الثورة في شعر شربل بعيني

مقدمة بقلم شربل بعيني
   من الناس الذين تعرّفت عليهم، وأحببتهم، وصاحبتهم، وآخيتهم في أستراليا، كان الصحفي جوزاف أمين بو ملحم.
   فمن هو هذا اللبناني الكبير؟
   يوم (عيد الحب) وفي سنة 1955، زغردت بلدة عيمار الشمالية واستعدت لاستقبال ابن أمين بو ملحم .
  وفي سنة 1980، تخرّج الشاب جوزاف من الجامعة اللبنانية ـ كلية الاعلام، ليهدي (عيماره) إجازة بالتحرير وبوكالات عالمية وأنباء. 
   عام 1981، وفي سني البغض ترك لبنانه الذي عشقه حد الجنون، ليبثه حنينه من أرض غربته، وليدافع عنه، دفاع الام عن وحيدها البريء .
   ومن أجل عينيّ وطنه لبنان الدامعتين، اشترى سنة 1985 جريدة (صدى لبنان)، وبدأ عملية ترميم الجماجم الاغترابية الضائعة وايقاظ الضمائر بها من أجل نصرة وطن الـ 10452 كلم2 .
   سنة 1987 أسس شركة راليا برس للطباعة والنشر، التي بسبب مساهمتها الفعّالة في نشر أدبنا الاغترابي، اختاره قراء "مجلة ليلى" لنيل جائزة الطباعة والنشر لعام 1996.
   شارك بندوات أدبية عديدة ، ومنحته رابطة احياء التراث العربي جائزة جبران العالمية سنة 1992 .
   متزوج من السيّدة تراز عبيد بو ملحم ولهما أربعة اولاد : رونزا، يارا، أمين وفينكس. 
   وعن فوزه بالجائزة يقول: 
  جائزة شربل بعيني ليست جائزة بالمعنى المتعارف عليه للفوز بجوائز، إن هي إلا، كمجلة ليلى، واحة محبّة، ودليل على ثقة الناس وتقديرهم للخدمة التي نوفرها لهم، في راليا برس، أو للمعاملة التي نعاملهم بها. 
   هذه المحبة التي غمرني بها قراء مجلة ليلى، تساوي عندي العطاء وكل الفرح، لذلك أنا أشكرهم عليها كثيراً، وأجدها حافزاً لمتابعة توفير الخدمات والمعاملة الجيدة لابناء جاليتي الكرام.
     ولم يكتفِ جوزاف بذلك، بل ذهّب صفحات جريدته بمقالات أدبية وسياسية رائعة، كان منها ما سوف تقرأونه في هذا الكتاب.
   ذات يوم همست أمي بأذن جوزاف بو ملحم عبارة أفرحته كثيراً: "أنت ابني السابع". ومن ذلك الحين لم نفترق.. ولن نفترق بإذن الله.      
   ولكن مشكلتي الوحيدة مع جوزاف كانت، وما زالت، أنه متى تأخّرت عليه بالزيارة، يراشقني (بالفاكسات والإيمايلات) الموجعة، التي يدبّجها بقلمه المبدع الساخر، ويرسلها إليّ إماً شعراً وإما نثراً، لتخضّ مضجعي.. وتجعلني أتقلّب في فراشي طوال الليل، وأنا أحلـم بطلّة غد مشرق، كي أقف أمام باب مطبعته، وابتسامتي تسبق سلامي عليه:
ـ كيف حالك يا أبا أمين؟
  فيردّ عليّ بابتسامة أوسع:
ـ الظاهر استلمت الفاكس..
   ولكي تعرفوا عن أي نوع من الفاكسات أتكلّم، أخبركم أنني عدت إلى بيتي ذات يوم، فإذا بوالدتي الحبيبة، رحمها الله، تستقبلني على الباب، وهي تقول:
ـ لقد وصلك فاكس من جوزاف بو ملحم، يشتم فيه أختك..
ـ وهل أنجبتِ لي أختاً كي يشتمها؟!
ـ ولكنه شتمها دون أن أنجبها..
ـ وأين الفاكس؟
ـ على طاولة المكتب..
   صعدت الدرج كالسوبرمان، وارتميت على كرسي المكتب، ورحت أقرأ شعراً على وزن أغنية فيروز الشهيرة (أنا وشادي):
من زمان ع  أيّام الصدى
كان في شاعر يجي من ماريلاندز
إضحك أنا ويّاه
كان إسمو شربل
أنا وشربل كسدرنا سوا
رحنا ع مكدونالد وع السوفلاكي سوا
وبسيارتو ياما وياما ع المطبعة رحنا سوا
ويوم من الأيّام ولعت الدني
ناس ضد ناس علقوا بموطني
اللي بعلمك أحبّه صاروا عدا
قرفنا من الجرايد سكّرنا (الصدى)..
بالمطبعه انزربنا
وما عاد شفنا حبايبنا
لكن جوّا قلوبنا حبّن باقي فعل وصدى
   وفي الختام يشتم أختي التي لـم تولد ولن تولد، ليسألني: وين هالغيبه؟
   وبعد أن انتهيت من القراءة، قلت لأمي:
ـ عجيب أمرك يا أماه، ألـم تحفظي من كل هذه القصيدة الطويلة إلا: (....) إختك، وين هالغيبه؟
   فأجابتني وهي تضحك:
ـ لأنها أجمل ما في القصيدة.. كونها آتية من صديق محبّ اسمه جوزاف بو ملحم. أنصحك بزيارته حالاً قبل أن يرسل لك شتيمة أخرى تنسيك الأولى.
   فما كان منّي إلاّ أن عملت بنصيحتها، ولسان حالي يردّد:
جوزافْ بُو ملْحِمْ بِيسِبّ  
مَعْ هَيْدَا وْكِلُّو بْيِنْحَبّ
مِتْلُو ما بْيُوجَدْ إِنْسَان     
لا بِالشَّرْق وْلا بِالْغَرْب
   ومن المقالات المسلية التي كتبتها عن رفيق غربتي هذا المقال:
 قد يُفاجأ صديقي جوزاف بو ملحم بقراءة هذا المقال في مجلّة "ليلى" ، لا لأن المقال يحكي نكتة صدرت عنه ومنه بعفويّة ومرح، بل لأنّه  نُشِر في زاوية "ستوب"، التي أعلنت وفاتها يوم أعلن جوزاف وفاة جريدته الرائدة "صدى لبنان" وهي في أوج ازدهارها، كي لا يكون شاهد زور في مرحلة كانت وستبقى الأردأ في تاريخ الوطن الحبيب لبنان.
   "ستوب" عادت للحياة بفضل تشجيع إبن أمين بو ملحم وباقي المشتركين الشرفاء، ولن أخبركم كيف اشترك صديقي جوزاف بالمجلّة كي لا أجرح تواضعه.
   أما النكتة فهي :
   قمت بزيارة لمطبعة راليــا برس، التي يديرها "أبو الزوز"، وكان عنده، كالعادة، أكثر من سبعة زبائن، وجوزاف مثل "أم العروس" يروح ويجيء، يرد على أسئلة ذاك، ويبتسم لتـلك، ويفلفـش بيديه آلاف الأوراق البيضاء والمحبّرة، ومع ذلك كلّه يلتفت نحو إحدى النساء الصديقات وينهرها إذا أطلقت سعلة في مطبعته، قائلاً لها:
ـ هون ممنوع القحّ ، بدّك تقحي ، قحّي قبل ما تجي لهون.. 
فكانت تضحك وتقح نكاية به، وتهمس في أذني:
ـ أللـه يساعدو .. 
ـ اسكتي .. هلّق بيسمعك
ـ مش مسموح هيك .. صاحبك عم يتعب كتير .. بكرا بدّي قول لمرتو تراز تشتريلو تاكسي أحسن..
ـ تاكسي!! ليش ما بتقولي جريدة؟
ـ شو .. بدّك يضارب عليك؟
   وفجأة سأله أحدهم أن يكتب له السّعر على ورقة صغيرة كي يتشاور بشأنه مع ابنته العروس.. فأخذ جوزاف بو ملحم يركض صوبي والجدية بادية على وجهه ويصيح:
ـ شربل.. شربل.. معك ورقة؟
ـ معي شو؟..
ـ ورقه.. ورقه..
ـ ولوه.. عندك كل هالورق بالمطبعه.. وبدّك ورقه منّي.. شو مفكّرني POST OFFICE
فضحك جوزاف وقال :
ـ أللـه سترني.. لو كانت "الستوب" بعدا ماشية.. مدري شو كنت عملت فيي.
