروني بين مال الكون
وغفوه زغيره بحضنك الدافي
المال رح بيروح.. انتي هون
حدِّك بشوفْ السما بلا لونْ
كل ما شفافك تاكل شفافي!
   في تعريف شاعرنا الحُبّ، لا يُبرئ الحبّ من طابعه المادي: ضمّاً وتقبيلاً ودغدغةً وعناقاً: 
الحب منّو بهوره وخناقْ
تا تقاتليني كلّ ما ضمِّكْ
الحبّْ بَوسِه ودغدغه، وعناقْ      (جنس).
   في استعراضٍ لواحدةٍ من ليالي العاشقين الحُمر، يُشهدُ شاعرنا التخت والفراش على تلك الليلة!: 
بتتذكّري بالليل شو عملنا
لا تستحي.. كل البشر عملوا
عَ التخت، سجّلنا عمايلنا
وتعبت الفرشِهْ من تمايلنا
وجسمي عَ جسمك ما قدِرْ حملو     (لا تستحي).
   وإذْ نعمد إلى "مراهقة" لنُشهدَ "التخت المكسَّر"، نرى بوناً واسعاً بين تخت تعب من تمايل الحبيبين، في "الخماسيات" وبين تخت تكسَّرت "عظامه" من كثرة الشدّ والرهز، على إيقاع تنهيدات، ملأت أجواء غرفة "العمليات" الشبقية!.. كل أولئك بإزاء صدرٍ قاسٍ، لا يعرف الترهل إليه سبيلاً، وجسم يحسدُه المرمر!: 
صدرِكْ.. قاسي ومحجَّرْ
جسمك أحلى من المرمرْ
بتذكَّر ليلة بتشرين
شربنا من اللذّه أكترْ
تلجْ.. وكنّا بردانين
بينقصنا الجمرْ الأحمرْ
(...)
عبّينا الأوضهْ تنهيدْ
مسكين التختْ تكسَّرْ
وكل ما شهوتنا بتزيدْ
بتصفِّي اللعبة أخطر!.
   إمعاناً في المقارنة، ومن مسلسل "الفرش والتخوت والأوض المعتمة"، هاكم هذه المشهدية التي تصل فيها الحبيبة إلى "الاورغاسم" orgasm) ، أعلى درجات الهياج، هياج شهوتها الجنسية، فتطلب إلى المحبوب أن يُطفئها بدفقٍ من مائه! : 
خدني عَ أوضه معتَّمِهْ
عَ فراشها تا نرتمي
جسمي شِعِلْ.. دمّي حمي
عجِّلْ بميّكْ رشّني
خدِّي لهبْ، عنقي احترقْ
قلبي سهمْ شهوه اخترقْ
وعَ دربْ جسمي ما مرق
غيرك إنتْ.. لا تصدّني      (قصيدة: جسمي شِعِلْ).
   في مشهدية شهوية طريفة، من "خماسيات حب"، مدخلُها بعض الأطعمة التي يستسيغُها الشاعر، يكونُ عبورٌ إلى طعام، بل شراب من نوعٍ آخر وغير مأنوس، هو ريقُ الحبيبة، لا يشربه إلاّ إذا كان حاراً!: 
كل الطبخ، يا حلوتي، بحبّو
المجدّرَه، الفاصوليا، اليخنِه
وريقِكْ إذا عَ سفرتي بصبّو
متل العرق رح إكرعو وعبّو
عَ شرط تبقى حرارتو سِخْنِه!      ( طبخ).
   في غمرة تعب شاعرنا، المشوق لصدر الحبيبة، ليسترخي عليه، يدعوها فتستجيب شريطة أن تكون هذه الخطِيّة من الخطايا الحلال!: 
لاقيني اليوم عَ الساحه عشِيِّهْ
في عندي كتير لخدودِك شهيِّه
عَ صدرِكْ صار لازملي استراحه
قالتلي: بسّْ رح قولْ بصراحه
ما بدِّي تكون هالشَغْلِه خطيَّه     (لاقيني).
   وفي مشهدية من "خماسيات حب"، من العيار الثقيل، توشكُ المحبوبة أن تُوضع عند باب الاستسلام لشهوتها، بل عند عتبة ممارسةٍ جنسيةٍ ناجزة، فلنستمع بلسانها، وهي تتساءل بداءةً عن معنى الغريزة؟ : 
بـ ربَّكْ قولْ: شو يعني غريزِه
وليش الجسم عَمْ يعرقْ وفرحان؟
إذا بتبوس تمِّي، يا عزيزي
مِتْل الكذبْ بِتولِّعْ النيرانْ
ومنّو لَ حالو بيوقَعْ الفستان!      (غريزه).
   في وصف "مُتأدِّب" للشفاه، وهو وصفٌ تقليدي، إذ يُشبهها بالورد الأحمر – ودائماً من "خماسيات حب"- يأسى شاعرنا لأنه لن يحظى بهذه المحبوبة "المحجوزة" لسواه: 
جرّبت إني إسرقْ البوسهْ
من شفافْ أجمل من ورد أحمرْ
رفضتي، صرختي وحفظت درسي
عرسِكْ، يا حسره، ما طِلِعْ عرسي
مأكَّدْ وْصِلتْ كتير متأخَّرْ     (بوسه).
   في مشهد، من خماسياته، لا يخرج كثيراً عن الضوابط المكرّسة بين الحبيبين، ينمُّ عن جوعٍ شهوي، يعمد شاعرنا إلى تقبيل كفَّي الحبيبة، وينتظر ضيوفها كي يلتهمها (مجازياً!)، بالتقسيط (شقفِه وراء شقفه!): 
وبنخّْ بوسْ الفلّْ عَ كفوفِك
وبنطرْ تا حتى تودَّعي ضيوفِك
تا آكلِكْ شقفه ورا شقفه       (إحساس).
