مشوار مع شربل بعيني


Kamel El Murr

Meshwar ma’a Charbel Baini

A walk with Charbel Baini

طبعة أولى 1988 ـ طبعة ثانية 2023

**

ـ1ـ
   كان لي شرف المساهمة في مجموعة من سلسلة الندوات التي أحيتها "رابطة إحياء التراث العربي في أوستراليا"، حول شعراء وأدباء المهجر الاوسترالي على الخصوص.
   وفيما كنت أراجع تلك المساهمات المتواضعة، التي قمت بها، لا سيما، المشاركة بندوة حول نتاج الشاعر شربل بعيني، رأيت أنه بالامكان تطويرها، لتتحوّل الى دراسة شاملة لنتاج الشاعر، علّها تحقق غايتين في آن معاً:
   الغاية الاولى: أن تؤدي واجباً نحو واحد من أهم شعراء العربية في وقتنا الراهن، ليس في المغترب الأوسترالي فحسب، بل على نطاق العالم العربي أيضاً. وعلّها تساعد أيضاً في تسديد خطاه على درب الآلام الطويلة، فيتحفنا بنتاج في العامية والفصحى، يكون ذا أثر فعّال في تغيير الواقع المؤلم، الذي تعيشه الأمة العربية قاطبة، بشطريها المقيم والمغترب، وفيمَ الغرابة، أوَ ليس الشعراء والأدباء مهندسي المجتمع!؟.
   أما الغاية الثانية: فنتوخّى لفت الذين يتعاطون الكتابة، شعراً أو نثراً، الى أهم الأسس التي عليهم أن يراعوها، وهم يسكبون أفكارهم وخيالاتهم من خلال مداد أقلامهم، علّهم يفلحون في تحويل هذه الأفكار والخيالات الى كائنات حيّة، إن صحّ التعبير، تضجّ بالحياة والحركة والمعاناة.
   أقول، تحويلها الى كائنات حيّة، لأنني أرى فيما أرى من نتاج ينشر هنا وهناك أفكاراً وخيالات قد اغتيلت فيها الحياة، تارة باسم الحداثة والتجديد، وطوراً باسم القواعد والأوزان، فتحولت إلى تماثيل محنطة قد يصح عرضها في المتاحف.
   ويهمني هنا أن أؤكد ان ما أقوم به هو مساهمة متواضعة قد تصيب وقد تخطيء، إنما الذي يشفع بها الغاية التي إليها أسعى، ومن أجلها أعمل.
   ولهذا رأيت أن أضمّن هذه الدراسة بعض الآراء والاحكام والأمثلة، التي تساعد الكاتب أو الدارس أو القارىء، كلّ في مجاله. الكاتب في حسن الصياغة والسبك، والدارس في فهم النص، وغاية الكاتب مما كتب، والقارىء في إدراك ما للنص من صلة بمجريات الأمور، ودقائق حياة المجتمع في فترة زمنية محددة.
   ولا ريب في أن صحة النظر في الأدب، شعراً كان أو نثراً، "جانب جليل من جوانب الثقافة العامة، التي تستلزم، فيما تستلزم، ان يحس الناس الجمال، ويدركوا القيمة في جميع الأشياء، ومنها هذه العبارة المرسلة نثراً أو قصيداً، والتي نسميها أدباً يصور الناس، ويستجيب للحياة" (رئيف خوري: الدراسة الأدبية، ص 7، دار المكشوف 1969). 
   وحتى يحس الناس جمال العبارة، ويدركوا قيمتها، فلا بدّ لهذه العبارة من أن تتناسق مبنى ومعنى، إذ كيف يصحّ أن نضع الزهر، مثلاً، في مزبلة، أو أن نضع القمامة في إناء الزهر في صدر الدار، ولا نتهم بذوقنا ومعرفتنا وثقافتنا، بل كيف لا تتقزّز نفوسنا من مثل هذا المنظر.
   هنا يتبادر الى الذهن سؤال يطالب بتحديد العلاقة بين المبنى والمعنى، وأيهما أهم في عملية البناء الادبي وكيف؟.
المبنى والمعنى:
   دأب النقّاد منذ القدم على فكّ العمل الأدبي الى عنصرين أساسيين أسموهما: المبنى والمعنى، أو الشكل والجوهر، أو القالب ومضمونه، وتساءلوا عن العلاقة بينهما.
   ولعلّ أكثر النقّاد توفيقاً في تحديد تلك العلاقة، هم أولئك الذين حدّدوها بعلاقة الجسد بالروح، وإن كان في مثل هذا التحديد غموض بيّن، إذ أننا لا ندرك بالتحديد علاقة الجسد بالروح، لكننا ندرك أن الجسد إذا فارقته الروح بطُل كونه جسماً حياً، وان الروح اذا أخرجت من الجسد لا يمكن احتواءها في وعاء آخر أو جسم آخر.
   إذن، العلاقة بين الجسد والروح ضرورية لتمثيل كل منهما، وبالتالي فإن العبارة الأدبية بحاجة الى مبنى مناسب يكون صالحاً لاحتواء المعنى المناسب، وإذا ما اختلت النسب بينهما أصيب كلاهما بالخلل.
   وإذا كانت "الألفاظ خدم المعاني، والمصرفة في حكمها.. والمعاني هي المالكة سياستها، المستحقة طاعتها" كما يقول أبو هلال العسكري، صاحب كتاب "الصناعتين"، وإذا كانت المعاني هي الغاية المنشودة أصلاً، فإن هذه الغاية لا تتم إلا بتلاحم المبنى والمعنى، وبإعطاء كل عنصر منهما حقّه من العناية.
المبنى: المفردات
   تقصد حانوت الصائغ، تطلب عقداً، فيضع أمامك أصنافاً من العقود، تفاوتت قيمتها، وانتظمت لآلىء كل منها بسلك ما، ولكنك، وانت لست صائغاً أو جوهرجياً، تجد نفسك مشدوداً إلى ذلك العقد ذي اللألىء الجميلة النفيسة. والشرط الاول في جمال العقد ونفاسته، هو أن تكون لآلئه جميلة ونفسية.
   وهكذا، فالعبارة الأدبية هي كالعقد تماماً، فإذا كانت مفرداتها وألفاظها جميلة، وذات جرس موسيقي متناسق، وذات قيمة أو معنى، كانت بمثابة العقد النفيس. أما اذا كانت مفرداتها وألفاظها جميلة حسنة، وانتظمت بترتيب متناسق، لكن، لا معنى لها، ولا قيمة، فتأتي وكأنها عقد زجاج شبيه بالإلماس، لكن ليس، ولا يمكن، أن تكون له قيمة الإلماس.
   ومثل هذا الأدب هو ما اصطلح على تسميته "الفن للفن"، باعتبار الادب هو أحد وجوه الفنون.. ولكن نظرية "الفن للفن" سقطت منذ زمن بعيد، ومثل هذه النظرية لا تروج في الادب إلا في عهود الانحطاط، أو عهود الاستبداد والظلم، كما في اقطارنا العربية.
   أما إذا كانت العبارة الادبية ذات مفردات جميلة وحسنة، لكنها ليست متناسقة، فإنها تفقد معناها، وبالتالي تفقد قيمتها، ولنأخذ هذه المقطوعة مثلاً:
"أيل ضرير
بلحية غبراء
وعصا
مستسلم للريح
كأي شحاذ
عظامه الركيكة
تصطك
على عاتق
القطب"
(جاد الحاج: واحد من هؤلاء، ص 49 ـ 50، منشورات سارق النار).
   لو تأملنا بنفردات هذه القطعة، أو ألفاظها، لوجدناها، كألفاظ، لا غبار عليها، هذا إذا استثنينا وصف العظام بالركاكة، إذ أن "الركاكة" غلب استعمالها للتعبير عن ضعف اللغة مبنى ومعنى، وعن ضعف التفكير. فمفردة "ضرير"، مثلاً، تستعمل لكفيف النظر، "غبراء" تشبيه جيد للشيب، و"تصطك" تعبّر عن ارتجاف الاسنان، ويمكن تجييرها للعظام.. إلخ. أما إذا نظرنا الى قيمة القطعة، وحسن انتظامها في عقد، فسنرى العجب.
   من حيث المبنى، لم أجد لهذه المقطوعة أي معنى، إلا إذا أردنا أن نخبر أن أيلاً قد أصابه العمى، أو أنه ولد أعمى. ومتى كانت المقطوعة بغير معنى انتفت قيمتها على الاطلاق، وأصابتها الركاكة.
   أما من حيث انتظامها في عقد حسن النظم، والمقطوعة من ديوان "واحد من هؤلاء"، الذي يفترض أن يكون شعراً، فلم أجد تلاحماً في سبكها على الاطلاق. فمن أيل ضرير إلى شحاذ "تصطك عظامه الركيكة على عاتق القطب"، وحيث انتفى انتظامها في عقد، بطل كونها قطعة أدبية، أو نصاً أدبياً، فكيف إذا أريد لها أن تكون شعراً.
   وإذا ما عرفنا أن ديوان "واحد من هؤلاء" نشر عام 1984، أي في أوّج الأزمة اللبنانية، ومحنة شعب لبنان، وليس في الديوان ما يذكّرك بتلك الأزمة، ولو بصورة باهتة جداً، سوى مقطوعتيْ "موجود بالمراسلة" و"شحرور"، على تقطّع أوصالهما، أدركنا كم هو غريب هذا النوع من الأدب والشعر عن تحسّس الواقع وتصويره.
   وقد لا تستقيم لنا الصورة، أو تكتمل معالمها، ما لم نسق مثلاً آخر يقترب من الأحداث اللبنانية، فنستقدم مقطوعة "موجود بالمراسلة" من ديوان "واحد من هؤلاء"، ونقرأ:
"صديقي العزيز
أغبطك لأن جوازك محترم
أحسدك لأنك إنسان
أنا غدرني وطني
وغادرني
فأصبحت موجوداً بالمراسلة".
(جاد الحاج: واحد من هؤلاء، ص 8، منشورات سارق النار).
   من حيث المعنى، جاءت معبرة نوعاً ما، فجواز سفر اللبناني أصبح مشكلة جديدة تضاف الى مشاكل اللبنانيين العديدة، فحق للشاعر أن يغبط صديقه، لأن جواز سفره محترم في الدول الأخرى، حيث لا يضطر الى الانتظار ساعات كما يحدث للبنانيين، عدا الإهانات وإلحاق الاساءة بهم.
   إما أن يغدر الوطن ببنيه، فتعبير بائس، لأن الناس هي التي تغدر بوطنها وليس الوطن. وبدلاً من أن يسعى لإصلاح الصورة، يفضّل ان يتنكر لوطنه، فيعبّر عن ذلك بقوله "وغادرني" أي أن الوطن غادر كيان الشاعر كلياً، وربما الى الابد، لأن هذه المغادرة جاءت، على حد تعبير الشاعر، نتيجة لغدر الوطن به.
   أما عبارة "أحسدك لأنك إنسان" فبائسة حقاً، لأنها ألغت إنسانية الشاعر، مع أن الظلم الذي يلحق بالإنسان لا يلغي صفته الانسانية على الاطلاق. أما كلمة "أحسدك" فمستهجنة، لأن الحسد ذميم أصلاً، وكان أفضل للشاعر لو كرر كلمة "أغبطك" التي وردت سابقاً، فتكرارها يفيد التأكيد، ويجنّب الشاعر استعمال كلمة الحسد.
   وهكذا نرى ان الشاعر يهرب من واقع الكارثة، وينظر الى البعيد، الى مكان آخر غير وطنه، محتجاً على واقعه بعين الحسد، وليس بعزم التغيير.
   وحين تتكامل لدينا الصورة، فلا بد من أن نسوق مقارنة أخرى لشاعر آخر، لنرى مدى تحسّس الاديب او الشاعر بقضايا شعبه وأمته، ولنأخذ مثلاً هذه المقطوعة للشاعر المرحوم خليل حاوي:
"سرت لا أدري إلى أين
وألوف الأعين الصماء لا تحكي
وتحكي: أنت منبوذ غريب
اصرخوا: انت منبوذ غريب
اجهزوا، مصّوا دمي
مزّقوني بالنيوب
غداً يندك لبنان
وينفى شعب لبنان
ويستعطي الشعوب"
(استشهد الدكتور سهيل أدريس بهذه الابيات لخليل حاوي في مجلة الآداب، العدد 7 ـ 9، آب أيلول 1987)
   هذه المقطوعة كتبت في أعقاب العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، أي قبل كارثة لبنان بنحو خمس وعشرين سنة من وقوعها، وجاءت وكأنها نبوءة، إذ استطاع الشاعر بحسّه المرهف، ومعاناته، أن يرى الكارثة قادمة، فيصوّرها محذراً شعبه منها. فجاءت من حيث المعنى تؤدي الغرض المراد منها، وجاءت ألفاظها خدماً للمعنى سلسة تنساب انسياباً تؤدي وظيفتها على أفضل وجه، وجاءت عبارة "الأعين الصماء لا تحكي" قمة جمالية، وكأنها عقد ثمين أحسن الصائغ نظمه بصورة جميلة رائعة.
      ربّ قائل: ان ما صح للشاعر المرحوم خليل حاوي من تنبّوء بحال لبنان، قد لا يصح لشاعر غيره، إذ أن ميزة استشفاف الأحداث والرؤيا البعيدة المدى، لا تصح لكل أديب أو شاعر، ونجيب على ذلك: بأن الأديب أو الشاعر الذي لا يتمتّع بمثل هذه الرؤيا لا يصح على الاطلاق ان نسميه أديباً أو شاعراً، وربما صحّت تسميته بالكاتب أو الناظم، وإلا كيف تأتّى للشاعر شربل بعيني، مثلاً، في العام 1970، أن يتحسس الكارثة الزاحفة نحو لبنان قبل حلولها بخمس سنوات، حيث يقول في ديوانه "قصائد مبعثرة عن لبنان والثورة":
ـ1ـ
وكالمطر
يتساقط الخطر
في بلادٍ ضائعه
عاريةٍ وجائعه
وكل من فيها كفر
أو هجر
ـ2ـ
الخراب يزحف نحو المدينه
يخترق جدار الصمت والسكينه
والطيور الشارده
في الليالي البارده
ترتّل التراتيل الحزينه
(شربل بعيني: قصائد مبعثرة عن لبنان والثورة، لبنان 1970).
   إنها هي الأخرى نبوءة، تحذر من الكارثة الزاحفة نحو لبنان، وتنم عن بعد نظر، لا يتأتّى إلا للشعراء الشعراء، والأدباء الأدباء. فجاءت من حيث المعنى تحمل رسالة الشاعر الى شعبه، والتحذير من الكارثة، وجاءت من حيث المبنى متماسكة متراصة حيث استطاع الشاعر أن يشحن الكلمات بما أراد من المعنى.
   وهكذا رأينا في المثالين السابقين كيف تكامل المبنى والمعنى، وأدى كل واحد منهما وظيفته على أكمل وجه.. وكيف أن مفرداتهما منتقاة انتقاء دقيقاً، مما يؤكد أن الشاعرين حاوي وبعيني يعيران مغرداتهما اهتماماً خاصاً، ويحرصان على أن يكون لها جرس موسيقي، فلا تنافر بين حروف المفردة الواحدة، ولا تعارض او انفصام بين مفردات المقطوعة، بل تزاوج موفق الى ابعد حدود التوفيق.
المفردات والألفاظ
   جاء في "المثل السائر" لابن الأثير: "ان الالفاظ داخلة في حيز الاصوات لأنها مركبة من مخارج الحروف، فما استلذه السمع منها فهو الحسن، وما كرهه ونبا عنه فهو القبيح". كما ورد لابن جني في كتاب "الخصائص": "ذهب بعضهم الى أن أصل اللغات كلها هو من الاصوات والمسموعات".
    المفردات اللغوية، إذن، هي أصوات، ولكنها أصوات معبرة، لها مدلولات وأعمار. فإذا كان الصوت سهلاً في النطق، سائغاً على السمع، كان ذا رونق وجمالية. فالحياة والهواء والنور ألفاظ حسنة هينة على اللسان، ولا تأنفها الأذن، ولكن ليست كل الألفاظ حسنة، وقد تشكّل عيباً ظاهراً في النثر أو في الشعر. فلفظة "أجشع"، مثلاً، التي وردت في بيت من لامية الشنفري:
وإن مدّت الايدي الى الزاد لم أكن
بأعجلهم، إذ أجشع القوم أعجل
   شكلت عيباً بارزاً في هذا البيت، لأن مخرج حرف الجيم لا يتلاءم ومخرج حرف الشين، وكثيراً ما يلتبس الأمر على السمع، إذ تختلط لفظة "أجشع" بلفظة "أشجع" ما لم يتوقف القائل عند الجيم.
   وكم كان التوفيق رافق الشنفري لو استخدم مثلاً "أشره" بدلاً من "أجشع"، وكم كانت تلك اللفظة طيعة سهلة على اللسان، وحسنة سائغة على السمع.
   واذا كانت للالفاظ والمفردات مدلولات وأعمار توجّب على الأديب ناثراً كان أم شاعراً، أن يستعمل ألفاظه ومفرداته وفقاً لمدلولاتها واعمارها. فلو تصوّرنا ان أديباً استعمل في يومنا هذا لفظة "بعاق" بدل لفظة "المطر" لصح لنا ان نتهمه حتى في ذوقه، لا سيما وأن لفظة "بعاق" تتداخل صوتاً مع أصوات صادرة عن انسان يتقيّأ، كما أن الاستعمال العامي لهذه اللفظة يفيد هذا المعنى.
   ولنتصوّر معاً أن الشاعر شربل بعيني لجأ في مقطوعته التي استشهدنا بها سابقاً الى استعمال كلمة "بعاق" بدلاً من كلمة "مطر" فقرأنا المقطوعة كالأتي:
وكالبعاق
يتساقط الخطر
في بلاد ضائعه.. الخ.
   أفلا يصح عندئذ أن نتهمه بذوقه، وبعدم الاعتناء بألفاظه، من حيث كون الألفاظ أصواتاً، ومن حيث أن للألفاظ أعماراً.
   أو لو لجأ اديب في عصرنا هذا الى استعمال لفظة "الجرشى" مثلا، بدلاً من لفظة "النفس"، أفلا يصح أن نعتبر ألفاظه من مخلفات العهود القديمة، حيث بطل استعمال مثل هذه اللفظة في عصرنا الراهن.
   كثر هم الكتبة الذين يلجأون الى بطون القواميس، فيستخرجون منها لفظة أو ألفاظاً مهجورة مستوحشة، ويظنون انهم بذلك إنما يظهرون مقدرة فائقة في اللغة ومعاني ألفاظها، ولكنهم في الحقيقة لا يظهرون غير غبائهم. فالكاتب الذي يستعمل جاداً غير هازل لفظة "الجرشى" بدلاً من "النفس" و"عنّين" بدلاً من "العجز الجنسي"، و"الانفرنقاع" بدلاً من "التفرّق" متهم في ذوقه وفي مقدرته، أو أنه "عنّين" لغوياً.
اختيار الألفاظ
   كثيرة هي الالفاظ المتماثلة المعنى في لغتنا العربية، كما في لغات أخرى، وتبرز براعة الأديب في حسن اختياره للألفاظ التي تفيد المعنى الذي يريد بقوة، وتحافظ على رونقها. قال البحتري:
أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكاً
من الحسن حتى كاد أن يتكلّما
   إذا نظرنا الى لفظة "الطلق" فإنها تعادل لفظة "هشّ" أو لفظة "بشّ"، ولنتصور البحتري قد استخدم احداهما بدلاً من لفظة "الطلق"، فكم كان يفقد البيت من روعته ورونقه.
   وما يقال عن لفظة "الطلق" في بيت البحتري، يقال عن لفظة "يتعتعني" التي توازي لفظة "يلعثمني" في بيت أبي نوّاس:
وما الغبن إلا أن تراني صاحياً
وما الغنم إلا أن يتعتعني السكر
(ديوان أبي نواس: ص 242، دار صادر، بيروت).
   إذن، اختيار اللفظة من الاهمية بمكان لإفادة المعنى المطلوب، وهي في الوقت ذاته تدلّ على مقدرة الاديب وطول باعه في استعمال الالفاظ وفقاً للأجواء التي توحيها.
   بالطبع، ليس لحسن الاختيار بين الالفاظ مقياس يلجأ اليه القارىء فيستعمله كما يستعمل مقاييس الاوزان والمسافات. غير ان للغة العربية اصولاً يمكن أن نسترشد بها في المفاضلة بين لفظة وأخرى تفيدان نفس المعنى.
   فبعض الالفاظ تكاد تكون منقولة نقلاً عن أصوات فعلها، كاستعمال لفظة "حفيف" للتدليل عن حركة أوراق الشجر، ولا أظن أن لفظة أخرى يمكن أن تنوب منابها في هذا المجال. 
   ولعل معرفتنا بأوزان الالفاظ، من حيث المعنى، تساعدنا الى حد كبير في اختيار اللفظة المناسبة للمعنى المنشود، فكل وزن يؤدي لوناً من المعنى غير الوزن الآخر. فاستعمال لفظة "اعشوشبت" الارض لها من شدة المعنى أكثر مما للفظة "أعشبت".
