شربل بعيني شاعر الغربة السوداء

مقدمة
بقلم شربل بعيني

عام 1990 قدّمت الدكتور الشاعر جميل ميلاد الدويهي في حفل إصدار ديوانه "عودة الطائر الأزرق" بهذه القصيدة التي احتضنها ديواني "أحباب"، بكل فخر واعتزاز، لأن من قلتها فيه كان وما زال من أغلى الأحباب:
الطَّيْر الأَزْرَقْ رَحْ بِيعُودْ
عَ إِهْدِنْ.. عَ رْوَابِيهَا
عَ زْغَرْتَا الْـ فِيهَا مَوْعُودْ
وْقَاعِد عَمْ بِينَاجِيهَا
وْمَهْمَا الْغُرْبِه تْحطّ حْدُودْ
بْيْنَاتُنْ.. مَا بْيِنْسِيهَا
قَلْبُو بْسَاحَاتَا مَوْجُودْ
بْيِزْرَعْ دَقَّاتُو فِيهَا
وِبْلادُو الْـ حَرْقِتْهَا قْرُودْ
بْأَحْلامُو عَمْ يِبْنِيهَا
وِيْعَلِّقْ حَرْفُو بِجْرُودْ
مِتل الشَّمْس بْيِضْوِيهَا
شَاعِرْ كِل مَا بْشِعْرُو يْجُودْ
قْلُوب بْتِصْرُخ آوِيهَا
رَافِع لِلْحُرِّيِّه بْنُودْ
مْدَوْزَن كِل قْوَافِيهَا
عَ دْوَايِرْهَا بْحُور الْجُودْ
بْتِغْمُر رَمْل شْوَاطِيهَا
وِانْ غِزْيِتْهَا لْيَالِي سُودْ
بْإِنْسَانِيتُو بْيِحْمِيهَا
يَا دْوَيْهِي.. بِالْغُرْبِه سْدُودْ
نِيرَانَا عَمْ تِحْرُق نَاسْ
ضَلّ بْشِعْرَكْ طَفِّيهَا.
وكما تمنيت عاد "الطائر الأزرق" الى ربوع اهدن، ليعمل كأستاذ محاضر في كلية العلوم الانسانية في جامعة اللويزة، وليصدر العديد من المؤلفات منها:
ـ أهل الظلام
ـ من أجل الوردة
ـ الذئب والبحيرة
ـ طائر الهامة
كما أصدر مؤلّفين يدرّسان في الجامعة، بالإضافة إلى ثمانية قصص للأطفال صدرت عن دار أبعاد الجديد، وكتاب عن البطريرك إسطفان الدويهي بالإنكليزيّة مع ربى الدويهي (صدر عن جمعيّة بطل لبنان يوسف بك كرم في أستراليا). كما أصدر عدّة مقالات أكاديميّة محكّمة في لبنان.
دون أن ينسانا في "غربتنا السوداء"، فلقد كان همّ الأدب المهجريّ في أستراليا هاجسه خلال وجوده في لبنان، وكان يتحدّث عنه، ويعلنه، ولا يترك فرصة إلاّ ويلفت النظر إليه، ويدعو النقّاد إلى تناوله. و"كطائر أزرق" نبتت رياشه في روضنا الأدبي، راح يروّج له بأسلوب أخّاذ مطعّم بأكاديمية لا ترضى إلا الصواب، ولا تهدف إلا لتبيان الحقيقة، فحاضر عنّا مدافعاً عن حقّنا في الوجود، كشعراء وأدباء مهجريين، "فأسمعت كلماته من به صمم" على حد قول الشاعر.
و"جميلنا" كما يحلو لي أن أناديه، يحمل شهادة دكتورة بتفوق بارز، دون أن يستغل اللقب لصعود سلم الشهرة والابداع، لا بل استغله "اللقب" ليشرّف نفسه به بعد أن أذله الكثيرون من حملة الشهادات المزورة.
نثره شعر، وشعره فريد نوعه، مبدع دون أن يدّعي الابداع، منتج دون أي تبجح، كامل وما زال يطلب الكمال، متواضع بعزة وكرامة.
هكذا عرفته من أول يوم التقيته فيه لحظة وصوله الى أستراليا، فقد وجدت فيه نفسي.. وأعجبت باندفاعه للرقي، وبشجاعته في تسليط الضوء على أي نتاج يتناوله، فتفرح بانتقاده لك، لأنك على علم مسبق من أنه يحبّك، ولا يضمر أي شرّ لك.
وقد لا أكون مبالغاً اذا قلت ان الحركة الأدبية في أستراليا خسرت كثيراً برحيل الشاعر الكبير نعيم خوري، وبرجوع دكتورنا "الجميل" الى ربوع الوطن.. نظراً لكثافة نتاجهما وتحركهما الأدبي المثمر.
ولقد أعلن المهندس الراحل رفيق غنّوم في كتابه "أجمل ما قيل بأدب شربل بعيني" أن قصيدة "شاعر الغربة السوداء" للدكتور جميل الدويهي لا تضاهيها قصيدة، فما كان مني اليوم الا أن أهديتها غلاف الكتاب.
وها هو "الجميل" يعود الى "الغربة"، فتعود الروح اليها، ويبدأ عطاءً أدبياً رائعاً طالما اشتقنا إليه، وطالما حلمنا به.
ولأن كل كلمة مدحني أو انتقدني بها، تساوي عندي العمر، أحببت أن أرجعها له في هذا الكتاب، وأطبع قبلة على جبينه الوضاء، وأقول بصوت عال: شكراً أيها "الجميل" على جمال كلمتك.. وسمو محبتك.
شربل بعيني
**
أحباب شربل بعيني: الحب هو الشعر
   البحث عن إنسان جديد ليس شمولياً 
   والذاتية مردّها الغربة
   أكاد أقول: عندما أوجد الله الحب في الأرض، خلقه على وزن شربل بعيني ومثاله. فأنت في أن تحب الشاعر أو تكرهه، ولكنك لست حراً في أن ترفض الحب الذي يبادلك به.
   أليس الحب هو الشعر؟
   أو ليس الشاعر هو القدوة التي تسيّر الجماهير؟ 
   وما العظمة إذا كنت تشبه الناس في تفكيرهم وأحاسيسهم وسلوكهم اليومي؟
   شربل بعيني هو هو، يخرج بكتاب جديد فيه من كلاسيكية اللغة وبساطة الكلمة واللحن الغنائي الشيء الكثير. ولكنه كتاب منضد بسواد العينين، وملوّن بدموع التجربة والرؤيا الانسانية التي لا تغيب أبداً عن مسرح الشعر.
   في "أحباب" لا يعود شربل بعيني بطلاً يلوّح بالسيف ولا فاتحاً لمدرسة جديدة. فالكتاب بمجمله مجموعة قصائد ألقيت في مناسبات ثقافية أو اجتماعية أو فنية، لكن لكل قصيدة في العالم مناسبة. فالزمن مناسبة. وطالما أنت في الزمن فإنك لا تخرج من حدود اللحظة التي يشتعل فيها الفكر، وينجب خلقاً سوياً قد لا يتأتى له أن ينجبه في لحظة أخرى.
   ومهما يكن من أمر، فإن شربل بعيني هنا، ليس شاعراً زجلياً، رغم أن لا تهويميّة، ولا غموض أو رموز مغلقة في شعره، بل "مباشرة" قريبة إلى القلب والفكر تكتنفها أحياناً صور قادرة على تخييل المتلقي وتحريكه من الداخل.
   وشربل يدرك ويقر أن تعريف المطربين ليس شعراً، بقدر ما هو نظم يستهدف المديح والإطراء والترويج الدعائي. وأنا أرجو أن يسلّم شربل معي، وهو سيفعل، أن قصيدة "ردولي إبني من الموت" المحلّقة الهادرة موضوعاً وحواراً وصورة، قادرة على تشكيل سقف إبداعي أعلى وأمتن.
   ويبدو أن لشربل شيئاً من قديمه في الكتاب، وهو قديم جديد. فالقصيدتان "دمع" و"حكاية بطل" هما من قصائد شربل الجيّدة. وأريد أن ألفت نظر شربل هنا إلى أن هذا اللون المتواتر من السبعينات ليس "محرماً دولياً"، بل ان فيه من اللهب الإبداعي أكثر مما يظن الكثيرون. وإنني لا أنكر أن هم الشاعر اللبناني أو الوطني ظاهر في مجمل الكتاب، فشربل صاحب عقيدة لا يحسن لديه الانفلات منها، ونظرته الى الوطن والزعامات لا تزال مرهفة وحادة، فهو المسؤول الأبرز عن الحقيقة يصرخ بها دائماً:
باعوا الوطن بالدّيْن
شو ذنبنا نحنا
نشف الدمع بالعين
وعن جنتو نزحنا
صار الحكم حكميْنا
وصفّى غراب البَيْن
يشقلب مطارحنا
   والصرخة تتكرر في مكان آخر:
تركني تركني قُولْ
رح ينفجر راسي
بلاقي الشعب مسطول
بيألِّه كْراسي
بأوطان مش مسموح
تربّي بحضنا زغار
نامت ع صدرا جروح
وفاقت بيقلبا نار
   وفي وسط المشكلة يبحث شربل عن إنسان جديد، على أن بحثه هذا ليس شمولياً، بمعنى أنه لم يخصص قصائده لدعوة أو لقضية ما، بل جعل الدعوة تبرز من خلال شذرات تلمع حيناً، وتختفي حيناً آخر، ليحل محلها إطراء أو ثناء لشخصية معيّنة، وهذا هو دأب شعر المناسبات قي غالبه.
   ولا تخبو في الكتاب ذاتية مردّها إلى تأثّر شربل العميق بغربة فرضت عليه، وأكلت خبز أيامه ولياليه. ففي قصيدة "البيّاتي.. الحلم الراجع"، يتحدّث عن غربته بآلامها ونارها وجنونها:
يللي هجرت الدار
متلك أنا بغربه
بسافر بهالأشعار
ع جوانح الكذبه
ومعليش لولا كذبت
ما نسيت كيف هربت
والخوف بيدربي
وبكم كلمه كتبت
قلّلت من خوفي
وروّضت منفى.. تعبت
وبعدني منفي
   أعني أن هذا الاحساس بالغربة هو إحساس عام، جماهيري أكثر منه فردي، دائم الحضور، ومقلق في أبعد المدى.
   وأظن شربل لا يقصد كتابة الشعر بقدر ما يكتب أحاسيسه، ولذلك تتسود شعره التلميحات والدعوات المتفرقة والعظات المتناثرة التي يثبها كما خلقت، ولا يفرد لها قصائد مختصة بذاتها.
   وفي لفتة إلى مديحه يخترق شربل المقولة: إن المديح غرض قديم، فالمحبة جديدة بتجدد صاحبها، ومن يكتب المحبة بنياط قلبه يفعل أمراً جديداً في عصر أصبحت فيه المحبة ذكراً من أقاصيص الأطفال، وحلماً يتدثر به النائمون.
   إنه مدح جلل، يخاطب أعلى القوم لا سافلهم، مدح صادق مرهف لا يتقنّع ولا يغالي أو يوارب. وفي أي احتمال يبقى أن للشاعر الحق أن يردّ يوماً فضلاً لأصحابه، ويعترف بجميل من أحسنوا إليه، وسددوا خطاه، غير أنني لا أزال أعتقد أن لشربل القدرة على عمل أفضل من "أحباب"، أو لنقل عمل مواز لقصيدة "ردّولي إبني من الموت"، وهذا اعتقاد شخصي أردت أن أظهره، فإذا كان صائباً أفاد شربل، واذا كان مخطئاً أفادني. والله الموفق.
صوت المغترب، العدد 1079، 17/5/1990
**
إخلاص كلّو شربل بعيني
دويهي أنا ما بنكر المعروف
إخلاص كلّو شربل بعيني
حالي بشربل كل ساعه بشوف
وبيشوف حالو شربل "بعيني"..
سيدني 2014
**
الزجل اللبنانيّ في أستراليا: جسر العودة ومنبر التفاعل
(نماذج ملكي، بعيني ومنصور)