   إلى مشهدٍ، من "الصنفِ" عينِهِ، يتسِّم بوداعةٍ جنسية- إذا جاز التعبير- فهو إذْ يُقبِّلُها بين عينيها، يأبى أن يغلّ في فراشها من دون رضاها!: 
من بوسة عيونِك أنا رح دوخ
كيف لولا هجمت عَ شفافِك
(...) 
وغير بالرضا ما بْغِلّْ بلحافِك      (جوخ).
   بين "مراهقه" (1968) و"خماسيات حبّ" ، التي تنتمي قصائدها إلى الأعوام الثلاث الأخيرة (2018- 2019- 2020)، كانت مسيرةٌ، استهلكت نيِّفاً وخمسة عقود من حياة شاعرنا، بل مسيرة في مجاهدة المرأة وعالم المرأة، بكل ما فيه من جمالات ومن عذابات، إلى جانب عوالم شتى، فكان إبداعٌ، كما ردّدنا في مواضع من دواوينه التي قاربنا.. هو إبداعٌ في فصيح شعره وفي محكيِّهِ، على حدّ سواء!
   وإذا كان قد ذهب مُقدِّما ديوانيه "مراهقه" و"معزوفة حب" إلى أن ثمة تطوراً دراماتيكياً طرأ على فن الغزل لدى البعيني، وأنه أعلن توبةً نصوحاً، فلا يعود إلى الغزل الإباحي، فإننا لا نوافقهما رأيهما بشكل كامل، ذلك أن ما ذهبا إليه قد يصحُّ على ما أنتجه شاعرنا حتى نهاية الثمانينيات من القرن الماضي، أي مع "معزوفة حب" (1989). وقد يتم تجاوز هذا التاريخ لسنوات معدودة فنحن، من خلال "خماسيات حب"، تلمّسنا "استفاقةً" غزلية، نتحفّظ في أن نطلق عليها "جهلة الستين"! فالنصوص التي قاربناها ما زالت تحتفظ ببعض سماتٍ وطوابع من "مراهقه"، مع تسليمنا بخبوّ الكثير من النار المتأجِّجة، التي كانت تُلهب شاعرنا، مطلع حداثته وشبابه! وتعليلُ هذا التحوّل النضج الذي بلغه شاعرنا، بعد تجربةٍ مديدةٍ، ناهيك عن المرحلة العمرية التي يستظلّها راهناً، والتي لا تأتلف مع ما كان يبوح به في العشرينيات من عمره! فالزمنُ خيرُ معلّم، وخيرُ كابحٍ لشطط  الإنسان، وخيرُ هادٍ إلى التزام الاعتدال والإقلاع عن التطرُّف!
   على رُغم تحفظنا عن طبيعة التحوّل الذي طرأ على فن الغزل، لدى شاعرنا، فإننا نوافق الناقد بو ملحم، حيث يرى أن غزليات البعيني، في "معزوفة حب" ، طفقت تترجَّح بين الإباحية والطُهرانية الصوفية. ولنا أن نتمثّل بشواهد من "النمط الصوفي"، فنستبين بحق ذلك التوجُّه الغزلي الجديد، الذي أضفى ملمحاً مميزاً على فن الغزل، لدى شاعرنا:
   من قصيدة "أربعة مشاهد" نجدُ ما يُحاكي فلسفة القرآن الكريم في الخلق: "وما خلقتُ الجنّ والإنسَ إلاّ ليعبدون" (سورة الذاريات: 56)، ذلك أن شاعرنا يُريد والحبيبة أن "يُفبركا" البشر حتى يعبدوا الله، وبذا يربط بين الحب والخلق!: 
رَحْ ضلّ حِبِّكْ تا يدوبْ اللونْ
وتدبِلْ عيونْ البشر كلاّ
وما يضلّْ غيري وغيرك بهالكونْ
نفبرِك بَشَرْ.. تايعبدوا الله.
   ومن قصيدة "حبِّك أعتق من أيامي"، حيث الكنيسة (مكان للعبادة)، وحيث البخور... بما يوحي بطهرانية الحب: 
خبِّي وجِّكْ عن عينيِّي
حرقتيني.. حرقتيني بنورِك
بهرُبْ مِنِّك.. بسّ ما فيّي
إهرُب من ريحة بخورِك
يا كنيسهْ بضيعه منسِيِّه
بوقت الشِدَّه برجع زورِك.
   وهذه الأهزوجة، من "معزوفة حب" التي تزاوج بين الله والمحبة!: 
لا تمنعوني حِبّْ
لا تعتّموا قلبي
الحب أجملْ دربْ
والربّ محبِّهْ        (لا تمنعوني حب).
   ومن "معزوفة حب"، وبالاتجاه المعاكس، نتوقف عند نموذج واحد، حيث للغزل الإباحي المخفَّف حضور: 
قلعتي تيابكْ 
زهَّرِتْ المروجْ
والنار حرقتني
ودابت عَ صدري تلوج
بالبرد حبستني
من ساعة غيابِك
خلِّي ايديِّي تموجْ
مِتْل الرياحْ الهوجْ
ع بيدر شبابِكْ      (تجسَّدي فيّي).
و- المعشوقة .. كما يرغبها الشاعر.. ودائماً عَبْرَ مرآتِهِ!