   جاء في قصيدة للمتنبي:
وتضريب أعناق الملوك وان ترى
لك الهبوات السود والعسكر المجر
وتركك في الدنيا دوياً كأنما
تداول سمع المرء أنمله العشر
(ديوان المتنبي: ص 166، دار الزهراء، بيروت).
   كان باستطاعة المتنبي أن يستخدم لفظة "وضربك" بدلاً من "وتضريب"، كما استعمل "وتركك" في البيت الثاني. لكن استخدامه لفظة "وتضريب" أكثر قوة وإن يكن أصل المعنى واحداً.
   غير أن الالفاظ لا تؤلف أدباً، نثراً كان أم شعراً، إلا اذا انتظمت في عقد محكم الصياغة متقنها.
   وحتى يكون العقد محكم الصياغة متقنها، لا يكفي أن نلتمس جودة انتقاء المفردة لدى الاديب او الشاعر، بل يجب ان نلتمس حسن التزويج، اذا صح التعبير، بين ألفاظه، ولا يتم لنا ذلك إلا بحسن اختيار موقع اللفظة في العبارة، كما حسن اختيار موقع حبّات العقد في العقد. فهل رأيتم عقداً حبّاته الكبرى على طرفيه فيما الحبّات الصغرى في الوسط؟.
   واذا كانت جميع حبّات العقد، أو وحداته سليمة من حيث جوهرها، فهل تسمى عقداً اذا لم يحسن ترتيبها.
   وكما العقد، كذلك المقطوعة الادبية، شعراً أو نثراً. وحتى نتبيّن القصد من هذا القول بوضوح، لا بد من أن نسوق مثلاً معيّناً، ولعل القراء أو جلّهم، على الاقل، قد سمع هذا الرجز:
وقبر حرب في مكان قفرْ
وليس قرب قبر حرب قبرْ
   لو أخذنا مفردات هذا البيت، كلاً على حدة، لاستطعنا القول ان لا غبار عليها، لكن التزويج فيما بينها جاء متنافراً بسبب أصواتها المتنافرة، التي تجعلها ثقيلة على السمع واللسان، والتزويج لا يقتصر على الالفاظ فحسب، بل يتعدّاها الى المعنى ايضاً، فلا يجوز أن نستعمل التعبير العلمي، مثلاً، في موقف الغزل، كما فعل القائل:
تعلّمت علم الكيمياء بحبّه
غزال بجسمي ما بجفنيه من سقم
وسعدت أنفاسي وقطرت أدمعي
فصح من التدبير تصفيرة الجسم
   فعلم الكيمياء والتصفيرة مفردات لا تنساق بطبيعتها مع الغزل.
   يقول ابن الأثير في "مثله السائر":
"إذا لم تجد اللفظة واقعة موقعها، صائرة الى مستقرها، حالّة في مركزها، متصلة بسلكها، بل وجدتها قلقة في موضعها، نافرة في مكانها، فلا تكرهها على اغتصاب الاماكن، والنزول في غير أوطانها".
   وحتى يكون التزويج بين الالفاظ والمعاني صحيحاً، تطلب معرفة بالحقائق الطبيعية وما اليها عندما نعالج موضوعاً معيّناً، أو عندما نسرد خبراً في قصة، أو رواية، وما الى ذلك.
   أما محاولات التقريب بين العامية والفصحى، فلا يحالفها التوفيق ما لم تقترن بمعرفة وافية لاصول الفصحى، ولاصول العامية معاً.
   جاء في رواية "لينا لوحة فتاة دمشقية" على لسان واحدة من أشخاص الرواية:
"وجنة محمد برجالها المستلقين على الارائك، كؤوس النبيذ في يد، وأرداف الحور في يد أخرى، لا يمكن أن تستهويني"
(الدكتورة سمر العطار: لينا لوحة فتاة دمشقية، صفحة 252).
   توحي لك هذه العبارة ان المؤلفة جعلت روايتها ساحة لعالمها، حيث تتمثّل شخوصها بشراً سوياً، تنتصب حولك كالجبابرة، على حد قول مارون عبّود، أليس جباراً ذلك الذي ينقد مفهوماً دينياً، ويخضعه لمحاكمة البشر؟. أوَ ليس عظيماً ذلك الذي يرفض جنة من أجل المساواة بين البشر؟
   أوَ ليست المؤلفة شاعرة وفنانة، حيث تنقلك الى الساحة التي خلقتها في روايتها، فترى البيوت والاسواق والجبال والأودية، والانهار والحقول، والسماء والنار، والارض والفضاء، والكواكب والنجوم، وحتى الجنة وفقاً لمفهوم معيّن في رابعة النهار.
   لقد تقمصت هذه الفكرة روح قارئها الشاعر شربل بعيني، فعاشت معه كما عاشت مع مؤلفتها، وأوحت له أن يقول في ديوانه "ألله ونقطة زيت":
شو بينفعني خلاص النفس
بجنّه كلاّ جنس ومال
(شربل بعيني: الله ونقطة زيت، ص 85، سيدني 1988).
   في رواية "لينا لوحة فتاة دمشقية" حوار بالعامية، كما يأتي على لسان أشخاص الرواية، لكنه مشحون بالغايات التي أرادتها المؤلفة. كما جاءت الفصحى في سياق الرواية سلسة متينة السبك، صحيحة العبارة، ومشحونة هي الأخرى بالمعاناة الانسانية، وتدفعك دفعاً الى التفكير بضرورة التغيير لواقع المجتمع البائس، كما أن فيها لمعات فكرية هي النبوغ بعينه.
   ان سلاسة اللغة وصحة صياغتها وسبكها وابتعادها عن وحشي الكلمات، وشحنها بالمعاناة، هو شرط أساسي وضروري لنجاح أي عمل أدبي، روائياً كان أو غير روائي، كما أن اللجوء الى الكلمات القاموسية يشكل عيباً بارزاً في العمل الأدبي، لا يلغيه جمال العمل، ولا دقة استعمال مثل تلك المفردات.
   جاء في تعليق لجوزاف بو ملحم حول قصة "الزواج" لتولستوي، ترجمة جميل غازي، نشر في جريدة صدى لبنان، الصادرة في سيدني:
"فإني أكره لغة القواميس، وإذا كنت أجيز لنفسي استعمال القاموس لفهم شعر أو أدب تبعده عني مسافات جغرافية وزمنية، فإن هذه النفس لا تجيز لي استعمال القاموس لفهم أدب معاصر".
   منتقداً بذلك استعمال جميل غازي لمفردات قديمة مثل "مبذلي" بدلاً من "ثوبي"، و"الزمع" بدلاً من "الخوف"، وفي الحقيقة فإن استعمال الاستاذ جميل غازي لمثل هذه المفردات شكّل عيباً في ترجمته الراقية لقصة "الزواج"، وكان من المستحسن لو تفاداها المترجم، وهو المتمكن من اللغة العربية.
   واذا كانت هذه حالنا مع اللغة الفصحى، فكيف باسنعمال ألفاظ عامية غير مألوفة ولا معروفة، وتصريفها وفقاً للقواعد الصرفية والنحوية، كاستعمال مفردة "طعشيّون" (جاد الحاج: الاخضر واليابس، ص 289، سيدني 1988). ومفردة "طعش" العامية مقرونة أبداً برقم يبدأ من الثالث عشر الى التاسع عشر، فنقول بالعامية "اربعطش"، اما أن تأتي "طعش" دون رقم، ونجمعها جمع مذكر سالماً، وكأنها لغة فصيحة وسط جملة كل مفرداتها صحيحة، ودون أن نضعها بين أقواس، فذلك لا يجعل المفردة صحيحة، ولا يمكن تأويل استعمالها على هذا النحو: بأنه مزج بين العامية والفصحى، لا سيما وان المفردة لم تأتِ في سياق حوار ما.
   ان استعمال المفردة العاميه مكان المفردة الفصحى خارج نطاق الحوار، لا يجوز إلا إذا عجزت المفردة الفصحى عن تأدية المعنى المطلوب وبدقة، وهذا أمر مشكوك فيه، وفي ما عدا ذلك، يشكل استعمال المفردة العامية ركاكة.
   كثيرة جداً هي المفردات العامية، لا سيما المفردات العامية اللبنانية، التي تفصحنت، أي دخلت نطاق المفردات الفصيحة، وما ذلك إلا لأن العامية اللبنانية أقرب العاميات العربية الى اللغة الفصحى، ومعظم مفرداتها لها جذور في الفصحى، كما يؤكد ذلك مارون عبّود. (مارون عبّود: اللهجة العامية اللبنانية، المجموعة الكاملة، ص 338).
**
ـ2ـ
   الدراسة لأي نتاج أدبي، شعراً كان أو نثراً، لا بد وأن ترصد نتاج الاديب او الشاعر، منذ تكون براعم النتاج حتى اللحظة التي ترى فيها تلك الدراسة النور.
   أو قل: لا بد أن تحصي عليه، أي على الاديب او الشاعر، أنفاسه، فتنظر الى عدته التي هي كما يقول مخائيل نعيمة:
"لغة فكر وخيال وذوق ووجدان وإرادة. وهذه كلها قابلة للتنمية وللصقل، وخير الوسائل لتنميتها وصقلها هو احتكاكها المستمر بما سبقها وما عاصرها من نوعها، ثم توجيهها التوجيه المستقل في الطريق الذي تفرضه على الكاتب حياته الباطنية والخارجية".
   نقول: ننظر مثلاً الى عدّته فيما اذا كانت متناغمة متناسقة مؤتلفة فيما بينها، وبالتالي اذا كانت تشكل بناء أدبياً متكاملاً أو العكس.
   وإذا جئنا لندرس نتاج الشاعر شربل بعيني، فعلينا ان نعود الى بدء طفولته الشعرية مقسمين نتاجه الى شعر المراهقة، وشعر الشباب، وشعر النضوج، ويأتي بينها، بالطبع، نثره الساخر. فبين مؤلفات الشاعر بعيني كتاب يحمل عنوان "من كل ذقن شعرة"، ولذلك تراني حلقت ذقني مرتين حتى لا يركب الشاعر رأسه، ويمد يده في لحظة غضب، وما أكثر ما يغضب الشعراء، فيسحب منها شعرتين.
   الشاعر شربل بعيني غزير الانتاج، ومؤلفاته عديدة، أذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: مراهقة 1968، قصائد مبعثرة 1970، وهذان الكتابان صدرا في لبنان قبل سفره الى أستراليا. مجانين 1976، الهي جديد عليكم 1982، مشّي معي 1982، رباعيات 1983، قصائد ريفية 1983، من كل ذقن شعرة 1983، من خزانة شربل بعيني 1985، الغربة الطويلة 1985، كيف أينعت السنابل؟ 1987، وألله ونقطة زيت 1988.
   بالطبع، لا يتسع المجال لاستعراض مجمل نتاج الشاعر، الفصيح منه والعامي، ودرسه دراسة شاملة، لذلك سنبدأ بأول كتبه "مراهقة"، متوقفين عند المحطات الكبرى في رحلة الشاعر.
   المكتوب يقرأ من عنوانه، هكذا يقول المثل، وكتاب "مراهقة" هو بالفعل شعر مراهقة، يتميّز بالعبثية والمجون والاباحية، يصوّر نفسيات المراهقين والمراهقات، وكيف يفكر كل منهم، وبماذا يفكر، ولكن الذي يشفع فيه لغته السلسة، خياله الجامح، وذوقه الرفيع في انتقاء الاجمل والاحسن.
عوينات سود كبار
خفيت عيون زغار
غطّت مساحه وصار
وجّك عتم ونهار
(شربل بعيني: مراهقة، ص 34، الطبعة الثالثة، سيدني 1987).
   "عتم ونهار" تشبيه رائع بلغة سهلة، لا أظن أن أحداً سبقه لمثل هذا التشبيه إلا الشاعر الذي اختصر آيات الحسن ببيت قال فيه:
قدّ وشعرٌ وخدُّ
غصنٌ وليلٌ ووردُ
   محبوبة الشاعر تبكي لأمر ما، فيعزّ عليه أن يراها دامعة العين، مكسورة الخاطر، فيعمل المستحيل حتى يطيّب خاطرها، ولو كان هذا المستحيل محو البشر:
ليش البكي دموعك مطر
شو اللي على بالك خطر
شو مزعّلك؟ قولي وأنا
تا إبسطك بمحي البشر
(شربل بعيني: مراهقة، ص 47، الطبعة الثالثة، سيدني 1987).
   الكلام هنا بالعامية اللبنانية، وليس بالعامية العراقية، وكلكم تعرفون معنى "البسط" بالعامية العراقية، وقّاكم الله من ذلك البسط.
   وعندما عجز الشاعر عن تطييب خاطر "ليلاه"، هددها قائلاً:
شو مزعّلك؟ إنتي القمر
إنتي السحر فيكي انسحر
ليلى إذا بكيتي بعد
عم هدّدك قيس انتحر
(المصدر السابق، ص 48)
   وتنتهي القصيدة هنا، وعلى ما يبدو فإن "ليلاه" قد حبست دموعها، وكفّت عن البكاء، وإلا لما كان الشاعر حيّاً يرزق، أوّ لم يقولوا: أجمل الشعر أكذبه؟.
   ومن محاولات استرضاء الحبيب الى إغضابه مرة أخرى بمخاطبة صاحبة الصدر العالي:
ـ1ـ
صدرك جبل عالي
وأنا التلجات
عم دوب بليالي
هنا وآهات
حنّي على حالي
ـ2ـ
صدرك صخر مرمر
وفي تلتين بروح
ترابُن جلد أسمر
عليهُن تجي وتروح
نسمة هوا شمالي
(المصدر السابق، ص 60).
   ولا تطول رحلة الشاعر مع العشاق، فيعلن توبته:
كرمال عينك شمعتي ضوّيت
وتركت عيش الليل يا عيوني
وما عدت إسهر يوم برّا البيت
ولا عدت إشرب خمرة جنوني
(المصدر السابق، ص 74).
   لكن توبة شاعرنا، وهو في سن المراهقة، كتوبة سائر الشعراء، كانت توبة عن التوبة، فيعود الى مجونه من جديد:
ـ1ـ
حملني ع زندك حطّني
وع صدر عامر شدّني
وخدني ع دنيي مبحبحه
بالحب أوعا تردني
ـ2،
خدني ع أوضه معتمه
ع فراشها تا نرتمي
جسمي شعل.. تمّي حمي
عجّل بميّك رشّني
(المصدر السابق، ص 83).
   ويبدو أن حال شاعرنا كانت كحال سائر الشعراء، فلم يحظَ برضى والد من أحب، فانتفض لكرامته وقال:
بيّك طردني وما قبل فيي
كون صهرو وطبطب عليي
سألت السبب، تاري السبب إنّي
معتّر فقير وشو هالخْطيّه
قولي لبيّك يعتذر منّي
وقولي بحبّو كتير يا بيّي
   إلى أن يقول:
شاعر أنا بصوّر ألف جنّه
وعندي الشعر ينبوع حنيّه
بخلّي الدني تتلهف لفنّي
بخلّي الحرف صندوق ماليّه
(المصدر السابق، ص 108).
   وتتجلّى عبثية الشاعر في قصيدة "يا زغيرتي"، حيث يقول:
شو ناطره.. ومستنظري
يا زغيرتي لقطف الجنى
وبكرا سوى رح نهتري
هالعمر آخرتو الفنا
(شربل بعيني: مراهقة، الطبعة الأولى، ص 9، لبنان).
   ولا ينسى الشاعر أن يصف الفستان القصير، وموضة "الميني جيب"، وماذا فعلت يالمراهق وبالختيار.
   رحلة المراهقة لا تطول عند الشاعر، وتبدأ قصائده العاطفية بالتزام حدود الآداب والاحتشام، إذا صحّ التعبير، ويبدأ الندم، فيقول في ديوان "مشّي معي":
ختيار يا شربل صرت ختيار
وبعدك بلا شمس وبلا أقمار
قصران؟ أن إنّك يا شاعرنا 
عشت العمر كلّو باستهتار
(شربل بعيني: مشّي معي، غير مرقّم، الطبعة الاولى، 1982).
   ولن نتوقّف أكثر عند ديوان "مشّي معي"، لكن لا بد من الملاحظة أن العبثية التي شاهدناها في "مراهقة"، قد بدأت تتقهقر ليحلّ محلّها وعيٌ لمشاكل الوطن والمواطنين، فيصرخ الشاعر بأعلى صوته، وهو إبن السابعة عشرة ربيعاً، محذراً من الخطر، من الخراب الزاحف نحو الوطن. فوجدان الشاعر الانسان قد ابى عليه أن يظلّ مسترسلاً وراء عبثية تفتّش عن لذّة عابرة، أو إشباع شهوة، فيما انسان بلاده يُدفع الى اليأس بكل شيء، حتى بالوطن الذي حوّله الحكم الى وطن سائب، دافعاً أباة النفوس فيه الى هجره الى حين، أو يشردهم في كل حدب وصوب:
ـ1ـ
وكالمطر
يتساقط الخطر
في بلادٍ ضائعه
عاريةٍ وجائعه
وكل من فيها كفر
أو هجر
ـ2ـ
الخراب يزحف نحو المدينه
يخترق جدار الصمت والسكبنه
والطيور الشارده
في الليالي البارده
ترتّل التراتيل الحزينه
(شربل بعيني: قصائد مبعثرة عن لبنان والثورة، لبنان 1970).
   يا لروعة التشبيه، الناس يهيمون هرباً من مظالم زمر الحكام والزعماء، أفراداً وجماعات تماماً كما تهرب الطيور في الليالي الباردة، باحثة عن دفء ما في مكان ما، وهم يرددن ترانيم الصلاة الحزينة.
   الشاعر والاديب هما رسولا البشرية المعذبة، يتحسّسان الخطر قبل وقوعه، ويحذران الناس من الطوفان الآتي، فإن استجاب الناس لصوت الوجدان الهادر في أعماق نفوس الشعراء والادباء والمفكرين اختصروا  رحلة العذاب، وبدّلوا من أحوالهم بتبديل حكامهم وزعمائهم، وإن لم يجد صوت الوجدان هذا آذاناً صاغية، وصدى عميقاً في نفوس الناس، يظل الحكام والزعماء متربعين حيث هم فيما يتبعثر الشعب أشلاء.
   وهذا في الحق ما حدث ويحدث في لبنان، وفي أقطار عربية كثيرة، إن لم يكن في كل الاقطار العربية، فالشعب يتناثر أشلاء طائفية ويتفتت الوطن، والزعماء يتفرجون، يقهقهون، يعربدون فرحين بما صنعت أيديهم، لأنهم على الأشلاء يعيشون.
   لكن صوت الوجدان عند الشعراء والادباء والمفكرين لا يتلاشى، وإن خفت الصوت فلا بد من أن تعلو نبراته من جديد، حتى ولو من أقاصي الدنيا:
رويداً،
رويداً،
يغيب النور عن عينيْ
وأيامي تموتُ وتدفنُ في راحتيْ
وفمي ييبسُ ولساني
يصيح بصمت الأحزانِ
بلادك أنقذ يا بنيْ
(المصدر السابق)
   وإذا كان الشاعر يصبّ جام غضبه على الزعماء والحكام الذين يشعلون الاوطان، ويقهرون انسانية الانسان فيها، فإنه لا يبرىء الشعب من الحالة التي وصلت اليها تلك الاوطان، لأنه في ساعة الخطر الاولى لم يتصدَّ لبغي الحكام والزعماء، فنشد السلامة العقيمة، واستكان الى المهانة، فظل الحكام والزعماء حيث هم، فيما الشعب يتناثر أشلاء:
عيون المجد إن تدمعْ
فدمعها يروي ما نزرع
ولكنّا فقأناها
وم ثمّ رميناها
بسهم حاقد يصرع
(المصدر السابق).
   ذلك هو صوت وجدان الشاعر في "قصائد مبعثرة"، ذلك الصوت الذي أبى عليه أن يستكين للسلامة العقيمة. ولأن صوت وجدانه كان يهدر كالسيل، ولأنه كان صوت وجدان الشعب أيضاً، رأت أنظمة الظلم إسكاته قبل أن تصل كلماته الى أذهان الجماهير، وتتحوّل إلى قوة مادية، إلى ثورة تزعزع أركان الظلم والفساد.
   وكان أن هجر الشاعر مرغماً، على أمل أن يعود الى بلاده، وقد انتصب الشعب مارداً جباراً مسترجعاً حقّه في الحياة، مكرساً إنسانية الانسان في وطن الانسان.
**
ـ3ـ
   "يوميات مراسل أجنبي في الشرق الاوسط"، التي نشرت في معظم الصحف البيروتية في العام 1969، لم يتوفّر لنا منها الشيء الكثير، على أن القليل الذي بين أيدينا يعطينا فكرة واضحة عن نهج هذه اليوميات التي يمكن أن نعتبرها نثراً رفيعاً يغلب عليه طابع السجع، أو إذا شئنا شعراً طليقاً أو حراً.