   هذا قليل من كثير من روح المرح التي يتمتّع بها جوزاف، والتي كنا وما زلنا نعيشها معاً، ولكنه، رغم محبته لي، لم يسخّر قلمه لمراضاتي أدبياً، بل كان ينتقدني بشدة، ليسدد خطاي على درب جلجلة الكلمة، بعد أن يمهّد لعاصفته النقدية بكلمات ولا أجمل:
   عندما يقال شربل بعيني في أستراليا يعرف الجميع أن الشعر هو بيت القصيد.
   فشربل والشعر توأمان في هذه البلاد، حتى أصبح تجنياً ذكر أحدهما دون الآخر.
   خمسة عشر عاماً في المهجر، وعشرة دواوين شعر، وكتابان مدرسيّان، وسيرة حياة. 
   هذا هو شربل بعيني وكفى. 
   أو هكذا يعتصر البحر في كوب صغير!
    بربكم من سيلتفت للنقد بعد قراءته لهذا الاطراء النادر؟ 
   فجوزاف بو ملحم كان يمنحني دائماً صك الغفران، قبل أن يريني نار جهنم، وكنت أفرح بنار نقده كما فرحت بزهور إطرائه.
   وعندما طلبت منه رابطة احياء التراث العربي أن يعرّف بي بعد نيلي جائزة جبران العالمية عام 1987، كتب مقالاً مطوّلاً، أقرب الى الشعر منه الى النثر، باللغتين الفصحى والعامية، توّجه بهذه العبارة، التي لو لم يكتب غيرها، لكان "كفّى ووفّى" كما يقول مثلنا اللبناني:
   "أراني اليوم محرجاً في مهمتي المستحيلة، وكيف لي أن أسلّط الضوء على من كل "البروجكتورات" عليه؟!.."
   اسلوب جوزاف بو ملحم كالليرة الذهبية تعرفها من لمعانها، ولكنه أغلى منها قيمة، لأنه يحوله في كثير من الأحيان إلى ماسة نادرة، كقوله:
    ونأسف كثيراً أن نجد في ثورة "بعيني" رماداً ذرّ بوجه اللهيب، أو ثرى عفّر محيا الثريات اللامعات. 
   هل هذا نثر أم شعر؟ 
   هل هذا انتقاد أم مديح؟
   لست أدري.. 
   ولكنني أعلم تماماً أن انتقاداً كهذا، جعلني أتمسك به بفرح وافتخار، وأعمل على نشره ليصبح مدرسة نقدية لا يتخرّج منها إلا من كانوا بمستوى جوزاف بو ملحم.
   ولكي أثبت لكم صحة ما اقول.. تعالوا نقرأ عبارته الكهنوتية هذه:
   عندما يكتب شاعر نص مسرحيّة يمثّلها أطفال في مدرسة راهبات فهذا يعني أن القصائد تحوّلت فصولاً، والبراءة تغلغلت بالحركات، والقداسة روحنت كل المشاهد.
   ألف شكر يا اخي الحبيب جوزاف بو ملحم على مقالاتك الرائعة التي كرّمتني بها خلال رحلتي مع الكلمة، واسمح لي أن أردّها لك بكتاب، ولسان حالي يردد: أحبك يا أبا الزوز.
**
أضواء على الحائزين على جائزة جبران الأدبية: شربل بعيني
   يوم باشرت صدى لبنان نشر "أضواء على الحائزين على جائزة جبران" كان قصدنا تعريف القراء على أدب الذين استحقّوا الجائزة من الرابطة، ومعرفة لماذا استحقّوها.
   وطالما أن الأديبة أنجال عون والأديب نعمان حرب شبه مغمورين لدى الأكثرية، قررنا أن ندعو الزاوية "أضواء"، أملاً بتسليط الضوء على ما عتم. ومن تراه يقوم بذلك أفضل من أعضاء الرابطة، خصوصاً من تسلّم الجائزة نيابة عن الحائزين الغائبين وهما الأستاذ فؤاد نمور، الذي تسلّم الجائزة نيابة عن أنجال عون، والزميل أكرم المغوّش الذي تسلمها نيابة عن نعمان حرب.
   وإذا كان الزميل كامل المر قد وجد المهمّة شاقّة بعض الشيء، كون الدكتورة سمر العطّار معروفة جداً في أوساط الجالية، من خلال كتاباتها ونشاطاتها، أراني اليوم محرجاً في مهمتي المستحيلة، وكيف لي أن أسلّط الضوء على من كل "البروجكتورات" عليه؟!.. 
   ثم إن أنا فعلت هكذا ألا أكون أردد ما سبق لغيري أن قاله، فأقع في الرتابة، وأستحق لعنة القراء ولكن..
   لقد وجدت الخلاص في ديوان شربل بعيني "أللـه ونقطة زيت"، الذي سيصدر حديثاً باللغة العاميّة، فتمسّكت باللـه خوفاً من الزحلقة على الزيت، وأرجو المعذرة إن أنا كتبت بالعاميّة فهي في الواقع لغة الديوان:
   أول ما نشر شربل بعيني قصيدة "ألله ونقطة زيت" بصدى لبنان زقّفنا وقلنا: "برافو" هيدا لون جديد عا شعرك، ويمكن يكون الأحلى، والأحب عند الناس. 
   وبعد تلات أربع قصايد ضرب شربل فرام..
ـ شو القصا؟
ـ خايف سيدنا "المطران عبده خليفة" يزعل مني، سيدنا بيعز عليي، وهلّق مش وقتا، ويمكن حدا غيرو من رجال الدين ياخد عا خاطرو كمان؟
   حاولنا نقنعو كتير قليل، بس شربل ضلّ عا عنادو، وما بدو وجعة راس.
   وبعد شي سني تقريبَنْ، طلّ.. الضحكي بتمو رطل..
ـ خلص الكتاب؟
ـ عالتقريب.. وسيّدنا رح يعملّو مقدّمي كمان. بقا شو رأيك؟
ـ يا شربل عم تسألني إذا الطرحا حلوي عالعروس؟ وأنا مش شايف غير الطرحا، كيف بدك ياني اعطي رأيي هيك والكتاب غايب؟
ـ عندي نسخا تصوير بالعربايي.. رح جبلك ياها، عا شرط ما بيشوفا حدا غيرك.
   وهيك صار.. وبلّشنا بكتاب "ألله ونقطة زيت".
آخد ألله حصّتو
   شربل بعيني بهالكتاب زكي كبير، آخد ألله حصّتو من أول سطر، وبلّش الخلع بالناس:
كتار بهالدنيي مجانين
بيدقّوا جراسُن عن كذب
   وأكتر من هيك، تحامى شربل بألله الخالق تا يطحبش ألله المخلوق. تحامى بألله اللي صانع ومفبرك الدنيي كلاّ، تا يكسّر ألله اللي صار عند الناس:
شخص مفبرك من جفصين
   وبطريقو شربل ما بينسى يمرق عالنسوان اللي بيطبقوا صدورن قدام عجيبي زغيري، وبينسوا إنو هالكون كلو شغل ألله. وبتحسّوا متل شي مسيح تاني فايت عالهيكل يقلب الكراسي، بعضا عا بعض، لما بيغضب عا رجال الدين:
تجارة.. تجارة صفّى الدين
بإيدين رجال ملاعين
شيوخ وكهنه وحاخامات
ع شفافن مطبوعه الـ "هات"
وبجيوبن خبّوا ملايين
...
برمت الدنيي بطول وعرض
تا أعرف ليش الكفّار
انقرضوا من شوارعنا قرض
وصفّوا بمعابدنا كتار
   ومن هالغضبي عا رجال الدين، بينتقل شربل للدين زاتو بها العالم اللي ما عاد يشرّف:
أديانو بتحارب بعضا
وبعدو بالجنه عم يحلم
صلا جديدي
   والظاهر إنو "الأبانا والسلام" الكانوا يعلمونا ياهن بالمدرسي و"حيّا على الفلاح"، صاروا صلوات عتيقا، وبطلت موضتن بهالعصر، خصوصَنْ عند شربل اللي استحسن ببالو يفبرك لحالو صلا جديدي، تعبرلو عن الأشياء اللي بدو ياها من ربّو. وصلا شربل فيها ردع بالقوّي، بعد ما فشل اسلوب الانرداع أو الارتداع الذاتي، ولهيك بيقول:
رسمني سيف بوجّ الظلم
وحمامه تبشّر بالسلم
فجّرني حبّ وإحساس
...
تا شتّي لهالناس غلال
وإجرف من قدّامُن بغض
...