   سواءٌ أكانت معشوقة شاعرنا حقيقيةً أم افتراضية، فقد كان مُتطلِّباً في رسم صورة لها، تترجَّحُ بين الواقع والخيال! هكذا هم الشعراء، في كل زمان ومكان! لقد تطرّق إلى صفات تتلبّسُها، من وحي رؤيته الخاصة، هكذا، عبر بضع "خماسيات" خلص إلى السمات الآتية: 
   يتطلّع شاعرنا إلى حبيبةٍ دائمة الحضور أمام ناظريه، فيكحِّلُهما بطلّتها الجميلة، وبضحكتها التي تُدخل السرور إلى قلبه.. ضحكة باعثة على التفاؤل، هي رأسماله الأغلى.. تُديم الضحك حتى تُزهر لياليه: 
كل يوم لازم شوفك قبالي
وكحِّل عيوني بطلِّتكْ عَ طولْ
ضحكة شفافك بسّْ.. رسمالي
ضلِّي اضحكي تاتزهِّر ليالي     (ضحكتك).
   إذْ يُريد شاعرنا أن يتغزّل بعينيها، فهو يرغب بألاّ تضع نظارتين، تحجبانهما عن بصره، معلّلاً بعدم طمس الجمال بالعتمات، سيّما أن لون الفحم لا يأتلف مع جمال المحبوبة!: 
عارضت إنك تلبسي عويناتْ
كِرمالْ إتغزّل بعينيكي
عيب الجمال يغيبْ بالعتمات
(...) 
لون الفحم ما بيلبق عليكي     (عوينات).
ـ كم هو جميلٌ شعر المحبوبة، مُتطايراً فوق الريح، يخطُّ أشعار شاعرنا، يُلامسهُ جسداً، ويُقبِّلُ أنفه، نيابةً عن الحبيبة!: 
واقف أنا عامود صعب يزيح
بَرْكي الشَّعَر بـِ بُوسْ منخاري!       (مراجيح).
ـ في واحدٍ من مشاهد الإغواء، تمضي به الحبيبة إلى جنون، وهي تغنجُ بفستانها البني، وبعقدها اللولو، وبشعرها الأشقر: 
هالبنت، والله، رح تجنّني
بتتغندر بفستانها البنّي
والعقد لولو والشعر أشقر     (فستان بني).
ـ وإذْ يتطاير فستانها مع الريح، فيبرز مواضع الجمال الحميمة تحته، يدعوها بألاّ ترد هذا الفستان كي تستر أجمل كنز، ترمقه عينا الشاعر: 
لا تنزّلي الفستان تا تصوني
أجمل كنوز بتقشعا عيوني      (يوم القيامة).
ـ وكما يرغب أن يراها، فهو من مقلب آخر، بل من موقعه، يجدُ نفسه مسحوراً بعينيها، وذاهلاً أمامها، بل في حالةٍ من "التسطيل"- إذا جاز التعبير- .. يجلس أرضاً، وهو يرسم صورتها على قارعة الطريق، بطبشور، جُبِلَ وفاءً: 
كتار اللي قالوا صِرْتْ مجنونِكْ
وعَ الأرض قاعد ارسم جفونك
بطبشور أزرق بالوفا مجبول    (طبشور أزرق).
ـ يُريدها، كما أوردنا في موضع آخر، تلك المحبوبة التي تُفدِّيه بروحها، وتدعو الله أن يكلأه برعايته (صايمه)، وأن "تُسبِّح" بحمده، كون السعادة لن تكون إلا إذا كانت إلى  جانبه، وأن تغرق في حُبّه، إذْ ليس من أحدٍ يُضارعه! (حبيب القلب).
   إشارةٌ إلى أن ثمة سمات مُتعدِّدة، لم نأتِ على ذكرها، مبثوثةٌ في تضاعيف النقاط التي سبقت.
ز- في الشباب الآيل إلى أفول.. والعلاقة الخائبة!
العمر .. إذا سرى، وما أدراك ما العمر الساري! إنه الهاجسُ القاتل، الذي يستبدُّ بالشعراء جميعهم، وهو يشدُّ بهم إلى أرذل العمر!.. يجهدون في التهرّب من شبحه، فهو يُنغّص عليهم سعادتهم التي كانوا فيها يرفلون، ويتهدّدهم بانهيار العلاقة التي تربطهم بمحبوباتهم!. 
   هكذا هي حال شاعرنا الواقع عند أبواب السبعين! أُسقط في يده، فلم يستطع طرد الشبّان الذين ما فتئوا يتهافتون على محبوبته، وهم من جيلها! كيف له أن يزيحهم من دربها- بل الأصح من دربه!- وَقْتَ تغمزهم وتغنج أمامهم؟ : 
شفتك أنا عم تغمزي الشبّانْ
وتغنّجيهن.. والغِنْج بركانْ
وْلِك كيف بدِّي ردّهن عنِّكْ
وعُمري كبيرْ.. وسِنّهُنْ سِنِّكْ؟
   هكذا يعلنُ بأسى فشل علاقته بالنساء:
عَ طولْ عم إفشل مع النسوان       (فاشل).
   وكم تُؤرقِّه عقدة الرجولية، وقطار العمر به ماضٍ، فإذْ تقع محبوبته في بركة ماء، عزم على أن يقفز خلفها، مُحاضراً في الرجولية: 
فزّيت خلفك.. قلت بدِّي فوت
بالمي.. بركي منقلِّع سْوِيِّه
وإشرح إلكْ معنى الرجوليّه       (بِرْكه).