   اليوميات تصف الحالة الزرية التي يعيشها اللاجئون الفلسطينيون في المخيّمات، وتستحث العرب من أجل شد ازر الفلسطينيين ونصرتهم:
.. وَالرَّعْدُ يُجَلْجِلُ وَالْمَطَرُ
يَنْهَمِرُ
كَدُمُوعٍ مَجْرَاها الْقَدَرُ
كَشُمُوعٍ
ذَوَّبَهَا الْخَطَرُ
فَبَكَتْ،
وَالْخَيْمَةُ تَرْتَجِفُ،
وَيَئِنُّ فِي الْخَيْمَةِ بَشَرُ.
(مجلة الدبور: العدد 2350، 7 أب، 1970، لبنان).
   ولا تنسى اليوميات هذه أن تدقّ ناقوس الخطر، وتدعو العرب الى استعادة كرامتهم التي امتهنتها اسرائيل:
يا رَئِيسَ كُلِّ دَوْلَه
حَمَلَتْ إِسْمَ الْعَرَبْ
كَيْفَ تَرْضَى بِالْمَذَلَّه؟
كَيْفَ تَرْضَى أَنْ يَقُولُوا:
دَاسَتِ النَّمْلَةُ تَلَّه؟!
(مجلة الدبور: العدد 2350، 7 أب، 1970، لبنان).
   وكأنه في ذلك قد أعاد صورة المتنبي عن الحكام العرب الذين تسببوا بكل نكسات العرب:
وإنما الناس بالملوك وما
تفلح عرب ملوكها عجم
(ديوان المتنبي: ص102، دار الزهراء، بيروت).
   ويأتي مؤتمر القمة العربية في الرباط آنذاك، ويبني الشاعر أبراج الأمل على النتائج المحتملة لهذا المؤتمر.
   وكالعادة في مؤتمرات القمة العربية فقد أسفرت اجتماعات المؤتمرين على قرار واحد بالاجماع هو اتفاقهم على أن لا يتفقوا.
   ويرتفع صوت الشاعر من جديد حزيناً كئيباًـ تملأه المرارة، وخيبة الأمل، وضياع فرصة اتفاق الحكام العرب فيما بينهم، لمواجهة الخطر الصهيوني المحدق بهم:
فِي الرِّبَاطْ..
لَـمْ أَنَـمْ إِلاَّ قَلِيلاَ..
كُنْتُ مِثْلَ الطَّيْفِ أَمْشِي،
أَحْضُنُ الدُّنْيَا بِرِمْشِي،
أَحْلًمُ حُلْماً جَمِيلاَ
لِـمْ أَضَاعُوا الْحُلْمَ،
قُولُوا..
وَأَرَادُوا الْمُسْتَحِيلَ؟!
(مجلة الدبور: العدد 2350، 7 أب، 1970، لبنان).
   لكن شاعرنا متفائل بطبعه، لا يترك لليأس سبيلاً الى نفسه، أو انه يرى أن مهمة الشاعر أن ينتقد ويقسو في سبيل دفع الناس لتحقيق ذواتها، فما أن يهدم قلاع الوهم بيد حتى يبني باليد الاخرى صروح الامل وقلاعه:
"أَبُو الْهَيْجَاءِ أَتى"
صَاحَ طِفْلٌ فِي الْمُخَيَّمْ
وَتَبَسَّمْ..
كُلُّ مَنْ فِي السَّاحَةِ الْكُبْرَى تَبَسَّمْ
نِسْوَةٌ يَحْمِلْنَ أَطْفالَ الْغَدِ،
وَشُيُوخٌ ذَاقُوا ظُلْمَ الْمُعْتَدِي،
وَلُيُوثٌ
لَبِسُوا الثَّوْبَ الْمُرَقَّطْ
آهِ ما أَحْلَى لِقَاءَ "الْمُفْتَدِي"!..
(مجلة الدبور: العدد 2350، 7 أب، 1970، لبنان).
   ورأى في المقاومة الفلسطينية بذوراً صالحة لثورة شعبية عارمة تصحح اعوجاج مسار التاريخ، وتضع الشعب الفلسطيني في مركزه الطبيعي، فأطلق صيحته مجلجلة:
فَلَسْطِينُ ثُوري..
وَحَطِّمِي قَيْدَ الْعَدُوِّ الْحَقِيرِ،
وَكُونِي الْخُلُودَ لِشَعْبٍ كَبِيرِ
وَصِيرِي
حُرُوفاً تَهابُهَا كُلُّ السُّطُورِ.
(مجلة الدبور: العدد 2350، 7 أب، 1970، لبنان).
   السطور عادة تشتاق الحروف، إذا صح التعبير، لتتحوّل بها، اذا قيض لها، أن تدخل أذهان الناس من مجرد قوة فكرية الى قوة مادية ملموسة، فكيف تأتّى للشاعر أن يجعل منها، أي الحروف، جلالاً جعل الاسطر تهابه. انه والحق يقال تعبير رائع قد لا نحس روعته ما لم نتذكر ثورة الحجارة لأطفال فلسطين، 1988، وكيف فعلت بالعدو الصهيوني ما عجزت جيوش جرارة لا تملك أمر ذاتها فعله. والشاعر شربل بعيني يحثّهم، أي أطفال الحجارة، على ضرب الجميع بمن فيهم نحن العرب، والشاعر واحد منا:
ـ1ـ
يا طِفْلَ الأَرْضِ الْمُحْتَلَّه
يا فَجْرَ الإِنْسانِ الأَعْظَمْ
إِضْرِبْ..
إِضْرِبْهُمْ..
إِضْرِبْنا..
فَالْكُلُّ بِحَقِّكَ قَدْ أَجْرَمْ
وَسِلاحُكَ حجرٌ قُدْسِيٌّ
إِشْتاقَ الأَيْدِيَ كَيْ يَنْقَمْ
فَتَقَدَّمْ..
كالْبَطَلِ الضَّرْغَمْ
كَعَواصِفِ حَقٍّ لا تَرْحَمْ
فَمُنايَ تُريدُكَ يا وَلَدي
أَنْ تَقْطِفَ نَصْراً..
أَنْ تَسْلَمْ..
ـ2ـ
يا طِفْلَ الأَرْضِ الْمُحْتَلَّه
يا كُلَّ جُنَيْناتِ اللَّيْمونْ
يا شَاطِىءَ غَزَّةَ..
يا فُلَّه..
تَتَلَهَّفُ لِلْعِطْرِ الْمَجْنُونْ
النَّصْرُ أَمامَكَ مَكْتوبٌ
بِصَلاةِ الأَهْلِ..
بِصَيْحَةِ دَمْ
فَتَقَدَّمْ..
كالْبَطَلِ الضَّرْغَمْ
كَعَواصِفِ حَقٍّ لا تَرْحَمْ
لَنْ يُصْلَبَ يسوعٌ ثَانٍ
والْعالَمُ مَخْذولٌ..
أَبْكَمْ.
ـ3ـ
لا تَحْنِ الْهامَةَ يا وَلَدي
فَكِبارٌ يَحْنُونَ الرَّقَبَه
وَرُؤوسٌ داسَتْها زَمَناً
جَزماتُ الْحُكَّامِ الرَّطِبَه
لا تَسْكُتْ عَنْهُمْ..
أُرْجُمْهُمْ
فَالْكُلُّ يَبيعُونَ الْكَذِبا
وَأَنا رَبَّيْتُكَ يا وَلَدي
وَزَرَعْتُ بِزَنْدَيْكَ الغَضَبا
فَتَقَدَّمْ..
كالْبَطَلِ الضَّرْغَمْ
كَعَواصِفِ حَقٍّ لا تَرْحَمْ
قَدْ آنَ أَوانُ مَسِيرَتِنَا
لِنُذِيقَ الأَعْداءَ الْعَجَبا.
ـ4ـ
يا وَخْزَ الوِجْدانِ الرَّثِّ،
الْمَجْزوءِ،
الْمَوْبوءِ،
الْمُعْتَلّْ
يا كَفّاً تَعْرِفُ كَيْفَ تُحَطِّمُ
أَحْناكَ الْغَازِي
الْمُحْتَلّْ
يا فَجْراً أَحْرَقَ عَتْمَةَ عَصْرٍ بَاغٍ
يَحْكُمُهُ الْجُبَناءْ
دَعْ صَخْرَ جُنونِكَ يُرْعِبُهُمْ
فَبِلادُكَ ضَيَّعَها الْعُقَلاءْ
وَتَقَدَّمْ..
كَالْبَطَلِ الضَّرْغَمْ
كَعَواصِفِ حَقٍّ لا تَرْحَمْ
سَتَنامُ قَريراً يا وَلَدي
وَتُؤَرِّقُ بالنَّصْرِ الأَعْداءْ
وَسَتَبْقَى الأَعْظَمَ يا وَلَدي
وَأَمامَكَ تَنْدَحِرُ الأَسْماءْ.
ـ5ـ
غالٍ..
وغَلاؤكَ يُجْبِرُني
أَنْ أُبْعِدَ عَنْكَ أَذَى الْعُدْوانْ
لكِنِّي أَبْغِيكَ الْبُشْرَى
كَأَبيكَ النّائِمِ في بيسانْ
كَأَخيكَ الْقُدْسِيِّ الْقَسَماتِ
الطَّالِعِ مِنْ رَحِمِ الإِيمانْ
أَبْغِيكَ كِتاباً حَيّاً
لَمْ يُقْرَأْ..
كَتَبَتْهُ حَصى الشُّطْآنْ
تاريخاً..
لَمْ يَخْجَلْ أَبَداً،
لَنْ يُدْمِي أَفْئِدَةَ الأَزْمانْ
فَتَقَدَّمْ..
كَالْبَطَلِ الضَّرْغَمْ
كَعَوَاصِفِ حَقٍّ لا تَرْحَمْ
أَحْجارُكَ،
حَتْماً، يا وَلَدي
سَتُعيدُ بِناءَ قُرَى الأَوْطانْ.
(جريدة النهار الاوسترالي: العدد 582، 17 آذار 1988).
   ولا ينسى الشاعر في يومياته تلك، التي انتحل فيها شخصية مراسل أجنبي في الشرق الاوسط، لحكمة ما، قد يكون سببها الاضطهاد، ما للغة من أهمية في حشد الطاقات البشرية للفعل في مختلف مناحي الحياة، فكيف إذا كانت هذه اللغة لغته العربية:
خُطْبَةُ الْجُمْعَةِ كَانَتْ رَائِعَهْ..
أَشْكُرُ مَنْ عَلَّمَنِي النُّطْقَ
بِلِسَانِ الْعَرَبْ.
لُغَتُهُمْ شِعْرٌ
وَآلاتُ طَرَبْ
لُغَتُهُمْ سَيْفٌ مَتَى شَاءَ ضَرَبْ.
(مجلة الدبور: العدد 2350، 7 أب، 1970، لبنان).
   في تلك الفترة الزمنية بدأت رؤيا الشاعر تتضح أكثر، واتسمت كلمته بنضوج مبكر، أحس خطره حكام تلك الفترة، فكانت "سد بوزك"، وإلا رموك في البئر".
   وهل رأيتم شاعراً أو مفكراً أو عالماً اتسم بسمة النبوغ "يسد بوزه" بسبب الظلم اللاحق به؟ وينكر ذاته طلباً لسلامة تراكم سنوات لا قيمة لها ولا معنى في اهراء حياته.
   ذلك سقراط، الذي شرب السم مختاراً، ولم يتراجع قيد أنملة عما اعتقده صحيحاً.
   وذلك غاليليه، الذي أجاب وسطاء الخير الذين سعوا لاطلاق سراحه من سجون كنائس روما آنذاك، طالبين اليه ان ينكر كروية الارض ودورانها، ليسهل عليهم مهمتهم، يتمسك بالحقيقة التي اكتشفها ويقول:
.. ولكنها تدور
   وأيضاً، شهداء الاستقلال في لبنان وسوريا، يفضلون الموت على أعواد المشانق، أراجيح الحرية، من أجل أن تحيا بلادهم مستقلة موفورة الكرامة.
   فهل يصح لشاعر كالشاعر شربل بعيني أن يتنكر لذاته خوفاً من "بئر" ظلم الحكام؟.
   وبالتالي، هل بستطيع نشر كلمته لتصل الى أذهان الناس، ووسائل النشر بين مطبّل ومزمّر خوفاً من تلك "البئر" اللعينة؟.
   ربما كانت الهجرة هي الحل الأمثل لهذه المعضلة، ففي المغتربات نمت أفكار متحررة، وغزت العالم العربي دون استئذان.
**
ـ4ـ
   تطول غربة الشاعر، وتطول معاناته، ويصعق لما آلت إليه حال بلاده، ويرى ممارسات الزعماء فيها، وردات فعل الشعب، أو بالتحديد فئات منه عصفت فيها ريح الطائفية.
   يرى كل ذلك جنوناً خالصاً، فكان ديوانه "مجانين" الذي صدرت طبعته الأولى سنة 1976، ثم صدرت الطبعة الثانية منه سنة 1986، وقد قالت فيه مجلة "النهار العربي والدولي" في العدد 475:
شربل بعيني يصرخ في أستراليا:
وآخرتها شو؟
ما ضل عنا بيت
   وتؤكد "النهار العربي والدولي" التي خصّت "مجانين" بصفحتين كاملتين على ، والكلام لها، "نفحة الصدق القوي التي تهدر في الديوان، وهو من الشعر المتألم لما حلّ بلبنان، من غير أن "يصطف" مع فريق ضد فريق، بل هو ينطلق في معاناته، وفي تعبيره معاً، من كون ما حلّ بالوطن حرباً على الجميع، وشراً ضد الجميع، ومن كون الانسان هو الغاية لا دينه ولا حزبه".
   إذا كان الأديب مرآة مجتمعه، فالشاعر هو رادار الأمة، وبوصلة سيرها عبر الزمان، بوهج أفكاره تستنير دربها، ومن دفء معانيه، تستلهم مجدها، ومن غضبه الواعي المقدس، تستمد القدرة لدك معاقل الظلم، وللقضاء على الفساد والمفسدين.
   وشربل بعيني واحد من أكثر رادارات الأمة حساسية، شاشة شعره تسجل ادق ذبذبات الحياة، ترسل التحذير حيث يجب التحذير، وترسم معالم الغد المشرق لأمة أصابها الذبول بعد مجد زاهر اغتاله تجار الطائفية وعبيد الدولار.
   واذا كان الشاعر شربل بعيني قد شرّدته حرب الجنون في لبنان، كما شردت آلاف اللبنانيين، فإن الغربة قد أرهفت إحساسه الوطني والانساني، ووضعته في طليعة شعراء المهاجر الذين يسهمون ببلورة مفهوم صحيح للوطن وللعلاقات بين المواطنين، ويسهم بقسطه في بلورة مفهوم للعلاقات الانسانية، التي تعكّرها بين الحين والحين ممارسات السياسيين الدجالين، الذين يذبحون الوطن والإنسان لإرضاء نهمهم وحقدهم وخبثهم.
   ولا يخشى شربل بعيني أن يقول الحق، وهو يعرف حقّ المعرفة ان قول الحق في عالم تحكمه شرائع الغاب، لا بد وأن يؤذي قائله، بل ربما أدى الى الاستشهاد، لكن لا بد من قوله:
عَارِفْ أَنَا.. عَمْ إِكْتُب بْشِعْرِي
نْهَايْتِي.. وِنْهَايْتِي اسْتِشْهَادْ
وْعَمْ إِسْرُق الأَيَّامْ مِنْ عُمْرِي
وْأَيَّامْ عُمْرِي كلّهَا أَمْجَادْ
مَا هَمّنِي لَوْ يِطْعَنُوا صَدْرِي
وْمَا هَمّنِي لَوْ صَارْ جِسْمِي رْمَادْ
الْـ بِيهِمّنِي.. مَا يِنْفتحْ قَبْرِي
إِلاَّ بْبِلادِي.. وْيِنْكتبْ فَوْقُو:
مَاتْ تَا يِفْدِي شَعب وِبْلادْ..
(شربل بعيني: مجانين، ص 29، طبعة ثانية 1986، سيدني).
   ما أسمى هذا الشعور الوطني والانساني يتدفّق كالسيل على لسان شاعر مرهف صقلته الحياة، فأخذ يرسل الشعر، العامي منه والفصيح، حكماً وأمثالاً، تدخل القلوب والعقول، فتطرد منها المفاهيم العفنة النتنة، لتغرس بدلاً منها مفاهيم انسانية تعيد للانسان مجد الانسان.
   وحتى يعيد شاعر المجد الانساني للانسان لا بد له أولاً من أن يهدم عرش تجار الاديان، تجار الاوطان، تجار الانسانية، عرش الجنون.
   وهذا ما فعله الشاعر شربل بعيني في ديوانه "مجانين" ، الذي استهله بقصيدة "دياب الشعب" فعرّى الزعماء من ورقة التين التي يستترون بها، فبانوا على حقيقتهم، ذئاباً تنهش بعضها بعضاً إن لم تجد ما تنهشه.
   وتبلغ معاناة الشاعر شربل بعيني الذروة منذ مطلع القصيدة حتى آخر حرف بها، فيحار كيف "يبلّش" الاشعار و"الحرف عم بيئن بكتابي". فلنتصور معاً كيف حوّل الشاعر الحرف الى كائن حيّ، يتألّم ويئن من شدة الالم، الى درجة تعجزه عن الحركة:
لَكِنْ كَرَامِةْ طُفل أَوْ خِتْيَارْ
عَمْ يِلْعَبُوا فِيهُنْ مِتِلْ طَابِه
وْكِرْمَالْ يِبْقَى الْجَارْ حَدّ الْجَارْ
بَدِّي بْيُوت الشِّعر فَجِّرْهَا
وْخَلِّص مِنِ الْوَيْلات أَحْبَابِي
(شربل بعيني: مجانين، ص 6، طبعة ثانية 1986، سيدني).
   ويحكي الشاعر في مقطع من القصيدة تاريخ وطن صيّر الدنيا نعيماً مزيناً بالافكار، حتى انحنت شعوب الارض إجلالاً أمام حريتها ومجد أحرارها، وأصبحت ملاذاً لكل من "انظلم ببلاد فيها شيطنه" واختلط ليلها بنهارها، ثم يتساءل الشاعر ما الذي أصابنا حتى انقلب هذا الحال وأصبح:
مُطْلَقْ زَعِيمْ بْفَرْدْ كِلْمِه مِفْتِنِه
بْيِزْرَعْ بَلَدْنَا جُوع وِجْنُون وْدِمَا
وْبِيصِيرْ يِتْدَفَّى عَ لهْبِةْ نَارْهَا؟!
(شربل بعيني: مجانين، ص 10، طبعة ثانية 1986، سيدني).
   ويطلب الشاعر الى كل من صفّق يوماً لزعيم أن يقطع أصابعه، ويستغفر ربه، لأن مثل هذا الزعيم هو الذي جعل بلادنا تعيش بجحيم، وهو الذي سرق وجوّع الشعب، وهو الذي قتل أمهاتنا وآباءنا، ومنع المغترب من تحقيق عودته للوطن.
   ويطرح الشاعر الصوت على المغتربين، داعياً إياهم لاعادة تعمير الوطن، وزرع أرضه الأبية بالمحبة
إِنْت وْأَنَا.. الْـ مِنْخَلِّصْ الأَجْيَالْ
مِنْ ظُلْم شَتَّتْنَا بِـ هَـ الْغُرْبِه
وِالْهَمّ فَوْق صْدُورْنَا أَحْمَالْ
وِالنَّارْ تَاكُلْ قَلْبَكْ وْقَلْبِي
إِنْت وْأَنَا.. لِبْلادْنَا رِسْمَالْ
وِكْنُوزْنَا حَبَّات هَـ التّرْبِه
الْـ مَا بْتِنْشَرَى يَا صَاحْبِي بِالْمَالْ
وْلا بْتِنْهَدَى بِمْغَلَّف وْعِلْبِه
وْلا يَوْمْ رِضْيِتْ يِنْقبر دجَّالْ
جُوَّاتْهَا.. وْلا اسْتَقْبَلِتْ كِذْبِه
يَلْلاَّ سَوَا تَا نْحَقِّقْ الآمَالْ
وْنِمْسَحْ غَشَاوِةْ حِقْدُن الْمَلْعُونْ
وْنِفْلَح وْنِزْرَعْ أَرْضنَا.. مْحَبِّه
(شربل بعيني: مجانين، ص 18، طبعة ثانية 1986، سيدني).
   ويصبّ الشاعر جام غضبه على تجار الطائفية والاديان مؤكداً انتماءه الى الوطن قبل انتمائه الى طائفة أو دين في مقطوعة مجانين:
وَقْت اللِّي بْحَاكِيكُنْ
لا تْقُولُوا هَيْدَا نِصْرَانِي
وَقْت اللِّي بْحَاكِيكُنْ
لا تْقُولُوا هَيْدَا قُرْآنِي
أَنَا مَا بْحَاكِيكُنْ
وْلا الْحَكِي بْيِطْلَعْ عَ لْسَانِي
إِلاَّ مَا حَاكِيكُنْ
لُبْنَانِي إِبنْ لُبْنَانِي..