زرعني نخله بأبعد صحرا
تا فيّي بساعات الحرّ
تا بورد قلب الـ بيمر 
وضايع بين الأمس وبكرا
يا ربي.. ساعدني جرّ
بكتافي الصلبان الحمرا
تا المستعبد ردّو حرّ
وبعّد عنّو مرّ الكاس
والمتعصّب خلّي يقرّ
إنّك واحد ما بتتجزّأ
بين طْوايف شغل الناس
شربل يسأل وعاقل يجاوب
 وهيك متل شي طفل برّي ساذج وبسيط، بيبلّش ضمير شربل يعزّبو.. بيركض لعند ألله، بيوقاف قبالو وبيصير يسألو بحربقا إزا رح يحسبلو "هفواتو" خطايا؟.. وإزا كمان رح يحسبن خطايا "هفوات" المرا اللي طلعت برّات الطريق، لأنّو رجّالا قمرجي، وولادا جوعانين، وما لقيت طريقا غير هيك تقدر تجبلن أكل تا ياكلوا.. وإزا.. وإزا..
   وشربل لما بيتساءل ما بيكون عم يشكّك بعدالة ألله، أو عم بيحزّر رجال الدين حزازير، أو يعمل عصابات.. وعالعكس من هيك، بيكون عم يسأل ويستفهم تا يفهم، أو تا يروّق قلق شاغلّو بالو وفكرو، أو تا يلفت انتباه، أو يمكن يلاقي أسباب تخفّف الجرم أو تلغيه بالمرّا انسجامَنْ مع قناعتو التامّي بعدالة ألله الكليي.
   شربل هون واقف وقفي واحدي عا حدود الكفر المطلق، أو الايمان المطلق، واللي بفكرن يحرتقو عا شربل رح يتهموه بالكفر، بس يللي بيعرفو جوهر وصدق نواياه أكيد رح يلاقوه لامس قمة الإيمان، وبلّش يسأل من جوّا من داخل البيت.
   وهيدا شي بيميّزو عن اللي بيزعزطو من بعيد، وبعتقد هالنقطا هيدي لازملا توضيح مفصّل من قبل أهل اللاهوت، ويمكن تكون سبب من الأسباب اللي خلّت رجل دين متل "سيدنا المطران خليفه" يلاقي إنو من الحكمي يقدّم هالكتاب.
سورا عالغلط
   بكتاب "ألله ونقطة زيت"، شربل بعيني سَوْرا عالغلط والغش والابتزاز، ما بيهم من وين بيجو. وهو بالوقت زاتو حملة توعيي تالناس تتمسك بالخير والمنيح وتبعد عن الباطل. واسلوبو الزكي صادق ومش دبلوماسي، بتشوفو عم يستشهد بكلمات من الانجيل تا يضرب الخوارني، وبكلمات من القرآن تا يضرب فيها المشايخ، وبمقاطع من التوراة تا يضرب فيها اليهود. 
   وهيك عا طريقة المبشرين اللي يمكن يجو يوم، بتشوف شربل وكأنو عم ينفض الغبار العالق بتصرفات بعض البشر، وعم يهز صوت الحقّ بوجّ بعض رجال الدين، اللي بيفسّرو الكتب عا مزاجُن، وعم بيقلّن: لأ، إنتو مغلّطين، وبعد ما يفلت عالخوارني اللي:
بيعلّقوا الصلبان عا صدورن
وبيكبّروا القياس
تا يستروا بصلبانُن شرورن
عن عيون الناس
   بتلاقيه بيستنجد بآية من "سورة النساء" تقول:
"إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفراً لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا".
  وبينطلق شربل من هالآيي تا يحط لبعض رجال الدين المسلمين، متل ما بهالقصيدي:
محمد اللي كان صرخة حب
ونبوّتو إحساس
فسّروا كلامو "جهاد وحرب"
وجناس ضد جناس
شيوخ عندن للحقد والكذب
والتفرقة نبراس
حوّلوا القرآن "دستور حزب"
والوراق كياس
   وبعد ما بيستشهد بعدة عبارات لداود النبي، وميخا النبي، ومقاطع من التوراة، بتلاقيه بيفور دمو عا خرافة "الشعب المختار" الموعود بأرض فيها المن والجود:
وبعدو "الشعب" موعود
بأرض فيها المَنّ
فيها الكرَم والجود
وإيديْن تخلق فنّ
تعمّر سهل وجرود
تا ترجّع اليهود
   وهيك عند شربل بعيني، كل واحد بياخد حصّتو، المنيح جزاه مديح، والغلط سوْرا عارمي بقصد يتصحّح. وشربل بسَوْرتو الكبيري بيضل محافظ عا محبتو الكبيري، وبيبيّن متل شي خادم عم ينفض غبرة الأديان عن وجّ أللـه الحقيقي، تا يظهر الوجّ بلمعانو الأصفى، ويتعزّز الانسان اللي هو صورة ألله عا هالأرض.
   "ألله ونقطة زيت"، أرجحت بين خواطر المراهقين، وحكمة الشيوخ المتصوفين، باسلوب شعري سلس ومبسّط، مرات بتغلب فيه الصورا الشعريي، ومرات كتيري بتغلب الفكرة اللي عم تسأل: ليش هيك؟
   ودايمّنْ بتحسّها سايدي هاك الإسمها رياح التغيير الشامل.. التغيير الداخلي اللي بيجي بكل المحبّي وكل الغضب.
   وإزا كانت إشاعا بسيطا عن عجيبي زغيري جابت كتاب "ألله ونقطة زيت"، وينك يا زمن العجايب الكبار و"ألله وقلة زيت"؟.
شربل بعيني
   من مواليد مجدليا، قضاء زغرتا، نظم الشعر يافعاً، ونشره شاباً، وواظب على الكتابة والتأليف والنظم بالغاً.
   ديوانه الأول "مراهقة" صدر عام 1968 في لبنان، بعدها هاجر الى أستراليا وفي نفسه عطش الى الكتابة، وجوع الى الكلمة.
   أنشأ جريدة صوت الأرز، وأصدر منها بضعة أعداد، ثم تركها الى تجارة الأغاني، وبيع الشرائط، التي ما لبس أن ملّ منها، فانصرف الى التدريس في مدرسة الراهبات المارونيات.
   كثير العطاء، فما نشره بمفرده، فصيحاً وعامياً، يوازي كمّاً جميع ما نشر في أستراليا بلغة الضاد.
   سنة 1985، منحه قنصل لبنان العام في سيدني آنذاك الاستاذ جان ألفا جائزة الأرز الادبية. 
  عام 1986 نال جائزة تقدير الكلمة من الاديب الاستاذ سامي مظلوم في ملبورن. 
   عام 1987، شارك في مهرجان المربد الثامن في العراق، فقالوا عنه: مبارك هذا الـ شربل الذي هزّ ألفي شاعر بقصيدة "أرض العراق أتيتك".
   كرمه سعادة سفير لبنان الاستاذ لطيف أبو الحسن، ومنحته رابطة إحياء التراث العربي جائزة جبران خليل جبران لعام 1987 عن ديوانه القيّم "كيف أينعت السنابل؟".
   إلى جانب الشعر، يكتب المسرحيات ويخرجها لطلابه في مدرسة سيدة لبنان، ويهتم بتأليف الكتب المدرسية لهم.
   عن شعره يعد الأديب نعمان حرب "سوريا" كتاباً، كما أن الناقد السوري الشهير محمد زهير الباشا، يعد دراسة نقدية عن هذا الشعر.
   أما في أستراليا، فشربل بعيني حديث الجالية "حاضر ناضر"، يشارك في الحفلات والأمسيات والندوات، ويكتب في الزميلة "النهار" قذائف ورد"، وفي صدى لبنان زاوية "ستوب"، كما تنقل له الزميلة صوت المغترب أشعاراً "من خزانة شربل بعيني"، وينشر له نسيبه الاستاذ كلارك بعيني سلسلة "شربل بعيني بأقلانهم"، التي صدر منها جزءان حتى الآن، وهناك ثلاثة أجزاء أخرى قيد الطبع. كما أن الأديب المهجري كامل المر انتهى من إعداد دراسة عنه.
أما مؤلفاته فهي:
ـ مراهقة، ثلاث طبعات، 68، 83، 1987، لبنان ـ سيدني.
ـ قصائد مبعثرة، الطبعة الأولى 1970، لبنان.
ـ مجانين، طبعتان، 76، 1986، سيدني.
ـ إلهي جديد عليكم، الطبعة الأولى 1982، سيدني.
ـ مشّي معي، الطبعة الأولى 1982، سيدني.
ـ رباعيّات، طبعتان 83، 1986، سيدني.
ـ قصائد ريفية، الطبعة الأولى 1983، سيدني.
ـ من كل ذقن شعرة، طبعتان 84، 1986، سيدني.