   إذْ تُعيِّره المحبوبة، فهي تسخر منه لأن شعره "تزلّط"! فإذا به يُسفِّه قولها، مُتذرِّعاً بحجةٍ، فيها شيءٌ من طرافة، فهي، حسبما يقول، لو لم "تتزلّطي" لما خلّفتِ (!!): 
قالت: يا شربل صار شعرك "زلط"
قلتلها: يا ريت ما وصفتي
انتي الحقيقه بتاخديها خلطْ
(...) 
ولو ما تزلطي ما خلّفتي!        (زلط).
   في عملية مكاشفةٍ ذاتية، وعلى طريقة "تغديناهم قبل ما يتعشّوا فينا"، فالشاعر إذْ لمح محبوبته تقف قبالته، وألهبت فيه النيران، راح يتمتم ، مخاطباً نفسه، بأن يخجلّ: 
وصفّيت دردش هيك لَ حالي:
عيبْ استحي من البنت يا ختيار     (عيب استحي).
ح- الحب... حيث يتحدّى "زمن الكورونا"!
   لعل ما يُميِّز نتاج البعيني الأدبي راهنيته- كما نوّهنا آنفاً- ذلك أن شاعرنا ذو فكر حداثي، يُواكبُ قضايا عصره، ويُفيد من منجزاته المتجسِّدة، في مختلف الثورات المتتالية ، لا سيما في الميدان التكنولوجي، وفي عِداد هذه الثورات ثورة التواصل والاتصالات التي أحالت العالم قرية كونية صُغرى. ناهيك عن رصد شاعرنا مختلف الأوضاع الدراماتيكية التي يشهدها كوكبنا، على الصعيد البيئي، بكل منعكساتِهِ المدمِّرة! 
   من هنا يتفاعل شاعرنا مع جائحة الكورونا التي تجتاح راهناً أربع جهات المعمورة، مخلِّفةً مئات آلاف الموتى، وبضعة ملايين من المصابين بهذا الوباء المرعب.. والحبلُ على الجرار، إذْ عدّادُ الكورونا في اشتغالٍ!
   لم يتصدَّ البعيني للمسألة من منظور بيئي، ولا من منظور طبي، بل من منظور الدائرة العشقية التي "يحجرُ" نفسه فيها! هكذا كانت عشر "خماسيات" كورونيات، نمَّت عن ضيق صدره من هذه الجائمة التي تقف حجر عثرة في طريقه إلى محبوباته، وقد أسرتهُ بين جدران المنزل! وقد اتسمت هذه القصائد بطرافة، ذلك أن شرّ البلية ما يُضحكُ!.. فمهما انتشر الكورونا وتعاظم خطره، لن يستطيع إبعاده عن الحبيبة، فإذْ يرى إليه الوباء، فهي الشفاء: 
عنِّكْ تا إبعِدْ.. لأ ما فيّي
إنتي الدوا يا نور عينيِّي!     (كورونا).
   وإذْ تعصف به الشكوك، إثر ابتعاد الحبيبين عن بعضهما بعضاً، فهو يخاف أن تنساهُ وتُعرض عن حبّه: 
خايف عَ كتر البعد تنسيني
بعصر الكورونا.. وما تحبّيني    (كيف الحبيب).
   وإذا كان للكورونا من عظةٍ، يتلوها على البشرية، فهي دعوته إلى عبادة الله! كأننا بشاعرنا يُوحي بأن هذه الجائحة هي "غضبٌ" من الله، ينبغي التبصُّر فيها والاعتبار: 
ليش صار الكونْ كلّو موتْ
يا روح روحي.. وما انسمعْ هالصوتْ
اللي قال: لازم تعبدوا الله      (ممنوع لاقيكي).
   وفي ذروة هواجسه، يخاف على معشوقته من أن يُحبّها الكورونا، فهو يهوى الغلَّ في النساء، حسبما يتوهّم!.. من هُنا، فإن الشاعر مُزمعٌ أن يُوقفه عند حدّه!: 
قالوا: بيغلّ كتير بالنسوان
(...)
رح جنّ.. جايي اوقف بدربو     (فزعان). 
   وإذْ تبكي الحبيبة، خشية أن يُصيبها هذا "الفيروس" اللعين، يُطمئنها شاعرنا بأن هذه الجائحة ستمضي بسرعة، ولسوف يعودان إلى ايام الهناء: 
فيروس كورونا بيمرقْ بسرعه
وبرجع بشوف بوجِّكْ الضحكه
(...) 
وبينتهي هـ السيّء السِمعَه     (لا تبكي).
   لعل ما يُزعج شاعرنا، من هذا الزمن الكوروني، أن الكمامة التي تضعها الحبيبة، تغطي كل جمالات وجهها! كما يُؤلمه أنه لم يعُدْ مسموحاً الضمّ والشمّ، بسبب التباعد الاجتماعي! : 
كمّامتك.. ما عاد تعجبني
(...) 
ما عدتْ إقدِرْ ضمِّكْ وشِمِّكْ      (كمّامه).
   وإذْ لم يُطق شاعرنا صبراً على الكورونا، وراح إلى اعتقادٍ أن في الحب شفاءً منه، فقد تحدّى "التعليمات" التي تحظر التواصل، فنام على صدر الحبيبة، وأحسّ أن ثمة جوعاً لديه إلى شفتيها!: 
بعصر الكورونا الحب مش ممنوعْ
يمكن بيشفي من المرض كلّو
نمت على صدرِكْ.. صِرتْ شدّ طلوعْ
حِسيَّتْ لشفافِك في عندي جوع      (عصر الكورونا).
ط- وسائل التواصل الاجتماعي.. مُنغِّصات الحُبّ!