(شربل بعيني: مجانين، ص 36، طبعة ثانية 1986، سيدني).
   وفي أروع صورة عتب على رسوليْ النصرانية والاسلام اللذين باسم ديانتهما ترتكب اليوم أبشع المجازر، ليس بحق الانسان اللبناني فحسب، بل بحق الانسانية جمعاء، يقول معاتباً:
يَا يَسُوع الْمَصْلُوبْ
وْيَا رَسُول الْمُؤْمِنِينْ
مَا عْرِفْتُوا رِبَّيْتُوا شْعُوبْ
عْرِفْتُوا رِبَّيْتُوا مْجَانِينْ
(شربل بعيني: مجانين، ص 36، طبعة ثانية 1986، سيدني).
   ثم يحكي الشاعر صور مأساة بلاده، مستغرباً البشاعات التي ترتكب بحق الناس، فيقول:
بَسّْ.. بَسّْ..
هَيْدَا كذْب.. مُشْ مَعْقُولْ
بِنْتْ قَتْلُوهَا وْصَارُوا
يِتْبَادْلُوا عْلَيْهَا الْمَغُولْ
شُو ذَنْبَا.. يَا سَامِعْ قُولْ؟!
شُو ذَنْبَا.. يَا سَامِعْ قُولْ؟!
رُوحَا عِنْد الْخَالِقْ فَوْقْ
وِاللِّي مَا فِي عِنْدُنْ ذَوْقْ
شِي بِالعُرْض.. وْشِي بِالطُّولْ
وْشِي مِنْ تَحْت.. وْشِي مِنْ فَوْقْ
وْشِي.. يَا أَللَّـه كْفَرْنَا بَسّْ
رِجْعُوا قَصُّوهَا بِالنِّصّْ!
(شربل بعيني: مجانين، ص 44، طبعة ثانية 1986، سيدني).
   وعن محاولات تفتيت الوطن وتقسيمه، يتألّق خيال الشاعر، فيقول في مقطوعة "خانوا الوطن":
وْهَـ الشَّبَابْ اللِّي تْرَبُّوا
تَا حَتَّى يْقُودُوا الأُمِّه
خَانُوا الوطَنْ وِتْخَبُّوا
خَلْف الدِّين الْـ مُشْ مَحْبُوبْ
إِلاَّ ما يْوَحِّد قْلُوبْ
وْصَارُوا يِحْكُوا بِالْقِسْمِه
وْيِرْمُوا بَيْن النّاس حْدُودْ..
يِعْنِي صهرنا مَحْمُودْ
الْـ مِنْعِدُّو أَغْلَى حَبِيبْ
لازِم يْطَلِّقْ وِيْسِيبْ
مِرْيَانَا.. بِنتْ عَمِّي!
وْإِبْنُنْ وَحِيدُنْ عِصَامْ
يَللِّي نِصُّو نِصْرَانِي
وْنِصُّو تَابِعْ لِلإِسْلامْ
شُو بَدكُنْ.. عَ الْعِمْيَانِي
قِسْمِةْ عَدلْ نِقِسْمُو
تَا حَتَّى نِرْضِي بَيُّو
أَوْ تَا مَا نْزَعِّلْ إِمُّو؟!
(شربل بعيني: مجانين، ص 33، طبعة ثانية 1986، سيدني).
   ويضجّ الشاعر غضباً واعياً، غضباً مباركاً، فيقول:
أَنَا ما بِفْهَمْ يَمِينْ
أَنا ما بِفْهَمْ يَسَارْ
أَنَا بِفْهَمْ إِنُّو النَّارْ
لازِمْ تُوقَفْ مَهْمَا صَارْ
بْحَيْث الْـ عَمْ بِيمُوتُوا هَيْكْ
مَا انْوَجْدُوا بْخَاتـم لِبَّيْكْ
وْلا بْقِنْدِيلْ عَلاء الدِّينْ!
هَوْدِي أَهْلِي الِمْحِبِّينْ
هَوْدِي رِبْيُوا جَار وْجَارْ
(شربل بعيني: مجانين، ص 49، طبعة ثانية 1986، سيدني).
   ما أروعها من صورة: الناس ما انوجدوا بخاتم لبيّك، الذي تحكيه الاساطير، ولا بقنديل علاء الدين. الناس الذين تقتلونهم باسم نصرة النصرانية أو الاسلام، هم أهلنا، من أجلهم جاءت النصرانية، ومن أجلهم جاء الاسلام، فكيف نقتلهم باسم النصرانية والاسلام؟، ومن هم الذين يقتلون الناس بسبب انتماءاتهم الدينية التي تأتيهم بالوراثة، غير المجانين؟
   وديوان "مجانين" للشاعر شربل بعيني، كشف نماذج هؤلاء المجانين ، الذين يتسلطون على كرامة الوطن والانسان، ويمتهنونها تارة باسم الزعامة وتارة باسم الدين.
   ومهما حاولت هذه الكلمة أن تنقل للقارىء صورة عن الديوان، تظل أعجز من الكلمة الأصل، كلمة الشاعر، عن غزو مخابىء الصدور، ومخازن العقول، كما تغزو أشعة الشمس ظلمات العالم.
   وهل نور كلمة الشاعر، أي شاعر، الذي يجوب مشارق الارض ومغاربها دون استئذان او جواز مرور، مستمد من غير أشعة الشمس؟
   مع هذا النور الفيّاض المنبعث من بين دفتيّ ديوان "مجانين" للشاعر شربل بعيني، أتركك أيها القارىء الكريم تتعرّف بنفسك الى كنز ثمين احتوته دفتا كتاب.
**
ـ5ـ
   عندما نتكلم عن أدب شربل بعيني، وجب علينا أن نتكلّم وبإسهاب عن مسرحياته، التي تحكي بألم رحلة اغترابنا عن الوطن، وتصور بدقة متناهية أوجاع شعبنا المقيم، فالكتابة المسرحية جزء لا يتجزأ من أدب شربل بعيني، وقد كان لي مراجعة لأولى مسرحياته "فصول من الحرب اللبنانية" نشرتها في جريدة "صدى لبنان ـ العدد 555 ـ 21/7/1987" وإليكم ما كتبت:
   كانت الجالية اللبنانية في الثالث من تموز الجاري على موعد مع تلامذة مدرسة راهبات العائلة المقدسة على مسرح كنيسة سيدة لبنان، حيث قدمت مسرحية "فصول من الحرب اللبنانية"، كتبها وأخرجها الاستاذ الشاعر شربل بعيني، وقام بتمثيلها حوالي 340 طالباً وطالبة من مدرسة سيدة لبنان.
   340 طالباً وطالبة تتراوح أعمارهم بين السابعة والثالثة عشر، يشتركون بمسرحية، ولكل طالب أو طالبة دور محدد يؤديه بدقة. انه بالفعل لعمل رائع مدهش لا يتجرأ أن يقدم عليه إلا من كان مثل الاستاذ الشاعر شربل بعيني واثقاً من قدرة طلابه .. واثقاً من قدرته على العطاء.. وواثقاً برسالة انسانية يؤديها عبر المسرح، او عبر المدرسة، او عبر الكتاب. وإدارة المدرسة لا يمكن أن توافق على مثل هذا العمل ما لم تكن واثقة كل الثقة بمقدرة الاستاذ بعيني على انجاز مثل هذا العمل الرائع.
   تربطني بالاستاذ الشاعر شربل بعيني صداقة حميمة لبنتها الكلمة، وأساسها الفكر، والصديق مخزن أسرار صديقه، أو ملجأ شكواه عند الشدة والتعب. وقد اعتاد الصديق شربل بعيني وهو عائد من المدرسة أن يمرّ بي في مركز عملي مؤكداً ان الصداع الذي يزعجه يومياً لا يتزحزح إلا بعد جدال في مسألة أدبية أو نقاش حول مضمون كلمة في بيت شعر أو ما شابه.
   لكن صديقي قاطعني فترة شهر حزيران كلّه تقريباً، فهو لا يمر بنا إلا نادراً، وان فعل يخطف نفسه خطفاً، وكلما سألته ما الخبر؟ أجابني: "فصول من الحرب اللبنانية" تتعبني.. ترهقني. وكثيراً ما كنت ألاحظ عليه انه يعصر ما بين جبينه، وانه يتألم.. فأسأله ما به؟ لكن عبثاً كنت أحاول. فالجواب واحد: "فصول من الحرب اللبنانية" ترهقني.. وكنت في كل مرة اعد نفسي بقصيدة عن الحرب اللبنانية تجود بها قريحته، الى أن فاجأتني دعوة راهبات العائلة المقدسة لحضور مسرحية "فصول من الحرب اللبنانية".
   مساء الجمعة الواقع في الثالث من تموز وقبيل الساعة السابعة والنصف بدقائق دخل قاعة كنيسة سيدة لبنان التي كانت تغص بأكثر من 1400 شخص، سعادة قنصل لبنان الاستاذ جيلبير عون محاطاً بالأخوات راهبات العائلة المقدسة المارونيات، وعلى رأسهن الأخت المشيرة الزائرة فيرونا زيادة، ورئيسة دير السيدة الأخت كونستانس باشا. وفي تمام السابعة والنصف تماماً كما هو محدد في البرنامج، بدأ عرض المسرحية بالنشيدين الاوسترالي واللبناني، ثم بدأت المسرحية: مشاهد متتالية، رقصات فلكلورية، أغانٍ معبرة تتناسب والمشهد وترافق كلماتها حركات الأطفال الإيقاعية.
   ساعتان من العرض المستمر ننتقل خلالها من مشهد الى مشهد، ومن حالة الى أخرى دون أي فراغ على المسرح. اطفال يؤدون دورهم بكل دقّة مصورين يوميات الحياة اللبنانية ابتداء من ساعة المدرسة مروراً بالانتخابات وانتهاء بحالة الحرب التي بدأت حواجزها تبتلع اللبنانيين الى أية طائفة انتموا، والى أية بقعة من أرض لبنان انتسبوا. ولم ينسَ الشاعر حياة اللبناني في الملجأ أيضاً، أو في المطارات مهاجراً هرباً من جحيم الحرب. كا أنه لم ينسَ أن يشحن نفس المسافر بالحنين الى أرضه التي يهجرها مكرهاً بسبب الظلم والحقد الاسود الذي غزا لبنان من كل حدب وصوب، وسخّر بعض ذوي النفوس الرخيصة من الزعامات لتحقيق غاياته. كما لم ينسَ الشاعر بعيني أن يزرع الأمل بولادة لبنان جديد قوامه الأجيال الطالعة، التي رأت كل عيوب ومساوىء النظام الفاسد والزعامات العفنة.
   وإذا كان لا بد لي من ملاحظة حول المسرحية فليس أكثر من أن الشاعر لم يظهر عذاب اللبنانيين في الخارج، أو على ابواب سفارات العالم حيث كانوا يعانون الأمرين في سبيل الحصول على تأشيرة دخول الى بلد ما.
   عمل مسرحي من هذا النوع يحتاج الى جهود لا حصر لها، ولا سيما اذا كان ابطال المسرحية وأشخاصها أطفالاً استطاعت الارادة الخيرة منفردة أن تنجزه على أكمل وجه. فنصوص الكلام بسيطة سهلة تتناسب مع اعمار قائليها في شخصية طفل او رجل او امرأة او بك ـ زعيم.
   اثناء عرض المسرحية كنت أصغي الى كل همسة او كلمة، وانتبه الى كل حركة ترافق الكلام، ومنذ اللحظة الأولى أدركت كم كان صديقي متعباً حقاً ومرهقاً حتى  آخر درجات الإرهاق.
   تصور معي، أيها القارىء، كيف يمكن أن يُحقّق عمل مسرحي يشترك فيه أكثر من 340 طالباً وطالبة يتخلله رقص وغناء وحوار ومدته ساعتان فقط؟
   ولا أذيع سراً اذا قلت ان شربل بعيني انتهج نهجاً رحبانياً صرفاً في عرض مسرحيته، وما الرجوع الى مسرحيات الاخوين رحباني سوى دليل على ذلك، فهي تحتوي كما "فصول من الحرب اللبنانية" على أغانٍ ودبكات واسكتشات فكاهية مضحكة ولكنها موجهة معبرة تزخر بالمعاناة وبالنقد البناء، بالاضافة الى مشاهد وطنية عديدة.
   وأخيراً، لا يسعنا إلا أن نتقدم من الاستاذ بعيني بالتهاني والشكر لهذا العمل الرائع، ولا يسعنا أيضاً إلا أن نحيي راهبات العائلة المقدسة في معهد سيدة لبنان، وعلى رأسهن ألأخت كونستانس باشا، على أعمالهن العديدة ولا سيما بناء هذا الصرح العلمي في أوستراليا، الذي ولا شك سيكون له دور فعال في جمع شتات اللبنانيين، وسيكون أيضاً مفخرة أجيالنا الطالعة.
**
ـ6ـ
   يقول فيلسوف الشعراء أبو العلاء المعري:
إن الغريبَ وإن أبدى تجلّده
عند الشدائد يلفى يذكرُ الوطنا
   فكيف الحال بمن اضطرّ إلى الاغتراب قهراً، لا هروباً من حاجة تلح عليه، ولا طلباً لثروة منشودة، ولا نشداناً لسلامة حياة،  مهما طال بها الأمد فأجلها محتوم، بل احتجاجاً على ممارسات ليس له السلطة لوقفها عند حد. ممارسات قتلت الضمير، وعقمت العقل، وعطلت الرأي، وقديماً قيل: "لا رأي لمن لا يطاع".
   انها قمة المعاناة، يصوّرها لنا الشاعر المرهف شربل بعيني بشعره العامي في "الغربة الطويلة"، كما في قصائده الفصحى التي ينشرها بين الحين والآخر.
   ومهما قلنا في هذا الديوان، لن نستطيع أن ننقل للقارىء جزءاً من تلك المعاناة، التي عاشها ويعيشها الشاعر شربل بعيني، ويعيشها أيضاً كل مغترب:
كَتْبُونِي عَ شْفَاف وْلادُنْ
قَصِيدِه لِبْلادُنْ
الْمَزْرُوعَه بالنَّارْ
بِالْحُزْن وْبِالدَّمَارْ
(شربل بعيني: الغربة الطويلة، ص 18، سيدني 1985).
   وبلاد الشاعر المزروعة بالنار والحزن والدمار، تمارس فيها الصلاة ليلاً نهاراً من أناس اتخذوا الصلاة تجارة، وجعلوا الاديان مصدر رزق:
لا تِرْكَع تْصَلِّي لإِله الْكَوْنْ
وْمِلْيَانْ قَلْبَكْ بِالْحِقدْ عَ النَّاسْ
وْظِلْمَكْ ـ إِذَا بْتِظْلُمْ ـ يَا رَبّ الْعَوْنْ
بْتِدْبَح طفل مِنْشَانْ تِشْرَبْ كَاسْ
(شربل بعيني: الغربة الطويلة، ص 30، سيدني 1985).
   ويدعو الشاعر المغتربين، كل المغتربين، للعودة الى ديارهم، فيقول:
لا تْمُوتْ هَونْ بْغربتَكْ لا تْمُوتْ
وْتِتْرُك تْرَابَكْ يِلْعَنَكْ بِالْقَبْرْ
رُوحْ قَضِّي عُمْرَك بْبَيْرُوتْ
وْنَفِّض جْنَاحَكْ مِنِ غْبَارْ الْقَهْرْ
(شربل بعيني: الغربة الطويلة، ص 33، سيدني 1985).
   ثم ينتقد الشاعر أبناء لبنان، ويلومهم جميعاً لأنهم كانوا أداة المؤامرة التي ضربت لبنان، عن وعي أو عن غير وعي:
نِحْنَا اللّي كِنَّا عَايْشِينْ بْعِزّْ
نِتْغَنْدَر وْنِمْشِي مِتِلْ طَاوُوسْ
غْدَرْنَا بْبَلَدْنَا وِبْشُموخ الأَرْزْ
وْبِعْنَا الْكَرَامِه بْكَمِشْتَيْنْ فْلُوسْ
(شربل بعيني: الغربة الطويلة، ص 33، سيدني 1985).
   لكن الارض التي غدر بها الماجنون أنبتت أناساً شرفاء، استشهدوا في سبيل حريّة هذه الارض، ويمجد الشاعر الشهداء فيقول:
دم الشهيد متل القمح بالأرض
بينمى تا يعطي للشعوب طحين
بينمى تا يقضي ع جيوش البغض
الدعست بإجريها رقاب الآمنين
(شربل بعيني: الغربة الطويلة، ص 41، سيدني 1985).
   ولم ينسَ الشاعر، رغم غربته الطويلة، جنوبه الصامد، فحيّا هذا الصمود، وقال منادياً جنوب لبنان:
إِنْت الْمَارِدْ..
إِنْت الشِّعْلِه الْـ عَمْ بِتْضَوِّي بْلَيْل الذُّلّْ
إِنْت الْغَلِّه الْمُشْتَاقَه لإيدَيْن الْحَاصِدْ
إِنْت الْحُلْم بِلْيَالِينَا
وِالدَّمّ الْـ عَمْ يِجْرِي فِينَا
يَا جْنُوبِي الْـ رَحْ تِبْقَى صَامِدْ
مَهْمَا قِسْيُوا عْلَيْك الْكلّْ.
(شربل بعيني: الغربة الطويلة، ص 59-60، سيدني 1985).
   ورحلة الشاعر في غربته الطويلة، التي حملت معاناته الوطنية، تحمل معاناة من صنف آخر، فالديوان يحتوي على غزليات من الصنف الرفيع، تعكس حس الشاعر المرهف، وعشقه للجمال، جمال الروح والجسد معاً:
معوّد ع شرب نبيد أحلى خدود
معوّد أنا صيّف بأعلى جرود 
فيها الكرز محمر
والعنب مشقر
ومنّو لحالو بيستوي العنقود
(شربل بعيني: الغربة الطويلة، ص 35، سيدني 1985).
   ولا ندري كيف يكون الشاعر قد تعوّد على شرب نبيذ أحلى خدود، وليس عنده للخطيئة ميل:
لو كان عندي للخطيّه ميل
كنت سبحت ببحور عينيكي
وكنت وصلت ع شط هاك الليل
مطرح ما فيني احصل عليكي
(شربل بعيني: الغربة الطويلة، ص 65، سيدني 1985).
   طويلة رحلة غربة الشاعر، والغربة تثير الشجون، وتحرّك العواطف، ترتفع بالمرء الى أعلى درجات السمو، ثم تنحدر به لتعود فترتفع من جديد، ولو شئنا عرض اللوحات الرائعة، التي تضمنتها كلمات "الغربة الطويلة"، لضاق بنا المجال، لذلك نكتفي بهذا القدر، تاركين للقارىء أن يتعرّف عن كثب، إذا أراد، الى "غربة" الشاعر شربل بعيني.
**
ـ7ـ
   رحلة الشاعر طويلة، فهو شاعر الغربة الطويلة، من عمق معاناته يستمد كلماته ومعانيه وصوره. آلمه أن تنتقل أمراض الوطن الى الجالية في أوستراليا، فيستل سوط الشعر، ويلسع ظهرها، علّها تستعيد رشدها:
رديئة جاليتي ومشتتة،
لأنها لا تؤمن بالعطاء
بل بالجحود.
فكم من مرة حبلت ولم تلد؟
العقم عندها فضيلة.
أدباؤها جهلة، وجهّالها أدباء وفلاسفة.
أنبياؤها يبيعون أجسادهم
بأسواق الرقيق الأبيض،
وشياطينها يتربعون على كرسي المجد
والوقار.
جاليتي، لم تميّز بعد، بين القداسة والعار.
إلى أن يقول:
قاسية جاليتي ومذنبة،
تعاقر القمار لتحبل بالخسارة.
بيوتها مفككة، وأطفالها مشردون..
فلا الأب يحب أبناءه،
ولا الأم تحنو وترضع،
الكل يركض وراء اللاشيء،
وكل شيء.. يمكن تجسيده بالتكاتف
والتضامن، والمحبة.
جاهلة جاليتي ومضجرة،
فلا الكتاب رفيقها، ولا القراءة.
إذا تحدّثت أضجرت، 
وإن جادلت ارتبكت،
صمتها ثرثرة ومقالب..
ونميمتها تبلل سهراتها بلعاب أسود.
ومع ذلك، أنا أحبها كذاتي،
لأنني أشعر أن الأيام ستصقلها،
وتعيد لمعانها من جديد.
فالشعب الآتي من الأعالي،
حاشاه الانحدار والتقوقع.
(شربل بعيني: قصائد ريفية، غير مرقم، 1983، سيدني).
   تلك كانت مقاطع من قصيدة "جاليتي"، ان صح التعبير، تلك القصيدة التي استهل بها كتابه "قصائد ريفية". والكتاب نثر رفيع يبلغ مشارف الشعر، ولا أدري اذا كانت تصح تسميته بقصائد، إلا إذا كنا نعتبرمعلقات النقط والفواصل شعراً، فعندئذ تأتي "قصائد ريفية" متقدمة بأشواط.
