شربل بعيني الصوت، الصدى والمدى

 


مقدمة

       رسالة الكترونية قصيرة استلمتها من ابن أخته الصديق حسن ابراهيم تقول: مات خالي عصمت الأيّوبي، أعادت الألم الى صدري، ذلك الألم الذي عانيت منه الكثير، وأجبرني على الابتعاد عن الندوات الأدبية، والاجتماعية، والناس أجمع، خوفاً من أن يصطادني على حين بغتة، ويرميني أرضاً.

   أجل، لقد تألمت طوال الليل، ورحت أبكي وأصلي، كي يرحمه الله، وكيف لا يرحمه وقد كان ملاكاً يسير بثوب انسان.

   وقد يتعجّب البعض من عنوان المقال الذي كتبته إثر وفاته "مات أبي وأخي وعمي وصديقي الكبير"، فدعوني أشرح لكم ببساطة متناهية: 

   لقد تعرّفت على الاستاذ عصمت الأيّوبي في ندوة تكريم الشاعر الغريب زين الحسن، وكان التعارف عابراً، أي اكتفينا بالسلام فقط وهو يشيد بقصيدتي، دون أن أسأله عن اسمه، الى أن التقيته مرة ثانية في إحدى مكتبات سيدني العربية، كنت وإياه نفتّش عن كتب نقرأها، فلقد كنا مولعين باقتناء الكتب، فاقترب مني وعرّفني بنفسه:

ـ عصمت الأيّوبي، مهاجر جديد من لبنان.

   كان يتكلم وهو يقبلني ويغمرني بمحبة لم أشعر بها من قبل.. فأدركت للحال أن الله قد وهبني صديقاً كبيراً.

   ومرّت الأيام، وتوطدت الصداقة، والزيارات العائلية، حتى أوقعني الحب في بيته، الذي عشت فيه لأكثر من 16 سنة، فوجدت العم أولاً، والأخ ثانياً، الى أن أدركت أن عصمت الأيوبي أكبر من صديق، وأعظم من عم، وأحن من أخ، فلقد كان بمثابة الوالد لي، وبتنا لا نفترق أبداً، الى أن ظلمنا القدر.

   صحيح أنني ابتعدت عنه بالجسد، ولكنه بقي في قلبي، ينبض مع نبضات قلبي، وكنت أتجسس عليه عبر أصدقائنا المشتركين، خاصة وقد ودعته بعد أيام من خروجه من المستشفى.

ـ كيف حال عصمت؟ هل تحسنت صحته؟ إني أصلي له.

   وكنت أرسل له القبلات مع ابن أخته حسن ابراهيم، وكنت أعلم أنه سيفرح بها.

   فمن هو هذا العظيم من بلادي:

   شاعر، ينسكب الخيال في كل بيت شعري يخطه قلمه. لا بل كان ينشر المعلقات الشعرية في أجواء الغربة كما تنشر الشمس أشعتها كل صباح.

   معلّم، تتلمذت الأجيال عليه، فعلمها الاخلاص والتضحية والوفاء.

   أديب، وناقد، واعلامي، ولغوي، ترك العديد من الكتب والمقالات السياسية والاجتماعية والنقدية، ولقد خصّني بالكثير منها في كتابه الرائع "على ضفاف الكارثة".

   ولد في قرية "النخلة" الكورة، لبنان الشمالي، في العشرين من شهر كانون الثاني عام 1944.

   له ثلاثة صبيان وبنت واحدة.

   تلقى دروسه الابتدائية في مدرسة القرية، ومدارس أخرى، أهمها مدرسة الغزالي "الحدادين سابقاً"، التي تقع في منطقة أبي سمراء ـ طرابلس، وقد تابع دراسته المتوسطة أيضاً في هذه المدرسة.

   أما المرحلة الثانوية، فكانت في ثانوية باب الرمل ـ الحدادين بمدينة طرابلس.

   من العام 1963 الى 1970، مدرس في مدارس لجنة تعليم أبناء المسلمين في القرى التابعة لجمعية المقاصد الخيرية الاسلامية في بيروت، متنقلاً ما بين قرية "راشكيدا" في قضاء البترون، وقرى "عيّات" و"حرار" و"المحمّرة" في قضاء عكار.

   صحافي ومدقّق لغوي في جريدة "النهار" البيروتية، من العام 1971 الى 1980.

   يفوز في امتحان الدخول الى كلية التربية في الجامعة اللبنانية "دار المعلمين العليا ـ سابقاً"، ويتخرّج فيها حاملاً شهادة الليسانس في اللغة العربية وآدابها.

   في العام 1977، يحوز شهادة الكفاءة التعليمية "دبلوم" في التعليم الثانوي.

   من 1980 لغاية 1983، معلم للغة العربية في مدارس الجالية اللبنانية في سيراليون ـ غرب أفريقيا.

   ما بين 1983 و1986 تولى مركز مدير الدروس العربية في كلية "مانور هاوس ديكارت" لصاحبها المربي جورج سلامة، في مدينة ليماسول ـ قبرص.

   في 12/12/1986 يحزم حقائب سفره الى أستراليا ليهبها فيما بعد جثمانه الطاهر.

   في العام 1989، استاذ للغة العربية وآدابها في جامعة غرب سيدني، فرع "ميلبيرا" حتى العام 2005.

   1995 ـ 1996 استاذ بدوام جزئي أيضاً للغة العربية في جامعة سيدني ـ قسم الدراسات السامية.

   1992 ـ 1995، حاز شهادة الماجستير من جامعة سيدني على دراسة حول "حركة الترجمة العربية منذ العصر العباسي".

   له دراسة حول "الاتجهات الحديثة في علم الالسنية" وقد نال عليها درجة التعليم العالي في الجامعة اللبنانية ـ كلية التربية 1977.

   في العام 1992، صدر له كتاب "على ضفاف الكارثة" يحتوي بين دفتيه على مقالات وقصائد نشر جلّها في الصحف العربية الصادرة في سيدني.

   له مقابلات واطلالات عدة من على الاذاعات العربية.

   حائز حائزة "جبران خليل جبران" و "جائزة شربل بعيني" و"جائزة الاتحاد الاسترالي ـ الشرق الاوسط".

    إنه، وباختصار شديد، صاحب أذكى عقل، وأكبر قلب، وأجمل ابتسامة. انه "أبو مصباح" الغالي دائماً وأبداً على قلبي.

   وأذكر يوم أهديته هذه القصيدة احتفاءً بصدور كتابه "على ضفاف الكارثة 1992"، كيف غمرني بحنانه وهو يهمس في أذني: سأشبك يدي بيدك حتى آخر العمر.

ـ1ـ

مِدّ إِيدَكْ مِدّْ مِنْ إِيدِي

يَا نَسْر.. غَطَّى الْجَوّ بِجْنَاحُو

عِيدَكْ.. مَا كَان بْيِنْقِلِبْ عِيدِي

لَوْ مَا تْلَوِّنْ دَفْتَرِي بِالنُّورْ

وْتِسْكُبْ بِإِيدَكْ زَيْت مِصْبَاحُو!

ـ2ـ

شَاعِر كْبِيرْ.. وْلَيْش تَا تِحْتَارْ

يَا مَجْد.. مَجْدَكْ غَلّ بِحْرُوفُو؟!

عِشْنَا بْزَمَنْ فَبْرَك قْلُوب حْجَارْ

وْمِن كِتِرْ حبُّو وْلَهِفْتُو عَ النَّاسْ

بَيْن الدّمُوع دْمُوعْ بِتْشُوفُو

ـ3ـ

جُبْرَانْ؟!.. مِتْلُو.. وِالْهَجرْ مَسْؤولْ

رَصَّع جْبِين الْحَرْف بِكْتَابُو

غَيَّرْ صُوَرْ.. طَفَّى صَهِيل عْقُولْ

وْمِنْشَان يِبْقَى الشَّرْق شَرْق الْعِزّْ

شَكْشَك نْجُوم الْعِزّ بِتْرَابُو!

ـ4ـ

عِصْمَت.. يَا عِصْمَتْ.. خَبِّر الْكُورَه

عَنْ شَبّ ضَوَّى اللَّيْل قِنْدِيلُو

زْهُورُو.. عَ مَدّ الْكَوْن مَشْرُورَه

مَحَّى "ضِفَاف الْكَارْثِه" وِارْتَاحْ

بِقْلُوبْنَا.. وْما فِي حَدَا يْشِيلُو!

   وإن أنسى لا أنسى كيف انبرى هذا الأيوبي الأكاديمي للدفاع عن الشاعر نزار قبّاني يوم هاجمه الاستاذ جهاد فاضل، واتهمه بسرقة قصيدته "مع جريدة" التي غنتها الفنانة ماجدة الرومي، من شاعر فرنسي، والقصيدة تقول:

   أخرج من معطفه الجريده..

وعلبة الثقاب

ودون أن يلاحظ اضطرابي..

ودونما اهتمام

تناول السكر من أمامي..

ذوب في الفنجان قطعتين

ذوبني.. ذوب قطعتين

وبعد لحظتين

ودون أن يراني

ويعرف الشوق الذي اعتراني..

تناول المعطف من أمامي

وغاب في الزحام

مخلفاً وراءه.. الجريده

وحيدةً

مثلي أنا.. وحيده

   وراح، أي عصمت، يفند كل عبارة في الهجوم، ويدحضها بعبارة أصدق، خلال لقاء إذاعي أجراه معه الاستاذ مارون تادروس، فأعجب نزار قباني بمرافعة عصمت الايوبي الدفاعية كمحام متمرس، وأرسل لي هذه الرسالة التي يشكره بها بكلمات ولا أجمل:

   يا شربل الحبيب..

   ما هذا الشريط الخرافيّ الذي بعثت به إليّ؟.. لقد دوّختني.

   فعمّك الدكتور عصمت الأيّوبي يمطر من الشرق، وأنت تبرق.. وترعد.. من الغرب.. وأنا تحت أمطار حبّكما بلا مظلّة..

   هل يمكن أن يأتي الربيع كلّه من أستراليا.. بلا موعد سابق؟

   هل يمكن أن أنام ليلة كاملة على وسادة من الياسمين.. وأصحو على صوت العصافير.. وأغتسل بماء العشق؟..

   إنني أعرف أبعاد حبّك النزاري، ونوبات جنونك الجميل، ولكنني لـم أكن أتصوّر أن عمّك دخل في الحزب.. أيضاً.. وصار يضارب عليك في الإيديولوجيا النزارية..

   إن حديثه فاجأني برقّته، وحضارته، وثقافته، وجذوره الشعريّة، ومنطقه المتماسك.

   أمّا أنت.. فقد كنت كديك القرية تمارس فحولتك على آخرها.. وتفقأ عين الدجاج الناقد.. وتنتف ريشه.. حتى سقط مضرّجاً بدم أحقاده..

   الواقع إن القصّة كلّها سخيفة، وجاهلة، ومتخلّفة ثقافياً.. ولكن ماذا تفعل إذا كانت (ثقافة زيت الكاز) تحاول أن تشتري كلّ شيء.. بما في ذلك كبرياء أبي الطيّب المتنبي..

   ولكن أبا الطيّب المتنبي.. لا يمكن أن يباع في السوبر ماركت.. ولا يمكن لكلماته أن تتحوّل إلى جوارٍ في سرير أمير المؤمنين..

   فشكراً للدكتور عصمت الأيوبي على شهادته الثـمينة، وشكراً لك أيّها الديك الرائع الذي ملأ الدنيا، وخوّف قارة بأكملها بشجاعته وفتكه ومروءته.

نزار قبّاني

مجلة ليلى ـ العدد 33 ـ تموز 1998

**

   رحمك الله أيها الأيوبي العظيم..

   رحمك الله أيها الجبل الذي لن يتمكن الثرى من حجب شموخه..

   رحمك الله أيها المفضل علي، وعلى الكثيرين من أمثالي..

   وأنا على يقين من أن الجنة السماوية ما وجدت إلا لأمثالك، فنم قرير العين، وتأكد من أنني لن أنساك.

   وبعد سنوات مؤلمة على رحيله، يجمعني به مجدداً هذا الكتاب، الصادر ضمن سلسلة "شربل بعيني بأقلامهم" التي بدأ بنشرها عام 1986 المرحوم كلارك بعيني، والذي يوزّع مجاناً تخليداً لذكراه العطرة، إذ مثله لا يموت.. أجل.. لا يموت.

                            شربل بعيني

**

شربل بعيني: 

الصوت، الصدى والمدى

جريدة صدى لبنان ـ بتاريخ 7/6/1989


   ما زالت حكاية شاعر المهجر الأول شربل بعيني تتفاعل وتتكامل، آخذة في الارتقاء من قمة الى قمة، ومن قطر الى قطر، تتداولها الاحلام، وتتناقلها الاقلام مادة شهية، وموضوعاً شيّقاً، يداعب العقل والقلب والخيال كأجمل ما تكون الأساطير، وأنصع ما تكون الحقائق.

   هذه السحابة الخيّرة المتصاعدة من سماء بلدة "مجدليا" الكريمة بعطائها، المعروفة بسخائها، ما تزال تمخر عباب الجوزاء، وتحلق في غمار الفضاء حاملة في طيّاتها بيادر الخير والبركة، وناشرة الأمل والضياء والرجاء في النفوس المدلهمة يخنقها اليأس، ويلفّها البؤس، ويكاد يقتلها القلق والخوف على المصير والمستقبل والوطن.

   لقد كتب شربل بعيني الكثير، وأنشد الكثير، وضحى بالكثير من جهده، ووقته وماله في سبيل الكلمة والفكر، مستلهماً ضميره واصالته ورسالته في كل ما يذهب اليه. فأحبه الجميع، ونال شهرة واسعة، واحترام كل من يقدر الفن والنثر والشعر، فإذا به ينثال الى داخل كل بيت وكل قلب، كما ينثال شعاع من الضوء الى ركن مظلم مهجور.

   وإذا كان الانصاف والاجحاف طبيعتين فطرت عليهما النفس البشرية، وانطوت عليهما سرائر الناس، فلا عجب، والحال هذه، ان يكون لشربل بعيني منصفون يعترفون بفضله ويقرّون بجميله، ومجحفون يحاولون تطيين شمس الحقيقة وحجب انوارها، بانتقادات عقيمة من هنا، او مآخذ هزيلة من هناك، ولا غرو، فهذه سنة الخلق منذ كانت الخليقة.

   لكن شربل بعيني لم يأبه لشيء من هذا، ولم يكترث بالقيل والقال، فتابع مسيرته كالعملاق بخطى ثابتة، وتصميم وثقة بالنفس والجماهير، فلم يزده كلام المنصفين إلا تواضعاً ومضاء، ولم يفت في عضده نقيق الجاحدين.