   على غرار ما رأينا، في المسألة "الكورونية"، فإن شاعرنا يُقارب وسائل التواصل الاجتماعي، لا سيما الفايس بوك والواتساب، من كونها منغِّصات للحب، تحولُ غالباً بينه وبين محبوبته!.
   ففي خماسية "فايس بوك"، يتهم هذا الموقع الالكتروني بأنه يسلبه حبيبته، فهي تتراسل وكل الأصحاب، في مختلف بلاد العالم، ولا تُعطي بالاً للشاعر: 
بتراسلي الأصحاب وين ما كان
(...) 
وحدِّك أنا.. وما بتسألي عنّي.
   وعن الموبايل، هذه الآلة اللعينة!.. يُصادر كل أوقات الحبيبة، ويُدمِّر حياته ويُشوِّه حياتها، ويُلغي جلسات الفرح من قاموسهما!: 
دمَّر حياتي وشوَّه حياتِك
كنا سوا نتساير ونفرحْ
ومطرح ما نقعُدْ يفرح المطرحْ      (موبايل).
   في نظرة واحدة إلى الفايس بوك والواتساب، فهي إذْ تتواصل معه عبرهما، متقبّلاً هذا النمط من التواصل عن بُعد، ولكن على مضض، يدعوها إلى استكمال "معروفها" بأن تُطِلَّ عليه شخصياً، بما يخفِّف من ظنونه : 
طلِّي قبالي.. خفِّفي ظنوني
ضايع أنا من دون ما شوفِك      (ضايع أنا).
   إذا كنا من خلال هذا الاستعراض الوافي للعناوين الكبرى والمحطات الأساسية التي احتواها خطاب البعيني، من حيث المضامين، وأشبعناها درساً وتحليلاً، فإن ثمة موضوعات متفرقة أخرى، أفرد لكل واحدٍ منها خماسية أو خماسيتين، وهي تتراوح بين أطروحة العيش المشترك (عيد الفطر)، وذكورية المجتمع الشرقي (طفران)، إلى "مسيحيات" تُبرز البُعد الديني الإيماني لدى شاعرنا (الجمعة العظيمة/ سبت النور/ قام المسيح)، إلى العائلة البعينية وكريم محتد الشاعر (الكرامة).. ولئن كانت هذه الخماسيات قد بدت من خارج سياق تلك العناوين الكبرى، فهي منطبعةٌ بنفس الروحية التي تسِمُ "الخماسيات" جميعها! أوليس الأسلوب هو الرجل؟! والرجل هو عينه البعيني شربل، في كل ما يكتب ويبوح؟!
في الخطاب التعبيري.. البعيني حارسُ المحكية اللبنانية و"دائرةُ معارفها!"
   ليس المقصود بالخطاب التعبيري الجانب الأسلوبي، بمعناه الحصري، أي سلامة اللغة وجمالية التعبير، على أهميتهما. بل نذهب بعيداً، فنجدُنا أمام مختلف السياقات التي تُصبُّ فيها الأفكار والأُطرُ التي تتمظهرُ عبرها المعاني، بما يأخذنا إلى جدل المعنى/ المبنى، إلى التداخل الذي يُشرِّع الأبواب، كي يخترق كلٌّ من المُعطيين دائرة قرينه، ولا يكون إبداعٌ إلاّ من خلال التماهي الخلاّق بينهما!.

   هكذا، فإن المسألة أكثر تعقيداً، مما يعتقد بعض النقاد الذين يرون إلى المعاني كروحٍ، وإلى الأسلوب كجسدٍ، يستُرُ هذه المعاني!. 
   كلاهما، في عُرفنا، روحٌ وجسدٌ، طرداً وعكساً!
   هكذا هي محكيةُ البعيني الشعرية، كما تبدّت لنا، سواءٌ أكان يُدركُ خطرها أم لم يُدرك! يكفي أننا من قادريها ومثمّنيها عالياً وغالياً، ونحن نلجُ عُمق المسألة!
   وإذْ تُكذِبُ المياهُ "غطّاسي النقد"، فقد أكببنا على مقاربة خطاب المحكية التعبيري، لدى شاعرنا، بما يضعنا أمام هذه النقاط – المعالم: 
أ- محكية البعيني الحاكيةُ صُوراً! 
   تكاد لا تخلو "خماسية" من خماسياته من صورة، أو من مشهديةٍ تضم بضعة صور، فإذا به يشعرُ (أي يكتب الشعر) بالصُور، يعضُدُه في ذلك خيالٌ، يترجَّح بين بُعدين: بُعدٍ حسّي مادي وبُعدٍ معنوي (مجازي)!.. وهاكم بعضاً من أمثلة- شواهد: 
ـ في خماسية "شتويه".. ها هي المخدّة توشوشُ شاعرنا، مُفاخرةً، وقد شعرت بثقل رأسي الحبيبين عليها! : 
حسِّتْ بـِ تقل تنين المخدِّه
وشوشتني: اليوم مين قدِّي!
   فأن يُنطق البعيني المخدّة، ولو همساً، فذلك يندرج تحت باب التشخيص، بحيث يتم إحياء الجماد ](personnification)، فيغدو له لسانٌ وشفتان، كما البشر. 
ـ وليكن تبصّرٌ في هذا التعبير، حيث ينطق الحجر، وحيث يُطلب إلى وردة الدار بأن تقصّ ضلوعهُ وتُحيلها حجارةً، يدعم بها شاعرنا البيت الذي يبنيه لحبيبتِه!: 
بيتك أنا رح عمّرو بأزهار
تا تغار منّك كل حيطانو
يا وردة اللي مفتّحه بالدار
قصّي الضلوع وحولِّيها حجارْ
يمكن ضلوعي تزيد بنيانو       (بيتك).