   ولا أريد أن أترك "قصائد ريفية" قبل أن أنقل لكم صورة من صوره سحرتني بروعتها وحكمتها وفلسفتها:
كَيْفَمَا الْتَفَتُّ أَرَى الضَّبَابَ يَتَكَاثَفُ
وَيَتَعَالَى، كَالْوَهْمِ، نَحْوَ السُّؤْدَدِ،
وَالْوَادِي الْمَلآنَ بِخَابِياتِ الْبُخَار
سَوْفَ يَفْرَغُ بَعْدَ قَلِيلٍ،
وَالأَكَمَةَ الْمَكْسُوَّةَ بِجَنَائِنِ التُّفَّاحِ
سَتَغِيبُ كَالشَّمْسِ عَنِ الْبَصَائِرِ!
فَلِكُلِّ شَيْءٍ ظَاهِرٍ حِجَابٌ يَسْتَتِرُ وَرَاءَهُ،
وَلِكُلِّ جَبَلٍ شَامِخٍ وَادٍ
يَكْفِي لاحْتِضَانِهِ فِي الْيَوْمِ الأَخِير.
(شربل بعيني: قصائد ريفية، غير مرقم، 1983، سيدني).
   الضباب يتكاثف، يتعالى، وكلما تعالى كالوهم يتبدد، "والوادي الملآن بخابيات البخار" يا له من تشبيه رائع، "سوف يفرغ بعد قليل" وكأني بالشاعر يهزأ من أولئك الذين يملأون الدنيا ضجيجاً فارغاً، ويتعالون على البشر، ويحسبون الدنيا، ومن وما فيها، طوع بنانهم، أو طوع جيوبهم، متناسين إنهم إلى فناء سائرون، متناسين حكمة المعري:
رب لحد قد صار لحداً مراراً
ضاحك من تزاحم الأضداد
   في الحقيقة، ان كثرة مؤلفات شربل بعيني، تفرض على الدارس أن يرافق تطور هذا الشاعر، ويقف على مدى تقدمه.
   وقبل أن نعود إلى الشعر لنلقي نظرة سريعة على ديوان "كيف أينعت السنابل؟"، لا بد من كلمة حق في نثر هذا الشاعر الذي تجدون نماذج منه في كتاب "من كل ذقن شعرة" وحتى لا يتعرّض الشاعر الى نقمة من يسحب الشعر من ذقونهم، بدأ بسحب شعرة من ذقنه هو أولاً، ثم توكّل وبدأ ورشة "نتف الشعر" على قاعدة عليّ وعلى أعدائي يا رب.. أو قاعدة من ساواك بنفسه ما ظلمك، فلم يوفر رئيساً أو وزيراً أو نائباً أو صاحب مقام. لم يوفّر رفيعاً أو وضيعاً، كهلاً أو فتى، فهل تلومونني إن أنا حلقت ذقني التي غزاها الشيب مرتين.
   نثر الشاعر شربل بعيني، نثر ساخر جميل، ما أحوج الأدب العربي المعاصر الى مثل سخريته، غير أنه ما زال بحاجة الى كثير من العناية والتهذيب في السبك، وفي استخدام المفردات، فإذا ما تم له ذلك، يضاهي ولا شك شعر شربل بعيني.
"ـ ماذا تفضل الذهاب إلى جهنم أم إلى دوائر الدولة؟
   لو طرحنا هذا السؤال السخيف المحرج، لأن بيني وبينكم لا يطلع أحد عن روحه، على سكان لبنان المقيمين والمغتربين، والذين على أهبّة الولادة، لأجابوا بصوت واحد: وجهنم بالعزّ أفضل منزل!
   تتساءلون، ولا شك، لماذا يفضّلون وكر لوسيفورس اللعين على دوائر الدولة؟
   أولاً: لأن الدخول إلى جهنم سهل ومجاني، عكس الدوائر التي تكلف ما فتح ورزق.
   ثانياً: لأن المعاملة عندنا تنام في الجوارير نومة أهل الكهف، وقد لا تستيقظ إلاّ وقد استلم صاحبها رسالة مستعجلة من جهنم، تدعوه لتبوّء سدة رئاسة بلدية إحدى المقاطعات النارية الجافة، التي تشبه بالعرض والطول "بيروتنا الممتازة".
   ثالثاً: هل رأيتم ميتاً ذاهباً إلى حيث البكاء وصريف الأسنان، وبجيبه بطاقة توصية من أحد النواب المكرشين لكثرة أكل الفراريج واللحوم، والزبدة، والبسكويت، والأموال، والإسمنت، والاسفلت "الزفت" إلى آخره؟
   بالطبع لا، لأن التعامل هناك لا يتم بالواسطات والتوصيات كما هي الحال في برج بابل الدولة، حيث الفخفخة والرفاهية، وقراءة الجرائد والمجلات السياسية والفنيّة والجنسية، وأكل الحمص والفول والزيتون والفستق والبزر، حيث الكبرياء بأبهتها وجلالها متغلغلة برؤوس أصغر الحجّاب المياومين".
(شربل بعيني: من كل ذقن شعرة، طبعة ثانية، ص 34، 1988 سيدني).
   هذا نموذج من مقال ساخر لشربل بعيني، نشر في مجلة الدبور اللبنانية، العدد 2398، 1971، فهل يصح أن نتساءل بعد الذي قرأناه: ما الذي حصل حتى اختربت بلادنا، على النحو الذي تعرفون؟ أو هل يصح أن نتساءل: لماذا حال العرب على مثل ما هو الآن؟.
عودة من النثر الى الشعر
   شعر شربل بعيني شعرٌ معمّد بالألم، لكنه متفائل. شعر مؤمن يمن كتب له، مؤمن بالشعب، ولعل أهم ما كتب شربل بعيني في الشعر العامي "مجانين" وفي الشعر الفصيح "كيف أينعت السنابل؟" أما في الشعر العامي فللشاعر مدرسة خاصة به، تمرّدت تمرداً مستساغاً مستحباً على ما هو معروف من أوزان هذا الشعر، وسيكون لها، ولا شك، أثرها في تطوير هذا الفن الشعري، الذي لا يقل أهمية عن الشعر الفصيح، والمواضيع الادبية الأخرى، على حد تعبير الأديبة المهجرية أنجال عون، البرازيل. (أنجال عون: أديبة مهجرية بارزة، ولدت في الدامور اللبنانية، ولها مؤلفات عديدة جمعها الاستاذ نعمان حرب، وأصدرها ضمن قبسات من الادب المهجري).
وإن لم يكن بنفس الشمول.
   وإذا كان للشاعر شربل بعيني مدرسته الخاصة في الشعر العامي، فإننا نتوخّى أن تكون له مدرسته الخاصة ايضاً في الشعر الفصيح. فهل نرى تباشير مثل هذه المدرسة في ديوان "كيف أينعت السنابل؟".
   ديوان "كيف أينعت السنابل؟" يعتبر عن حق من أهم المحطات الشعرية للشاعر شربل بعيني، ففيه قد بدأ الشاعر يخرج من الأطر الاقليمية الى المدى الانساني الاوسع، وقد سجّل الشاعر في هذا الديوان خطوات واسعة الى الامام، من حيث بنية القصيدة، أو معناها، ويعتبر عن حق من أجرأ شعراء العربية في يومنا هذا.
   ولعلنا ان توقّفنا عند المحطات الكبرى فيه: كيف أينعت السنابل؟، صدقيني يا بهيسة، ولعنة الله علينا، ندرك مدى الاهمية التي عولت عليها رابطة إحياء التراث العربي لمنح هذا الديوان جائزة جبران لعام 1987.
   ولعلنا إن فعلنا ذلك، ندرك مدى الخطوات الواسعة التي قطعها الشاعر بين أولى قصائد الديوان "كيف أينعت السنابل؟" وبين "لعنة الله علينا" ولا يسعنا هنا إلا أن نتذكر أن الشاعرة الاوسترالية آن فيربيرن (آن فيربيرن: شاعرة أوسترالية معروفة شاركت بمعظم مهرجانات المربد الشعرية في العراق) قد ترجمت مقاطع من قصيدتيْ "كيف أينعت السنابل؟" و"دعوة الى الجنون" الى اللغة الانكليزية.
   وبما اننا كنا قد أبدينا رأينا في القصيدة مطلع الديوان، إثر نشرها في جريدة "صوت المغترب" العدد 846، الصادر في 15 آب 1985، رأينا أن نسجله هنا:
   "كيف أينعت السنابل؟" عنوان قصيدة، وكدت أقول ملحمة للشاعر شربل بعيني، المعروف بشعره العامي الذي له فيه عدة دواوين أكثر مما هو معروف بهذا اللون من الشعر.
   إنها لموهبة حقاً أن يجيد شاعر ما صبّ شعوره المرهف بالعامية والفصحى، على حد سواء، محملاً هذا الشعور النغم الموسيقي بتناسق في الألفاظ يبلغ حد الدقة، شاحناً إياه بمعاناة إنسانية تخرجه من اطار الذات والوطن، إلى المدى الانساني الاشمل.
   أنا لا أقول ان الشاعر شربل بعيني هو واحد من فحول شعراء العصر، فشربل ما زال في أول الدرب، وتجربته ما تزال بحاجة الى صقل، أو قل انها ما تزال تحبو على أول الطريق، لكنها محاولة تستدعي الوقوف عندها.
   والوقوف عند محاولة شعرية كهذه، لا تستدعي بالضرورة تشريح القصيدة، وتفكيك البناء الشعري فيها، ثم اعادة رصفه من جديد، غير ان ذلك لا يعفينا من ملاحظات سريعة حول هذا البناء، حول التوافق بين شكله والمضمون، ومعرفة ما اذا كان هذا الشكل صالحاً أو قادراً على احتواء المعاني التي شحنها الشاعر فيه.
   سنابل الشاعر التي أينعت في بلاد رحلت الشمس عنها، واستبدلت بلابلها التغريد بالأنّات، لا بد وان جذورها ضاربة في أعماق الارض، حتى يمكن القول انها تستمد حرارة الحياة من باطن الارض الملتهب، وإلا لما استطاعت أن تينع في أرض محروقة كأرض بلاد الشاعر، التي أسرتها زمرة لا فرق عندها بين مقتول وقاتل، فسرقت خاتم إصبعها، أو دبلة خطوبتها للحياة، لتصنع من ذلك الخاتم أصفاداً تغل بها أحرار البلاد. ولا تكتفي بذلك بل انها، أي الزمرة، تدفع بأطفال البلاد الى سراديب التحقيق مستخدمة كل وسائل التعذيب، وتعلقهم على أعواد المشانق، خوفاً من أن تتحول أيدي الاطفال، حين يكبرون، الى أقلام تجبههم بالحقيقة، وإلى "بارود قنابل" يقضي على بغيهم وشرهم، واذا لم يكن خوفها من ذلك فكيف يكون؟: "خوفها إن الرضيع في بلادي يعرف كيف يقاتل".
   إن جمال المعاني وانسياب الكلمات كجدول عذب، مشحونة بالصور الحيّة لواقع بلاد الشاعر الأليم، يشفع له ببعض الهنات التي تصادفها دفق جدول الكلمات، غير أننا نود أن ننبّه الشاعر لها حتى يتفادى في روائعه المقبلة الوقوع بمثلها.
   فلو انه استعمل، مثلاً، دفعت أو سحبت بدلاً من "ودعت أطفالها الى التحقيق" إلخ.. لكان التعبير أقوى، والبناء أسلم لتوافقه مع المعنى، إلا إذا كان الشاعر قد استعملها للسخرية، ووضعها بين أقواس، وسقطت الأقواص في الطباعة.
   وحبيبة الشاعر "تمينة" التي أوقفوها على حاجز، ومنعوها من أن تصل إلى بيتها، أطبقت صرختها الآفاق، محتجة على تهجير الناس من بيوتهم، واغتصاب أراضيهم وتشريدهم في كل حدب وصوب:
"اتركوني
اتركوني
فهناك خلف أسوار الضغينة
والحكايات اللعينة
ليَ بيتٌ.. فدعوني
إن من حقّيَ أن أسكن بيتي".
   وشوق "تمينة" الذي هو بصورة أو بأخرى، شوق الشاعر نفسه لأن يرى الزهر ينمو في الحديقة الوطن، وشوقه للكرم وللعنقود فوق الدالية، شوقه بعد الفرار والرحيل لشفاه من بلاده تخبر الأجيال الطالعة ما معنى الحقيقة، فصرح الوطن انهار، وما يزال صوت الكذب فينا، ولعله هنا يشير الى زعماء الجريمة، ما زال يبتلع الحقيقة.
   وتعود " تمينة" لتخبر قصتها فتشكو قائلة:
أرضعوني، كلهم سم الكلام
   ولعل المقصود بالسم هنا سم الطائفية البغيض الذي شلّع الوطن ومزقّه:
أرضعوني الكذب أعواماً تجرّ خلفها أعوام
فعضضت حلمة الثدي الذي وسخه الجنس بليلات الغرام.
   تعبير "قبّاني" مستحب، يمثّل تمرد الذي عرف الحقيقة على الذين شوّهوا وجه الحقيقة، وألقموه الكذب عاماً بعد عام، ولما استفاق من التخدير الذي حقنوه به، عضّ ثدي الكذب فأدماه.. والعض هنا جاء مخالفاً لمعناه المألوف، لكن الشاعر شحنه بالمعنى الذي يريد، فجاء مستحباً ومستساغاً:
صرخوا..
خلت الصراخ بدّد عهد الظلام
   بدد عهد الظلام، جاءت في غير محلّها، فالذين صرخوا هم إياهم الذين ملأوا الدنيا كذباً ونفاقاً، وصراخهم لا يمكن أن يأتي مؤيّداً للحقيقة يبدد عهد الظلام، غير أن الشاعر استدرك وقال بلسان حبيبته "تمينة":
واشرأبّوا..
دون وعيٍ، 
يزهقون الروح فيَّ
بالحلال وبالحرام
   وبالرغم من أن التاريخ لم يعرف زهق روح بالحلال، فالشاعر حمّلها ما يشفع له باستعمالها.
   ويشير الشاعر في مقطع آخر الى المؤمرة التي مزّقت بلاده، مؤكداً انها من هندسة عقل كبير، أشرك فيها اليهود، واليهود هنا تعني دولة اسرائيل الصهيونية، وشرقنا العربي كله، الذي يخدم أهداف المؤامرة بمعرفة منه أو بغير معرفة.
   ويستطرد الشاعر متسائلاً بلسان حبيبته، لا يدري لماذا شوّهوا الطفل الصغير، ولماذا أيبسوا الازهار والاشجار وصادروا ماء الغدير، ولعله هنا، ولا أدري اذا كان يقصد ذلك أم لم يقصده، لعله يشير الى اغتصاب اسرائيل لمياهنا.. ثم يستدرك الشاعر فيقول بلسان حبيبته أيضاً:
كل هذا، يا حبيبي،
كي يصير الموت دوله
ترتمي، كالعار، في حضن أمير
   مشيراً بذلك الى محاولات قهر بلاده، وجعلها تابعاً لهذا الزعيم أو ذاك، لهذا الحاكم او ذاك، وقهر بلاده، يعني بالضرورة، القضاء على الثورة الفلسطينية المسلحة التي احتضنها لبنان، وقدّم لها كل عون بعد أن اغلقت بوجهها جميع المعابر العربية، والقضاء على الثورة الفلسطينية المسلحة يعني فيما يعني القضاء على الحق الفلسطيني في بناء دولته العتيدة المستقلة على ارضه المغتصبة بعد تحريرها، واذا كان لا بد من قيامها فلتكن دولة "موت" مسخ على جزء من أرض لبنان، تنقلب في احضان أمير، والامير هنا تعني الحكام العرب الامراء منهم وغير الامراء.
   ثم يؤنبهم بعنف، والتأنيب لا يجدي في كثير من الاحيان، ولا سيما اذا كان المؤنَّب ـ بفتح النون ـ على شاكلة من يصفهم:
عيبٌ عليكم، سادتي،
ان تخلقوا من رحم طفله
قصراً وجيشاً من عبيد
ونساءً للسرير.
   ورحم طفلة هنا قد يعني لبنان، وقد يعني الدولة الفلسطينية العتيدة، وربما الاثنين معاً.
   في المقطع السادس من القصيدة تجاوزات على اللغة مبنى ومعنى، واذا جازت التجاوزات على المبنى في أحيان، تمشياً مع قاعدة "يحق للشاعر ما لا يحق لغيره"، فإنها لا تصح على المعنى اطلاقاً، وهي ليست مستحبة، ولا يصح لشاعر ان يتسلح بقاعدة التجاوزات على المبنى ليرتكب تجاوزات مماثلة على المعنى:
ليتني أعرف ولو لمرة واحدة 
سر السبب
   فالسر هنا والسبب حملهما الشاعر معنيين مختلفين، مع انهما يحملان نفس المعنى، فلو استخدم كنه بدل سر لاستقام المعنى أكثر:
وأشتري لكل من قال أنا بريء
خنجراً من الغضب
وسيوفاً من لهب
   حبذا لو اشترى لهم مدفعاً من الغضب، مثلاً، إذ أن الخنجر كثيراً ما ارتبط بمؤمرات الغدر والطعن في الظهر، حتى بات استعماله مستهجناً، إلا أن يكون قد أراد أن يعيد للخنجر اعتباره، واذا كان ذلك كذلك جاز استعماله على هذا النحو.
   وتستمر رحلة الشاعر، واصفاً لنا فجور الاجرام، بلسان حبيبته، التي تأخذها الذكرى الى دنيا طفولتها الحبيبة، حيث كانت تجمع زهر الحقول الندي، لتقدمه الى أمها في عيد الأمومة، وتتساءل:
أين أمي!؟
وتجيب:
صلبوها..
هل أضاع الخالق العالي صليبه؟
   وهل الصليب الذي علق عليه السيد المسيح رمز الفداء، غير الصليب الذي علقت عليه بلاد بأسرها، وشعب بأكمله؟
   وهل يضيع الصليب؟ لا انه حيث:
قبر الوالد الفلاح
ابن الشمس
والارض الخصيبه
   أما المقطع الثامن من القصيدة فقد اختلط علي مطلعه، ولا أدري أين ومتى قرأت صورة مشابهة. لكننا، على أي حال، لا نستطيع أن نحجب الصور عن أذهان الشعراء، ورب صورة أساء البعض رسمها، استطاع آخر أن يرسمها، وأن يجعل الخطوط والألوان تتداخل فيها الى حد الابداع.
   ويصطحبنا الشاعر في رحلة حبيبته "تمينة" بسلاسة وعذوبة، غير أن الصورة تهتز قليلاً في بيت "أصبحت رمز التشرد والتذابح والضغينه". ربما أراد الشاعر أن يقول ان اللبناني بعد كل الذي حصل أصبح يرمز اليه، أو يشار إليه بالبنان، على انه مشرّد، هوايته التذابح والضغينة، وكان يمكن للشاعر أن يفصل بين رمز التشرّد، الذي يصيب الشعوب، ورمز التذابح والضغينة الذي يفح من قلوب أعداء الشعوب، لا سيما وأن "تمينة" الشاعر قد أصبحت صوت الشعوب الرافضة لكل أنواع العفونة. أصبحت بذاتها ثورة شعب تهدم لتبني:
أصبحت من حيث لا تدري نساء ورجالاً..
أصبحت من حيث لا تدري.. مدينه
   الشاعر مسافر، حبيبته بلاده، تطلب أن يأخذها إليه قبل أن يأتي المطر.
   الصورة هنا معكوسة، فأرض الوطن تحن الى عودة أبنائها المهاجرين والمسافرين المشردين، فتدعوهم الى العودة، لكنها لا تقترح اقتلاع ذاتها من مكان ذاتها لتلتحق بأبنائها المسافرين، قبل أن يأتي السيل، الذي رمز اليه الشاعر بالمطر ويجرف كل شيء.
   والمطر عادة يرمز الى الخير والعطاء والخصب وليس العكس، فلو قال الشاعر بلسان حبيبته، مثلاً، "عد إليّ يا حبيبي قبل أن يأتي الخطر"، ربما كان قد استقام المعنى أكثر، لا سيما وأن صورة:
فكتبت فوق الصخر،
فوق الرمل،
فوق أوراق الشجر:
ان القبور وحدها،
في عصرنا المنكوب،
تعرف ما الكِبَر.
   تستدعي عودة شرفاء الارض، تستدعي التضحية من أجل تحرير هذه الارض من نكبتها، لأن شرفاءها المقيمين قد سلكوا طريق التضحية، وبذلوا دماءهم من أجل تحريرها، فقبور هؤلاء تعرف "ما الكبر" لأنها تضم أولئك الذين آثروا التضحية على العيش الذليل.