   وهكذا ظل صوت شربل مدوياً باطراد، عالياً ناصعاً كالثلج، ليس في سماء لبنان وحده، ولا في سماء استراليا فحسب، ولا في مربد العراق حصراً، وانما في أرجاء شاسعة من المعمور. انه صوت شربل بعيني وكفى!.

   ولوكان التقييم على قدر المحبة والعلاقة الشخصية، لما اكتفيت بهذا النزر اليسير من فضل شاعرنا، ولكنت في حاجة الى شرح طويل. ولكن الامور النقدية يجب ان ينظر اليها بعين العقل، وميزان الحقيقة، وهذا ما قصدت اليه.

   فلقد كان الصوت وكان الصدى، وحيث يكون صوت لا بد من صدى.

   لقد جاء رجع الصدى هذه المرة من الشام، وما أبعدك يا شام عن أستراليا، وما أقربك يا هذا الصدى من الواقع. ما أقربك أيها الحلم من الحقيقة. ما أقواك أيتها الكلمة وما أوثق عرى صداقتك! انك لا تعرفين حدوداً، ولا تهابين سدوداً، انت السيف وانت الحتف وانت الموت وانت الحياة.

   فها هو محمد زهير الباشا يضع دراسة عن شعر شربل بعيني عنوانها "شربل بعيني ملاّح يبحث عن الله" تقع في مائة وست وسبعين صفحة. تتناول الدراسة شعر شربل من نواحيه المتعددة بأسلوب شيّق، وتحليل عميق، يدلان على طول باع هذا الأديب "المنصف" في ميدان الأدب والفن وصناعة الكتابة، رائده في ذلك كله الحقيقة، وما أقل رواد الحقيقة في هذه الأيام!.

   لم يتوخّ أديبنا الباشا من وراء دراسته نفعاً شخصياً، مادياً او معنوياً، فهو يجل من هذه الغاية، وليس في حاجة الى شهرة، فقد يكون يتمنى لو لم يكن مشهوراً لأنه لم يحصد ثمن كلمته إلا ما يحصده كل حر كريم من النكبات والفواجع! إلا أن رجال الكلمة والمواقف لا تأخذهم رهبة، ولا تثنيهم رغبة، ولا يجمعهم حسب، ولا يقرّبهم نسب، إلا حسب الكلمة ونسبها.

   أجل لقد تآخى محمد زهير الباشا وشربل بعيني من خلال الكلمة الحرة النظيفة، فكانت صلة النسب بينهما، وكانت جواز عبور متبادل بين الأديبين الكبيرين، فقد أثبت الأدب انه أقوى من الحواجز المصطنعة، وأقوى من حواجز رجال السياسة، وأقوى من أكياس الرمل وكتل الاسمنت المسلّح، وأقوى من كل الأنظمة الوضعية. ان هوية الادباء تمر عبر الماء والهواء والتراب، عبر نسيم البرتقال والزيتون، وعبر الرياح الشرقية والشمالية والجنوبية والغربية، ومستحيل ان يعترضها مأمور، أو يصادرها مكلف. انها لغة الروح، والروح لا تسأل أينما تجيء وتروح.

   وماذا عن المدى، بعد الصوت والصدى؟

   المدى، هو يوم الثلاثين من حزيران، يوم الأديب محمد زهير الباشا، فقد دعا أبناء مجدليا في لبنان وأستراليا، مشكورين، الى تكريم هذا الأديب الكبير في مهرجان حافل تشارك فيه جماهير غفيرة من أبناء الجالية، من أدباء وفنانين ومطربين وفعاليات مختلفة، ويكون بمثابة يوم للأدب المهجري في أستراليا.

   ان الجسر الأدبي الذي أقامه الاديب الباشا بين الشام وأستراليا رابطاً به أدبنا المهجري بقافلة الأدباء في الوطن الأم، ومظهراً شمولية هذا الأدب وانسانيته وعالميته، خطوة رائدة تستحق التقدير والاهتمام، ونأمل في أن تليها خطوات أخرى باتجاه جميع الأقطار العربية والمهاجر الأخرى، وعندئذ فقط يكون اكتشاف القارات الخمس قد تمّ بشكل علمي وكشف أدبي سليم.

   الأستراليون يتبجحون ويفتخرون ويقيمون النصب التذكارية للكابتن "كوك" وجماعته رواد الفتح الأول لهذه القارة.

   فهل يأتي يوم نعي فيه نحن العرب قيمة فاتح من نوع آخر اسمه محمد زهير الباشا؟

**

حيّوا "إحياء التراث العربي"

جريدة البيرق ـ بتاريخ 10/4/1987


   تميّزت نهاية الأسبوع الفائت بظاهرتين ثقافيتين بارزتين تجدر الاشارة اليهما، كما تجدر الاشادة بهما.

   الظاهرة الأولى تجلّت بالاحتفال التكريمي الذي أقامته رابطة احياء التراث العربي، مساء الجمعة، في قاعة "مدرسة ويلي بارك" للبنات، تكريماً للشاعر الغريب "زين الحسن"، في حضور لفيف من الأصدقاء والأدباء ورجال الصحافة العربية المحلية.

   اما الظاهرة الثانية فقد تمثّلت "بالأوكازيون" الثقافي الذي أطلقه السيّد حبيب فارس، صاحب مكتبة "نيو اريا بوك شوب" الكائنة في 425 "بيت ستريت" سيدني، يوم السبت اعتباراً من التاسعة صباحاً حتى الرابعة بعد الظهر، وقد شمل العرض مجموعات مختلفة من المؤلفات باللغة العربية، توزعت على مختلف الميادين والمواضيع، بحسومات محترمة بلغت خمسين بالمئة من الاسعار الأصلية.

   والحفل التكريمي الذي كان محوره الشاعر الغريب عن جدارة واستحقاق، تحوّل مهرجاناً وطنياً، بل قومياً رائعاً، ممهوراً بالصدق، وملتهباً بالاريحيات الخصبة والوجدان الصافي. 

   واذا كانت العبقريات التي تعاقبت على منبر الكلام متعددة الجنسيات واللهجات، فإن الجامع المشترك بينهما كان عنصر اللغة العربية الام، هذه اللغة التي عبّر بها خطباؤنا الاجلاء خير تعبير عن الهم المشترك والامل المرتقب. فاللغة التي تدفقت جرفاً وطنياً وعربياً ولبنانياً صادقاً، كانت نابعة من قلوب أدبائنا قبل أفواههم. فأشعارهم وأزجالهم ونثرهم كانت كلها مطارق حامية تنهال على رؤوس الطائفية والعنصرية والاقليمية الضيقة، والتعصب المقيت، وعلى جماجم المشتغلين بزرع الفتنة والتفرقة بين أبناء الاسرة الواحدة، مستشهدين بأبيات ومقاطع للشاعر الغريب تصب في هذا المجال.

   ولكن ما استولى على اعجابي، واثار اعتزازي أكثر، لم يكن هذه العواطف النبيلة والاحاسيس الجذابة، بقدر ما أثّرت في نفسي "اللغة" بحد ذاتها. 

   هذه اللغة المهاجرة المهجّرة من الأوطان لا من الأذهان.

   هذه اللغة التي ما تزال تحتفظ برونقها وجمالها خارج اطارها الجغرافي، وبعيداً عن بيئتها الطبيعية. فإذا هي عروس عربية الوجه واليد واللسان، سليمة من أي عاهة في اللفظ والتركيب والمعنى، لا يشوبها لحن، ولا تعتريها ركاكة، حتى ليحسب سامعها نفسه في حلقة من حلقات "المربد" الأدبية، حيث يصفّى شهد الكلام في قوالب شعرية بليغة خالدة.

   انها اللغة التي تحفظ تراثنا من الضياع والذوبان في عالم المادة والشهوات. فالحمد لله على هذه الملكة الحساسة، لا على ملوك السياسة.

   ثم ماذا أيضاً؟ ماذا غير هذا التأنّق الكلامي والذخر اللغوي؟

   هناك هذه الثقة التي يتمتّع بها شعبنا أنّى رحل، وحيثما حلّ، التي تورثه المحبة والاحترام من قبل الآخرين، فتراهم يسارعون الى الأخذ بيده في أثناء عثرته، ولا يرفضون له طلباً. وهل تقديم القاعة مكان الاحتفال مجاناً إلا ترجمة صادقة وتعبير حي عن واقع هذه الحقيقة؟

   بعد هذه الومضات السريعة عن المهرجان، ماذا عن "الأوكازيون"؟

   اذا كان المهرجان التكريمي قد أعاد الى نفوسنا الأمل والاعتبار بمستقبل "لغتنا" الآخذة بالتحدي المريع الذي يواجهها في ميادين كثيرة، فإن "الأوكازيون" المشار إليه قد أعطانا دفعاً قوياً وإيماناً راسخاً بأنه لا يزال هناك رجال مخلصون يعطون بقدر ما عندنا من أدمغة تستحق العطاء والتقديم. فدور الكتب هي للأدباء بمثابة الغذاء للجسم، منها ينهلون، وبقدر ما تكون هذه الدور مرنة في البيع والشراء، وعلى شكل يتناسب مع جيوب الأدباء، يكون الانتاج الثقافي والانتشار اللغوي والمد الادبي أوسع واشمل واغنى فكراً ومضموناً وآفاقاً.

   يفسّر هذا الكلام ويؤكده جموع المحتشدين الذين تهافتوا على شراء الكتب من "نيو آريا بوك شوب" صبيحة العرض، تهافت النحل على اطباق من الحلوى.

   أول الضحايا كانت "القواميس". هذه "القواميس" التي كانت الهدف الاول لهجوم المثقفين الذين راحوا يصوبون اليها نظراتهم، ويطبقون عليها أصابعهم العشر قبل أن تتمكن من الفرار، بحيث سقط آخر معقل من معاقل "القواميس"، في الدقائق الأولى من بدء الهجوم، ولم يبقَ قاموس يخبّر، علماً بأن صاحب المكتبة، كما روى لنا، قد استمات في الدفاع عن "قواميسه"، وحاول اقناع المهاجمين بالتريث، ومد أجل المعركة مدة أطول، وترك الباب مفتوحاً أمام مهاجمين آخرين بالتقنين في بيع القواميس، وعدم بيع شخص واحد أكثر من قاموس واحد. إلا أن وساطته فشلت وطارت كل "القواميس".

   ليس المهم بيع "القواميس" بحد ذاته، فالبيع عملية تجارية وتهم البائع وحده، بل المهم هو شراء "القواميس" والعمل بها. لأن العمل بها يعني إعمال الفكر. والعمل الفكري ليس هزلاً ولا لعباً، وإنما يلزمه جلد وصبر ومراس. واذا ما سلمنا حكماً بأن اللغة أم، أفلا يجدر بنا أن نحترم أمنا ونجلها أحسن إجلال؟

   ومن أولى من الأدباء والشعراء بأن يؤمّ دور الكتب، خصوصاً إذا "شمّ الأديب" رائحة الرخص في موسم الغلاء! فإذا بي أسلّم على الشاعر شربل بعيني، وكنت قد التقيته عشيّة تكريم الشاعر الغريب، وكان قد حضر "ليرد الدين" على حد تعبيره، للشاعر المحتفى به، ويمضي كلانا منقباً عن حاجته، وباحثاً بين الزحام عن ضالته.

   صحيح أن الأدباء غرباء. ولكنها مقولة تصحّ طرداً وعكساً، بحيث يصدق القول ان من "الغرباء" أدباء. إذ وجدتني فجأة أنظر بعين الاشفاق والاكبار أكثر الى شابة أجنبية شقراء، نحيلة القوام، راحت تهبط أدراج السلم المؤدية الى الطبقة السفلى، حيث معرض الكتب، تهبط ببطء وألم، ويمشي بها عكازات بسبب علة أصابت قدميها ـ شفاها الله ـ والى جانبها شاب يتكلّم معها العربية، وهي تجيب على قدر ما أوتيت من هذا اللسان. وقد سمعت هذا الشاب يردد كلمة "مستشرق" أكثر من مرة، فاستخلصت انها أجنبية تدرس اللغة العربية. فأكبرتها في نفسي، وأكبرت لغتي الآخذة بالتمدد خارج رمال صحرائها. لعل الفتاة قد أدركت قيمة القول المأثور: "ما نقص من مالك ما زاد في عقلك" أي لم يضِع من مالك ما وعظك.

   ومع اني حضرت للتبضع من هذا الأوكازيون، لا أخفي أن "القواميس" كانت على رأس اللائحة، ولما وجدتها قد انتقلت الى رحمة الله، عزّ علي أن أخرج من العرس من دون "قضامة" فابتعت ما فيه النصيب، ورجعت وعيني على "القواميس".

   نحن في غربة، والغربة قد تطول، فعلينا ألا ندع تراثنا يجف بين الأوراق، ينخرها السوس، فلنختزنه في النفوس أكثر من اكتنازنا الفلوس.

   ان حفل تكريم الشاعر الغريب، بمن حضر ومن تكلّم، وان "أوكازيون" السيد حبيب فارس وما رافقه من كسر للغلاء ومد عملاني، مؤشران دافعان على مواسم أكبر، والنوى أول الشجرة، والفضل للمبتدي وان احسن المقتدي.

**

أعطيت القوس باريها

النهار، العدد 565، 12/11/1987

 

   السندباد مسافر إلى بغداد، إلى بلد الرشيد، ومنارة المجد التليد.

   هوذا الشاعر شربل بعيني يتوثّب، يستعد، يتهيّأ، يخاف، يتهيّب، لأنه ليس في زيارة عادية.

   إنه على موعد مع مهرجانات المربد الشعريّة.

   والدعوة، وان كانت باسم شربل بعيني، إلا أنها لا تعنيه وحده. إنها تعني جميع أبناء الجالية العربية في هذه القارة. وبالأحرى، فإنها موجهة إلى أدبنا المهجري في الصميم. إلى كرامتنا القومية. إلى حركتنا الثقافية في هذه البلاد.

   لأن شربل بعيني هو ابن هذه الجالية البار، الغيور على سمعتها، والحريص على سيرتها. يشاركها الفرح، ويقاسمها الترح، ويتفاعل معها في السرّاء والضرّاء على السواء. وليست دعوته الى مهرجانات المربد إلا انتزاعاً لاحترامنا، واعترافاً بالمستوى الذي بلغه أدبنا المهجري على يد هذا الشاب المفعم بالاخلاص والحماسة، وأمثاله من الأدباء والشعراء.

   وفخر واعتزاز لنا ووسام تقدير، كوننا كلنا شربل، وكون شربل في قلب كل واحد منّا، يتمثّل إحساسنا، وينطق بلساننا، ويعبّر عن أفكارنا. نزكّي قوله سلفاً والضوء أمامه أخضر أخضر.