   عبر هذا المثال لا ندري أيُّهما أكثر روعةً، هل هي المعاني أو السياق الذي تأتي فيها تعبيراً؟ أم أن كليهما يرتقي بالآخر، عبوراً إلى قمة الإبداع؟!
ـ "قدّيش الله تفنّن برسمك
ومن كلّ نجمه نور يعطيكي
صار القمر يتغزّل بكسمِك
والزهر يرمي العطر عَ جِسمك
تا يحببّوني كلهن فيكي      (رسمك). 
   هكذا تتحرك عناصر الطبيعة، بعد الله، فالقمر يتغزّل بقوامها، والزهر يغمرها بعطره.. كل أولئك لتخرج من بين يديّ الشاعر حوريةٌ من حوريات الجنة، التي وَعَدَ الله المؤمنين بهن!!
ـ وماذا عن هذه اللوحة الرائعة، إذْ يجعل الشاعر من صدره مسرحاً للحبيبة، فترقص على خشبتِهِ! ولا يكتفي بذلك بل يُريد أن يُلهب شفتيها طوال العمر! وإذا كان للجمر أن يحرقه، فهو راضٍ، فنارها نعيمُهُ، وما أحلى الموت على يديها: 
ورَحْ شعِّل شفافك عَ طول العمرْ
ومعليش لولا بحترق بالجمرْ
حدِّك أنا وعَمْ موتْ.. رح إفرحْ       (مسرح).
ـ في سبيل المحبوبة.. في سبيل حبّها، هو على استعداد لصُنع المعجزات.. يُحمِّلُ الغيوم عطر الدُنيا لينهلَّ عليها.. يُبعثر الزمن ويُعيدُ عقاربه إلى الماضي فيستعيد شبابه.. يُعيدُ النظر في خريطة العالم لتغدو الحبيبة قريبةً منه، إذْ يفصل بين الحبيبين بحرٌ وسماء: 
بودِّي الغيوم.. بحمّلا عطر الدني
وتا صيرْ شَبّ.. بخربط شهور السِنِه
وتا قرّبك.. هالأرض بِرجَعْ إرسما      (عطر الدني).
   ولِمَ العجب، أوليس الحب صانع العجائب؟!
ـ وإذْ لا يخشى شاعرنا "الكورونا"، بل يرى إليه مدعاةً لشفاء!.. ينام على صدر الحبيبة، فيكتب له شفاء! ينتابه جوعٌ لشفتي الحبيبة، فتنبههُ بأن التقبيل في زمن الكورونا، يثير الخوف.. فلا يُبالي: 
نِمت على صدرِك.. صرت شدّ طلوع
حسّيت لشفافِك، في عندي جوع
قلتي: الـ بيبوس اليوم يا دلو     (عصر الكورونا).. 
   لاحظ: "صِرت شدّ طلوع" عملية الزحف من الصدر إلى الشفتين، وكأننا به يقود سيارة ويُصعّد بها إلى أعلى!
   تلك الصُور والمشهديات، وهي قليلٌ قليلٌ من خماسياته ويبقى  الكثير الكثير، تُبرز لنا كم هو صعبٌ وضعُ فواصل ما بين المعاني والصُور التي تُسكبُ فيها هذه المعاني.. فأنت إذْ تقرأ تعملُ كل حواسِك الخمس جرّاء قوة التجسُّد التي يتقنها البعيني!
ب- محكيةُ البعيني.. مشهديات مُبتكرة.. ومن عالمٍ آخر
   في هذا المجال، على رُغم انتماء شاعرنا إلى "النيوكلاسيكية" (الكلاسيكية الجديدة)، فهو وإنْ عارضَ، في بعض شعره، كبار الشعراء الذين تأثَّرهم، من القباني نزار، إلى سعيد عقل، إلى محمود درويش.. وسواهم من المجددين.. لم يجترّ معانيهم، بل عمد إلى معانٍ مبتكرة حيناً، وإلى معانٍ تقليدية، عمل على "إعادة توزيع" لها، فجاءت بحلة "بعينية" جديدة! كانت له من هؤلاء الشعراء العناوين الكبرى، ولكنه لم يترسَّم خُطاهم، بل كانت سُبُلٌ جديدة ومنعرجات اختطها لنفسِهِ، ليكون نسيج وحده! قد غنّى القدس، ولكن قدسه ليست قُدس سعيد عقل.. قد يصبُّ لعناتِهِ على الحكام العرب، كما فعل القباني، ولكنها لعناتٌ "بعينية"، لها أطرها الخاصة!
   هذه الخاصية انسحبت على خطابه التعبيري، فكانت معانٍ في سياقات مبتكرة، وغير معهودة، كتبت لشاعرنا فرادةً، فغدا مُبتدعاً لا متّبعاً! وكشواهد على هذا النهج، نكتفي ببعض أمثلة/ شواهد من "خماسيات" حبه: 
ـ في قصيدة "بحيره"، إذْ يُخيِّر المحبوبة لتكون كما تشتهي، شريطة أن تبقى إلى جانبه، فيبوح لها بما يُقاسي من عذاب، يُهرقه دموعاً تملأ بحيرةً عن آخرها!.. وخشية أن تتسرّب الدموع من هذه البحيرة، فهي تحتاج " سدّادة"، في حين لا تحتاج عيناه "سدادةً" كي لا تتسرب الدموع "الهائلة" منهما! فيا لها من مفارقة!: 
عم إِمرقْ بأيام مجنونِه
بهدي البحيره دمعة عيوني
بلاقي البحيره لازما سدِّه.