   إلا اذا كان الشاعر قد جعل حبيب تمينته شهيداً، وبلغ اليأس بها حد طلب الموت، لتلتحق بحبيبها تخلصاً من العار الزاحف كالجراد على وجه الارض، فيما الكبر والإباء قد استشهدا باستشهاد الحبيب وضمهما قبر، وبئس حياة لا تعرف الكبر، فالشهادة أحب الى النفس الابية وأفضل.
   لكن اصرار "تمينة" على النضال في آخر القصيدة، يدفعنا الى استبعاد مثل هذا الاستنتاج.
   وينتقل بنا الشاعر الى مقطع يصف لنا فيه عصرنا المنكوب، ونكبة العصر لا تطال لبنان أو العالم العربي فحسب، بل تطال العالم كله، فتصور معي، أيها القارىء العزيز، كما تصورت أنا مع الشاعر كيف أن:
دوائر التجسس تنتشر كما الهواء
في مسام الارض،
في تنفس المياه،
واحتراق الضوء في الفضاء.
سمك البحل عميل
طائر الجو عميل
حتى النجوم في السماء..
آذانهم منصتة كآلة التسجيل،
تستلهم الغيب وتجني المستحيل،
كي تنسج من عالم الاوهام
أكفان قتيل.
   أجل، تصوّر معي، أيها القارىء، وأنت تتجوّل في مختلف بقاع الارض، كيف تنتشر المخابرات، تحصي أنفاس الناس، ترهبهم، تغتال من تشاء دون ذنب اقترف، حتى انك تحسب كل من حولك جواسيس، وتحسب كل من حولك آذاناً لدوائر التجسّس، بل انها كذلك.
   ففي أعماق البحر للمخابرات آلات ناصتة، وفي الفضاء الكوني تنتشر أجهزة التنصت والتصوير، تنتهك أسرار الناس والدول معاً، فالاقمار  أو المسيارات الصناعية ليست في الفضاء الكوني من أجل اكتشاف غوامض الفضاء، بقدر ما هي لاكتشاف تحركات الدول والشعوب ومخابىء ثوار الارض، للقضاء عليهم.
   وهذا ما أخال الشاعر قد أشار اليه في قوله "حتى النجوم في السماء" آذانهم، أي الجواسيس، "منصتة كآلة التسجيل" تلفق الاكاذيب حول ثورة هذا الشعب، وانتفاضة ذاك، وتتخذ لنفسها من التبريرات والاكاذيب ما تعتقد انه يعطيها الحق بضرب ثورة هذا، ودك انتفاضة ذاك.
   وفي رأيي، ان الشاعر في هذه الصورة، قد تخطّى حدود الوطن، مصوراً معاناة الانسان في افريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية، فليست بلاده وحدها التي تعاني من انتشار دوائر التجسس، بل ان العالم كله، يعاني من ذلك.
   وقد أحسن الشاعر من استخدامه "مسام الارض" و"تنفس المياه" للتعبير عن ذلك، وعلى ذلك لا يكون شعب بلاده وحده هو الذي يتألّم، بل شعوب الارض كلها تتألّم وتتعذّب، وبذلك يكون الشاعر قد تخطى تخوم الوطن بخطو خطواته الاولى على الدرب الانساني الاشمل، مصوراً مأساة الانسان على وسع انبساط الارض.
   ولا يكتفي الشاعر بتصوير المأساة بلسان حبيبته، بل ينتفض ثائراً، ويقسم بلسانها أيضاً:
قسماً بأحرف القرآن والانجيل..
   مسفّهاً بهذا القسم أولئك الذين يسعرون نار الطائفية، لتحقيق غاياتهم اللئيمة الخبيثة. إنه لن يموت قبل أن يفضح العملاء الذين "وزّعوا شعبي غنائم". 
   ولا يكتفي الشاعر بفضح العملاء، بل يمتشق، بساعديْ حبيبته، سلاح المقاومة، ويقسم بالارز والثلج وأوراق النخيل، انه سيحمل جرحه ويقاوم، حتى يرحل الغازي الدخيل عن ارض بلاده.
   وبقسم الشاعر بالارز والثلج وأوراق النخيل قد وحّد نضال شعب لبنان، ونضال أشقائه العرب بأسرهم، من أجل التحرر، وطرد الغازي الدخيل، الذي يلبس ألف ثوب وثوب، فتراه هنا غازياً بجيوشه المحتلة، وتراه هناك غازياً بثقافته التي تفرّق بيننا، وتؤجج نار الفتن الطائفية، وتراه في مكان ثالث غازياً اقتصادياً يسلب لقمة عيش الشعوب، ويمتص دماءها، وينشر المجاعة بين صفوفها، فلن تهدأ للشاعر همة حتى تتأجج نار النضال، فتكنّس الغزاة، وعندها تعود أسراب الحمائم التي هجرت بلاده، تملأ ساحات البلاد:
كل الساحات تأهّبت
لهبوط أسراب الحمائم
   واستخدام الشاعر لكلمات الارز والثلج التي يعرف بها لبنان، واوراق النخيل التي ترمز الى الوطن العربي بأسره، إنما يوحي في رأينا أن نضال الشعب العربي واحد، غاياته واحدة، وان تعددت أساليبه هنا وهناك. فتحرير لبنان من الغزاة هو، بصورة أو بأخرى، تحرير الجولان من الاغتصاب، وتحرير فلسطين المحتلة، وتحرير جزر الخليج، كما انه تحرير للشعب العربي من التخلّف والتبعية على أشكالهما.
   تلك هي رائعة الشاعر شربل بعيني، التي تبشّر بطلائع فجر نهضة أدبية عربية مهجرية في المهجر الأوسترالي، وتضعه في صف روّادها الأوائل. فإلى مزيد من مثل هذا الانتاج، والى خطوات أوسع على دروب النهضة.
   ان الشاعر شربل بعيني قد وضع جميع المثقفين العرب في هذه الديار أمام مسؤوليات جسام، تحتّم عليهم عقد الخناصر من اجل النهوض بهذه المسؤوليات، لتكون لنا في هذه الديار نهضة أدبية وفكرية، لا تنعكس آثارها الطيبة على جميع أبناء الجالية العربية في الديار الاوسترالية فحسب، بل تتخطى تخوم المهجر، لتنعكس آثارها على الوطن العربي الأم، فتكون بذلك بدء نهضة ادبية وفكرية جديدة، تسهم بقسطها في تطوير اقطارنا العربية، ودفعها خطوات واسعة على طريق التقدم والتطور.
   وإذا ما تمّ لنا في هذه الديار مثل هذه النهضة الادبية والفكرية، نكون قد صعدنا الدرجة الاولى على سلم النهضة الذي بدأته الرابطة القلمية في الولايات المتحدة، والعصبة الاندلسية في أميركا اللاتينية.
   فهل نحن فاعلون، أم أن أصوات الخير فينا ستظل وحيدة مستوحشة، تخنقها أنانياتنا، وتدفنها شهواتنا "الدولارية"؟.
   اننا حتما لفاعلون، فإرادة الخير في الانسان اقوى وأثبت.
   فإلى مزيد من مثل هذا الانتاج، وإلى مزيد من الأقلام الواعية المسؤولة، والكلمات الواعية المسؤولة المفعمة بالمحبة المشبعة بالتمرد على واقع مهترىء نحسب السلامة، وربما الثورة، استمراراً للحياة فيه، ونحسب الريادة مغامرة قد تؤدي الى الموت. لكننا نجهل كم من الأحياء أموات، وكم من الساكنين باطن الارض أبد الدهر خالدون.
   حتى اللحظة، نستطيع أن نقول إن أسلوب المدرسة القبانية واضح البصمات على شعر البعيني الفصيح، لكنني أستشف بذور مدرسة قائمة بذاتها، وأرجو ألا يخيّب الشاعر ظني.
   وقد تكون تلك المدرسة، كما اشتهاها أديب العرب الاكبر صديق جبران، عنيت به أمين الريحاني، الذي أراد شعراً متألّما لكنه من حديد ونار.
   يقول أمين الريحاني: 
الشاعر الصغير يتألّم ويبكي، ويدخل الى قلبك شيئاً من عذوبة قوافيه، فتطرب لصناعته، وقلّما تأسف على حاله.
   والشاعر الكبير يتألّم، ويصف الألم وصفاً يؤلمك، ويهيج فيك الغضب والنقمة، بل يريك من الفواجع الاجتماعية ما يضرم في صدرك نار التمرّد، ويشعل فيه نور الرغبة بالعمل، بل نور العمل والاصلاح.
   قد يخيّل للبعض منا أن الشاعر شربل بعيني قد كره جاليته وشعبه، فهؤلاء ليسوا على خطأ، فشربل قد كره الجالية والشعب معاً، كما يكره المرء ذاته في أحيان "كرهاً مستمداً من أعمق الحب" على حد تعبير الاديب الكبير الراحل رئيف خوري. فلا تغضبوا ان انتم أحسستم بكره شاعر أو أديب لكم، فهو بذلك يستفزكم، ان صح التعبير، لامتطاء صهوة المجد.
   وهذا ما أظن ان الشاعر شربل بعيني يطمح اليه.
   يقول في قصيدته "عرسنا استقلال":
إني سئمت من الرقاد القاتل
في غيهب الزمنِ..
إني سئمت من الزعامة 
والتشرذم النتنِ،
ومن حياكة الأحداث والفتنِ
خوفي اضمحلّ،
فما أبهاك يا كفني..
أنت الخلود لكل حرّ شامخ لم ينثنِ..
أعطى الدماء عزيمةً
للأرض كي لا تنحني.
(في معظم قصائده، نجد أن الشاعر شربل بعيني يبتعد عن الاوزان الشعرية والتفعيلات المختلفة، بغية الاعتماد على ذاتيته المطلقة في النظم)
   ما أعظم الدماء التي سقت الارض عزماً وشموخاً، والارض هنا الوطن، وأي دم يشمخ بالوطن غير دم الشهداء.
   أما قصيدته "صدقيني يا بهيسة" فهي تشكّل تحوّلاً جذرياً في رأي الشاعر، بالنسبة للمرأة، لذلك نرى ان يستعين القارىء بدراسة الدكتورة سمر العطار حول "المرأة والحرب في المجتمع الأبوي: ملاحظات من أعمال شربل بعيني".
(سمر العطّار: أديبة سورية، تسكن حالياً في سيدني، أشهر مؤلفاتها: لينا لوحة فتاة دمشقية، والبيت في ساحة عرنوس.
راجع كتاب: شربل بعيني بأقلامهم، الجزء الثامن، الذي أعده الاستاذ كلارك بعيني، ص 31، ملبورن).
**
ـ8ـ
   الشاعر شربل بعيني طاقة لا تهدأ، الصحف العربية الصادرة في أوستراليا تلاحقه لتقطف من ثمار نتاجه غذاء خالصاً تقدمه لقرائها.
   وكلما تراكمت هذه المقطوعات نسّقها وصنّفها وأصدرها في مؤلف، بالفصحى أو بالعامية، آخر هذه المؤلفات  وليس الأخير بالطبع، فشربل ما زال في أوج عطائه، كان  ديوان "ألله ونقطة زيت".
   في هذا الديوان يتناول الشاعر بأسلوب شعره العامي المبتكر، الاساطير والأقاويل والخزعبلات التي تزخر بها الطقوس الدينية والمذهبية على اختلافها، هدفه في ذلك تحرير الانسان من المفاهيم التي ولدتها تلك الاساطير، والخزعبلات التي استعبدت الانسان، وعطلت تفكيره، وأجازت له على مدى العصور والازمان ان يرتكب الجرائم باسمها، وفي سبيل الدفاع عنها.
   وشربل في ديوانه "ألله ونقطة زيت" كما في ديوانه "كيف أينعت السنابل؟" أشد جرأة وأكثر وضوحاً، وأعمق فكراً، وأكثر شمولاً.
   يبدأ الديوان بثلاثة أسطر بخط يده، تقول:
لقد سخّرت مالي في خدمة حرفي، وجندت حرفي في خدمة الانسانية، فساعدني يا رب كي أمتلك الحقيقة. (شربل بعيني: ألله ونقطة زيت، طبعة أولى، ص 2، دار راليا، سيدني 1988).
   أرى شربل بعيني قد عمل بنصيحة الريحاني، حيث أوصى الشاعر، كل شاعر، ان:
وفّر قرشك لطبع ديوانك..
   فقروش شربل توظّف لطبع دواوينه، وفي كثير من الأحيان لمساعدة الآخرين على نشر نتاجهم، وهذا في عرفي قمة الاخلاق الأدبية، وادراك واعٍ لمسؤولية الكلمة الواعية المسؤولة.
   قدّم للديوان سيادة المطران عبده خليفة، شرح فاستفاض، وفلسف فأغنى. وحسب هذا الديوان ان يقدّم له، إيجاباً أو سلباً، رجل دين ولاهوت من مستوى سيادة المطران عبده خليفة.
   لا حاجة للتأكيد على ايمان الشاعر بالله، ولكن الايمان بالله شيء، والتسليم ببدع من وضع البشر، تحوّلت الى مفاهيم وطقوس ألصقت بالدين، وراءها غايات معيّنة، شيء آخر.
   هذه المفاهيم والطقوس، وضروب العبادات هي التي يثور عليها الشاعر شربل بعيني، ويطالب بتحرير الانسان منها.
   في الاديان، كما في الاحزاب، تسود في وقت ما، وظرف ما، مفاهيم خاطئة، نتيجة تفسير خاطيء لآية أو سفر أو مبدأ، يراد منها شيء، لكنها تتحوّل الى نقيض ما أريد لها، فتعتبر هي الحقيقة، نسبية كانت أم مطلقة.
   هذه المفاهيم بعينها هي التي يحاربها الشاعر شربل بعيني، ويثور عليها، لا يشكك بصحتها فحسب بل يدحضها بمنطق بسيط، وعبارة سهلة لكنها منيعة. بالأمس تساءل المعري:
في اللاذقيَّةِ ضَجَّةٌ
ما بينَ أحمدَ والمسيح
هذا بـنـاقـوسٍ يدقُّ 
وذا بـمِـئـذنـةٍ يـصــيح
كلٌّ يُعظِّمُ دينَهُ
يا ليتَ شِعْري ما الصحيح!
   ومنذ زمن المعري حتى يومنا هذا، والسؤال يتردد على ألسنة البشر بصيغ مختلفة، ومنذ ذلك الوقت حتى يومنا هذا، والمفكرون يبحثون عن جواب لهذا السؤال. وفي اعتقادي ان هذا السؤال سيظل مطروحاً وبدون جواب، طالما ان الاهواء والغايات والمصالح وحتى التجارة تمتطي اكتاف البشر، وتسيّرهم في مسالكها، وإلا ما معنى أن يتفرّع عن المسيحية، وهي ديانة موحدة، طوائف وشيع كثيراً ما تختصم وتحترب، وفي زعم أتباعها انهم بذلك ينصرون دينهم المسيحي الواحد.
   وما معنى أن يتفرّع عن الاسلام، وهو دين موحد، طوائف وشيع، هي الاخرى تختصم وتحترب وفي زعم أتباعها ما في زعم أتباع الديانات الاخرى.
   بل ما معنى أن يكون للبشر أكثر من ديانة موحدة، طالما أن جميع الديانات الموحدة تعبد إلهاً واحداً.
   سؤال.. لا ندعي القدرة على الاجابة عليه، إلا أننا نعتقد أن الديانات الموحدة، شأنها شأن كل الظواهر الاجتماعية، محكومة بظرف وزمان معينين. ولا يصح سحب ظروف زمن معيّن على أزمنة لاحقة لها ظروفها المعيّنة، فالمطلق في الديانات الموحدة هو وجود الله الواحد، ومحبة الله لعباده، وما عدا ذلك من المفاهيم، فهو نسبي، تتيسر لنا معرفته بقدر ما تتيسر لنا وسائل المعرفة والتطور.
   وتيسر وسائل المعرفة وتطورها دفعا الانسان للتفكير بحقيقة كل الاساطير والتأويلات الملحقة بالاديان، ودفعا المفكرين لكشف زيفها ووسائل الاتجار بها. جاء في المواكب لجبران خليل جبران:
وَالدِّينُ في النّاسِ حَقلٌ لَيسَ يَزرَعه
غَيرُ الأُلى لَهُم في زَرعِهِ وَطَرُ
مِن آمِلٍ بِنَعيمِ الخُلدِ مبتشرٍ
وَمِن جَهُولٍ يَخافُ النّارَ تَستَعِرُ
فَالقَومُ لَولاً عِقابُ البَعثِ ما عَبَدوا
رَبّاً وَلَولا الثَّواب المُرتَجى كَفَرُوا
كَأَنَّما الدّينُ ضَربٌ مِن مَتاجرهم
إِن وَاظَبوا رَبحوا أَو أهملوا خَسِرُوا
أن دين الناس يأتي
مثل ظل ويروح
لم يقم في الأرض دين
بعد طه والمسيح
(المجموعة الكاملة لمؤلفات جبران، اشراف مخائيل نعيمة، ص 355).
   ان طمع الناس بنعيم الخلد وخوفهم من نار جهنم، دفعاهم الى ممارسة الرشوة مع الرسل والقديسين، فازدهرت الاوقاف بالنذورات، وتحولت الى امبراطوريات واسعة، حكمتها طبقات اقطاعية من الاكليروس، لم تتورع حتى عن بيع صكوك التمليك في الجنة.
   لكن وجود بعض المفكرين المصلحين، ومن بينهم رجال دين، شرّع الابواب للفكر، وبدأت تتزحزح عن صدر البشرية وفكرها كوابيس محاكم التفتيش.
   واننا، وان كنا اليوم، وفي معظم أقطار الدنيا، ما عدا الاقطار التي تحكمها الموجات الاصولية، والعقليات المتخلفة، نتمتع بحرية مناقشة الاساطير والتقاليد الدينية الموروثة، دون خوف من حكم اعدام يصدر بحقنا.
   فإننا يجب أن نعترف بفضل أولئك الرواد، الذين استشهدوا في سبيل الدفاع عن حرية الفكر وحق المناقشة.
ـ ما هي تلك الأساطير التي ثار ويثور عليها الرواد المفكرون لتحرير الفكر البشري؟
   لعل ديوان "الله ونقطة زيت" يجيب على كثير منها، لا سيما اذا تذكرنا ما يثار، بين الحين والحين، من ضجة مصطنعة حول عجائب لا وجود لها إلا في أدمغة أصحاب المصالح، الذين يفبركونها لغاية في نفس يعقوب.
   لكن سواد المؤمنين يندفع للتسليم بها وكأنها حقائق دامغة لا تقبل الجدل، فتذهب لتستطلع الحقيقة، ولتقف على صحة ما يجري، فتجبه على الفوربأن ذاك لا يتأتى إلا للمؤمنين حقاً، فإن تجرأت وتحققت من الامر، ولم توافق على ما تسمع، لاحقتك لعنات المؤمنين.
   ولعل مثل هذه الاحابيل تروج في شرقنا العربي، أكثر من أي مكان آخر. وأتذكر، فيما أتذكر، انني كنت قبيل أحداث لبنان المؤلمة بأيام معدودات في زيارة أنسباء على الساحل الكسرواني، وفيما نحن في صحن الدار، إذ ببضعة نسوة يتقدمهن رجل، ربما كان آنذاك في سن الاربعين، ومعه طفلة لا يزيد عمرها على عشر سنوات.
   وصلن الدار، وبدأ الحديث عن عجائب الخضر، مار جرجس، وكيف أن الرجل الذي يرافقهن، كان اطباء مستشفى المواساة في دمشق، قد حكموا بقطع رجله، لانقاذه من مرض الغرغرينا.
   لكن الخضر، حضر عليه ليلاً، وأمره بالمشي، وبعدم الامتثال لرأي الاطباء، فأنقذه. ومنذ ذلك الحين نذر نفسه للتبشير بمعجزات الخضر، وان هذه المعجزات لا تتحقق إلا للمؤمنين والمؤمنات، ولذلك، فهو يطوف القرى لهذه الغاية، مزوداً ببعض القطن والزيت، يضع منها كتلاً صغيرة ويدفعها إليهم، فتحبل العقيمات، ويشفى المرضى.
   للوهلة الاولى فكرت ان الطفلة ابنته، لكنني تبينت، فيما بعد، انها ترافقه في جولاته. وسألت الرجل: متى كان في مستشفى المواساة في دمشق؟ فذكر لي تاريخاً معيّناً، وسألته عن هويته، فقال انه سوري من مناطق اللاذقية، وطلبت أن أرى هويته، وقد عزمت على امر ما، فارتبك الرجل، لكنني انتزعت بطاقة هويته منه، وصعقت عندما قرأت: مجرّد من الحقوق المدنية لارتكابه جرائم مشينة ومخلة باللآداب.. هكذا بالحرف الواحد، فعرضت بطاقة الهوية على النسوة اللوتي كن برفقته، وفي ظني انني قدمت لهن خدمة كبرى، حين كشفت لهن حقيقة خريج سجن المزة.
   لكن النسوة انتفضن، وخرجن من المنزل، محيطات به من كل صوب. ثم انقطعن مع أزواجهن وأولادهن عن زيارة أنسبائي، حتى في مواسم الاعياد، لأنني، حسب زعمهن، قد وجهت إهانة الى "الخضر" والى الدين والى الايمان.