ـ من خزانة شربل بعيني، الطبعة الأولى 1985، سيدني.
ـ الغربة الطويلة، الطبعة الأولى 1985، سيدني.
ـ كيف أينعت السنابل؟، طبعتان 87، 1988، سيدني.
 ـ القراءة السهلة، مدرسي، طبعتان 81، 1985، سيدني.
ـ سامي وهدى، مدرسي، طبعتان 85، 1987، سيدني.
ـ قاموسي الصغير، مدرسي، الطبعة الأولى 1987، سيدني.
ـ القراءة الشاملة، جزءان، الطبعة ألأولى 1988، سيدني.
ـ ألله ونقطة زيت، الطبعة الأولى 1988، سيدني.
ملاحظة: يستبدل البعض حرفيْ "ذ" بـ "ز" و "ث" بـ "س" لأنهما لا يلفظان باللهجة اللبنانية، لذلك وجب الانتباه.
صدى لبنان، العدد 582، 9/2/1988
**
الباشا غريق يبحث عن ملاّح
   أن يكتب ناقد دراسة عن شاعر أو أديب ما، فإنما يفعل في عرفي، بدافع من ثلاثة:
   أولاً: أن يكون هذا الأدب قد راق له، واستحبه كثيراً، فدفعه هذا الاستحباب الى الكتابة فيه.
   ثانياً: أن يكون هذا الناقد قد مجّ هذا اللون من الأدب، فدفعه امتعاضه وتذمّره الى الكتابة عليه.
   ثالثاً: أن يكون هذا الأدب ينعم بحريّة ليست متوفرة للناقد، فيعمد الناقد عندها الى الكتابة تحته، أي دفع هذا الأدب الى الواجهة والاختباء خلفه..
   لا أدري لماذا أطلقت حكمي باكراً على دراسة الاستاذ محمد زهير الباشا، فقلت للشاعر شربل بعيني: يبدو لي أن الباشا يكتب عن ذاته ومأساته وإن كان يستشهد بأشعارك.
   يومها كانت الدراسة مسودّة، وما كادت تصدر كتاباً، حتى صار الباشا في أميركا "بلاد الانعزالية والامبريالية والرأسمالية".
   اليوم، اسمحوا لي أن أوجّه كلمتَيْ شكر: أولاهما إلى أستراليا بلد الانفتاح الفكري والحريّة "البلا حدود"، وثانيتهما إلى أدبنا المهجري فيها، الذي عرف كيف يغرف من معين هذه الحريّة، فينتج، ويبدع دونما قيود، وها هو الآن منارة تشع في عتمة الشرق.
   أيها السيدات والسادة
   مطلوب مني أن أقف أمامكم الليلة، أن أقول شيئاً ما، ولكن ممنوع عليّ أن أحكي.
   ترى، كيف يمكنني أن أساوي بين أدب متسكّع، مستزلم، مقرحط، وآخر حر، شريف، أنوف كله كبر.
  وكيف يمكنني أن أساوي بين أدب العرطشة القليل الأدب، وبين أدب الالتزام بقضية الانسان ككل، والدفاع عنه في كل زمان ومكان.
   لا، لا مساواة بين الأدب المخابراتي الجبان والأدب الشهم الشجاع الذي يؤمن " انه حتى ولو ان الكلمات ستتجدل حبل مشنقة، فالكفر، كل الكفر أن يلجم اللسان".
   ختاماً، ثلاثة خالدون في عرس الليلة: الأدب المهجري، شربل بعيني، ومحمد زهير الباشا. فهنيئاً من القلب لهم، وكل الشكر لإصغائكم.
يوم محمد زهير الباشا 1989
**
الثورة في شعر شربل بعيني من خلال: مجانين
   عندما يقال شربل بعيني في أستراليا يعرف الجميع أن الشعر هو بيت القصيد.
   فشربل والشعر توأمان في هذه البلاد، حتى أصبح تجنياً ذكر أحدهما دون الآخر.
   خمسة عشر عاماً في المهجر، وعشرة دواوين شعر، وكتابان مدرسيّان، وسيرة حياة. 
   هذا هو شربل بعيني وكفى. 
   أو هكذا يعتصر البحر في كوب صغير!
   لا.. فنحن لا ندّعي اجتراح المعجزات، ولا نهوى "كار" التجنّي، ولكننا على ضوء فهمنا لشعر البعيني، سوف نلقي الضوء على نقطة واحدة، وهي "الثورة"، من خلال الطبعة الثانية لديوانه "مجانين"، ونترك لغيرنا الاهتمام بالنواحي الأخرى.
الثورة عند البعيني:
   من الواضح تماماً أن شربل بعيني لا يكتب الشعر للشعر، إنما هو فارس يمتطي صهوة القصيدة ليبلغ مأرباً ما. 
   الشعر عنده غائي وهادف. وهو وسيلته الفضلى للتخاطب والآخرين، لقول رأيه في الأمور، لنبذ ما يمج، وتعضيد ما يستحبّ. لذا نجده ناقماً على المتاجرين بالدين والطائفيّة من رجال دين وسياسة، داعياً الناس إلى التعقّل والتبصّر وعدم الانقياد خلفهم:
وحقّ السما والأرض مغشوشين
ومتل شي قطعان منقادين
لرجال سمّوهن رجال الدين
لأهل السياسه الكذّابين النصّابين
   وثورة البعيني غائيّة لا غوغائيّة، فهي ما هدمت إلاّ لتبني.. لهذا نجده يرسم للمتديّن صورة صوفية بعيدة عن التزمت الأحمق، والتعصب البغيض، فالدين عنده ملك لله، ومن يغزل مشلحه من خيوط الحب يصل الى الله، ما هم نوع صلاته.
   وتنبلج من ثورة "بعيني" تباشير عقيدة أموية "نسبة إلى أمة"، وأمويّته نقيض التناقض والتنافر والتشرذم، ويبدو هذا واضحاً كم في:
صاروا إذا فرحت قبيله ينوّروا
تلال القبيله التانيه
وصاروا إذا حزنت قبيله يدوّروا
الحزن بقبيله تانيه
أو:
وبدل العشيره
يقدّس الأمه
ويوحّد الكلمه
وما يعود يقدر جيش يحتلّو
  فتضامن الأمة ضروري لوحدة الوطن ومنعته.
   ويترجم "بعيني" أمويّته بقصيدة إلى خالد كحّول، الجندي اللبناني، الذي دافع عن رفاقه الجنود المسيحيين على أحد الحواجز قائلاً: نحن جنود لبنان، وليس بيننا مسلم أو مسيحي، فإذا أردتم قتلهم فاقتلونا جميعاً.
   وكلامه هذا أحرج المسلحين فتركوا الجنود.
   ولبنان هو ملك اللبنانيين وليس ملك دياناتهم.. وتجّار الطائفيّة لا يؤمنون لا بالانجيل ولا بالقرآن ولا بالتوراة، إنما وجدوا الدين أقرب الطرق إلى الثروة والزعامة، فاستغلوه وحاولوا تطييف الشعب، وصلبوا الوطن:
فوق حناكن الرخوه
وصفى التعايش كومة نفايات
   أما ذروة النقمة فتتجلّى في:
تا نحسبك شي يوم زقّفت لزعيم
لازم بسرعة تقصّ صابيعك
   مثل هذا الكلام كم نحتاجه في عصرنا حيث أعمى أعيننا حب الزعيم، وشلّت بصيرتنا عبادة الشخصيّة، كما أننا كبّلنا أبعادنا الوطنية بسلاسل طائفية أو مناطقيّة أو زويعميّة "من زعيم صغير"، فباتت مصالح الزعماء مطالبنا القومية والوطنية.
التخبيص:
   التخبيص هو تلك المطبّات الصغيرة التي يقع فيها دعاة الثورة فيخفت وهج ثورتهم. 
   هو هذه المنزلقات التي ينزلقون فيها فيعيقون المسيرة.
   وهو تلك الخطايا العرضية التي يقترفونها فتكاد تقضي على ثورتهم.
   والتخبيص عند شربل بعيني غبار عالق بجسده من ثوبه القديم، الذي ما انفكّ يحاول نفضه عنه كليّاً. وهذا التخبيص هو على أصعدة أذكر منها واحد فقط، والذي هو موضوع هذه الدراسة.
التخبيص على صعيد الفكرة الثوريّة:
   عندما تجد الشركات الصناعية المشهورة أن احدى آلاتها لا تقوم بأداء جيّد تقول عنها: إنها آلة صنعت بعد ظهر الجمعة. وفي هذا إشارة إلى أن العمال كانوا يفكرون بعطلة "الويك ـ آند" أكثر من الاعتناء والاهتمام بانتاج آلة ممتازة.