   لكن شربل خائف من السفر، لا لأي سبب، ولأكبر سبب. فقد صارحنا منذ أيام عدة إنه يخشى ركوب الطائرة كثيراً كثيراً، وانه يطير النوم من عينيه كلما لمعت برأسه فكرة السفر، وان ركبتيه ترتجفان كلما أتى على سيرة الطائرة الملعونة.

   باختصار، مكره أخوك لا بطل..

   لا، يا أخي شربل، لا تخف، سر وقمر لك، فمن طلب عظيماً خاطر بعظيم، وإما هلك وإما ملك.

   لا يجوز يا أخي أن نشتهي ونشتكي، فأنت في مهمة تاريخية جديرة بالمجازفة. أما سمعت انه من شهوة التمر يمصّ النّوى؟

   ان لكل عود عصارة، وعصارة عودك يجب أن تكون طيباً زكياً، يضمّخ به جبين جاليتنا الكريمة، وجبين أدبنا المهجري.

   فإذا ضربت فأوجع، وإذا زجرت فأسمع، ودع عنا مقولة الجبناء: ويل للرأس من اللسان. واعلم بأن الإجماع ليس بمستطاع، وان ما ينفع الكبد يضر الطحال.

   أعطيت القوس باريها. 

   على الطائر الميمون يا شربل..

   لبنان في شربل.. شربل في المربد.. ونحن في الانتظار، والله الموفق.

**

يوم شربل بعيني


قلبي يسابق في الكلام لساني

للشكر والتعبير عن عرفاني

يتنافسان على اداء مشاعري

لكن.. هما في القصد متفقان

شكراً لكم.. شكراً جزيلاً مفعماً

بالحب والتقدير والإيمانِ

أولمتمُ للحرف خير وليمة

وغمرتموه بأطيب الألوان

لا بالطعام ولا الشراب ونحوه

لا بالذبائح أو بنحر الضانِ

لكن بما أظهرتمُ من غيرة

ورعاية رسمية وتفانِ

من أجل "إحياء التراث" ودعمنا

دعماً سنحفظه على الأزمانِ

شرف لنا أنّا دعينا ههنا

ووسام تقدير رفيع الشانِ

أكرم بكم سفراء من بلدانكم

وبلادكم يا سادتي بلداني

مثلتمُ أوطانكم بأمانة

وأصالة من شيمة العربانِ

ورفعتمُ اسم العروبة عالياً

في كل أرض زرتمُ ومكانِ

بمآثر ومكارم وفضائل

يتندر القاصي بها والدّاني

أوحى بها رؤساؤكم وملوككم

وبها تعوّذتم كحرز أمانِ

مستلهمات من مناهل عذبةٍ

في البرّ والأخلاق والإحسانِ

الله يحفظ ودّكم ويديمكم

كأصابع الكفين تتحدانِ

الضّادُ تفرحُ أن يكرّم شاعرٌ

فيكرّم الإنسانُ بالإنسانِ

ما "شربل" إلا فتى أحلامنا

حمل الرسالةَ داخل الوجدانِ

كبراعم الزهر النديّ يصونها

ويصوغها في أجمل الألحانِ

فتذوب حيناً رقةً ولطافةً

وتثورُ، حين يثورُ، كالبركانِ

والضّاد أنتم أهلها وحماتها

والضّادُ أشرف لهجة ولسانِ

إن تحفظوها تحفظوا أمجادكم

من عنصر التفتيت والذوبانِ

ألله شرّفها وعلّى قدرَها

فاختصّها بكتابة القرآنِ

يا من يرى عقد الأخوة مبرماً

هذا النهار بسلكه الفتّانِ

كيف الاشقاء الكرام تحلّقوا

كالشهب حول شقيقهم لبنانِ

يعطوننا درساً بليغاً قيّماً

في الاتحاد وقوّة البنيانِ

إنّا وإن كنا ملوك بلاغة

وفصاحة ومنابرٍ وبيانِ

فالعين تحت جبينها مهما علتْ

والرّوس لا تعلو على التيجانِ

**

سمّاك ملاّحاً


ـ1ـ

سمّاك ملاحاً لأن الملح عنوان الحقيقه

ولأنك الملاّح يا "شربل" قد نلت الوثيقه

ووثيقة "الباشا" إذا تحظى وتعطى للخليقه

فنتيجة البحث العميق وبعد أحكام دقيقه

وحيال إبحار وغوص في الخضمّات العميقه

حيث المحار وحيث مكامن الدرر الأنيقه

ـ2ـ

سمّاك ملاحاً.. وهذا الإسم يختصر العذاب

وكذا فقد أبحرت تمخر من عباب الى عباب

وتصارع الأنواء لا تعباً تحس ولا تهاب

وبكفّك المجذاف يلطم تارة خد السحاب

ويغوص في الأعماق طوراً مثل لحن من رباب

وتعود كالعملاق قد غنم الحقيقة ثم آب

ـ3ـ

سمّاك ملاحاً لأنك ما سئمت من الجهاد

وظللت تبحر دون خوف من بلاد في بلاد

وتثور في وجه المظالم والتعصّب والفساد

تدعو الى وطن عزيز سيّد حرّ القياد

ويكون فيه الدين مجلبة لتوحيد العباد

لا أن يكون الدين أسلوباً لفسخ الاتحاد

وخزعبلات لا تزيد الناس إلا إبتعاد

فالناس من كل الطوائف والملل

في الاصل كانوا من تراب

ولسوف نرجع للتراب

لا زاد للإنسان إلا ما يقدّم من عمل..

ـ4ـ

سمّاك ملاّحاً لأنك قد كسرت الخابية

وكشفت عن خمر وخلّ في حنايا الجالية

وجعلت تنتقد المساوىء والأمور البالية

وتحرّك الإحساس بالشيم الكرام العاليه

وتقول: يا قوم انبذوا كل الضغائن والفتن

وتوحّدوا وتكاتفوا نقوَ على كل المحن

كونوا على قدر التحدي والمآسي والصعاب

أنتم هنا لبنان في المنفى ودنيا الاغتراب

كونوا جميعاً للوطن

كونوا على طول الزمن

أو تدفعوا ثمن التمزق بينكم أغلى ثمن.

ـ5ـ

فهل الذي سمّاك ملاّحاً يفتّش عن إله؟

هل كان إلا ذلك الملاّح مثلك في أناه؟

فهو الذي ضجّ الإله ببحثه ليلاً نهارا

وهو الذي ما انفكّ يلهث جاهداً سراً جهارا

فكلاكما الملاّح يبحث عن إله في مكان

ما فيه لله أثر

إلا تلاشى واندثر

لا تيأسا فالله ينتظر التحرّر والخلاص

قد ضاق ذرعاً بالبشر

واستاء من ظلم البشر

ومن حماقات البشر

حتى بنفسه قد كفر

والبعض قال قد انتحر

ملاّح.. لا تيأس إذا ما طال بحثك والسفر

فابحث لعلّك في النهاية مدرك بعض الوطر

واصبر فإن نتيجة الصبر الجميل هي الظفر

**

ثورة الأقلام


ما بين "مجدليا" وبين "الشّامِ"

دربٌ يشقّ على ذوي الإقدامِ

دربٌ عليه الموتُ يرقص فاجراً

ويحفّ بالأخطار والألغامِ

ومزنّر بحواجزٍ وبنادقٍ

وعليه تجري أبشع الأفلامِ

لا يستطيع الحرّ أن يجتازه

حتى ولو بالسحر والأحلامِ

حفرته آلات السياسة باطلاً

لتهونَ قسمتنا إلى أقسامِ

فإذا البلاد هياكل عظميةٌ

وإذا الشعوب تساسُ كالأنعامِ

بئس الحدود تحدّ من آمالنا

وتزجّنا في شقوةٍ وخصامِ

وتقولوا: كونوا كلّ شبر دولةً

ودويلة قزماً من الأقزامِ

وتخيّروا إسماً لكل دويلةٍ

وتخيّروا علماً من الأعلامِ

لهفي على وطن تقوّض مجده

لمّا استبد به هوى الحكّامِ

لن.. وإن جعلوا السياسة آلةً

للفصل بين لحومنا وعظامِ

ليفرّقوا بين الشقيق وشقّه

وليبتروا الوسطى عن الإبهامِ

فليعلموا أن الحدود وإن علتْ

لا تحجبُ الإفهامَ عن إفهامِ

كل الحواجز والمدافع ميتةٌ

لمّا تثورُ مجامرُ الأقلامِ

هذا هو "الباشا"1 وهذا "شربلٌ"2

قد حطّما أسطورة الأصنامِ

وتجاوزا كلّ السدود بكلمةٍ

عبرت بدون كوابح وزمامِ

وتحدّت "القانون" دون مهابةٍ

لا من رقيبٍ صدّها ولجانِ

مثل الغمامة في السماء تحدّرت

حيث لأنامُ على أشد هيامِ

فسقت وعادت حرّة وطليقةً

تزهو بأحلى حلّة وسلامِ

وعليها حاشية: فهمنا قصدكم

ولكم تحيّاتي ومسك ختامِ

هل يفتح الحكّام يوماً عينهم

فيميّزوا بين حمائمٍ وهيامِ

إن كان من سبب يفرّق بيننا

ويجرّنا لتقاتلٍ وصدامِ

فهناك ألف وسيلةٍ أخويّةٍ

للعيش إخواناً بكلّ وئامِ

فإلى متى "الملاّحُ" يبحث جاهداً

عن ربّه في زحمة الأوهامِ

فمتى وجدنا الله كان خلاصنا

وخلاصنا يعني خلاصَ "الشّامِ".

1ـ محمد زهير الباشا

2ـ شربل بعيني

**

سفير المحبة

صوت المغترب ـ العدد 1077، 3/5/1990


إن قلت شعراً فمنك الشعرُ ينسكبُ

أو قلت نثراً فمنك النثرُ يُكتسبُ

أو قلت قولاً بديعاً كنت مصدره

فالشعرُ أنت وأنت الفنّ والأدبُ

لكل معنى لطيف أنت مدرسةٌ

وكل حسنٍ على الاطلاق أنت أبُ

ما كنت أرغب في مدح الرجال ولا

يوماً جرى قلمي فيهم بما رغبوا

لأنني مدركٌ أن المديح له

مهما سما آفتان: الكسبُ والكذبُ

لكنني عبد أخلاق الرجال وما

في أن أكون كذا عارٌ ولا عجبُ

حاشى لشعريَ أن ينسى فضائلكم

وهل فضائلكم في الناس تحتجبُ؟

والله عيب على الأقلام إن سكتت

لا حبذا قلمٌ في الحق يضطربُ

بيني وبين سفير الخير"1" رابطةٌ

بها تشرّفت واستقوى بها النسبُ

عرفته من زمانٍ سيداً علماً

في كل أرض أتاها صيته ذهبُ

ما حلّ في بلد إلا وصار به

يؤرّخ العمر والايام تحتسبُ

سليل بيت كريم طاب محتده

يكفيه فخراً إليه الحُسن ينتسبُ

إن قيل نبلٌ فهذا من جُبُلَّتهِ

خلاصةُ الفضل من كفّيه تحتلبُ

أو قيل علمٌ فدنيا ما لها أفقٌ

بحر محيط سحيق شاسع لجبُ

أو قيل حلم "فمعنٌ إبنُ زائدةٍ"

شيئاً قليلاً يدانيه ويقتربُ

حقيبة السلك منكم تستقي شرفاً

ومن أصالتكم تستخلص الرتبُ

فيكم من السحر ما يكفي ليسكرنا

فليس كل مدامٍ أمها العنبُ

مثّلت لبنان في شتّى الديار فيا

نعم السفير عن الأوطان ينتدبُ

لبنان همّك! وا لبنان! وا أسفاً

جريمة العصر في لبنان ترتكبُ

من لحم لبنان طير الجو قد شاعت

ومن دماهُ وحوشُ الأرض قد شربوا

كأنما الكون كل الكونِ منشغلٌ

عنا فلا بؤبؤ يهتز أو هدبُ

ويدعون على لبنان غيرتهم

ويذرفون دموعاً كلها قِحَبُ

ما ينطقون به سوى عهرٍ وسفسطةٍ

هُمُ الأفاعي وفي أنيابها العطبُ

لا مجلس الأمن أعطانا الأمان ولا

أعطى قراراً يُجازى فيه مغتصبُ

لا بيت أبيض أو أسماء توريةٍ

أو بيت أسود إلا مسّه الجربُ

كل القرارات ما زالت معطلةً

بفعل "فيتو" سياسات لها ذنبُ

ماتت ضمائرهم، من ذا يؤنبهم؟

وهل يحسّ بتأنيبٍ له الخشبُ؟

ونحن ما زالت الأنواء تقذفنا

في فوهة النار والبركان ملتهبُ

ها نصف لبنان أشلاء ممزقة

ونصف لبنان مفقود ومغتربُ

وكيف يرتاح قوم جارهم جشعٌ

في أرضهم طامعٌ في الماء مرتغبُ؟

جاؤوا بهم زمراً من كل ناحيةٍ

بيضاً وسوداً سواء كلهم جلبُ

وجمّعوهم كشعب بائس تعسٍ

وعلبّوهم فلا كانوا ولا العلبُ

داسوا الشعائر لم يرعوا لها حرماً

ذا دأبهم منذ روح الله قد صلبوا

كنيسو المهد إحكي عن غرائزهم

ويا قيامة كيف القدس تُنتهبُ

ألله أكبر تبكي في مآذنها

ورجع أجراسها في العيد ينتحبُ

لبنان غايتنا لا نرتضي عوضاً

عنه ولو انه مستهلكٌ خربُ

لبنان صبراً فأنت اليوم ممتحنٌ

وكل عسر مع الايمان ينقلبُ

ما دام فيك رجالٌ عند موقفهم

مهما الرزايا طغت واشتدت النوبُ

رجال دين ودنيا الحب رائدهم

والحب يصنع ما لا تصنع القضبُ

ليلاً نهاراً يجوبون الدنى طلباً

للبرء من أزمة غاصت بها الركبُ

وليس يقعدهم يأسٌ ولا سأمٌ

من أجل لبنانهم كل المنى ركبوا

ان يسألوا دمهم كان الجواب دماً

أو يسألوا الروح قالوا يُرخص الطلبُ

سيادة الحبر(2) أهلا بين جاليةٍ

وبين أبنائكم يحدوهم الطربُ

شرّفتنا اليوم اذا اتحفت مجلسنا

بالبشر زاد وبالآمال تنسكبُ

لبنان أنتم له وزن وقافيةٌ

لبنان أنتم له الشريان والعصبُ

اني أرى ههنا لبنان ملتئماً

دنيا وديناً وشعباً ليس ينشعبُ

يا مجدليا أقمت اليوم مأدبةً

يا حبذا مجدليا أهلك النجبُ

جمعت جالية من حول مائدة

فيها تجلّت فنون الذوق تجتذبُ

أبناؤك الغر لم يأتوا بمحدثةٍ

وإنما ذلك العادات والدأبُ

حب الضيافة طبعٌ من طبائعهم

والطبع ثروته الأنسابُ والحسبُ

شكراً لشربلنا"3" الداعي وأسرته

شكراً يُقصّر عنه النطق والكتبُ

شكراً لمن حضروا.. شكراً لمن أكلوا

شكراً لمن طبخوا.. شكراً لمن سكبوا

عفواً سعادتكم عفواً سيادتكم

ان قلت شيئاً عليه اللوم والعتبُ

عن كل زائدةً أو كل ناقصة

فليسعف الصفح إن لم يسعف الأدبُ

1ـ السفير لطيف ابو الحسن

2ـ المطران يوسف مرعي

3ـ الشاعر شربل بعيني

**

تكريم شربل بعيني

في كانبرا كان حافلاً

النهار ـ العدد 573، 14/1/1988


   كبيراً ذهب الشاعر شربل بعيني الى بغداد، وكبيراً عاد منها. 