   يُعتبر شعر الزجل في أستراليا واحداً من أهمِّ الروافد الثقافيَّة الشعبيَّة، التي ما يزال اللبنانيُّون يحتفظون بها. فالشعرُ من الموروثات الحيَّة التي لا تزول، مهما تعدَّدت مواقع سكن الإنسان وظروفُه، ومهما تطوَّرت التكنولوجيا، وتغيَّرت مفاهيمُ الحياة. والزجلُ اللبنانيُّ هو جُزء من التراثِ المحبَّب، وقد عرَفه اللبنانيُّون منذ قديمِ العصور. وفي هذا يقول الباحث أنطوان الخويري: "الشعرُ الزجليُّ هو ابنُ البيئةِ والطبيعةِ والتراث، وركنٌ أساسيٌّ من أركانِ الثقافة الشعبيَّة التي طَبعت لبنانَ بخصوصيَّةٍ مميِّزةٍ فريدة، تقوم على حضارتِه وتاريخه وشخصيَّته، وهُويَّتِه وعاداتِه وتقاليده... "(الخويري، 2011، ص ج).
   وقد حمل اللبنانيُّونَ معهم أينما حلُّوا الزجلَ كتقليد أدبيٍّ شعبيٍّ متجذِّرٍ في الذاكرةِ والذاتِ الجَماعيّة، فقد "رافق الشعرُ الزجليُّ اللبنانيِّينَ أينما حلُّوا، وتغنَّوْا به تُراثاً ثميناً وتفاخروا به خُصوصيَّةً مميِّزةً لحضارتِهم المشرقيَّة، وثقافتِهم التاريخيَّة... واللافتُ أنَّ الشعرَ الزجليَّ ما يزال موجوداً ورائجاً حتَّى يومنا هذا في معظمِ بلدان الانتشار... حيث يحتلُّ مكانتَه المميَّزة في الصُّحفِ والكتب التي يُصدِرها المغترِبُون اللبنانيُّون في مناسباتِ أفراحِهم وأعيادهم، محتفظينَ بفخر واعتزازٍ كبيرين بهذا الموروثِ الثقافيِّ الثمين، وقُدامى المهاجِرين لا يحفَظون من لبنانَ سوى الشعرِ الزجليِّ وأخبارِ أبناءِ القريةِ وعاداتِهم وتقاليدِهم. "الخويري، 2011، ص 619-620). 
   ومثَّلت المناسباتُ اللبنانيَّةُ من زواجٍ، وولادةٍ، وأعيادٍ، ووَفيَّاتٍ، ومِهرجاناتٍ وطنيَّة مواضيعَ مهمَّة لشعراءِ الزجلِ في الأحياءِ التي سكنوها. فاللبنانيُّون الذين هاجروا إلى أستراليا شكَّلوا مجتمعاتٍ متشابهةً في مناطقِ سكنِهم... وتمكَّنوا من الملاءمةِ بين مجموعتينِ متعارضتينِ من القيَم والممارسات: تلك التي جاؤوا بها من وطنِهم، وتلك التي وجدوها في أستراليا (.(Batrouney, 1985, p. 34 
   وقد يسألُ سائل: لماذا لم يتخلَّ اللبنانيُّونَ في أستراليا عن الزجل، في خِضمِّ الحياةِ الجديدة والمجتمعِ العصريِّ الذي انتقلوا إليه طوعاً أو لأسباب اقتصاديَّة وسياسيَّة واجتماعيَّة ضاغطة؟
   إنَّ الأمرَ يتعلَّقُ بطريقةِ التعبيرِ عن الذاتِ بطريقةٍ سهلة وواضحة، في مجتمعٍ ذي منشإٍ ريفيٍّ في الغالب، يتحدَّرُ أغلبُ سكَّانِه من قُرى مسيحيَّةٍ في شِمال لبنان. فالشاعرُ في هذا المجتمعِ يرى في اللغةِ العامِّيَّةِ وسيلةً أفضلَ للكشفِ عن هُمومِه وقضاياه، بعيداً عن الغموضِ والتكلُّفِ والعُمقِ الرمزيّ. فهيمنةُ القصيدةِ الزجليَّةِ على الشعرِ المهجريِّ الأستراليِّ واضحةٌ في ظلِّ تراجعٍ ملحوظٍ للقصيدة العربيَّةِ الفصيحة.
   كما أنَّ الزجلَ هو قيمةٌ ثقافيَّةٌ تتجذَّرُ في الذات، تماماً كالعاداتِ والتقاليد، فمن الصعبِ أن ينصرفَ من هذه الذات، مهما كثُرتْ عواملُ الحداثة، والعولمة، وتطوَّرتْ وسائلُ الحياة. فالتُّراثُ بشكلٍ عامٍّ يمكن فهمُه باعتبارِه أداةً سياسيَّةً وثقافيَّة مهمَّة، من حيث تحدِيدُهُ وتشريعُه للهُويَّة، والاختباراتِ، والموقفِ الاجتماعيِّ والثقافيِّ الخاصِّ بمجموعاتِ الناسِ المتفرِّعين من وطنٍ ما .(Smith, 2006, p. 52) وفي اعتقادِنا أنَّ ابتعادَ المرءِ عن بيتِه وبيئتِه لا يُفسِد ارتباطَه بالموروث، بل إنَّه يزيدُ الحنينَ في قلبه، ويدفعُه إلى التعلُّقِ أكثرَ بالماضي، فردَّةُ الفعلِ العكسيَّهُ هذه لها جذورٌ نفسيَّة وعاطفيَّة. يقول جوزف أبي ضاهر في موضوعِ الزجلِ الاغترابيّ: "زجَّالو الأمسِ (أي شُعراءُ الاغتراب) كانوا أشدَّ "هَوساً" بأرضِ الوطن، نسَجوا علاقتَهم به بالتعبيرِ العاطفيِّ الأكثرِ عفويَّة..." (أبي ضاهر، 2010، ص 16). وهذا الهوَسُ بأرضِ الوطنِ وهمومِه كان من علاماتِ النبوغِ في الشعرِ اللبنانيِّ- الأستراليّ. فشعراءُ لبنانَ في أستراليا بقيتْ أصولُهم الروحيّةُ مرتبِطةً بالأرضِ والزمانِ الماضي، وظلُّوا يَذكُرونَ لبنانَ وأهلَه، ويحِنُّونَ إلى أرضِ الساحةِ والنبعِ والسنديانة، وهذا الارتباط يناقض طبيعة الانتماء الأعمى إلى مجتمع جديد، فيه كثير من القيم التي لا تتماشى مع المفاهيم الشرقيَّة. 
   وإذا كنَّا لا نعرفُ مَن هو الزجَّالُ اللبنانيُّ الأوَّلُ في أستراليا، فمن المؤكَّد أنَّ شعرَ الزجلِ لم يفارقِ المهاجرينَ اللبنانيِّينَ الأوائل، منذُ وطِئت أقدامُهم الجزيرةَ الواسعةَ في الرُّبعِ الأخيرِ من القرن التاسع عشر (عون، 2001، ص 115). فالحضورُ اللبنانيُّ في أستراليا تحقَّقَ من خلالِ ثلاثِ موجاتٍ للهجرة، في غضونِ أكثرَ من مئةِ سنةٍ متتالية (Batrouney, 2002, p. 39).  
   وقد يكونُ كثيرٌ من اللبنانيِّينَ الأوائلِ نظَموا الشعرَ الزجليَّ، لكنَّ أشعارَهم لم تصلْ إلينا بسببِ عدمِ 
   وجودِ وسائلِ التدوينِ والطباعة، كالمطابعِ العربيَّةِ والصحفِ اللبنانيَّة أثناء الموجتين الأولى والثانية للهِجرة. وهذه الوسائلُ متوافرةٌ بكثرةٍ في وقتنا الحاضر، ما يُسهِّل عمليَّة الحفظ والتوثيق إلى أمد بعيد. كما أنَّ الصحف والإذاعات اللبنانيَّة تقوم بدور كبير في نشر الزجل والترويج له، إضافة إلى المناسبات المختلفة من اجتماعيَّة وسياسيَّة وثقافيَّة، التي تتيح للشعراء التعبير عن آرائهم في شعر عامِّيٍّ يفهمه جميع الناس.
   وقد يتعجَّب الباحثُ في عصرِنا هذا من عددِ الشعراءِ في أستراليا، وأذكرُ منهم على سبيل المثال لا الحصر: عصام ملكي من بشمزِّين، وشربل بعيني من مجدليّا، وجورج منصور، وموريس عبيد، والراحلين رامز عبيد وحنّا عبيد ويعقوب عبيد الملقَّب بأمير الزجل من متريت، وفؤاد نعمان الخوري وسايد مخايل من بحويتا، وجرمانوس جرمانوس وانطانيوس أيُّوب من كرم المهر، والراحل زين الحسَن من بتوراتيج الكورة... كما نَشأت في أستراليا فرقتان زجليَّتان في الثمانينات والتسعينات، الأولى "جوقةُ بلابل المهجر"، وشعراؤُها: رامز عبيد، حنَّا عبيد، جورج منصور ومخايل عيد القزِّي، و"جوقة الكلِمه"، وشعراؤها عصام ملكي، يعقوب حنَّا الملقَّب بنَسر الشِّمال، وسليم شديد وميلادُ الطحَّان. وكانت هذه الفرقُ تتبارى، وتُنظِّمُ الحفَلات، وتُشاركُ في المناسبات الكُبرى. ونشأت في الفترةِ نفسِها "عُصبةٌ الزجل"، وهي لم تعد ذات نشاط ملحوظ في الوقتِ الراهن. وفي ملبورن أيضاً قلَّةٌ من شعراء الزجل نذكرُ منهم أنطوان برصونا الملقَّب بزغلول الزِّغرين. كما نَذكُرُ في مدينةِ برزبن الشاعر الراحل عقل كرم من برحليون. وعندما تقوم الفِرق الزجليَّة اللبنانيَّة المعروفة، كجوقة موسى زغيب، أو جوقة روكز خليل روكز بزياراتٍ إلى سيدني وملبورن، تَضمُّ إلى صفوفِها واحداً أو اثنينِ من الشعراء اللبنانيِّين المقيمين في أستراليا، كعصام ملكي، وجورج منصور، فيندمجُ المُقيمُ مع المغترب في مداوراتٍ ومنازلات شعريَّة مُحبَّبة.
   ويجهَلُ الكثيرونَ في لبنان أنَّ عشرات الدواوين الزجَليَّة أو التي تحتوي على قصائدَ زجليَّة نُشرت في أستراليا، كان أوَّلَها ديون "عذاب الحُبّ" لعصام مِلكي "طبع في لبنان" في عام 1973، ونَذكُر من هذه الدواوين على سبيلِ المِثالِ أيضاً: "الله ونقطة زيت" و"مجانين" لشربل بعيني، "بيادر الحنين" لجورج منصور، "بين تذكرتين" لفؤاد نعمان الخوري... ونَشر الشاعر عصام ملكي، وهو غزيرُ الإنتاج، قصائدَه في ثلاث مجموعات ضخمة طبَعها في لبنان تحت عنوان: "الديوان المِلكي". وأنشأ بعضُ الشعراء مواقعَ على الإنترنت، ومنهم عصام ملكي، وشربل بعيني اللذان يمكن الاطِّلاعُ على قصائدِهِما في موقع "مجلَّةِ الغُربة" الإلكترونيّ. وتقومُ المجلَّةُ المذكورةُ بنشرِ قصائدَ زجليَّة لشعراء لبنانيِّينَ مقيمينَ في أستراليا، كتعبيرٍ عن اهتمامِها بالشعرِ اللبنانيِّ، إلى جانب الأنواعِ الأدبيَّةِ الأخرى.كما أنَّ رابطة إحياء التراث العربيّ في أستراليا، وهي "مؤسَّسة ثقافيَّة لها نشاطات أدبيَّة وفكريَّة" (عون، 2001، ص 418) تهتمُّ بالأدبِ العربيِّ في أستراليا، ومنه الشعرُ اللبنانيُّ والزجل. وقد مَنحت الرابطةُ المذكورة "جائزة جبران خليل جبران العالميَّة" لعدَّة شعراء يكتبون الزجل، ومنهم شربل بعيني، وفؤاد نعمان الخوري، كما كرمت الراحل زين الحسن، وهذا الأخير لم ينشر في حياته، على حدِّ علمنا، سوى كتاب واحد هو كناية عن ديوان زجليٍّ بعنوان "طائر الشوق". 
   أمَّا الموضوعات التي يتناولُها الشعراءُ اللبنانيُّون في أستراليا، فلا تختلِفُ عن المواضيع التي يتناولُها شعراءُ الزجل في لبنان، كالغزل، والوصف، والمناسبات، والحنين، والوطنيَّات... تُضافُ إليها مواضيعُ فرضتها البيئةُ الجديدة، كالحداثةِ، والنظامِ، والتطويرِ الاجتماعيِّ والسياسيِّ والحرِّيَّة. ونحنُ سنركِّزُ في بحثِنا على موضوعَينِ أساسيَّين، هما الزجلُ اللبنانيُّ كجسرٍ للعودة، والزجلُ كمِنبرٍ للتفاعُل مع المجتمع، بالاعتمادِ على النقدِ الاجتماعيِّ الذي يرى أنَّ النصَّ الأدبيَّ لا ينفصِل عن الواقع، بل إنَّ هذا النصَّ يُفسَّرُ في ضوء الواقع. وإنَّنا نرى أنَّ هذا المَنهجَ النقديَّ هو الأفضل عندما نتناول أدباً واقعيّاً، يلامسُ قضايا الإنسانِ والمجتمعِ والحياة، فإنَّ قسماً كبيراً من أفضلِ النقدِ الأدبيِّ ينصبُّ تحديداً على العلاقةِ بين الأدبِ والواقع (تودوروف، 1986، ص 111). كما سَنُقصِر بحثَنا على ثلاثةِ شعراء، هم عصام ملكي، شربل بعيني، وجورج منصور. ولم يرِد ذكرُ ملكي وبعيني في كتاب "أنطولوجيا زجلِ الاغتراب اللبنانيّ" لجوزف أبي ضاهر، ولا في كتاب "تاريخ الزجل اللبنانيِّ" لأنطوان بطرس الخويري، الذي أحصى في باب "الشعرُ الزجليُّ في دنيا الانتشار" أكثر من أربعين شاعراً مهجريّاً (أغلبُهم من أميركا الجنوبيَّة)، ولم يذكر شعراء من أستراليا (ينظر خويري، 2011، ص 619 وما بعدها). وإنَّنا نلاحظ إهمالاً كبيراً للحركة الأدبيَّة المهجريَّة في أستراليا، ليس فقط في مجال الشعر العامِّيِّ، بل أيضاً في مجالات القصَّة والأقصوصة، والشعر الفصيح، وأنواع المقالة، والأدب المكتوب باللغة الإنكليزيَّة.
1-الزجل اللبنانيُّ في أستراليا جسر العودة: 
   يحمل المهاجرُ معه كَشَّةَ الأحلام والأماني، ويخوضُ البحارَ باحثاً عن لقمةِ العيش، لكنَّ وَداعَه للأرضِ الطيِّبة لا يكونُ بمثابةِ فِراقٍ أبديّ، بل هو فاصلةٌ بين الرحيلِ والعودة، بين الهُويَّةِ الأصيلةِ والهُويَّةِ البديلة. وموضوعُ الهُويَّة ليس موضوعاً شكليّاً، بل هو موضوعٌ يتعلَّق بالروحِ والانتماءِ والجذورِ الحضاريَّةِ والثقافيَّة، وليس كاللبنانيِّينَ شعبٌ يرتبطُ بأصالتِه إلى أبعدِ الحدود، فأنتَ تراه في مدينةِ سيدني يبني الكنائسَ والمساجدَ والمدارس، وفي مناسباتِه السعيدة يعزِفُ على المزمار، ويقرعُ الطبل، ويرتجلُ الميجنا والعتابا، ويُنشِد الزجلَ والهُوَّارة، ويُزغرِد، ويرقص الدبكة. ويمكنُ للزائرِ إلى مدينةِ سيدني أن يشتريَ الحَلوى اللبنانيَّة من محلاَّت عبلا، وصدَقة، وأن يزورَ المطاعمَ اللبنانيَّةَ المنتشِرة في كلّ مكان. وقد استبدَلَ كثيرٌ من الأستراليِّين خبزَهم بالخبزِ اللبنانيِّ، وأدخلوا إلى بيوتِهم الخُضارَ التي يزرعُها أهلُ الجيَّة، والتي تختلِفُ عن الخُضارِ المعروفةِ في أستراليا لوناً ورائحةً وطعماً. وفي المناسباتِ اللبنانيَّة تُقدِّمُ المطاعمُ المآكلَ اللبنانيَّةُ، وتصدحُ الموسيقى التي تذكِّر بأرضِ لبنانَ البعيدِ القريب، كما يُنشَد الزجل الذي يليق بالمناسبة. 
ويمكنُنا القولُ إنَّ كثيراً من اللبنانيِّينَ الذين هاجروا إلى أستراليا تأثَّروا بالمدنيَّةِ الجديدة، فالنظم العصريَّة تطغى على إرادة الإنسان المتشبِّث بالماضي، بَيدَ أنَّها لا تمحو من نفسِه وروحِه علاماتِ الانتماءِ الأوَّل. وفي هذا يقول بول طبر وآخرون: "عادةً يُطرح سؤالُ الهُويَّةِ اللبنانيَّة في الاغتراب، فإنَّه يُطرحُ من زاويةِ حنينِ المهاجرينَ اللبنانيِّينَ وارتباطِهم بالوطنِ الأمِّ." (بول طبر وآخرون، 2000، ص 9). ولعلَّ هذا الارتباطَ بالوطنِ الأمِّ وتقاليدِه، هو الذي جعلَ المجتمعَ الأستراليَّ الأبيضَ يَنظرُ إلى اللبنانيِّين نظرةً حَذرة، باعتبارِهم فشِلوا إلى حدٍّ ما في التأقلُمِ مع سياسةِ الوطنِ الجديد، ومفاهيمِه الأخلاقيَّةِ والاجتماعيَّةِ والثقافيّة. ويعترف الشاعر عصام ملكي بأنَّ روحَه ما تزال في لبنان: 
"ماشي بِسيدني ودعستي بلبنان." 
(ملكي، 2009، ج 3، ص 208). 
ويقول في مكان آخر وفي المعنى نفسِه: "بْسيدني الجسد والروح من لبنان
 مش رح بتِطلع يا تقبريني." 
(ملكي، 2004، ج 2، ص 120)
وفي مكان ثالث يقول: "كنت بربيع العمر وهجرت بشمزِّين/ والشوق نار، وبَعد ما قدرت إطفيها." 
(ملكي، 2009، ج 3، ص 376)
   ويَقصدُ الشاعرُ بربيع العمر أنَّه غادر لبنانَ في عام ألفٍ وتسعِمئةٍ وأربعةٍ وخمسين، وكان له من العمرِ سبعةَ عشرَ عاماً فقط، وعلى الرُّغمِ من المسافةِ البعيدةِ بين أمسِه ويومِه، فإنَّ روحَه ما تزالُ متعلِّقة بأرضِ قريتِه بشمزِّين، وما يزال يحِنُّ إليها. وهذا الارتدادُ إلى الماضي هو قاسمٌ مشترَكٌ عندَ الشعراءِ المهجريِّينَ قاطبة، فطابَعُ الشعر المهجريِّ "هو طابَعُ العاطفةِ والحنين، لأنَّ نحوَ الشعراءِ هذا المنحى جاء تعبيراً عمَّا يجيشُ في صدورِهم (أي شعراء المهجر) من حبٍّ وشعورٍ بالحِرمان، فَجَّرهما الشوقُ إلى الأهل والأحبَّاء، والبِعادُ عن الوطن، فكانت أبياتُ الشاعر أجنحةً يطيرُ بها في دنيا الأحلام إلى دياره ومرتَع صباه." (حرفوش، 1974، ص 111)
   وإنَّ عصام ملكي يُعاني من حالة نفسيَّة مُزمِنة، فهو منفصِمٌ بين مجموعتين من القِيم، واحدة موروثة، وتَحتوي على العاداتِ، والتقاليدِ، والدينِ، والثقافةِ المحلِّيَّة، وواحدة جديدة تحتوي على مجموعِ العناصرِ "المدينيَّة" والحياةِ المتطوِّرة... فكأنَّه طفلٌ سُلِخ عن أمِّه، ووُضِع في رعايةِ أمٍّ ثانية، لكنَّه ظلَّ يرفضُ الأمومةَ المستعارة، ويعودُ إلى الأمومةِ الأصيلة، بل إنَّه يرى في الوفاءِ لقريتِه وسيلةً للانتقامِ من الظروفِ الحياتيَّة التي أخذته من بيئةٍ وزرعتْه في بيئةٍ أخرى، لا يشعرُ بالانتماءِ الأصيلِ إليها، ولا يرى أنَّ ثقافتَها تتناسبُ 
مع شخصيَّتِه المشرقيَّة الصافية.
   ويَذهبُ ملكي إلى أبعدَ من حدودِ الشوق والحنين إلى الوطن وأهله، فيقدِّم لنا قصيدةً جريئة يُخاطبُ فيها مدينةَ سيدني، من غير مواربةٍ ولا مُحاباة، كاشفاً عن أنَّه لا يرى ربيعاً جميلاً في هذه المدينة، مقارِناً بينَها وبين بلادِه الحبيبة التي لا تبارحُ خيالَه:
"من ساعة الفيكي عُيوني تْقابلو           
دقَّات قلبي عالعَقارب واقفين... 
بالرغم إنِّك بالحَلا صرتي مَلو             
واللي بيحبُّو الكاس كاسِك شاربين
 ما في أمل إنِّي ربيعِك إقبَلو              
النحلات مش عم بيبعتولي مطْربين
 مش بسّ إنُّو الزهر ريحه ما إلو         
عطرو ما فينا نشمّ، والمالِك حزين
 وزَهر الرُّبى عا تراب لبنان الحلو       
كلما بْعبيرو تشردَق هْبوب الهوا
بلا مْواخَذه بيصير يِسعُل ياسمين." 
(الملكي، 2009، الثالث، ص 223)
   إنَّ المرءَ ليتعجَّبُ فعلاً من هذه اللغةِ الصريحة التي يَتحدَّث بها الشاعرُ إلى مدينةِ سيدني، فقد أمضى فيها ما 
يُقارب الستِّين عاماً، ولا يزال قلبُه متوقِّفاً عند اللحظةِ الأولى التي غادر فيها قريتَه، ولا يزالُ هو رافضاً لربيعِ المدينة الخالي من عبير الزهر، ولماذا يَقبلُ بهذا الربيع الفارغِ في نظرِه من المعنى، ويتخلَّى عن ربيعِ لبنانَ المليءِ بالعطرِ والجمال؟
   ولا تختلف نظرة عصام ملكي إلى الغربة عن نظرة شربل بعيني، الذي يتوقُ للعودةِ إلى جذوره، ويبكي ويستبكي على الأيَّام التي ضاعت في الغربة:
"كِيفْ تْرَكْت؟ وْكِيفْ مْشِيتْ؟
وْلَيْش تْأَخَّرْت وْما جِيتْ؟
بْشِعْرَكْ ياما وْياما رْجِعْت
عَ الأَرْض، وْبِالْغُرْبِه بْقِيتْ
فِيكْ تْقِلّي شُو جَمَّعْت
وْمِن بَعْد الشَّيْبِه شُو جْنِيتْ؟
أَحْلَى أَيَّامَك ضِيَّعْت
بْغُرْبِه مَزْرُوعَه تْوابِيتْ؟!" 
(بعيني، ابن مجدليّا، ebenmejdalaya.blogspot.com)
   في هذه الأبياتِ الأربعة من نوع القرَّادي، يؤكِّد بعيني على مجموعةٍ من العناصرِ النفسيَّة المتراكمة: الشوقُ للعودة، الحلُم بالعودة، الوعدُ الكاذب الذي لا يُحقِّق العودة، ضَياعُ الأيَّام في الغُربة، والموتُ في الغربة... لقد خسر الشاعرُ ردحاً من عمره في مدينةِ سيدني، فهو ينظرُ حولَه فلا يرى تابوتاً واحداً فقط، بل مجموعةً من التوابيت. وهذا التوجُّه إلى صيغةِ الجمع، وإن تكنْ تُحتِّمُه ضَرورة القافية، إنَّما يعبِّر أيضاً عن مجموعِ حالاتِ الموتِ الجسديِّ والنفسيِّ والعقليِّ في مجتمعٍ غريب عن الشاعر. إنَّه الموتُ الفظيعُ الذي يُهشِّم الحياة، ويُقَطِّع الأوصال، ويُقفِلُ الدروبَ والمعابر. وكأنَّ الشاعرَ يخاف من أن يموتَ عدَّةَ مرَّاتٍ بعيداً عن قريتِه مَجدليَّا، ولا تَسمحَ له الأيَّامُ بالعودةِ إليها.
   وهذا التناقض المخيف بين مكانينِ مختلفينِ يُظهر كيف أنَّ الشعراء المهجريِّينَ في أستراليا تائهونَ بين انتماءين، فيغلِبُهم الصوتُ الذي ينادي إليهم من وراء البحار، ونداءُ الأمِّ والأبِ والعائلةِ والقريةِ الوادعة. فجورج منصور الذي غادرَ قريتَه متريت في عام ألف وتسعمِئة وثلاثة وستِّين، لا يزالُ يُناجيها، ويحدِّثُها قائلاً: 
"قلتْ بدِّي غيب شي كم عام          
عن أرض بالآمال مزروعه
 وغِفَّيتْ تحت جْناحِك الإلهام           
مَوعودْ بِرجَع قبل ما يُوعى
وبينِك وبيني وِقفت الإيَّام." 
(منصور،2001، ص 103). 
   هذا الوقوف في الزمن يعني أنَّ الشاعرَ يرفضُ الرحيلَ عن قريتِه، فقد انتقلَ منها بجسدِه فقط، لكنَّ الأيَّامَ 
لا تزالُ جامدة، وهو ما يزالُ هناك في ملاعِبِ الصِّبا. وهذا الارتباطُ الوثيقُ بالمكان فسَّره علماءُ الاجتماعِ والفلاسفةُ على أنَّه اختبارٌ في خِضمِّ الصراع بين ما يطلُبُه سلوكُ الإنسانِ في العالم وبينَ انتمائه المحلِّيِّ أو الشخصيّ... ويَعتقدُ بعضُ المفكِّرينَ المشاركينَ في النقاش حول الولاءِ للوطن الأمِّ أنَّ هذا الولاءَ هو تعبيرٌ طبيعيٌّ وأخلاقيٌّ مُناسب عن التعلُّق بالأرضِ التي ولدنا فيها ونمَونا على ترابِها، وترجمةٌ للتقديرِ العميق الذي نَشعرُ به تُجاهَ فوائدِ العيشِ فيها، وبين شعبِها، وفي ظلِّ نظامها. كما أنَّ هذا الولاءَ يُنظَر إليه على أنَّه مكوِّنٌ مهمٌّ وأساسيٌّ للهُويَّةِ الشخصيَّة (Primoratz and Pavkovic, 2007, p.1). ويحلِّل هامفري Humphrey الانفصامَ بين مكانِ الولادة ومكان الاستقرار بالقول: إنَّ الهجرة تُنشئ ظروفاً للذوبانِ في المجتمعِ الجديد، وكردَّةِ فعل تُعيدُ التأكيدَ على سلطةِ الماضي. فمن جهةٍ يَعمل الوقتُ والمسافة على اضمحلالِ الأماكنِ الماضية والأشخاصِ الماضين، ومعهم أيضاً الشخصيَّةُ الذاتيَّةُ الماضية، ومن جهة ثانية فإنَّ الهجرةَ تعيد أيقاظَ الماضي بسببِ الشعور بالخِسارة (أي توقظُ في النفس الإنسانيَّة مشاعر الحنين) .(Humphrey, 2002, p. 208) 
    يمكنُ القولُ إذن: إنَّ ارتباطَ الشاعرِ المهاجرِ بأرضِه الأولى هو تعبيرٌ عن الوفاءِ في خضمِّ التحوُّلاتِ الكبرى التي تؤثِّر على حياتِه، وتغيِّرُ في تفكيرِه، لكنَّها تعجَزُ عن تغييرِ الصورةِ التي انطبعت في عقلِه الباطن، فيظلُّ مشدوداً إليها، رافضاً أن ينتزعَها من عقلِه وقلبِه؛ ففي ذُروةِ التحوُّلِ الاجتماعيِّ الهائل الذي طرأ على حياة المهاجرينَ اللبنانيِّين في أوطانهم الجديدة، "كان الشعراء يجِدون ملاذاً في القرية من زَيف الحضارةِ الحديثةِ والعولَمة المُستحدَثة، فإذا بالقريةِ تتحوَّلُ إلى أثرٍ بعدَ عين، أو إلى مجرَّدِ أغنيةٍ تُعيد إلى البالِ فِردوساً مفقوداً." (فاضل،2001، ص1) ومن المدهشِ حقّاً أن نقعَ في الشعر المهجريِّ الأستراليِّ على معجمٍ واسعٍ لألفاظِ القريةِ وأشيائها: السِّراج، الصاج، الناطور، الراعي، الغدير، الموقَده، الباب القديم، السْكملَه (الطاولة الصغيرة)، المزراب، الدملْجانِه (خابية عرق أو نبيذ)، فلنستمع إلى الشاعر المهجريِّ وهو يقول:
"لبنان يا ناطور يا راعي فقير             
يا مْروج خضرا يا زَنابق يا غدير
يا بيت سطحو تراب، يا خيمة قصب   
يا موقَدِه تِغْشى الضحك عالزمهرير..." 
(منصور، 2001، ص 21). 
   ففي هذين البيتين مجموعة من العناصر التي التصقت بالذاكرة، ولم تتمكَّن عناصرُ أخرى ضاغطة، كالمدينة، والنظامِ، والعولمة، والهُويَّة الثقافيَّة الجديدة على محوِها وإلغائها. ويَذكُر العديدُ من الشعراءِ المهجريِّينَ تصريحاً أسماءَ القُرى التي تركُوها وراءَهم، فلا يكادُ يخلو ديوانٌ من الحديثِ عن قريةِ الشاعر، أو القرى التي تجاورُها، كما تَشيعُ في القصائدِ المهجريَّة  عناوينُ غارقةٌ في المحلِّيَّة، مثل: بيتي القديم، الضيعة، بيتنا بلبنان، بيوت العتيقه، بيت أهلي، يا بيت سطحو تراب... وكذلك مواضيعُ عن شخصيَّاتٍ من القرية كالأمِّ، والجدَّة، والحبيبة، والفلاّح، والراعي، والكاهن... والعودةُ إلى هذه الأشياء هي عودةٌ إلى الذاتِ وشعورٌ بالراحة بعد التعبِ والضياع، فقد توقَّفت الذاكرةُ في حدود الماضي، ولم يعدِ الشاعرُ قادراً على تصوُّرِ العالمِ خالياً من ذكرياتِه الطيِّبة. فالعودة إلى القرية، ولو عن طريقِ الخيال، هي "فِردوسٌ لبنانيٌّ يشتاقُ إليه المهاجرُ كما يشتاقُ المؤمنُ إلى جنَّةِ الفردوس." (فاضل، 2011، ص 1)
   ولا يتوقَّفُ الشاعرُ المهجريُّ اللبنانيُّ في أستراليا عند حدود الشوقِ والتغنِّي بالعودةِ إلى الوطن، بل إنَّه يتناول أيضاً الموضوعَ السياسيَّ، وكأنَّه يعيشُ في لبنانَ ويشعرُ بما يجري فيه من أحداثٍ ومآسٍ.  
فها هو جورج منصور يخاطبُ وطنَه بحزنٍ ومرارة:
"يا موطني سنين القهر طلعو طْوال          
وصامد لحالَك عن بتتحدَّى الزوال
هاك الأيادي السود تركوها تْسُود          
وصابيعها تمسَح بمسحات الجمال." 
(منصور، 2001، ص 49)
   وعصام ملكي يبكي على وطنٍ أصبح دويلاتٍ وتَشرذمَ أهلُه، ويدعو الناسَ إلى الثورةِ على الواقع:
"يا شعبي الفيك تاريخك تَباهى          
عذابَك عم يعيش اليوم فيِّي...
الزعامه الفارغَه خَزِّق عَباها             
عَباها تفصّلت عالمَجدليِه
انتفِضْ عالشلّحو العيشِه صفاها         
انتفض عا التاجَرو بالطائفيـِّه...
بدنا بيوتنا تجدّد صِباها                  
بعدما ختيرت بالمدفعيِّه... 
(ملكي، 1999، ص 272)
   إنَّ عصام ملكي يعيش في هَمّ الوطن، ويعيش همُّ الوطن فيه، وصرختُه تخرُج من قلب مجروح، وكأنَّه هو الذي يُعاني من الزعامات، والطائفيَّة، والحروب. ومثلُ عصام ملكي يرفع شربل بعيني صوتَه إلى الشعب:
قاوِمْ يَا شَعْبِي قَاوِمْ
مُشْ حَقّ تْضَلّ مْسَالِمْ...
حْمَالْ بْإِيدَكْ سَيْف النَّارْ
وْوَقِّفْ عَ الشَّمْس سْلالِمْ
وْقِلاَّ: يَا بْلاد الأَحْرَارْ
رَحْ إِهْدِيكِي تَاج الْغَارْ
وْبَاقِةْ مُوسِيقى وْأَشْعَارْ
بِتْقَلِّقْ عَيْن الْحَاكِم. 
(بعيني، مجانين، majanin.blogspot.com)
   إنَّ هذه الصرخةَ إلى الشعبِ يُطلِقُها واحدٌ من الشعب، يعيشُ فيما بينَهم، ولم تأخذْه رياحُ الغُربةِ إلى البعيد. فالغُربة هي انتقالٌ شكليٌّ من مكانٍ إلى آخر، أمَّا ضميرُ الشاعر، فيبقى مخلِصاً لقضايا الناس، ويتفاعلُ مع هُمومِ أهلِه. 
   وهكذا نرى أنَّ الشاعرَ المهجريَّ ولبنانَ توأمانِ لا ينفصِلان، والشعراءُ اللبنانيُّون الأستراليُّون الذينَ حملوا 
الشعرَ في صدورِهم، ولم يترُكوهُ لأسبابِ الحياةِ الجديدة، أخذوا معهم أيضاً الشوقَ والحنينَ إلى قراهم، فأنشدوا في القريةِ وذكرياتِها وأشيائِها القصائدَ المُعبِّرة، وجعَلوا من الشعرِ جسراً رومنطيقيّاً يُعيدُهم إلى لبنان، فيتفاعلون مع أهلِه، ويعيشون في ظلالِه، ويتألَّمونَ لِما فيه من مآسٍ وأوضاعٍ مريرة.
2- الزجلُ مِنبر للتفاعُلِ مع المجتمع:
   إنَّ التفاعل مع المجتمع أمرٌ تحتِّمه ضروة الحياة، فمهما كان المرءُ غريباً عن مجتمعٍ ما، فإنَّه لا يستطيعُ الاستمرارَ إذا ما بقيَ منعزِلاً ووحيداً ومنفصلاً عن الهمومِ الإنسانيَّة التي تحيطُ به. والشعراءُ اللبنانيُّونَ في أستراليا وَجدوا أنفسَهم في بيئةٍ جديدة، لا يعرفونَ عنها شيئاً، وكانت هواجسُهم الأولى هي الاستقرارُ والعملُ والنجاحُ والأُسرةُ، وتبِع ذلك الانسجامُ التدريجيُّ مع المجتمعِ الأستراليِّ. وإذا كان الشاعر مرآةً لواقعه ومجتمعِه، فإنَّ الدواوينَ المَهجريَّةَ مليئةٌ بقصائدِ المناسباتِ من أفراحٍ وأتراح، بما تنطوي عليه من وقائعَ حياتيَّة، وأسماءِ أشخاصٍ وأماكن. وقد ذهب الشعرُ المهجريُّ بعيداً في التعبيرِ عن تفاعُلِه مع المجتمعِ العريض، فالشاعرُ شربل بعيني يقدِّم كتاباً كاملاً إلى أستراليا عنوانُه: "أغنية حُبٍّ لأستراليا"، يتغنَّى فيه بجمالِ أستراليا، ومدُنِها الرائعة. كيفَ لا؟ وأستراليا هي البلادُ التي احتضنته، واستقبلته، وكرَّمته، وكانت له وطناً ثانياً يعتزُّ به بين الأوطان:
"مِنْ أَوَّلْ نَظْرَه... حِبَّيْتِكْ
غِمَّضْتْ عْيُونِي وْخِبَّيْتِكْ...
يَا أُمّ... هْدِيتِينِي بَيْتِكْ
وِنْدَهْتِينِي بْإِسْم مْزَوْزَق... 
رَحْ خَبِّرْ عَنْ مَسْحِةْ زَيْتِكْ
عَنْ حُبِّكْ... عَنْ مَجْد مْعَتَّقْ
صِيتِكْ... فَوْق النَّجْم مْعَلَّقْ
كَفِّكْ خَيْرْ... وْإِسْمِكْ بَيْرَقْ"
(بعيني، أغنية حُبّ لأستراليا
  (lovesongtoaustralia.blogspot.com 
   إنَّ الشاعرَ يُعبِّرُ في هذا المقطع عن حبِّه لأستراليا ووفائِه لها، وتقديرِه للخيرِ الذي تمثِّله هذه البلاد. فأستراليا هي الحبيبة التي أغمض عينيه وأحبَّها، وهي الأمُّ التي أعطته بيتاً، وهي مسحةُ زيتٍ دينيَّة شافية، وهي الكرَمُ والخيرُ والمجدُ الذي يُعانق النجوم... وفي مزيجُ هذه الحالات المختلفة يصرِّحُ الشاعرُ بولائِه ووفائِه لأستراليا البلدِ العظيم. ويكون الشاعرُ هنا ناطقاً باسم الكثيرين من المهاجرين اللبنانيِّين الذين يحفَظون الجَميلَ لأستراليا، ويُقدّرونَها لِما أعطتهم من وسائلِ الحياةِ والنظام والحرِّيَّة.
   وعندما أقدم مُجرِمون ذات يومٍ على اغتيالِ جرَّاحِ القلبِ الشهير فيكتور تشانغ، وهو طبيبٌ أستراليٌّ نابغة، من أصولٍ صينيَّة، كَتب جورج منصور قصيدةً بعنوان "قتلو حكيم القلب" يقول فيها:
"يا تُرى مْن هالجُرم مين استفاد؟           
القتلوك ضاعو والجريمِه مْبيَّنِه...
وتا نقول إنُّو قلوبهُن قطعة جماد            
وفي بينَك وبينُن عداوِه مُزمِنِه
شو طالبين؟ لو يسألو كلّ البلاد           
كانت بْتفديك تا تخَلِّص دِني." 
(منصور، 2001، ص 241)
   إنَّ منصور يتفاعل مع قضيَّة الاغتيال بصورة طبيعيَّة، وكموطن أستراليٍّ تعنيه الإنسانيَّةُ والعدالة. فحادثةُ 
   القتلِ المشؤومة التي وقعت في الرابع من تمُّوز عام ألفٍ وتسعمئةٍ وتسعين، كانت كارثةً وطنيَّة، هزَّت الأوساط السياسيَّة والاجتماعيَّةَ في أستراليا. وقد يسألُ سائل: ما هو الدافعُ الذي يجعلُ من شاعرٍ لبنانيِّ كجورج منصور مثَلاً يتعاطفُ مع طبيبٍ صينيٍّ لا يعرِفُه ولم يرَ له وجهاً إلاَّ في الجرائد؟ والجوابُ هو: إنَّ جورج منصور هو مواطنٌ أستراليٌّ أيضاً، ويحمِلُ هُويَّةَ البلادِ التي يعيشُ فيها، وما الطبيبُ المذكور سوى واحدٍ من أبناءِ جِلدتِه. وفي هذا الانتماءِ الصادق، ترجمةٌ رائعةٌ لفكرةِ التعدُّديَّةِ الثقافيَّة التي تبنَّتها أستراليا كسياسة عامَّة، وهذه التعدَّديَّة تعترفُ بفرادةِ الثقافةِ لكُلِّ مجتمعٍ بمفردِه، ولكنْ تحتَ مِظلَّةِ الوطنِ الواحدِ والمواطنيَّة الشاملة، والنظام السياسيِّ القائم(Luner, 2007, p. 85) .
   وعندما فازت مدينةُ سيدني بشرف استضافة الألعاب الأولمبيَّة عامَ 2000، كتب جورج منصور قصيدة بعنوان "سيدني سَبَقتي العصر" أكَّد فيها على محبَّته للمدينة التي تضمُّ الشعوبَ إلى صدرِها من غير تفرقة ولا تمييز:
"من كلِّ شعب وكلّ عرق ولون           
عا حضنِك الدافي ملفَّايِه
وبْمطلع الألفين كلّ الكون                  
ضَبّ الشنط ومولَّف وجايي."
(منصور، 2001، ص 246)
   وفي هذا الكلام القليل، يلتفت الشاعر إلى موضوع التعدُّديَّة، حيث أنَّ سيدني هي مدينةٌ متنوِّعة، تضمُّ الأجناسَ والأعراقَ والألوانَ جميعاً من غيرِ تفرِقةٍ ولا تمييز. لكنَّ الشاعرَ نفسَه يُشيرُ إلى مواضيعَ سلبيَّة في المجتمع، لا تتناسبُ مع قناعاتِه وتربيتِه، وتقاليدِه الموروثَه، فها هو في الحافلة المُزدحِمة بالرُّكَّاب يتفاجأُ بفتاةٍ في مُقتَبَل العمر، تُعاني من السُّكْر والمُخَدِّر، فيكتُبُ قصَّتها بقلبٍ مُوجَع ونغَمٍ حزين: 
"قعدِتْ عَ كرسي "الباص" سكرانِه              
 تْحاكي الفَضا وتعدّ نجماتو
فستانها الخمري الأرجْواني                         
مَدعوك ما بتنعدّ طيَّاتو...
سارحَه بِ كونْها التاني                            
تضحك وتبكي بالوقت ذاتو...
وعمرها إن كتَّرتْ عشرين                        
سرار الدني بتجهل معانيها
علْقتْ ما بين دياب جيعانين                      
وتاركه البيتِ المربِّيها...