   ونأسف كثيراً أن نجد في ثورة "بعيني" رماداً ذرّ بوجه اللهيب، أو ثرى عفّر محيا الثريات اللامعات.
   ونأسف، ونكاد نقول لا نصدّق أن من حمل على تجّار الطوائف "والسياسيين الكذابين النصّابين"، الذين إذا صفّقت لهم يوماً:
لازم بسرعه تقصّ صابيعك
   ثم نراه يلتمس لهؤلاء السماسرة مغفرة، عندما يقول:
معقول عندن عذرهن معقول
عطيهن يا رب المغفرة
   لا يا شربل.. التقط عقلك يا صاح، ولملم شذرات منطقك، ولا بأس إن تخلّيت قليلاً عن وجهك السموح الغفور الرؤوف الرحوم، واعلم أن "التماس" الغفران لمجرم هو الاجرام بعينه، فكيف المغفرة بذاتها؟
   وجريمتك الثانية انك وأنت الأموي الثائر تستعمل كلمة تعايش:
وصفّى التعايش كومة نفايات
التي وردت في "مجانين" بطبعتيه الأولى والثانية. وأسفي هو أنك بعد عشر سنوات من الحرب لم تنتبه إلى إبدال هذه الكلمة. واعلم، يا صاح، إن النفايات ليست قذرة قذارة عبارات التعايش والوفاق، وترتيب البيت الداخلي، والميزات والامتيازات والغبن والحرمان.. إلخ.
   وإياك، إياك أن تقول أن لبنان أمة تتعايش، فالتعايش جمع قسري لأفراد متخاصمين متنافرين، وكلمة تعايش دسّت في صحافتنا وقاموسنا اليومي من قبل أعداء لبنان، أعداء كل لبنان. فالأمة التي تتعايش هي أمم مبعثرة، تحفر لحدها بيدها، واللبنانيون، يا شربل، أمة تتسابق إلى خلق لبنان عظيم. وأنت واحد من هذه الأمة، فلا يجزعنك السواد، ما هو الا غشاوة تنقشع حالما نتعاون معاً على دحر أعداء لبنان. ويا شربل لا أرضاك تصوّر الوطن مقتولاً:
يا وطني يا زينة الأسامي
من يوم ما قتلوك..
   فالثائر، لا يعرف اليأس، ولا يترك جذوة الأمل تخبو. ولبناننا بحاجة إلى كلمتك سيفاً يقطع أوصال أعدائه، ومنارة تنير ظلمات التائهين من بنيه، وناراً تحرق أصابع المتاجرين فيه.
   والآمال كبار عليك.
صدى لبنان ـ العدد 495 ـ 3/5/1986
**
ألو أستراليا.. هون شربل بعيني
   مسرح يصور مسيرة الهجرة اللبنانية الى استراليا واطفال صغار يروون معاناة الكبار مالئين القلب أملاً.
   مسرحية "ألو أستراليا" التي أعدها وأخرجها وصمم ديكورها الشاعر شربل بعيني، ومثّلها عدد كبير من تلامذته في مدرسة راهبات العائلة المقدسة المارونيات ـ سيدة لبنان، مساء الجمعة الماضي، التزمت موضوع احتفالات المئتي سنة الأسترالية، فروت حكاية الهجرة الأولى، وجسّدت معاناة اللبناني في وطنه، إلى جانب معاناته في مغتربه، وطموحه الى بناء الذات، وحنينه الى وطن اغترب عنه هذه المرة، بعدما كان قد شعر بالغربة وهو فيه.
   وقد نجح شربل بعيني في اختيار موضوع مسرحيّته الذي جاء منسجماً والاحتفالات الاسترالية بمناسبة مرور 200 عام على الاستيطان الابيض في هذه البلاد، فكأني به أراد بها تسجيل إسهام بني قومه في بناء صرح أستراليا الحديثة.
   "بو يوسف" المهاجر اللبناني الأول، الذي ترك لبنان إلى أميركا، وألقته السفينة في أستراليا خطأ، لم يلبث أن تعلّم "كيف يخلّص حالو" باللغة الانكليزية، وباع عدداً من السبحات التي جلبها من الأماكن المقدسة، وبدأ بإرسال الأموال إلى زوجته في لبنان، فكانت هذه الأموال حافزاً إيجابياً، دفع شباب القرية الى الهجرة، بعد الدافع السلبي المتمثّل بالإقطاع المحلي، وضيق رقعة العيش.
    وتمضي سنون، ويغدو "بو يوسف بي المغتربين"، يجلبهم من لبنان، يسكنهم في بيته، يترجم لهم لدى الأستراليين، ويسعى لإيجاد العمل لهم. فيكثرون هنا، يتزوجون، أو يستقدمون زوجاتهم. يتكاثرون، يتركون كشّات بيع الألبسة، والأدوات المنزلية، والحراتيق، ويؤسسون المحلات التجارية، ويفتحون المكاتب المتخصصة في الطب والمحاماة والصحف والسفريات، إلى جانب محلات "الميلك بار" و"الميكس بزنس" والخضار والفواكه والتاكسي.
   ولا غرو، فهؤلاء الذين جاؤوا كي يجمعوا قرشين ويعودوا، تعذرت عليهم العودة بسبب الاقطاع واحوال البلاد والحروب المتلاحقة، التي كان آخرها واشدّها إيلاماً، حرب الـ 13 سنة الحالية، فإذا بالذين جاؤوا على أمل العودة الى الوطن يجلبون إليه وطناً صعبت عليهم العودة إليه.
   بلسان الأطفال الصغار روى شربل بعيني قصص الكبار، وهو ما لجأ إلى ذلك تهرباً من مسؤولية، أو انتهاجاً لدبلوماسية على طريقة "كليلة ودمنة"، فمعظم العبارات التي شرقطت في المسرحيّة، إن لم نقل جميعها، تجد قصيدة له هنا، أو بيت شعر هناك، و"تيس الزعامة" الذي كنا نقرأ عنه في القصيدة، جسّده الممثلون الصغار على المسرح، ورفعوا أصوات التحدي حادة عالية في وجهه، وهددوه ان هو استمرّ في تيسنته وتسلطه، فسيأتي يوم لا يجد شعباً يبسط سلطانه عليه.
   في "ألو أستراليا" المسرحية كل الحب لأستراليا الوطن، الذي احتضن المهاجرين اللبنانيين، ولأستراليا الشعب الذي أحب المهاجرين، وشغف بطيبة قلبهم، وصلابة عزيمتهم، وقوة طموحهم، فساعدهم وأفسح لهم يشقون الطريق بعزم وثبات.
   وفي "ألو أستراليا" تغنٍ باللبنانيين الذين بنوا وعمروا وأسسوا وأسهموا في بناء صرح هذه البلاد. فكاميرا شربل بعيني ما التقطت إلا الإيجابي من الطرفين، وهو الغالب والأكثر، أما السلبي عند الطرفين فقد غضت الطرف وتجاهلته، وكم نرجو أن تنتفي هذه السلبيات وتتضاءل ليبقى وجه الجالية المشرف مشرقاً على الدوام.
ملاحظات:
   لكننا، ونحن نثني على شربل بعيني لاختيار هذا الموضوع هذا العام بالذات، ونهنيء أنفسنا براهبات العائلة المقدّسة ومدرستهم المعطاءة، لا يسعنا إلا وأن نسجل بعض الملاحظات آخذين بعين الاعتبار "موسم الانفلونزا" الذي ضرب التلاميذ الممثلين، مما أثّر على ادائهم المسرحي هذا العام، فجاءت "ألو أستراليا" أضعف مسرحياً من سابقتها "فصول من الحرب اللبنانية"، التي سبق لشربل وتلامذته ان قدموها العام الدراسي الفائت.
   1ـ ألفت الانتباه الى أن فستان أم يوسف الجميل وسكربينتها البيضاء، لم يتغيّرا طيلة المسرحيّة، وهذا خطأ، ذلك أن سفر بو يوسف الى أستراليا، وإرساله الأموال الى زوجته في لبنان، لا بد وان يحدث تبدلاً في طريقة عيشها ولباسها، لذلك كان من المفروض أن تظهر أم يوسف بفستان متواضع قروي في اول المسرحية، ثم بفستانها الأبيض بعد تدفّق الدولارات.
   2ـ أدخل شربل بعيني الى المسرحية قفشات خناقة بين أم يوسف وجارتها، وهذه القفشات، الى جانب كونها بعيدة عن صلب الموضوع، أساءت الى الذوق كثيراً، خصوصاً عندما تتردد فيها عبارات العنف الجارحة مثل "شرب الدم"، و"تكسير العظام"، إلى ما هنالك من العنتريات التي وإن كان بعضها واقعياً، فمعظمها مبالغ فيه، ولا نحب أن ننقلها الى مسامع أطفالنا في هذا البلد.