   فقد لبّى هذا الشاعر الجريء دعوة لحضور مهرجانات المربد الشعرية هناك، فحمل الرسالة وأدى الأمانة على أتمّ وجه.

   فقد كانت أشعاره محط أنظار جميع الأدباء والشعراء الذين أكبروا فيه هذه الموهبة الشعرية الفذة، وهذه الجرأة الأدبية المميزة، وجعلت نظرتهم إلى الأدب المهجري تختلف عن سابق تصوراتهم وتقديراتهم، فبعد زيارة شربل بعيني المربدية، وما تخللها من لقاءات ومقابلات صحافية، وندوات ومناقشات ومطارحات، تبدلت المقاييس، ورفعت الغشاوات عن العيون التي كانت تحجب الرؤية الحقيقية لواقع الأدب العربي، شعراً ونثراً، في القارة الجديدة، كما بذلت وعود، وأعطيت عهود بمد يد العون المعنوي الكفيل بدعم وتيرة هذه الطاقات الفاعلة على الساحة الأسترالية، والمتمثلة بوجه خاص في "رابطة إحياء التراث العربي" التي أطلقت عقال أدبنا المهجري من قيود كثيرة واعتبارات أكثر كانت متحكمة في توجهاته وتطلعاته.

   ولما كان نجاح شربل بعيني نجاحاً في حجم الوطن، الذي حمل همومه، وطرح مأساته، وطالب بإنقاذه ونجدته من على منبر شقيق، وعلى مسامع أساطين العلم والأدب والفكر.

   ولمّا كان الوطن الأم ممثلاً في هذه البلاد تمثيلاً دبلوماسياً على مستوى سفارة..

   ولمّا كان رئيس الدبلوماسية اللبنانية الأول على رأس هذه السفارة هو سعادة السفير الدكتور لطيف أبو الحسن، وهو من هو في الدبلومسية والأدب والنسب، وفي ميادين الوطنية الصحيحة.

   لذلك فقد كان أمراً طبيعياً أن يبادر الرجل الى تكريم الرجل.

   أن يبادر الى تكريم الشاعر الذي كان، هو الآخر، سفيراً في مهمة جليلة، كابد خلالها مشقّات السفر وأعباء الظفر.

   أراد أن يكرّمه فيكرم وطنه بأسره، وجالية بأسرها، ورابطة "بكاملها"، وأكثر من ذلك أمة برمتها، ليكون التكريم أشمل والتشجيع أعم وأوسع، وحافزاً لعطاءات مستقبلية متنامية.

   الثلاثاء الثاني والعشرون من كانون الأول 1987، كان يوم شربل بعيني في كانبرا، العاصمة الفيدرالية للبلاد، حيث يقيم سعادة السفير ابو الحسن، تقرر ان يكون مكان التكريم، الى جانب مأدبة غداء يقيمها سعادته على شرف المحتفى به، ويحضرها السلك الدبلوماسي العربي، وأعضاء الوفود المشاركة.

   منذ الصباح الباكر غادر المدعوون الولاية الأولى متوجهين الى كانبرا، وقد سلكوا لغايتهم خطين: واحد بري، والثاني جوي. أما وفد "رابطة إحياء التراث العربي"، فقد توزّع على سيارتين: سيارة الشاعر شربل بعيني، وكانت تضم، الى صاحبها، رئيس الرابطة الاستاذ كامل المر، والسيدين أنطوان ومرسيل بعيني، شقيقيْ شربل.

    أما السيارة الثانية، فقد كانت تقل الاستاذ فؤاد نمّور، ونجله السيد فارس، والشاعر نعيم خوري وعصمت الأيوبي.

   مسافة الثلاث ساعات الفاصلة بين ولاية نيو ساوث ويلز وكانبرا، مرت كلمح البصر، او كحلم جميل كان لا يزال مستبداً بنا في نشوة الفرح والغبطة. إذ سرعان ما وجدنا أنفسنا على أبواب كانبرا، نحاول معرفة الشارع المؤدي الى مقر السفارة اللبنانية، الذي هدانا اليه بلهفة وشوق علم بلادنا المرفرف بعزة واباء على ناصية دار السفارة.

   ترجلنا وصعدنا الدرجات المؤدية الى قاعة الاستقبال، حيث وافانا سعادته بالبشر والبشاشة مصافحاً ومرحباً أطيب ترحيب.

   مكثنا في السفارة نتبادل أطراف الحديث حتى اكتمل النصاب، ووصل بالسلامة الوفد المجوقل المؤلف من الأخت كونستانس باشا، والأخت مادلين ابو رجيلي، والأخن مارلين شديد، والأديب جرجس طوق. عندئذ أبدى سعادته رغبته في الانتقال الى المنزل حيث حيينا أرزة خضراء رابضة على جبهة منزل عريق بأهله وفضله، ثم دخلنا وتوزعنا في أرجائه الرحبة المشرقة، باشراق وجه سيدته المضيافة السيدة سميرة ابو الحسن، التي راحت تنشر البهجة واللطف والانوار في جميع أنحاء الدار، مسلمة مستفسرة عن أهل البيت، مهنئة، مشجعة، باعثة الامل بمستقبل زاهر، سائلة الضيوف عما يفضّل كل منهم ان يتناول من أصناف المرطبات. حتى ايقنا جميعاً، وبما لا يقبل الشك، ان وراء كل عظيم امرأة عظيمة، وحسبنا دليلاً على ذلك هذه السيدة النبيلة الأصيلة.

   وتكر سبحة الضيوف، ويقل الجلوس، ويكثر الوقوف، وتتقارب الكراسي بعضها من بعض، وتتشعب الأحاديث جماعات جماعات، وحلقات حلقات، وسيد المنزل وسيدته كلما ضاق المنزل اتسعت على وجهيهما علامات السرور والانشراح، لأنهما مفطوران على حب الكرم والضيافة، وهما والفضل المعروف توائم أشقاء.

   السلك الدبلوماسي العربي كان ممثلاً بسعادة سفير المملكة العربية السعودية الشيخ عبد الرحمن العوهلي، وسعادة السفير العراقي السيد انور الحديثي، وسعادة القائم بأعمال السفارة الأردنية السيد علي الكايد.

   كما لبّى الدعوة ايضاً السيد منصور عبدالله القائم بأعمال السفارة اللبنانية، ورئيس النادي الثقافي العربي في كانبرا السيد ميشال غصن، ورجل الأعمال اللبناني السيد فيصل علم الدين.

   وقد تميّزت لقمة الغداء بالشهية والذوق والترتيب، نظراً الى ما تتميّز به ربّة المنزل السيدة سميرة ابو الحسن من فن رفيع، وحس بديع ينعكس على سائر المجالات الحياتية والفنيّة والأدبية.

   مع فنجان القهوة بعد الغداء كانت كلمة ترحيبية رائعة ألقاها سعادة السفير لطيف ابو الحسن، شملت جميع المدعوين، وتمحورت بخاصة حول "رابطة احياء التراث العربي" ودورها في خدمة الادب المهجري، الذي اقترح سعادته تسميته "بأدب التمدد والانتشار"، لكي تظل الصلة بالوطن قائمة متينة بعيداً عن معنى "المهجر"، وما ينطوي عليه من معنى الغربة والاقتلاع. ثم هنّأ الزميل شربل بعيني على مثابرته، ومقاومته لمغريات الحياة المادية، متمنياً له استمرار التقدم والازدهار واطراد النجاح في المهمة التي يضطلع بها.

   رئيس الرابطة الاستاذ كامل المر ألقى كلمة مقتضبة شكر فيها لسعادته اهتمامه البالغ بأمور الأدب الى غيره من المشاغل والشؤون، واعداً بأن تكون الرابطة على قدر المهمة التي انتدبت نفسها لها.

   الشاعر شربل بعيني، بناء على طلب سعادة السفراء، ألقى قصيدته العصماء التي خصّ بها المربد، فنالت استحسان الجميع واعجابهم، وفتحت أعينهم على أدب مهجري جديد لم يألفوا له مثيلاً.

   الشاعر عصمت الأيّوبي ألقى قصيدة شكر لسعادة السفراء العرب شاكراً لهم اهتمامهم بالرابطة والشعراء والأدباء، الذين يرفدون أدبنا العربي بنسغ جديد ودم جديد، وواعداً بمزيد من العطاء والتضامن والتماسك في بوتقة أدبية خالصة.

   ومسك الختام كان الشاعر نعيم خوري، الذي ألقى قصيدة رائعة دافع فيها عن الرابطة، متوعداً متحدياً كل من تسوّل له نفسه الوقوف حجر عثرة في سبيل نهضتها وتقدمها، شاكراً لسعادته اهتمامه بالأدب والعلم.

   أما السفير السعودي الشيخ عبد الرحمن العوهلي فقد ألقى كلمة بليغة ناشد فيها الرابطة التحلي بآداب الرسالة ووعي دورها الريادي في هذه الظروف الخطيرة، مشجعاً وواعداً بتقديم الدعم المعنوي لهل كلما سنحت الظروف. وقد خاطب الرابطة رئيساً وأعضاء: أنتم السفراء وأنتم الأدباء لا نحن، وعليكم الأمل ينعقد، وفقكم الله.

   حوالي الثالثة انفض المجلس، وأخذت الصور التذكارية، وكان يوم شربل بعيني يوم الجالية، يوم الوطن، يوم الأمة العربية.

   و"رابطة احياء التراث العربي" اذ تشكر لسعادة السفير الدكتور لطيف ابو الحسن هذه البادرة الشجاعة المسؤولة، وهذه الرعاية الرسمية التي شملت قطاعاً هاماً من قطاعات الوطن الاساسية، تذوب فيه كل الأنانيات الرخيصة في "نحن" قوية واعية متماسكة تعمل على بلورة رؤية مشتركة للعمل الوطني والقومي، وإذ تشكر للاخوة سعادة سفراء العرب الذين برهنوا عن اصالة مشاعرهم وسمو اخلاقهم المعهودة، لا يسعها إلا أن تقطع عهداً على نفسها انها ستكون عند حسن ظن من محضوها الثقة التامة والتأييد المطلق، بما يتلاءم مع المبادىء الرفيعة التي تحكم سيرورتها.

**

مناجاة علي

ذروة الفن عند شربل بعيني

جريدة البيرق بتاريخ 7و10و12و14و17 آذار 1992


   ما أهون أن يتناول الباحث أو الدارس عملاً أدبياً صرفاً، شعرياً كان أم نثرياً، فيروح يعمل فيه مبضع النقد وادوات التحليل، مستخرجاً الغثّ من السمين، والجيّد من الرديء، مستنداً في ذلك الى ذوق أدبي مرهف، وحسّ نقدي يعينانه على عملية الغربلة والنخل، مهما كانت معقدة ودقيقة.

   ولكن، أعرائي المستمعين، وقّاني الله واياكم شر الانزلاق في معمعة مكشوفة على كل الاحتمالات، ويختلط فيها الأدب بالسياسة، والتاريخ بالدين، واللاهوت بالفلسفة. بل قل يختلط فيها الشيء بضده، وتتراكم فيها كل المتناقضات والمفارقات والمغالطات، بشكل متشابك أفقياً، متقاطع عمودياً، ومتصادم في جميع الاتجاهات.. حيث تكون مهمة الباحث شائكة وصعبة، ويكون التعامل مع الكلمة صنو السير في حقل من الألغام، كل خطوة مهددة بانفجار ، ويحيط الموت بصاحبها من جميع الجهات. فإن أنت أرضيت الدين غضبت منك الفلسفة، وان أنت سايرت التاريخ احمرت منك عين السياسة، وان انت أخذت جانب اللاهوت ثارت ثائرة الشعر، ووقف في وجهك الشعراء، وربما كان نصيبك من جراء البحث "مناجاة" من نوع آخر، لا يعلم ابعادها إلا الله والراسخون في علم المناجاة.

ولكن إذا حُمّ القضاء على امرىء

فليس له برٌّ يقيه ولا بحرُ

   فما حصل قد حصل، والتجربة الصعبة استقرّت علينا، ولم يعد أمام هذا الباحث في "مناجاة علي" إلا أن يرفع يديه الى السماء متضرعاً للذي "علّم بالقلم" أن يلهمه جادة الصواب، وسلامة التفكير في ما يذهب إليه.

   بين باكورة أعمال شربل بعيني الشعرية "مراهقة 1968"، وآخر ديوان له "مناجاة علي 1991" مسافة زمنية طولها ثلاث وعشرون سنة، تخللها ستة عشر ديواناً، وخمس مسرحيات، ومثلها من المؤلفات المدرسية، وهي نسبة جيّدة من العطاء الفكري، وسخاء العبقرية.

   ولكن العبرة ليست في هذا العدد والكمية، بل هي في هذه القفزة النوعية في معارج الفكر وفيافي الآفاق. في هذا التطور المطرد نحو الأفضل والأجمل والأسمى والأقوى، حتى لكأن في شعره نصيباً وافراً من نظرية "دارون" في النشوء والتطور والارتقاء، إذ هو يتدرّج في شعره من البسيط الى المركّب، ومن السهل الى المعقّد، ومن الجزئي الى الكلي، ومن الخاص الى العام، في أدوار وأطوار "داروينية"، حتى استقر على الشكل الذي هو عليه.

   دليلي على ذلك ان شربل بعيني الشاعر في "مراهقة" هو غيره في "مناجاة علي". في "مراهقة" يطالعنا شاعر مراهق، وشعر مراهق أيضاً. يطالعنا شاعر حَدَث غرورٌ أرعن، إلا أنه بريء وطيّب، وان كان لا يرى من الدنيا الا حواء، ولا يرى من حواء إلا ما يشبع غريزته من قمم ومرتفعات، من سفوح ومنحدرات، هي جل همه ومنتهى خياله.