تجَّار كفْرو بالدني والدين                          
وأجيال عم بِيدَبّْحو فيها." 
(منصور، 2001، ص 101)
   إنَّ مشهد الفتاة المخدَّرة لا يتوافقُ مع رؤيةِ منصور لمجتمعٍ بريء ونقيّ. فهو يصِفُها كضحيَّةٍ للإنسانيَّة العمياء، ولتجَّارٍ كافرين، لا يؤمنون باللهِ ولا بالإنسان، يَذبحون الأجيال ويدفعونَ بها إلى المصير المظلِم.
   ويبدو شربل بعيني على مسافة قريبة من منصور في التفاتِه إلى قضيَّة المُخدِّرات الشائعة في المدينة، فتراه يصفُ الحشَّاش الذي يتلذَّذُ بفعلتِه، غيرَ آبهٍ بالموت الذي يتربَّص به: 
"حشَّاشْ.. عَمْ تِشْرَبْ جُنُون وْسَمّْ             
تَا تِنْتِشِي، وْبَسْط الْخَلِيقَه تْلِمّْ
مِتْل الْقِرِدْ عَمْ تِلْحَس الْمبْرَدْ                    
مَبْسُوطْ... لكِنْ مِخْتِنِقْ بِالدمّ." 
(بعيني،roubaiat.blogspot.com)
   إنَّ مشهد الحشَّاش في الشوارع الأستراليَّة، في الحدائق وعند محطَّاتِ القطار هو مشهدٌ مألوف. والشاعرُ يبدي غضبهُ وإشفاقَه على الضحيَّة التي تسيرُ بإرادتِها إلى الموتِ المحتوم. 
   ويلتفت شربل بعيني إلى مسألةٍ خطيرةٍ أخرى، أكثرَ خصوصيَّة، بل أقربَ إلى المجتمعِ اللبنانيِّ تحديداً، وهي مسألةُ "الزعامةِ" المحلِّيَّة، حيث أنَّ عشراتِ اللبنانيِّينَ في أستراليا مهووسونَ بحُبِّ الظهور، وبالكراسيِّ، وقد أنشأوا لكلِّ بلدة ومدينةٍ وقريةٍ جمعيَّة، ولكلِّ طائفةٍ مجلساً، ولكلِّ اتِّجاه مؤسَّسة تُجاهرُ بتمثيلِ الجالية:
"وْبَدَّك الْكِرْسِي تْكُونْ مِنْ قِدَّامْ           
تَا تْعَرِّمْ... وْيِنْقَالْ عَنَّكْ بَيْكْ
أَكْبَرْ شَرَفْ بِتْنَالْ لَوْ بِتْنَامْ                 
تَا نْقَعِّد الْكِرْسِي شِي مَرَّه عْلَيْكْ." 
(بعيني، رباعيَّاتroubaiat.blogspot.com)
   بهذه اللغة الساخرة يُخاطب شربل بعيني جماعةَ المتزعِّمينَ، الذينَ لم يكن لهم دورٌ في قُراهم قبل أن يُهاجِروا، وكانوا خاضِعين لزعاماتٍ محلِّيَّة في مناطقِهم، فاستفادوا من مُناخِ الحرِّيَّةِ في أستراليا، لينتقِموا من الماضي، ويُصبحوا هم زعماءَ في مجتمعٍ لا يُحاسِبُ ولا يُراقب، بل إنَّ شرعيَّتَهم مُستَمَدَّة من اعترافِ الحكومةِ الأستراليَّةِ بالمؤسَّساتِ والجمعيَّاتِ اللبنانيَّة الكثيرة، ومن الإعانات الماليَّة التي تُخصِّصها الدولةُ الفيدراليَّة لتلك المجموعات. فزعماءُ الجالية يحاولونَ الحصولَ على الاعترافِ بزعاماتِهم الاثنيَّة، من قِبلِ ممثِّلي السلطة، واستمرارِ دعمِ السلطةِ لهم مادِّيّاً، عَبر المِنَحِ والهِبات (بول طبر وآخرون، 2000، ص 200). ويُسمِّي طبر الطبيعةَ التنافسيَّة لتمثيلِ الجالية في أستراليا بمشكلة "الوَجاهة" أو المِيزة الاجتماعيَّة التي توفِّر للأفراد الاحترامَ في بيئتِهم الاجتماعيَّة، وتخوِّلُهم لعِبَ دورٍ بارز في إدارة شؤون الجالية (طبر وآخرون، 2000، ص 196)، فباتوا زعماءَ بصفتهم ناطقينَ باسم الجالية (طبر وآخرون، 2000، ص 194). وكان من الأفضل، في نظر شربل بعيني على الأقلِّ، لو أنَّهم ينامون كأهلِ الكهف، لكي ترتفِعَ الكراسيُّ عليهم.
   وإنَّنا نستمعُ إلى صوتِ الشاعرِ المهجريِّ المنتقدِ لهذا الوضعِ الاجتماعيِّ الخطير، كأنَّنا نستمعُ إلى صوت ابن الرومي في هجائِه المقذِعِ للأوضاع الاجتماعيَّة المتردِّية في العصر العبّاسيّ، وفي نقدِه الواقعيِّ والجارحِ لشخصيَّاتٍ كوميديَّةٍ ناشزة. وها هو عصام ملكي يشنُّ حرباً شعواءَ على دكاكينِ السياسةِ اللبنانيَّة المفتوحةِ في سيدني على مدار الساعة، تبيعُ الناسَ كلاماً، ولكنَّها في الحقيقة لا تؤمِّن إلاَّ المصالحَ الضيِّقة 
للتجَّار والمتاجرين:
"فُلان بْيشمَخ وحضرة جَنابو        
شو هُوِّي مْن البشر تخمين ناسي
بِفضل تنين من خيرة صِحابو        
"تجمُّع" فبرَك وجاب الرئاسه...
ما بدنا نسايرو ولا نْدقّ بابو        
وما بدنا نسمع خبارو لأنُّو
انعرف للعجرفِه مرجَع أساسي." 
(ملكي، 1999، ص 67)
   بهذه الكلمات القليلة يُضمِّن الشاعر مجموعةً من الحقائق الواقعيَّة، فبعضُ الناس من حديثي النعمة تنكَّروا لماضيهم، وباتوا يشمَخون على الآخرين، بعد أن استطاعَ "فُلان" مع اثنين من أصدقائه أن يَطلبوا رُخصةً لإنشاءِ تجمُّع، فعيَّنُوهُ رئيساً عليهم. وهذه الحالُ متفشِّيةٌ في المجتمعِ اللبنانيِّ الأستراليِّ، في ظلِّ التساهلِ الذي تُبديه الحكومة الفيدراليَّة بشأن إعطاءِ التراخيصِ لتشكيل الجمعيَّات، وبعضُ تلك الجمعيَّات تكاد تكون فارغةً من أعضائِها ما عدا الرئيسَ الذي يمثِّلها في المآدبِ والحفلاتِ والمِهرجانات.
   ويُخبِرُ الشاعر عصام ملكي قصَّةَ شعريَّةً بعنوان "عديم"، يتناولُ فيها مَن جاء إلى أستراليا فقيراً، وعندما احتوى المالَ كيسُه تمرَّدَ، وتنكَّرَ لأصحابِه:
"متل العسل أوَّل دخولوكان         
وقت اللي كانو يْصَوْفرو جيابو
وكان بكَلامو يفتِّح العميان          
وبالإحترام يطُوف مزرابو
وهلَّق ما عاود من بَني الإنسان       
لمَّا بَرم بالحظّ دولابو
قال المتَل: صار الصبي جهلان        
وللمَال يمكن طعْجت ركابو."
(ملكي، 1999، ص 70)
   إنَّه وصفٌ للإنسانِ الذي يأتي إلى أستراليا، باحثاً عن عملٍ وأصدقاء، وبيت يُؤويه، فيكونُ قمَّةً في الاحترام والتعاطي الإيجابيِّ مع الآخرين، غيرَ أنَّه عندما يستلِمُ وظيفةً ويشتري بيتاً، يتحوَّلُ إلى إنسانٍ ناكرٍ للجَميل، ومتنكِّرٍ لمن احتضنَه وساعدَه وشدَّ من أزرِه.
   ومثلُ هذا "العديم" "عديمون" آخرون يَصبُّ الشاعرُ جامَ غضبِه عليهم، ومنهم مَن كان يشتغل في محطَّة للوَقود، فابتسمت له الدنيا، وأصبح من الأثرياء، أو مَن تاجَرَ بالمخدِّرات، فتغيَّرت أحوالُه، وأصبحَ من المتقدِّمينَ في المجتمع:
"العاشو عُمر بين الشحم والزيت        
نسيُو بإنُّو رفاقهُم كنَّا...
وهلِّي ببيع "التلج" ابن فلان             
بْيهرُب من سْلامات إيديْنا." 
(ملكي، 1999، ص 64)
   إنَّ لفظة "ثلج" هي من الألفاظ المتَداوَلة في أوساطِ الجاليةِ اللبنانيَّةِ في أستراليا، وتُستخدَمُ هذه اللفظة للإشارةِ إلى مهرِّبي المخدِّرات أو مروِّجيها، ويُسمَّى تاجرُ المخدِّراتِ مَجازاً بتاجر "الأبيض".
   ومهرّب المخدِّرات هذا يخاطبُه شربل بعيني بلهجة ساخرة، فهو المشهور الذي ترافقُه النساء، وهو الرجُل الذي لا مثيلَ له بينَ الرجال:
"مْهَرِّبْ حَشِيشِه، قَاتِلْ مْلايِينْ        
بْمَسْحُوقْ مِتْل السَّمّ، نِيَّالُو
فَاتِحْ مَطَارْ مْرَافَق الْحلْوِينْ             
وِالصّدقْ وِالإِخْلاصْ رِسْمَالو
زِلْمُو، يَا رَبِّي تْزِيدْ، بِالْمِيَّاتْ         
بِيخَوّفُوا الطُّرْقَاتْ وِالسَّاحَاتْ...
هَيْك الرّجَال تْكُونْ يَا رَبِّي            
تَاجْرُوا وْرِبْحُوا بوَزْنَاتَكْ
وْإِنتْ لَوْ مَا تْكُونْ مِتْخَبِّي             
كِنْت ظْهَرِتْ لِلنَّاسْ ضَرْبَاتَك." 
(بعيني، مشِّي معي mashsheemaee.blogspot.com)   
   وهكذا يمضي الشاعرُ المهجريُّ في تصويرِه لطائفةِ الناس الذين فقدوا القيَم، فباتَ المالُ شغلَهم الشاغل، فهجرتِ المحبَّةُ قلوبَهم، وأصبحت الصداقةُ الحقيقيَّةُ أثراً بعد عين. فلنستمعْ إلى جورج منصور وهو يتحدَّث عن الصديق الذي تنكَّر لعهد الوفاء، في زمن المادَّة والتهافت على الثروة، فبات يتكبَّر على الناس الذين يراهُم أقلَّ منه شأناً:
"وعندك صديق التحق بمْواكب التجَّار         
وبيقول: كلِّ الغِنى من وحي إلهامي
سرسَب "مدير البنك" والحبل عالجرَّار         
وماشي وفوق البشر راسو عِلي قامِه...
بِيردّ من دون نفَس: شطِّب ع هالأخبار   
 هَودي يا خيِّي بشَر منهُن مِن مْقامي." 
(منصور، 2001، ص 31)
   وعصام ملكي يعتبر الصداقة غايات، والصديقُ الوفيّ مفقودٌ، أمَّا ثمنُ المعاملة الإنسانيَّةِ فينبغي أن يُدفَع لتستقيمَ الأمور، وتتواصلَ مسيرةُ الحياة:
"بْحيث الصداقه كلّها غايات             
ما منسمع الأهلا وَسهلا غير
 ما يكون فينا حقّها ندفَع...
جْناح الصداقه صارت بلا ريش
وعا كلّ وبرَه هَرِّت مندْمَع." 
(ملكي، 2004، ج 2، ص 83)
   لقد زالت الصداقة وقيمتُها الإنسانيَّة، وحلَّت محلَّها عناصرُ المادَّةِ في مجتمع استهلاكيٍّ، يتسابقُ فيه الناس 
على امتلاك البيوت، والأراضي، متنكِّرين للأصالةِ التي توارثوها عن آبائِهم وأجدادِهم. وهذا التصويرُ 
للواقِع الأليم، هو تصويرٌ صادق، يرتفعُ بالشعرِ الزجليِّ من قيمةٍ فنِّيَّةٍ وتُراثيَّةٍ وثقافيَّةٍ إلى حدودِ التعبيرِ عن الحياةِ، وما يواكبُها من أوضاعٍ اجتماعيَّةٍ وهمومٍ إنسانيَّةٍ كبيرة. والشاعرُ المهجريُّ هُنا لا يكونُ شاهداً صامتاً على العصر، بل يكونُ صوتاً صارخاً في ضمائرِ الناس، فهو من جهةٍ ينتمي إليهم، ويعيشُ بينَهم، ومن جهةٍ ثانيةٍ ينتقدُ طرائقَهم في الحياة، ويعلِنُ عصيانَه على الأساليبِ الملتوية، والأوضاعِ الشاذَّة. وهذا التفاعُل مع المجتمع يبدو كسيفٍ ذي حدَّين، إذ أنَّه يَطبعُ الشاعرَ بطابَعِ الصدقِ والأمانةِ في نقلِ الواقع، ومن جهة أخرى يضعُه أمامَ مسؤوليَّةٍ صعبة، فيصبحُ منبوذاً ومُطارَداً من فئةِ الناس الذين لا تروقُ لهم انتقاداتُه اللاذعة، خصوصاً أنَّ هؤلاءِ الناس يشكِّلونَ فئةً واسعةً، وقائمةً بذاتِها في المجتمع العريض.
خاتمة وتقويم: 
   وهكذا يتَّضح لنا أنَّ شعر الزجل رافق المهاجرين اللبنانيِّين إلى أستراليا، وطبعَ حياتَهم الثقافيَّة، وشكَّل 
قيمة ثقافيَّة وحضاريَّة وفنِّيَّة في مجموعة القيَمِ والتقاليد والعادات التي تمسَّكوا بها. وعبَّر الشعراءُ عن آرائهم وهمومِهم من خلال اللغةِ الحيَّةِ التي يُتقنونَها، مع العلم أنَّ بعضَهم كتب شعراً باللغة الفُصحى، كشربل بعيني وعصام ملكي، ولكنَّ نسبةَ الشعرِ الزجليِّ تفوقُ إلى حدٍّ كبيرٍ نسبَةَ ما كتبوه بلغةِ العرب العارِبة، فإنَّ "الشعور بالحياةِ وإدراكَها الكامل لا يكونان تامَّين إذا عبَّرتَ عنهما بغيرِ اللغة الدائرة على الألسنة، وبهذا يثيرُ شاعرُنا العامِّيُّ النفوسَ إثارة يعجَزُ عنها أكبرُ شعرائنا الرسميِّين." (مارون عبُّود، 1986، مج 2، ص 350)
   وقد تناول شعراء المهجر في زجلهم جميعَ الأغراضِ الشعريَّةِ المعروفة، من مناسبات، وغزل، ووصف، وفخر، ووطنيَّات... ولكنَّ الحنينَ إلى الوطنِ هو من السماتِ المميِّزةِ لهذا الشعر، ولا غرابةَ في ذلك، فـ"في الغُربة شعورٌ بالاتِّصال الناقصِ مع التراب، ولو على قدر، شعورٌ بالانفصال الجسديِّ، والتعويض عنه بالاندماج الروحيّ." (أبي ضاهر، 2010، ص 18). وقد ارتدى شعراءُ المهجر الأستراليِّ أجنحةَ الشوقِ وطاروا بها إلى قراهم وأهلِهم وحقولِهم، فكأنَّ أرواحَهم ما تزالُ قائمةً في الماضي، وصارخةً بين جنباتِه، كما أنَّهم لم يبتعدوا عن واقعِ لبنانَ السياسيِّ، في الحرب والسلمِ والأزماتِ المتتالية، فكتبوا شِعراً وطنيّاً وسياسيّاً يتماهى مع هذا الواقع، ينتقِد، ويتألَّم، يُشارِكُ أهلَه المقهورينَ في الأرض البعيدة.
   وإذا كان تأقلُمُ الفردِ مع البيئةِ التي يعيشُ فيها ضرورة، فمن الطبيعيِّ أن يلتفتَ الشاعرُ إلى مسائلَ وهمومٍ تخصُّ مجتمعَه العريضَ أوَّلاً، ومجتمعَه الخاصَّ بدرجةٍ ثانية. وهذا ما فعلَه شعراءُ المهجرِ الأستراليِّ الذين كتبوا عن أستراليا ومآثرَها وقضاياها، وانتقدوا المظاهرَ الاجتماعيَّةَ الشاذَّةَ التي تميِّزُ حياةَ اللبنانيِّين في القارَّةِ النائية، وأهمُّ تلك المظاهر: حبُّ الوجاهة والنفوذ، وكثرةُ الجمعيَّاتِ والمجالس التي يَدَّعي كلُّ واحدٍ منها أنَّه يمثِّلُ الجاليةَ اللبنانيَّةَ خيرَ تمثيل، ناهيكَ عن الغِنى بعدَ الفقر، والتكبُّر، والتنكُّر للمعروف، وزوالِ الصداقةِ والوفاء، والتخلِّي عن الأصالة... وهذه المواضيعُ ليست من نسج الخيال، بل هي وقائعُ موجودة، والذي يزورُ أستراليا، يلاحظُها ويُدرِكُ مخاطرَها. وفي هذا الانسجامِ بين الواقع والشعر، يكونُ الزجلُ ترجمةً صادقة للحياة، ومرآةً تُظهِّرُ الأوضاعَ المتردِّية، فالزجلُ بشكل عامٍّ "ينقل جوانب الحياةِ جميعَها، ويعكس الأحوالَ الاجتماعيَّةَ والسياسيَّةَ والاقتصاديَّة." (بولس، 2010، ص 1) وقد التزم شعراء الزجل في أستراليا بهذه الموازنة بين الفنِّ والواقع، فقدَّموا لنا شعراً واقعيّاً يتحدَّثُ عن العالم بلغة واضحة، يفهمُها جميعُ الناس على اختلافِ ميولِهم وثقافاتِهم.
المصادر والمراجع العربيَّة:
- أبي ضاهر، جوزف (2010). أنطولوجيا زجل الاغتراب اللبنانيّ 1900-2000. ذوق مصبح:
منشورات جامعة سيِّدة اللويزة.
-بعيني، شربل. أغنية حبّ لأستراليا. موقع:
                                       lovesongtoaustralia.blogspot.com 
مجانين. موقع:
 majanin.blogspot.com
ابن مجدليَّا. موقع:
ebenmejdalaya.blogspot.com              
رباعيَّات. موقع:
roubaiat.blogspot.com                                  
  مشِّي معي. موقع:
mashsheemaee.blogspot.com                       
-بولس، حبيب (2010). الشعر العاميُّ الشعبيُّ: ميزاته، فنونه ونوادر شعرائه. موقع:
 jamalia.com 
- تودوروف، تزفيتان (1986). نقد النقد. ترجمة سامي سويدان. بيروت: مركز الإنماء القوميِّ.
- حرفوش، نبيل (1974). الحضور اللبنانيُّ في العالم، ج1، لا ناشر.
- الخويري، أنطون بطرس(2011). تاريخ الزجل اللبنانيِّ. بيروت: دار الأبجديَّة ومركز الإعلام والتوثيق.
-طبر، بول، كولينـز، جاك وآخرون (2000). اللبنانُّون في أستراليا- قراءة في الهويَّة والعنصريَّة في زمن العولمة. ترجمة حسن الشيخ. بيروت: دار مختارات.
-عبُّود، مارون (1986). المجموعة الكاملة، المجلَّد الثاني. بيروت: دار مارون عبُّود.
-عون، طنُّوس (2001). موسوعة الهجرة اللبنانيَّة، الكتاب الأوَّل: بداية الهجرة وتطوُّرها. ملبورن: لا ناشر.
-فاضل، جهاد (2011). أدب الحنين إلى القرية والريف في لبنان. جريدة الرياض. 29 كانون الأوَّل. 
العدد 15893. موقع:
  alriadh.com
-ملكي، عصام (1999). الديوان الملكي. سيدني: لا ناشر
(2004). الديوان الملكي، ج 2. سيدني: الناشر عماد الحاج.
(2009).الديوان الملكي، ج 3. سيدني: الناشر نديم أحمد.
-منصور، جورج (2001). بيادر الحنين. سيدني: دار المنشورات اللبنانيَّة.
الأجنبيَّة:
-Batrouney, Trevor (2002). From White Australia to Multiculturalism. In Arab-Australians Today: Citizenship and Belonging. Ghassan Hage ed. Melbourne: Melbourne University Press.
-Batrouney, Andrew and Batrouney,Trevor (1985). The Lebanese in Australia. Melbourne: AE Press.