   3ـ كنا نتوقّع أن يشير شربل بعيني الى التقدم التجاري الذي بلغه "باعة الكشّة" السابقين، فنفخر بهم، ونذكر أطفالنا على الأقل، أن هؤلاء من وطنهم، تعبوا وجدوا في هذه البلاد فنجحوا.. والأمثلة كثيرة، ولا شك ان شربل يعرف ذلك.
   فآل سكاف، وآل الغزال، ومنصور، المشهورون في حقل الملبوسات، وآل المعلوف في امتلاك الأراضي والطب والمحاماة، والأديب ديفيد معلوف الذي نال جائزة باسكال الأدبية منذ شهرين، الى جانب آخرين لا حصر لهم في جميع الشؤون الحياتية.
   ونحن إذ نسوق هذه الملاحظات، إنما نفعل بعدما لمسنا لدى الشاعر شربل بعيني بعضاً من الاحتراف المسرحي ذي المستوى، برهن عنه في إعداد وإخراج مسرحية لأكثر من ثلاث مئة مميثل ومميثلة، واستطاع للمرة الثانية أن يقدّم المسرحيّة دون أن يدع الرتابة تهاجم عقولنا، أو أن يترك النعاس يداهم جفوننا، فالتنويع بكل فنونه كان طوع بنان شربل، إذ نقلنا من مكان الى آخر بين لبنان وأستراليا، وأدخل الى مسرحيته أصوات "البابور" الباخرة، ليوقظنا، كما جعل الموسيقى ترافق المشاهد، واعتمد التلوين الاستعراضي مراوحاً بين التمثيل والدبكة والغناء، فنجح في جعلنا عيوناً شاخصة الى مسرحه، مشدودة الى أبطاله الصغار.
   وإذا كان شربل بعيني يقيس نجاح المسرحية بمدى إقبال الأهالي على شراء بطاقات سحب اليانصيب، وقد تهافتوا الى ذلك، فللنجاح مقاييس أخرى أهمها أن لا نسمع شخير من يجلس بجانبك، أو أن تضطر الى نكع مرافقيك، أو تشاهد أحداً يتثاءب فتفعل المثل.
   ولشربل بعيني تجربة غنية في هذا المجال، عندما غفا على كتفيه رفيقان له وشخرا في حفلة سيد مكاوي "الأرض بتتكلّم عربي"، وهذا في نظري حضيض الافلاس.
القنصل عون وضعف نسبة العلم في الجالية
    مسرحية "ألو أستراليا"، حضرها عدد كبير من أهالي تلامذة مدرسة سيدة لبنان، فامتلأت قاعة الكنيسة بهم، وجمهور غفير من المدعوين، في مقدمتهم قنصل لبنان العام في سيدني د. جيلبير عون، والدكتورة سمر العطار برفقة زوجها جيرارد، وكهنة ورهبان وراهبات، والاستاذان فؤاد نمور وكامل المر.
   وبعد انتهاء المسرحية ألقى القنصل العام عون كلمة شكر فيها رئيسة المدرسة الأخت كونستانس باشا على دعوتها له الى هذه المسرحية "التي كان لي شرف حضورها معكم"، وأثنى على نشاط الراهبات والاستاذ بعيني وتلامذتهم، وشدد على ضرورة تشجيع الأهالي لأبنائهم، كي يتابعوا تحصيلهم العلمي، وتخصصهم الجامعي، داقاً ناقوس الخطر، معلناً أن الجالية اللبنانية تحتل الرقم الأول في سحب أبنائها من المدارس بعد المرحلة الثانوية، وهي بذلك صاحبة النسبة الأقل في المعاهد الجامعية.    ورأى د. عون أن أفضل شيء يمكن أن نعطيه لأولادنا هو مساندتهم وحثّهم على متابعة تخصصهم الجامعي.
   الأخت مارلين شديد شكرت شربل بعيني بأبيات شعرية على هذه المسرحية التي "عصرها قلب وفكر شربل بعيني، فجاءت الحفلة تحفة وأدب"، بينما كانت المطربة الصغيرة ريما الياس تقدم له هدية "ما عرفنا شو فيها"، وكانت ريما قد لعبت في المسرحية دور حفيدة "بو يوسف"، وقد شاركت في عدة أغنيات أهمها أغنية "يا جدي"، التي ألفها شربل ولحنتها الفنانة وفاء صدقي.
   ولم ينسَ تلامذة سيدة لبنان رئيسة مدرستهم الأخت كونستانس باشا، فأهدوها سلة زهر، حوشوها من حدائق صدورهم المملؤة امتناناً وتقديراً لعطاء الرئيسة في سبيلهم. أما الأخت مادلين بو رجيلي فقد نظمت دخول الممثلين خلف الستار كل في دوره المعيّن، فجاء العمل متناسقاً.
صدى لبنان ـ العدد 603 ـ 5/7/1988
**
عندما يتنسك شربل بعيني
   في العطلة الميلادية من كل عام، يتنسّك شربل بعيني قسراً، فالعائلة المترامية على كل أنحاء أستراليا، تلتئم في فندق بيته الذي يتّسع لكل محب، وتتخذ لنفسها إجازة طويلة. "والذي يذهب إلى عند أهله يرجع على مهله"، واذا كانت شروط الضيافة عند العرب ثلاثة أيام، فهي عند آل البعيني ثلاثة أسابيع بأيامها ولياليها. والجميل انها جلسات فرح ومرح ومزاح وتندّر تطيل العمر، وتمر سريعاً دون أن يشعر الضيوف بها. لكنهم لا يدرون أنهم يحرموننا من شربل بعيني إلا تلفونياً.
   من زوّار شربل هذا العام شقيقه ميشال الذي جاء ليأخذ رضى الوالدة، ونسيبه كلارك الذي جاء يأخذ بركة حميه، ورفيق طفولته حنا صاحب شركة "مخدات بعيني" المشهورة في ملبورن، وما ذلك إلا لأن حنا بعيني صاحبها تاجر ماهر، وقد روى له شربل سابقاً حادثة في زاوية "ستوب" عندما باع اللحاف ذا اللون الذهبي بسعر إضافي، علماً أن كلفته هي مثل كلفة اللحف ذات الألوان الأخرى.
صدى لبنان
**
مسرحية "فصول من الحرب اللبنانية" اختصار 12 عاماً من عمر الوطن في ساعتين وحكاية عطاء ونقاء ومحبة وإبداع
    عندما يكتب شاعر نص مسرحيّة يمثّلها أطفال في مدرسة راهبات فهذا يعني أن القصائد تحوّلت فصولاً، والبراءة تغلغلت بالحركات، والقداسة روحنت كل المشاهد.
   فشاعرية شربل بعيني، وبراءة أطفاله، والمحبّة المسيحية الحقّة، كلها تفاعلت معاً، فجاءت مسرحية شربل بعيني "فصول من الحرب اللبنانية" التي أعدها وأخرجها شاعرنا، وقام بتمثيلها 340 طالباً وطالبة من مدرسة سيدة لبنان في هاريس بارك، على مسرح قاعة الكنيسة، بحضور قنصل لبنان العام في سيدني الاستاذ جيلبير عون، والمونسنيور ميشال بو ملحم، والأخوات الراهبات، تتقدمهن الأخت الزائرة المشيرة فيرونا زيادة، والأخت الرئيسة كونستانس باشا. وغصت قاعة السيدة بحضور ناهز الـ 1400 شخص معظمهم من أهالي الطلاب وأقربائهم وأصدقائهم.
   أول ما يلفت الانتباه هو هذا الديكور المسرحي البسيط والمعبّر في آن، إذ أنت أمام لوحة كتب عليها اسم لبنان بالالوان، وتحولت نقطتا نونية الأولى والثانية إلى عينين تذرفان دماً، يتقطر في بركتين تشكلتا من كتابة الاسم.. أما نقطة الباء فهي أيضاً عين زرفت دمعها دماً تجبّل بأكياس المتاريس، فتخضبت بالأحمر القاني.
   المسرحية بدأت في وقتها المحدد، والذين تأخّروا ثواني فاتهم أن يروا بعض مشاهدها، فكأنما شربل بعيني وطلابه ثورة إجتماعيّة بيضاء، تحاول تخليص شخصيتنا الإجتماعيّة مما علق بها من أمراض عدم احترام الوقت، وقلة التقيد بالمواعيد، وإذا الثانية عندهم ثانية، هي جزء من العمر، تقال فيها كلمة، تمثّل حركة، يفتضح أمر أزعر، تسدى نصيحة، ويلطش زعيم.