   ولنسمع معاً مقطعاً من "مراهقة" شربل قبل أن ندخل في عالم "المناجاة":

ـ1ـ

شو هالنهود العاليه

عيون الخليقه ماليه

ومهما شفت عند النسا

بتبقى نهودك غاليه

تحيا النهود العاليه

ـ2ـ

نهودك يا أحلى من الدني

بركعلك قبالن سنه

متكبّر.. وصاير دَني

كرمال خمر الداليه

وعين النهود العاليه

   لا شك على الاطلاق في انها الغريزة التي تتكلّم لا العقل، وللشاعر عذره في مثل تلك السن، وله ما يبرر هذه النزوة العاطفية.

   وينمو الشاعر ويكبر، يتطوّر ويتحوّل ويتبدّل، آخذاً في الارتقاء من قمة الى قمة. لم يعد يبحث عن المرأة وقدّها وجمالها. ولم يعد يستوقفه نهد ولا جسد. أحس الشاعر بالألم العميق، شعر بالهموم الكبيرة تلفّه من كل صوب: الوطن جريح، والعدل مفقود، والحرية مقيّدة، والظلم مستشر في كل العالم. الفقر، المجاعة، الهجرة، الجهل، التعصّب، فإذا بالخميرة الانسانية تلامسها هذه الجراحات، فتروح تعتمل في قلب شاعرنا أهداف شعرية بعيدة المدى، والمدى هو امام الهدى، اسد الله الغالب علي بن أبي طالب، عليه وعلى آله أفضل السلام. فكان "مناجاة علي"، وكانت عبقرية شاعر تنكأ جرح التاريخ، بعد أن أعياها سقم هذه الايام، وصنمية هذا العصر الرديء، مستلهمة امام البلغاء، وسيد الشهداء، قطرة من ماء تعيد الى العالم المجنون صفاء الجوهر والنقاء.

   أكرر ان شربل بعيني قد بلغ ذروة الفن، وتسنّم قمة شعره في "مناجاة علي"، لأن الشاعر في هذا الديوان لا يعالج مواضيع مادية محسوسة، وإنما هو يتناول أموراً معنوية وقيَميّة لا تراها العين المجردة، ولكن يدركها العقل. ومعلوم أن الشاعر كلما بلغ في التجريد وابتعد عن الملموس كان شأوه أوسع وشأنه أعظم، وقدرته على الغوص في الذات أقوى. وفي "مناجاة علي" برهان على سلطان شربل الشعري، فهو يناجي الغائب الحاضر، يناجي فيه القيم الرفيعة والمثل العليا. يناجي فيه الايمان والتقوى، الورع والزهد، الأدب والبلاغة، الشجاعة والصبر، العدل والحق، بل قل يناجي فيه الخلافة الضائعة والإسلام المتعثّر، والنبوة المبتورة، أوليست هذه القيم والمثل المتأصّلة في علي، هي نفسها القيم والمثل التي نحتاج اليها، ونتوق اليها، ونفتقر اليها، في زمن ديست فيه الانسانية، وهضمت فيه الحقوق؟ إلا انه زمن لشد ما يذكرنا بزمان علي، أيام تكالبت عليه الأمم، وتنكر له الخظ. انه زمن يذكرنا أيضاً بما لحق بآل علي من بعده على أيدٍ قذرة لطخت بالعار جبين الاسلام والانسانية، ممارسة أشد أنواع الجور والاستبداد دفاعاً عن ملكها الفاجر الغاشم. وكذلك على أيدي جماعة له متخاذلين خانعين استهواهم نعيم الدنيا عن نعيم الآخرة، فانصرفوا عن إمامهم الى شياطين أنفسهم، هؤلاء الصحب الذين لا أظن أن علياً كان راضياً عن تخاذلهم، وما أتردد على الاطلاق في الجزم بأن هذين البيتين من الشعر للإمام هم المقصودون بهما حين يقول:

ولا خير في ود امرىء متلون

إذا الريح مالت مال حيث تميلُ

فما أكثر الاخوان حين تعدّهم

ولكنّهم في النائبات قليلُ

   فهل هناك مصائب فوق مصائب علي؟ وهل هناك أشد من المحن التي كابدها علي؟ وهل أدهى وأمكر من المؤامرات التي حيكت لعلي؟ فوالله لو ان ما قاساه علي، من الصديق قبل العدو، لامس صخراً لفتته أو جبلاً فأناخه، فقد كانت حياته سلسلة من المحن والمصائب. كان علي نفسه يرى ان حياته في الحجاز، بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم، قد كانت محنة، لأنه كان يرى نفسه أحق بالخلافة، فامتحن بصرف الخلافة عنه الى الخلفاء الثلاثة الذين سبقوه، وقد صبر على محنته تلك، فأجمل الصبر، فكأني به يقول مناجياً ذاته في هذه الحال:

صن النفس واحملها على ما يزيّنها

تعش سالماً والقول فيك جميلُ

ولا تريْنَ الناس إلا تجملاً

نبا بك دهر او جفاك خليلُ

وان ضاق رزق اليوم فاصبر الى غدٍ

عسى نكبات الدهر عنك تزولُ

   ولما ارتقى الى الخلافة، او ارتقت الخلافة إليه، لم يجنِ منها إلا شراً، كان يزيد ويتضاعف كلما تتابعت ايامه في العراق، حتى كاد ينتهي الى اليأس لولا انه أجمل الصبر في العراق كما أجمله في الحجاز.

   لقد امتحن علي إذاً اشد الامتحان واعسره ثلاثين عاماً من حياته، ثم انتهى آخر الأمر الى أن قتل أثناء خروجه للصلاة. لم يقتله عبد أعجمي مأسور، وانما قتله حر عربي عن ائتمار بينه وبين قوم مثله أحرار عرب، أبرموا امرهم على قتل معاوية وعلي وعمرو بن العاص دفعة واحدة. إلا أن التقادير شاءت أن يسلم الرجلان الآخران وان يستهد علي وحده. ثم امتحن بنوه بعده، وامتحن أهل العراق بعد موته، محنة خبت ثم تجددت على أيدي جزّاري العصر، وأكلة أكباد البشر!.

   أفكثير، بعد هذا كله، ان تتحول سيرة هذا الامام العظيم قبلة للشعراء، ومحجة للعلماء والفلاسفة والمؤرخين، يتذكرون، ويتفكرون، ويناجون العلم من باب مدينته؟

   حقيقة ناصعة أدركها الشاعر شربل بعيني بنظره الثاقب، وعقله الفاعل، واحساسه الخلاق، فاقتنصها مادة غنيّة و"مناجاة" لا أحلى ولا أرق.

   "مناجاة علي"، أيها السيدات والسادة، عشرون مزموراً في العهد الجديد، تذكّرنا بمزامير النبي داود عليه السلام في العهد القديم، ويمكن اعتبارها بحق مزموراً واحداً، بل صوتاً واحداً، تتوالد منه مجموعة أصوات ملونة بألوان وجدانية براقة، ومشبعة بالصدق والبراءة، وتعبّر عنها بلغة شعبية سهلة الادراك.

   وتجدر الاشارة هنا الى ان علياً الذي تشرّف بالاسلام، وشرّف به الاسلام، ملّة وحسباً ونسباً، لا يمكن النظر اليه، ولا يمكن مناجاته إلا في هذا الاطار، الذي ينصهر فيه بالاسلام. فهو توأم هذا الدين، سيفه ودرعه، قلمه ولسانه، وأول صبي آمن بالاسلام ديناً، وبمحمد نبياً، وبالقرآن كتاباً. زد على ذلك انه ابن عم النبي وصهره وربيبه وخليفة المسلمين، فأي مناجاة له، انما هي مناجاة للقيم والمثل والمبادىء التي استمدها علي من شريعة الاسلام وتعاليمه، ولا نستطيع أن نفهم هذه المناجاة فهماً دقيقاً إلا من خلال هذه التلازمية الوثيقة بين الخليفة والدين الذي استخلف عليه ويرمز له.

   وهذا الدين أنزله الله هدى ورحمة للعالمين، لا لقوم بذاتهم، لا للعرب وحدهم، ولا لاهل الجزيرة حصراً، وانما هو دين لكل القوميّات والشعوب، فمن شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر، ولا إكراه في الدين. وعن هذا عبّر شربل شعراً يناجي به الإمام:

مش جايي للصحرا بس

لناس بيحكوا بلسانك

جايي تكحّل عين الشمس

وتلوّنها بإيمانك

   إنه الامام علي الذي عرف بالشهامة والنبل وكرم الاخلاق، يصفح عمّن اعتدى عليه، ويعفو عمّن أساء اليه:

كل الناس اعترفت فيك

ومتلك ما عرفت هالناس

بتسامح يللي بيؤذيك

وبتعطي من دون قياس

   صدقت يا شاعر الغربة الطويلة! وهل هناك أعظم من رجل شج بالسيف رأسه وشارف على الموت، وهو ما زال يأمر من حوله ان يحسنوا طعام قاتله عبد الرحمن بن ملجم الحميري، ويكرموا مثواه، فإن برىء من ضربته نظر، فأما عفا واما اقتص؟ ألله ألله يا أبا الحسن ما أعظمك حياً وميتاً!.

   اما العطاء من دون قياس فمسألة فيها نظر. فإن كان المال من جيبه الخاص أعطى بدون قياس. أما اذا كان من بيت مال المسلمين فعليه ألف قياس وقياس، أللهم الا ما كان منه لمصلحة عامة.

   وما رأيكم، ايها السيدات والسادة، في رجل جاءه أخوه عقيل بن ابي طالب مسترفداً، فقال لابنه الحسن: اذا خرج عطائي فسر مع عمك الى السوق، فاشترِ له ثوباً جديداً، ونعلين جديدتين، ثم لم يزد على ذلك شيئاً؟

   وما رأيكم في رجل آخر يأتيه عقيل هذا نفسه بعد ان لم يرض صلة أخيه، فيعطيه من بيت المال مائة ألف؟

   لقد كان علي مؤمناً بالخلافة، كما تصورها المسلمون أيام أبي بكر وعمر، وفي الصدر الأول خلافة عثمان، يرى أن من الحق عليه أن يقيم العدل بأوسع معانيه بين الناس، لا يؤثر منهم احداً على احد، وقد عبّر الشاعر عن هذا المعنى:

ولمّا بيرق نصرك طلّ

وكان الربح كتير كتير

زعلوا منك.. كيف الكل

بيتساووا بعدلك يا مير

   وبعد أن فرغ علي من قتال الخوارج وسحقهم في موقعة "النهروان"، ترك أصحابه أياماً ليريحوا ويستريحوا ويستعدوا لمحاربة أهل الشام، كما زعم لهم رؤساؤهم، فلما ظنّ انهم قد بلغوا من ذلك ما أرادوا، دعاهم الى الخروج، وحثّهم عليه، وحرّضهم على الجهاد، ولكنهم سمعوا له ثم لم يصنعوا شيئاً، فقد كان كلامه يبلغ اسماع اصحابه دون ان يتجاوزها الى قلوبهم، فانصرفوا عنه ولم يصنعوا شيئاً، لم ينفروا للحرب ولم يتأهبوا لها، وانما قروا في مصرهم واقبلوا على حياتهم وادعين في أمن وفراغ بال. ولذلك اسباب عدة أهمها ان المنتصرين يوم "النهروان" تملكتهم كآبة شديدة على من قتل فيه من الخصم والولي جميعاً، فقد كانت حرب الآباء للأبناء، وحرب الاخوان للاخوان، والمنتصر والمنهزم فيها سواء:

قاتلت الباغي وربحت

تا تريحنا بجهادك

ما فهموا الصيحه اللي صحت

قتلوك وقتلوا ولادك

   فهموا أم لم يفهموا، فقد تفرّقوا عنه ولم يصنعوا شيئاً حتى أيأسوه من أنفسهم، حتى لقد روى بعض الرواة عمن رآه، وقد رفع المصحف حتى وضعه على رأسه ثم قال: "أللهم اني سألتهم ما فيه فمنعوني ذلك. أللهم إني قد مللتهم وملّوني، وأبغضتهم وأبغضوني، وحملوني على غير خلقي وعلى أخلاق لم تكن تعرف لي، فأبدلني بهم خيراً لي منهم، وأبدلهم بي شراً مني، ومِثْ بهم مَيْثَ الملح في الماء":

ضايع وحدي وبدّي إحكي

تعبان من وجودي وجود

بتذكّر شو صابك ببكي

الساعات الما إلها حدود

   لا تبكِ يا صاح ولا تحزن، فعلي هو علي الصابر المكابر على خيانة الولي وكيد العدو. هو المصمم على خطته الواضحة، لا يرضى الدنية من الأمر، ولا يدهن في دينه، ولا يتحوّل عن سياسته الصريحة قليلاً ولا كثيراً، والمحن تتابع عليه ويقفو بعضها اثر بعض، وهو ماضٍ في طريقه لا ينحرف عنه الى يمين او الى شمال:

قلتلي لا تصارع حقّ

الحق بيربح مهما كان

وبعد سنين الماضي انشق

وحقّك متل الشعله بان

   نعم، لقد كان الحق أمام علي بيّناً، فكان يمضي إليه مصمماً، ويدعو أصحابه الى أن يمضوا إليه مصممين. وكان الباطل بيّناً فكان يعرض عنه عازماً، ويدعو أصحابه الى أن يعرضوا عنه عازمين، وكان له من أجل ذلك أنصار يحبونه ويخلصون له الحب، ويذودون عن سلطانه بأنفسهم وأموالهم.

   ولم يكن علي يستبيح لنفسه مكراً ولا كيداً ولا خداعاً ولا دهاء. كان يؤثر الدين الخالص على هذا كله. لا يعطي في غير موضع العطاء، ولا يشتري الطاعة بالمال، ولا يحب أن يقيم أمر المسلمين على الرشوة، ولو شاء علي لمكر وكاد، ولكنه آثر دينه وأبى إلا أن يمضي في طريقه الى مُثله العليا من الصراحة والحق والاخلاص والنصح لله والمسلمين، عن رضى واستقامة لا عن كيد والتواء:

لا تتلوّن بحياتك

ولا تخدع خيّك تا تعيش

سمحلي فسّر كلماتك

دراويش الناس دراويش

   ويمضي الشاعر في مناجاته علياً فيرى فيه منقذاً لكرامة الانسان، معلماً له بسيرته قبل لسانه:

مين غيرك خلانا نحس

بقيمتنا الانسانيه

ووحدنا بكلماتو بس

بشخصيتو الربانيه

   فكأني بهذا القول وقد اقتبسه شاعرنا من حكمة لعلي تقول: "من نصب نفسه للناس إماماً فليبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره، وليكن تأديبه بسيرته قبل تأديبه بلسانه".