-Humphrey, Michael (2002). Injuries and Identities: Authorizing Arab Diasporic Difference in Crisis. In: Arab Australian Today. Ghassan Hage ed. Melbourne: Melbourne University Press.
Luner, Beata (2007). Migration, Multiculturalism and Language Maintenance in Australia. Bern: Peter Lang.
-Primoratz, Igor and Pavkovic, Aleksandar (2007). Patriotism. Hampshire England: Ashgate Publishing Limited.

-Smith, Laurajane (2006). Uses of Heritage. London: Rutledge.
**
الطربوش : عمل مسرحي ثالث على مسرح مدرسة سيدة لبنان
    
   أدى حوالي 600 طالب وطالبة من مدرسة سيدة لبنان الابتدائية النص المسرحي الذي وضعه الشاعر شربل بعيني وذلك في خلال ساعتين من الزمن.
   والامور التي لفتت النظر فعلا بساطة المسرح والديكور والاضاءة وبراءة الاطفال الذين تنادوا لاسقاط الطربوش رمز الظلم والاستبداد والطغيان العشائري.
   والواقع ان المسرحية التي اخرجها ايضا الشاعر شربل بعيني، استطاعت ان تعبر عن فكرته القديمة المتجددة التي كونها عن الواقع السياسي الرتيب في وطن دفع غاليا ثمن لعبة الطرابيش والكراسي والمؤامرات.
   وإذا كان شربل بعيني قد وجد نفسه مقيّداً في أمور كثيرة، منها اضطراره لإظهار 600 طفل في مسرحيّة واحدة، مما يعني اضطراره أيضاً لمراعاة قدرة الأطفال على الحفظ والأداء.. فإنه في الوقت نفسه استطاع أن يقدّم عملاً جيّداً، وفي أحيان كثيرة تمكّن من اختراق السقف الذي حددته له قدرة هؤلاء الشبّان، كما في المقطع الذي دار بين "البصّار" والفتاة التي تبحث عن عريس.
   ولعل ما شدني للمسرحية فهم البعيني للاسطورة الشعبية في مشاهد عدة، ربما عن قصد أو غير قصد، وعودته للاصول الشرقية التراثية، أي الاصالة التي ستقتحم الفن من جديد، وتحطّم الاصول الجديدة الفارغة.
   حضر المسرحية حوالي الالف مشاهد من آباء أجلاء وراهبات فاضلات ورجال فكر وادب وصحافة وغيرهم.
   وقد غنت الطفلة ريما الياس في المسرحية اغنيتين جديدتين: يا حمام، من الحان ادغار بازرجي، وأمي، للملحن مجدي بولس. ومما يذكر ان الاخت مادلين ابو رجيلي قد ساعدت على تنظيم مسرحية "الطربوش" التي خرج منها الجمهور مشاركاً الصغار براءتهم، ومنتقلاً الى عالم الثورة على رموز الجهل والموت.
صوت المغترب، العدد 1060، 21/12/1989
**
الهجاء العام والفردي في مسرحيّة "هنود من لبنان" لشربل بعيني
   