   أنطوانيت خوري "أم يوسف"، أطلت بكلمة مساء الخير، "وأهلا وسهلا فيكن من دون ما إذكر أسامي" حكيت عن "المدرسه والراهبات اللي عم يتعبوا كتير".. طلبت من الحاضرين "يفتحوا دينيهن منيح" لأن "نحنا زغار وما فينا نعلّي صوتنا" وحكيت عن القسم الثالث بمدرسة سيدة لبنان، وعن مشروع تعمير الثانويّة "يللي رح يبلّش عن قريب.. وقولوا معي انشالله".
   حوار فدبكة، فمشهد لقطات خفيفة الظلّ، سهلة الهضم، بريئة القسمات، طفوليّة التعابير، شاعرية المعاناة، كأنما أنت تقرأ قصيدة من كتاب "مراهقة"، أو تنهم شميلة من "سنابل" شربل بعيني بعدما أغبطك نضج المواسم.
   في "فصول من الحرب اللبنانية" يختال شربل بعيني، ويزهو خياله. ها هو يستعرض حقاً فصولاً من الحرب اللبنانية، مثل البيك:
مسعود بيك لا تهتم
عندك زلم بتشرب دم
وها هو أيضاً يفجّر ثورته على هذا الزعيم "المصلحجي" كما في:
متل ما التران بيلحق سكّتو، الزعيم ببلادنا بيلحق مصلحتو.
   وينقم شربل على الزعيم الذي "عندو رجال بتشرب دم"، ويسخر قائلاً: "شو الدم بيبسي كولا؟"، ويحمل على الذين تاجروا باسم الشعب وبأرضه. ويصور معاناة اللبناني المهجّر في أرضه، والمهجّر منها، الحامل وطنه حبّة تراب في حضنه، والمتحمل قسوة الحرب، وقساوة أمرائها، وظلم الاحتلالات والمؤامرات، والصفقات، وعتمة وصقيع الملاجيء، وغطرسة الدولار، واستبداد الجوع.
   لكن شربل لا ينسى أن يطعّم المسرحيّة بإيمانه العميق في وطنه:
بتضلّك أرض تنين
ألله والإنسان
يا وطني لبنان
   وهو الذي سئم "زعبرات" السياسيين، وانحرافات العقائديين، نافخي طبول الحرب على الشعب اللبناني. نراه يؤلف جيشاً أبيض يسلحه بأغصان الزيتون والأعلام اللبنانية، ويرسله ليخلص لبنان، بعدما فشل السياسيون في ذلك:
إذا الكبار ما خلّصوا لبنان، نحنا بدنا نلبس تياب بيض بلون التلج ونخلصو..
   وهكذا على مدى ساعتين كاملتين، شدنا شربل بعيني وتلامذة سيدة لبنان إلى خشبة المسرح، صوروا لنا واقع الحرب، تأثيرها عليهم، وضعوا أيديهم على الجرح، وسألوا رحمة وشفقة، وأعطوا عظة، وأسدوا نصيحة، فيا ليت صرختهم تدوي في ضمير كل زعيم، وكل مقاتل، وطنياً كان أو خليطاً أو انعزالياً.
   وبعد المسرحية، ألقت الأخت الزائرة المشيرة فيرونا زيادة كلمة شكرت فيها إدارة المدرسة، والشاعر شربل بعيني، على هذا العطاء المميز، واعترفت انها أحست أن لبنان بمعاناته قد انتقل الى هنا، مؤكدة ان وطناً له مثل هذا الشعب الذي نراه في القاعة اليوم لا يزول.. وسيبقى الى الأبد.
   وأوضحت أن لبنان سينتفض من تحت الانقاض مثل طائر الفينيق، وجددت شكرها للمدرسة على هذا العمل الكبير الذي تعجز عنه مدارس لبنان.
صدى لبنان العدد 554، 14/7/1987
** 
مقدمة ديوان فافي
  كأنه حب من العالم العلوي قد هبط إلى هذه الأرض.
   الحبيبةُ كليةُ الاستحوذاية من غير أنانية متبعة، أو مخططة، أو مدروسة، أو حتى موجودة:
ناجى المعبودَ.. 
فأوحى له اسماً..
من وهجه يبتسمُ
هي "فافي" وجهٌ مصريٌّ
هيَ شمسٌ صاغتها الحِكمُ
   حبّ عاش بين الكلمات، ونما على التويتر، وترعرع على الفايس بوك، فشهد له الإيمايل:
رسائُلها 
فرحةٌ التقيتها وجهاً لوجه.
أملٌ 
عائد بعد معاناة،
لذةٌ 
لا يشعر بها إلآّ المتيمون.
   حب أرفعُ من السقوط في الماديات، لا يلعب الجسدُ فيه دوراً. إنه منعتق من كل القيود، متفلّت من كل الضوابط:
أتمنى الجنونَ
كـ ميّ زيادة..
والموتَ وحيداً 
كـ جبران خليل جبران..
شرط أن ألتقي "فافي"
مرّة ثانية.. ولو بالحلم.
   هنا روحانيةٌ سماوية خارج إطار كلمات أهل الأرض، عليك إجهادُ نفسك لتقنع عقلك بأن هذا الجنون المتبادل هو بحق أرقى وألذ أنواع الجنون:
أنطونيو أعلنَ انكساره.
سلّمني دفاترَ غرامه.
هناك خربشاتٌ لم أفهمها
يفوحُ منها صوتُ عبد الوهّاب
رميتُ دفاتره في التاريخ
ورفعتُ راية كُتبَ عليها:
"مجنون فافي".
   أقسمَ بالله أنه يحبّها أختاً نادرة، وأقسم بالله أنها مغرمة به أخاً مميزاً:
رنّمي يا بلابلَ لبنان:
مباركٌ الآتي باسم الربّ.
إصدحي يا حساسينَ أستراليا:
طلعَ الفجرُ علينا.
وافرحي يا أهرامات مصر..
لقد وجدتُ أختي.. "فافي".
   بأمّ عيني رأيته يقبّل يدها بشدّة، فتذكّرت جبران وفيروز في قصيدة المحبة التي "لا تعرف عمقها إلا ساعة الفراق":
أما أنا.. فلقد التقيتُ "فافي"
أسبوعاً كاملاً.. 
وجهاً لوجه.. 
ابتسامة بابتسامة.. 
قصيدة بقصيدة..
وعندما رفعتْ يدها مودعةً
قبّلتُ تلك اليد.
   ولكن، هل افترقا حقاً؟:
اليوم، أهدتني "فافي"
سطرين من الشعر،
أفنيتُ عمري لأحظى بمثلهما:
ـ "أنت غيمةٌ تُمطر شعراً
وأنا جِنيّة صغيرة تطير بين الشجر".
اليوم، أصبحتُ شاعراَ. 
   في السيّارة كان كلامه لي بالسرّ عنها.. وعلى موقعه "الغربة" كان كلامه علناً عنها..
   التغطيات المصورة هي نجمتها. 
   مقالاتها، مقابلاتها، قصائدها، أخبار تحركاتها، إيمايلاتها، ملأت صفحات غربته الموقع، وانتشلته من جحيم غربة الحياة:
رحلتها القصيرة في أجوائي
عطّرت أجوائي.
كانت أطهرَ من قديسة..
وأشرفَ من زوجة.
كانت سيدةَ المكانِ والزمان..
لا يغبّر نعليها انفتاحٌ.
ولهذا أحببتها.
   علوياً هو يحبّها كثيراً، ويدعو الناس الى محبّتها:
يا رجالَ العالم، يا شعراءَه الأفذاذ..
أحبّوا "فافي"
غازِلوها.. ارسلوا لها الورودَ..
دبّجوا لها قصائدَ الغرام..
ولا تخافوا لومةَ لائم..
إنها أختي..
وأنا أبصمُ لكم على بياض..
    أما أرضياً فهو يغار عليها وعلى سمعتها. 
   يغار عليها حتى من حاله، فكان دائماً يأمرني مستجدياً أن أكون بصحبتهما!
   وها هي "فافي" تشهد على ذلك:
طبعًا تذكرتُ..
الشقيقاتُ الثلاث
والتليفريك
ودوشةُ المُعجبين
وصندوقُ اللعب
وأنتَ
وجوزاف
وأنا
وحقيبتي الضائعة
وشالُ الحرير....
   ويغارُ عليها من أصدقائه الكثيرين خوفاً من أن ينظر أحدُهم إليها نظرة أهل أرض.