   ويدخل في اطار هذه القيمة الانسانية احترام الحرية الشخصية ورأيها. فقد كان علي لا يستكره الناس على أمر، فمن أحب البقاء في ظل سلطانه كان له، ومن أراد الالتحاق بعدوه مؤثراً دنياه على دينه كان له أيضاً. وكان علي يرى انهم احرار في اتخاذ الدار التي تلائمهم، فمن أحب الهدى والحق أقام معه، ومن رضي الضلال والباطل ارتحل عنه، وكانت هذه سيرته حتى مع الخوارج.

   ولم يكن علي أيضاً يستكره الناس على الحرب، لا في حرب الجمل ولا يوم صفين ولا يوم النهروان ضد الخوارج، ولو شاء لجنّد الناس تجنيداً، ولو شاء أيضاً لرغَّب الناس بالمال، ولكنه لم يفعل هذا ولا ذاك. كره أن يشتري نصرة أصحابه له وأراد ان ينصروه عن بصيرة وايمان.

   مثل ثالث على احترام علي لحرية الناس، فعندما جلس للبيعة على منبر النبي كما جلس الخلفاء من قبله، واقبل الناس يبايعونه أبى نفرٌ أن يبايعوا فلم يلح علي في البيعة، ولم يأذن للثائرين في إكراههم عليها، ولا ان يمسوا بسوء.

   ثم تأخذ "المناجاة" بعداً إضافياً، ويتداخل فيها عنصر جديد. إنه عيسى المسيح عليه السلام، عيسى المحبة والتسامح، عيسى العذابات والجراحات، وانها لمقارنة لطيفة بين آلام المسيح وآلام علي المصلوب على خشبة الارادة والتصميم والعزم، يقابلها في الطرف الآخر كيد الأعداء وخذلان الأولياء الذين أنكروه، كما أنكر بطرس الرسول معلمه ثلاث مرات قبل ان يصيح الديك:

يسوع لْ علّمني حب

يا علي متجسّد فيك

شاركتو بآلام الصلب

وخففت عذابو يا شريك

   وشيئاً فشيئاً تذوب الفوارق الدينية المصطنعة، ويتحطّم الجليد المتراكم المتراص بين الأديان، فينطلق الشاعر على سجيته معلناً انه لا فرق بين دين وآخر، فسماء الله واسعة لمن أراد أن يستظل:

شو ما قالوا يقولوا عني

المذهب ما بيعمل تغيير

ماروني، شيعي أو سنّي

الإسم زغير وألله كبير

   قال: ماروني، شيعي أو سنّي، ولكنه لم يجرؤ أن يقول: درزي. وأظن ذلك لعلّة شعرية لا غير.

   وكان شاعرنا المتعجّل في توحيد الأديان كلها في دين واحد، كأنه قد نسي "فركة الأذن" الخفيفة على هذه الكلمة التي أكلها من سيادة مطران أبرشيته عبده خليفة، سلمت يداه، عندما هزّ له عصا المطرانية هزة حسبناه لن يعود بعدها الى هذه الهرطقة، فقد طرح شاعرنا، سامحه الله، هذه الفكرة في ديوانه السابق "ألله ونقطة زيت" الذي صدر سنة 1988، وها هو الآن يكرر الطرح مرة أخرى في "مناجاة علي"، وعلى أمل أن يمر هذا القطوع على خير وسلامة، نذكّر بالذي قاله شربل يومذاك، قال:

خلّينا بهالدنيي إخوه

نعيش ونحنا متفقين

من محبتنا بتخلق قوّه

كلما بإيدك بتباركها

بتتلاشى الأديان بدين

   فماذا كان رد المطران خليفة على ذلك؟:

   ".. لا ولن أصبو الى توحيدها "الديانات" كلها في بوتقة واحدة. وهذا يتطلّب من الشاعر الواسع الآفاق أن لا يخلط بين التعصّب من جهة وبين المحبة والاخوة من جهة ثانية. والخوف إنّي اذا تقت الى هذه الوحدة ان يصبح يوماً بدون دين.. هذا شعر، ليس فكراً لاهوتياً ولا فلسفياً.. لا نقرّ ابداً بما جاء فيه. وان ندخل في جدل مع الشاعر فلا نكون إلا نبهناه الى أن يطالع كتباً لاهوتية وفلسفية واجتماعية" انتهى.

   ومع ذلك نرى المعنى ذاته يشرئب برأسه من "مناجاة علي"، فالفكرة ما زالت تراود شاعرنا المصر على وحدة الاديان. لنسمعه يناجي علياً بالمعنى نفسه:

لازم إخلق عالم تاني

يفهم كلماتك كلاّ

يوحّد أديانو بديانه

بترفض نتقاسم ألله

   تذكّر يا صاحبي ان الله سبحانه وتعالى لو شاء لجعل الناس امة واحدة.

   ثم يتطرّق الشاعر في مناجاته الى مسألة مهمة حضّ عليها القرآن في أكثر من موضع، ما دام الجهاد في سبيل الله، لا في سبيل العروش والحكّام، وقال فيه علي انه باب من ابواب الجنة فتحه الله لخاصة أوليائه، وهو لباس التقوى ودرع الله الحصينة وجنته الوثيقة... اما الشاعر فقد قال:

الله واحد علّي الصوت

يا علي وسمّع هالناس

لا بدّو جْهاد ولا موت

بدّو نعيش جناس جناس

   ألله واحد، ما فيها شك، أما الجهاد فلا يعني بالضرورة الاعتداء والقتال بغير حق. إنه الدفاع المشروع عن الدين والارض والعرض. فالسلم مطلب الجميع شريطة ان يكون سلماً عادلاً ومحقاً ومشرفاً، ثم لا ننسى ان الجهاد انواع ودرجات. فهناك الجهاد الأصغر الذي هو بمعنى الحرب او القتال. وهناك الجهاد الأكبر الذي هو جهاد النفس والتحكم بالشهوات.

   أما علي فقد كانت حياته كلها جهاداً، بل جهادات متواصلة:

   كان يجاهد حياته المرة ـ ويجاهد اصحابه ليحملهم على النهوض الى حرب الشام ـ ويجاهد هجمات جنود معاوية على اطراف العراق والحجاز واليمن ـ ويجاهد الخوارج الذين يجاهرونه العداء ـ ويجاهد الخوارج المقيمين معه في الكوفة يتربصون ساعة الخروج ـ وأخيراً، يجاهد عماله ليأخذهم بالأمانة في أعمالهم. فالمسألة بحاجة الى جهاد على ما أعتقد اذا كان للجهاد ما يمليه ويبرره.

   وتطول المناجاة وتتشعب، فالمناجي بحاجة الى أن يعلم كل شيء في هذا الوجود، والمناجى يحيط بكل شيء علماً، يروح يسأله عن أسرار هذا الكون، يسأله عن: الموج، والبحر، والشمس، والطير، والتلة، والبركان، والريح والأيام. يسأله عن: الغربة والوطن، عن الحمل والولادة، والعذاب، والبداية والنهاية. وكلها تساؤولات ناجمة من شكوك ومعلومات ناقصة، تذكرنا بالحيرة التي كانت تمتلك شعراء المهاجر قبلنا، لاسيما منهم ايليا ابو ماضي، الذي هو أيضاً لا يعرف كيف جاء الى هذا الوجود ولا كيف يروح؟! ثم يخلص الى هذه النتيجة:

مهما تقدّمنا رح نبقى

تلاميذ وانت تعلمنا

كيف وليش بيخلق ورقه

ألله تا يخرطش عالمنا

   والتعصّب الديني آفة. التعصّب ليس الدين، بل هو أبعد ما يكون عن الدين القويم. صغار النفس يغذون التعصّب لأنهم يستعلمون الدين مطية لمصالحهم، ولا يفهمون أن الدين لله، وهو يقرّبنا منه واليه، ويطهّرنا من أدران الطريق. فإذا كنت مؤمناً أعيش ديني، وأتأمل في كتبي، وأعمل جاداً للوصول الى كمال يشرحه ديني ويطلبه مني، اذ ذاك احترم دين الآخر. في هذا الطريق أتوصل الى محبة الديانات الاخرى. أحترمها وأقدس مبادئها، كما قال المطران خليفة في مقدمة "ألله ونقطة زيت".

   لكن هناك قلّة من الناس لا يعجبهم هذا الكلام، ويريدون ان يحجروا على فم هذا الشاعر، فلا يتكلّم إلا بما يريدون، وان لم يفعل برغبتهم أسمعوه كلاماً خبيثاً، أو أرسلوا اليه تهديداً محاولين ثنيه عن نهجه الاصلاحي، ولكن الشاعر يأبى أن يذعن لحماقة هؤلاء، ويستمر في خطّه الاخلاقي متحدياً أصحاب الهرطقات:

الموت حكايه حكيتا قبلي

يا علي، وسامحت القاتل

جرح وجرح زرعتا بعقلي

وضوّيت من حروفا مشاعل

ما فزعت من النادوا بقتلي

فزعت يشوّه فكرك جاهل

   وآخر هذه المزامير فيض من المحبة يعم جميع الناس على اختلاف مللهم ونحلهم، فكأني بالشاعر وقد ناجى علياً ما فيه الكفاية، قد خرج من مناجاته أشد بأساً وأوسع صدراً، . فقد جاءه اليقين من أهله فتوطدت لديه أجمل معاني الانسانية، تضاف الى تعاليم مسيحه السمحاء التي تعلّمها صغيراً، وتحصّن بها كبيراً، فتلاقت الديانتان في قلب واحد، وتعانقتا على حب موسى وعيسى ومحمد، وتعاهدتا معاً على دوام البقاء واللقاء:

بحبّن كلّن كلّن كلّن

يهود نصارى وإسلام

بحبّن كلّن كلّن كلّن

مهما تفرّقنا الايام

   وأخيراً كلمة لا بد منها، وهي أن شربل بعيني في "مناجاة علي" لم يأتِ ببدعة، ولم يستحدث نكراً. لم يفعل إلا ما أملته عليه مسيحيته وعلمه إياه السيد المسيح من المحبة ومكارم الاخلاق. فالذين شبّه لهم ان شربل انحرف من دين الى دين واهمون جداً، فما زادت هذه "المناجاة" المسلمين شخصاً، ولا هي أنقصت من عدد النصارى واحداً، فالعملية ليست عملية خلع ثوب وارتداء ثوب آخر، انها عملية انفتاح وتفاعل وتعرف الى ديانة الآخر، فبقدر ما تكون مسيحياً واعياً أو مسلماً واعياً تكون الحقيقة إليك أقرب، والحق معك أكثر.

   وأكثر من ذلك، يمكن اعتبار هذه "المناجاة" اطلالة رائعة على طريق التلاقي الديني والانسجام الأخوي، بعد أن أخذ الكابوس الضاغط على صدور ابناء الوطن جميعاً يتراجع وينحسر، تاركاً للمسلمين وللمسيحيين ان يتنفسوا الصعداء، ويعيدوا بناء ما تهدم من جسور التلاقي والمحبة بينهم، مستفيدين من الانفراج الأمني الآخذ في الاتساع.

   وهذا الانفراج في الوطن كان له أيضاً انعكاسه الايجابي على اوضاع جاليتنا الكريمة هنا في أستراليا، فإذا بدم الصداقة والمحبة والمواطنية الذي لحق به شيء من الوهن والفتور خلال سنيْ الحرب المشؤومة، اذا بهذا الدم يتنشط ويسري من جديد في دورة دموية معتدلة، تعيد الى الجسم اللبناني الصحة والعافية. 

   وما القمم الروحية، واللقاءات الأخوية التي يتنادى اليها دورياً رؤساء العائلات اللبنانية الروحيون أصحاب السيادة واصحاب الفضيلة مطارنتنا وأئمتنا الاجلاء، ليست هذه المبادرة الطيبة إلا دليلاً حياً على الصحوة الوطنية واليقظة الدينية اللتين تتوق اليهما ارواح جميع المخلصين.

   وليست هي اللقاءات الأولى في هذا المجال، فقد سبقتها لقاءات روحية فكرية رائدة، تعود الى أواخر الستينات. وتفصيل ذلك ان المرحوم الشيخ الدكتور صبحي الصالح ـ استاذ الاسلاميات وفقه اللغة في كليّة الآداب بالجامعة اللبنانية ـ والأب الدكتور فريد جبر ـ استاذ الفكر العربي في كلية الآداب بالجامعة اللبنانية أيضاً ـ قد تشاركا في تعريب كتاب "فلسفة الفكر الديني بين الاسلام والمسيحية" للمؤلفين لويس غرديه وج. قنواتي، ويقع في ثلاثة أجزاء، وتقاسما الأدوار بشكل يوحي الثقة والطمأنينة للقارىء.

   وقد قدّم الدكتور فؤاد افرام البستاني للجزء الأول، ومما جاء في هذه المقدمة:

   "مرحى لهذا التلاقي الخيّر على صعيد المحبة، وفي حرم الفكر الديني بين المسيحية والاسلام!. مرحى للكاهن وللشيخ يتعاطفان في أروقة اللاهوت والفلسفة، فيعيدان في بيروت ذكرى اللقاءات الفكرية الدينية في بغداد العباسيين، زمن ازدهار الفكر الانساني قبل الف سنة!.. ولم يكن اعتباطاً أن يستقل الكاهن بتعريب كل ما يعالجه الكتاب من الاسلاميات، وان ينفرد الشيخ بتعريب كل ما جاء فيه متعلقاً بالمسيحيات.

   فهنيئاً للمؤلفين، وللناقلين، ولكل من يقبل على مضامين الكتاب في يوم نحن فيه على أمس الحاجة إليه فكراً، وروحاً، واجتماعاً، ولكل أجل كتاب".

   أما المعربان صبحي الصالح وفريد جبر، فقد جاء في مقدمتهما للجزء نفسه ما يأتي:

   ".. ولقد أردناه كلانا على هذا النحو منذ بدايته بيننا: حواراً قائماً على تبادل فكري أصيل تتخلله المحبة وتحييه، يذكر فيه الكاهن وصية دينه الأولى: وهي حب الله فوق كل شيء، وحب الانسان، أياً كان، على انه اخوه في الله وشريكه في حياته.

   ويذكر فيه الشيخ بدوره، ما ورد في كتابه من "ان الله خلق الناس من ذكر وأنثى، وجعلهم شعوباً وقبائل ليتعارفوا، وجعل أكرمهم عند الله أتقاهم"، ومن أن "أقرب الناس مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنّا نصارى".

   .. وحبذا لو ظلت أرواحنا في هذا البلد العزيز تتلاقى على التعاون والتحالف مقرونين بالحب والاحترام يشعر بهما كل منا، مخلصاً صادقاً نحو الآخر، الذي هو أخوه ورفيقه في درب الحياة".

بيروت في 5 شوال سنة 1386 هـ

16 كانون الثاني 1976 م

صبحي الصالح ـ فريد جبر

   فهل أحلى من هذا الكلام، وأرق من هذا الانسجام بين المسيحي والمسلم كأنصع ما تكون المسيحية، وأنقى ما يكون الاسلام؟.