   في أول بحث له، وهو مبحث في الهجاء عند ابن الرومي، يتوصّل أستاذنا الجليل الدكتور عبد الحميد جيدة إلى حقيقة مفادها أن الهجاء ليس غرضاً فنيّاً يرمي إلى الإقذاع المباشر أو اللامباشر، بل هو فن من الفنون التعليمية التي تهدف الى اصلاح الانسان خاصة والمجتمع عامة.
   وليس الهجاء ـ حسب ما أرى ـ تعبيراً عن نزعة انحطاطية في نفس صاحبه، ولا هواية سلبية تعتمد على التجريح بالآخرين وتحقيرهم، إنما هو، في أغلب صوره، وسيلة من الوسيلات الفنيّة الراقية التي تصل الى الهدف الأكبر (المجتمع) حيث يعالج الشاعر نواقص معينة فيهاجمها ويحقّرها لتخرج من الاطار السلبي الى اطار آخر أكثر إيجابية وفائدة.
   ومن هذه الحقيقة الملتصقة بفن الهجاء يبرز الترادف العميق بين ما يسمى بالكاريكاتير وبين الهجاء. فالرسام الكاريكاتوري هجّاء مقذع، ولكنه ليس شتّاماً وإلا لكانت الصحف تحجم عن وضع رسومه على صفحاتها.
   وإذا كانت الفنون الأخرى ـ عالمياً ـ لا تتوسّل الهجاء رافداً أساسياً، فإن العرب في فنونهم الخطابية يسترفدون الهجاء ويجعلونه غاية للوصول الى الهدف بحيث لا يكون هو الهدف بحد ذاته بقدر ما يكون عاملاً أساسياً لايصال الفكرة في فن الخطابة (حلوم الأطفال وعقول ربّات الحجال) وطريقاً لقلب الأوضاع الاجتماعية والسياسية في المسرح (مسرح الكوميديا العربية عامة).
   لنعد إلى مسرحية عربية قدّمت على مسرح سيدة لبنان هاريس بارك بأوستراليا من ضمن نشاطات مدرسة راهبات العائلة المقدسة المارونيات لعام 1991، واشترك في تقديمها عدد كبير من تلامذة المدرسة.. وقد توكّأ كاتب المسرحية الاستاذ شربل بعيني الى "الهجاء" كمفهوم فني إصلاحي تارة وشعبي تارة أخرى، ليقدم لنا مسرحية لا تعتمد على الهجاء ـ طبعاً ـ كنصّ إنما تعتمده كرافد من الروافد المتعددة التي تلقّفها النص سواء أكانت درامية أم كوميدية.
   ونستطيع من خلال نظرة معمّقة على النص الأساسي للمسرحية تقسيم "الهجاء المسرحي" الذي اعتمده شربل بعيني الى عناصر هي:
1ـ الهجاء الاجتماعي: 
   هو الهجاء الذي ينصب على المجتمع ليطارد ما فيه من عيوب ومساويء فيهاجمها على طريقة الهدم للبناء رغم ان "الحل ـ البناء" ليس مطروحاً من الكاتب، بل هو متروك لتقدير المشاهد نفسه.
   ويتجه الهجاء الاجتماعي نحو الـ "نحن" بدلا من الـ "أنتم"، فالنمط الأدبي الذي عرف به شربل بعيني في شعره انتقل الى نصّه المسرحي مرتداً الى الذات "الجماعية":
ـ مين منّا مش كافر؟ اللي حرق بلادنا شو؟
ـ اللي قتل ولادنا شو؟
ـ اللي دبح ع الهويّه شو؟
ـ اللي سدّ بوزو وبلادو عم تحترق شو؟
ـ اللي ترك مرتو وولادو صيصان شو؟
ـ اللي سرق خيّو تا يجمّع مال حرام شو؟
ـ اللي تاجر بالحشيشه شو؟
ـ اللي بيكذب مية كذبه بالدقيقه شو؟
ـ اللي شوّهوا تعاليم الأديان شو؟
   بهذه الصورة الإجمالية يقدم شربل صورة المجتمع ـ الانحطاطي الذي سادته نزعات المادة والخيانة والاجرام ليصبح بؤرة للفساد والتخلّف، وينحدر الوطن إلى دركات اليأس بعد أن كان وطن الحضارة:
ـ ليش ضلّ عنّا حضاره تا ننشرا؟
   ولكن شربل يحصر المشكلة الأساسية التي أدّت الى ضياع المجتمع ـ الوطن بالخيانة:
ـ لولا الخيانة كنا أحسن ناس بالشرق الأوسط
   فشربل ليس رجل سياسة ليدخل الى ماورائيات "النظام العالمي القديم ـ الجديد" الذي يضع الخطط والاستراتيجيّات ويخلق المنفذين، بل هو يكتفي بكلمة "خيانة" ليستحوز على جميع مصادر الانحطاط دون تسميتها بأسمائها.
2ـ الهجاء السياسي:
   يمزج نص مسرحيّة "هنود من لبنان" بين الهجاء الاجتماعي والهجاء السياسي بشكل ظاهر.
   فغياب الرمز ـ الحاكم عن أغلب فصول المسرحية نقل الهجاء من هذا الرمز لينصب على حالة الوطن عامة، ويتناول "الجماعة" في قالب كاريكاتوري ساخر:
ـ هودي الجماعه ما بيركبوا إلا ع الوطنيّه..
   وهؤلاء هم الحكّام الذين "إذا ما لقيوا شي تا ياكلوا بياكلوا ولادنا".
   ولا يتورّع الكاتب عن توجيه الاهانة إليهم:
ـ تفوه عليهن وع وزارتن..
   كما انه ينعتهم "بالمجرمين":
ـ حكّامنا مجرمين وشعبنا فقير..
   وهكذا يتراءى ان الهجاء السياسي ليس منصبّاً على الرمز "أتلا" "نيرون" أو أية شخصيّة أخرى، فغياب الشخصيّة التي ترافق المسرحية دائماً جعل الهجاء يتصل بجماعة يعتبرهم الكاتب مسؤولين عن الكوارث والنكبات التي حلّت بالشعب وهدمت الوطن.
3ـ الهجاء الأممي:
   وهو أشمل أنواع الهجاء وأعمّها وقد حاول شربل ـ لماماً ـ أن يتوكأه من منظور سياسي لتبيان أن العالم سخّر الدين في سبيل تسخير الانسان لقتل أخيه الانسان:
ـ حروب الدني كلاّ، كان ألله يتدخّل فيها، وكل الأطراف كانت تستنجد فيه، وبس يموت حدا منن بيسموه شهيد، وبيستأجرولو شقّه بالجنه: آكل، شارب، نايم، قايم ع آخر طرز.
   فالحروب من صنع الانسان، والانسان سوّغ الاعمال العسكرية تارة باسم الشرف، وتارة باسم الوطنيّة، وأطواراً باسم الدين.. ووصل به الامر الى تحضير منازل في الجنة لمن يسميهم شهداء، وكل ذلك انما هو من باب التلويح بالسعادة جزاء للاشقياء الذين يتذابحون من أجل نصرة الحاكم فيزدادون حنقاً وتطول الحروب. وكأني بشربل ينتقم من العالم عندما يقول:
ـ مأكّد طرشان.. ولو ما يكونوا طرشان كانوا سمعونا عم نبكي..
   ففي هذا الهجاء الذي لا يوجهه كاتب المسرحية الى العالم مباشرة تبرز حقيقة الأوطان الضائعة بين رياح السياسة ونيران الحروب لتبقى ضحيّة الانتظار، فلا من يسمع، ولا من يستجيب، لأن قدر الصغار أن يظلّوا وقوداً لسياسات الكبار وشهواتهم.
4ـ الهجاء الشخصي:
   وهو الهجاء الذي ينصب على شخص بعينه فيبيّن علاّته وأخطاءه:
ـ نعمان دمّله بهالمجتمع لازم نفقيا تا ينام المجتمع مرتاح..
   ولكنه يصبح هجاء في غير محلّه عندما لا يكون له مردود أخلاقي أو إصلاحي كالقول:
ـ ما لقيت تنقي إلاّ هالبهيم؟
   أو:
ـ بنت زمرّد لازملا نقع بالكربونات قبل ما حدا يستحليها..
أو:
ـ شبّ قد عجل البقر..
   ولعلّ هذا الهجاء جاء للترويح عن نفس المشاهد حينما خلت المسرحيّة، أو كادت، من المشاهد الكوميدية الخالصة. ويصل استعمال الهجاء على هذا المستوى الى حدّ التناقض، فالشاب الذي "قد عجل البقر" هو شاب "مثل القمر"، وهذه المراوحة بين الثناء (الغزل) والهجاء، اضافة الى كون الهجاء لم يغيّر في الحدث أو يطوّر المسرحيّة ويغيّر اتجاهها، بل جاء زائداً على النصّ ومن خارجه، أساءا الى العمل بشكل ظاهر.
   ويبدو من كل ما سبق ان مسرحيّة "هنود من لبنان" اتجهت الى الهجاء كرافد من روافدها ـ فهي ليست في الأصل مسرحية نقدية ولا توسلت الهجاء هدفاً ـ لأن المبنى العام يرتكز على التقاء شعبين من حضارتين مختلفتين أولاً، وعلى قصة حب بين إنسانين يفترقان في الحضارة التاريخية، ويلتقيان في الحضارة الانسانية الجامعة.. فلم يكن للهجاء دور أساسي، بل كان معتمداً بطريقة تداخلية مع النصّ رامياً الى الاصلاح الاجتماعي والسياسي والفردي من ناحية، وقاصراً في شقّه الفردي عن إصابة الهدف كما يجب، فجاء هنا غير مقنع إلا في كونه نقلاً لألفاظ يستخدمها العامة في الوصف البدائي كلفظتي "بهيم ـ وقد عجل البقر". وكم أتمنى على شربل أن يتجنّب في مسرحيّات أخرى هذه الألفاظ التي يمكن استبدالها بألفاظ أخرى أخف وقعاً وأطيب معنى وأسمى مقاماً، وخصوصاً أن النص لا يتطلبها أو يفرضها، وهي ليست أساساً ضرورياً من أسسه الفنية "والحدثية".
صوت المغترب، العدد 1337، 18/7/1991
**
جولة في شعر شربل بعيني
   
   من أجمل المصادفات أن تلتقي شاعراً، تحسّه بعضاً منك، أو تحسّك بعضاً منه، وترى في كلماته شيئاً من فكرك، واغتقادك وثورتك، فتروح تقلب صفحاته في شغف، كأنك تبحث عن شيء ضاع منك، فتنسى أن ما تقرأ ليس لك، ولكنك لسبب تجهله ظنتته لك، ونسبته إليك، واتهمت صاحبه بأنه أخذه من دفترك، في ساعة طمع وتعدٍ.
   هذه حكايتي مع شاعر، لم أعرفه من قبل، صعقت عندما قرأت له: 
لم نعد نرضى بأن تزغرد الأعراس في قصورهم،
وتنتحب في حيّنا المآتم..
لم نعد نرضى بأن يعيشوا رغدهم،
والشعب، كل الشعب، باللقمة حالم
لم نعد نرضى بأن نضمّد الجراح
أو نبتلع المظالم.
   وهرعت إلى أوراقي التي حملتها معي من لبنان، لأقرأ:
قلبي على بائسة،
باعت مناديلاً بخبز
في الليالي العاتيه
كوم القمامة أزهرت
عند السلاطين،
وأصحاب الملايين..
وآلاف تصلي راضيه..
   وقرأت لشربل أيضاً:
آتٍ إليكم من ليالي الجوع والفقراء..
من شوادر بؤسهم،
من حزنهم،
من كلّ أنات العناء..
   ثم قرأت لي:
أنا حبة رمل، ترتمي في باديه
أنا من عصف الهواء
في شبابيك البيوت النائيه
ريشتي من ثوب فلاح،
وحبري وردة عند المساء 
نثرت أوراقها في ساقيه..
   وفي اعتقادي، أن هذا الإحساس المشترك بين شاعرين، مردّه إلى معركة النضال الواحدة من أجل الانسان وحريته وكرامته، فالشاعر الانساني واحد في كل زمان ومكان، وليس للحدود والأبعاد قدرة على تغريب الشاعر عن رفاقه الذين يغردون في سرب آخر.
   أجل ان شربل بعيني شاعر إنساني صادق، تتفلّت الكلمات منه كالمطارق، تدك عروش الظلم والاستبداد، وتبشر بولادة جديدة، بعد طول انتظار:
صوت البلاد صرختي
وسع المطارح قبضتي
فأين، أين المهربُ؟
   والواضح أن شاعرنا يخرج على النظام الموسيقي الذي يحكم القصيدة، لتتاح له، أكثر فأكثر، حرية التعبير، والانفعال النفسي، فيروح يخرج من ذاته، محطماً الحواجز والسدود، وكاشفاً عن الحقائق والاحاسيس، دون خوف أو مواربة:
أنا الذي قوّضت بالشعر
رموز الحقد والضغينه
وطردت الفتنة من كل أرجاء المدينه
   وبالثورة نفسها، يتكلّم صديقنا الشاعر على من تآمروا على الوطن الحزين:
قسّموها..
قسّموا أرضي مزارع
ملأوها بالخفافيش 
وأصناف الضفادع..
   وهو لا يتهيّب الموقف عندما يهدد هؤلاء:
الثأر بيني وبينكم
الثأر بيني وبينكم
يا من ذبحتم أرضنا
بشقاقكم..
   وبهذا، تبرز مقدرته على التحدي، والوقوف بجرأة، في وجه من يتهمهم بالتآمر على الوطن، وذبحه، وتقسيمه..
   إن شربل بعيني يتناول مشكلة الوطن الصغير بصدق وحماس، ولكنه لا ينسى مأساة الوطن الكبير، فتذكرنا قصيدته "صدقيني يا بهيسة" بشعر نزار قبّاني في أعماله السياسية. يقول شربل:
أخدارنا مباحة
والويل للنساء
أوطاننا مسبية بعنادنا،
ونجومنا مطليّة بسوادنا..
حتى السماء عندنا ليست سماء..
   وكذلك يظهر اللون القبّاني في قصيدة "اسمعوني جيّداً":
قل لنا.. إياك أن تكذب كذبه
كم قبضت ثمن الشعر
وهل في الأمر لعبه؟
   ويحمّل شاعرنا اللهجة المحكيّة زخماً فنياً، لا تقوى على حمله إلا اللغة الفصحى، فهو يترك الزجل التقليدي، ليطرق باب الشعر العامي الرقيق، فبعد كتاب "مراهقة" الذي يتناول فيه الشهوة الجسدية، بمعزل عن إبداع فني بارز، و"رباعيات" الذي يبحث في شؤون الحياة، بحكمة وواقعية، يطلّ "الغربة الطويلة"، ومن روائعه قصيدتان: "تراب عم يمشي" و"جزمة أللـه".. ثم يأتي "مجانين"، وهو شعر وطني الطابع، ومن أجمل قصائده "آخرتها شو؟":
وآخرتها شو؟
وبعدنا بلبنان
مننحني لفلان
ومنألّه فليتان
وندور بمدارو..
الانسان أللـه أوجدو إنسان
تا يرفع شعارو
ويمجّدو هوّي..
   أما في "أللـه ونقطة زيت" فيستند البعيني إلى آيات قرآنية وإنجيلية، ليتحوّل مبشراً دينياً، له فهمه الخاص للدين، فهو يفهمه بعيداً عن المظاهر، والكذب، والخداع، ويفلسفه طارحاً الأسئلة الوجوديّة، التي حيّرت الانسان في تاريخه الطويل:
والإنسان الضايع حقّو
بدنيي قوانينا ماليِه
استحلى رغيف محمّر.. سرقو
هيدي رح تحسبها خْطِيِّه؟
   وبهذا، يبدو شربل بعيني شاعراً مُجيداً، متعدد الموضوعات والأساليب، يبرز الصورة الفنيّة بطلاقة، معتمداً الفصحى طوراً، والعامية أطواراً، إذ لا أهمية للغة عنده بمعزل عن الموضوع، فالموضوع هو الأساس الذي تبنى عليه هيكلية القصيدة، ولا نقاش بعد ذلك في مسألة اللغة. وقد لا أكون مبالغاً إذا قلت إن شربل بعيني متفوّق في شعره الانساني، هذا الشعر الذي يقف مارداً في وجه الطغيان، ليدفع الظلم والفقر والعذاب عن المساكين والتعساء في الأرض، والذي يستمد مادته من اصول دينية سماوية سمحاء، توصي بالعدل والرحمة، وتحضّ على المحبّة والصدق والتآخي.
   إن هذا الشعر الانساني العميق، الذي يغوص في قضية الانسان ومصيره، لا يمكن عزله عن مسيرة الشعر الانضوائي الملتزم، الذي رأيناه عند كبار الشعراء أمثال بابلو نيرودا، وبدر شاكر السيّاب.
   على أنني لا أخفي بعض التحفظات حيال شعر شربل بعيني، وأهمها: التسرّع والانفعال في سبك الألفاظ مما ينتج عنه وجود ألفاظ لا تناسب المعنى، ففي قوله مثلاً:
إسمعوني جيّداً
يا سادتي المحققين
بعت أشعاري.. ولكن
لأناس يحرثون الأرض
يجنون المواسمَ
ضاحكين قانعين..
   نجد أن لفظة "ضاحكين" لا تناسب الحبكة الدرامية، أو الموقف المأساوي الذي ينطوي عليه كامل المقطع، وكان يمكن حذف هذه اللفظة دون تغيير النغم وإضعاف المعنى.
   وفي قصيدة "فيروز كوني أمنا" يقول:
لنسكن التاريخ..
نبني قلبه الحنون..
   فكلمة "نبني" لا تناسب القلب، وكلمة "الحنون" ليست صفة جيّدة للتاريخ، أو هكذا يتراءى لي.
      وفي المقطع:
وتناتشنا الغنائم والمراكز والمقام
مثل كلب أسكتوه بالعظام
   يظن السامع أن المقام هو الكلب، لأن الكلمتين مفردتان، ويستحب تشبيه المفرد بمفرد، ومن غير المنطقي تشبيه الناس الذين يتناتشون الغنائم والمراكز بالكلب، بل بالكلاب، وخصوصاً أن الفعل "تناتش" يدل إلى مشاركة بين أكثر من واحد في عمل معيّن.. وكان يمكن القول:
وتناتشنا الغنائم والمراكز والمقام
ككلاب أسكتوها بالعظام
   أما الملاحظة المهمة الثانية فهي شيوع النظم، وشعر المناسبات، كفصيدة "مجدليا" و"رأس مسقا" و"أعظم سفير".. وهذه الكتابات كان يمكن تجاوزها عند الطباعة، لأنها تنطوي على قيم إنسانية شاملة، إلا أنها تعبّر عما يخالج الشاعر من أحاسيس شخصية تحاه موضوع معيّن. ولا يخفى ما لمثل هذه الأنماط الشعريّة من تأثير على آراء النقّاد فيما بعد، وقد كانت قصائد شوقي في هذا الاطار سبباً مباسراً لاتهامه بالفردية من قبل بعض الدارسين لشعره.
   وكنت أتمنى لو يتاح لي الوقت لدراسة مجمل نتاج شربل بعيني، لما ينطوي عليه من مسائل أخلاقية ودينية وإنسانية، ولا يسعني إلا أن أختصر هذا الشاعر بكلمات قليلة، فأقول:
"إنه إنسان كبير".
صدى لبنان، العدد 634، 21/2/1989
**
رسالة شكر الى المحبين
   
   العزيز الأستاذ الشاعر شربل بعيني، نجم "الغربة" الساطع، أعتذر لتأخّري في الردّ على الرسائل التي غمرني بها المحبّون، بسبب عطل طرأ على خدمة الإنترنت في منزلي. فأرجو أن تقبلوني متأخّراً لا مقصّراً، وشاكراً للغربة التي استقبلتني بيدين مفتوحتين وقلب كبير، منذ وصولي إلى أستراليا، وكانت خير من يعوّضني عن الخسارة الثقافيّة التي منيت بها مرغماً. والعزيز شربل له فضل دائم على المثقّفين.
الصديق الشاعر المخضرم عصام ملكي غمرني أيضاً بفضله، وهو الثريّا في فضاء الشعر المهجريّ، الأخ العزيز، الصديق الصادق...أشكره وأشكر الأخت المحامية الأستاذة بهيّة أبو حمد، والشعراء والأساتذة الكبار جورج منصور، حنّا الشالوحي، طوني حنّا (النسر)، نبيل ضنّاوي، عبّاس علي مراد، الذين عبّروا بكلمات قليلة عن قلوب كبيرة ومفعمة بالخير والجمال. لهم جميعاً كلّ المحبّة والتقدير. كما أوجّه تحيّة إلى جميع من اتّصلوا بي، وأرجو من الله أن  يقدّرني لأكافئهم على مشاعرهم الطيّبة.
سيدني 30/1/2014
**
رسالة من لبنان
  
    الأستاذ رئيس التحرير الشاعر شربل بعيني والزملاء في الغربة،
   أشكركم جزيل الشكر على نشركم قصيدة "أنا المسيحيُّ" في موقع متقدِّم، كما أشكركم على الجهد الكبير الذي تبذلونه في خدمة الأدب والكلمة.
   أمَّا بعد، لقد أسعدني الاطِّلاع على الكثير من القصائد والموادِّ المنشورة على الموقع، واغتنيت بها. أمَّا الشاعر الكبير عصام ملكي فقد أدمعت عيناي عندما قرأته، متذكِّراً أيَّام الصداقة، والشعر، والصفاء. لقد كتبت عن الشاعر ملكي عدَّة مرَّات من كلِّ قلبي وكلِّ عقلي، وكان يؤلمني أنَّه لم يأخذ حقَّه من الناس، وهو الطيِّب المعطاء الكريم. وها إنِّي انوِّه مجدّاداً بحضوره الشعريِّ في ساحة الإبداع المهجريِّ، متمنِّياً له طول العمر ومزيداً من العطاء الجميل. وللغربة التحيَّة والشكر وأطيب التمنِّيات.
لبنان 2013
**
شاعر الغربة السوداء
ألقاها في منزل شربل بعيني يوم تكريم السفير لطيف أبو الحسن والمطران يوسف مرعي.