   فهل نستغربنّ اذا رأينا الشاعر شربل بعيني يستهل ديوانه الجديد "ألله ونقطة زيت" بهذه المقطوعة:
لا تزعل دخلك يا رب
كتار بهالدنيي مجانين
بيدقّوا جراسُن عن كذب
لشخص مفبرك من حفصين
وجفصينو عم يرشح زيت
وبيتحوّل ديرك "بيت"
ونسوان تبخّر للدين
(شربل بعيني: ألله ونقطة زيت، ص 34، 1988، سيدني).
   ويستغرب الشاعر كيف ان المؤمنين لا يرون حب الله إلا "بمزاد التجار وبندورات التعبانين"، ولا يرونه إلا بنقطة زيت، وهو خالق الزيت والزيّات "والدنيي كلا". ويستطرد فيقول:
غفرلي دخلك لولا بقول
مسطول وأكبر مسطول
كلمن بيآمن يا رب
من نقطة زيت وقنديل
وخرافات ودق طبول
(شربل بعيني: ألله ونقطة زيت، ص 37، ، سيدني 1988).
   فالمؤمن حقاً عند الشاعر يرى الله:
بأزغر مخلوقات الكون
بالزهره الغامرها اللون
بالعصفور العم بيغنّي
(شربل بعيني: ألله ونقطة زيت، ص 38 ـ 39، سيدني 1988).
   ويسأل الشاعر بعيني ربه أن يرسمه "سيفاً بوجه الظلم"، وأن يخلقه "يقظة بليلة حلم"، وأن يفجّره حباً وإحساساً، وأن يجعله حمامة "تبشّر بالسلم"، وينفخه غيمة تجرف البغض من الأرض، وتحوك بدلاً منه سلالاً يزيّنها "بباقات الورد الناطر ع شفاف الاطفال".
   وهل يستطيع شاعر عشّش حب الله في قلبه وسكن، كما في قلب الشاعر بعيني، إلاّ أن يرجم تجار الدين كهنة كانوا أو غير كهنة.
   ولا ينسى الشاعر بعيني من أن يؤكد في ديوانه أن التقلّب بين الأديان، إنما تحكمه المصلحة والتجارة وليس الايمان، ويستغرب كيف أن ديناً لا يحرّم الخمرة، بينما دين آخر يحرّمها، ثم يخاطب الله فيقول:
مش رح صدّق إنّو كان
أصل العالم بي وأم
(شربل بعيني: ألله ونقطة زيت، ص 49، سيدني 1988).
   مشيراً بذلك الى أسطورة آدم وحواء، تلك الأسطورة التي ابتدعها العقل الديني لغاية ما، ثم حوّلها بقدرة قادر الى حقيقة مطلقة، لا تقبل النقاش، وظلت هكذا حتى الامس القريب، حين اضطرت الكنيسة الكاثوليكية، على ما أعتقد، الى الاعتراف بأن قصة آدم وحواء، إنما هي أسطورة، يراد منها الاتعاظ بالخير، وتوقّف تدريسها على أنها حقيقة مطلقة.
   ثم يسخر الشاعر من عالم أديانه تحارب بعضها بعضاً، وما زال يحلم بالجنة.
   ويفرّق الشاعر بين خطيئة ترتكب عن معرفة وتصميم، وبين خطيئة ترتكب قسراً، تلك حسابها معروف، لا داعي لنقاشه، ولذلك لم يأتِ الديوان على ذكرها. أما الخطيئة التي ترتكب قسراً بضغط الحاجة، أو عدم المعرفة، يتساءل الشاعر هل سيحسبها الله خطيئة؟.
   تساؤل يحمل في طيّاته الجواب بالنفي. ذلك أن إلهاً، كإله الشاعر شربل بعيني، محباً غفوراً كريماً خالقاً لكل شيء، وعارفاً بكل شيء، لا يمكن أن يحاسب سارق رغيف الخبز لإشباع أطفاله الجياع بجريمة السرقة، ويدخله النار، ويترك المجرم الذي حرم هذا الانسان حق إشباع أطفاله، طليقاً في الجنة، تماماً كما تفعل القوانين الوضعية.
   ويؤكد الشاعر انه قرأ الكتب المقدسة، لكنه لم يرَ تحيّزاً من الله الى جانب زيت ضد زيت، أو شعب ضد شعب، أو دين ضد دين، كما تصوّر ذلك المذاهب والشيع المذهبية والدينية المختلفة. يقول الشاعر:
قريت التوره والإنجيل
والآيات البالقرآن
لقيتك "كفّه" ما بتميل
مهما يحتال الانسان
(شربل بعيني: ألله ونقطة زيت، ص 69، سيدني 1988).
   وخلاصة القول: إن قصائد الديوان تتميّز، كما قال سيادة المطران خليفة في المقدمة "بالعفوية والاصالة التي هي من مناقب الشاعر الحقيقي، وتأتي القصائد كلّها، وكأنها صيغت في وقت واحد. أمواج دفاقة تتشابه بكل ما فيها من تيارات جعلت لهذا  الديوان وحدته وتضامن أفكاره" (المطران عبده خليفة: رئيس أساقفة أوستراليا للموارنة. مؤلفاته عديدة منها: مريم العذراء وقضايا العصر. اجتماعيات. واليمين واليسار في لبنان في خدمة من).
   وخرجت بالشاعر الى الافق الانساني الارحب، فشربل في ديوانه هذا، رائد فكر يمتشق السوط، ويلهب ظهور تجار الهيكل، وما أكثر تجار الهيكل الانساني.
**
ـ9ـ
   ختاماً، اترككم مع كلمتي في حفل تكريم شربل بعيني في السفارة خاللبنانية ـ كانبرا عام 1987، من قبل سعادة السفير لطيف ابو الحسن، وبحضور السلك الدبلوماسي العربي، والاخوات الراهبات، والعديد من فعاليات الجالية الادبية والاعلامية والاجتماعية:
   أصحاب السعادة
   إن صحّ لي أن أتقدّم اخواني الشعراء بالكلام، فلأشكرنّ سعادة سفير لبنان الأستاذ لطيف ابو الحسن، أولاً لأنه أعاد السفارة اللبنانية كما يجب أن تكون بيتاً لكل اللبنانيين، وثانياً على إتاحة هذه الفرصة لنا، فرصة اللقاء بكم، بمناسبة تكريم الشاعر شربل بعيني، وثالثاً على هذه الالتفاتة الكريمة بتكريم واحد من طليعة شعرائنا في المهجر الأسترالي الذين بهم نفتخر ونعتز.
   واننا اذ ننتهز فرصة لقائنا بكم، فإننا نحملكم رسالة شعراء وأدباء المهجر في أستراليا الى الوطن الأم، بمختلف أقطاره التي تمثلون، رسالة الحرية، ولاسيما حرية الفكر والرأي، التي بدونها لا تبنى الأوطان ولا تصان، ولا تزدهر، فكيف اذا كانت أقطارنا مهددة من أكثر من مصدر أو جهة.
   واننا إذ ننتهز هذه الفرصة ايضاً، لنحيي العراق الباسل، الذي يقف بوجه الأطماع بالوطن العربي، تلك الأطماع التي تتقنّع بقناع طائفي أصولي، نؤكد أن الطائفية مرض من شأنه ان استشرى ان يفتّت الوطن العربي بأكمله، ولعلّ ما أصاب لبناننا الحبيب من تشلّع، حيث ألبست أحداثه في فترة ما لبوس الطائفية، أبلغ نذير لما يمكن أن يحل بكل أقطار العرب، اذا ظلت الموجة الطائفية المذهبية تعيث فساداً دون ان تجد المقاومة اللازمة، ودون أن يرفد العراق الباسل بكل دعم عربي.
   واذا ما عرفنا ان الموجة الخبيثة في حربها الشرسة ضد العراق الباسل، تتلقى المساعدات من اسرائيل، وان الاثنتين تتلقيان دعماً أميركياً غير محدود، تأكد لنا عندئذ اننا نواجه عدواً واحداً على جبهتين مختلفتين، وبلبوسين مختلفين.
   مرة أخرى أشكر لسعادة سفير لبنان اتاحته هذه الفرصة لنا للاجتماع بكم، ونشكر له التفاتته الكريمة لتكريم واحد من شعراء المهجر، عنينا به الشاعر شربل بعيني، الذي اشترك مؤخراً بمربد الشعر في العراق، فهزّ المربد بصدق كلمته، وسترون ذلك بأنفسكم عندما تستمعون لقصيدته المربدية.
وشكراً لكم.
السفارة اللبنانية، كانبرا، 1987
**


قالوا
في الكتاب

حوار الاستاذ نبيل طنوس مع الأستاذ كامل المر حول كتابه "مشوار مع شربل بعيني"
 
   تقوم رابطة إحياء التراث العربي في أستراليا بنشاطات عديدة ومهمة لدعم مسيرة الأدب المهجري في هذه البلاد، فتقيم الندوات الأدبية حول نتاج شعراء وأدباء المهجر والوطن الأم، وتتوّج أعمالها السنوية بمنح جائزة جبران التي بدأت تأخذ الصفة العالمية، تقديراً لأهم الأعمال الأدبية، التي تساهم بإبراز تراثنا العربي في العالم، ودعماً لمشاريع الرابطة الأدبية ستقوم رابطة إحياء التراث العربي بإحياء حفلة فنية ساهرة يوم السبت الموافق في الرابع والعشرين من الشهر الحالي.
   ولنتعرّف أكثر على مشاريع رابطة احياء التراث العربي في هذه البلاد، يسعدنا أن نستضيف رئيسها الأستاذ كامل المر.
ـ أستاذ كامل أهلا وسهلا..
* أهلا وسهلا بكم..
ـ أولاً.. هل بالامكان أن تعطينا لمحة عن أهم المشاريع التي قامت بها الرابطة منذ تأسيسها لغاية الآن؟
* بدأت فكرة الرابطة مع سنة جبران العالمية، ففي تلك السنة، تنادت بضع شخصيات وجمعيات للإسهام في تكريم جبران خليل جبران، وأقيم تجمع تحت إسم "أصدقاء جبران"، وبدأ العمل لإحياء ذكرى جبران في تلك السنة. واعتبرت سنة 1981 من الأمم المتحدة سنة جبران العالمية.
   بعد هذا النشاط، رأينا أنه يمكن أن يستمر النشاط الأدبي في هذه الديار، فكان أن التقينا معاً، واخترنا اسم "رابطة إحياء التراث العربي"، وبدأت نشاطات الرابطة منذ ذلك الحين، فكان العمل الثاني المميز هو تخصيص جائزة باسم جبران عن أفضل بحث عن نابغة العصر، وبعدها تم بالطبع احياء عدة ندوات وأمسيات أدبية مختلفة، منها أمسية لتكريم الشاعر القروي ـ شاعر الأمة، أمسية للشعر العامي، أمسية لمئوية مارون عبود، أمسية لمخائيل نعيمة، وبالطبع في كل عام تتوج نشاطات الرابطة بتوزيع جائزة جبران لمن يرشحون لهذه الجائزة.
ـ برأيك أستاذ كامل.. ما هي أهم الانجازات التي حققتها الرابطة؟
* أعتقد أن الانجاز الأهم هو أن الرابطة استطاعت أن تحرّك عملية الانتاج الفكري في هذه الديار لأبناء الجالية العربية. في الحقيقة قبل سنة 1981، كانت النتاجات الأدبية قليلة جداً، وربما كان الشاعر شربل بعيني هو أول من وضع انتاجاً باللغة العربية في الديار الأسترالية، لكن بعد أن بدأت الرابطة نشاطاتها رأينا انه قد صدرت عدة كتب.
   ثم ان الندوات التي تقام حول هذه المؤلفات تدفع أيضاً بأصحاب الكفاءات بأن يبادروا الى العمل.
ـ سيد كامل.. لقد صدر لك حديثاً كتاب بعنوان "مشوار مع شربل بعيني"، فهل بالإمكان أن تعطينا لمحة عن هذا الكتاب؟
* في الحقيقة نحن في الرابطة كنا قد أقمنا أمسية لتكريم نتاج الشاعر شربل بعيني، وأنا كان لي شرف المساهمة بمعظم أمسيات رابطة احياء التراث العربي، وفي فترة ما من العام الماضيكنتى أراجع هذه المساهمات فرأيت انه بالإمكان تطوير هذه الدراسة التي وضعتها عن الشاعر شربل بعيني، لتصبح دراسة منهية نوعاً ما، تساعدالمفكر والأديب والشاعر والقارىء، فكان هذا الكتاب الذي قرأت عنوانه "مشوار مع شربل بعيني"، طبعاً مقدمة الكتاب، او الفصل الأول، يحتوي على استشهادات كثيرة لشعراء كثر، ويبين الفرق بين كيف ننظر نحن الى الشاعر الشاعر، أو الى الأديب الأديب، حيث أن الشاعر والأديب يجب أن يتصف أول ما يتصف ببعد النظر، وبفهم قضايا العصر التي تدور حوله.
ـ أستاذ كامل.. لو سألناك بصراحة: ما هو رأيك الشخصي بالشاعر شربل بعيني؟
* رأيي الشخصي، وقد قلت هذا مراراً وعلناً، وأمام جميع الناس، أنا أعتبر الشاعر شربل بعيني من أجرأ شعراء العربية في المهجر والوطن في زمننا الحاضر.
ـ في كتاب "مشوار مع شربل بعيني" هناك قصيدة بعنوان "يا طفل الأرض المحتلة"، فما رأيك في هذه القصيدة؟
* في الحقيقة أنا رافقت ولادة هذه القصيدة، عندما بدأت انتفاضة الأرض المحتلة، وكثيراً ما ألتقي الشاعر بعيني، وكثيراً ما نتبادل الرأي حول كثير من القضايا، فكانت الانتفاضة في الأرض المحتلة، من الأمور التي كنا نتكلّم بها. وفاجأني ذات يوم بمطلع لهذه القصيدة، ثم كنا نتابع القصيدة مقطعاً بمقطع وكلمة بكلمة، وكنت مرتاحاً لها جداً جداً.
ـ وما هو رأيك بمفاجأة الآن؟. قبل حوالي أسبوع استضفنا الأستاذ شربل بعيني، لتسجيل بعض القصائد، ومن ضمن القصائد التي سجلها بصوته هذه القصيدة فما رأيك لو نستمع إليها الآن بصوت شربل بعيني.
* والله، أنا دائماً أحب أن أسمعها أيضاً.
ـ لنستمع إليها.. 
......
هذه يا كامل كانت قصيدة "يا طفل الأرض المحتلة"، طبعاً بصوت شربل بعيني، وقد سجّل لنا قصائد عديدة، سنبدأ بإذاعتها عن قريب.
   أستاذ كامل.. أنت تعلم أن للشاعر شربل بعيني قصائد عديدة عديدة.. هل برأيك قدّر في الوطن العربي؟
* لا شك أن الشاعر شربل بعيني، ولا سيما بعد اشتراكه في المربد الشعري في العراق، قد أصبح معروفاً على نطاق العالم العربي كله.
   هناك دراسات عديدة تعد عن شعر الشاعر شربل بعيني، وهذا مما يدعو الى الفخر حقاً، ففي المغترب لدينا كفاءات أدبية نعتز بها ونفتخر.
ـ هل برأيك كرئيس لرابطة احياء التراث العربي، أن النهضة الأدبية العربية في أستراليا، أصبحت بمستوى النهضة الأدبية للمهاجر العربي في أي بلد آخر من العالم؟..
* في رأيي أن مستوى الحركة الأدبية في المهجر الأسترالي قد قطع شوطاً كبيراً. قد تكون هناك مستويات مماثلة أو قريبة، ربما في أميركا الجنوبية، لكن لا أستطيع، ولا أظن أن حركتنا الأدبية في المهجر الأسترالي بأقل من المستوى الموجود في المغتربات الأخرى.
   من وقت الى آخر، تصدر أقوال عن بعض المتعاطين بشؤون الكتابة هنا، تارة تطالب بالتحجيم، وتارة تطالب بأشياء أخرى، ولكن لست أدري هل يعقلون ما يقولون؟.
ـ أستاذ كامل المر.. شكراً جزيلاً على هذا اللقاء، ونتمنى لك ولرابطة احياء التراث العربي في أستراليا دوام التقدم والنجاح.
إذاعة تو إي آي الحكومية ـ سيدني 1988
**
كامل.. كمالو نور
القصيدة التي ألقاها الشاعر شربل بعيني في ندوة رابطة إحياة التراث العربي ـ سيدني، 2/12/1988، حول كتاب (مشوار مع شربل بعيني) لمؤلّفه الاستاذ كامل المر.

ـ1ـ
مِشْوَارْ..
دَخْلَكْ كِيفْ هَـ الْمِشْوَارْ
قْدِرْتْ إِنَّكْ تِقْطَعُو
وْبِاللَّيْلْ وَحْدَكْ تِرْجَعُو
وْيَا مَا بَشَرْ عَمْ يِفْزَعُوا
تَا يِفْشَخُوا بِنْهَارْ؟!
ـ2ـ
مِشْوَارْ..
مَا رْضِيتْ إِنُّو يِختفِي
وْيِتْسَتَّرْ بْقُبْع الْخَفِي
طِرْطَشْت دَمَّكْ عَ الْوَرَقْ
وِنْصَبْتْ حَرْفَكْ عَ الشَّفَقْ
تَا كِلّ مَا الصُّبْح انْدَلَقْ
يُوقَعْ بِجرْن الْمَعْرِفِه.
ـ3ـ
قَبْلَكْ.. مَا كَانْ الْـ كَانْ
وْلاَ الْحَرْفْ حَسّْ بْقِيمْتُو
غِسَّلْتْ وِجُّو.. بَانْ
كلُّو وَفَا وْإِيمَانْ
وْعَ شْفَافْنَا تِرْنِيمْتُو
ـ4ـ
شِفْت الْوَطَنْ مَرْسُومْ
وِمْخَزّقَه الصُّورَه
نَزّ الْجَبِين هْمُومْ
بِالْقَلْبْ مَحْصُورَه
حْمِلْت صَوْت الرِّيحْ
وْقِلْتِلّنَا: قُومُوا
نِرْسُمْ فَرَحْنَا زِيحْ
بْعَصرْ كِيفْ مَا نْزِيحْ
عَمْ يِنْفُخ سْمُومُو
ـ5ـ
يَا رْفِيقْ دَرْبِي.. لَيْشْ
بَعْدُنْ مَا فِهْمُوا عْلَيْكْ
بْيِمْشُوا عَلَى الطِّمَّيْشْ
وْمَا بْيِمِسْكُوا بْإِيدَيْكْ؟!
بَدَّكْ أَدَبْ إِنْسَانْ
يِخْلَقْ شَعبْ فَنَّانْ
يْلَوِّنْ سَمَا أَوْطَانْ
عَمْ تِحْمِيَا بْعِينَيْكْ.
ـ6ـ
يَا مَا سْأَلْت الْقَلْبْ
عَنْ شَخْصَكْ الْغَالِي
الْـ ضَوَّى شْمُوع الْحُبّْ
بِـ عَتْمِة لْيَالِي
خَلِّت شْعُوب تْضِيعْ
عَ مْفَارِق الأَيَّامْ
لِلْحقْد إِبْنَا تْبِيعْ
وْتِتْيَزَّرْ بْآلامْ
قَللِّي الْقَلبْ: لا تْخَافْ
كَامِلْ.. كَمَالُو نُورْ
لْوَحْدُو إِذَا بْيُوقَافْ
بِيحَارِب الدَّيْجُورْ
ـ7ـ
وْصَارُوا اللَّيَالِي يِغْرَقُوا
بْنُور الْفَجرْ
وَقْت اللِّي حَرْفَكْ زَوْزَقُو
وْجَنّ الْقَهرْ
وْحِمْلِ الْحَسَدْ عِكَّازْتُو
وِالإِحْتِيَالْ
شَافْ بْعُيُونُو جْنَازْتُو
وِارْتَاحْ بَالْ
خَلِّيكْ نجْمِةْ حُلْمْ
بْلَيْلْ قِيلْ وْقَالْ
تِفْرُش زْهُور السِّلْمْ
وِتْفَرِّح الأَطْفَالْ
وْتِهْدِي بْنُورَا عْيَالْ.
ـ7ـ
شُو بْقُولْ.. نِشْف الصَّوْتْ
بْغُرْبِه.. ضِحِكْهَا سِلّْ؟!
شُو بْقُولْ.. وْطَيْف الْمَوْتْ
مْنِ عْرَاسْنَا بِيطِلّْ
وِبْلادْنَا بْتُوقَعْ
بِـ بِيرْ مَاضِينَا
بْتِنْدَهِلْنَا نِرْجَعْ
وْبِتْسَكِّرْ الْمِينَا
وِالْقَلْب.. مَا بِيهِمّْ
لَوْ دَابْ مِنْ قَهْرُو
الِمْهِمّْ يِدْفَعْ دَمّْ
لِلْحَاكِمْ بْأَمْرُو!!