   ان مناجاة شربل بعيني يجب ان ينظر اليها في اطار مناجاة الدكتور البستاني، وفي اطار مناجاة الدكتور الصالح، وفي اطار مناجاة الدكتور جبر، وفي اطار القمم الروحية التي يعقدها رجال ديننا الاجلاء في أستراليا، وفي اي مكان آخر، على انها عمل بناء للمسيحية وللاسلام على حد سواء، ومجلبة لسعادة المسلمين والمسيحيين دون تمييز.

   ألا رحم الله روحك الطاهر يا أبا الحسن.. سلام عليك وعلى آلك المنتجبين الطاهرين، لقد كنت حجة الناس على البر والتقوى حياً، وها نحن اليوم نناجيك مسترفدين رحمتك واخلاقك وسيرتك. حنانيك حنانيك لا تقطع حبل المودة بيننا، ولا تحرمنا نعمة "المناجاة".

   ألا بوركت يا صديقي شربل بعيني، وحبذا هذه المناجاة تدخل كل قلب، وتتسرّب الى كل وجدان، فلا تضطرنا الى القول آسفين: على من تقرأ مزاميرك يا.. شربل!!.

**

دراسة حول كتاب

"مشوار مع شربل بعيني"

صدى لبنان ـ العدد 627 ـ 20/12/1988


   في مستهل كلمتي المتواضعة، التي تشكل جزءاً يسيراً من برنامج الاحتفاء بصاحب المناسبة، لا يسعني إلا أن أقول للأستاذ كامل المر: مبروك. أعطاك الله العافية والعمر الطويل، والى المزيد من "المشاوير" والعطاءات الفكرية يا صاحب القلب الكبير.

   أن يكرم الرجل، أيما رجل، إنما يكرم، لا على سواد عينيه، ولا لطول قامته، ولا لضخامة جثته، وإنما يكرم على أعماله، على إنجازانه، وعلى مشاركته في إنماء البناء الانساني المتكامل، بناء فكرياً صافياً ينقي المجتمع من العيوب، ويزرع فيه حب الآخرين بعيداً عن الأنانية والفردية.

   والأستاذ كامل المر، بما نعهده فيه من قيم أدبية واجتماعية وانسانية، جدير بهذا التكريم. وان كان حتى هذه اللحظة لا يزال يرفض في قرارة نفسه إقامة الشعائر، واحياء المظاهر، التي تحاط بها مناسبات التكريم، وهو الذي نعلم علم اليقين مدى زهده في زخارف الأمور، ومراسم الاحتفالات، بدافع من طبيعته الهادئة الصامتة التي تؤثر العمل الجدي بعيداً عن الأضواء.

 ولكن إذا حمّ القضاء على امرىءٍ

فليس له برٌ يقيه ولا بحرُ

   فقد أبرم الأصدقاء والمحبون أمرهم في غفلة من المحتفى به، واتخذت الترتيبات والاستعدادات وابلغ المحكوم عليه بالحكم الصادر عن محكمة الاصدقاء، مع تاريخ التنفيذ ومكانه، ومع ذلك فقد ظل المحكوم عليه مصراً على أفكاره، ويقول:

"اعفونا منها، اعفونا منها، ألله يخليكم يا شباب".

   ولكن أنّى لك يا أستاذنا الكريم أن تهرب من العدالة، وأنّى لنا أن نكون جاحدين! فاليوم لا مفر لك. واليوم تدان بأفعالك، وتجزى بما قدمت يداك في سالف الايام. وهذا المذبح بالذات يشهد على مآثرك بحق زملائك الذين سبقوك في التكريم.

   أنسيت ماذا فعلت بالزميل شربل بعيني؟ أم نسيت ماذا فعلت مع الشاعر الغريب زين الحسن في هذا المكان بالذات؟ وهل نسيت فعلتك مع شاعرنا الغائب الحاضر نعيم خوري؟ أم لعلك نسيت عملك مع أستاذنا المربي فؤاد نمّور؟

   فيا أستاذنا الكبير، اذا كنت انت قد نسيت فإن العدل لا ينسى، والدم لا يموت، فصبراً على قضاء الأصدقاء الذين لا يضيع عندهم جميل، ولا ينامون على دين.

   لقد دعوت الى تكريمهم من خلال أعمالهم وجهودهم، واليوم فلا تعجبنَّ يا صاح، إن هم يسارعون الى رد الجميل، منتهزين فرصة صدور كتابك البكر "مشوار مع شربل بعيني"، لتكون أول سانحة لأخذ الثأر، والاعراب عن صدق مشاعرهم. فإلى هؤلاء الأصدقاء، وأنا واحد منهم، يمكنك أن توجّه أصابع الاتهام، إذا لم تسقط دعواك وتتنازل عن حقّك الشخصي: "اعفونا منها..اعفونا منها". عبارة لم تعد تجدي قائلها فتيلا، وكان الرد بالاجماع" "هيدي اسمح لنا فيها". وبين الرفض والايجاب تكمن حقيقة الاستاذ كامل المر القائمة على مثل "السنابل الملأى بالقمح هي التي تنحني، وأما السنابل الفارغة فهي التي تشرئب في الهواء".

   إذن، فموضوع كلمتي في هذه الأمسية التكريمية الأدبية، هو عبارة عن دراسة في صدد كتاب الاستاذ كامل المر "مشوار مع شربل بعيني" الذي صدر حديثاً عن دار الثقافة في بلاكتاون.

   وإذا كان لي شرف المساهمة في هذا الموضوع، فإني أعدكم من أول الطريق انني لا أستطيع الغوص بعيداً في قرارة هذه الدراسة، حيث انني أجد نفسي عالقاً بين صخرتين صلبتين، هيهات ان أفلت من بين براثنهما لكي أتمكن من التغلغل في أعماق التيار. لذلك أراني مكتفياً بالحوم حول هذا المدار من دون أن تتمكن قدماي من ملامسة قاع هذا "المشوار".

   المعادلة بسيطة جداً جداً، ولكنها صعبة للغاية.

   شربل كتب عن غيره: عن الوطن والمهجر والجالية. عن الحب والغرام، عن نبذ التعصّب الديني، عن القضية الفلسطينية، وغير ذلك كثير من الموضوعات.

   وكامل كتب عن شربل بعيني في ما كتب شربل عن غيره.

   وعصمت عليه أن يكتب عمّا كتبه كامل عن شربل في "مشوار مع شربل بعيني".

   إذن العملية معقدة وعلى ثلاثة أطواق، وحلها ليس بالأمر الهيّن، ويتطلّب جهوداً مضنية ووقتاً طويلاً.

   باختصار، ان "مشوار مع شربل بعيني" الذي بين أيديكم، ايها السيدات والسادة، عنوان جميل سرعان ما يستهوي القارىء الى الاندماج في محتوياته بسهولة وعفوية.

   هو أشبه ما يكون بفستان من الحرير الناعم الشفّاف يغلّف جسم صبية حسناء ويشفّ عمّا خلفه من مكامن الفتنة والجمال والأنوثة.

   "مشوار مع شربل بعيني" عنوان حيّ لتجربة حيّة. ما فيه كلمة ميتة واحدة. بل ان جميع الفاظه متراصة على نمط واحد من القوة، ومسافة متساوية من الجمال، بحيث اذا سقطت منهن لفظة واحدة سقطن كلهن واختل التوازن.

   ولا شك في أن هذه الدقة، وهذا الاحكام في سبك العنوان، هما خير شاهد ودليل على طول باع المؤلف في البلاغة واختيار اللفظ المناسب في المكان المناسب.

   إن كلمة "مشوار" بحد ذاتها، منتزعة من أي ارتباط بالعنوان، كلمة غنيّة ومكتنزة بالحيوية والنشاط والجمال. انها تعني الحركة، وتعني الاكتشاف، واتساع الافق والتفكير. فالجالس تحت سقف بيته، المتسمر في الظل، لا يروح ولا يجيء، لا يعرف طعم الشمس والهواء والحريّة، هذا الانسان الراكد في مستنقع الحياة يفتقد معنى الحياة.

   من هنا فإن كلمة "مشوار" لا تستمد قوتها من واقع متجمد متحنط، بل من قوة التغيير والدفع في مجريات الحياة.

   انها اللفظ التلقائي البديهي في قاموس اهل القرى: يؤرخون به أيامهم الجميلة في "مشوار" الزمن الطويل.

   فمشاوير درب العين، ومشاوير الكروم، ومشاوير الزيتون، ومشاوير وادي الصعتر، ومشاوير طريق الضيعة، ومشاوير التبولة والصبايا الجميلات، كلها توحي الجمال والقوة والنشاط، بعيداً عن الضوضاء والشلل والتكلّس، التي عادة ما تتحكّم بسكان المدن، الذين تأسرهم الحياة، وظروف أعمالهم ضمن أربعة جدران، كسمك السردين، أو أكثر قليلاً.

   وكلمة "مشوار" بالاضافة الى ما تقدّم، هي كلمة ممتلئة بالموسيقى والغنائية. انها لفظة شاعرية، تكاد لا تخلو منها أغنية شعبية، خصوصاً في أغانينا اللبنانية، فقلما سمعنا أغنية لبنانية لم يرد فيها هذا اللفظ. فكأن "المشوار" والفلكلور توأمان فنيّان لا ينفصلان في تراث اللبنانيين. فهذه هي السيدة فيروز تصدح: "مشوار جينا ع الدني مشوار"، وها هو المطرب وديع الصافي يجيب صاحبته وقد سألته: "بترحلك مشوار.. قلتلا يا ليت".. والذين يهتمون بالأغاني والمغنين ويتتبعون آثارهم يوافقون معي على ما أقول.

   وقد يكون "المشوار" بمعنى من المعاني الى أميركا، أو الى أوروبا، أو الى أستراليا، وغير هذه من البلدان، بقصد الاستجمام او التجارة او الدراسة او السياحة.

   وقد يكون "المشوار" الى القمر، أو اي كوكب غيره، بغية العلم والاستطلاع والاكتشاف الكوني والفضائي بالذات.

   وقد يكون "المشوار" سيراً على الأقدام، او على صهوة حصان، او فوق دراجة او في سيارة، أو على متن طائرة مدنية، او في باخرة، او ما شابه ذلك.

   إلا أن أبشع "المشاوير" وأزعجها وأثقلها وقعاً في النفوس، "مشوار" على برج دبابة أجنبية، أو شاحنة عسكرية، أو راجمة صواريخ، أو طائرة حربية، أو مدمرة، أو أي وسيلة أخرى من وسائل الفتك والدمار والخراب. عندها يبطل أن يسمى "المشوار" مشواراً، لأننا نكون قد دخلنا في عالم القبح والبشاعة والشناعة، والمشوار بمعناه الصحيح نوع من انواع الحياة، وضرب من ضروب الجمال.

   أخيراً، ولغوياً، فالمفردة بهذا المعنى لم تخرج عن كونها لفظة عامية، فقد نقّبت عنها وتحريّت حقيقة أمرها في "المنجد"، فلم أعثر لها على أثر بهذا المعنى. وان كنت قد عثرت لها على أربعة معانٍ مختلفة في ما بينها من جهة، وبينها وبين "مشوار" المؤلف من جهة أخرى. إلا أن اسقاط هذه الكلمة قاموسياً لا يفقدها قيمتها التعبيرية، ولا يسقطها من موقع النفوذ والبيان.

   "مشوار مع شربل بعيني".. يا حبّذا هذا المشوار، وإني لأغبط الى حدود الحسد صديقي الاستاذ كامل المر على هذا المشوار الجميل مع شربل بعيني، دارساً ومتحرياً معظم آثاره وخطواته على طريق الأدب والشهرة، معترفاً له، أي للأستاذ المر، بطول الأناة، ورحابة الصدر، في إزاء ما أعرفه عند صديقي شربل من الحماسة والحيوية والحركة واللجاجة في معالجة الأمور معالجة لا هوادة فيها، وبروح الشباب الدائم المتجدد. وإني لاسمع في صميم قلبي صوت كامل ينبعث من الأعماق مردداً قول الشاعر:

مشيناها خطى كتبت علينا

ومن كتبت عليه خطى مشاها

   فماذا عن هذا المشوار، مشوار كامل مع شربل باختصار؟

   عملياً، فإن هذا "المشوار" يقع في مئة وتسع عشرة صفحة من القطع الصغير، موزعة على توطئة من عشرين صفحة، وعلى ستة عناوين أو فصول تحتل من الصفحة السادسة والعشرين الى الصفحة التاسعة والتسعين، وعلى شذرات للشاعر من الصفحة مئة الى الصفحة التاسعة عشر بعد المئة.

   أما التوطئة، فيمكن اعتبارها بحق رحلة ذاتية مع الأدب، ويصح ان نطلق عليها حقيقة عنوان "مشوار كامل المر مع كامل المر"، وهي تجسد بكل صدق ووضوح نظرة المؤلف الى الأدب والأدباء، وتعكس همه الشخصي الذي دفعه الى هذه الدراسة، وينطوي على غايتين: الأولى هي اداء واجب نحو واحد من أهم وأجرأ شعراء العربية في وقتنا الراهن، والثانية تتوخى لفت الذين يتعاطون الكتابة شعراً أو نثراً الى أهم الاسس التي عليهم ان يراعوها وهم يسكبون أفكارهم وخيالاتهم.

   ثم يروح يعرض لأهم المبادىء أو الأحكام التي تقوم عليها صنعة الكتابة، فيحدثنا عن المبنى والمعنى والمفردات والالفاظ مستشهداً بقول لأبي هلال العسكري يقول بعلاقة المبنى والمعنى انها بمثابة العلاقة بين الجسد والروح. أما العبارة الأدبية فهي كالعقد النفيس تماماً، اذا كانت مفرداتها وألفاظها جميلة، وذات جرس موسيقي متناسق، وذات قيمة او معنى.

   وفي حديثه عن المفردات والألفاظ، نراه يستشهد بابن الأثير وابن جني على أن الالفاظ داخلة في حيز الاصوات لأنها مركبة من مخارج الحروف. فما استلذه السمع منها فهو الحسن، وما كرهه ونبا عنه فهو القبيح.

   وبعد جولة على الألفاظ وحسن استعمالها واختيارها وحسن الترويج في ما بينها، نراه يطرق باب العامية والفصحى، فيميّز بين المحاولات الرامية الى التقريب بينهما. وفي هذا المجال يورد المؤلف رواية "لينا لوحة فتاة دمشقية" للدكتورة سمر العطّار على انها محاولة ناجحة للغاية في التقريب بين العامية والفصحى.

   وبعد هذه التوطئة الادبية المعيارية يدخل الاستاذ المر عالم شربل بعيني، ويبدأ مشواره مع نتاجه نثراً وشعراً.