مروا على عطش الابواب وارتجلوا
نهراً وعاصفةً بالارض تنتقلُ

في دمعة القمح قد نامت بيادرنا
وبيدر الحزن في اعماقنا جبلُ

مروا، سيولد لبنان بأحرفكم
ويفضح الشعر ما قالوا وما فعلوا

للأرض قولوا: اذا تنهار دولتنا
فليس تبقى على ارجائها دولُ

ان الصغير اذا لانت ملامسه
ففي اظفاره البركان يشتعل

ومن يكون بباب الغيم ملعبه
يظل يركع في ابوابه الاجل

اغمضت عيني على لبنان لا فزعاً
اكن يوماً، ولا باليأس انشغل

فانتم الرعد والنار التي انبلجت
من البراكين لما انجب الازل

وانتم البحر لا تغفو سواحله
وعنده السحب البيضاء تغتسل

اقول شعراً: انا طفل بساحتكم
وفوق اعينكم كالظل ارتحل

الملم الزهر عن اثوابكم خجلاً
حتى يزهّر فيَّ الشعر والزجل

من لي بأهلي؟ وانتم اهل موهبتي
من لي بحرف اليه الشمس تبتهل؟

تصيّد الفجر بالأقلام شاعركم
ففي الشقائق من شريانه قبلُ

ولوّن الحقل عصفوراً وأطلقه
حتّى استفاق على أنغامه الرسلُ

هذا الأبيّ الّذي يمناه جدوله
هذا النبيّ الذي أقواله عملُ

يا شاعر الغربة السوداء من حجر (1)
خلقت سحراً، وفاضت عندك الجملُ

اعطيك خبزاً اذا اعطيتني رجلاً
فيه المكارم والاخلاق والمثل

فداك نحن إذا نابتك نائبة
فبالسيوف رجال الشعر تكتحل

تعبت ارفع اوجاعي على كتفي
وقد يموت على اوجاعه الرجل

قلبي هناك لدى عصفورة شردت
قلبي هناك مع الالاف يحتفل

يا لعبة الموت  ما ادراك ما بلدي؟
غمامة عبرت بالشرق تنهمل

ربابة وقعت في كف عاشقة
فأثمر الوتر المحموم والغزل

لو يصلبون على المسمار جبهته
يعود منتصراً في قلبه الامل

لو حولوه متاريساً واعمدة
يظل يصبر من جرح ويحتمل

من قال مات؟ يصير النعش قنبلة
ومدفعاً بصراخ الدم ينجبل

سلوا السفير عن الايدي التي بذرت (2)
قمحاً بنهر من الاجساد يتصل

سلوا السفير.. ففي اعماقه خبر
عن الذين على اعتابهم قتلوا

يا صاحب الامر لو كلفت معصية
فقل بربك ماذا تفعل الملل؟

ألست انت تحب الله مرتضياً
وبالمسيح لديك الفخر والمثل؟

أليس احمد او عيسى على غضب
وكل رب على اقوامنا هبل؟

اذا نريد لديك الصدق نعرفه
صدق البطولة إذ لا يكذب البطل

فلو تمثّل فيك الناس لارتعدت
كفّ الاذى وتلاشى الحقد والدجل

فالقول عندك اسياف مرصعة
والحلم بالادب المرموق مكتمل

واللطف والحسن لو مرّرت ظلهم
على الكواكب طاش البدر والزحل

في ليلة الشعر بعت النهر اغنيتي
وجئت اسأل عمن في الحمى نزلوا

من يوسف الحسن؟ هذا الطهر موسمه (3)
وكل مكرمة في الكون يشتمل

لو مرت الشمس في ابوابه ركعت
تولّهاً وبدا في وجهها الخجل

يعرج الورد.. يغفو عند عتبته
وتسجد الكتب البيضاء والمقل

يا صاحب الدار لو قصّرت يعذرني
اني تضيق على افكاري السبل

فأنتم الشعر، من برق هياكله
وكل حاسدة للبرق تنخذل

ماذا يقولون؟ هذا خبز دمعتنا
وملحنا بعروق الدم ينفعل

هذا هو الشعر بالزلزال نكتبه
لأمره الغيم والأنسام تمتثل

يمر في مدن سود فيهدمها
لكي يخبّر عن اصحابه الطلل

هذا هو شعرنا.. من ليس يعجبه
فألف شكر إذا يرضى ويعتزل
ـ
1ـ شربل بعيني
2ـ السفير لطيف ابو الحسن
3ـ المطران يوسف مرعي
صوت المغترب، العدد 1077، 1990
**
شربل بعيني يتحدى الارهاب

     زمن الارهاب يدخل في القمقم..
   زمن الارهاب الذي حبلت فيه رجعية الانظمة، وتوحمت فيه امرأة هولاكو، وافرزته الدساتير المزيفة، وهرطقة رجال البلاط، تلاشى واختنق صداه.
   لم يعد للجلاد كلام مباح. احترقت اصابعه بعد ان عاش فساداً وقبحاً، وذبح على مائدة عشيقته شعراء المستقبل ورسل الحقيقة وانبياء الجماهير.
   افلت صوته كالافعى على الكلمة والكلمة سيف وقضية.
   نزلت لعنته على جسد المحبة، فانطفأت غبارا وتلاشت سراباً، ونبت في الجسد المجروح نهر القيامة.
   وبقي ان الشعر صراخ الموقف والحق والعقيدة، وبقي الشاعر هو الوطن من المحيط الى الخليج، وهو العالم من القطب الة القطب، وهو الحبيبة من الشفة الى الشفة.
   الشاعر هو الاتي في عهد سدوم، الراجع على رماح الذين آمنوا به وتبعوه الى الجلجلة، والقائد الواعي الذي فهمته الملايين وامنت بوقع خطاه.
   اقتلوا الشاعر يخرج من تابوته قنبلة.
   اجرحوا الشاعر ينفلت الضوء مساحة اكبر من مساحة الارض، واوسع من مدى السموات السبع.
   الشاعر حقيقة لا يستطيع طمسها حقد الكتبة والفريسيين.
   وشربل العائد بصوته عازفاً ماهراً على أوتار الحب المتأرجح على خيط يمتد من عيني حبيبته الى مضارب النجوم.
 شربل بعيني الذي أحب ومات وقام وانسحب على المرارة دهراً لا ينتهي.. هو الوعد بالبقاء والإشارة الرافضة لكل الدساتير الملعونة والمتمرّدة على سلالة الأسود العنسي.
   شربل بعيني لحظة الوصول حين يقف جلجامش خائفاً من المغامرة.
   إنه الإنفلات من دائرة القهر حين يكثر المستزلمون والزاحفون إلى مائدة بيلاطس..
   وأن يثور شربل على الظلامية والإرهاب ويطبع كتاباً، تحدٍ وإعلان للقيامة واقتحام جديد للمستقبل.
   أن يمرّ شربل بعيني في موّال الكتابة دعوة إلى البقاء حين يريد أحفاد هولاكو أن ينسفوا جسور الحريّة، ويلغموا الشمس بالحقد الأسود.
   مبارك الآتي باسم شربل بعيني.. ومباركة ثـمرة شربل بعيني معزوفة حب ومبارك الشعر".
صوت المغترب، العدد 1056، 22 تشرين الثاني 1989
**
في يوم الأدب المهجري
ألقاها في يوم محمد زهير الباشا تكريما له على دراسته "شربل بعيني ملاّح يبحث عن الله" 1989

يومٌ، خلعت له بردي، وقلت له:
يا ملعب الشعر، وسّع، زانك الشعرا

يوم يكذب من بالدهر يذكره
فإنه الدهر، مجموعاً، ومختصرا

يمتدّ في رحم التاريخ أوله
ويقطع اللحظة الصمّاء منتصرا

يوم لفكر هو الأزمان أجمعها
هو السماء التي لا تحجب المطرا

هو المراكب في الأمواج، يضربها
بحارة فتحوا البلدان والجزرا

هو القناديل عند الشطّ علّقها
طفل تدثّر بالأحلام منتظرا

يومٌ لشعر؟ نسيت الشعر من زمن
حتى تألّق في أغصانكم ثمرا

ودعت أهلي وأصحابي، وقلت لهم:
مشاعري حجر، هل أكتب الحجرا؟

لن أشتري قلماً ما دمت مغترباً..
ما دمت في وطني لا ألمح القمرا

إني أسير الى ارض بلا شجر..
فكيف أطلع من أفكاري الشجرا؟

تخبّ في وسط الصحراء راحلتي،
ولن ألاقي بها بدواً ولا حضرا..

وقلت أكثر من هذا على وجعي،
ولا يحاسب مظلوم اذا كفرا.

وما صدقت، لأن الظنّ أكثره
إثمٌ، وأجمله ما يخدع البشرا

دخلت واحتكم، والظلّ يغمرها،
والطير تنشد في أغصانها زمرا

في بابها قمر من وردة عشقت،
فجدلت خصلاً، واسترسلت كبرا

وحنّ عود على عود، فأرقّها،
وطوّل العنق للتقبيل، فانكسرا

وقفت عند ظلال الباب مختشياً
فكيف أدخل بين الغيد والأمرا؟

كتبت أول أشعاري على ورقٍ
من ليلكٍ تركته الريحُ منتثرا

فردّ من جنبات الحيّ قائلكم:
يا طير، نحن ـ فداك العمر ـ أهل نرى

لمن يغنّي لنا بيت، ومروحةٌ،
إذ نعبد الحب بعد الله، والوترا

ما أنت ضيف. فأنت الأصل نحسبه
منا، ونحسب أقواساً اذا وترا.

يوم لأهلي وأحبابي؟ أحل له
طهري، وأرقص في أفراحه عشرا

ولا أعود كما وافيت مهتدياً
فإنني رجل بالحب قد سكرا

أنا وهبت لكم شعري وأغنيتي
أكون متّشحاً بخلاً، ومقتترا.

أنتم بلادي، وموالي، ومعتقدي،
وقد نصبت شراييني لكم سفرا
**
كتاب "فافي" سيكون له مكانة مرموقة في خزانة الأدب المهجري
  
    حضرة الشاعر المهجريّ الأستاذ شربل بعيني المحترم.
استلمتُ هديّتك اللطيفة، ديوان فافي، وقرأتـُه باهتمام، فوجدتُ فيه كلاماً دافئاً، يعبِّر عن مشاعر شخصيّة، ومحبّة أخويّة صادقة أوصى بها الله تعالى.
إنّ الكتاب يتّسم بالصراحة في الكشف عن مكنونات القلب، في لغة رقيقة تنساب كالنبع الرقراق. وليس غريباً عنك أن تتأثّر بشخصيّة إنسانيّة نبيلة كـ "فاطمة ناعوت" لها بصمات في سجلّ الحقوق البشريّة والحوار الفكريّ بين الجماعات.
لقد تعرّفت بك إنساناً جديداً يخرج من الماضي إلى المستقبل بروح قويّة، متطلّعاً إلى الأفق البعيد، ومنطلقاً بسفينتك إلى شاطئ الأمان، ترسو عليه بأمل وفرح. وهذا التجدّد في الفكر قد أشعرني بالغبطة أنا أيضاً، وأسعد الكثيرين.
أرجو أن تكون هذه المرحلة هي مرحلة ربيع دائم في حياتك، وأن تصل بتطلّعاتِك إلى حيث ترمي، فالحياة قصيرة، وعلينا أن نؤمن بها ونتعانق معها في رقصة أبديّة لا تختمها الأحزان.
أشكرك على الهديّة، وإذا كنت لم أكتب شعراً في الكتاب، فلأنّني لا أستطيع أن أزيد على القصائد الرائعة فعلاً التي قيلت فيه. أتمنّى لك دوام  الصحّة ومزيداً من العطاء. وأقدّر أنّ الكتاب سيكون له مكانة مرموقة في خزانة الأدب المهجريّ.
المحبّ
د. جميل الدويهي
**
لقاء ادبي مميّز في بيت الشاعر شربل بعيني
   