ـ8ـ
جُوعْ الْجَسَدْ مُشْ جُوعْ
جُوع الْفِكرْ أَعْظِمْ
كلُّو أَسَى وِدْمُوعْ
وِعْقُولْ تِتْأَلَّمْ
وْعَ طُولْ عَمْ شُوفَكْ
كَامِلْ بِـ مَعْرُوفَكْ
وْمَعْ كلّ طَالِبْ عِلْمْ
بْتِتْقَاسَمْ حْرُوفَكْ.
ـ9ـ
وِالرَّابْطَه اللِّي عْطَيْتْهَا قَلْبَكْ
دَقّْ رَاسَا بِالسَّمَا
وْضَوِّتْ قَمَرْ شَعْبَكْ
بْإِيدَيْنْ..
إِيدْ الْمَجدْ قَعْدِتْ تِرْسِمَا
بْعِينَيْنْ..
صِرْنَا بَلاهَا نْضِيعْ
وِنْغِصّ بِالْكِلْمَاتْ
نِشْبَعْ مِنِ التِّجْوِيعْ
وْنِبْرُدْ مِنِ الآهَاتْ.
ـ10ـ
بْحَرْفَكْ غَنِي..
وْلَوْ تِفْتَحُنْ إِيدَيْكْ
بْتُوقَعْ دِنِي
عَ مْطلّ.. حَنّ عْلَيْكْ
بْوَادِي كْفِرْحِلْدَا
عَ تْلاَلْ.. فَرْشِةْ طِيبْ
حَاك الزَّهِرْ جِلْدَا
وْيَا رَيْتْ فِيِّي جِيبْ
مِنْ ضَيْعتَكْ شِي غُمْرْ
رِشُّوا بْدَرْبِي.. وْغِيبْ
بْلَحْظَاتْ أَحْلَى عُمْرْ
وْيِدْنَقْ بِـ قَلْبِي الْجَمْرْ!
ـ11ـ
مِينْ قَالْ إِنُّو الْمَوْتْ
رَحْ يِقْدرْ عْلَيِّي
وْقَلْمَكْ شَلَحْنِي صَوْتْ
عَ شْفَافْ غِنِّيِّه؟
وِالصَّوْتْ مَا بِيمُوتْ
وْلاَ بْيِنْقِبِرْ بِسْكُوتْ
بْيِصْرُخْ بِـ إِدْن النَّاسْ:
لا تْأَمّنُوا لْطَاغُوتْ
عَرْشُو خَشَبْ تَابُوتْ
مْطَعَّم بْيَاقُوتْ
وِمْزَيَّنْ بْإِلْمَاسْ
مِنِ عْضَامْ النَّاسْ!
**
دراسة الاستاذ عصمت الايوبي
حول كتاب
"مشوار مع شربل بعيني"
صدى لبنان ـ العدد 627 ـ 20/12/1988

   في مستهل كلمتي المتواضعة، التي تشكل جزءاً يسيراً من برنامج الاحتفاء بصاحب المناسبة، لا يسعني إلا أن أقول للأستاذ كامل المر: مبروك. أعطاك الله العافية والعمر الطويل، والى المزيد من "المشاوير" والعطاءات الفكرية يا صاحب القلب الكبير.
   أن يكرم الرجل، أيما رجل، إنما يكرم، لا على سواد عينيه، ولا لطول قامته، ولا لضخامة جثته، وإنما يكرم على أعماله، على إنجازانه، وعلى مشاركته في إنماء البناء الانساني المتكامل، بناء فكرياً صافياً ينقي المجتمع من العيوب، ويزرع فيه حب الآخرين بعيداً عن الأنانية والفردية.
   والأستاذ كامل المر، بما نعهده فيه من قيم أدبية واجتماعية وانسانية، جدير بهذا التكريم. وان كان حتى هذه اللحظة لا يزال يرفض في قرارة نفسه إقامة الشعائر، واحياء المظاهر، التي تحاط بها مناسبات التكريم، وهو الذي نعلم علم اليقين مدى زهده في زخارف الأمور، ومراسم الاحتفالات، بدافع من طبيعته الهادئة الصامتة التي تؤثر العمل الجدي بعيداً عن الأضواء.
 ولكن إذا حمّ القضاء على امرىءٍ
فليس له برٌ يقيه ولا بحرُ
   فقد أبرم الأصدقاء والمحبون أمرهم في غفلة من المحتفى به، واتخذت الترتيبات والاستعدادات وابلغ المحكوم عليه بالحكم الصادر عن محكمة الاصدقاء، مع تاريخ التنفيذ ومكانه، ومع ذلك فقد ظل المحكوم عليه مصراً على أفكاره، ويقول:
"اعفونا منها، اعفونا منها، ألله يخليكم يا شباب".
   ولكن أنّى لك يا أستاذنا الكريم أن تهرب من العدالة، وأنّى لنا أن نكون جاحدين! فاليوم لا مفر لك. واليوم تدان بأفعالك، وتجزى بما قدمت يداك في سالف الايام. وهذا المذبح بالذات يشهد على مآثرك بحق زملائك الذين سبقوك في التكريم.
   أنسيت ماذا فعلت بالزميل شربل بعيني؟ أم نسيت ماذا فعلت مع الشاعر الغريب زين الحسن في هذا المكان بالذات؟ وهل نسيت فعلتك مع شاعرنا الغائب الحاضر نعيم خوري؟ أم لعلك نسيت عملك مع أستاذنا المربي فؤاد نمّور؟
   فيا أستاذنا الكبير، اذا كنت انت قد نسيت فإن العدل لا ينسى، والدم لا يموت، فصبراً على قضاء الأصدقاء الذين لا يضيع عندهم جميل، ولا ينامون على دين.
   لقد دعوت الى تكريمهم من خلال أعمالهم وجهودهم، واليوم فلا تعجبنَّ يا صاح، إن هم يسارعون الى رد الجميل، منتهزين فرصة صدور كتابك البكر "مشوار مع شربل بعيني"، لتكون أول سانحة لأخذ الثأر، والاعراب عن صدق مشاعرهم. فإلى هؤلاء الأصدقاء، وأنا واحد منهم، يمكنك أن توجّه أصابع الاتهام، إذا لم تسقط دعواك وتتنازل عن حقّك الشخصي: "اعفونا منها..اعفونا منها". عبارة لم تعد تجدي قائلها فتيلا، وكان الرد بالاجماع "هيدي اسمح لنا فيها". وبين الرفض والايجاب تكمن حقيقة الاستاذ كامل المر القائمة على مثل "السنابل الملأى بالقمح هي التي تنحني، وأما السنابل الفارغة فهي التي تشرئب في الهواء".
   إذن، فموضوع كلمتي في هذه الأمسية التكريمية الأدبية، هو عبارة عن دراسة في صدد كتاب الاستاذ كامل المر "مشوار مع شربل بعيني" الذي صدر حديثاً عن دار الثقافة في بلاكتاون.
   وإذا كان لي شرف المساهمة في هذا الموضوع، فإني أعدكم من أول الطريق انني لا أستطيع الغوص بعيداً في قرارة هذه الدراسة، حيث انني أجد نفسي عالقاً بين صخرتين صلبتين، هيهات ان أفلت من بين براثنهما لكي أتمكن من التغلغل في أعماق التيار. لذلك أراني مكتفياً بالحوم حول هذا المدار من دون أن تتمكن قدماي من ملامسة قاع هذا "المشوار".
المعادلة بسيطة جداً جداً،
ولكنها صعبة للغاية.
   شربل كتب عن غيره: عن الوطن والمهجر والجالية. عن الحب والغرام، عن نبذ التعصّب الديني، عن القضية الفلسطينية، وغير ذلك كثير من الموضوعات.
   وكامل كتب عن شربل بعيني في ما كتب شربل عن غيره.
   وعصمت عليه أن يكتب عمّا كتبه كامل عن شربل في "مشوار مع شربل بعيني".
   إذن العملية معقدة وعلى ثلاثة أطواق، وحلها ليس بالأمر الهيّن، ويتطلّب جهوداً مضنية ووقتاً طويلاً.
   باختصار، ان "مشوار مع شربل بعيني" الذي بين أيديكم، ايها السيدات والسادة، عنوان جميل سرعان ما يستهوي القارىء الى الاندماج في محتوياته بسهولة وعفوية.
   هو أشبه ما يكون بفستان من الحرير الناعم الشفّاف يغلّف جسم صبية حسناء ويشفّ عمّا خلفه من مكامن الفتنة والجمال والأنوثة.
   "مشوار مع شربل بعيني" عنوان حيّ لتجربة حيّة. ما فيه كلمة ميتة واحدة. بل ان جميع الفاظه متراصة على نمط واحد من القوة، ومسافة متساوية من الجمال، بحيث اذا سقطت منهن لفظة واحدة سقطن كلهن واختل التوازن.
   ولا شك في أن هذه الدقة، وهذا الاحكام في سبك العنوان، هما خير شاهد ودليل على طول باع المؤلف في البلاغة واختيار اللفظ المناسب في المكان المناسب.
   إن كلمة "مشوار" بحد ذاتها، منتزعة من أي ارتباط بالعنوان، كلمة غنيّة ومكتنزة بالحيوية والنشاط والجمال. انها تعني الحركة، وتعني الاكتشاف، واتساع الافق والتفكير. فالجالس تحت سقف بيته، المتسمر في الظل، لا يروح ولا يجيء، لا يعرف طعم الشمس والهواء والحريّة، هذا الانسان الراكد في مستنقع الحياة يفتقد معنى الحياة.
   من هنا فإن كلمة "مشوار" لا تستمد قوتها من واقع متجمد متحنط، بل من قوة التغيير والدفع في مجريات الحياة.
   انها اللفظ التلقائي البديهي في قاموس اهل القرى: يؤرخون به أيامهم الجميلة في "مشوار" الزمن الطويل.
   فمشاوير درب العين، ومشاوير الكروم، ومشاوير الزيتون، ومشاوير وادي الصعتر، ومشاوير طريق الضيعة، ومشاوير التبولة والصبايا الجميلات، كلها توحي الجمال والقوة والنشاط، بعيداً عن الضوضاء والشلل والتكلّس، التي عادة ما تتحكّم بسكان المدن، الذين تأسرهم الحياة، وظروف أعمالهم ضمن أربعة جدران، كسمك السردين، أو أكثر قليلاً.
   وكلمة "مشوار" بالاضافة الى ما تقدّم، هي كلمة ممتلئة بالموسيقى والغنائية. انها لفظة شاعرية، تكاد لا تخلو منها أغنية شعبية، خصوصاً في أغانينا اللبنانية، فقلما سمعنا أغنية لبنانية لم يرد فيها هذا اللفظ. فكأن "المشوار" والفلكلور توأمان فنيّان لا ينفصلان في تراث اللبنانيين. فهذه هي السيدة فيروز تصدح: "مشوار جينا ع الدني مشوار"، وها هو المطرب وديع الصافي يجيب صاحبته وقد سألته: "بترحلك مشوار.. قلتلا يا ليت".. والذين يهتمون بالأغاني والمغنين ويتتبعون آثارهم يوافقون معي على ما أقول.
   وقد يكون "المشوار" بمعنى من المعاني الى أميركا، أو الى أوروبا، أو الى أستراليا، وغير هذه من البلدان، بقصد الاستجمام او التجارة او الدراسة او السياحة.
   وقد يكون "المشوار" الى القمر، أو اي كوكب غيره، بغية العلم والاستطلاع والاكتشاف الكوني والفضائي بالذات.
   وقد يكون "المشوار" سيراً على الأقدام، او على صهوة حصان، او فوق دراجة او في سيارة، أو على متن طائرة مدنية، او في باخرة، او ما شابه ذلك.
   إلا أن أبشع "المشاوير" وأزعجها وأثقلها وقعاً في النفوس، "مشوار" على برج دبابة أجنبية، أو شاحنة عسكرية، أو راجمة صواريخ، أو طائرة حربية، أو مدمرة، أو أي وسيلة أخرى من وسائل الفتك والدمار والخراب. عندها يبطل أن يسمى "المشوار" مشواراً، لأننا نكون قد دخلنا في عالم القبح والبشاعة والشناعة، والمشوار بمعناه الصحيح نوع من انواع الحياة، وضرب من ضروب الجمال.
   أخيراً، ولغوياً، فالمفردة بهذا المعنى لم تخرج عن كونها لفظة عامية، فقد نقّبت عنها وتحريّت حقيقة أمرها في "المنجد"، فلم أعثر لها على أثر بهذا المعنى. وان كنت قد عثرت لها على أربعة معانٍ مختلفة في ما بينها من جهة، وبينها وبين "مشوار" المؤلف من جهة أخرى. إلا أن اسقاط هذه الكلمة قاموسياً لا يفقدها قيمتها التعبيرية، ولا يسقطها من موقع النفوذ والبيان.
   "مشوار مع شربل بعيني".. يا حبّذا هذا المشوار، وإني لأغبط الى حدود الحسد صديقي الاستاذ كامل المر على هذا المشوار الجميل مع شربل بعيني، دارساً ومتحرياً معظم آثاره وخطواته على طريق الأدب والشهرة، معترفاً له، أي للأستاذ المر، بطول الأناة، ورحابة الصدر، في إزاء ما أعرفه عند صديقي شربل من الحماسة والحيوية والحركة واللجاجة في معالجة الأمور معالجة لا هوادة فيها، وبروح الشباب الدائم المتجدد. وإني لاسمع في صميم قلبي صوت كامل ينبعث من الأعماق مردداً قول الشاعر:
مشيناها خطى كتبت علينا
ومن كتبت عليه خطى مشاها
فماذا عن هذا المشوار، 
مشوار كامل مع شربل باختصار؟
   عملياً، فإن هذا "المشوار" يقع في مئة وتسع عشرة صفحة من القطع الصغير، موزعة على توطئة من عشرين صفحة، وعلى ستة عناوين أو فصول تحتل من الصفحة السادسة والعشرين الى الصفحة التاسعة والتسعين، وعلى شذرات للشاعر من الصفحة مئة الى الصفحة التاسعة عشر بعد المئة.
   أما التوطئة، فيمكن اعتبارها بحق رحلة ذاتية مع الأدب، ويصح ان نطلق عليها حقيقة عنوان "مشوار كامل المر مع كامل المر"، وهي تجسد بكل صدق ووضوح نظرة المؤلف الى الأدب والأدباء، وتعكس همه الشخصي الذي دفعه الى هذه الدراسة، وينطوي على غايتين: الأولى هي اداء واجب نحو واحد من أهم وأجرأ شعراء العربية في وقتنا الراهن، والثانية تتوخى لفت الذين يتعاطون الكتابة شعراً أو نثراً الى أهم الاسس التي عليهم ان يراعوها وهم يسكبون أفكارهم وخيالاتهم.
   ثم يروح يعرض لأهم المبادىء أو الأحكام التي تقوم عليها صنعة الكتابة، فيحدثنا عن المبنى والمعنى والمفردات والالفاظ مستشهداً بقول لأبي هلال العسكري يقول بعلاقة المبنى والمعنى انها بمثابة العلاقة بين الجسد والروح. أما العبارة الأدبية فهي كالعقد النفيس تماماً، اذا كانت مفرداتها وألفاظها جميلة، وذات جرس موسيقي متناسق، وذات قيمة او معنى.
   وفي حديثه عن المفردات والألفاظ، نراه يستشهد بابن الأثير وابن جني على أن الالفاظ داخلة في حيز الاصوات لأنها مركبة من مخارج الحروف. فما استلذه السمع منها فهو الحسن، وما كرهه ونبا عنه فهو القبيح.
   وبعد جولة على الألفاظ وحسن استعمالها واختيارها وحسن الترويج في ما بينها، نراه يطرق باب العامية والفصحى، فيميّز بين المحاولات الرامية الى التقريب بينهما. وفي هذا المجال يورد المؤلف رواية "لينا لوحة فتاة دمشقية" للدكتورة سمر العطّار على انها محاولة ناجحة للغاية في التقريب بين العامية والفصحى.
   وبعد هذه التوطئة الادبية المعيارية يدخل الاستاذ المر عالم شربل بعيني، ويبدأ مشواره مع نتاجه نثراً وشعراً.
   يصنف الاستاذ المر مؤلفات الشاعر بعيني في ثلاث مراحل شعرية: شعر المراهقة، شعر الشباب، وشعر النضوج. أما نثره فقد عدّه ساخراً وأورد عليه بعض الأمثلة.
   وبعد ذلك، يعدد المؤلف بعض مؤلفات شربل، ثم يتوقّف عند كتاب "مراهقة" قليلاً، وشد ما تأخذه الدهشة من هذا التشبيه "وجّك عتم ونهار"، إلا أن الطابع العام لهذا الشعر تغلّبت عليه العبثية بشكل ملحوظ.
   في "مشّي معي" تتقهقر العبثية ويحل محلها وعي لمشاكل الوطن والمواطنين.
    "يوميات مراسل أجنبي في الشرق الأوسط": تصف الحالة المأساوية التي يعيشها اللاجئون الفلسطينيون في المخيمات، وتستحث العرب من أجل شد أزرهم ونصرتهم.
   "مجانين": وفيه يصب الشاعر جام غضبه على تجار الطائفية والاديان، مؤكداً انتماءه الى الوطن قبل انتمائه الى طائفة او دين.
   "الغربة الطويلة": وهنا قمة المعاناة يصورها الشاعر بعيني، ويدعو المغتربين كلهم للعودة الى ديارهم، ولا يخلو هذا الديوان من بعض الغزليات من الصنف الرفيع.
   "قصائد ريفية": يستهل هذا الكتاب بقصيدة عنوانها "جاليتي"، وقد آلمه أن تنتقل أمراض الوطن الى الجالية في أستراليا، فبيستلّ سوط الشعر، ويلسع ظهرها، علّها تستعيد رشدها.
   "كيف أينعت السنابل؟": وهو عنوان قصيدة كاد الاستاذ المر يسميها ملحمة.
   "الله ونقطة زيت": يتناول الشاعر بعيني هنا، بأسلوبه العامي المبتكر، الأساطير والأقاويل والخزعبلات التي تزخر بها الطقوس الدينية والمذهبية على اختلافها، هدفه في ذلك تحرير الانسان من المفاهيم الاسطورية.
   أما عن نثر الشاعر بعيني، فيقول صاحب "المشوار" انه نثر ساخر جميل، غير أنه ما زال بحاجة الى كثير من العناية والتهذيب في السبك، وفي استخدام المفردات.
   وفي الحديث عن القسم الثالث من الكتاب، أي "شذرات للشاعر" تندرج العناوين التالية: حفلة عشاء خيرية، قصيدة شوقي، لماذا أغني، شموع جديدة، فخار يكسّر فخار، بيني وبينك.
   وفي نهاية هذا "المشوار"، لا بد من تقويم مقتضب. هل انتهى المشوار على خير وسلامة بين الصديقين؟
   هل ظل الرجلان مصممين على متابعة المشوار؟ هل اتفقا؟ هل اختلفا؟ وكيف؟
   في الحقيقة لا بد في أي مشوار من نقاط اتفاق ونقاط اختلاف، ولعل الاستاذ المر قد ضمّن معظم آرائه النقدية، وملاحظاته الفنية، في سياق حديثه عن ديوان "كيف أينعت السنابل؟" باللغة الفصحى. فأعطى الشاعر بعيني حقّه، كما أعطى الناقد المتزن الرصين، الذي لا يخجل، ولا يداجي، ولا يحابي، ولا يجافي الحقيقة.
كلمة أخيرة:
   إن الشاعر شربل بعيني في مشواره مع الاستاذ المر، يكشف لنا عن موقعه كشاعر أصيل التصق بوطنه، وبجاليته، وبإنسانيته، حتى الصميم، فأعطاها جميعاً بلا حساب.
   لقد أدخل الفرح الى القلوب المظلمة، وأعاد الرجاء الى الخواطر المكسورة بكلماته المفعمة بالحب والجمال.
   لم يكن شربل ذلك الطوباوي المنغلق على ذاته، المتقوقع داخل صومعته، بل كان شاعر الشعب وابن الشعب، في الأفراح والاتراح.
   ولم يكن دودة الحرير التي تنسج حول نفسها قبراً من الحرير، تدفن فيه، بل هو لوحة حساسة يرتسم عليها ما يحيط به من مؤثرات، فتمتزج بنفسه، ثم تظهر للناس رسوماً ذات روعة وتأثير.
   من هنا، كان "المشوار" جميلاً، وواجباً أدبياً، قام به رئيس رابطة احياء التراث العربي في أستراليا الاستاذ كامل المر، عربون وفاء وخدمة للأدب والأدباء.
   خطوة جريئة، وعمل مثمر، نرجو له التقدّم والازدهار، غير آخذين بتقولات المتقولين الذين لا هم لهم إلا الغربلة بغرابيل مهترئة، ومذكرين بمقولة شاعر الفلاسفة وفيلسوف الشعراء أبي العلاء المعري:
لو غربل الناس كيما يعدموا سقطاً
لما تحصّل شيءٌ في الغرابيل
**