ـ في خماسية "سابين"، إذْ يُزمع شاعرنا شنّ غارة ليلية على تلك البنت "الرشدبينية" (رشدبين) المغرم بها، بل هي شمسُهُ المضويّة، يدعوها إلى أن تضع حرساً على باب بيتها ليلاً! والسؤال: كيف لمهاجمٍ أن يُعلِمَ من يبغي مهاجمتهم بنيتِهِ و"بالساعةِ الصِفر"؟ وهل لحرامي أن يُنذر أصحاب بيت يستهدفه بأنه قادمٌ إليهم؟ تلك هي المسألة في "سابين"، بل الطرافة المحبّبة التي يُجيدها البعيني، فيأتينا بالعجب العُجاب! 
وهكذا: 
انتبهي القمر ساكن برشدبّين
ومغروم فيكي يا بنت شعنين
حطِّي حرس عَ البيت ليليِّه!
ـ وإذا كان لدى كل شاعر شيءٌ من نبوَّة، وآيات الأنبياء المعجزات، فإن البعيني يأتي بالمعجزات لو استطاع، كرمى لمحبوبته.. فهو يُحيلُ البحر قرطاساً يخط رسمها على صفحتهِ! بل يُحيله بستاناً، ويُحرِّك الطير أفواجاً تأتي وأفواجاً ترتحل في حركة تعاقبية ولا أجمل.. ويسقي زهورها بدمع عينيه: 
بركي بتظبط بينك وبيني!.. 
   وكما لامسَ البعيني الإعجاز ببنات أفكارٍ لم تتحقق، فقد لامسه بل أدركهُ من باب هذه المشهدية: رباعية الصور: الرسم على الموج، واستحالة البحر بستاناً، وحركة الطيور أفواجاً أفواجاً، وريْ الزهور من دموع العين..! فما قولك في هذه المشهدية، مُتعدّدة الصور، ومُبتكرة العبارة، وعمق خيالٍ، وكثافة تعبير؟: 
لو كان فيني إرسمك عَ الموج
بخلِّي البحر يتحوّل جنينه
والطير.. فوج يغطّ، يرحل فوجْ
واسقي زهورك بدمع عيني
بركي بتظبط بينك وبيني      (جنينه).
   حتى لا نستغرق في المسألة تفصيلاً، ويكونُ إملال، والتزاماً بما ذهب إليه أبو عثمان الجاحظ بأن "الأسماع إذا كثُرت عليها الأصوات الجميلة ملّتها"، نكتفي بهذه الشواهد- العيّنات، ونضع بين يدي القرّاء بعضاً من خماسيات أخرى، لكي يتدبّروها، سالكين نهجنا في مقاربة ما احتوته من جديد المعاني ومبتكرها: (على سبيل المثال لا الحصر:" متعوب" /"إلماز" /" شو تاعبك).
ج- محكية البعيني.. إنسيابية.. على مشارف الغناء واللحن!
   من يقرأ "خماسية حب" كما الكثير من دواوين شاعرنا بالمحكية، يشعر بأن كلمات القصائد والتعابير تُسابقه، فتجهر بنفسها! فما أن يتلفظ بها حتى "تكرج" أمامه، مُنسابة، كما الماء العذب الزلال!.. تخرج من مكامنها، من صدفاتها لآلئَ، تدهم كل الحواس برقة وعذوبة!.. كل أولئك من عناصر الانسيابية التي أُشتُهِر بها شعره: فصيحاً ومحكيّاً، انعكاساً لطبيعة شاعرنا، نَفْساً، وجدت صداها في خطابه التعبيري!
   ومما يُعزِّز من حضور هذه الانسيابية في محكيتِهِ الشعرية، أن غالبية القصائد، في عِدادها خماسياته، تصلح للغناء والتلحين، مما يعني استبطانها موسيقى داخلية، قائمة على الإيقاع الموسيقي، يُوفِّره أحياناً التزام بعضها البحور الشعرية الخليلية!.. وكيف لا تكون الموسيقى جزءاً فاعلاً من محكيتِهِ الشعرية، حين تشكّل الموسيقى الفيصل بين لغة الشعر ولغة النثر؟!
   ولقد تخيّرنا عشراتٍ من "خماسيات حب" نضع بعضها في عُهدة قرائنا، كي يتحسّسوا تلك  الانسيابية الشعرية التي باتت من العلامات الفارقة، والتي تقصينا أبعادها، في فصيح شعره وفي محكيّه، عَبْرَ مقاربات خمس، من "شربل بعيني منارة الحرف"، عبوراً إلى دواوين: "أحبّكِ"، "مجانين"، "نجمة الشعر"، وانتهاءً بـ"خماسيات حب".. هذه المقاربات الخمس سلطت الضوء ساطعاً على "شربل بعيني بين الفصحى والعامية"، والتي سيضمُّها كتابٌ، سيصدر في (سيدني)، بهمة شاعرنا، في الآتي من الأيام.
   هي "خماسيات"، تُقرأ جهراً وليس همساً، فنتبين ذلك البُعد الفارق فيها: (خيّال/ عيديه/ تنّوره/ الله معك/ إمّك/ إحساس/ شو تاعبِك/ آخر حكي/ الجمعة العظيمه/ عيب استحي الخ...).
خاتمة: أمير المحكية لا يُنازعه على إمارتها مُنازع!