   لم يكن يوم الجمعة الواقع فيه 20 نيسان 1990 كغيره من ايام السنة، بل كان يوماً مميّزاً جمع في بيت الشاعر شربل بعيني شلّة كبيرة من الادباء والشعراء الى مأدبة عامرة، كانت على شرف سعادة سفير لبنان الاستاذ لطيف ابو الحسن، وبحضور سيادة المطران يوسف مرعي السامي الاحترام، وبحضور الاخت كونستانس الباشا، وراهبات العائلة المقدسة، وعدد من الشخصيات ورجال الفكر والأدب.
   كما دعي أصحاب الصحف المهجرية بصفة شخصية، ومنهم مدير عام صحيفة "البيرق" الاستاذ جوزيف خوري، ومدير عام صحيفة "صوت المغترب" الشاعر عصام ملكي، ومدير عام صحيفة "النهار" الاستاذ بطرس عنداري.
   وتميّز هذا اللقاء بالحفاوة والتكريم، اللذين خصّ بهما الشاعر شربل بعيني الحاضرين، وبحسن الضيافة التي تقدّمت به والدة الشاعر "أم أنطوان"، بمساعدة السيدات اللطيفات من أفراد العائلة الكريمة وأقربائها.
   وكان الشاعر شربل بعيني، كعادته، يستقبل الزائرين واحداً تلو الآخر، على مدخل البيت، وقد أبى إلا أن يفعل ذلك رغم المطر، نظراً لما يكنّ في قلبه الكبير من المحبة والاحترام لزملائه وأصدقائه.
   وبعد دردشة مع الضيوف، دعا الشاعر بعيني الجميع الى مأدبة العشاء السخيّة، حيث افتتح السهرة الأدبية بكلمة رحب فيها بسعادة السفير وعقيلته السيدة الفاضلة سميرة، وبسيادة المطران يوسف مرعي، والراهبات، وحيّا الحاضرين من شعراء وأقرباء وزائرين، ثم قرأ من كتابه "أحباب" قصيدة محبة موجهة الى سعادة السفير لطيف ابو الحسن.
   والجدير بالذكر ان كتاب "أحباب" كان مفاجأة السهرة، والجائزة الكبرى التي حظي بها الحاضرون، الذين وزّع عليهم الكتاب أثناء العشاء.
   ثم ألقى الاستاذ فؤاد نمور كلمة قيّمة ركّز فيها على الوطنية، جاء فيها: جاليتنا العزيزة، من حمد الباري، لا تفتقر الى الادباء والشعراء والخطباء، وكثيرون منهم تسنمّوا القمة، وتربّعوا على سدّة المجد الأدبي.
   وأضاف: دعوتي إليكم، معشر الأدباء والكتّاب، ألا تنسوا وطنكم في حبّكم الانساني، ولا تنسوا الانسانية في نزعتكم الوطنية، تكاتفوا لتكونوا وتكوّنوا واقعاً قوياً ملموساً.
   وختم الاستاذ نمّور كلمته بالشكر لآل البعيني، وشاعرهم على اتاحتهم فرصة اللقاء بهذا التجمّع الأدبي.
   وألقى الاستاذ كامل المر، رئيس رابطة احياء التراث العربي في أوستراليا، كلمة جاء فيها: ما نظنّ أن شعباً على وجه الأرض نكب بما نكب به الشعب اللبناني، الذي مزّقته إرادات دولية خبيثة تعبث بوحدته وبوجوده.
   وأضاف الاستاذ المر: لكن الشعب اللبناني الذي نكب بكل هذه الويلات، لم يستسلم لليأس، ولا استسلم للارادات الخبيثة، فتسلّح بالمحبّة والأصالة، التي عرف بهما، وبهما تحدى صفقات الدول الكبرى منها والصغرى.
   ووجه كلامه الى الادباء فقال: لتتزوّد أقلامكم بالمحبة، لكن تذكّروا أن ملك المحبة لجأ الى السوط لطرد لصوص الهيكل، فلترهف المحبة اقلامكم كما حد السيف، وتقطر كلماتكم حباً خالصاً يستمد اصالته من أصالة شعبنا.
   وختم كلمته قائلاً: تذكروا أن وطناً، الاستاذ لطيف ابو الحسن سفيره، لن يموت. وان شعباً أنجب مثل هذا الحسن لن تقهر ارادته.
   كما القى الاستاذ شوقي مسلماني كلمة شكر فيها آل البعيني على كرمهم، وأشاد بموقف السفير لطيف ابو الحسن، وسرد عدّة مشاهد رآها بأمّ العين، تدلّ على سمو أخلاق السفير، ورحابة صدره، وثبات مواقفه الوطنية.
   وألقى الزميل صاحب صحيفة "النهار" ومديرها العام، ورئيس تحريرها الاستاذ بطرس عنداري "أبو زياد" كلمة جاء فيها: صعب الواحد يوقف ما عندو شي بفكرو تا يقولو، متل ما حصل معي هلّق مع الأخ شربل. لكن الانسان بيرتاح بموقف متل هيدا، لمّن بيعطف عا الكلام اللي قالوه الزملاء اللي سبقوني. مش رح احكي شي عن سعادة السفير لأن العرق عم يتصبب من جبينو تواضعاً منّو. الاستاذ فؤاد نمّور قال: "قد نختلف مع سعادة السفير في السياسة أو غيرها"، نحن لا نختلف مع سعادة السفير، ولا مع بعضنا، في السياسة. نحن موقفنا واحد.. بدنا نهاية مأساة لبنان.
   أما سيادة المطران يوسف مرعي السامي الاحترام، فركّز في كلمته على معنى العطاء بالكلمة. وقال: المحبّة التي تجمعنا هذا المساء تحت جناحيْ سعادة السفير، هي المحبة التي نريد أن تكون العائلة اللبنانية، والاسرة اللبنانية، ليس فقط أسرة عزيزي وصديقي واخي الاستاذ شربل بعيني، بل الاسرة اللبنانية، نتمنى ان تكون كلها كهذا البيت العامر، والكل يعود الى التربية والنيّة الصافية.
   وتمنى سيادة المطران في كلمته المرتجلة أن تدوم هذه الاجتماعات لخدمة الأدب، ولوحدة الجالية.
   وألقى سعادة السفير اللبناني في أوستراليا الاستاذ لطيف ابو الحسن كلمة أشاد فيها يالشعراء، وعبر عن سعادته بهذا اللقاء، وقال: اني عاجز عن التعبير عن سروري بهذا اللقاء، الذي جمع هذه النخبة من أبناء الجالية الكريمة، وسروري مضاعف كونه تحقّق بدعوة من الصديق الكبير شربل بعيني وفي داره العامرة.
   وأضاف: تلقيّت دعوة كريمة للقاء أهل الفكر والعلم والحلم، فكيف لي أن أرفض مثل هذا اللقاء، وقد زيّنه بوجوده من علمنا بحكمته وحلمه ورصانته المحبة والغفران، ومن أضاؤوا ليالينا السوداء بفكرهم وشعرهم ونثرهم، وأثاروا فينا الحنين الى مربع الطفولة، وذكريات الماضي، يوم كان لبنان ملتقى أدباء وشعراء العرب قاطبة.
   وفي ختام كلمته شدّد سعادة السفير على ضرورة التعاون والمحبة والتلاحم من أجل الوطن.
   وختمت السهرة الكفلة ريما الياس في باقة من أغانيها التي أطربت الحاضرين ونالت ايتحسانهم.
   وحدثت في ليلة الأدب مداخلات شعرية قام بها الشعراء: زين الحسن، عصام ملكي، عصمت الايوبي، نعيم خوري، جورج منصور وجميل الدويهي.
صوت المغترب، العدد 1077، 2/5/1990
**
مدارسنا والعباقرة الكبار
  
   ما وقفت مرّة أمام وجه طفل إلا وسلبني جلّ اهتمامي، حتى أنني في كثير من الاجتماعات التي يستأثر فيها الكبار بالحضور والكلام، لا أجد بداً من تدليل طفل يمر من أمامي إما حانقاً من ثرثرة من يفوقونه سناً وطولاً وقدرة، وإما لاهياً عن عبثيتهم بعبثية أخرى تختص به، ويعبّر عنها بلغة لا تفهمها إلا القلوب الشاعرة.
   عجباً لهؤلاء الأطفال ما أعظمهم.. بالأمس كانوا يعلنون الثورة على الجهل والكبت والظلم في مسرحية كتبها وأخرجها الشاعر الصديق شربل بعيني، وجرى تمثيلها على مسرح سيدة لبنان. 
   أكثر من 300 طفل من المدرسة شاركوا ومثّلوا وأبدعوا ورفعوا صوت التمرّد بلغة قادرة على اختراق القلوب.
   ولا أزال أتذكّر طلاتهم المزغردة ووجوههم العالية وأصواتهم الثابتة وهم يترجمون أفكار الكبار، ويحاربون الأشباح في ضيعتها بل في بلادها.
   وبالأمس أيضاً، وقف أطفال آخرون في مدرسة مار شربل يقيمون مهرجاناً غنائياً راقصاً، ويمثّلون مسرحية "نجوم المجوس" بكل البراعة والتناغم والاتقان، مما يدلّ على قدرة هؤلاء الأطفال على تشكيل سقف إبداعي ربما يضاهي ما يقوم به الكبار من عطاء وابداع.
   وبالأمس قامت ثلاث فتيات من مدرسة النوري في غرين أيكر بكتابة رسالة إلى القيادة العراقية يتمنين فيها باسم الانسانية وبلهجة رقيقة إطلاق الرهائن الأوستراليين المحتجزين في العراق.
   إنه موقف إنساني ربما لا يتمتع بلذة حضوره إلا من ذاقوا ألم ألأسر ومرارة الغربة والعذاب.
   وإنها لغة الطفولة التي تلبس حروفاً وردية وتنطلق عبر الأثير إلى القلوب قتليّنها والأفكار فتزلزلها.
   وإنها العظمة التي لا يستطيع بلوغها إلا من لم يلوّثوا أيديهم بوحول العالم وبشاعته.
   ألا بوركت مدارسنا، وبورك عباقرتنا الكبار، وبوركت الطفولة التي تبدع دون حساب.
صوت المغترب، العدد 1107، 6/12/1990
**
شهادة الدكتور جميل الدويهي بأغنية يا مصر لاسماعيل فاضل وشربل بعيني

   إلى العزيزين الأستاذين شربل بعيني واسماعيل فاضل،
كلام ولحن جميلان، أعطاكما الله العافية، والعقبى لمزيد من الأعمال الناجحة في المستقبل.
الكلمة لبعيني مع اللحن والغناء لفاضل، النتيجة عمل راق يستحقّ الثناء والتقدير.
طاب القلم وطاب النغم.
د. جميل الدويهي
**
شربل بعيني: الشاعر الذي يخاف النقد ليس شاعراً

كتب الشاعر شربل بعيني على موقع "الغربة" عن عودة الدكتور جميل الدويهي إلى الإعلام المكتوب في جريدة "المستقبل" العريقة، فقال: "جميلنا" كما يحلو لي أن أناديه، أعجبت بقلمه لحظة وصوله الى أستراليا، أي منذ ربع قرن وأكثر. وها هو يعود الى الاعلام الورقي ليعيدنا اليه قارئين متلذذين بالكلمة الهادفة البعيدة عن التبجح و"الشاو أوف.. أنا، أنا". فالنبع الغزير لا يتباهى بمياهه، لأنه يدرك تماماً أنها عطية الله له، وهكذا الموهبة الفذة، فهي عطية الله للمختارين من مخلوقاته."
وذكر الشاعر بعيني أنّه تسلم هدية من جميل الدويهي هي روايته "طائر الهامة" فقال: "لم أتجاسر بالكتابة عنه (الكتاب)، لأن لغته كانت رفيعة جداً، لدرجة تتشاوف بها على الشعر، فكتبت له عبارة واحدة تقول: "نثرك في "طائر الهامة" شعر يا دكتور جميل". وأعتقد أنني أعطيت الكتاب حقّه بهذه العبارة، لأن المرأة الجميلة لا تنتظر من الرجل الذي تحبّه خطاباً مطولاً يشرح به حبّه لها، بل تتلهف الى سماع كلمة واحدة: "أحبك"، لتحلق في عالم لا يطأه إلا المحبّون."
وعن مطولة "سعيد عقل شاعر الأجيال" الشعرية التي نشرها الدويهي في لبنان بمناسبة مئوية الشاعر سعيد عقل قال الشاعر بعيني: "عندما نُشرت له قصيدة مئوية الشاعر العملاق سعيد عقل، رحت أطالعها بشغف وإعجاب. إنها معلّقة إعجازية رائعة. وما أن التقيته وجهاً لوجه، حتى همست في أذنه: "قصيدتك لسعيد عقل لا تقل مهارة عن شعر سعيد عقل".
وكان بعيني قد نشر مجموعة مقالات كتبها عنه الدكتور الدويهي في كتاب حمل عنوان:"شربل بعيني شاعر الغربة السوداء"منحه عليه معهد الأبجدية في جبيل "جائزة شربل بعيني لعام 2014"، وعلى الرغم من أنّ هذه المقالات فيها انتقاد لبعض قصائد بعيني، فإنّه نشرها بشجاعة "فالشاعر الذي يخاف النقد، ليس بشاعر. إنه طرطور جبان، خاصة اذا كان هذا النقد مفيداً من أجل دعم حركتنا الأدبية المهجرية، وتقويم مسارها"، معترفاً بأنه عمل بمعظم انتقادات جميل له، خاصة حين استبدل بيته الشعري القائل: "مثل كلب أسكتوه بالعظام"، بهذا البيت "ككلاب أسكتوها بالعظام" ومن يقرأ قصيدة "لعنة الله علينا" يجد أن الشاعر بعيني أثبت كلام جميل في القصيدة.
وختم بعيني مقالته بالتأكيد على أنّ جميل الدويهي "سيمد يده للجميع من أجل النهوض من كبوة أدبية عانينا منها لسنوات طويلة."
وبدوره شكر الشاعر والأديب اللبناني الدويهي صديقه الشاعر بعيني على محبته وتواضعه، معتبراً أن النقد ليس عملية فرض بل هو كناية عن تقديم اقتراحات قد يؤخذ بها أو لا يؤخذ. كما أنّ الدويهي يظهر الإيجابيات ويشيد بها أيضاً. والدويهي نفسه يتعرض للنقد في شعره ونثره، ويأخذ بالانتقادات التي يجد أنّها مفيدة.
والدويهي إذ يشكر بعيني على شجاعته وصدق عاطفته، يتمنّى له السعادة، ويشيد بدوره في الأدب المهجري، كما يشيد بموقع "الغربة" الذي احتضن أعمال الدويهي، فكان منارة له في الغربة السوداء.
المستقبل حزيران 2014
**
تمثال وشاعر وقصيدة: رسالة من الدكتور جميل الدويهي

قصيدة الدكتور الشاعر جميل الدويهي (عفواً أبا تمّام) أحدثت ضجة كبرى في العالم العربي بسبب حسن صياغتها، وجميل صورها، وزخم ثورتها.. وصدق مشاعرها. وقد قامت جريدة العراقية بنشرها مشكورة بغية تعميمها، فألف شكر للدكتور موفق ساوا.
وما أن علم الدكتور الدويهي بما حصل حتى أتحفنا بهذه الرسالة المعبّرة:
أخي العزيز شربل (شربلنا)،
شكراً لك أولاً وأخيراً على إيصالنا إلى الناس في كل مكان، وكم أتمنى أن تنتشر هذه القصيدة في العالم، ليس من أجل اسمي، بل من أجل أن يعمم الشعور الإنساني، وعدم التفرقة، ومحبة الآخر. فأبو تمام هو شاعر العرب والإنسانية ولا يجوز تفجير تمثاله وكأنه عدو لدود. نعم هو عدو لدود لأعداء الفكر، للجاهلين، للمغالين، وقتلة الإنسان والإبداع.
أسعدني جداً أن قصيدتي "عفواً أبا تمام" حازت على هذا الكم من الإعجاب والتعليقات. وأنت تعرف أنني ترددت في نشرها لأسباب وأسباب، غير أنّك أيها الشاعر الملهم حرضتني على نشرها، وسارعت قبل أن ألتقط أنفاسي إلى تثبيتها في صفحات "الغربة" التي رفعتنا إلى النجوم. وما نشر جريدة "العراقية" للقصيدة (من غير علمي) إلا دليل على صدق نظرتك، وسمو ذوقك الأدبي، ورفعتك الإنسانية. واسمح لي من خلال "غربتنا" أن أرفع الشكر لجميع من علقوا على القصيدة وتناقلوها، وخصوصاً جريدة "العراقية" الناطقة إعلامياً باسم العراق الحبيب، الذي له مكانة في قلوبنا لا تمحوها الايام، ولا تخفيها الحجُب.
يا شربلي المحبوب، كيف لا يشعر بالسعادة من يقرأ كلماتك: "هذا ما يفرحني والله عندما أنشر قصيدة أو خبراً ويتناقله الآخرون... همي نشر أدبنا المهجري فقط، والله يشهد على ذلك، دون الالتفات إلى الأسماء...؟" وأنت تعرف أيّها الصديق الفاضل أننا جميعاً نسعى إلى نشر الأدب المهجري، غير عابئين بأسمائنا وصفاتنا وألواننا، وأرجو أن يكون جميع الشعراء والأدباء في هذا المنحى، ولو على حساب المشاعر الشخصية أو المناطقية.
المحب جميل.
**
مبارك التكريم لك أيّها العزيز شربل

العزيز الشاعر شربل بعيني،
أنت تستحقّ التكريم، ليس من مجلس الجالية اللبنانية فقط بل من كل إنسان يحبّ الأدب ويقدّر الشعر والإنسانيّة الحقّة، وليت كلّ مدننا قرانا وبلداننا تكرّم الشاعر والأيب في حياته لكي يشعر بالغبطة ذاتها التي يعطيها للناس.
وكم أنا سعيد لأنّنا نُكرّم في حياتنا، والتكريم ليس بقيمته الماّدية بل هو تقدير لما كابدناه في الليالي 
وما سكبناه من عرق ودموع على دفاتر الكلمة. تلك التي ألقاها الله في عقول مختاريه.
ويسألونني: من هو الشاعر؟
هو النور الذي يضيء في عتمة الأبد.
هو الكنوز التي لم تجد الإنسانيّة أغلى منها في أعماق الأعماق.
هو الكوكب الذي يعلو على الكواكب.
 أما رأيت الناس يتزاحمون بالمناكب والأكتاف ليفوزوا بلقب "شاعر"؟
 أما قرأت التفاهات التي تُسجّل في كتاب الأدب فتشوّه وتسيء إلى التراث والفكر الإنسانيّ؟
 أما شاهدت أناساً لا يميّزون بين التاء المربوطة والتاء الطويلة يتطاولون على معلّقة امرئ القيس؟
 أما لاحظت من يريدون إقحام أنفسهم عنوة في الصفوف، وهم لا يكتبون إلا السخافة والأوهام المريضة؟ ونجّنا يا ربّ من وجوهم الصفراء وحسدهم الذي يبدو على سيمائهم، ومن غيرتهم التي تهتف: "المجد للحقد في كلّ مكان وعلى الأرض الشرور”.
كم يغبطني أن يكرّم الأديب ولو في مجاهل أفريقيا، فكيف تكون غبطتي عندما يكرّم أديب رفع الأرض إلى السماء، وجعل المحبّة في مرتبة إله؟
أمّا الحاقدون العمي الذين لا بصيرة لهم، فيموتون في غيظهم وفي عماهم، والمجد للعباقرة الذين غادروا كهوف الظلام والتبعيّة إلى معاقل الحرّية.
شكراً لمجلس الجالية اللبنانية ومبارك التكريم لك أيّها العزيز شربل.
الدكتور جميل الدويهي 
**