   ولا غروَ.. فهي الجميلة بكل تقاسيمها، الجذابة المقنعة في كل ما تكتب:
زحمةٌ قاتلةٌ يسببها المعجبونَ في حلقي،
أفتّش عن كلمةٍ أستدرجُها بها،
فإذا بهم يسبقونني إليها،
يجاهرون بها دون خوف.
حبُّهم لها مَلِكٌ تاجُه هرمٌ.
حبّي لها عبدٌ قيدُه قبرٌ.
هم الأقوى.. وأنا الأضعف.
فارثوا لحالي.
   فتراه يتتبّع أخبارها بالدقائق واللحظات، ويسألُ ويستنبش عنها بالتفاصيل والدقائق:
 .. وبعد مراجعةِ صفحتها على "الفايس بوك"
وجدتُ أن عددَ المجانين بها،
أكثر من دقّاتِ قلبي.
توقف قلبي عن النبضان 
تضامناً معي.
   أيها القراء والمتصفحّون، أنا هنا ما أردت أن أكتب مقدمة ديوان من شعر، أو كتاب مراسلة بين شاعرين، فغيري، من بين أصدقائهما، كثيرون أجدرُ وأكثر كفاءة وأرفع قامة.
   حسبي فقط أني شاهدٌ بأمِّ العين على حبّ لا نظير له على هذه الأرض.
سيدني 2013
**
نوتة للحلمات القدسية
   يوم نشر شربل بعيني ديوانه (ألله ونقطة زيت) في العام الماضي 1988، أعجبت بالديوان، ولكن المخاوف بدأت تساورني على هذا الذي ـ في منتصف عقده الرابع ـ تصوف معربشاً نحو الله!
   اليوم، ها هو شربل بعيني يبدد المخاوف في (معزوفة حب)، ينقر بها على أوتار القلب، وعروق التراب المشغول صبايا من الضلوع.
   وأتساءل: ترى أهي (جهلة الأربعين) مقبلة باكراً؟ أم أن الشعر دار دورته الأولى، فجاءت (معزوفة حب) بكر المواسم الآتية، تماماً كما كانت (مراهقة) بكر المواسم الماضية؟
وإذا كانت (جهلة الأربعين بلا معين)، كما يقول المثل، فأي جهلان هو شربل بعيني؟ ومن هي التي تؤرق عينيه؟ وأي حب هو الذي بينهما؟
   في (معزوفة حب) لا يعزف شربل بعيني على وتر واحد، فهو مرة شديد الاباحية، بري الغرام:
خليني من ريقك إسكر
إزرع بواديكي بداري
أحصد قمح الصدر الأصفر
وآخد من حلماتك تاري
عضّن.. إقرصهن.. إفركهن
إجليهن.. ويطق المرمر 
وهو مرة أخرى رهباني الهوى، نسكي اللواعج:
بهرب منّك.. بس ما فيّي
إهرب من ريحة بخّورك
يا كنيسه بضيعة منسية
..
رح إحبس صوتك ع طول
بدينيي.. وخلّي أنفاسي
تدوزنلو من اللامعقول
نوته.. بترنيمتها قداسه
تارة تجد شربل شلال محبة، دافقاً بالرضى، غير عابىء، تتلألأ ضحكاته بقلب جراحه، وطوراً يعود إلى ضعفه الانساني يعاتب يتوعّد. إذ ما يكاد يقول:
فرحتها هيّي فرحتنا
..
يا حمام الأبيض خبّيها
وزيّن بالطهر لياليها
حتى يسرع ليقول:
لو رجعت أيام الماضي
وصفّى العالم كلّو راضي
وقلبي من عذاباتك فاضي
إنتي مش مسموح تعودي
   ويستمر هذا التلويح بين الحالة وعكسها، بين الشيء ونقيضه، في تطرف مواقف، يعكس قلق الشاعر ولا استقراريته، فما يكاد ينقم على حب هذه الأيام:
إيدك بإيدو، عيب، شو صابِك
متل الشهور بيمرقوا حبابِك
انكنتي (السنه) روزنامتك أوهام
انكتي (الزهر) عمر الزهر أيام
وناطر خريف وبرد ع بوابِك 
حتى يقول في قصيدة بعنوان بدّي حبّك:
بيكفيني.. بيكفيني بس
أوقف إتطلع فيكي
وخبّيكي بعيوني شمس
كلما تعتّم إضويكي
..
ولو منعوا إيدي تنمد
وحطّوا بيني وبينك سدّ
بيكفيني حوّشلك ورد
وبأحلامي إهديكي
هذه الـ (بيكفيني حوشلك ورد) تؤرق الشاعر في قصيدة أخرى فيقول:
آخ منّك كيف بدي نام
وغيري معا نايم
ع زهورها حايم
وتحت منّو جسمها منضام 
لذلك نرى شربل بعيني يعلن وفاة هذا الحب ويلعنه قائلاً:
ع جرح قلبي مشيت
وصرخت من قهري
صرخة طفل مجنون
يا بينتهي عمري
يا حبّك الملعون!
   ولكنه سرعان ما يسحب كلامه، ينقلب على ذاته، يقسم بعيني حبيبته، أنه سيسرق القصيدة ويحرقها:
كذبت لمن قلت: حبّك مات
..
وحياة عينك بسرقا
هاك القصيده وبحرقا
على هذا المنوال يستمر شربل في النسيج، تطارده فيختفي، تتعقبه فيهرب، تحشره فيتملص بزئبقية، وتكمشه فيتفلت..
أما حبيبته فهي من ذات العجينة.. أو (قل إن الشعراء على أشكالهم يقعون)، فإنك ما تكاد تجازف بإعلان اسمها بقصيدة ما، حتى تفاجئك بالقصيدة التالية بشخصية أخرى وشكل آخر، وتعرف عندها أن الحبيبة حبيبات بالمطلق، بحيث يبدو تحديد هويتها ضرباً من الخفّة. أكثر من هذا، ان شربل بعيني ـ أحياناً ـ لا يعرف من هي هذه الحبيبة! ألا فلنسمعه يناجيها:
نصّي معك.. تخمين!
وما بعرفك مينك
خلقتي إلي من سنين
وتأخروا سنينِك
وصرلي عمر ناطر
تتزنّر قناطر
مكسورة الخاطر
بزهور ياسمينِك
   أجمل ما في شعر شربل بعيني، ان المرأة عنده مرأة، أفلتها من نظرة الرجل الجاهلية، حيث كانت عيناها كعيني البقر الوحشي، وقدها كغصن البان، وشعرها كالليل، وأسنانها كالبرد، ناهيك عن العناب والرمان وتشابيه ذلك الزمان، التي تربط المرأة بالحيوان، وتنظر إليها من الخارج، كسلعة، كمتعة، دون أن تنفذ الى الأعماق، أو تعاملها معاملة الانسان للانسان.
هذه المرأة يعدها شربل (بالحب):
نسيوا مش رح يعطوكي
قد ما الحب بيعطيكي
ويعاهدها برقة المعاملة:
وان جيت مره إجرحا
بيوسع بقلبي مطرحا
والكلمة اللي بتقهرا ايام
بلغيا
أو بمحيا
أو خلف ضهري بشلحا.
ويقبل شربل على دنيا الحب بعطش العطاء عند من فاضت غلاله وأصبح بين أمرين: إما أن يعطي بسخاء، واما أن يهرب من مواسمه وتعبه:
وتعبت من خيالا
شوالات عرقانه
بيخطر على بالا
تهرب من غلالا
ولا تضل تعبانه
وهو ـ كأي شاعر ـ لا يتوانى عن رسم عالم خيالي، لصبية ما، ينعمان فيه معاً، انتقاماً من حرمان هذا العالم:
علوّاه لو فيّي
لوّن بحر أزرق
لعيون حوريّه
بتنطر الصيفيه
تا بشمسها تغرق
وإتسبّح قبالا
والجسم عم يلوي
وإشهق مع خيالا
كلما الشمع يضوي
وتبقى المرأة عنده ـ في قصائده الطوباوية والماجنة على السواء ـ نهر طهر وشلال عاطفة. لا بل هي أطهر من الكتب المقدسة! وقد ظهر ذلك جلياً في:
حبيتك يا بنت بلادي
بكل عذابك..
بالكدمات اللي تركوها فوق زنودك،
فوق الصدر البعدو أطهر
من كل (الكتب) القريوها
حبيتك تا صرتي العرس
المش رح إرضى يفارق بالي 
   وبعد، ان هذه (المطاردة) ليست دراسة نقدية، ولا هي مقالة تحليلية، إنما، حسبها أن تكون رشفة من نبع، معجبة بعذوبة مائه، ولكنها لا تغني عنه في شيء.
صدى لبنان ـ 1989
**