   يصنف الاستاذ المر مؤلفات الشاعر بعيني في ثلاث مراحل شعرية: شعر المراهقة، شعر الشباب، وشعر النضوج. أما نثره فقد عدّه ساخراً وأورد عليه بعض الأمثلة.

   وبعد ذلك، يعدد المؤلف بعض مؤلفات شربل، ثم يتوقّف عند كتاب "مراهقة" قليلاً، وشد ما تأخذه الدهشة من هذا التشبيه "وجّك عتم ونهار"، إلا أن الطابع العام لهذا الشعر تغلّبت عليه العبثية بشكل ملحوظ.

   في "مشّي معي" تتقهقر العبثية ويحل محلها وعي لمشاكل الوطن والمواطنين.

   "يوميات مراسل أجنبي في الشرق الأوسط": تصف الحالة المأساوية التي يعيشها اللاجئون الفلسطينيون في المخيمات، وتستحث العرب من أجل شد أزرهم ونصرتهم.

   "مجانين": وفيه يصب الشاعر جام غضبه على تجار الطائفية والاديان، مؤكداً انتماءه الى الوطن قبل انتمائه الى طائفة او دين.

   "الغربة الطويلة": وهنا قمة المعاناة يصورها الشاعر بعيني، ويدعو المغتربين كلهم للعودة الى ديارهم، ولا يخلو هذا الديوان من بعض الغزليات من الصنف الرفيع.

   "قصائد ريفية": يستهل هذا الكتاب بقصيدة عنوانها "جاليتي"، وقد آلمه أن تنتقل أمراض الوطن الى الجالية في أستراليا، فبيستلّ سوط الشعر، ويلسع ظهرها، علّها تستعيد رشدها.

   "كيف أينعت السنابل؟": وهو عنوان قصيدة كاد الاستاذ المر يسميها ملحمة.

   "ألله ونقطة زيت": يتناول الشاعر بعيني هنا، بأسلوبه العامي المبتكر، الأساطير والأقاويل والخزعبلات التي تزخر بها الطقوس الدينية والمذهبية على اختلافها، هدفه في ذلك تحرير الانسان من المفاهيم الاسطورية.

   أما عن نثر الشاعر بعيني، فيقول صاحب "المشوار" انه نثر ساخر جميل، غير أنه ما زال بحاجة الى كثير من العناية والتهذيب في السبك، وفي استخدام المفردات.

   وفي الحديث عن القسم الثالث من الكتاب، أي "شذرات للشاعر" تندرج العناوين التالية: حفلة عشاء خيرية، قصيدة شوقي، لماذا أغني، شموع جديدة، فخار يكسّر فخار، بيني وبينك.

   وفي نهاية هذا "المشوار"، لا بد من تقويم مقتضب. هل انتهى المشوار على خير وسلامة بين الصديقين؟

   هل ظل الرجلان مصممين على متابعة المشوار؟ هل اتفقا؟ هل اختلفا؟ وكيف؟

   في الحقيقة لا بد في أي مشوار من نقاط اتفاق ونقاط اختلاف، ولعل الاستاذ المر قد ضمّن معظم آرائه النقدية، وملاحظاته الفنية، في سياق حديثه عن ديوان "كيف أينعت السنابل؟" باللغة الفصحى. فأعطى الشاعر بعيني حقّه، كما أعطى الناقد المتزن الرصين، الذي لا يخجل، ولا يداجي، ولا يحابي، ولا يجافي الحقيقة.

   فماذا قال الاستاذ المر في شعر شربل بعيني؟

   "أنا لا أقول ان الشاعر شربل بعيني، هو واحد من فحول شعراء العصر، فشربل ما زال في أول الدرب، وتجربته ما تزال بحاجة الى صقل، أو قل انها ما تزال تحبو على أول الطريق، لكنها محاولة تستدعي الوقوف عندها".

   وهو يأخذ على الشاعر بعيني بعض التجاوزات على اللغة مبنى ومعنى.

   ولقد وقفت عند الاستاذ المر على نوع من النقد، يتسم بأقصى حدود المرونة واللطافة والتهذيب، فكثيراً ما يقبض على مواطن ضعف معنوي أو تركيبي، ولكننا نراه يقبض برفق ورقة متناهيين، محاولاً ألا يؤلم أحداً، بل على العكس يروح يلتمس له التبرير واستدراك ما فاته استدراكه، تارة باستعمال "لكن" وتارة باستعمال "إلا أن" او "لعل" كأن يقول مثلاً:

   ـ "لكن الشاعر شحنه بالمعنى الذي يريد، فجاء مستحباً ومستساغاً"

   فهل يكفي أن يظل المعنى في قلب الشاعر فلا يفهمه أحد غيره؟

   ـ "إلا إذا كان الشاعر قد استعملها للسخرية، ووضعها بين أقواس، وسقطت الأقواس في الطباعة"

   وفي هذا الكلام حسن تخليص للشاعر فوق اللزوم!.

   ـ "غير أن الشاعر استدرك وقال بلسان حبيبته "تمينه".

   فالاستدراك هنا يبدو أنه من الناقد أكثر منه من الشاعر!.

  ـ "ولعله هنا، ولا أدري اذا كان يقصد ذلك أم لا يقصده، يشير الى اغتصاب اسرائيل لمياهنا".

   فقد حمّل الباحث نفسه هم البحث والتدقيق عما يدور في مخيلة الشاعر أكثر مما كلّف الشاعر نفسه مهمة تلميع المعنى وتوضيح الصورة.

   أما في المقطع الثامن من "كيف أينعت السنابل؟" فيؤخذ على الاستاذ المر تردده وشكّه. فلنسمعه يقول:

   ـ "أما المقطع الثامن من القصيدة، فقد اختلط علي مطلعه، ولا أدري أين ومتى قرأت صورة مشابهة"

   ولكنه سرعان ما يحسم هذا الاختلاط باستدراك بارع، قائلاً:

   لكننا على أي حال لا نستطيع أن نحجب الصور عن أذهان الشعراء!.

   وفي نهاية "المشوار" يخرج الاستاذ المر بقناعة مؤداها "ان اسلوب المدرسة القبانية واضح البصمات على شعر البعيني الفصيح.. لكنني أستشف بذور مدرسة قائمة بذاتها، كما اشتهاها أمين الريحاني، الذي أراد شعراً متألماً، لكنه من حديد ونار.

   فنياً: اذا كانت التوطئة الممتدة على حوالي عشرين صفحة قد شفعت لعدم وجود مقدمة للكتاب، فإن لا شيء يشفع ، في رأيي، لعدم وجود "اهداء" في أوله، وفهرس في آخره.

   ثانياً: تبويب الكتاب مشوش الى حد ما باعتماد الاعداد الحسابية من واحد الى سبعة عناوين للفصول. وحبذا لو وضع المؤلف اسم الديوان الذي يعالجه في رأس الصفحة بدل عدد الحساب، لكان ذلك ألفت للنظر، وأسهل للبحث والتبويب.

   ثالثا: غلاف الكتاب الخارجي.. حبذا لو اقترنت النبذة عن المؤلف بصورة شخصية له الى جهة اليسار، لكان هذا ملائماً للسطور فنياً وغذاء لروح القارىء وقلبه.

   لغوياً ونحوياً: لقد وقع نظري على بعض الأخطاء منها بسبب الطباعة، ومنها بسبب العفوية، وإليكم أهمها:

ـ ص 12، ورد عبارة "أحسدك لأنك انسان" بائسة حقاً".

   فالأولى ربط بائسة بفاء الجواب، فيقال فبائسة بدل بائسة.

ـ ص 25، ورد: كثيرة جداً هي المفردات العامية، التي "تفصحنت" أي دخلت نطاق المفردات الفصيحة.

   هنا إسراف في اللغة. فقد كان ينبغي للمؤلف أن يكتفي باستعمال لفظة "تفصحنت" إذا كان متأكداً من سلامة استعمالها وصياغتها، والا يتعداها الى الشرح الطويل.

ـ ص 25، يقول: اما أن تأتي "طعش" دون رقم، ونجمعها جمع مذكر سالم وكأنها فصيحة.

   ولما كانت الكلمة "سالم" نعتاً للجمع لا للمذكر، وبما أن النعت يتبع المنعوت، والمنعوت هنا في حالة النصب، فقد لزم أن نقول: جمع مذكر سالماً.

ـ ص 27/46، كلمة "نضوج" لم أعثر عليها في القاموس، وإنما وجدت نضج نضجاً ونضجاً.

ـ ص 35/73، يشلّعون الأوطان.

   لم تثبت فصاحتها، ولم أجدها في المعجم.

ـ ص 32، وهو ابن السابعة عشر ربيعاً.

   والصحيح: ابن السابعة عشرة ربيعاً.

ـ ص 37، وردت: الحالة المذرية "بالذال".

   والصحيح: الزرية "بالزاي".

ـ ص 38، 

واما الناس بالملوك وما

تفلح عرب ملوكها عجم

   والصحبح:

وإنما الناس بالملوك وما

تفلح عرب ملوكها عجم

ـ ص 51، يحتار كيف "يبلش" الأشعار.

   والصحيح: يحار أو يتحيّر، ولا وجود ليحتار.

ـ ص 58، 

إن الغريب مهما ابدى تجلده

عند الشدة يذكر الوطنا

   والصحيح:

إن الغريب وإن أبدى تجلده

عند الشدائد يلفى يذكر الوطنا

   وهذه الهفوات، مهما يكن شأنها، لن تقلل من قيمة "مشوار" الاستاذ كامل المر، الذي أقر هو نفسه باحتمال وجودها، عندما صرّح منذ البداية، ان "ما أقوم به هو مساهمة متواضعة قد تصيب وقد تخطىء، انما يشفع بها الغاية".

كلمة أخيرة:

   إن الشاعر شربل بعيني في مشواره مع الاستاذ المر، يكشف لنا عن موقعه كشاعر أصيل التصق بوطنه، وبجاليته، وبإنسانيته، حتى الصميم، فأعطاها جميعاً بلا حساب.

   لقد أدخل الفرح الى القلوب المظلمة، وأعاد الرجاء الى الخواطر المكسورة بكلماته المفعمة بالحب والجمال.

   لم يكن شربل ذلك الطوباوي المنغلق على ذاته، المتقوقع داخل صومعته، بل كان شاعر الشعب وابن الشعب، في الأفراح والاتراح.

   ولم يكن دودة الحرير التي تنسج حول نفسها قبراً من الحرير، تدفن فيه، بل هو لوحة حساسة يرتسم عليها ما يحيط به من مؤثرات، فتمتزج بنفسه، ثم تظهر للناس رسوماً ذات روعة وتأثير.

   من هنا، كان "المشوار" جميلاً، وواجباً أدبياً، قام به رئيس رابطة احياء التراث العربي في أستراليا الاستاذ كامل المر، عربون وفاء وخدمة للأدب والأدباء.

   خطوة جريئة، وعمل مثمر، نرجو له التقدّم والازدهار، غير آخذين بتقولات المتقولين الذين لا هم لهم إلا الغربلة بغرابيل مهترئة، ومذكرين بمقولة شاعر الفلاسفة وفيلسوف الشعراء أبي العلاء المعري:

لو غربل الناس كيما يعدموا سقطاً

لما تحصّل شيءٌ في الغرابيل

**

كتب صدرت حتى الآن ضمن "سلسلة شربل بعيني بأقلامهم"


1986ـ شربل بعيني بأقلامهم 1، كلارك بعيني

1987ـ شربل بعيني بأقلامهم 2، كلارك بعيني

1988ـ شربل بعيني بأقلامهم 3، كلارك بعيني

1989ـ 2011 ـ شربل بعيني بأقلامهم 4، كلارك بعيني

1989ـ 2011 ـ شربل بعيني بأقلامهم 5، كلارك بعيني

1990ـ 2011 ـ شربل بعيني بأقلامهم 6، كلارك بعيني

1990ـ 2011 - شربل بعيني بأقلامهم 7، كلارك بعيني

2010ـ شربل بعيني بأقلامهم 8، كلارك بعيني

 2011شربل بعيني بأقلامهم 9، كلارك بعيني

2011ـ شربل بعيني بأقلامهم 10، كلارك بعيني

2011ـ شربل بعيني بأقلامهم 11، كلارك بعيني

1988، مشوار مع شربل بعيني، كامل المر

1988ـ 1993، شربل بعيني ملاح يبحث عن اللـه، محمد زهير الباشا، سوريا

1993، 2017، الوهج الإنساني في مناجاة شربل بعيني، نجوى عاصي

1993ـ شربل بعيني في مناجاة علي، أحمد حمّود

1994ـ شربل بعيني قصيدة غنّتها القصائد، مي طبّاع

1996ـ شربل بعيني في جامعة مكارثر ـ سيدني

2002، 2010، 2020ـ أجمل ما قيل بأدب شربل بعيني، رفيق غنّوم

2005، نعيم خوري: شربل بعيني أيقونة أدب.

2010، كمال العيادي: شربل بعيني الملك الأبيض

2010، 2020ـ كلمات سريعة عن شربل بعيني: د. علي بزّي

2014ـ عزيزي شربل بعيني، د. عصام حداد

2014ـ شربل بعيني: شاعر العصر في المغتربات، نعمان حرب

2014، 2020ـ شربل بعيني زينة الشعّار، عصام ملكي،

2014ـ شربل بعيني شاعر الغربة السوداء، الدكتور جميل الدويهي

2014ـ شربل بعيني ظاهرة مميزة، بطرس عنداري

2014ـ شربل بعيني رائد من روّاد الشعر المهجري، انطونيوس بو رزق

2014ـ الثورة في شعر شربل بعيني، جوزاف بو ملحم

2014ـ شربل بعيني شاعر امتي، مفيد نبزو

2014ـ شربل بعيني فخر الشعّار، زين الحسن

2014ـ رسائل الكبار الى شربل بعيني، نزار قباني، عبدالوهاب البياتي، الأب يوسف سعيد، د. رفعت السعيد، محمد الشرفي.

2014ـ شربل بعيني علامة فارقة في بستان الشعر المهجري، شوقي مسلماني

2014ـ شربل بعيني ثائر شجاع، ميشال حديّد

2015ـ حذار أن تصادق شربل بعيني، فاطمة ناعوت

2016ـ شربل بعيني رسام الكلمات، الأب يوسف جزراوي

2016ـ نحن وشربل بعيني، هدلا القصار، محفوض جرّوج وروميو عويس.

2016ـ رسائل محمد زهير الباشا الى شربل بعيني.

2016ـ شربل بعيني ترنيمة حب، أكرم برجس المغوّش.

2017ـ الجنوب اللبناني يكرّم شربل بعيني.

2019ـ يوبيل شربل بعيني الفضي والذهبي

2021ـ شربل بعيني رائد المسرح الصفولي، د. علي بزّي

2022ـ شربل بعيني الصوت والصدى والمدى، عصمت الأيوبي