   إذا كنا، في بعض محطاتنا النقدية، قد توقفنا عند الجانب الإبداعي، من خطاب المحكية، لدى شاعرنا، فما ذلك إلا اقتناعاً بأن البعيني إرتقى بهذا الخطاب إلى مواقع قصِّية، فلم يُضاهِهِ أحدٌ من شعراء المحكية في المهجر الاسترالي. وما كانت بعض دواوينه، في المحكية، لتُترجم إلى لغات عالمية (مثالنا: مُناجاة علي) لولا تلك السِمة الإنسانية التي تسِمُ تلك الدواوين، التي تتفلّت من حيِّز الأمكنة ومحدودية الأزمنة!
   أضف إلى ذلك طباعة دواوينه، لا سيما بالمحكية، لمراتٍ مُتعددة، وعلى سبيل المثال:" مراهقه"، ثماني طبعات، أولها 1968 وآخرها 2020/ "مجانين" ، لسبع مرات ، أولها 1976، وآخرها 2020/" الله ونقطة زيت"، لثلاث مرات، أولها 1988 وآخرها 2016 الخ..
   وإذْ يشهدُ شاهدٌ من أهل الأدب، فقد بعث إليه المحامي والأديب المغترب (استراليا) ميلاد اسحق برسالة (تاريخها 7 أيار 2020)، ومما جاء فيها: 
   "غاص في ثنايا كتب الشعر والأدب معاً، وخاصة في الشعر العامي اللبناني، فأجاد وأبدع، فأصبح بدون مُنازع، أحد أهمّ شعراء العامية، في جميع أنحاء استراليا. كما أصبح منزله الكائن في سيدني محجّاً ومزاراً، يقصده رواد الشعر والأدب".
   ولم يبقَ شعر البعيني بالمحكية دفين دواوينه فيقرأ بصمتٍ، بل جُهِرَ به من على المنابر، بصوتِهِ وبأصوات آخرين، وتجاوز إلى ميدان الغناء والتلحين! فها هي الفنانة المشتهرة ميرنا نعمة، تُغني له مؤخراً ، ومن وحي "الزمن الكوروني"، واحدةً من قصائده، مع مواكبة من "فرقة الفنون الشعبية الفلسطينية"، ومما جاء في كلمات هذه القصيدة التي تعدّت إلى بلاد العالم: 
على دلعونا وعلى دلعونا
ما قتلنا حدا.. ليش حبستونا
حكمتو هالدنيي بجندي وباروده
ورجَّف إجريكن فيروس كورونا!
   علماً أن هذه الفنانة وسواها قد غنّوا للبعيني قصائد متعددة، وكانت "فيديوهات" انتشرت في استراليا وفي العديد من البلاد العربية وغير العربية!
   في زمن الرُخص والتسطّح والابتذال، لا سيما على جبهة الشعر، فصيحِهِ وعاميِّه.. وفي زمن العُهر، حيث تُخلع الألقاب على غير مستحقيها، من الشعارير (جمع شعرور، والشعرور تصغير شويعر!).. وفي زمن منح الدروع التكريمية، من كل فج عميق، لمن سمُّوا أنفسهم أو سُمّوا شعراء.. وفي زمن باتت شهادات التقدير، تُوزّع من قبل جمعيات ومنتديات وهمية، تتكاثر كالفِطر، كما يُوزّع "البونبون" في الأعراس والأفراح.. في هذا الزمن الرديء ما زال شربل بعيني قابضاً على شعره الحلال، قابضاً على محكيَّتِهِ ومصعِّداً بها إلى علّيين، كما المؤمن القابض على جمرِ دينه، في زمن الكُفر وبين كَفَرَة كفرة! 

   "ثم جاء المتنبي فملأ الدنيا وشَغَلَ الناس!" ... استميحُ ابن رشيق القيرواني عُذراً، فأذهبُ مُقايساً، لا أرتجي جزاءً ولا شكوراً: "ثم جاء شربل بعيني فملأ دُنيا الاغتراب وشغل الناس!".. أولم يقُلْ نزار قبّاني بإحدى رسائله لشربل بعيني- وقد أوردت ذلك في إحدى مقارباتي "البعينية"- بأن شربل بعيني قد دوّخ قارة أستراليا!؟ أجل! دوّخها بعظيم شعره، دوّخها بنتاجه الثرّ، فكان "طاحونة نشر كتب"، ودوّخها بحضوره الدائم، إذْ له "قِرصٌ" في كل عُرس، من أعراس الفكر والأدب في المغترب الاسترالي، وما وراء ذلك المُغترب!
الحواشي:
* - مقاربة لهذا الديوان "خماسيات حب" للشاعر شربل بعيني، صدر في سيدني (أستراليا)، طبعة ثانية 2020، الغلاف والرسوم الداخلية للفنانة رندى بعيني.
  - ابن حزم، "طوق الحمامة في الأُلفة والأُلاّف"، تحقيق إحسان عباس، صادر عن جريدة السفير (لبنان)، في سلسلة "الكتاب للجميع"، رقم 9، دار المدى للثقافة والنشر، 2002، ص ص : 11 و 16 و 17).
2 - راجع، ابن حزم، مرجع سابق، ص ص : 23 – 30. 
3- راجع، ابن حزم، مرجع سابق، ص 53.
4 - راجع، مقدمة "طوق الحمامة" مرجع سابق، ص 9.
5 - راجع ابن حزم، مرجع سابق، ص 65.
6 - راجع ابن حزم، مرجع سابق، ص 67.
7 - الشيخ النفزاوي، "الروض العاطر في نُزهةِ الخاطِر" ، تحقيق جمال جُمعة، رياض الريّس للكتب والنشر، لندن، طبعة ثانية، 1993، ص 24.
8- راجع، ابن حزم، مرجع سابق، ص ص : 136 و149.
9 - منقول من صفحة شربل بعيني على الفايسبوك، الدخول إلى الصفحة في 18/5/2020.
**